تأملات
في سفر المزامير

مواعظ تفسيرية
الدكتور القس منيس عبد النور

الجزء الثاني

المزمور الثالث والسبعون
إلى المزمور المائة والخمسون

اَلْمَزْمُورُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ
مَزْمُورٌ. لآسَافَ
1إِنَّمَا صَالِحٌ اللهُ لإِسْرَائِيلَ، لأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ. 2أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ. لَوْلاَ قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خَطَوَاتِي، 3لأَنِّي غِرْتُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ الأَشْرَارِ. 4لأَنَّهُ لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ، وَجِسْمُهُمْ سَمِينٌ. 5لَيْسُوا فِي تَعَبِ النَّاسِ، وَمَعَ الْبَشَرِ لاَ يُصَابُونَ. 6لِذَلِكَ تَقَلَّدُوا الْكِبْرِيَاءَ. لَبِسُوا كَثَوْبٍ ظُلْمَهُمْ. 7جَحَظَتْ عُيُونُهُمْ مِنَ الشَّحْمِ. جَاوَزُوا تَصَوُّرَاتِ الْقَلْبِ. 8يَسْتَهْزِئُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالشَّرِّ ظُلْماً. مِنَ الْعَلاَءِ يَتَكَلَّمُونَ. 9جَعَلُوا أَفْوَاهَهُمْ فِي السَّمَاء،ِ وَأَلْسِنَتُهُمْ تَتَمَشَّى فِي الأَرْضِ. 10لِذَلِكَ يَرْجِعُ شَعْبُهُ إِلَى هُنَا، وَكَمِيَاهٍ مُرْوِيَةٍ يُمْتَصُّونَ مِنْهُمْ. 11وَقَالُوا: «كَيْفَ يَعْلَمُ اللهُ، وَهَلْ عِنْدَ الْعَلِيِّ مَعْرِفَةٌ؟» 12هُوَذَا هَؤُلاَءِ هُمُ الأَشْرَارُ، وَمُسْتَرِيحِينَ إِلَى الدَّهْرِ يُكْثِرُونَ ثَرْوَةً.
13حَقّاً قَدْ زَكَّيْتُ قَلْبِي بَاطِلاً وَغَسَلْتُ بِالنَّقَاوَةِ يَدَيَّ، 14وَكُنْتُ مُصَاباً الْيَوْمَ كُلَّهُ، وَتَأَدَّبْتُ كُلَّ صَبَاحٍ. 15لَوْ قُلْتُ أُحَدِّثُ هَكَذَا لَغَدَرْتُ بِجِيلِ بَنِيكَ. 16فَلَمَّا قَصَدْتُ مَعْرِفَةَ هَذَا إِذَا هُوَ تَعَبٌ فِي عَيْنَيَّ، 17حَتَّى دَخَلْتُ مَقَادِسَ اللهِ وَانْتَبَهْتُ إِلَى آخِرَتِهِمْ. 18حَقّاً فِي مَزَالِقَ جَعَلْتَهُمْ. أَسْقَطْتَهُمْ إِلَى الْبَوَارِ. 19كَيْفَ صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً! اضْمَحَلُّوا فَنُوا مِنَ الدَّوَاهِي. 20كَحُلْمٍ عِنْدَ التَّيَقُّظِ يَا رَبُّ، عِنْدَ التَّيَقُّظِ تَحْتَقِرُ خَيَالَهُمْ.
21لأَنَّهُ تَمَرْمَرَ قَلْبِي، وَانْتَخَسْتُ فِي كُلْيَتَيَّ. 22وَأَنَا بَلِيدٌ وَلاَ أَعْرِفُ. صِرْتُ كَبَهِيمٍ عِنْدَكَ. 23وَلَكِنِّي دَائِماً مَعَكَ. أَمْسَكْتَ بِيَدِي الْيُمْنَى. 24بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي، وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي. 25مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِي الأَرْضِ. 26قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي اللهُ إِلَى الدَّهْرِ. 27لأَنَّهُ هُوَذَا الْبُعَدَاءُ عَنْكَ يَبِيدُونَ. تُهْلِكُ كُلَّ مَنْ يَزْنِي عَنْكَ. 28أَمَّا أَنَا فَالاِقْتِرَابُ إِلَى اللهِ حَسَنٌ لِي. جَعَلْتُ بِالسَّيِّدِ الرَّبِّ مَلْجَإِي، لأُخْبِرَ بِكُلِّ صَنَائِعِكَ.

حيرة من نجاح الأشرار
هذا المزمور شكوى مرفوعة لله من مؤمن متألم مضطهَد لأنه يرى الأشرار ناجحين، يعطيهم شرُّهم عائداً أكبر مما تعطيه التقوى والنقاوة، فتشكَّك في صلاح الله من نحو الأبرار، واعتبر التقوى والنقاوة تجارةً بائرة، بل إنها مؤذية، وافتكر أن شر الأشرار مفيد ونافع. وفي بدء حيرته خاف من أن يعلن رأيه لئلا يُعثِر العابدين الأتقياء، ولكن عندما انتهت حيرته ووجد الجواب سجَّل مشاعره كلها في هذا المزمور.
انجلت ظلمة أفكار المرنم عندما دخل مقادس الرب، فرأى الأمور في منظورها الصحيح، وأدرك أن البوار والخراب سيحلُّ بنجاح الأشرار فجأة، أما التقوى فلها موعد الحياة الحاضرة والمستقبلة. واعترف للرب بخطئه، وقدَّم له شكره على مجد الاقتراب منه.
يتحدث هذا المزمور عن حيرة المؤمن وهو يمرُّ بأزمات لا يجد لها تفسيراً، ويعلمنا أن خير ما نفعله هو أن نمثُل في محضر الله ونسأله أن يجاوب على أسئلتنا. وهو لا يتضايق من شكوكنا، ولا يطردنا من محضره لأننا ناقصو الفهم، بل يقرِّبنا إليه ويكشف لنا أسرار محبته، فنقول مع صاحب هذا المزمور: «ولكني دائماً معك. أمسكت بيدي اليمنى. برأيك تهديني، وبعد إلى مجد تأخذني» (آيتا 23، 24).
يذكِّرنا مزمور 73 بمزمور 37 الذي فيه يواجه المرنم مشكلة نجاح الأشرار ومتاعب المؤمنين، فيطلب من المؤمنين الصبر والثقة في الرب، لأن نجاح الأشرار قصير المدى، بينما مجازاة المؤمن أبدية. كما يذكِّرنا بمزمور 49 الذي قال إن الثروة لا تستمر في إسعاد صاحبها، بينما عناية الرب بالأبرار دائمة لا تنقطع. ومع تشابه مزمورنا مع مزموري 37، 49 في الحديث عن نجاح الأشرار، إلا أن مزمور 73 يضيف بُعداً آخر هو متاعب المؤمنين وحيرتهم وهم يرون نجاح الأشرار، ويتميَّز بأنه يطوِّب المؤمن على علاقته المفرحة بالرب، ويشرح جمال الأُنس بالله في الدنيا والآخرة باعتباره الخير الأسمى، فإن الحياة في هذا العالم فصل واحد من فصول قصة الحياة، ولكن هناك حياة أفضل قادمة.. فما أجمل أن يسلِّم المؤمن أمره للرب، وأن يعبِّر عن حبه له، باعتبار أن هذه العلاقة أسمى من كل شيء في الوجود.
وعلى كل متعَب حائر صاحب شكوى أن يجثو أمام الله ليتعلَّم في مقادسه كما تعلَّم آساف، فليس السؤال ممنوعاً ولا الشك جريمة.. لقد استجاب المسيح لشكوك تلميذه توما لما شك في القيامة، وقال له: «هات يدك وضَعْها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً» (يو 20: 27). وهو نفس ما يفعله مع كل مؤمن يسأل ويشكو، فيجيبه الرب على تساؤلاته، ويمحو شكوكه، فيهتف مع توما: «ربي وإلهي».
في هذا المزمور نجد:
أولاً – إعلان ثقة (آية 1)
ثانياً – المؤمن يتساءل في حيرته (آيات 2-14)
ثالثاً – المؤمن يجد الجواب المطمئن (آيتا 15-28)

أولاً – إعلان ثقة
(آية 1)
قبل أن يُدخلنا المرنم إلى متاهة شكوكه وتساؤلاته يفتتح مزموره بالنتيجة النهائية التي توصَّل إليها، فيقول: «إنما صالح الله لإسرائيل، لأنقياء القلب». و«إنما» هنا للتأكيد، فهو يعلن أن الله وحده هو الصالح لشعبه. وحتى لو سمح بدخولهم في المتاعب إلا أنه محب و«طيبٌ هو الرب للذين يترجَّونه، للنفس التي تطلبه» (مرا 3: 25)، ولإسرائيل «الذي يجاهد مع الله» (تك 32: 28). لقد جاهد المرنم مع الرب بسؤاله وشكواه، فباركه كما بارك يعقوب عندما جاهد لينال البركة، فتأكد أن الله صالح لأنقياء القلب «لأنهم يعاينون الله» (مت 5: 8).
عندما يشرق علينا صلاح الله ينقشع الظلام من عيوننا، فنراه صالحاً دائماً لأن صلاحه نابع من طبيعته الصالحة، ونتأكد من هذا الصلاح حتى لو كانت الظروف التي نجوزها تقول عكس هذا، لأن شمس محبته تشرق من وراء غيوم الهموم، ولأن الغلاف الخارجي الأسود يحتوي على رسالة حب كبير، فندرك معنى قول المرنم: «من يصعد إلى جبل الرب، ومن يقوم في موضع قُدسه؟ الطاهر اليدين، والنقي القلب، الذي لم يحمل نفسه إلى الباطل، ولا حلف كذباً. يحمل بركة من عند الرب، وبراً من إله خلاصه» (مز 24: 3-5).

ثانياً – المؤمن يتساءل في حيرته
(آيات 2-14)
1- مشكلة المؤمن: »أما أنا فكادت تزل قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي، لأني غرتُ من المتكبِّرين، إذ رأيتُ سلامة الأشرار» (آيتا 2، 3). قول المرنم: «أما أنا» يعني أنه اختلف مع الرب حتى كادت تضيع منه سبُل الرب المستقيمة، فبدأ رحلة خطيرة كادت تزلُّ فيها قدماه في بالوعة اليأس، لأنه سار في أرض موحلة. ولولا رحمة الرب لزلقت خطواته، لأنه غار من نجاح الأشرار، مع أن داود قال: «لا تغَر من الأشرار، ولا تحسد عُمَّال الإثم، فإنهم مثل الحشيش سريعاً يُقطَعون، ومثل العشب الأخضر يذبلون» (مز 37: 1، 2). وقال الحكيم: «لا تحسد الظالم، ولا تَختَرْ شيئاً من طرقه.. لا يحسدنَّ قلبُك الخاطئين، بل كُن في مخافة الرب اليوم كله..» (أم 3: 31 و23: 17). وكان يجب أن يرتل مع داود: «تمسَّكت خطواتي بآثارك فما زلت قدماي» (مز 17: 5) ومع بني قورح: «لم يرتد قلبنا إلى وراء، ولا مالت خطوتنا عن طريقك» (مز 44: 18).
وفي غمرة آلام المرنم من متاعبه نسي أن الذين غار منهم «متكبرون» يظنون أنهم يقدرون أن يعيشوا وينجحوا بدون الرب، مع أنه «لا يقف المفتخرون قدام عينيك. أبغضت كل فاعلي الإثم» (مز 5: 5)، وأنهم أشرار، وكل شرير لا بد يهلك.
2- سبب مشكلة المؤمن: يذكر المرنم أربعة أسباب لمشكلته:
(أ) راحة الأشرار:«لأنه ليست في موتهم شدائد، وجسمهم سمين. ليسوا في تعب الناس، ومع البشر لا يُصابون» (آيتا 4، 5). يقول المرنم إنه لم يرَ شريراً يموت في مقتبل عمره، ولا في الأسر، ولا مصاباً بمرض خطير، ولا مقتولاً. رأى الأشرار دوماً في صحة وعافية «جسمهم سمين»، مع أن «الإنسان مولودٌ للمشقة» (أي 5: 7). ولم يقاسِ هؤلاء الأشرار الأتعاب التي يقاسي منها سائر البشر الصالحون. ولا بد أنه كان يذكر جدَّه الأكبر يعقوب لما سأله فرعون عن عمره فقال: «أيام سني غربتي مئة وثلاثون سنة. قليلة وردية» (تك 47: 9). فكيف يقاسي أبو الأسباط ويسمن جسم الأشرار؟
(ب) كبرياء الأشرار: «لذلك تقلَّدوا الكبرياء. لبسوا كثوب ظلمهم. جحظت عيونهم من الشحم. جاوزوا تصوُّرات القلب» (آيتا 6، 7). تحيَّر المرنم من كبرياء الأشرار، فعندما عاشوا في راحة افتخروا وكأن كبرياءهم قلائد شرف حول أعناقهم، وصارت حياتهم ظلماً مستمراً للمساكين، وكأن ظلمهم ثياب لا يستغنون عنها. وقد وصف داود الشرير بأنه «لبس اللعنة مثل ثوبه» (مز 109: 18).. وعندما أكلوا ما ظلموا به الفقير سمنوا، فجحظت عيونهم من كثرة السِّمَن! ووصف أليفاز التيماني أحد هؤلاء الأشرار المتكبِّرين بالقول: «لأنه قد كسا وجهه سَمْناً، وربَّى شحماً على كليتيه» (أي 15: 27) وقد بلغت كبرياؤهم القمَّة فتفوقوا في الشر على من سبقوهم وزادوا عنهم. ولم يسبق للمرنم أن رأى شخصاً أو سمع عن شخص بمثل هذه الكبرياء!
(ج) حديث الأشرار: «يستهزئون ويتكلمون بالشر ظلماً. من العلاء يتكلمون. جعلوا أفواههم في السماء وألسنتهم تتمشى في الأرض» (آيتا 8، 9). استراح الأشرار وتكبَّروا وظلموا الآخرين، فظنوا أنهم آلهة وأن أقوالهم فروض يجب على مستمعيها أن يصدقوها! فتكلموا كأصحاب سلطان، ونادوا بمبادئهم الشريرة كأنها شرائع إلهية لا تتغير، فجدَّفوا على الله وأهانوا البشر المخلوقين على صورته.
(د) أتباع الأشرار: «لذلك يرجع شعبه إلى هنا، وكمياهٍ مروية يُمتَصوّن منهم. وقالوا: كيف يعلم الله؟ وهل عند العلي معرفته؟» (آيتا 10، 11). يتحيَّر المرنم من شعبية هؤلاء الأشرار، فقد رجع كثيرون من شعب الرب عن طريق الرب وتبعوا هؤلاء الناجحين الأشرار بعد أن رأوا نجاحهم، وظنوا أن كلامهم مُنزل وأن أفكارهم نماذج يُقتدى بها، فأخذوا يشربون من كأس خطاياهم وكأنه مياه تروي ظمأهم! وهتف هؤلاء التابعون المضلَّلون: «هل عند العلي معرفة؟»، مردِّدين ما قاله الأشرار. «الشرير حسب تشامخ أنفه يقول: (الله) لا يطالب. كل أفكاره أنه لا إله.. قال في قلبه: إن الله قد نسي. حجب وجهه. لا يرى إلى الأبد.. لماذا أهان الشرير الله؟ لماذا قال: لا تطالب؟» (مز 10: 4، 11، 13).
3 – المؤمن يكرر شرح مشكلته: »هوذا هؤلاء هم الأشرار، ومستريحون إلى الدهر يُكثِرون ثروةً. حقاً قد زكَّيتُ قلبي باطلاً وغسلتُ بالنقاوة يديَّ، وكنتُ مصاباً اليوم كله، وتأدَّبتُ كل صباح» (آيات 12-14). في هذه الآيات الثلاث يلخِّص المرنم مشكلته، فيقول إن الأشرار مستريحون وأغنياء، فما هي إذاً مجازاة التقوى؟ إن ضميره صالح، وقد مارس كل فراض شريعة موسى من غسل اليدين والرِّجلين (خر 30: 17، 21)، ولكنه لم يأخذ من تقواه ونقاوته وممارسته للشريعة إلا المتاعب والاضطهادات والتأديبات كل صباح، وكان مصاباً اليوم كله، مع أن الذين يعصون الشريعة لا يصُابون مع البشر (آية 5)!

ثالثاً – المؤمن يجد الجواب المطمئن
(آيات 15-28)
لم يستسلم المرنم لشكوكه، بل صارع مع أسئلته. وفي مقادس الرب وجد الجواب المطمئن، بعد أن كشف له الرب مشيئته الصالحة.
1- انتقل من التذمُّر إلى الانتصار: (آيات 15-17).
(أ) لم يَشْكُ المرنم لإخوته المؤمنين: «لو قلتُ أحدِّثُ هكذا لغدرتُ بجيل بنيك» (آية 15). كان المرنم رغم تساؤلاته يحب الرب، ويحب المؤمنين، فرفض أن يغدر بهم بتصدير شكوكه إليهم. كما كان يثق أن الرب لا بد سيجلو غمَّته، فلماذا يذيع أسئلة الغم؟.. صحيحٌ أنه لو حدَّث الناس بأسئلته المحيرة لفرَّج عن نفسه بالتعبير عن دواخله، ولاستراح قليلاً. لكن هذه الراحة كانت ستُفضي به إلى الانضمام لجماعة الأشرار، وسيحزن مرة أخرى وهو يرى الفكر المضلِّل ينتصر وينتشر ويزيد أتباعه، فيقولون: «من هو القدير حتى نعبده، وماذا ننتفع إن التمسناه؟» (أي 21: 15). لقد كان يعلم أن شعب الرب هم أبناء الرب، فكيف يوقع الشك في قلوبهم، وكيف يهجر قضيتهم، وكيف يجرح مشاعرهم، وكيف يضع العثرات في طريقهم؟
(ب) لم يخدع المرنم نفسه: «فلما قصدت معرفة هذا إذا هو تعب في عينيَّ» (آية 16). كان المرنم متحيراً لأنه عجز عن مصالحة محبة الله وعدالته وأمانته مع واقعه الصعب وآلامه المتزايدة.. صحيح أنه لم يُرِد إزعاج غيره، لكن أمانته مع نفسه حيَّرته وأرهقته وهو يقلب الأفكار في رأسه.

(ج) وجد المرنم النصرة في حضرة الله: «حتى دخلتُ مقادس الله وانتبهتُ إلى آخرتهم» (آية 17). وصل المرنم للحل وانتصر عندما دخل بيت الله وحدثت مواجهة روحية بينه وبين ربه، فكانت هذه نقطة التحوُّل في موقفه، بعد أن أدرك أن وعود الله صادقة، وأن الشرير لا بد سينال عقوبة شره، وهي الموت. وكان يوسف قد سبق المرنم في حل مشكلة شرور إخوته، بعد أن عجز وهو الصغير عن ردِّهم إلى رُشدهم، فحمل أخبارهم إلى أبيه يعقوب، وهو الأقدر والأجدر بنصح أولاده. ويمكننا أن نتبع مثال يوسف والمرنم، لأن لنا أباً سماوياً نحكي له مشاكلنا في مخدع الصلاة أثناء خلوتنا به، فيجيئنا التأكيد منه والراحة عنده.
2- رأى المرنم نهاية الأشرار: »حقاً في مزالق جعلتهم. أسقطتهم إلى البوار. كيف صاروا للخراب بغتة؟ اضمحلوا. فنوا من الدواهي. كحُلم عند التيقظ يا رب، عند التيقظ تحتقر خيالهم» (آيات 18-20). في محضر الرب رأى المرنم أسرار عناية الله المقدسة، وعرف أن آخرة الأشرار مزالق وبوار وخراب ودواهي تحل بهم فجأة، دون انتظار منهم ولا من تابعيهم. وكأن الله كان نائماً يترك الأشرار وشأنهم، فاستيقظ ليحتقر خيالاتهم، فيكتشفون أنهم عاشوا حُلماً وخيالاً، لا حقيقة. وصدق صوفر النعماتي: «فرح الفاجر إلى لحظة.. كالحُلم يطير فلا يوجد، ويُطرَد كطيف الليل» (أي 20: 5، 8). إنهم كالزوان وسط الحنطة، فلا بد أن يجيء يوم الحصاد عندما يُحرَقون بنار لا تُطفأ (مت 13: 30).
في مطلع مزموره بدأ المرنم رحلة خطيرة كادت تزل فيها قدماه، لأنه سار في أرض موحلة. ولكن في بيت الرب اكتشف أنه ثابت على صخرة، وعرف أن الأشرار هم الذين سينزلقون إلى الهاوية فإذا نجاحهم حلم، وإذا هم أشباح يوجدون اليوم ويتدمَّرون فوراً لأن شمس الحقيقة تنهي وجودهم الوهمي، ولأن الشر لا يمكن أن يسود، كما قال الله عن الأشرار: «يكون طريقهم لهم كمزالق في ظلام دامس، فيُطرَدون ويسقطون فيها، لأني أجلب عليهم شراً سنة عقابهم، يقول الرب» (إر 23: 12).
3- تعلَّق المرنم بالرب: (آيات 21-28).
(أ) اعترف له: «لأنه تمرمر قلبي وانتخَسْتُ في كليتيَّ. وأنا بليد ولا أعرف. صرتُ كبهيم عندك» (آيتا 21، 22). تألم المرنم لأنه كان متعجِّلاً فلم يرَ عدالة الله وحقَّه إلى أن دخل مقادس الله، فبكَّته ضميره، وتمرمر قلبه، وانتخس في كليتيه. وكان الأقدمون يعتبرون الكلية مركز العواطف، كما نتحدث نحن اليوم عن القلب. واعترف المرنم أنه كان بليداً غبياً كالبهيم الذي لا يدرك. وقد ميَّز الله الإنسان عن الحيوان بنعمة العقل، فكيف فات المرنم تاريخ الله الرقيق شعبه؟ وكيف نسي معاملات الله الصالحة معه؟ حقاً «الرجل البليد لا يعرف، والجاهل لا يفهم هذا» (مز 92: 6).
(ب) ائتنس به: «ولكني دائماً معك. أمسكتَ بيدي اليمنى. برأيك تهديني، وبعد إلى مجد تأخذني. من لي في السماء؟ ومعك لا أريد شيئاً في الأرض. قد فني لحمي وقلبي. صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر» (آيات 23-26). عاد المرنم يقارن بين نفسه والأشرار، فقال «ولكني دائماً معك» فقد عزم أن يسير مع الرب، ولسان حاله: «التصقت نفسي بك. يمينك تعضدني» (مز 63: 8). وقرر أن تكون شريعة الرب سراجاً لرجله ونوراً لسبيله (مز 119: 105) فيطيع وصايا الرب لتكون بركة لحاضره ومستقبله، فيهتدي برأي الرب هنا ويدخل مجده هناك، كما سار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه (تك 5: 24). ويا له من مجد أن يمسك ملك الملوك يمين المرنم ليؤكد له محبته ورعايته.. وفي صُحبة الرب للمرنم، وصُحبة المرنم للرب عرف أنه إن كان الرب ساكن السماء له، فلن تكون به حاجة إلى شيء أو شخص في الأرض، لأن الرب خيره ومصدر سعادته، فيقول: «قلتُ للرب: أنت سيدي. خيري لا شيء غيرك» (مز 16: 2). لم يعُد يعنيه إن نجح الأشرار أو إن تألم هو، لأنه في صحبة الرب.. ومع أن جسده وقواه يخوران إلا أن الرب سيبقى ملجأه الحصين يحميه من كل خطر، فيقول: «إنما الرب صخرتي وخلاصي، ملجإي فلا أتزعزع. على الله خلاصي ومجدي. صخرة قوتي محتماي في الله» (مز 62: 6). الرب نصيبه إلى الأبد، فلا ينزعه أحدٌ من الرب، ولا الربَّ منه. إنه في هذا يعبر عن انتمائه للرب كأحد كهنة الرب، الذين لم يكن لهم نصيب في الأرض، لأن الرب نصيبهم (تث 10: 9)، ونعم النصيب!
(ج) اقترب منه: «هوذا البعداء عنك يبيدون. تُهلك كل من يزني عنك. أما أنا فالاقتراب إلى الله حسنٌ لي. جعلتُ بالسيد الرب ملجإي لأخبر بكل صنائعك» (آيتا 27، 28). لما كان الله مصدر الحياة فإن كل بعيد عنه ميت في ذنوبه وخطاياه. ولما كان البشر جميعاً ملكٌ لله لأنه خلقهم واعتنى بهم وافتداهم، فإن كل من يبتعد عنه يُعتبر خائناً له ولملكوته. وكان بنو إسرائيل يعتبرون أنفسهم «عروس الله» فكل ابتعاد عن الله خيانة وزنى روحي (هو 2: 2-4).. أما كل من يقترب إليه فينال الحياة الفضلى، فقد جاء المسيح ليعطينا حياة وحياة أفضل (يو 10: 10). ومن اختبر الحياة في المسيح لا يتوقَّف عن الحديث عنها، فيخبر بكم صنع الرب معه.
تعالوا بنا ندخل مقادس العلي دائماً فنجد إجابات شافية لأسئلتنا، ونتمتع بصحبته الرقيقة، ونخبر بفضائل الذي دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب. وإن كان أحدنا بعيداً عن الرب، فليقترب إليه تائباً. وإن كان أحدنا حائراً فالرب يطمئن قلبه.
ليثبِّت الرب إيماننا، وليعمِّق رجاءنا به، مهما بدت الظروف من حولنا صعبة أو قاسية.
ا
َلْمَزْمُورُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ
قَصِيدَةٌ لآسَافَ
1 لِمَاذَا رَفَضْتَنَا يَا اللهُ إِلَى الأَبَدِ؟ لِمَاذَا يُدَخِّنُ غَضَبُكَ عَلَى غَنَمِ مَرْعَاكَ؟ 2اذْكُرْ جَمَاعَتَكَ الَّتِي اقْتَنَيْتَهَا مُنْذُ الْقِدَمِ وَفَدَيْتَهَا، سِبْطَ مِيرَاثِكَ جَبَلَ صِهْيَوْنَ هَذَا الَّذِي سَكَنْتَ فِيهِ. 3ارْفَعْ خَطَوَاتِكَ إِلَى الْخِرَبِ الأَبَدِيَّةِ. الْكُلَّ قَدْ حَطَّمَ الْعَدُوُّ فِي الْمَقْدِسِ. 4قَدْ زَمْجَرَ مُقَاوِمُوكَ فِي وَسَطِ مَعْهَدِكَ، جَعَلُوا آيَاتِهِمْ آيَاتٍ. 5يَبَانُ كَأَنَّهُ رَافِعُ فُؤُوسٍ عَلَى الأَشْجَارِ الْمُشْتَبِكَةِ. 6وَالآنَ مَنْقُوشَاتِهِ مَعاً بِالْفُؤُوسِ وَالْمَعَاوِلِ يَكْسِرُونَ. 7أَطْلَقُوا النَّارَ فِي مَقْدِسِكَ. دَنَّسُوا لِلأَرْضِ مَسْكَنَ اسْمِكَ. 8قَالُوا فِي قُلُوبِهِمْ: «لِنُفْنِينَّهُمْ مَعاً». أَحْرَقُوا كُلَّ مَعَاهِدِ اللهِ فِي الأَرْضِ. 9آيَاتِنَا لاَ نَرَى. لاَ نَبِيَّ بَعْدُ. وَلاَ بَيْنَنَا مَنْ يَعْرِفُ حَتَّى مَتَى.
10حَتَّى مَتَى يَا اللهُ يُعَيِّرُ الْمُقَاوِمُ، وَيُهِينُ الْعَدُوُّ اسْمَكَ إِلَى الْغَايَةِ؟ 11لِمَاذَا تَرُدُّ يَدَكَ وَيَمِينَكَ؟ أَخْرِجْهَا مِنْ وَسَطِ حِضْنِكَ. أَفْنِ. 12وَاللهُ مَلِكِي مُنْذُ الْقِدَمِ، فَاعِلُ الْخَلاَصِ فِي وَسَطِ الأَرْضِ. 13أَنْتَ شَقَقْتَ الْبَحْرَ بِقُوَّتِكَ. كَسَرْتَ رُؤُوسَ التَّنَانِينِ عَلَى الْمِيَاهِ. 14أَنْتَ رَضَضْتَ رُؤُوسَ لَوِيَاثَانَ. جَعَلْتَهُ طَعَاماً لِلشَّعْبِ لأَهْلِ الْبَرِّيَّةِ. 15أَنْتَ فَجَّرْتَ عَيْناً وَسَيْلاً. أَنْتَ يَبَّسْتَ أَنْهَاراً دَائِمَةَ الْجَرَيَانِ. 16لَكَ النَّهَارُ وَلَكَ أَيْضاً اللَّيْلُ. أَنْتَ هَيَّأْتَ النُّورَ وَالشَّمْسَ. 17أَنْتَ نَصَبْتَ كُلَّ تُخُومِ الأَرْضِ. الصَّيْفَ وَالشِّتَاءَ أَنْتَ خَلَقْتَهُمَا.
18اُذْكُرْ هَذَا: أَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ عَيَّرَ الرَّبَّ، وَشَعْباً جَاهِلاً قَدْ أَهَانَ اسْمَكَ. 19لاَ تُسَلِّمْ لِلْوَحْشِ نَفْسَ يَمَامَتِكَ. قَطِيعَ بَائِسِيكَ لاَ تَنْسَ إِلَى الأَبَدِ. 20انْظُرْ إِلَى الْعَهْدِ، لأَنَّ مُظْلِمَاتِ الأَرْضِ امْتَلأَتْ مِنْ مَسَاكِنِ الظُّلْمِ. 21لاَ يَرْجِعَنَّ الْمُنْسَحِقُ خَازِياً. الْفَقِيرُ وَالْبَائِسُ لِيُسَبِّحَا اسْمَكَ.
22قُمْ يَا اللهُ. أَقِمْ دَعْوَاكَ. اذْكُرْ تَعْيِيرَ الْجَاهِلِ إِيَّاكَ الْيَوْمَ كُلَّهُ. 23لاَ تَنْسَ صَوْتَ أَضْدَادِكَ، ضَجِيجَ مُقَاوِمِيكَ الصَّاعِدَ دَائِماً.

لماذا يدخِّن غضبك؟
هذا المزمور قصيدة رثاء كتبها آساف المرنم بعد أن خرَّب نبوخذنصَّر ملك بابل بلاده عام 586 ق م، وذبح الكثيرين من شعبه وترك جثثهم في الشوارع، فصارت بلاده موضوع سخرية جيرانها.. وهدم الهيكل الذي بناه الملك سليمان وأحرقه، فتوقَّفت العبادة، وكأن الله قد رفض شعبه (2مل 25). وقد بكى النبي إرميا هذا الموقف في مراثيه وقال عن بلاده: «تاخت (غاصت) في الأرض أبوابُها. أهلك وحطَّم (العدوُّ) عوارضها. مَلِكُها ورؤساؤها (مسبيون) بين الأمم. لا شريعة. أنبياؤها أيضاً لا يجدون رؤيا من قِبل الرب. شيوخ بنت صهيون يجلسون على الأرض ساكتين. يرفعون التراب على رؤوسهم. يتنطَّقون بالمِسح» (مرا 2: 9، 10).
هذا المزمور صرخة متألمٍ يطالب الله أن يذكر عهده مع شعبه، ويرحمه. وكان بنو إسرائيل يُرنِّمونه في أيام الصوم التي يعترفون فيها للرب بخطاياهم، ويتذلَّلون أمامه ليُعِيد إلى هيكلهم أمجاده. ويوجد تشابه كبير بين هذا المزمور ومزمور 79 في الموضوع والمحتوى، ولا بد أن الله ألهم كاتبيهما أن يكتباهما في المناسبة المؤلمة نفسها.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – شكوى المرنم (آيات 1-11)
ثانياً – ذكريات الرحمة الماضية (آيات 12-17)
ثالثاً – طلب النجاة (آيات 18-23)

أولاً – شكوى المرنم
(آيات 1-11)
عندما زادت آلام المرنم وجَّه أسئلته من قلبٍ يحب الله إلى الإله الذي يحبه وهو يذكر كلمات النبي إرميا: «يا رب، عزِّي وحِصني وملجإي في يوم الضيق» (إر 16: 19)
1 – السؤال لماذا؟: «لماذا رفضتنا يا الله إلى الأبد؟ لماذا يدخِّن غضبُك؟» (آية 1أ وب). يبدأ المرنم شكواه بتوجيه سؤالين لله:
(أ) لماذا رفضتنا؟: بدا للمرنم أن الله رفض شعبه بصفة دائمة، فصارت بلادهم «خِرباً أبدية» (آية 3) وأهان العدو اسم الله «إلى الغاية» (آية 10). وهو يسأل: لماذا؟ لا لأنه يتذمَّر على الله، بل لأنه يريد أن يعرف ليعدِّل مساره ومسار شعبه، فيشرق وجه الرب عليه بالرضا «لأن السيد لا يرفض إلى الأبد» (مرا 3: 31).
(ب) لماذا يدخِّن غضبك؟: والدخان يرمز إلى اشتعال نار الغضب الإلهي، كما قال داود إن الرب في غضبه «صعد دخانٌ من أنفه، ونارٌ من فمه أكلت. جمرٌ اشتعلت أمامه» (مز 18: 8).
2 – وصف الشعب المتسائل: «لماذا يدخِّن غضبك على غنم مرعاك؟ اذكر جماعتك التي اقتنيتها منذ القِدم وفديتها، سبط ميراثك، جبل صهيون هذا الذي سكنت فيه» (آيتا 1ج، 2). يذكر المرنم ثلاثة أوصاف لشعبه دفعته للسؤال:
(أ) هم غنم الراعي الصالح: «غنم مرعاك». تشجَّع المرنم وسأل الرب، لأنه راعيه الأمين الصالح المسؤول عنه، كما قيل: «نحن شعبك وغنم رعايتك، نحمدك إلى الدهر. إلى دور فدور نحدِّث بتسبيحك» (مز 79: 13). إنه يثق أن الله راعيه، فطالما نادى: «هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا. لأنه هو إلهنا ونحن شعب مرعاه وغنم يده» (مز 95: 6، 7). والغنم مشهورة بضعفها وجهلها وسهولة ضلالها، فهي تعرف كيف تضل ولا تعرف كيف ترجع، ولا تستطيع الدفاع عن نفسها. والقول: «غنم مرعاك» يعني الحاجة إلى الهداية والحماية، وتدبير المصالح بطريقة مستمرة من الراعي الذي «يرعى قطيعه. بذراعه يجمع الحملان، وفي حضنه يحملها، ويقود المرضعات» (إش 40: 11).
(ب) هم المفديون الذين اشتراهم: «اذكر جماعتك التي اقتنيتها منذ القِدم وفديتَها، سبط ميراثك» (آية 2أ). أعطى المرنم نفسه حق الالتجاء إلى الله لأنه من الجماعة التي اختارها الله منذ القديم، وافتداها من عبودية فرعون وأطلقها حرَّةً من سوء العذاب، فصاروا ميراث الرب بين الأمم. وكان موسى قد ترنَّم بعد الخروج من مصر: «ترشد برأفتك الشعب الذي فديته. تهديه بقوَّتك إلى مسكن قُدسك.. تقع عليهم (المصريين) الهيبة.. حتى يعبر الشعب الذي اقتنيته» (خر 15: 13، 16).. وفي نور العهد الجديد ندرك معنى الفداء والاقتناء أكثر «عالمين أنكم افتُديتُم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلَّدتموها من الآباء، بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح» (1بط 1: 18، 19).
(ج) هم الذين سكن الله وسطهم: «جبل صهيون هذا الذي سكنت فيه» (آية 2ب). فالرب رعى شعبه، وفداهم، ويحلُّ وسطهم في هيكله المقدس. ولا يمكن أن يخرب إلى الأبد المكان الذي يسكن الله فيه، كما لا يمكن أن يغرق القارب الذي كان المسيح فيه بالرغم من العاصفة العاتية التي واجهت التلاميذ.. إن كل الذين يطيعون الأمر: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف 3: 17) لا يمكن أن يغرقوا في بحار الهموم والمشاكل!
3 – الدافع على السؤال: (آيات 3-9). يذكر المرنم خمسة أسباب دفعته للسؤال:
(أ) العدو حطَّم الكل: «ارفع خطواتك إلى الخِرب الأبدية. الكلَّ قد حطم العدوُّ في المقدس» (آية 3). صرخ المرنم بعبارات بالغة القوة، طالباً التدخُّل الإلهي للإنقاذ من العدو الذي نشر الخراب، فقد هاجم الأشرار جماعة المؤمنين وهزموهم ودمَّروا كل شيء، وأخذوا آنية الهيكل المقدسة ووضعوها في بيت صنمهم النجس، فأصبح الهيكل خِرباً لا يمكن أن يُعاد بناؤها. ولا نجاة إلا من الرب الذي يجب أن يفتقد شعبه ليتحقَّق وعده: «ومنكَ تُبنَى الخِرب القديمة. تقيم أساسات دورٍ فدور.. ويبنون الخِرب القديمة، يقيمون الموحشات الأُوَل، ويجدِّدون المدن الخرِبة» (إش 58: 12 و61: 4).
(ب) وضع العدو آياته مكان آيات الله: «قد زمجر مقاوموك في وسط معهدك. جعلوا آياتهم آيات» (آية 4). رفع أعداء الله أصواتهم كالأسود المزمجرة في معهد الله الذي هو هيكله، حيث يأتي شعبه ليسمعوا كلمته ويتعلَّموها. وكان معهد الله أولاً يُسمَّى «خيمة الاجتماع» كما قال الله لموسى: «عند باب خيمة الاجتماع.. حيث أجتمع بكم لأكلِّمك هناك، وأجتمع هناك ببني إسرائيل فيُقدَّس بمجدي» (خر 29: 42، 43). ولكن الأعداء رفعوا شعارات ديانتهم فوق التعاليم الإلهية، وجعلوا أصنامهم وأوثانهم آيات وآلهة في وسط الهيكل، فأبدلوا الحقَّ الإلهي بالباطل الوثني.
(ج) حطم العدو زينة الهيكل: «يَبَان كأنه رافعُ فؤوسٍ على الأشجار المشتبكة. والآن منقوشاته معاً بالفؤوس والمعاول يكسرون» (آيتا 5، 6). حطم العدو زينة الهيكل، فقد قيل عن هيكل سليمان: «و(خشب) أرز البيت من داخل كان منقوراً على شكل قِثّاء وبراعم زهور. الجميع (خشب) أرز. لم يكن يُرى حجر.. وجميع حيطان البيت في مستديرها رسمها نقشاً بنَقْر كروبيم ونخيل وبراعم زهور من داخل ومن خارج» (1مل 6: 18، 29). فجاء العدو بفؤوسه ومعاوله الغاشمة وحطم هذا كله.
(د) أحرقوا الهيكل: «أطلقوا النار في مقدسك. دنَّسوا للأرض مسكن اسمك. قالوا في قلوبهم: لنُفنينَّهم معاً. أحرقوا كل معاهد الله في الأرض» (آيتا 7، 8). أحرق نبوخذنصَّر الهيكل، وهو المكان الذي اختاره الله ليحلَّ اسمه فيه (تث 12: 11)، والذي قال فيه داود: «يا ربُّ، أحببتُ محلَّ بيتك وموضع مسكن مجدك» (مز 26: 8). وقد «أحرق (العدو) بيت الملك وكل بيوت أورشليم. وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار، وجميع أسوار أورشليم مستديراً هدمها» (2مل 25: 9، 10).
(هـ) لم يعُد هناك واعظ: «آياتنا لا نرى. لا نبيَّ بعْد، ولا بيننا من يعرف حتى متى» (آية 9). لم يعُد هناك شيء يذكِّر بني إسرائيل بعبادة الرب، فلا عبادة، ولا أعياد، ولا حفظ سبوت، ولا ملك ولا كاهن. وكان الرب قد قال لموسى: «سبوتي تحفظونها، لأنه علامة بيني وبينكم في أجيالكم، لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدِّسكم» (خر 31: 13). وتحقَّق المرنم من قول النبي حزقيال: «ستأتي مصيبة على مصيبة.. فيطلبون رؤيا من النبي، والشريعة تُباد عن الكاهن والمشورة عن الشيوخ» (حز 7: 26).
4 – المرنم يطلب إيضاحاً واستجابة: «حتى متى يا الله يعيِّر المقاوم ويهين العدو اسمك إلى الغاية؟ لماذا تردُّ يدَك ويمينَك؟ أَخرِجها من وسط حضنك. أفنِ» (آيتا 10، 11). في هاتين الآيتين يتساءل المرنم إن كانت هذه الحالة البائسة ستستمر إلى الأبد. فإن كانت ستنتهي، فمتى يكون هذا؟.. وهو يطالب الرب أن ينقذ شعبه ويفني الأعداء الذين عيَّروا اسم الله بكلامهم وأهانوه بأفعالهم، كما قال ملك أشور: «كما أصابت يدي ممالك الأوثان وأصنامها المنحوتة، هي أكثر من التي لأورشليم وللسامرة. أفليس كما صنعتُ بالسامرة وبأوثانها أصنع بأورشليم وأصنامها؟» (إش 10: 10، 11) وبهذه الكلمات ساوى بين الأوثان والرب الإله! وبدا للمرنم أن الرب ممتنعٌ عن إنقاذ شعبه، كما قال صاحب المراثي: «رَدَّ إلى الوراء يمينه أمام العدو، واشتعل في يعقوب مثل نار ملتهبة تأكل ما حواليها» (مرا 2: 3). فدعا المرنم الرب أن يُخرج يمينه من وسط حضنه ويمدّها بقوته الفاعلة كما سبق أن مدَّها، فابتلع البحر المصريين وأفناهم (خر 15: 12).

ثانياً – ذكريات الرحمة الماضية
)آيات 12-17)
في ذكر مراحم الله الماضية رأى المرنم ثلاثة أمور عظيمة في الله:
1 – الرب إله الخلاص: «والله ملكي منذ القِدم. فاعل الخلاص في وسط الأرض. أنت شققت البحر بقوتك. كسرتَ رؤوس التنانين على المياه» (آيتا 12، 13). يعلن المرنم أن الله ملكه الآن كما كان، وكما سيكون. وهو الديّان العادل لكل الأرض، الذي يصنع عدلاً وخلاصاً، لأنه يقول: «في وقتٍ مقبولٍ سمعتُك، وفي يوم خلاصٍ أعنتك» (2كو 6: 2). وبالرغم من المصاعب المؤلمة التي مرُّ بها هو وشعبه، إلا أنه يدرك أن «الرب يملك إلى الدهر والأبد» (خر 15: 18)، فيقول له: «أنت هو ملكي يا الله، فَأْمر بخلاص يعقوب» (مز 44: 4). لقد خلَّص شعبه بالخروج من مصر أمام كل الأمم والبلاد، وأنقذهم من سوء العذاب (مز 77: 14)، كما كان فاعل الخلاص أيام إيليا وأنزل النار لتحرق الذبيحة، فهتف الشعب كله: «الرب هو الله» (1مل 18: 39)، وفعل الخلاص أيام دانيال عندما أنقذ الفتية الثلاثة من أتون النار (دا 3) وعندما أنقذ دانيال من جب الأسود (دا 6).
لقد شقَّ إله الخلاص البحر الأحمر بقوَّته السماوية، وعبَّر شعبه المستضعَف في الأرض وأغرق فرعون وجنوده، فانكسرت رؤوسهم وطفت جثثهم على المياه، «فخلَّص الرب في ذلك اليوم إسرائيل من يد المصريين، ونظر إسرائيلُ المصريين أمواتاً على شاطئ البحر» (خر 14: 30). ويسمِّي الوحي فرعون «التنين» لفرط قوته، و«لوياثان»، و«رَهَب»، و«التمساح الكبير»، فقد قال النبي إشعياء: «في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لوياثان الحية الهاربة، لوياثان الحية المتحوِّية، ويقتل التنين الذي في البحر» (إش 27: 1)، ويدعو ذراع قوة الرب قائلاً: «استيقظي. البسي قوة يا ذراع الرب. استيقظي كما في أيام القِدم، كما في الأدوار القديمة. ألستِ أنتِ القاطعة رهَب (مصر)، الطاعنة التنين؟» (إش 51: 9)، وكما قال النبي حزقيال: «هكذا قال الرب: هأنذا عليك يا فرعون ملك مصر، التمساح الكبير الرابض في وسط أنهاره، الذي قال: نهري لي، وأنا عملته بنفسي» (حز 29: 3).
2 – الرب إله العناية: «أنت رضَضْتَ رؤوس لوياثان. جعلته طعاماً للشعب، لأهل البرية. أنت فجَّرت عيناً وسيلاً. أنت يبَّست أنهاراً دائمة الجريان» (آيتا 14، 15). انكسرت رؤوس جنود فرعون وترضَّضت فصارت طعاماً لحيوانات البرية، كما قال الله لفرعون: «أتركك في البرية أنت وجميع سمك أنهارك. على وجه الحقل تسقط فلا تُجمَع ولا تُلَمُّ. بذلتُك طعاماً لوحوش البر ولطيور السماء» (حز 29: 5).
وعندما عطش الشعب فجَّر إله العناية عيون الماء من صخور شبه جزيرة سيناء فشرب الشعب أربعين سنة (خر 17: 6 وعد 20: 8) «ولم يعطشوا في القفار التي سيَّرهم فيها. أجرى لهم من الصخر ماءً، وشقَّ الصخر ففاضت المياه» (إش 48: 21). لذلك يقول المرنم: «أخرج مجاري من صخرة، وأجرى مياهاً كالأنهار» (مز 78: 15).
وعندما احتاج الشعب أن يعبر المياه ليصل إلى الأرض التي وعده الرب بها، جفَّف الرب نهر الأردن الدائم الجريان »فعند إتيان حاملي التابوت إلى الأردن، وانغماس أرجل الكهنة حاملي التابوت في ضفَّة المياه، والأردن ممتلئ إلى جميع شطوطه.. وقفت المياه المنحدرة من فوق وقامت ندّاً واحداً بعيداً جداً عن «أدام» المدينة.. انقطعت تماماً، وعبر الشعب مقابل أريحا» (يش 3: 15-17). «لأن الرب إلهكم قد يبَّس مياه الأردن من أمامكم حتى عبرتم، كما فعل الرب إلهكم ببحر سوف الذي يبَّسه من أمامنا حين عبرنا، لكي تعلم جميع شعوب الأرض يد الرب أنها قوية، لكي تخافوا الرب إلهكم كل الأيام» (يش 4: 23، 24).
3 – الرب إله الخَلْق: «لك النهار ولك أيضاً الليل. أنت هيَّأت النور والشمس. أنت نصبتَ كل تخوم الأرض. الصيف والشتاء أنت خلقتهما» (آيتا 16، 17). خلق الرب النهار والليل بسبب دوران الأرض حول نفسها، عندما قال: «ليكن نور» فكان نور، ودعا الله النور نهاراً والظلمة دعاها ليلاً.. وقال الله: «لتكن أنوار في جَلَد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين، وتكون أنواراً في جلَد السماء لتنير على الأرض». وكان كذلك. فعمل الله النورين العظيمين: النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل (تك 1: 5 و14-16). وخلق الله تخوم الأرض ورسم حدودها يوم فصل بين الأرض والماء، «وقال: لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة» (تك 1: 9). وخلق الله الفصول ومنها الصيف والشتاء بسبب دوران الأرض حول الشمس.

ثالثاً – طلب النجاة
(آيات 18-23)
1 – طلب النجاة لأن العدو عيَّر الرب: «اذكر هذا: أن العدو قد عيّر الرب، وشعباً جاهلاً قد أهان اسمك» (آية 18). عندما يهاجم العدوُّ شعبَ الرب وينتصر يظنّ أن أصنامه أعظم من الرب، ويعتبر هجومه الظافر تعييراً لإله الشعب المغلوب على أمره. والعدو في هذه الحالة جاهل بعظمة الرب وبكريم رعايته لشعبه، فقد قال الجاهل في قلبه: «ليس إله!» (مز 14: 1)، و«كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه» (مز 3: 2).
2 – طلب النجاة لأنه بريء وضعيف: «لا تسلِّم للوحش نفس يمامتك. قطيع بائسيك لا تنْسَ إلى الأبد» (آية 19). يشبِّه المرنم شعب الرب باليمامة، لأنها لا تستطيع أن تدافع عن نفسها، وهي لا تؤذي أحداً، وتغني دوماً بصوت حزين، بينما العدو وحشٌ كاسر. ويشبِّه شعبه أيضاً بأنه قطيع من البائسين، لا يقدرون أن يرشدوا أنفسهم، ولا أن يدفعوا الأذى عنها، فيطلب من الراعي الصالح أن يذكرهم في ضيقهم.
3 – طلب النجاة لأن للرب عهداً مع شعبه: «انظر إلى العهد، لأن مُظلِمات الأرض امتلأت من مساكن الظلم. لا يرجعنَّ المنسحق خازياً. الفقير والبائس ليسبِّحا اسمك» (آيتا 20، 21). دخل الرب في عهد مع شعبه ليحفظهم وليكونوا له، فقال لنوح ونسله: «وها أنا مقيمٌ ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم» (تك 9: 9). و«قطع الرب مع إبراهيم ميثاقاً» (تك 15: 18). وعندما كتب موسى جميع أقوال الرب أرسل فتيان بني إسرائيل فذبحوا ذبائح، أخذ موسى نصف دمها ووضعه في الطسوس، ورشَّ النصف الآخر على المذبح، وأخذ كتاب العهد وقرأ في مسامع الشعب، وأخذ الدم ورشَّ على الشعب، وقال: «هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال» (خر 24: 4-8). وقطع الرب عهداً مع داود، وقال: «قطعتُ عهداً مع مختاري. حلفتُ لداود عبدي» (مز 89: 3).
ولكن بدا للمرنم أن الله أدار وجهه بعيداً عن عهده مع شعبه، فسُبي بنو إسرائيل من أرضهم إلى «مُظلمات الأرض» في بابل، حيث العبادة الوثنية المظلمة، وهي بلاد يعشِّش فيها الظلم ويملأ كل ركن منها، فانسحقوا وخزوا وافتقروا وابتئسوا. ويذكِّر المرنم الرب بعهده مع شعبه حتى لا يرجع المنسحق بالخزي لأن صلاته لم تلقَ استجابة، بل بالحري يرتل ويسبِّح الرب الذي سمع صلاته، فيكون «الرب ملجأً للمنسحق، ملجأً في أزمنة الضيق، ويتكل عليك العارفون اسمك، لأنك لم تترك طالبيك يا رب.. تُميل أذنك لحقِّ اليتيم والمنسحق، لكي لا يعود أيضاً يرعبهم إنسان من الأرض» (مز 9: 9، 10 و10: 17، 18).
4 – طلب النجاة لأن القضيةَ قضيةُ الرب: «قُم يا الله. أقم دعواك. اذكر تعيير الجاهل إياك اليوم كله. لا تنْسَ صوت أضدادِك، ضجيج مقاوميك الصاعد دائماً» (آيتا 22، 23). هذا هو النداء الأخير في هذا المزمور لطلب النجاة.. لقد تعوَّد المرنم أن يطلب من الله الدفاع عن قضيته الشخصية أو قضية شعبه، فيقول: «اقضِ لي يا الله وخاصِم مخاصمتي مع أمة غير راحمة، ومن إنسان غشٍّ وظلمٍ نجِّني» (مز 43: 1).. ولكنه هنا يطالب الله بالدفاع عن القضية الإلهية، فيقوم الرب ليقيم دعواه على الجاهل الذي يفتري على الخالق، سيد الأرض كلها. ويبدو للمرنم أن الله نسي تعييرات معيِّريه، وأصوات أضداده وأعدائه وضجيجهم الصاعد ليتحدَّى السماء من أفواه مجدِّفة لا تتوقَّف عن التجديف، وينتظر أن يسمع مرةً أخرى قول الله لملك أشور: «لأن هيجانك عليَّ وعجرفتك قد صعدا إلى أذنيَّ، أضع خزامتي في أنفك، وشكيمتي في شفتيك، وأردُّك في الطريق الذي جئت فيه» (إش 37: 29).
العدو جاهل بالرب وبشدة قوته، وهو مقاومٌ لا يقدر المرنم أن يواجهه لأنه كاليمامة البريئة التي لا تقدر أن تدافع عن نفسها. والظلم كامن في كل ركن مظلم من الأرض! ولكن الرب إله العدل لا بد ينقذ مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً.

اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. عَلَى «لاَ تُهْلِكْ». مَزْمُورٌ لآسَافَ. تَسْبِيحَةٌ
1 نَحْمَدُكَ يَا اللهُ. نَحْمَدُكَ وَاسْمُكَ قَرِيبٌ. يُحَدِّثُونَ بِعَجَائِبِكَ. 2«لأَنِّي أُعَيِّنُ مِيعَاداً. أَنَا بِالْمُسْتَقِيمَاتِ أَقْضِي. 3ذَابَتِ الأَرْضُ وَكُلُّ سُكَّانِهَا. أَنَا وَزَنْتُ أَعْمِدَتَهَا». سِلاَهْ.
4قُلْتُ لِلْمُفْتَخِرِينَ: «لاَ تَفْتَخِرُوا» وَلِلأَشْرَارِ: «لاَ تَرْفَعُوا قَرْناً. 5لاَ تَرْفَعُوا إِلَى الْعُلَى قَرْنَكُمْ. لاَ تَتَكَلَّمُوا بِعُنُقٍ مُتَصَلِّبٍ». 6لأَنَّهُ لاَ مِنَ الْمَشْرِقِ وَلاَ مِنَ الْمَغْرِبِ وَلاَ مِنْ بَرِّيَّةِ الْجِبَالِ، 7وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ الْقَاضِي. هَذَا يَضَعُهُ وَهَذَا يَرْفَعُهُ. 8لأَنَّ فِي يَدِ الرَّبِّ كَأْساً وَخَمْرُهَا مُخْتَمِرَةٌ. مَلآنَةٌ شَرَاباً مَمْزُوجاً. وَهُوَ يَسْكُبُ مِنْهَا. لَكِنْ عَكَرُهَا يَمَصُّهُ يَشْرَبُهُ كُلُّ أَشْرَارِ الأَرْضِ.
9أَمَّا أَنَا فَأُخْبِرُ إِلَى الدَّهْرِ. أُرَنِّمُ لإِلَهِ يَعْقُوبَ. 10وَكُلَّ قُرُونِ الأَشْرَارِ أَعْضِبُ. قُرُونُ الصِّدِّيقِ تَنْتَصِبُ.

لأني أعيِّن ميعاداً
هذا المزمور والذي يليه ترنيمتا شكر لآساف على النجاة، بعد أن استمع الله إلى شكواه التي رفعها في مزمور 74، وكانا يُرتَّلان في مناسبات الانتصار القومي. وهما يشبهان مزموري 46، 48 اللذين رنمهما بنو قورح، فقد دان الله العدو المتكبِّر وحطمه، واختبر المرنم من جديد أن الله هو القاضي العادل الذي ينصر شعبه، وتحقَّقت نبوة إشعياء: «وتكون لكم أغنيةٌ كليلة تقديسِ عيدٍ، وفرحُ قلبٍ كالسائر بالناي ليأتي إلى جبل الرب، إلى صخر إسرائيل» (إش 30: 29).
ولا نعرف بالضبط ما هي مناسبة كتابة هذا المزمور، ولعلها هلاك 185 ألف جندي أشوري ممن كانوا يحاصرون أورشليم (2مل 19: 35).. وهو اختبار يكرره الله مع شعبه عبر العصور.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يحمد الرب (آية 1)
ثانياً – الرب يجيب المرنم (آيتا 2، 3)
ثالثاً – المرنم يحذِّر أعداءه (آيات 4-8)
رابعاً – المرنم يمجِّد الرب (آيتا 9، 10)

أولاً – المرنم يحمد الرب
(آية 1)
يبدأ المرنم مزموره ويختمه بحمد الله وتمجيده لأنه جاوبه على شكواه.
1 – يحمده حمداً مؤكداً: «نحمدك يا الله نحمدك» (آية 1أ). تتكرر كلمة «نحمدك» للتنبير على توحُّد القلب في شكر الله الدائم على مراحمه التي تتجدَّد كل صباح. لقد فاض قلب المرنم بالحمد لله المنقذ من المعاناة الشديدة، والذي كانت رحمته أقوى من كل ضيقة. ويتعلم كل مؤمن حقيقي أن يشكر في كل حين على كل شيء، ويفعل ما فعله السامري الأبرص الذي شفاه المسيح مع تسعة آخرين، فرجع ليقدم شكره لشافيه. وسأل المسيح: «أليس العشرة قد طهَروا؟ فأين التسعة؟» (لوقا 17: 17) لأن كثيرين ينالون ولا يشكرون.
والمؤمن الحقيقي يشكر حتى على الظروف السيئة، لا لأنها سيئة، ولكن لأن الله سيُخرج منها شيئاً حسناً، فمن الآكل يخرج أكل، ومن الجافي تخرج حلاوة (قض 14: 14)، ونقول دائماً إن للصدِّيق خيراً (إش 3: 10).
2 – يحمده على قُربه: «واسمك قريب» (آية 1ب). اسم الرب هو شخصه وما أعلن به ذاته للبشر، وهو دائماً قريب من طالبيه، ولو أن قُربه يتَّضح لهم أكثر في زمان الضيق عندما يبرهن لهم حضوره الحي الفعّال وينقذهم. قال موسى لبني إسرائيل: «أيُّ شعبٍ هو عظيم، له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا في كل أدعيتنا إليه؟» (تث 4: 7).. «قريبٌ هو الرب من المنكسري القلوب، ويخلِّص المنسحقي الروح.. الرب قريب لكل الذين يدعونه، الذين يدعونه بالحق« (مز 34: 18، 145: 18)، «ليستجب لك الرب في يوم الضيق. ليرفعك اسم إله يعقوب» (مز 20: 1).. لذلك قال الرسول بولس وهو مسجون في روما للمتألمين من الاضطهاد في فيلبي: «افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضاً افرحوا.. الرب قريب» (في 4: 4، 5)، فهو قريب من المؤمنين أكثر مما يتصوَّرون، كما أن مجيئه ثانيةً قريب.
3 – يحمده على عجائبه: «يحدِّثون بعجائبك» (آية 1ج). يتحدَّث المرنم والمحيطون به عن عجائب الإنقاذ الإلهي، ولسان حاله: «أحمد الرب بكل قلبي. أحدِّث بجميع عجائبك.. اللهمَّ، قد علَّمتَني منذ صِباي، وإلى الآن أُخبر بعجائبك» (مز 9: 1 و71: 17). وهم مندهشون من المعجزات المتكررة التي زادت نضوجهم الروحي، وكأنهم يقولون مع الرسول بولس: «فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلَن فينا» (رو 8: 18).

ثانياً – الرب يجيب المرنم
(آيتا 2، 3)
لا بد أن الله يعاقب الشرير، ويحافظ على المبادئ الأخلاقية في العالم الذي خلقه، حتى لو ظهر لعيوننا البشرية في أحيان كثيرة أن الفوضى تعمُّه، لكنه سبحانه بنى الكون مثل بيت متَّزن الأعمدة تخبر السماوات بعدله، «لأن الله هو الديّان» (مز 50: 6).. وتقول هاتان الآيتان:
1- للتدخُّل الإلهي موعد: «لأني أعيّن ميعاداً» (آية 2أ). يبدو للمتضايق أن الله نسي، لكن «لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت» (جا 3: 1). قال المسكين الذي أعيا وسكب شكواه قدام الله: «أنت تقوم وترحم صهيون، لأنه وقت الرأفة، لأنه جاء الميعاد» (مز 102: 13). فما أعظم الحكمة في التوقيت الإلهي، فالهدية التي نتلقاها وقت الحاجة إليها هي أفضل هدية. «فإن كنتم، وأنتم أشرار، تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات!» (مت 7: 11). «لأن الرؤيا بعدُ إلى الميعاد، وفي النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها، لأنها ستأتي إتياناً ولا تتأخَّر» (حب 2: 3)، فهناك ميعاد معيَّن لكل عمل يُعمل. فلننتظر ميعاد الرب ونحن نقول: «انتظاراً انتظرتُ الرب» (مز 40: 1).
عندما قطع الرب ميثاقاً مع خليله إبراهيم ووعده أن يمنحه أرض الميعاد، لم يعطها له فوراً «لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملاً» (تك 15: 16)، ومنح الرب الأموريين أربعمئة سنة ليتوبوا. وكان يجب أن يفهموا التحذير الحكيم: «أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة؟» (رو 2: 4).
2 – في التدخُّل الإلهي تحقيق للعدالة: «أنا بالمستقيمات أقضي» (آية 2ب). يؤكد الله أنه وحده سيُحقُّ الحق، ويوقع العقاب بالعدو إن لم يتُب، وسيُجري الحق كالمياه، والبر كنهر دائم (عا 5: 24)، ولن يكون هناك ظلم. «لأنه أقام يوماً هو فيه مزمعٌ أن يدين المسكونة بالعدل» (أع 17: 31).
3 – التدخُّل الإلهي يُخضع الجميع: «ذابت الأرض وكل سكانها. أنا وزنتُ أعمدتها» (آية 3). قد تبدو العدالة في هذا العالم متعثِّرة، وقد يتزعزع إيمان المؤمن بسبب هذا، فيقول: «حقاً قد زكَّيتُ قلبي باطلاً وغسلت بالنقاوة يديَّ» (مز 73: 13). ولكن الله أقام عالمه على أسُس أخلاقية كالأعمدة الثابتة المتَّزنة. فعندما تهتز العدالة الأرضية ويسود الظلم يُعيد الله للعدالة ثباتها ويعاقب الظلم والظالمين، فيقول المؤمن: «انتبهتُ إلى آخرتهم. حقاً في مزالق جعلتهم. أسقطتهم إلى البوار» (مز 73: 17، 18).. لقد وزن الله كل شيء ووضعه في مكانه الصحيح، ولم يخلق الكون وتركه للصُّدف، ولا أهمل شعبه لحظة! وهذا ما نراه في كل التاريخ.. لقد ذابت الأرض وكل سكانها وهي تشهد حادثة الخروج من مصر، ثم ذابت مرة أخرى وهي تشاهد عودة الشعب من سبي بابل ليعيدوا بناء الهيكل. وستذوب الأرض كلها عند مجيء المسيح ثانية ليدين العالمين. «لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ، لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناسٌ، بل أن يُقبِل الجميع إلى التوبة. ولكن سيأتي كلصٍّ في الليل يوم الرب، الذي فيه تزول السماوات بضجيج، وتنحل العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. فبما أن هذه كلها تنحل، أيّ أناسٍ يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى، منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب، الذي به تنحل السماوات ملتهبة، والعناصر محترقة تذوب. ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر» (2بط 3: 9-13).

ثالثاً – المرنم يحذِّر أعداءه
(آيات 4-8)
كانت شريعة العهد القديم تقول إن «عيناً بعين، وسناً بسن، ويداً بيد ورِجلاً برِجل» (خر 21: 24)، فكان يحقُّ للمرنم أن يطلب تدمير أعدائه، ولكنه بدلاً من هذا قدَّم لهم التحذيرات والنصائح، ونبَّههم إلى قضاء الله العادل ليتوبوا:
1 – حذَّر هم من الكبرياء: «قلتُ للمفتخرين: لا تفتخروا، وللأشرار: لا ترفعوا قرناً. لا ترفعوا إلى العُلى قرنكم» (آيتا 4، 5أ). المفتخرون هم الذين يعتزّون بأنفسهم لا بالرب، فيُقال لهم: «لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار؟» (مز 52: 1). لقد رفع الشرير قرنه إلى العُلى، إلى مكان سُكنى الله. والقرن يرمز إلى القوة، فبه ينطح الثور. وكان القرن لقباً للملوك لأنهم ذوو سلطة وقوة (دا 7: 7 ومز 132: 17). ويحذر المرنم أعداءه من الافتخار، فطوبى للمساكين بالروح (مت 5: 3) لأنهم يدركون أن كل ما عندهم من سلطان هو عطية الله، فيقول كلٌّ منهم: «بالرب تفتخر نفسي» (مز 34: 2).
تضايق الوزير الفارسي هامان لأن مُردخاي بوّاب القصر رفض أن يسجد له، طاعةً للوصية: «للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد» (مت 4: 10)، وفي كبريائه قرر أن يقتل مردخاي مصلوباً، فصُلب هو على الخشبة التي جهزها لمردخاي (أس 7: 9، 10).
وفي كبرياء قلبه نظر نبوخذنصَّر إلى عاصمته العظيمة وقال: «أليست هذه هي بابل العظيمة التي بنيتها لبيت المُلك بقوة اقتداري ولجلال مجدي؟ والكلمة بعد بفم الملك وقع صوتٌ من السماء قائلاً: لك يقولون يا نبوخذنصَّر الملك: إن المُلك قد زال عنك، ويطردونك من بين الناس، وتكون سُكناك مع حيوان البَر، ويطعمونك العشب كالثيران، فتمضي عليك سبعة أزمنة حتى تعلم أن العلي متسلط في مملكة الناس، وأنه يعطيها من يشاء» (دا 4: 28-32). وهكذا كان، حتى أدرك أن العلي صاحب السلطان في مملكة الناس، فرجع إليه عقله وأعادوه لعرشه.
«كان هيرودس ساخطاً على الصوريين والصيداويين فحضروا إليه بنفس واحدة واستعطفوا بلاستس الناظر على مضجع الملك، ثم صاروا يلتمسون المصالحة لأن كورتهم تقتات من كورة الملك. ففي يوم معيَّن لبس هيرودس الحلة الملوكية وجلس على كرسي المُلك وجعل يخاطبهم. فصرخ الشعب: هذا صوت إله لا صوت إنسان. ففي الحال ضربة ملاك الرب لأنه لم يعطِ المجد لله. فصار يأكله الدود ومات» (أع 12: 20-23). وهكذا أهلك هيرودس نفسه بكبريائه، لأنه قبل أن يصيبه المرض الجسدي أصابه داء الكبرياء.
2 – حذَّرهم من العناد: «لا تتكلموا بعُنق متصلِّب» (آية 5ب). قالت حنَّة أم النبي صموئيل: «لا تُكثِّروا الكلام العالي المستعلي، ولتبرح وقاحة من أفواهكم، لأن الرب إلهٌ عليم، وبه توزن الأعمال» (1صم 2: 3). والعنق المتصلب هو المتكبر. وعلى الإنسان أن يتعلم التواضع، فكم ضمَّ باطن الأرض من عظماء وأصحاب مراكز أثرياء، وستظل تضم. فلنتخلَّ عن العنق المتصلب، ولننحنِ أمام الله بتواضع، كما تواضعت العذراء القديسة مريم وقالت: «تعظِّم نفسي الرب.. لأنه نظر إلى اتِّضاع أمَته، فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوِّبني، لأن القدير صنع بي عظائم.. صنع قوة بذراعه. شتَّت المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتَّضعين» (لو 1: 46-52).

3 – ذكَّرهم بالسلطان الإلهي: «لأنه لا من المشرق ولا من المغرب ولا من برية الجبال. ولكن الله هو القاضي. هذا يضعه وهذا يرفعه» (آيتا6، 7). هاجم الأعداء شعب الرب من كل جهة: من الشمال والجنوب وشبه الجزيرة. و»لكن« هناك أمل للمؤمن ورعب للظالم، لأن الله هو القاضي، كما قال إشعياء: «فإن الرب قاضينا. الرب شارعنا (المشرِّع لنا). الرب ملكنا، هو يخلِّصنا» (إش 33: 22). «الرب يُميت ويحيي. يُهبِط إلى الهاوية ويُصعِد. الرب يُفقِر ويُغني. يضع ويرفع» (1صم 2: 6، 7). «الرب يرفع الودعاء، ويضع الأشرار إلى الأرض» (مز 147: 6).
4 – حذَّرهم من العقاب الإلهي: «لأن في يد الرب كأساً وخمرها مختمرة. ملآنة شراباً ممزوجاً وهو يسكب منها. ولكن عكرها يمَصُّه، يشربه كل أشرار الأرض» (آية 8). يشير الكأس هنا إلى العقاب الإلهي، كما قال المرنم عنه: «أسقيتَ (يا رب) شعبك عُسراً. سقيتنا خمر الترنُّح» (مز 60: 3). وقد أمر الرب النبي إرميا: «خُذ كأس خمر هذا السَّخط من يدي، واسْقِ جميع الشعوب الذين أُرسلك أنا إليهم إياها، فيشربوا ويترنَّحوا ويتجنَّنوا» (إر 25: 15، 16). وقال النبي إشعياء لبلاده: «قومي يا أورشليم التي شربتِ من يد الرب كأس غضبه. ثُفل كأس الترنُّح شربتِ، مصصتِ» (إش 51: 17). وكأس الخمر المختمرة في يد الله يعني أن العقاب الإلهي على الشرير عقاب شديد. والكأس »ملآنة شراباً ممزوجاً» بمعنى أن عقوباتها متنوعة وكثيرة، «يسكب» الله منها، لأنها لا تزال تمتلئ من غضبه ولا تفرغ، يشربها الأشرار حتى العكر المترسِّب في قاعها، فلا تبقى فيها قطرة.
وقد يبدو هذا الكلام قاسياً، لكن الحقيقة هي أن الذي يشرب كأس غضب الله حتى ثمالتها هو الذي رفض رحمة الله، مع أن الله طالما دعاه للتوبة فرفض، وبرفضه يذخر لنفسه غضباً في يوم الغضب ويوم استعلان دينونة الله العادلة (رو 2: 5).

رابعاً – المرنم يمجِّد الرب
(آيتا 9، 10)
بعد أن حذَّر المرنم الأشرار من سوء مصيرهم، أوضح موقفه الذي يجاهر به علناً. كانوا يعلنون الحرب، أما هو فيطلب السلام. كانت ألسنتهم تلعن، أما لسانه فيبارك.
1 – يمجِّد المرنم الرب بالإعلان عن عمله: «أما أنا فأُخبر إلى الدهر» (آية 9أ). عمل الله مع المؤمن عملاً لا يستحقه، ولم يكن يتوقعه، لأنه أكثر جداً مما طلب أو افتكر، وفي انبهار يخبر بكم صنع الرب به ورحمه (مر 5: 19). ويقول الوحي للمؤمنين: «وأما أنتم فجنسٌ مختار وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. الذين قبلاً لم تكونوا شعباً، وأما الآن فأنتم شعب الله. الذين كنتم غير مرحومين، وأما الآن فمرحومون» (1بط 2: 9، 10). فيقولون: «متكلِّمٌ أنا بإنشائي للملك. لساني قلم كاتب ماهر» (مز 45: 1).
2 – يمجِّده بالفرح بما عمله: «أرنِّم لإله يعقوب» (آية 9ب). لم يكن تاريخ يعقوب تاريخ من يستحق الرحمة الإلهية، لا هو ولا بنوه. فلما أنقذهم الله عبَّر المرنم عن تمجيده لله بالترنيم.. لم يكن يعقوب يستحق الرحمة، فقد خدع أخاه وأباه وخاله، وبدأت علاقته بالله أنانية لمصلحته، فنذر: «إن كان الله معي وحفظني في هذا الطريق الذي أنا سائر فيه، وأعطاني خبزاً لآكل وثياباً لألبس ورجعتُ بسلام إلى بيت أبي، يكون الرب لي إلهاً. وهذا الحجر الذي أقمتُه عموداً يكون بيت الله، وكل ما تعطيني فإني أُعشِّره لك» (تك 28: 20-22). وحقق الله مطالب يعقوب، ولكنه نسي نذره، فعاتبه الله على عدم وفائه بالعهد، وقال له: «قُم اصعد إلى بيت إيل، وأَقِم هناك. واصنع هناك مذبحاً لله الذي ظهر لك حين هربت من وجه عيسو أخيك» (تك 35: 1). وقد شعر يعقوب بعد ذلك أنه لا يستحق أفضال الله عليه، فقال لابنه يوسف عن حفيديه منسى وأفرايم: «الله الذي سار أمامه أبواي إبراهيم وإسحاق، الله الذي رعاني منذ وجودي إلى هذا اليوم، الملاك الذي خلَّصني من كل شر يبارك الغلامين» (تك 48: 15، 16). ويسبح المرنم إله يعقوب لأنه رحم يعقوب، كما يفتح باب رحمته لكل من يطلبها، لأنه «يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يُقبِلون» (1تي 2: 4).
3 – يمجِّده بإعلان نصره: «وكل قرون الأشرار أَعْضِب. قرون الصدِّيق تنتصب» (آية 10). يعلن المرنم أن الله سيهزم الأمم وينصف شعبه، فيعضب المرنم (يقطع) كل قرون الشرير وكل مظاهر سطوته، وتنتصب قرون الصدّيق، لأن الله يرد الحق إلى نِصابه وينقذ أولاده من الخطر. «قومي ودوسي يا بنت صهيون، لأني أجعل قرنك حديداً.. فتسحقين شعوباً كثيرين» (مي 4: 13). «مخاصمو الرب ينكسرون. من السماء يُرعِد عليهم. الرب يدين أقاصي الأرض، ويعطي عزّاً لمَلِكه، ويرفع قرن مسيحه» (1صم 2: 10). حقاً «من يرفع نفسه يتَّضع، ومن يضع نفسه يرتفع» (مت 23: 12).
ليكن هذا المزمور مصدر تشجيع حقيقي لنا. «إنما لله انتظري يا نفسي لأن من قِبَله رجائي. إنما هو صخرتي وخلاصي، ملجإي فلا أتزعزع» (مز 62: 5، 6).

اَلْمَزْمُورُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ الأَوْتَارِ. مَزْمُورٌ لآسَافَ. تَسْبِيحَةٌ
1 اَللهُ مَعْرُوفٌ فِي يَهُوذَا. اسْمُهُ عَظِيمٌ فِي إِسْرَائِيلَ. 2كَانَتْ فِي سَالِيمَ مَظَلَّتُهُ، وَمَسْكَنُهُ فِي صِهْيَوْنَ. 3هُنَاكَ سَحَقَ الْقِسِيَّ الْبَارِقَةَ. الْمِجَنَّ وَالسَّيْفَ وَالْقِتَالَ. سِلاَهْ.
4أَبْهَى أَنْتَ، أَمْجَدُ مِنْ جِبَالِ السَّلَبِ. 5سُلِبَ أَشِدَّاءُ الْقَلْبِ. نَامُوا سِنَتَهُمْ. كُلُّ رِجَالِ الْبَأْسِ لَمْ يَجِدُوا أَيْدِيَهُمْ. 6مِنِ انْتِهَارِكَ يَا إِلَهَ يَعْقُوبَ يُسَبَّخُ فَارِسٌ وَخَيْلٌ. 7أَنْتَ مَهُوبٌ أَنْتَ. فَمَنْ يَقِفُ قُدَّامَكَ حَالَ غَضَبِكَ؟ 8مِنَ السَّمَاءِ أَسْمَعْتَ حُكْماً. الأَرْضُ فَزِعَتْ وَسَكَتَتْ 9عِنْدَ قِيَامِ اللهِ لِلْقَضَاءِ لِتَخْلِيصِ كُلِّ وُدَعَاءِ الأَرْضِ. سِلاَهْ. 10لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ. بَقِيَّةُ الْغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ بِهَا.
11اُنْذُرُوا وَأَوْفُوا لِلرَّبِّ إِلَهِكُمْ يَا جَمِيعَ الَّذِينَ حَوْلَهُ. لِيُقَدِّمُوا هَدِيَّةً لِلْمَهُوبِ. 12يَقْطِفُ رُوحَ الرُّؤَسَاءِ. هُوَ مَهُوبٌ لِمُلُوكِ الأَرْضِ.

قوة الله المخلِّصة
في مزمور 74 رفع المرنم لله شكوى من ظلم العدو لشعبٍ يحبه الله، فقد حطم الهيكل محل سكن الله وسط شعبه. واستمعنا في مزمور 75 رداً إلهياً على الشكوى، يقول الله فيه إنه قاضٍ عادل، وقد عيَّن لكل أمرٍ ميعاداً، وإنه بالمستقيمات يقضي. وفي هذا المزمور ردٌّ إلهي آخر، يقول إن قوة الله العظيمة لا بد ستحطم العدو.. وواضح أن في عالمنا مملكتين تتحاربان، كما أن هناك معارك مستمرة تدور داخل نفوسنا بين الخير والشر. فنحن نعيش في عالم أسلم قياده لإبليس، وقد خضع أغلبية البشر للشرير واستسلموا له. ولكثرة ما هُزموا أمامه لم تعُد لديهم ثقةٌ أنهم يقدرون أن ينتصروا، لأن الهزيمة صارت أسلوب حياتهم اليومي.
على أن النصرة النهائية هي دائماً من نصيب مملكة الخير، مع أنها تواجه الهجوم المستمر من مملكة الشر. ويوصينا الوحي: «تقوَّوا في الرب وفي شدة قوته. البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس، فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم، على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات» (أف 6: 10-12).. وعلى كل من يريد الحياة المقدسة، الخادمة، الشُّجاعة أن يتوقع المقاومة، ويتأكد في الوقت نفسه أنه «يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 37).
يشبه هذا المزمور مزمور 46 الذي يقول مطلعه: «الله لنا ملجأ وقوة. عوناً في الضيقات وُجد شديداً». ويتكوَّن مزمورنا من 12 آية، تحوي أربعة أفكار، تشغل كل فكرة منها ثلاث آيات.

في هذا المزمور نجد:
أولاً – قوة الرب (آيات 1-3)
ثانياً – مجد الرب (آيات 4-6)
ثالثاً – سلطان الرب (آيات 7-9)
رابعاً – نصائح للودعاء (آيات 10-12)

أولاً – قوة الرب
(آيات 1-3)
1 – قوة مُعلَنة: «الله معروف في يهوذا، عظيم في إسرائيل» (آية 1). تاريخ الله مع شعبه معروف ومشهور، بالخروج المعجزي من مصر، وشق البحر الأحمر، وإطعام الشعب بالمن والسلوى في الصحراء، وري عطشهم بالماء الذي خرج من الصخر. وعندما كانوا يحتفلون بالفصح كان الأبناء يسألون آباءهم: »ما هذه الخدمة لكم؟« فيجاوبونهم: «هي ذبيحة فصح للرب الذي عبر عن بيوت بني إسرائيل في مصر، لما ضرب المصريين وخلَّص بيوتنا» (خر 12: 26، 27). الله معروف بأنه صاحب القوة اللانهائية، فهو الخالق، الذي قال «ليكن نور» فكان نور. وهو «حاملٌ كل الأشياء بكلمة قدرته» (عب 1: 3). فقد خلق العالم وهو يعتني به ويضبطه، وكل الأشياء بإرادته كائنة وخُلقت (رؤ 4: 11)، وهو يكافئ البار ويعاقب الشرير. «معروفٌ هو الرب. قضاءً أمضى. الشرير يَعْلَقُ بعمل يديه» (مز 9: 16). «الله في قصورها يُعرَف ملجأ» (مز 48: 3).
مَلَك داود وسليمان على مملكة متحدة، ولكنها انقسمت إلى مملكتين: شمالية هي مملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة، وجنوبية هي مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم. والله معروف في مملكتي يهوذا وإسرائيل. أعلن لهما عن ذاته بواسطة الأنبياء الذين أرسلهم إليهما، وبالمعجزات التي أجراها بواسطة أنبيائه فيهما.
معروف الله بأمانته الكاملة، فقد حقَّق كل وعوده لأب الأسباط يعقوب، وغيَّر اسمه من يعقوب (بمعنى: يمسك العقب) إلى إسرائيل (بمعنى: يجاهد مع الله). وقال سليمان بعد صلاة تدشين الهيكل: «مباركٌ الرب الذي أعطى راحةً لشعبه حسب كل ما تكلم به، ولم تسقط كلمة واحدة من كل كلامه الصالح الذي تكلم به عن يد موسى عبده» (1مل 8: 56).
2 – قوة مُقيمة: «كانت في ساليم مظلته، ومسكنه في صهيون» (آية 2). يقول المرنم إن الله أقام مظلته في ساليم، وهو تدليل واختصار لاسم أورشليم، بمعنى «مدينة السلام» أو «أساس السلام». وقد حلَّت أورشليم السماوية في عهد الإنجيل مكان أورشليم الأرضية، لأن خاصة المسيح من اليهود لم تقبله، فمنح كل الذين قبلوه من كل أمة وشعب ولسان امتيازات شعبه القديم، الذين قال المسيح لهم: «ملكوت الله يُنزَع منكم ويُعطَى لأمة تعمل أثماره» (مت 21: 43).
«في ساليم مظلته». وتُطلَق «مظلته» أحياناً على عرين الأسد، والمعنى أن الرب يدافع عن شعبه كما يدافع الأسد عن عرينه «لأنه هكذا قال الرب كما يهرُّ فوق فريسته الأسد والشبل الذي يُدعى عليه جماعة من الرعاة وهو لا يرتاع من صوتهم ولا يتذلل لجمهورهم.. هكذا يحامي رب الجنود عن أورشليم. يحامي فينقذ، يعفو فينجي» (إش 31: 4، 5).
يقيم الله وسط شعبه، ويسكن بينهم. رأى يوحنا المسيح في وسط سبع مناير ذهبية هي السبع الكنائس (رؤ 1: 13). وقال المسيح: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20).
3 – قوة منتصرة: «هناك سحق القسيَّ البارقة. المجنَّ والسيف والقتال» (آية 3). «هناك» في كل الحروب التي أغار فيها العدو ضد شعب الرب كانت قسيُّ العدو (جمع قوس) بارقة، أي سريعة كالبرق، فسحقها الرب بقوته الأقوى والتي لا بد ستنتصر وتنصر شعبه. ويُقال عن سهام الرب المدافعة عن شعبه، والتي تهزم أعداءه: «أرسل سهامه فشتَّتهم، وبروقاً كثيرة فأزعجهم» (مز 18: 14)، وقال النبي: «يُرى الرب فوقهم وسهمه يخرج كالبرق» (زك 9: 14). وتوضح هذه الآية أن الرب المنتصر سيسحق كل أسلحة الحرب من مجن (وهو الترس الصغير)، وسيف وجنود.

ثانياً – مجد الرب
(آيات 4-6)
1 – دمَّر التحصينات: «أبهى أنت، أمجد من جبال السَّلَب» (آية 4). جبال السلب هي الجبال الراسخة العالية، التي تعلوها تحصينات العدو القوية، والكهوف الحصينة التي لا يمكن لأحد من سكان الوادي أن يصل إلى الأعداء المعسكرين فوقها والمختبئين داخلها. ولكن الله أبهى وأمجد منها كلها، لأن الذين معنا أعظم وأقوى وأكثر من الذين معهم. ويقدِّم الله لشعبه التشجيع العظيم على لسان النبي ناحوم، فيقول بخصوص هجوم الأشوريين (وعاصمتهم نينوى) على شعبه: «أين مأوى الأسود ومرعى أشبال الأسود؟.. الأسد المفترس لحاجة جرائه، والخانق لأجل لبواته، حتى ملأ مغارته فرائس ومآويه مفترَسات. ها أنا عليه يقول رب الجنود» (ناحوم 2: 11-13).
2 – دمَّر الجنود: «سُلِب أشداء القلب. ناموا سِنتهم. كل رجال البأس لم يجدوا أيديهم. من انتهارك يا إله يعقوب يُسبَّخ فارسٌ وخيلٌ» (آيتا 5، 6). قال ملك أشور: «بقُدرة يدي صنعت، وبحكمتي، لأني فهيمٌ.. فأصابت يدي ثروة الشعوب كعُش، وكما يُجمَع بيضٌ مهجور جمعتُ أنا كل الأرض» فقال الله له: «هل تفتخر الفأس على القاطع بها، أو يتكبَّر المنشار على مُردِّده؟» (إش 10: 13-15). لقد سلب الله الأعداء الشجعان، وأنامهم نوم الموت، وقال عنهم: «لكي يناموا نوماً أبدياً ولا يستيقظوا، يقول الرب» (إر 51: 39). وعندما حاولوا أن يستخدموا أيديهم للهجوم أو للدفاع وجدوها مقطوعة، إما لأنهم فقدوها، أو لأنها عجزت عن الحركة.
لقد انتهر الله العدو بصوت سلطانه «انتهرتَ الأمم. أهلكت الشرير» (مز 9: 5)، فسُبِّخ الفارس والخيل، أي ناموا نوماً عميقاً وراح في سُبات الموت.. سقط أعداء الله جميعاً وماتوا. إنه الله «المُخرِج المركبة والفرَس، الجيش والعِزَّ. يضطجعون معاً لا يقومون. قد خمِدوا. كفتيلةٍ انطفأوا» (إش 43: 17).

ثالثاً – سلطان الرب
(آيات 7-9)
1 – لأنه المهوب: «أنت مهوب أنت. فمن يقف قدامك حال غضبك؟» (آية 7). الله صاحب الهيبة الذي لا يستطيع أحد أن يقف أمامه. وقف شاول الطرسوسي ضد المسيح وضد كنيسته، وحمل رسائل من رؤساء اليهود في أورشليم ليُلقي القبض على المسيحيين رجالاً ونساءً ليسوقهم إلى السجون والعذاب. ولكنه بكل علمه وسلطانه وغيرته لعقيدته لم يقدر أن يقف أمام هيبة الله الذي أبرق حوله بنور من السماء فسقط إلى الأرض، وسمع المسيح يسأله: «لماذا تضطهدني؟.. صعبٌ عليك أن ترفس مناخس» فخضع أمام المهوب يقول: «ماذا تريد يا رب أن أفعل؟» (أع 9: 4-6). حقاً «الرب عليٌّ مخوف» (مز 47: 2) ، و«إلهنا نارٌ آكلة» (عب 12: 29). «من يقف أمام سُخطه، ومن يقوم في حموّ غضبه؟» (نا 1: 6). له قال المرنم: «إن كنت تراقب الآثام يا رب يا سيد، فمن يقف؟» (مز 130: 3).
2 – لأنه القاضي: «مِن السماء أسمعْتَ حُكماً. الأرض فزعت وسكتت، عند قيام الله للقضاء لتخليص كل ودعاء الأرض» (آيتا 8، 9). الله هو القاضي العادل الذي يصدر أحكامه على الأشرار ويعلنها، فيرتعبون ويعجزون عن الدفاع عن أنفسهم. قالت حنة في صلاة شكرها: «مخاصمو الرب ينكسرون. من السماء يُرعِد عليهم. الرب يدين أقاصي الأرض» (1صم 2: 10)، وقال بنو قورح: «عجَّت الأمم. تزعزعت الممالك. أعطى صوته. ذابت الأرض» (مز 46: 6). وقال النبي إشعياء: «يُسمِّع الرب جلال صوته، ويُري نزول ذراعه بهيجانِ غضبٍ ولهيبِ نارٍ آكلة.. لأنه من صوت الرب يرتاع أشور» (إش 30: 30، 31).
لا بد أن يقوم الله ليُجري القضاء العادل، ويُفزِع الشرير ويخلِّص كل ودعاء الأرض، «يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويُميت المنافق بنفخة شفتيه» (إش 11: 4). ينقذ الله كل من لا يستطيعون أن يخلِّصوا أنفسهم، فيدافع عنهم وهم صامتون. وعندما نلتقي بمتجِّبر يظلم العاجزين، يجب أن نذكر أن الله يقوم ليخلص كل ودعاء القلب، فهو يقول: «كل قرون الأشرار أعضب (أقطع). قرون الصديق تنتصب» (مز 75: 10).

رابعاً – نصائح للودعاء
(آيات 10-12)
أوضح المرنم أن قوة الله تحطم العدو وتدافع عن الوديع الذي لا يقدر أن يدافع عن نفسه. ثم يطمئن هذا الوديع، ويقدم له ثلاث نصائح:
1 – الله صاحب السلطان: «لأن غضب الإنسان يحمدك. بقية الغضب تتمنطق بها» (آية 10). لا بد أن يتحوَّل غضب الإنسان ضد شعب الرب إلى تمجيد للرب وإلى خيرٍ لشعبه، لأنه لا بد يُجري معجزات لينقذ شعبه، ويُخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة (قض 14: 14)، كما قال لفرعون: «لأجل هذا أقمتُك لكي أُريك قوتي، ولكي يُخبَر باسمي في كل الأرض. أنت معاندٌ بعد» (خر 9: 16). وإن تبقَّى من غضب الإنسان الشرير شيء لم يُفصِح عنه، يتمنطق الله به ويحوِّله أيضاً لخير شعبه، ويقول للخطاة: «نَفَسُكم نارٌ تأكلكم» (إش 33: 11).
عندما غضب هامان على مُردخاي صُلب على الخشبة التي نصبها ليصلب عليها مُردخاي، ونزع الملك خاتمه الذي أخذه من هامان وأعطاه لمردخاي، فدمَّر العدو نفسه، وأكرم الله شعبه (أس 7: 9 و8: 2).
قال المسيح: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 28: 18). وهذا ما حدث بعد رجم استفانوس، الشهيد المسيحي الأول، فقد «حدث في ذلك اليوم اضطهادٌ عظيم على الكنيسة التي في أورشليم، فتشتَّت الجميع في كُوَر اليهودية والسامرة، ما عدا الرسل.. فالذين تشتتوا جالوا مبشرين بالكلمة» (أع 8: 1، 4).. لقد حقَّق غضب العدو انتشار كلمة الله.
2 – أوفِ النذر: «اِنذِروا وأَوفوا للرب إلهكم يا جميع الذين حوله. ليقدموا هدية للمهوب» (آية 11). في وقت الضيق ينذر الإنسان للرب نذوراً، وعندما يحقق الله الطلب كثيراً ما ينسى الإنسان نذره. والنذر نوع من المساومة بين الإنسان الضعيف والله القوي. والله في محبته يقبل هذا، لا لأنه ينتظر من الإنسان عطاءً، فهو الخالق، لكنه يريدنا أن نكون أمناء في وعودنا. عندما نذر يعقوب أبُ الأسباط أن يبني بيتاً للرب إن حفظه الرب وأكرمه، حقَّق الرب طلب يعقوب، لكن يعقوب نسي نذره (تكوين 28: 20-22). صدق كلام الرب، ولم يصدق يعقوب! فطلب الله من يعقوب أن يذكر نذره، ويذهب إلى بيت إيل ليفي به (تك 35: 1).
ويضم المرنم صوته إلى صوت الله طالباً من كل من ينذر أن يفي، «إذا نذرتَ نذراً للرب فلا تتأخر عن الوفاء به، لأنه لا يُسرُّ بالجهال. فأوفِ بما نذرته. أن لا تنذر خيرٌ من أن تنذر ولا تفي» (جا 5: 4، 5).
3 – اطمئن: «يقطف روح الرؤساء. هو مهوبٌ لملوك الأرض» (آية 12). عندما ينفصل الإنسان عن الله يدمر نفسه ويهلكها، وعندما يتعارض فعله مع القوانين الإلهية يقطع نفسه بسيفٍ حاد، لأن قوانين الله كالسيف، يحمينا إذا سرنا إلى جواره، ويمزقنا إن اعترضنا طريقه.
ويصوِّر كاتب سفر الرؤيا منظر قطف روح الرؤساء بالقول: «خرج ملاك من المذبح له سلطان على النار، وصرخ صراخاً عظيماً إلى الذي معه المنجل الحاد قائلاً: أرسِل منجلك الحاد واقطف عناقيد كرم الأرض، لأن عنبها قد نضِج. فألقى الملاك منجله إلى الأرض وقطف كرم الأرض، فألقاه إلى مَعصرة غضب الله العظيمة» (رؤ 14: 18، 19).
هذا المزمور هو صوت الله لنا لتعزيتنا وقت الضيق والشدة، يقول لنا إن الله هو الغالب، وسيضع أعداءه موطئاً لقدميه. فلنبتهج بإله خلاصنا.
اَلْمَزْمُورُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى «يَدُوثُونَ». لآسَافَ. مَزْمُورٌ
1 صَوْتِي إِلَى اللهِ فَأَصْرُخُ. صَوْتِي إِلَى اللهِ فَأَصْغَى إِلَيَّ. 2فِي يَوْمِ ضِيقِي الْتَمَسْتُ الرَّبَّ. يَدِي فِي اللَّيْلِ انْبَسَطَتْ وَلَمْ تَخْدَرْ. أَبَتْ نَفْسِي التَّعْزِيَةَ. 3أَذْكُرُ اللهَ فَأَئِنُّ. أُنَاجِي نَفْسِي فَيُغْشَى عَلَى رُوحِي. سِلاَهْ.
4أَمْسَكْتَ أَجْفَانَ عَيْنَيَّ. انْزَعَجْتُ فَلَمْ أَتَكَلَّمْ. 5تَفَكَّرْتُ فِي أَيَّامِ الْقِدَمِ السِّنِينَ الدَّهْرِيَّةِ. 6أَذْكُرُ تَرَنُّمِي فِي اللَّيْلِ. مَعَ قَلْبِي أُنَاجِي وَرُوحِي تَبْحَثُ. 7هَلْ إِلَى الدُّهُورِ يَرْفُضُ الرَّبُّ وَلاَ يَعُودُ لِلرِّضَا بَعْدُ؟ 8هَلِ انْتَهَتْ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتُهُ؟ هَلِ انْقَطَعَتْ كَلِمَتُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ؟ 9هَلْ نَسِيَ اللهُ رَأْفَةً، أَوْ قَفَصَ بِرِجْزِهِ مَرَاحِمَهُ؟ سِلاَهْ.
10فَقُلْتُ: «هَذَا مَا يُعِلُّنِي: تَغَيُّرُ يَمِينِ الْعَلِيِّ». 11أَذْكُرُ أَعْمَالَ الرَّبِّ، إِذْ أَتَذَكَّرُ عَجَائِبَكَ مُنْذُ الْقِدَمِ، 12وَأَلْهَجُ بِجَمِيعِ أَفْعَالِكَ، وَبِصَنَائِعِكَ أُنَاجِي.
13اَللهُمَّ، فِي الْقُدْسِ طَرِيقُكَ. أَيُّ إِلَهٍ عَظِيمٌ مِثْلُ اللهِ! 14أَنْتَ الإِلَهُ الصَّانِعُ الْعَجَائِبَ. عَرَّفْتَ بَيْنَ الشُّعُوبِ قُوَّتَكَ. 15فَكَكْتَ بِذِرَاعِكَ شَعْبَكَ بَنِي يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ. سِلاَهْ. 16أَبْصَرَتْكَ الْمِيَاهُ يَا اللهُ، أَبْصَرَتْكَ الْمِيَاهُ فَفَزِعَتْ. ارْتَعَدَتْ أَيْضاً اللُّجَجُ. 17سَكَبَتِ الْغُيُومُ مِيَاهاً. أَعْطَتِ السُّحُبُ صَوْتاً. أَيْضاً سِهَامُكَ طَارَتْ. 18صَوْتُ رَعْدِكَ فِي الزَّوْبَعَةِ. الْبُرُوقُ أَضَاءَتِ الْمَسْكُونَةَ. ارْتَعَدَتْ وَرَجَفَتِ الأَرْضُ. 19فِي الْبَحْرِ طَرِيقُكَ، وَسُبُلُكَ فِي الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ، وَآثَارُكَ لَمْ تُعْرَفْ. 20هَدَيْتَ شَعْبَكَ كَالْغَنَمِ بِيَدِ مُوسَى وَهَارُونَ.

هديتَ شعبك
يتوافق هذا المزمور مع صلاة النبي حبقوق التي رفعها لله عندما رأى جيوش الكلدانيين قادمة لتخرب بلاده، فاهتزَّ إيمانه اهتزازاً عنيفاً، وتساءل إن كانت عدالة الله تقبل انتصار الرعب والعنف، فأجاب الرب نبيَّه حبقوق بأن العدالة قادمةٌ لا ريب فيها، ولكنها قد تتأخر، فلينتظرها. فلما طلب النبي سرعة عمل الله لئلا تخور القلوب المؤمنة أعلن الله له في رؤيا أنه آتٍ ليعاقب أعداءه وينصر شعبه، كما سبق وفعل في الماضي، فإن التاريخ يعيد نفسه.
وعندما كتب المرنم هذا المزمور كان الخراب قد حلَّ ببلاده، وسبى الكلدانيون شعبه، فعرض مشكلته على الله وانتظر الإجابة، التي جاءته تقول إن الله لا يرفض شعبه إلى الأبد، وإن الذي أجرى المعجزات في الماضي سيُجريها في المستقبل، والذي أخرج شعبه أحراراً من مصر سيُعيدهم أحراراً من السبي البابلي.
لقد تمنى المرنم في هذا المزمور أن يهرب من الواقع الأليم، ليستعيد أمجاد الماضي السعيد. ولكنه بعد التأمل تأكَّد أن مستقبله سيكون أفضل من ماضيه وحاضره، لأن الله الذي رعى شعبه بيد موسى وهارون أربعين سنة في الصحراء هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد.

في هذا المزمور نجد:
أولاً – المشكلة (آيات 1-10)
ثانياً – الحل (آيات 11-20)

أولاً – المشكلة
(آيات 1-10)
1 – مشكلة داخل النفس: (آيات 1-4).
(أ) صراخ: «صوتي إلى الله فأصرخ. صوتي إلى الله فأصغى إليَّ» (آية 1). عندما يفتقد الطفل الأمان يصرخ بكل صوته، وعندما تضيع الطريق من قدم الناضج يصرخ كالطفل. هكذا بدأ المرنم مزموره وهو يجأر بالشكوى، يرفع صوته لله لا لإنسان، وهو يعلم أن الله سيستجيبه، لأنه سبق أن أصغى إليه. «طلبت إلى الرب فاستجاب لي، ومن كل مخاوفي أنقذني» (مز 34: 4).
(ب) التماس: «في يوم ضيقي التمستُ الرب. يدي في الليل انبسَطَت ولم تخدر. أبَتْ نفسي التعزية» (آية 2). كانت الرؤية غير واضحة للمرنم، فالتمس الله وفتَّش عنه، وجعل يبسط يده مصلِّياً طول الليل دون كلل أو تعب، وهو يتساءل: هل نسي الله شعبه؟ أين مراحمه الماضية؟! وكأنه يقول مع داود: «أستغيث بك وأرفع يديَّ إلى محراب قدسك» (مز 28: 2).. رفض المرنم كل تعزية لأن مشكلته كانت لا تزال قائمة، فكان مثل يعقوب الذي بكى يوسف ابنه المفقود، ظاناً أن وحشاً افترسه «فقام جميع بنيه وجميع بناته ليعزوه، فأبى أن يتعزى وقال: إني أنزل إلى ابني نائحاً إلى الهاوية» (تك 37: 35). وكان مثل راحيل التي تبكي على أولادها «صوتٌ سُمع في الرامة. نوحٌ، بكاءٌ مرٌّ. راحيل تبكي على أولادها وتأبى أن تتعزى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودين» (إر 31: 15).
أبت نفس المرنم أن تتعزى، لأن معرفته محدودة ولم يقدر برؤيته البشرية المحدودة أن يضع ثقته في الرب، كما ظنَّ يعقوب أن يوسف مفقود، مع أنه حي، وكما رفضت راحيل التعزية مع أن العائلة المقدسة في أمان كامل في مصر، والأطفال الذين قتلهم هيرودس يقيمون في محضر الله.
(ج) أنين: «أذكر الله فأئن. أناجي نفسي. فيُغشَى على روحي» (آية 3). كان المرنم يصلي ويذكر الله وهو ينتظر منه الخلاص السريع، فلما أبطأ قدومه بدأ يئن، وهو يناجي نفسه: «قدامي اغتصاب وظلمٌ، ويحدث خصامٌ، وترفع المخاصمة نفسها. لماذا جَمَدَت الشريعة ولا يخرج الحكم بتَّةً؟ لأن الشرير يحيط بالصدّيق، فلذلك يخرج الحكمُ مُعوجّاً.. على مَرصَدي أقف، وعلى الحصن أنتصب وأراقب لأرى ماذا يقول لي، وماذا أُجيبُ عن شكواي» (حب 1: 3، 4 و2: 1). ولكثرة ما ناجى نفسه غُشي على روحه من السهر والكمد والحيرة.
ويمرُّ المؤمنون بمثل هذا الاختبار عندما يواجهون مواقف صعبة، فيُغشى على روحهم في مرضهم، أو في فقد حبيب، أو في خيبة أمل، أو في ضعف روحي. غير أن بني قورح وجدوا علاج مثل هذا الموقف، فقال قائدٌ لهم يناجي نفسه: «لماذا أنتِ منحنيةٌ يا نفسي، ولماذا تئنّين فيَّ؟ ترجَّيِ الله لأني بعدُ أحمده، خلاصَ وجهي وإلهي» (مز 42: 11).
(د) انزعاج: «أمسكْتَ أجفان عينيَّ. انزعجْتُ فلم أتكلم» (آية 4). بسبب شدة انزعاج المرنم وعمق حزنه وكثرة تساؤلاته وعنف حيرته طار نومه من عينيه، وفقد القدرة على التعبير، وكأن الله أمسك أجفان عينيه فلم يذُق للنوم طعماً، وكأن لسانه عجز عن النطق بسبب انزعاجه، ولسان حاله: «تعبتُ في تنهُّدي.. ساخت من الغم عيني. شاخت من كل مضايقيَّ» (مز 6: 6، 7).
2 – مشكلة المقارنة بالماضي: «تفكَّرتُ في أيام القِدم، السنين الدهريَّة. أذكر ترنُّمي في الليل. مع قلبي أناجي، وروحي تبحث» (آيتا 5، 6). في هاتين الآيتين يقارن المرنم حاضره بالماضي كله. لقد تذكر كل ما عمله الله مع شعبه منذ اختار إبراهيم، وتأمله وحلَّله، ففرح بما كان، ولسان حاله: «مؤتي الأغاني في الليل.. بالنهار يوصي الرب رحمته، وبالليل تسبيحه عندي صلاة لإله حياتي.. حسنٌ هو الحمد للرب والترنُّم لاسمك أيها العلي، أن يُخبَر برحمتك في الغداة وأمانتك كل ليلة» (أي 35: 10 ومز 42: 8 و92: 1، 2). ولكن حاضر المرنم كان غير ماضيه، فأخذ يتساءل في حيرة، يتناجى مع قلبه وروحه تبحث إن كان الله سيحقق له وعده: «وأما أنت يا إسرائيل عبدي، يا يعقوب الذي اخترته، نسل إبراهيم خليلي الذي أمسكته من أطراف الأرض، ومن أقطارها دعوته وقلت لك: أنت عبدي. اخترتك ولم أرفضك. لا تخف لأني معك. لا تتلفَّت لأني إلهك. قد أيَّدتك وأعنْتُك وعضدتُك بيمين بِرّي» (إش 41: 8-10).
3 – مشكلة مع الله: (آيات 7-10).
(أ) الرب لا يرضى: «هل إلى الدهور يرفض الرب، ولا يعود للرضا بعد؟» (آية 7). تساءل المرنم: إلى متى يحجب الله وجهه عنه، وقد طال زمن بقائه وبقاء شعبه في الآلام، مع أنه وشعبه كانوا في أيام القِدم والسنين الدهرية محل رضاه. فلماذا يستمر يرفض، ولماذا لا يعود إلى الرضا؟ إنه يشارك آساف سؤاله: «لماذا رفضتنا يا الله إلى الأبد؟ لماذا يدخِّن غضبك على غنم مرعاك؟» (مز 74: 1) وسؤال بني قورح: «هل إلى الدهر تسخط علينا؟ هل تطيل غضبك إلى دور فدور؟» (مز 85: 5).
(ب) الرب لا يرحم: «هل انتهت إلى الأبد رحمته؟ أَنقطعت كلمته إلى دور فدور؟» (آية 8). ويستمر المرنم في تساؤله: لو رفضتنا يا الله، فأين مراحمك؟ هل انتهت؟ وهل انقطعت وعودك عن التحقيق؟.. في وقت فرح وسلام قال أحد المرنمين: «هو الرب إلهنا. في كل الأرض أحكامه. ذكر إلى الدهر عهده، كلاماً أوصى به إلى ألف دور، الذي عاهد به إبراهيم وقسمه لإسحاق، فثبَّته ليعقوب فريضةً ولإسرائيل عهداً أبدياً» (مز 105: 9، 10). لكن الله سمح بسبيٍ لشعبه طال زمنه. فهل لم تعُد لديه رحمة تستر عيوب شعبه؟ وهل انقطعت وعوده الصالحة التي عاهد بها إبراهيم؟
(ج) الرب نسي وتغيَّر: «هل نسي الله رأفةً، أو قَفَصَ (منع) برجزه (بغضبه) مراحمَه؟ فقلتُ: هذا ما يُعلُّني: تغيُّر يمين العلي» (آيتا 9، 10). لقد نزل الرب في السحاب ونادى: «الرب إلهٌ رحيم ورؤوف. بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى ألوف. غافر الإثم والمعصية والخطية» (خر 34: 5-7). فهل غضب الله غضباً جعله يمنع مراحمه عن شعبه؟ وهل لهذا ناداه حبقوق: «في الغضب اذكر الرحمة»؟ (حب 3: 2).
شعر المرنم أن اليد التي كانت تسنده في الماضي لم تعُد تفعل، بل لعلها أصبحت تعمل على إسقاطه، وهذه بالطبع مشاعر لا حقائق، فلن يتغيَّر الله لأنه الأول والآخِر، ولن ينسى شعبه لأنهم أعزاء على قلبه، ولن يعطل غضبُه أعمال رحمته لأنه محبة.. لكن المرض أصاب المرنم فاعتلَّت صحته بعد أن صرخ وأنَّ، وناجى نفسه فغُشي على روحه، وطار النوم من عينيه، وضاع الكلام من شفتيه، وتساءل أسئلة لا إجابة لها وهو يرى تغيُّر أعمال الله من أعمال مراحم إلى عقوبات.
ولا بد أن مشاعر المرنم هذه جعلته يتواضع أمام الله وكأنه يقول مع إرميا: «ويلٌ لي من أجل سحقي. ضربتي عديمة الشفاء. فقلتُ: إنما هذه مصيبة فأحتملها» (إر 10: 19)، وجعلته يشعر مع المتألمين وشعاره «بكاءً مع الباكين» (رو 12: 15)، وجعلته يسهر ويصلي لئلا يدخل في تجربة (مت 26: 41)، وجعلته يلجأ إلى الله أكثر ويقول: «إذا قلت: قد زلَّت قدمي، فرحمتك يا رب تعضدني. عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذِّذ نفسي» (مز 94: 18، 19).

ثانياً – الحل
(آيات 11-20)
عندما نركز انتباهنا على المشاكل يضيع النوم من عيوننا، وتصيبنا العِلل. ويكمن العلاج في تركيز النظر على الرب الذي يحل المشاكل المعقَّدة، طاعةً للنصيحة: «ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمِّله: يسوع» (عب 12: 2)، فنقدر أن نقول: «جعلتُ الرب أمامي في كل حين. لأنه عن يميني فلا أتزعزع» (مز 16: 8). عندما ثبَّت بطرس نظره على المسيح استطاع أن يسير على الأمواج، ولكن عندما حوَّله عن المسيح وثبَّته على الأمواج بدأ يغرق (مت 14: 30).
وقد وجد المرنم حلَّ مشكلته في أن يثبِّت نظره على الله ويتأمل صفاته التي لا تتغيَّر، ويذكر أفعاله المجيدة المتكررة، فملأ الماضي المجيد نفسه بالأمل للمستقبل، وصار لسان حاله: «إحسانات الرب أذكر، تسابيح الرب. حسب كل ما كافأنا به الرب والخير العظيم.. حسب مراحمه وحسب كثرة إحساناته.. في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلَّصهم. بمحبته ورأفته هو فكَّهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة» (إش 63: 7، 9).
1 – الحل عند إله العجائب: «أذكر أعمال الرب، إذ أتذكَّر عجائبك منذ القِدم، وألهج بجميع أفعالك، وبصنائعك أناجي» (آيتا 11، 12). لا بد أن يتدخَّل الروح القدس في الوقت المناسب ليغيِّر جوَّ البؤس والشكوى إلى شكر وتقدير لنعمة الله، فيذكِّرنا بكل ما قال الله لنا (يو 14: 26). ذكَّر روح الله المرنم بأعمال الرب وعجائبه وأفعاله وصنائعه، بدءاً بالخروج والمعجزات التي صاحبته والترنيمة التي قالت بشأنه: «من مثلك بين الآلهة يا رب؟ من مثلك معتزّاً في القداسة، مخوفاً بالتسابيح، صانعاً عجائب؟» (خر 15: 11)، فاطمأنت نفسه.
عندما كان المعمدان مسجوناً أرسل اثنين من تلاميذه ليسألا المسيح: «أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟!»، فقد كان يتوقَّع أن المسيح صاحب المعجزات ينقذه. ولم يفرج المسيح عن المعمدان، لكنه ثبَّت إيمانه بأن طلب من تلميذيه أن يخبرا معلِّمهما بما سمعا ونظرا «العمي يبصرون، والعُرج يمشون، والبُرص يطهَّرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشَّرون» ثم قال المسيح للمعمدان: «وطوبى لمن لا يعثر فيَّ» (مت 11: 3-6). ولا بد أن نفس المعمدان استراحت وهو يسمع أخبار ملكوت الله المفرحة، بالرغم من أنه كان لا زال مسجوناً.
2 – الحل عند إله القداسة: «اللهمَّ، في القدس طريقك. أي إلهٍ عظيمٌ مثل الله!» (آية 13). كل ما يفعله الله طاهر لا عيب فيه فإن «الله نور، وليس فيه ظلمة البتة» (1يو 1: 5)، قال له حبقوق: «ألست أنت منذ الأزل يا رب إلهي قدوسي؟» (حب 1: 12). هو إله عظيم في قداسته، وكل طرقه مقدسة، تهتف له الملائكة: «قدوس! قدوس! قدوس! رب الجنود، مجده ملْ كل الأرض» (إش 6: 3). ولكن عندما انقشعت غيوم الشكوك ودموع الأنين من عيني المرنم استراحت نفسه وهو يرى قداسة الله الكاملة التي لا تفعل إلا الصالح.
3 – الحل عند إله الخلاص: «أنت الإله الصانع العجائب. عرَّفتَ بين الشعوب قوتك. فككت بذراعك شعبك، بني يعقوب ويوسف» (آيتا 14، 15). إله العجائب القدوس هو المخلِّص، الذي قصَّ موسى كل أفعاله على حميه يثرون كاهن مديان وأخبره «كل ما صنع الرب بفرعون والمصريين من أجل إسرائيل، وكل المشقة التي أصابتهم في الطريق فخلَّصهم الرب. ففرح يثرون بجميع الخير الذي صنعه إلى إسرائيل.. وقال يثرون: مبارك الرب الذي أنقذكم من أيدي المصريين ومن يد فرعون.. الآن علمت أن الرب أعظم من جميع الآلهة لأنه في الشيء الذي بغوا به كان عليهم. فأخذ يثرون حمو موسى محرقة وذبائح لله» (خر18: 8-12).
هذا هو الإله المتفرِّد في قدرته الذي نقدم له ذبائح الحمد والتسبيح، ونجد في محضره الأُنس والسلام والشبع. هو الذي فكَّ «بني يعقوب ويوسف» من الأسر. وقد ورد هذا التعبير هنا وفي نبوَّة عوبديا 18 فقط. والمقصود ببني يعقوب المملكة الجنوبية، والمقصود ببني يوسف المملكة الشمالية، لأن يوسف أبا أقوى سبطين فيها، وهما سبطا أفرايم ومنسى. فيكون المعنى أن كل بني إسرائيل، شمالاً وجنوباً، اختبروا خلاص الإله العظيم الذي أنقذهم بمعجزاته.
4 – الحل عند إله السلطان: (آيات 16-20).
(أ) سلطانه على البحار: «أبصرَتْكَ المياه يا الله، أبصرتك المياه ففزعت. ارتعدت أيضاً اللجج» (آية 16). كأن للمياه واللجج عيوناً تبصر جلال الله فتفزع وترتعد. له خضعت مياه البحر الأحمر «فأَجْرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة، وانشقَّ الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم» (خر 14: 21، 22). وله خضعت مياه نهر الأردن «فعند إتيان حاملي التابوت إلى الأردن وانغماس أرجل الكهنة حاملي التابوت في ضفَّة المياه، والأردن ممتلئ إلى شطوطه كل أيام الحصاد، وقفت المياه المنحدرة من فوق وقامت نداً واحداً.. فوقف الكهنة حاملو تابوت عهد الرب على اليابسة في وسط الأردن» (يش 3: 15-17). وللمسيح خضعت أمواج بحيرة طبرية الهائجة عندما «انتهر الريح، وقال للبحر: اسكت. ابكم. فسكنت الريح وصار هدوء عظيم» (مر 4: 39).
(ب) سلطانه على المطر: «سكبت الغيوم مياهاً. أعطت السحب صوتاً. أيضاً سهامك طارت. صوت رعدك في الزوبعة. البروق أضاءت المسكونة. ارتعدت ورجفت الأرض» (آيتا 17، 18). يصوِّر المرنم هنا عاصفة مطيرة، صاحبها الرعد والبرق، فضاءت أرجاء البلاد «أرعد الرب من السماوات، والعليُّ أعطى صوته. أرسل سهاماً فشتَّتهم، برقاً فأزعجهم» (2صم 22: 14، 15). ارتعدت الأرض من صوت العاصفة. فمن يملك مثل هذا السلطان المطلق؟ إنه الرب القدير صاحب السلطان.
(ج) سلطانه سري: «في البحر طريقك، وسبلك في المياه كثيرة، وآثارك لم تُعرَف. هديت شعبك كالغنم بيد موسى وهارون» (آيتا 19، 20). أعمال الله سرية لا يقدر أحد أن يتنبأ بها، فهو القادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر (أف 3: 20). ولا يكشف الله خططه مسبَّقاً، فإن «مجد الله إخفاء الأمر» (أم 25: 2). سبل الله سرية، لا يستطيع أحد أن يدركها، وهو يقول: «أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي، يقول الرب. لأنه كما علت السماوات عن الأرض، هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم» (إش 55: 8، 9). «يا لعُمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء!» (رو 11: 33).
من كان يصدق أن جيش فرعون يغرق بينما ينجو البؤساء المستضعَفين في الأرض! من كان يتوقع أن الله سيعول نحو مليوني نفس مدة أربعين سنة في صحراء التيه! فلنترك أمرنا بين يدي ولي أمرنا ونطمئن إلى محبته وقداسته وقدرته. لقد هدى شعبه كالغنم بيد موسى وهارون، والغنم ضعيفة لا تقدر أن تحمي نفسها. وهي تعرف أن تضل ولكنها لا تعرف كيف تعود. فهداهم الله بيد موسى وهارون، وكلاهما محتاجان إلى الهداية من رب الهداية. والرب يهدينا اليوم بكلمته المقدسة، وبروحه القدوس، وبأعمال عنايته، وبخدّامه العاملين مرضاته. وقيادته شخصية لكل فرد، وهي جماعية لكل المؤمنين.
هذا المزمور دعوة لنا لنحوِّل أنظارنا عن المشاكل ونثبتها على الله، ونسجد في محضره خاضعين مطمئنين، منتظرين الإرشاد والهداية، فترتفع نفوسنا فوق كل مشكلة! «هوذا الله عزيز، ولكنه لا يرذل أحداً. عزيز قدرة القلب.. لا يحوِّل عينيه عن البار، بل مع الملوك يُجلِسهم على الكرسي أبداً، فيرتفعون.. إن سمعوا وأطاعوا قضوا أيامهم بالخير وسنيهم بالنِّعَم» (أي 36: 5، 7، 11).

اَلْمَزْمُورُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ
قَصِيدَةٌ لآسَافَ
1 اِصْغَ يَا شَعْبِي إِلَى شَرِيعَتِي. أَمِيلُوا آذَانَكُمْ إِلَى كَلاَمِ فَمِي. 2أَفْتَحُ بِمَثَلٍ فَمِي. أُذِيعُ أَلْغَازاً مُنْذُ الْقِدَمِ. 3الَّتِي سَمِعْنَاهَا وَعَرَفْنَاهَا وَآبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا. 4لاَ نُخْفِي عَنْ بَنِيهِمْ إِلَى الْجِيلِ الآخِرِ، مُخْبِرِينَ بِتَسَابِيحِ الرَّبِّ وَقُوَّتِهِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي صَنَعَ. 5أَقَامَ شَهَادَةً فِي يَعْقُوبَ وَوَضَعَ شَرِيعَةً فِي إِسْرَائِيلَ، الَّتِي أَوْصَى آبَاءَنَا أَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَبْنَاءهُمْ 6لِكَيْ يَعْلَمَ الْجِيلُ الآخِرُ. بَنُونَ يُولَدُونَ فَيَقُومُونَ وَيُخْبِرُونَ أَبْنَاءهُمْ، 7فَيَجْعَلُونَ عَلَى اللّهِ اعْتِمَادَهُمْ، وَلاَ يَنْسُونَ أَعْمَالَ اللهِ، بَلْ يَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ، 8وَلاَ يَكُونُونَ مِثْلَ آبَائِهِمْ جِيلاً زَائِغاً وَمَارِداً، جِيلاً لَمْ يُثَبِّتْ قَلْبَهُ، وَلَمْ تَكُنْ رُوحُهُ أَمِينَةً لِلَّهِ.
9بَنُو أَفْرَايِمَ النَّازِعُونَ فِي الْقَوْسِ الرَّامُونَ انْقَلَبُوا فِي يَوْمِ الْحَرْبِ. 10لَمْ يَحْفَظُوا عَهْدَ اللهِ وَأَبُوا السُّلُوكَ فِي شَرِيعَتِهِ، 11وَنَسُوا أَفْعَالَهُ وَعَجَائِبَهُ الَّتِي أَرَاهُمْ. 12قُدَّامَ آبَائِهِمْ صَنَعَ أُعْجُوبَةً فِي أَرْضِ مِصْرَ، بِلاَدِ صُوعَنَ. 13شَقَّ الْبَحْرَ فَعَبَّرَهُمْ، وَنَصَبَ الْمِيَاهَ كَنَدٍّ، 14وَهَدَاهُمْ بِالسَّحَابِ نَهَاراً، وَاللَّيْلَ كُلَّهُ بِنُورِ نَارٍ. 15شَقَّ صُخُوراً فِي الْبَرِّيَّةِ وَسَقَاهُمْ، كَأَنَّهُ مِنْ لُجَجٍ عَظِيمَةٍ. 16أَخْرَجَ مَجَارِيَ مِنْ صَخْرَةٍ، وَأَجْرَى مِيَاهاً كَالأَنْهَارِ. 17ثُمَّ عَادُوا أَيْضاً لِيُخْطِئُوا إِلَيْهِ، لِعِصْيَانِ الْعَلِيِّ فِي الأَرْضِ النَّاشِفَةِ. 18وَجَرَّبُوا اللهَ فِي قُلُوبِهِمْ بِسُؤَالِهِمْ طَعَاماً لِشَهْوَتِهِمْ. 19فَوَقَعُوا فِي اللهِ. قَالُوا: «هَلْ يَقْدِرُ اللهُ أَنْ يُرَتِّبَ مَائِدَةً فِي الْبَرِّيَّةِ؟ 20هُوَذَا ضَرَبَ الصَّخْرَةَ فَجَرَتِ الْمِيَاهُ وَفَاضَتِ الأَوْدِيَةُ. هَلْ يَقْدِرُ أَيْضاً أَنْ يُعْطِيَ خُبْزاً، أَوْ يُهَيِّئَ لَحْماً لِشَعْبِهِ؟». 21لِذَلِكَ سَمِعَ الرَّبُّ فَغَضِبَ، وَاشْتَعَلَتْ نَارٌ فِي يَعْقُوبَ، وَسَخَطٌ أَيْضاً صَعِدَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، 22لأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ، وَلَمْ يَتَّكِلُوا عَلَى خَلاَصِهِ، 23فَأَمَرَ السَّحَابَ مِنْ فَوْقُ، وَفَتَحَ مَصَارِيعَ السَّمَاوَاتِ، 24وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مَنّاً لِلأَكْلِ، وَبُرَّ السَّمَاءِ أَعْطَاهُمْ. 25أَكَلَ الإِنْسَانُ خُبْزَ الْمَلاَئِكَةِ. أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ زَاداً لِلشِّبَعِ. 26أَهَاجَ رِيحَاً شَرْقِيَّةً فِي السَّمَاءِ وَسَاقَ بِقُوَّتِهِ جَنُوبِيَّةً، 27وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ لَحْماً مِثْلَ التُّرَابِ، وَكَرَمْلِ الْبَحْرِ طُيُوراً ذَوَاتِ أَجْنِحَةٍ، 28وَأَسْقَطَهَا فِي وَسَطِ مَحَلَّتِهِمْ حَوَالَيْ مَسَاكِنِهِمْ، 29فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جِدّاً، وَأَتَاهُمْ بِشَهْوَتِهِمْ. 30لَمْ يَزُوغُوا عَنْ شَهْوَتِهِمْ. طَعَامُهُمْ بَعْدُ فِي أَفْوَاهِهِمْ، 31فَصَعِدَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللهِ، وَقَتَلَ مِنْ أَسْمَنِهِمْ، وَصَرَعَ مُخْتَارِي إِسْرَائِيلَ. 32فِي هَذَا كُلِّهِ أَخْطَأُوا بَعْدُ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِعَجَائِبِهِ.
33فَأَفْنَى أَيَّامَهُمْ بِالْبَاطِلِ وَسِنِيهِمْ بِالرُّعْبِ. 34إِذْ قَتَلَهُمْ طَلَبُوهُ، وَرَجَعُوا وَبَكَّرُوا إِلَى اللهِ، 35وَذَكَرُوا أَنَّ اللهَ صَخْرَتُهُمْ، وَاللهَ الْعَلِيَّ وَلِيُّهُمْ. 36فَخَادَعُوهُ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَكَذَبُوا عَلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، 37أَمَّا قُلُوبُهُمْ فَلَمْ تُثَبَّتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي عَهْدِهِ.
38أَمَّا هُوَ فَرَؤُوفٌ يَغْفِرُ الإِثْمَ وَلاَ يُهْلِكُ، وَكَثِيراً مَا رَدَّ غَضَبَهُ وَلَمْ يُشْعِلْ كُلَّ سَخَطِهِ. 39ذَكَرَ أَنَّهُمْ بَشَرٌ. رِيحٌ تَذْهَبُ وَلاَ تَعُودُ. 40كَمْ عَصُوهُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَأَحْزَنُوهُ فِي الْقَفْرِ! 41رَجَعُوا وَجَرَّبُوا اللهَ، وَعَنُّوا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ. 42لَمْ يَذْكُرُوا يَدَهُ يَوْمَ فَدَاهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ، 43حَيْثُ جَعَلَ فِي مِصْرَ آيَاتِهِ وَعَجَائِبَهُ فِي بِلاَدِ صُوعَنَ، 44إِذْ حَوَّلَ خُلْجَانَهُمْ إِلَى دَمٍ وَمَجَارِيَهُمْ لِكَيْ لاَ يَشْرَبُوا. 45أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ بَعُوضاً فَأَكَلَهُمْ، وَضَفَادِعَ فَأَفْسَدَتْهُمْ. 46أَسْلَمَ لِلْجَرْدَمِ غَلَّتَهُمْ، وَتَعَبَهُمْ لِلْجَرَادِ. 47أَهْلَكَ بِالْبَرَدِ كُرُومَهُمْ وَجُمَّيْزَهُمْ بِالصَّقِيعِ، 48وَدَفَعَ إِلَى الْبَرَدِ بَهَائِمَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ لِلْبُرُوقِ. 49أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حُمُوَّ غَضَبِهِ سَخَطاً وَرِجْزاً وَضِيقاً، جَيْشَ مَلاَئِكَةٍ أَشْرَارٍ. 50مَهَّدَ سَبِيلاً لِغَضَبِهِ. لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْمَوْتِ أَنْفُسَهُمْ، بَلْ دَفَعَ حَيَاتَهُمْ لِلْوَبَإِ، 51وَضَرَبَ كُلَّ بِكْرٍ فِي مِصْرَ. أَوَائِلَ الْقُدْرَةِ فِي خِيَامِ حَامٍ. 52وَسَاقَ مِثْلَ الْغَنَمِ شَعْبَهُ، وَقَادَهُمْ مِثْلَ قَطِيعٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، 53وَهَدَاهُمْ آمِنِينَ فَلَمْ يَجْزَعُوا. أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَغَمَرَهُمُ الْبَحْرُ، 54وَأَدْخَلَهُمْ فِي تُخُومِ قُدْسِهِ، هَذَا الْجَبَلِ الَّذِي اقْتَنَتْهُ يَمِينُهُ، 55وَطَرَدَ الأُمَمَ مِنْ قُدَّامِهِمْ، وَقَسَمَهُمْ بِالْحَبْلِ مِيرَاثاً، وَأَسْكَنَ فِي خِيَامِهِمْ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ.
56فَجَرَّبُوا وَعَصُوا اللهَ الْعَلِيَّ، وَشَهَادَاتِهِ لَمْ يَحْفَظُوا، 57بَلِ ارْتَدُّوا وَغَدَرُوا مِثْلَ آبَائِهِمْ. انْحَرَفُوا كَقَوْسٍ مُخْطِئَةٍ. 58أَغَاظُوهُ بِمُرْتَفَعَاتِهِمْ، وَأَغَارُوهُ بِتَمَاثِيلِهِمْ. 59سَمِعَ اللهُ فَغَضِبَ وَرَذَلَ إِسْرَائِيلَ جِدّاً، 60وَرَفَضَ مَسْكَنَ شِيلُوهَ، الْخَيْمَةَ الَّتِي نَصَبَهَا بَيْنَ النَّاسِ، 61وَسَلَّمَ لِلسَّبْيِ عِزَّهُ وَجَلاَلَهُ لِيَدِ الْعَدُوِّ، 62وَدَفَعَ إِلَى السَّيْفِ شَعْبَهُ، وَغَضِبَ عَلَى مِيرَاثِهِ. 63مُخْتَارُوهُ أَكَلَتْهُمُ النَّارُ، وَعَذَارَاهُ لَمْ يُحْمَدْنَ. 64كَهَنَتُهُ سَقَطُوا بِالسَّيْفِ، وَأَرَامِلُهُ لَمْ يَبْكِينَ.
65فَاسْتَيْقَظَ الرَّبُّ كَنَائِمٍ كَجَبَّارٍ مُعَيِّطٍ مِنَ الْخَمْرِ، 66فَضَرَبَ أَعْدَاءهُ إِلَى الْوَرَاءِ، جَعَلَهُمْ عَاراً أَبَدِيّاً، 67وَرَفَضَ خَيْمَةَ يُوسُفَ وَلَمْ يَخْتَرْ سِبْطَ أَفْرَايِمَ، 68بَلِ اخْتَارَ سِبْطَ يَهُوذَا جَبَلَ صِهْيَوْنَ الَّذِي أَحَبَّهُ. 69وَبَنَى مِثْلَ مُرْتَفَعَاتٍ مَقْدِسَهُ، كَالأَرْضِ الَّتِي أَسَّسَهَا إِلَى الأَبَدِ. 70وَاخْتَارَ دَاوُدَ عَبْدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ حَظَائِرِ الْغَنَمِ. 71مِنْ خَلْفِ الْمُرْضِعَاتِ أَتَى بِهِ لِيَرْعَى يَعْقُوبَ شَعْبَهُ، وَإِسْرَائِيلَ مِيرَاثَهُ. 72فَرَعَاهُمْ حَسَبَ كَمَالِ قَلْبِهِ، وَبِمَهَارَةِ يَدَيْهِ هَدَاهُمْ.

أمانة الله رغم عدم أمانة شعبه
مزمور تاريخي
في مزمور 77 تأمل المرنم أعمال الله الماضية ليشجع نفسه وغيره من الخائرين الحائرين، وقال: «ألهج بجميع أفعالك، وبصنائعك أناجي» (مز 77: 12). وفي هذا المزمور يطالب المرنم سامعيه أن يذكروا المعجزات الماضية ليحترسوا من تكرار أخطاء آبائهم الذين نسوا معجزات الله. وأشار المرنم بصفة خاصة إلى خطايا سبط أفرايم الذي رفضه الله من أن يكون قائد شعبه بسبب عصيانه، وقارنه بسبط يهوذا الذي اختاره الله ليجيء منه الملك داود.
ومزمورنا أول المزامير التاريخية، ومنها مزامير 105، 106، 136. ويتكوَّن مزمورنا من 72 آية تروي تاريخ معاملات الله مع شعبه، الذين وجدهم في مصر يُسامون سوء العذاب وهم يصرخون إليه، فاستجاب لهم وأرسل كليمه موسى فأنقذهم بمعجزات عظيمة، وأخرجهم من مصر، وعالهم في صحراء سيناء أربعين سنة: أطعمهم المن والسلوى، وسقاهم ماءً من الصخر، ولم تتورَّم أرجلهم ولا بليت نعالهم (تث 8: 3 و29: 5). ولكنهم ظلوا يخطئون ويتذمرون، وعندما أعلنوا التوبة كانت توبتهم سطحية.. وعندما انتهت سنوات التيه ومات موسى، أُعطيت القيادة ليشوع فأجرى الله معه معجزة شق نهر الأردن في وقت فيضانه، فمرَّ بنو إسرائيل في وسط الأردن على أرض يابسة، ولما عبروا جميعاً عادت المياه لمجراها الطبيعي. وقُسِّمت أرض الميعاد بين الأسباط كما وعد الله إبراهيم، ولكن الشعب انحرف عن عبادة الرب بعد كل هذه المعجزات!
ولا نستطيع أن نلوم بني إسرائيل، لأننا مثلهم ننسى أفضال الله علينا، ولذلك يقول داود: «باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» (مز 103: 2). ويقول لنا مزمورنا إن فضل الله علينا عظيم، وإننا لا نستحق إنعامه علينا، وهو ينتظر منا طاعته لأنه أحبنا أولاً. «من إحسانات الرب أننا لم نفْنَ، لأن مراحمه لا تزول. هي جديدة كل صباح. كثيرة أمانتك» (مرا 3: 22، 23).

في هذا المزمور نجد:
أولاً – تحذير للجيل القادم (آيات 1-8)
ثانياً – معجزات منسيَّة (آيات 9-16)
ثالثاً – تذمُّر مستمر (آيات 17-33)
رابعاً – توبة سطحية (آيات 34-39)
خامساً – لم يشكروا على معجزة الخروج (آيات 40-53)
سادساً – لم يشكروا على أرض الموعد (آيات 54-67)
سابعاً – بداية جديدة (آيات 68-72)

أولاً – تحذير للجيل القادم
(آيات 1-8)
1 – دعوة للإصغاء: (آيات 1-4). في مطلع المزمور يحذر المرنم الجيل الجديد من خطايا الجيل الماضي حتى لا يكرروها، ويفتح فمه بمثَل ويذيع ألغازاً قديمة، بمعنى أنه يتناول قصة قديمة بالشرح ليستخرج منها دروساً نافعة، فلا تكون مجرد حادثة تاريخية ولكن درساً روحياً، ولا مجرد ذكريات أحداث مضت بل بركةً روحية حاضرة للنفوس. والمثل الذي يضربه المرنم حقيقة صاغها الذين اختبروها في عبارة مختصرة مسجوعة ليسهل حفظها على الجميع فيتعلمون حكمتها ويمارسونها. وقد كان اختبار المرنم لغزاً مبهَماً عند كثيرين، فأراد أن يوضحه، كما فعل صاحب مزمور 49، وكما أوصى موسى بني إسرائيل: «وجِّهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم، لكي تُوصُوا بها أولادكم ليَحرِصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة، لأنها ليست أمراً باطلاً عليكم، بل هي حياتكم. وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها» (تث 32: 46، 47).. ولهذا لم يشأ المرنم أن يخفي عن الجيل الجديد من الأبناء والأحفاد أخبار معجزات الله العظيمة الماضية مع الجدود.
2 – ما فعله الله: (آية 5). يطلب الله من شعبه أن يصغوا إليه في أمرين:
(أ) في شهادة: أقام الله شهادة في يعقوب، لأنها تشهد على المؤمنين، وقد حُفظت في تابوت العهد لأنها عهد بين الله وشعبه، يشهد عليهم وعلى أعمالهم وعلى إيمانهم، و«طوبى لحافظي شهاداته» (مز 119: 2). فليس لدينا عذر لأنه شهد لنا وأعلمنا، كما قال الرسول بولس: «لم أؤخِّر شيئاً من الفوائد إلا وأخبرتكم وعلَّمتكم به جهراً وفي كل بيت» (أع 20: 20).
(ب) في شريعة: وهي في العبرية «توراه» وفي اليونانية «نوموس» أخذت منها اللغة العربية: ناموس، أي طريق سلوك للتهذيب والتعليم. ويجب طاعتها لأنها طريق الرب المستقيمة التي تقودنا إلى السلام والراحة والسعادة «طوبى للكاملين طريقاً السالكين في شريعة الرب» (مز 119: 1).

3 – ما يجب أن يفعله الجيل الآخِر: (آيات 6-8).
(أ‌) يعْلَمون: «لكي يعلم الجيلُ الآخِر» (آية 6). لأنهم يسمعون بما لم يروه، فيتوقعون بركة الله لهم.
(ب‌) يخبرون أبناءهم: «فيقومون ويخبرون أبناءهم» (آية 6). «قُصَّها على أولادك.. اكتُبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك» (تث 6: 6-9).
(ت‌) يعتمدون على الله: «فيجعلون على الله اعتمادهم» (آية 7)، ويتصرَّفون بحسب ما يعتقدون، فلا يقلقون ولا ينحرفون.
(ث‌) يذكرون: «ولا ينسون أعمال الله». وكل من له أذنان للسمع فليسمع.
(ج‌) يحفظون: «بل يحفظون وصاياه» ويعيشون حياة الطاعة. و«طوبى لمن يحفظون أقوال نبوَّة هذا الكتاب» (رؤ 22: 7).
(ح‌) يختلفون عن الجيل الذي أخطأ: «ولا يكونون مثل آبائهم جيلاً زائغاً ومارداً، جيلاً لم يثبِّت قلبه، ولم تكن روحه أمينة لله» (آية 8).

ثانياً – عجائب منسيَّة
(آيات 9-16)
1- سبط أفرايم نسي: (آيات 9-11).
أفرايم هو ثاني أبناء يوسف الصدِّيق، وكان أعظم من شقيقه الأكبر منسى، ومعنى اسمه «الأثمار المضاعفة» وصار سبط أفرايم قائد المملكة الشمالية، لكنه انقلب يوم الحرب لأنه لم يحفظ عهد الله وأبى السلوك في شريعته، ونسي أفعال الله وعجائبه. وليس المقصود هنا انقلاب أفرايم في معركة حربية معينة، لكن المعنى أنه هُزِم في معركة روحية سقط فيها بين أنياب إبليس. كان أفرايم متقدماً روحياً، ومنه يشوع خليفة موسى، وصموئيل النبي، وحنة النبية. ولكنه ارتد عن الله ارتداداً أليماً، فرفض الله خدمة هذا السبط. وسيتضح لنا في نهاية المزمور أن الله اختار داود من سبط يهوذا بدلاً من سبط أفرايم. وواضحٌ أن الله لا يرفض الإنسان نفسه، لأنه يعطيه فرصة للتوبة، لكنه يأخذ منه الخدمة التي لم يكن أميناً عليها ليعطيها لشخص آخر يكون أميناً.
2 – ما نسيه سبط أفرايم: (آيات 12-16).
(أ) نسي شقَّ البحر: (آيتا 12، 13). أجرى الرب عجائب في «بلاد صوعن». وتقع صوعن في شرق الدلتا، وقد جعلها أول ملوك الأسرة الفرعونية الثانية عشرة عاصمته ليراقب حدود مصر الشرقية، وحصَّنها الملوك الرعاة، وهي معروفة باسم تانيس. ومن أعظم ما جرى في مصر (بلاد صوعن) أن الرب شقَّ البحر الأحمر ليعبر بنو إسرائيل، ويغرق فيه المصريون.
(ب) نسي عمودي السحاب والنار: (آية 14)، اللذين هدى بهما الرب شعبه وحماهم نهاراً وليلاً أثناء سفرهم في صحراء سيناء (خر 13: 21).
(ج) نسي الماء الذي خرج من صخر: (آيتا 15، 16). شقَّ الرب الصخر وروى العطاش (خر 17: 6 وعد 20: 11). وهل يمكن أن ينسى أحدٌ هذه المعجزة؟

ثالثاً – تذمُّر مستمر
(آيات 17-33)
1- تذمروا على الطعام: (آيات 17-20). أخطأ الشعب ضد الله بعصيانهم المستمر لأوامره الواضحة، وجرَّبوه بشكوكهم في صلاحه، وطالبوه أن يُظهِر قوته. ولما أعطاهم الماء قالوا: أين الطعام؟ وتذمروا على موسى وهارون وقالوا:«ليتنا مُتنا بيد الرب في أرض مصر، إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزاً للشبع» (خر 16: 3). وقالوا: «لماذا أصعدتنا من مصر لتميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش؟» (خر 17: 3).
2 – عقاب التذمر: (آيتا 21، 22). لم يؤمن الشعب بالله ولا اتكلوا على خلاصه، واشتكوا شراً في أذني الرب، فغضب عليهم، واشتعلت فيهم ناره وأحرقت من طرف معسكرهم، فصلى موسى للرب فخمدت النار، ودعوا اسم ذلك المكان «تبعيرة» بمعنى: اشتعال (عد 11: 1-3).
3 – عطاء بالرغم من التذمر: (آيات 23-29). وبالرغم من الشكوى والشكوك والتذمر والعصيان فتح الرب أبواب السماء وأعطاهم المن ، وهو طعام ملائكي، دعاه الوحي «خبزاً من السماء» (خر 16: 4) ولونه أبيض مثل بذور الكزبرة، وطعمه كطعم قطائف بزيت (عد 11: 7، 8).. ثم ساق السلوى بريح شرقية قوية، وهي طيور تهاجر بأعداد كبيرة من الجنوب في أفريقيا إلى الشمال، ولحومها حلوة المذاق (خر 16: 13 وعد 11: 23).
4 – عقاب الجحود: (آيات 30-33). يعاقب الله بعض الناس بأن يعطيهم سؤل قلوبهم الطماعة، وقد عاقب الله أولئك المتذمرين بعد أن أتاهم بشهوتهم، وأوقع الله العقاب القاسي بهم وهم يأكلون (عد 11: 20، و33). وكان هدف العقاب إصلاح حال هؤلاء العصاة الجاحدين للفضل! ومع ذلك فقد استمر الله يُحسن إليهم.

رابعاً – توبة سطحية
(آيات 34-39)
1- توبة الخائفين: (آيات 34-37). عاقب الله المتذمرين، فصرخوا، لا توبةً حقيقية، ولكن هروباً من العقاب، وهي توبة سطحية يصفها الرب بالقول: «هذا الشعب قد اقترب إليَّ بفمه، وأكرمني بشفتيه، أما قلبه فأبعده عني، وصارت مخافتهم مني وصيَّة الناس معلَّمةً (أي: وصية أناسٍ تعلَّمها الشعبُ)» (إش 29: 13، مت 15: 8).
2- رحمة إلهية: (آيتا 38، 39). يعرف الله جبلة البشر، ويذكر أنهم تراب، لأن ريحاً تعبر عليهم فلا يكونون (مز 103: 14، 16). وهو رحيم وغفور وطويل أناة، ولهذا فهو لا يعاقب الخطاة بما يستحقونه (خر 34: 6، 7 وعد 14: 18 وتث 4: 31).

خامساً – لم يشكروا على معجزة الخروج
(آيات 40-53)
1- كم عصوه: (آيات 40-43). كلما ضاعف الله إحساناته لبني إسرائيل ضاعفوا عصيانهم وتذمرهم. عصوه، وأحزنوه، وارتدوا عنه وجرَّبوه وعنّوه (أغاظوه) ونسوا أفضاله، مع أنه أجرى المعجزات الخارقة ضد مصر، أكبر امبراطورية في وقتها، وعاصمتها صوعن.
2- ضربات على مصر: (آيات 44-51). يذكر المرنم سبع ضربات حلَّت بمصر بغير ترتيب وقوعها، فيبدأ بتحويل الماء إلى دم (الضربة الأولى خر 7: 20)، والبعوض (الضربة الثالثة خر 16: 8)، والضفادع (الضربة الثانية خر 8: 2)، والجردم (الجراد في طور اليرقة) والجراد (الضربة الثامنة خر 10: 12)، والبَرَد (الضربة السابعة خر 9: 18)، وموت المواشي (الضربة الخامسة خر 9: 3)، وموت الأبكار (الضربة العاشرة خر 11: 5).
3- معجزة الخروج (آيتا 52، 53). وأخيراً جرت معجزة الخروج (خر 15: 13-17، 22). وما أعظم الفرق بين ما انتهى إليه شعب الله وما وصل إليه جيش البُغاة.

سادساً – لم يشكروا على أرض الموعد
(آيات 54-67)
1- أدخلهم الأرض: (آيتا 54، 55). وأخيراً، وبالرغم من كل عصيان أدخل الله شعبه الأرض المقدسة التي وعد بها إبراهيم بحسب أمانته التي لا تتغيَّر، ولأنه يريد أن يقيم فيها هيكله المقدس الذي بناه سليمان، كما قالت ترنيمة مريم: «تجيء بهم وتغرسهم في جبل ميراثك. المكان الذي صنعته يا رب لسكنك. المَقْدِس الذي هيَّأتْهُ يداك يا رب» (خر 15: 17). وقال يشوع وهو يقسم الأرض للأسباط: «قسمتُ لكم بالقُرعة هؤلاء الشعوب الباقين مُلْكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التي قرضتُها والبحر العظيم نحو غروب الشمس» (يش 23: 4).
2- عصيانهم في الأرض: (آيات 56-58). ولكن الشعب ضلَّ زمن حُكم القضاة، وانحرفوا عن الهدف الذي أوجدهم له، وعبدوا الأوثان.
3- عقاب العصاة: (آيات 59-67). كانت شيلوه عاصمة سبط أفرايم، وفيها وُضع تابوت العهد في خيمة الاجتماع التي عملها موسى. وسبب اختيارها لإقامة التابوت أن يشوع قائد الشعب كان من سبط أفرايم. وبهذا أكرم الرب هذا السبط. ولكنه ارتدَّ عن عبادة الرب، فرفضه الرب لأنه «انقلب في حربه» الروحية وضل عن العبادة الصحيحة. ورفض الله خيمة شيلوه حيث أقام تابوت العهد نحو ثلاثمئة سنة (آية 60)، وسمح للتابوت أن يذهب إلى السبي (آية 61)، وقُتل الكاهنان حفني وفينحاس ابنا عالي رئيس الكهنة (آية 62، 63أ – انظر 1صم 17:4)، ولم تجد العذارى أزواجاً، ولم تبقَ في عيون الأرامل دموع لكثرة ما بكين (آية 63ب، 64).
وبالرغم من كل هذا الارتداد لم يترك الله شعبه، بل هبَّ لنجدتهم. ويصوِّر المرنم هذه الهبَّة (آية 65) بتشبيه غريب، فقد شبَّه الله بجبار جعلته الخمر يصرخ للنزال والقتال (آية 65) ليُوقف الظلم عن شعبه، وليُجري تغييراً في سياسة البلاد، فيرفض خيمة الاجتماع التي أُقيمت في شيلوه في أرض سبط أفرايم بن يوسف، لأنه اختار سبط يهوذا.

سابعاً – بداية جديدة
(آيات 68-72)
1- اختيار سبط يهوذا: (آيتا 68، 69). أوقف الله النظام القديم وأبدله بنظام جديد، فحلَّ سبط يهوذا محل سبط أفرايم، وحلَّ جبل صهيون في أورشليم محل مدينة شيلوه القديمة، وعلى المرتفعات المقدسة أقام هيكل سليمان.
2- اختيار داود: (آيتا 70، 71). ولتبدأ هذه البداية الجديدة اختار الله داود راعي الأغنام المتواضع، كما سبق أن اختار إبراهيم وموسى وأضفى عليهم شرف خدمته، وأنعم عليهم أن يكونوا بُناة عهد جديد من العبادة المخلصة لله. «أقام لهم داود ملكاً، الذي شهد له أيضاً إذ قال: وجدتُ داود بن يسى رجلاً حسب قلبي، الذي سيصنع مشيئتي» (أع 13: 22). وهكذا انتقل داود من رعاية أغنامه ليرعى شعب الله في سبُل البر، كما قال له رؤساء الشعب: «قال لك الرب: أنت ترعى شعبي إسرائيل، وأنت تكون رئيساً لإسرائيل» (2صم 5: 2).
3 – داود يرعى الشعب: (آية 72). رعى داود شعبه حسب كمال قلبه وحسب مهارة يديه، حتى قال الله لسليمان: «سلك داود أبوك بسلامة قلبٍ واستقامةٍ» (1مل 9: 4). وسار سليمان أول الأمر في خطوات داود أبيه، فطلب من الله قلباً فهيماً «لأحكم على شعبك وأميِّز بين الخير والشر» (1مل 3: 9)، فأعطاه »حكمةً وفهماً كثيراً جداً« (1مل 4: 29).
ولا بد أن الله أكرم القارئ الكريم ببركات مادية وروحية كثيرة، فلنشكر الله ولنعِش في طاعته، ولنكن «مخبرين بتسابيح الرب وقوته وعجائبه التي صنع.. لكي يعلم الجيل الآخِر» (مز 78: 4، 6).

اَلْمَزْمُورُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ
مَزْمُورٌ. لآسَافَ
1 اَللهُمَّ، إِنَّ الأُمَمَ قَدْ دَخَلُوا مِيرَاثَكَ. نَجَّسُوا هَيْكَلَ قُدْسِكَ. جَعَلُوا أُورُشَلِيمَ أَكْوَاماً. 2دَفَعُوا جُثَثَ عَبِيدِكَ طَعَاماً لِطُيُورِ السَّمَاءِ، لَحْمَ أَتْقِيَائِكَ لِوُحُوشِ الأَرْضِ. 3سَفَكُوا دَمَهُمْ كَالْمَاءِ حَوْلَ أُورُشَلِيمَ وَلَيْسَ مَنْ يَدْفِنُ. 4صِرْنَا عَاراً عِنْدَ جِيرَانِنَا، هُزْءاً وَسُخْرَةً لِلَّذِينَ حَوْلَنَا. 5إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَغْضَبُ كُلَّ الْغَضَبِ، وَتَتَّقِدُ كَالنَّارِ غَيْرَتُكَ؟ 6أَفِضْ رِجْزَكَ عَلَى الأُمَمِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَكَ، وَعَلَى الْمَمَالِكِ الَّتِي لَمْ تَدْعُ بِاسْمِكَ، 7لأَنَّهُمْ قَدْ أَكَلُوا يَعْقُوبَ وَأَخْرَبُوا مَسْكَنَهُ.
8لاَ تَذْكُرْ عَلَيْنَا ذُنُوبَ الأَوَّلِينَ. لِتَتَقَدَّمْنَا مَرَاحِمُكَ سَرِيعاً، لأَنَّنَا قَدْ تَذَلَّلْنَا جِدّاً. 9أَعِنَّا يَا إِلَهَ خَلاَصِنَا مِنْ أَجْلِ مَجْدِ اسْمِكَ، وَنَجِّنَا وَاغْفِرْ خَطَايَانَا مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ. 10لِمَاذَا يَقُولُ الأُمَمُ: «أَيْنَ هُوَ إِلَهُهُمْ؟». لِتُعْرَفْ عِنْدَ الأُمَمِ قُدَّامَ أَعْيُنِنَا نَقْمَةُ دَمِ عَبِيدِكَ الْمُهْرَاقِ. 11لِيَدْخُلْ قُدَّامَكَ أَنِينُ الأَسِيرِ. كَعَظَمَةِ ذِرَاعِكَ اسْتَبْقِ بَنِي الْمَوْتِ. 12وَرُدَّ عَلَى جِيرَانِنَا سَبْعَةَ أَضْعَافٍ فِي أَحْضَانِهِمِ، الْعَارَ الَّذِي عَيَّرُوكَ بِهِ يَا رَبُّ. 13أَمَّا نَحْنُ شَعْبُكَ وَغَنَمُ رِعَايَتِكَ نَحْمَدُكَ إِلَى الدَّهْرِ. إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ نُحَدِّثُ بِتَسْبِيحِكَ.

دعاء لرفع الغضب
هذا المزمور صلاة تطلب أن يرفع الله غضبه عن شعبه، وهو يشبه مزمور 74، كتبهما أحد أبناء آساف عندما هاجم نبوخذنصر أورشليم عام 586 ق.م وحاصرها ثمانية عشر شهراً، ودمرَّها، وأخرب هيكلها العظيم، مركز عبادتها ومكان تقديم ذبائحها ومحل إقامة تابوت العهد الذي كان يحوي الشريعة (2مل 24).
في هذا المزمور عبَّر المرنم عن آلامه لكن بغير يأس، لأن عنده أملاً راسخاً في ربه.. فالذي سيرى الأبواب المحترقة والأسوار المهدمة والهيكل المخرب يضيع أمله. لكن المرنم رأى من لا يُرى، وما لا يُرى، فرفع نظره من الحاضر المؤلم إلى رب الماضي والحاضر والمستقبل، ورأى نفسه في نور علاقته بالرب، فتأكد أن النجاة قادمة لا ريب فيها. وبسبب انتمائه للرب وجد الشجاعة أن يطلب: «ليدخُل قدامك أنين الأسير. كعَظَمة ذراعك استبْقِ بني الموت» (آية 11)، وكانت عنده الثقة أن يختم مزموره بالقول: «أما نحن شعبك وغنم رعايتك نحمدك إلى الدهر». لقد أخذ نبوخذنصر عظماء البلاد أسرى ليقتلهم، ولكن ذراع الرب العظيمة ستُبقيهم، وبأمرٍ من كورش الفارسي سيعودون.
وقد أوضح النبي إرميا الحالة السيئة التي دفعت المرنم ليرتل مزموره، فقال: «في الشهر الخامس في عاشر الشهر، وهي السنة التاسعة عشرة للملك نبوخذنصر ملك بابل، جاء نبوزرادان رئيس الشرط الذي كان يقف أمام ملك بابل إلى أورشليم، وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم، وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار. وكل أسوار أورشليم مستديراً هدمها كل جيش الكلدانيين الذي مع رئيس الشرط. وسبى نبوزرادان رئيس الشرط بعضاً من فقراء الشعب، وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة، والهاربين الذين سقطوا إلى ملك بابل وبقية الجمهور. ولكن نبوزرادان رئيس الشرط أبقى من مساكين الأرض كرامين وفلاحين. وكسر الكلدانيون أعمدة النحاس التي لبيت الرب والقواعد وبحر النحاس الذي في بيت الرب، وحملوا كل نحاسها إلى بابل» (إر 52: 12-17).
نتعلم من هذا المزمور أننا عندما نواجه صعوبة يجب أن ندرس حالتنا الروحية دراسة موضوعية، فنعرف أين أخطأنا لنتوب، ومن أين سقطنا لنقوم، فنعرف ما لنا وما علينا ثم نرفع طلباتنا لله في نور واقعنا الروحي الحقيقي. وفي كل موقف صعب نعجز فيه عن إنقاذ أنفسنا يجب أن نرفع عيوننا إلى الله ونثبتها عليه، لأننا إن ظللنا ننظر إلى ما يحيط بنا يصيبنا الاكتئاب واليأس، ونتدمَّر في الداخل كما في الخارج. لكن تثبيت النظر عليه يضمن لنا السلام والانتصار، فنحدِّث بتسبيح الرب إلى دور (جيل) فدور (جيل بعد جيل).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – طلب الإغاثة (آيات 1-5).
ثانياً – طلب العدالة (آيتا 6، 7).
ثالثاً – طلب الغفران (آيتا 8، 9)
رابعاً – طلب النجاة (آيات 10-12)
خامساً – إعلان الثقة (آية 13)

أولاً – طلب الإغاثة
(آيات 1-5)
1 – شكوى من الأمم: «اللهم، إن الأمم قد دخلوا ميراثك، نجسوا هيكل قدسك، جعلوا أورشليم أكواماً. دفعوا جثث عبيدك طعاماً لطيور السماء، لحم أتقيائك لوحوش الأرض. سفكوا دمهم كالماء حول أورشليم وليس من يدفن» (آيات 1-3). رأى المرنم أن الصعوبة التي يجوزها هو وشعبه تتعلق أولاً بالله ومرتبطة بمجد إلهه، لأنه هو مِلكٌ للرب، وأرضه «جبل ميراث» الرب. فكيف يسمح بدخول الوثنيين إلى ميراثه، مع أن الميراث أعز ما يملكه الإنسان، ليس فقط بسبب قيمته المادية لكن بسبب قيمته المعنوية؟ وللمؤمنين عند الله قيمة عظيمة لأنهم ميراثه، يعتبرهم «غِنى مجد ميراثه في القديسين» (أف 1: 18). والهيكل هو «المقدس الذي هيأته يداك يا رب» (خر 15: 17). فكيف يسمح للوثنيين بتدنيسه؟ وأورشليم هي مدينة الملك العظيم، فلماذا يسمح بأن تصبح أكواماً؟ ولماذا يسمح بقتل عبيده فتُطرح جثثهم بأعداد كبيرة حتى لا تجد من يدفنها، فتلتهمها الطيور وتنهشها وحوش الأرض؟ لقد سفك الأعداء دماء شعب الله كالماء كأنهم بلا قيمة وبلا ثمن، ولم يبقَ بين الأحياء من يدفن الموتى! فلماذا سمح الرب بكل ما حدث لميراثه، وهيكله، ومدينته، وأتقيائه؟ ألم يقل المرنم: «عزيز في عيني الرب موت أتقيائه»؟ (مز 116: 15). وألم يقل المسيح لمضطهِد الكنيسة: «لماذا تضطهدني؟» (أع 9: 4).
يعلم المرنم أنه عندما يصيبه الضرر يصيب ملكوت الله أيضاً. وسعيد هو المؤمن الذي يرى انتماءه القوي للرب فيتأكد أنه معه في وقت الضيق، لأنه «في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلَّصهم» (إش 63: 9)، ويدرك أن قضيته ليست قضيته وحده، لكنها قضية أبيه السماوي أيضاً.
2 – خجلٌ من الجيران: «صرنا عاراً عند جيراننا، هزءاً وسخرة للذين حولنا» (آية 4). كان بنو إسرائيل محاطين بأمم تعبد أوثاناً، يعتبرونها أقوى من الإله الحقيقي خالق السماء والأرض. فلما نجَّس الوثنيون هيكل الله المقدس هزأ جيران إسرائيل بهم وبإلههم، ولا بد أنهم أطلقوا عليهم النكات الساخرة، لأن الإله الذي يعبدونه لم ينصرهم، بينما انتصر الجيش البابلي!
3 – توسُّلٌ من المرنم: »إلى متى يا رب تغضب كل الغضب، وتتَّقد كالنار غيرتك؟« (آية 5). يعلم المرنم أن الشر الذي أصابه وأصاب شعبه يرجع إلى خطاياهم، ويعلم أن الله إله غيور لا يسمح أن يُشرك به ولا يقبل القلب المنقسم (تث 4: 24). وعندما يعرج المؤمن بين عبادة الرب وعبادة الأوثان يغضب الله عليه غضباً نارياً، لأنه يريد أن يكون القلب كله له، ويصبح شوق القلب: «علِّمني يا رب طريقك أسلك في حقك. وحِّد قلبي لخوف اسمك» (مز 86: 11)، لأنه «إن راعيتُ إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب» (مز 66: 18). والمرنم يتساءل في حالة توبته: إلى متى يستمر غضب الله عليه وعلى شعبه؟

ثانياً – طلب العدالة
(آيتا 6، 7)
«أَفِض رِجزك على الأمم الذين لا يعرفونك، وعلى الممالك التي لم تَدْعُ باسمك، لأنهم قد أكلوا يعقوب وأخربوا مسكنه» (آيتا 6، 7). وهناك أربعة احتمالات لتفسير هاتين الآيتين:
1 – العدالة من منظور شريعة موسى: كانت هذه الشريعة تقول: «وإن حصلت أذية تعطي نفساً بنفس، وعيناً بعين، وسناً بسن، ويداً بيد، ورجلاً برِجل، وكياً بكيّ، وجُرحاً بجرح، ورَضّاً برضّ» (خر 21: 23-25 نفس الفكرة مكررة في لا 24: 20 وتث 19: 21). وبحسب هذه الشريعة يطلب المرنم من الرب أن يصبَّ غضبه على الوثنيين الذين لا يعرفون الرب ولا يدعون باسمه، لأنهم أساؤوا إلى شعب الرب إساءات بالغة. وكان هذا طلب داود: «خاصِم يا رب مخاصميَّ. قاتل مقاتليَّ.. ليخْزَ وليخجل الذين يطلبون نفسي» (مز 35: 1، 4).
2 – حتمية العدالة: في هاتين الآيتين يعلن المرنم أن الغضب الإلهي قادم، ولا بد أن يحل بالخطاة كنتيجة طبيعية لخطاياهم، وينزل على الذين لا يعرفونه ولم يدعوا باسمه، وعبدوا المخلوق دون الخالق، مع أنه أظهر وجوده لهم في الطبيعة التي تخبر بعمل يديه. وبالرغم من ذكاء الخطاة في أمور دنياهم كانوا جاهلين في أمور دينهم، فاقتطعوا شجرة أحرقوا بعض أغصانها وقوداً وتدفئة، ونحتوا بعضها وثناً يسجدون له (إش 44: 14-17) فلا بد أن يعلن الله غضبه عليهم كنتيجة طبيعية لضلالهم.
3 – الرحمة والعدالة: يحب الله الخاطئ ويكره خطيته، والسماء تفرح بخاطئ واحد يتوب (لو 15: 7). فيكون معنى الآيتين أن الله يفيض غضبه على من لا يعرفونه، ولكنه يدعوهم ليتوبوا ويهجروا ضلالهم. وقد قال رجل تقي: «يا رب، ساعدني أن أدمر أعدائي بأن أجعلهم أصدقائي». ونحن نكره العداوة لكننا نحب العدو، وندعو الله أن يهدم حائط السياج المتوسط أي العداوة، كما يفعل المسيح (أف 2: 14). والله «يريد أن جميع الناس يخلُصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون» (1تي 2: 4).
4 – قوات الظلمة الروحية والعدالة: يمكن أن يكون معنى الآيتين أن يبيد الله قوات الظلمة الروحية التي تقاوم قوة النور السماوي، فإن مصارعتنا هي مع ظلمة هذا الدهر ومع أجناد الشر الروحية (أف 6: 12). ونحن نصلي: «لا تُدخِلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير» (مت 6: 13).

ثالثاً – طلب الغفران
(آيتا 8، 9)
1 – نسيان ذنوب الأوَّلين: «لا تذكر علينا ذنوب الأولين» (آية 8أ). عندما يخطئ الآباء يتركون لأبنائهم تركة ثقيلة من الحزن والبؤس. فعندما يستدين الآباء يتركون ديونهم للأبناء، وعندما يسيئون التصرف يتركون لأبنائهم الصيت الرديء، وعندما يتخذون قرارات خاطئة يورطون الأبناء في نتائج تلك القرارات. وعندما يتوب الآباء يغفر الله لهم، ولكن سيرتهم تظل حديث الأجيال القادمة. لقد غفر الله للص التائب وقال المسيح له: «اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 43)، ولكن أبناءه وأحفاده حملوا لقب «أبناء وأحفاد اللص الذي أُعدِم صلباً»! ولن يذكر الله للآباء ذنوبهم إن هم تابوا عنها، ولكن لا بد أن يعاني الأبناء في سمعتهم وصحتهم واقتصادياتهم بسبب ذنوب الآباء.. ولو أنهم في الأمور الروحية لا يعانون، لأن الرب قال: «في تلك الأيام لا يقولون بعد: الآباء أكلوا حصرماً وأسنان البنين ضرست، بل كل واحد يموت بذنبه. كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه» (إر 31: 29، 30 – انظر أيضاً حزقيال 18: 1-5).
2 – الرحمة للأخيرين: «لتتقدَّمنا مراحمك سريعاً لأننا قد تذللنا جداً» (آية 8ب). لا يدَّعي المرنم براءته وبراءة جيله من الخطأ الذي جرَّ عليهم المتاعب، فيطلب أن تتقدَّمه مراحم الرب ليحتمي بها، فيسير وراءها في طريقٍ ممهدة. وفي مزمور 23: 6 قال المرنم: «إنما خير ورحمة يتبعانني كل أيام حياتي» مما يعني أن الرحمة أيضاً تسير وراء المؤمن لتضمن له السلامة من طعنة قد تأتيه من الخلف. وهكذا يكون المؤمن مُحاطاً بالمراحم الإلهية، من أمامه ومن ورائه. وهي تتقدمه «سريعاً» لأنه بلغ أقصى ما يستطيع احتماله من الضيق والتعب، وقد تذلل هو وشعبه جداً.
3 – الغفران من أجل اسمه: «أعنا يا إله خلاصنا من أجل مجد اسمك. ونجنا واغفر خطايانا من أجل اسمك» (آية 9). كانت هزيمة شعب الله في نظر الوثنيين هزيمة لله نفسه! ويطلب المرنم الرحمة والخلاص من أجل مجد اسم الرب، وحتى لا يقول الوثنيون إن الله عاجز عن إنقاذ شعبه. فلأجل مجد اسمه يسرع بخلاصنا من خطايانا بالغفران، ومن عوزنا بتسديد الاحتياجات، ومن مرضنا بالصحة، ومن أعدائنا بالنجاة. ونحن نعتمد على الذبيحة الكفارية الكاملة التي قدَّمها حَمَلُ الله فرفع خطية العالم، فكل بركة ننالها هي من أجل مجد اسمه، ومن أجل اسمه.

رابعاً – طلب النجاة
(آيات 10-12)
1 – لمجد الرب: «لماذا يقول الأمم أين هو إلههم؟ لتُعرف عند الأمم قدام أعيننا نقمةُ دم عبيدك المهراق» (آية 10). يطلب المرنم مجد إلهه، ولا يشاء أن يُعيِّر الأمم الوثنيون شعبه بأن إلههم ليس معهم. وهو يرى أن الانتقام من العدو يصاحب النجاة، فلا بد أن ينتقم الله لقتل عبيده من الذين سفكوا دماءهم، بحسب قول موسى في نشيده بعد كتابة التوراة: «اهتفوا أيها الأمم مع شعبه، لأنه يثأر لدم عبيده، ويردُّ الانتقام على أعدائه، ويكفر عن خطايا شعبه» (تث 32: 43 ترجمة حديثة)، فيخاف العدو، ويتشدَّد قلب شعب الله المنكسر، كما قال الرب: «قولوا لخائفي القلوب: تشددوا. لا تخافوا. هوذا إلهكم. الانتقام يأتي. جزاء الله. هو يأتي ويخلصكم» (إش 35: 4).
2 – لاطمئنان الأسير: «ليدخل قدامك أنين الأسير. كعظمة ذراعك استَبْق بني الموت» (آية 11). وقد استجاب الله هذه الطلبة، وسمع أنين الأسرى في بابل، واستَبْقَت ذراعه القوية كثيرين ممن كانوا يُحسَبون في عداد الموتى، ومن هؤلاء دانيال وشدرخ وميشخ وعبدنغو، الذين حفظهم الله من خطر الموت عندما أمرهم مملك بابل أن يأكلوا من طعامه وأن يشربوا من خمره. «أما دانيال فجعل في قلبه ألا يتنجس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه» وحفظه الله وزملاءه، وأعطى دانيال نعمة ورحمة عند مسؤول القصر الملكي (دا 1). ولما رفض شدرخ وميشخ وعبدنغو أن يسجدوا لتمثال الملك أمر بإلقائهم في أتون النار، ولكن الله استبقى حياتهم وأنقذهم فلم يحترقوا (دا 3). ولما رفض دانيال أن يصلي للملك ألقاه في جب الأسود، ولكن الله أرسل ملاكه وسدَّ أفواه الأسود فلم تؤذه (دا 6). وهذا عين ما فعله يوم أنقذ بطرس من سجن هيرودس (أع 12). لقد سمع أنين الأسير وطمأنه على حياته وعلى مستقبله.
3 – لعقاب المعتدي: «ورُدَّ على جيراننا سبعة أضعافٍ في أحضانهم العار الذي عيَّروك به يا رب» (آية 12). كان العمونيون والموآبيون والأدوميون جيران بني إسرائيل، ولكنهم لم يتعاطفوا معهم عندما أخرب البابليون عاصمتهم وهيكلهم، بل إنهم سخروا من إله بني إسرائيل وشمتوا بشعبه. وقد تنبأ النبي حزقيال بحلول غضب الله على هؤلاء الجيران الشامتين الذين عيَّروا الله بما جرى لشعبه (اقرأ حزقيال 25).. والمرنم يطلب لهم سبعة أضعاف ما فعلوه في أحضانهم، فلا يجدون منه مهرباً.

خامساً – إعلان الثقة
(آية 13)
«أما نحن شعبك وغنم رعايتك نحمدك إلى الدهر. إلى دور فدور نحدِّث بتسبيحك» (آية 13). عندما نطق المرنم بهذه الكلمات المليئة بالشكر لم تكن نجاته قد تحققت بعد، بل كانت لا تزال طلبة يرفعها إلى الله. لكنه رأى استجابة طلبته قادمةً لا شك فيها، لأن الإيمان يرى من لا يُرى وما لا يُرى، وهو الثقة بما يُرجى مما لم نأخذه بعد، وهو الإيقان بأمور لا نراها الآن، لكننا سنراها بكل تأكيد.
كان المرنم متأكداً أن شعبه شعب الرب، وأنهم غنم رعايته، فلا بد أن يحمده طوال حياته، ويحدِّث بتسبيحه إلى دور (جيل) فدور (بعد جيل). وقد تحقق ما انتظره المرنم، ومضت سنوات السبي السبعون، وعاد الشعب إلى بلاده بأمر من كورش الفارسي، فرجعت مجموعة مع عزرا الكاتب، ومجموعة أخرى مع زربابل الوالي، ومجموعة ثالثة مع نحميا، وبدأ بناء بيت الرب بتشجيع من النبيين حجي وزكريا. ومع أن الهيكل الثاني لم يكن في فخامة هيكل سليمان إلا أن مجده كان أعظم، لأن المسيح طهَّره مرتين، وفيه تحققت مواعيد الله لداود النبي في المسيح ابن داود.
واليوم يقف المؤمنون في محضر الرب، يرفعون له التسبيح والشكر لأنهم شعبه وخاصته، بعد أن أدخلهم في عهد جديد معه، فأصبحوا غنم رعاية هذا الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخراف، ويحمدونه في هذا الجيل وفي الأجيال القادمة أيضاً، لأنه قال: «هذا الشعب جبلتُه لنفسي. يحدِّث بتسبيحي» (إش 43: 21).

اَلْمَزْمُورُ الثَّمَانُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى السَّوْسَنِّ. شَهَادَةٌ. لآسَافَ. مَزْمُورٌ
1 يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ اصْغَ، يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَالضَّأْنِ، يَا جَالِساً عَلَى الْكَرُوبِيمِ أَشْرِقْ. 2قُدَّامَ أَفْرَايِمَ وَبِنْيَامِينَ وَمَنَسَّى أَيْقِظْ جَبَرُوتَكَ، وَهَلُمَّ لِخَلاَصِنَا. 3يَا اللهُ أَرْجِعْنَا، وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ.
4يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ، إِلَى مَتَى تُدَخِّنُ عَلَى صَلاَةِ شَعْبِكَ؟ 5قَدْ أَطْعَمْتَهُمْ خُبْزَ الدُّمُوعِ، وَسَقَيْتَهُمُ الدُّمُوعَ بِالْكَيْلِ. 6جَعَلْتَنَا نِزَاعاً عِنْدَ جِيرَانِنَا، وَأَعْدَاؤُنَا يَسْتَهْزِئُونَ بَيْنَ أَنْفُسِهِمْ. 7يَا إِلَهَ الْجُنُودِ، أَرْجِعْنَا، وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ.
8كَرْمَةً مِنْ مِصْرَ نَقَلْتَ. طَرَدْتَ أُمَماً وَغَرَسْتَهَا. 9هَيَّأْتَ قُدَّامَهَا، فَأَصَّلَتْ أُصُولَهَا فَمَلأَتِ الأَرْضَ. 10غَطَّى الْجِبَالَ ظِلُّهَا، وَأَغْصَانُهَا أَرْزَ اللهِ. 11مَدَّتْ قُضْبَانَهَا إِلَى الْبَحْرِ، وَإِلَى النَّهْرِ فُرُوعَهَا. 12فَلِمَاذَا هَدَمْتَ جُدْرَانَهَا فَيَقْطِفَهَا كُلُّ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟ 13يُفْسِدُهَا الْخِنْزِيرُ مِنَ الْوَعْرِ، وَيَرْعَاهَا وَحْشُ الْبَرِّيَّةِ!
14يَا إِلَهَ الْجُنُودِ، ارْجِعَنَّ. اطَّلِعْ مِنَ السَّمَاءِ، وَانْظُرْ وَتَعَهَّدْ هَذِهِ الْكَرْمَةَ، 15وَالْغَرْسَ الَّذِي غَرَسَتْهُ يَمِينُكَ، وَالاِبْنَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ. 16هِيَ مَحْرُوقَةٌ بِنَارٍ مَقْطُوعَةٌ. مِنِ انْتِهَارِ وَجْهِكَ يَبِيدُونَ. 17لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَى رَجُلِ يَمِينِكَ، وَعَلَى ابْنِ آدَمَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ، 18فَلاَ نَرْتَدَّ عَنْكَ. أَحْيِنَا فَنَدْعُوَ بِاسْمِكَ. 19يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ، أَرْجِعْنَا. أَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ.

يا رب، ارجع وأرجِعنا
كان بنو إسرائيل متَّحدين في مملكة واحدة تحت حكم الملك الأول شاول، ثم تحت حكم الملكين داود وسليمان. وبعد ذلك انقسمت المملكة قسمين: شمالية وجنوبية. وتكوَّنت المملكة الشمالية من عشرة أسباط تحت حكم يربعام بن ناباط الذي كانت شهرته أنه «جعل بني إسرائيل يخطئون» (1مل 15: 26). وكانت عاصمتها مدينة السامرة. أما المملكة الجنوبية فكانت عاصمتها مدينة أورشليم، وتكوَّنت من سبطين، تحت حكم رحبعام بن سليمان. وبسبب تمادي أهل مملكة الشمال في خطاياهم غزا ملك أشور بلادهم ودمرها، وسباهم عام 724 ق م. وأدرك مؤمنو المملكة الجنوبية أنهم سيلاقون نفس مصير إخوتهم في الشمال، إن لم يتوبوا، وإن لم يتحنَّن الرب عليهم، فرتَّلوا هذا المزمور طالبين إنقاذ المملكة التي سقطت، وحماية مملكتهم التي توشك أن تسقط، وأن يرعى الرب بني إسرائيل ليُرجعهم إليه، ولينير بوجهه عليهم فيخلصوا.
وقد اهتم مؤمنو المملكة الجنوبية دائماً بالحالة الروحية للملكة الشمالية، فكانوا يرسلون إليهم من يدعونهم للتوبة وعبادة الرب وحده. فقد أرسل الملك الجنوبي حزقيا يدعو جميع إسرائيل ويهوذا، وكتب أيضاً رسائل إلى أفرايم ومنسى أن يأتوا إلى بيت الرب في أورشليم ليعملوا فصحاً للرب إله إسرائيل. «فكان السُّعاة يعبرون من مدينة إلى مدينة في أرض أفرايم ومنسى حتى زبولون، فكانوا يضحكون عليهم ويهزأون بهم. إلا إن قوماً من أشير ومنسى وزبولون تواضعوا وأتوا إلى أورشليم» (2أخ 30: 1، 10، 11). ونتعلم من الملك حزقيا أننا لا يجب أن نتأخر أبداً عن أن نكلّم الجميع بكلمة الرب حتى إن كانوا مختلفين معنا سياسياً ودينياً وعِرقياً. ولا شك أن اهتمام مؤمني الجنوب بأهل الشمال كان بحسب فكر الرب الذي أمر النبي إرميا: «اذهب ونادِ بهذه الكلمات نحو الشمال، وقُل: ارجعي أيتها العاصية إسرائيل يقول الرب. لا أوقع غضبي بكم لأني رؤوف يقول الرب. لا أحقد إلى الأبد. اعرفي فقط إثمك أنك إلى الرب إلهك أذنبتِ، وفرَّقتِ طرقك للغرباء تحت كل شجرة خضراء، ولصوتي لم تسمعوا يقول الرب. ارجعوا أيها البنون العُصاة يقول الرب لأني سُدت عليكم، فآخذكم واحداً من المدينة واثنين من العشيرة وآتي بكم إلى صهيون. وأعطيكم رعاةً حسب قلبي فيرعونكم بالمعرفة والفهم» (إر 3: 12-15).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – طلب رضى الرب (آيات 1-7)
ثانياً – دروس من المملكة الشمالية (آيات 8-19)

أولاً – طلب رضى الرب
(آيات 1-7)
1 – طلب رضاه لأنه يحب شعبه: (آية 1). وعلاقته بشعبه ثلاثية:
(أ) هو راعي شعبه: «يا راعي إسرائيل اصغَ» (آية 1أ). قال يعقوب عنه: «الله الذي رعاني منذ وجودي إلى هذا اليوم» (تك 48: 15). وشعبه هُم «غنم مرعاه» (مز 74: 1) يقولون له: «نحن شعبُك وغنمُ رعايتك» (مز 79: 13). والراعي يقود قطيعه إلى الأمن والغذاء، ويدافع عنهم ضد كل مهاجم، ويمدُّهم بكل ما يحتاجون إليه، فيقولون مع داود: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء» (مز 23: 1). ويطلب المرنم من الله أن يصغي إلى دعائه، فإلى من يذهب القطيع إلا إلى الراعي؟ لن يذهب إلى الأجير الذي لا يبالي بالخراف، ولن يذهب إلى الذئب الذي يفترس الخراف، بل سيذهب إلى محب الخراف، الذي قال: «أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف» (يو 10: 11).
(ب) هو المعتني بشعبه: «يا قائد يوسف كالضأن» (آية 1ب). يوسف هو ابن إسرائيل الحبيب إليه. يذكره المرنم باعتباره البطل الذي لم يخطئ، والبار الذي أكرم أباه وإخوته مع أن إخوته لم يكرموه، فقاده الرب لحياة الصلاح، ولينقذ العالم من الجوع. ويطلب المرنم أن يعمل الرب معه ومع شعبه كما عمل مع يوسف. والمقصود باسم »يوسف« هنا المملكة الشمالية، وهم بعض من قادهم الرب في صحراء سيناء مدة أربعين سنة، وقيل عنهم: «هديتَ شعبك كالغنم بيد موسى وهارون» (مز 77: 20). «ساق مثل الغنم شعبه، وقادهم مثل قطيع في البرية» (مز 78: 52) ولا بد أنه سيقودهم اليوم وغداً، فهو هو أمساً واليوم وإلى الأبد (عب 13: 8).
(ج) هو ملك شعبه: «يا جالساً على الكروبيم، أشرِق» (آية 1ج). الكروب ملاك (وجمعه في اللغة العبرية كروبيم). وكان هناك تمثال كروبَـيْن يمدّان أجنحتهما على غطاء تابوت العهد، ويرمزان إلى الرحمة، وكان بنو إسرائيل يدعون تابوت العهد «تابوت عهد رب الجنود الجالس على الكروبيم» (1صم 4: 4 و2صم 6: 2). إنه الملك السماوي، والملك على الأرض، والساكن وسط شعبه، الذي قال لموسى: «في التابوت تضع الشهادة التي أعطيك. وأنا أجتمع بك هناك، وأتكلم معك من على الغطاء من بين الكروبين اللذين على تابوت الشهادة» (خر 25: 21، 22). وخاطب الملك حزقيا الرب قائلاً: «أيها الرب إلهُ إسرائيل، الجالسُ فوق الكروبيم، أنت هو الإله وحدك لكل ممالك الأرض. أنت صنعت السماء والأرض» (2مل 19: 15). فلنأتِ إليه بجراءة وقدوم عن ثقة (أف 3: 12) ولنتقدَّم دوماً إلى عرش النعمة، لكي ننال رحمة ونجد نعمة، عوناً في حينه (عب 4: 16). ويتَّجه المرنم إلى الرب الجالس على الكروبيم، الذي كلَّمهم من بين الكروبَـيْن من على الغطاء الذي يستر عيوبهم وخطاياهم حتى لا تقاضيهم شريعتُه، ويطلب منه أن يشرِق عليهم إشراقة الرضى، فيَظهَر لهم في قوته ومجده لينقذهم بكلمةٍ من عنده، لأنه «من صهيونَ كمالِ الجمالِ، اللهُ أشرق» (مز 50: 2).
2 – طلب رضاه لأنه قوي: «قدام أفرايم وبنيامين ومنسى أيقِظ جبروتك، وهلمَّ لخلاصنا» (آية 2). يطلب المرنم أن يوقظ الرب قوته الجبارة التي تبدو له أنها نائمة، وأن يسرع لخلاص شعبه العزيز عليه، الذين يدعوهم أفرايم ومنسى ابني يوسف، وبنيامين شقيق يوسف. وهما ابنا يعقوب من زوجته المحبوبة راحيل، التي اعتُبرَت أم المملكة الشمالية (إر 31: 15). وقد أعطى يعقوب لكلٍّ من حفيديه أفرايم ومنسى نصيباً، فنال أحدهما نصيب سبط لاوي، سبط الكهنوت، الذي لم يُعطَ نصيباً في الأرض لأن الرب نصيبه، ونال الثاني نصيب يوسف أبيهما. وعندما كان بنو إسرائيل يعسكرون في صحراء سيناء كانت هذه الأسباط الثلاثة تقيم غرب خيمة الاجتماع، وعندما كانوا يرتحلون كانت هذه الأسباط تسير خلف الخيمة مباشرة (عد 2: 17-19). والقول »قدام أفرايم وبنيامين ومنسى« يعني أن الله يسير أمام شعبه يقودهم للنصر، كما فعل في صحراء سيناء.
يُخيَّل إلينا أحياناً أن الرب نائم عن معونتنا، بينما قوة الله مستيقظةٌ دائماً. وعندما نستعجله يقول لنا: «لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت» (جا 3: 1) و«أنا الرب، في وقته أُسرع به» (إش 60: 22).
3 – طلب رضاه لأنه توَّاب: «يا الله، أَرجِعنا وأنِر بوجهك فنخلص» (آية 3). الرجوع المطلوب هنا هو العودة من السبي، والتوبة من الضلال، والابتعاد عن عصيان الرب، وإصلاح ما فسد، كما صلى أفرايم: «أدَّبتَني فتأدَّبتُ.. توِّبني فأتوبَ، لأنك أنت الرب إلهي» (إر 31: 18). «اردُدْنا يا ربُّ إليك فنرتدَّ. جدِّد أيامنا كالقديم» (مرا 5: 21). يطلب المرنم أن يعود إلى محضر النعمة، وإلى مركزه الأول، فيقول: «يردُّ نفسي، يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه» (مز 23: 3). لقد ضل الشعب كأفرادٍ وكجماعة، وهم يطلبون وجه الله بالتوبة، لأنه لا يمكن أن يرجعوا إلا بفضل عمل نعمته، فيبتسم لهم ويرون مجده وقوته لخلاصهم.
هل ظروفك سيئة لأنك بعيد عن الرب؟ قُل مع المرنم: يا الله أَرجِعنا، وسيسمع صلاتك فوراً. وعندما ترجع تائباً ينير بوجهه عليك فتخلص، ويُقال لك: « يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك.. ويمنحك سلاماً» (عد 6: 24-26).
4 – طلب رضاه بسبب سوء حالة الشعب: (آيات 4-6). وهنا ثلاثة أوصاف لحالتهم:
(أ) رفض الله صلاتهم: «يا ربُّ إلهَ الجنود، إلى متى تدخِّن على صلاة شعبك؟» (آية 4). يخاطب المرنم الرب إله الجنود، الوحيد القادر أن يدافع عن شعبه الصارخ إليه في صلاة مقبولة تُسِرُّ قلبه كبخور عطر يصعد أمامه. لكن عندما يغضب الله على شعبه بسبب خطاياهم يدخِّن على صلواتهم دخان الغضب، فتتغيَّر رائحة البخور. ويتساءل المرنم: إلى متى يا رب تغضب علينا وترفض أن تدافع عنا. «لماذا رفضتنا يا الله إلى الأبد؟ لماذا يدخِّن غضبك على غنم مرعاك؟ اذكر جماعتك التي اقتنيتها منذ القِدم» (مز 74: 1، 2).
(ب) أكلوا خبز الدموع: «قد أطعمتَهم خبز الدموع، وسقيتَهم الدموع بالكيل» (آية 5). جعل الله الدموع طعامهم وشرابهم اليومي، فبكوا باستمرار لأن الخراب حلَّ بهم. وفي أسلوب مبالغة شعري يقول المرنم إن دموعهم كانت غزيرة وكثيرة «بالكيل» أي بالإيفة (وهي نحو 45 لتراً)! وكان هذا بأمرٍ من الله أو بسماحٍ منه لكي يتوبوا ويحيدوا عن طرقهم الشريرة.
(ج) عيَّرهم جيرانهم: «جعلتنا نزاعاً عند جيراننا، وأعداؤنا يستهزئون بين أنفسهم» (آية 6). هاجمهم الأعداء المحيطون بهم ونازعوهم أرضهم، وعيَّروهم، ثم تنازع الأعداء معاً على قسمة ما سلبوه منهم، يريد كل عدو أن يأخذ النصيب الأكبر، وهم يسخرون من المهزومين لأن إلههم لم ينقذهم من يدهم.

ثانياً – دروس من المملكة الشمالية
(آيات 8-19)
نتعلَّم من سقوط السامرة سنة 724 ق م دروساً سجلها لنا الوحي المقدس:
1 – فضل الله على الكرمة: (آيات 8-11).
(أ) زرعها الله: «كرمةً من مصر نقلت. طردتَ أمماً وغرستَها. هيَّأت قدامها فأصَّلت أصولها، فملأت الأرض» (آيتا 8، 9). قال يعقوب في ابنه يوسف: «يوسف غصن شجرة مثمرة، غصن شجرة مثمرة على عين. أغصانٌ قد ارتفعت فوق حائط» (تك 49: 22) بمعنى أن يوسف كرمة مثمرة. وتُزرع الكرمة في فناء البيت لتعطي الثمر، ولتغطي حوائطه بورقها الأخضر، ولتظلل. ويذكر المرنم أن شعبه كرمة الله التي نمت في مصر، فنقلها الله بمعجزة الخروج بعد أن خلَّصها من عبودية فرعون، وزرعها في أرضٍ جهَّزها قبل أن يصلوا إليها، بأن طرد منها سكانها الذين كانوا يعبدون الوثن حتى لا يتجرَّب شعبه بالوثنية. والله في محبته يجهز المكان قبل أن يغرسنا فيه، كما فعل عندما جهَّز جنة عدن بكل ما يحتاجه أبوانا الأولان من قبل أن يخلقهما. وبارك الله كرمته في الأرض الجديدة، فأصَّلت أصولها وتعمَّقت جذورها وملأت الأرض، فأشبهت حبة خردل يُضرَب بها المثل في الصِّغر، نمت وصارت شجرة كبيرة تتآوى طيور السماء في أغصانها (مر 4: 31 و32).
(ب) نماها الله: «غطى الجبالَ ظلُّها، وأغصانُها أرزَ الله. مدَّت قضبانها إلى البحر وإلى النهر فروعها» (آيتا 10، 11). امتدَّت أغصان الكرمة حتى ظللت الجبال، كما غطت أشجار الأرز العالية في لبنان، ووصلت إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً، وإلى نهر الفرات شرقاً، كما قال الرب: «كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم: مِن البرية ولبنان، من النهر نهر الفرات إلى البحر الغربي يكون تخمكم» (تث 11: 24). وكانت هذه حدود مملكة داود قُرب نهاية أيامه وحدود مملكة سليمان كل أيامه.
وهذا الذي جرى مع كنيسة العهد القديم جرى أيضاً مع كنيسة العهد الجديد في يوم الخمسين، ولكن بمعنى روحي، فقد انضمَّ إليها نحو ثلاثة آلاف نفس من مختلف بلاد العالم (أع 2: 41) وكان الرب يضم إليها كل يوم الذين يخلصون (أع 2: 47).
2 – عقاب الله للكرمة: «فلماذا هدمتَ جدرانها فيقطفها كل عابري الطريق؟ يفسدها الخِنزير من الوعر، ويرعاها وحش البرية؟» (آيتا 12، 13). هذا استفهام استنكاري، واستفهام مباشر معاً. فالمرنم يتعجب من هدم أسوار الكرمة، حتى جاء الغزاة وأخذوا أثمارها. ويسأل الرب الذي نقل الكرمة وزرعها ونمّاها عن سبب عقابه لها، حتى أنه سمح لخِنزير الوعر ووحش البرية لا أن يأخذا ثمرها فقط بل أيضاً أن يفسدا الكرمة نفسها. لم يكونا كالغزاة الذين يأخذون الثمر ويرحلون، لكنهما دمَّرا الأصل والفرع! ويجيب الرب على سؤال المرنم بسؤال: «ماذا يُصنع أيضاً لكرمي وأنا لم أصنعه له؟ لماذا إذ انتظرت أن يصنع عنباً صنع عنباً رديئاً؟» (إش 5: 4). لما لم تحقق كرمة بني إسرائيل القصد من وجودها سحب الرب حمايته عنها. لقد اختارهم ليكونوا مملكة كهنة للشعوب المحيطة بهم ليكرزوا باسمه (خر 19: 6). والكاهن هو الذي يكلّم الله عن الشعب، ويكلم الشعب عن الله. ولكنهم لم يقوموا بما كلَّفهم الرب به، واحتقروا سائر الشعوب، وحسبوا اختيار الرب لهم استعلاءً على غيرهم، فرفضهم الرب. وقد قال المسيح للتلاميذ: «ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم». ولكنه لم يتوقف عند الاختيار والإقامة، بل مضى يقول: «وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم» (يو 15: 16). وفي نور هذا التكليف نشر التلاميذ تعاليم المسيح إلى أقصى الأرض. فإن كنا غير مثمرين، فلنطلب من الله أن يعمل فينا لنصبح مثمرين، ولنُخضِع إرادتنا لكل توجيهاته. ليسأل كل مؤمن نفسه من بداية حياته الروحية، منذ زرعه الله ونمّاه، وحتى هذه الساعة: ما هي شهادته لله في مجتمعه؟ وما هي الخدمة التي أدّاها لإلهه ولعائلته ولمواطنيه؟ وأرجو ألا يحكم أحدٌ على نفسه حكماً ظالماً، فكثيراً ما يظن الناس أن خدمتهم لله تكون بالوعظ فقط، بينما كل عمل رحمة هو خدمة للرب، حتى لو كان كأس ماءٍ بارد (مت 10: 42).. فالأم التي ترعى بيتها وأطفالها في محبة، والموظف الذي يؤدي عمله بأمانة يقدمان خدمة عظيمة لله. فإن لم تكن قد أدَّيت للرب الخدمة الواجبة، أو إن كنت قد أدَّيتها بتهاون، فاطلب منه أن يعلّمك كيف تخدمه الخدمة التي يرضاها.
3 – صلاة الكرمة: (آيات 14-18).
(أ) صلاة طلب الرضى: «يا إله الجنود ارجعنَّ» (آية 14أ). في الآيات 3 و7 و19 طلب المرنم من الرب أن يُرجِعه، بمعنى أن يتوِّبه. وفي هذه الآية يطلب أن يَرجع الرب إليه بمعنى أن يغفر له ويرضى عليه.
(ب) صلاة طلب الحماية: «اطَّلِع من السماء وانظر، وتعهَّد هذه الكرمة والغرس الذي غرسَتْهُ يمينك، والابن الذي اخترته لنفسك. هي محروقة بنار. مقطوعة. من انتهار وجهك يبيدون» (آيتا 14ب-16). زرع الرب الكرمة بيمينه القوية، لهدف مقدس، ولكنها انحرفت عن الهدف، فاحترقت بنار البُعد عن الله، وبنار غضبه، فطلب المرنم نظرة رحمة سماوية للكرمة العزيزة على الرب، ولملك البلاد الذي اختاره الله لنفسه ليحكم شعبه، فيتعهَّد الرب الكرمة وملكها بالحماية والرعاية. كما يطلب أن ينتهر الله أعداء الكرمة وأعداء الملك فيبيدون. والتوسُّل هنا موجَّهٌ إلى أمانة الله ورحمته، فقد غرس الكرمة بحسب قصده، وبدأ بها عملاً صالحاً، ولا بد أن يكمله.
(ج) صلاة من أجل القائد: «لتكن يدك على رَجُل يمينك وعلى ابن آدم الذي اخترته لنفسك» (آية 17). يطلب المرنم أن يمدَّ الله يده على من اختاره لنفسه قائداً فيعطيه القوة ويُعِزُّه. وهناك ثلاثة تفاسير لرجل يمينه:
* ربما قصد المسيا: فهو الابن الوحيد الذي أتى في الجسد مولوداً من العذراء القديسة مريم بالروح القدس، فصار «ابن الإنسان» الذي قيل عنه: «قَبِّلوا الابن لئلا يغضب» (مز 2: 12). و«عظيم هو سرُّ التقوى: الله ظهر في الجسد» (1تي 3: 16).
* وربما قصد الملك: ابن داود الذي تعهَّد الرب له أن «يأمن بيتك ومملكتك إلى الأبد أمامك. كرسيُّك يكون ثابتاً إلى الأبد» (2صم 7: 16).
* ربما قصد شعب الرب: فإن الرب يدعو شعبه «ابني البِكر» (خر 4: 22) وهم الذين صلى من أجلهم في آية 2 لأنهم مسبيون.
(د) صلاة طلب الانتعاش: «فلا نرتدَّ عنك. أَحْيِنا فندعوَ باسمك. يا ربُّ إلهَ الجنود، أَرجِعنا. أَنِر بوجهك فنخلُص» (آيتا 18، 19). وفي هذه الصلاة خمس طلبات:
* طلب عدم الارتداد: «فلا نرتد» بل نرتبط بالرب ارتباطاً عميقاً، ولا ننفصل عن محبته وعبادته.
* طلب الإحياء: «أحينا فندعو باسمك» لنكون دعاةً للرب، ندعو الناس لعبادته، لأن روحنا منتعشة به، فنريد أن نتحدَّث عنه، وأن نرى الناس يرجعون إليه بالتوبة.
* طلب الإرجاع: «أرجِعنا» فإن حدث ارتداد، يغفر لنا ولا يسمح بارتدادنا مرة أخرى.
* طلب الرضى: «أنِر بوجهك» حسب البركة الكهنوتية (عد 6: 25).
* طلب الخلاص: «فنخلص» من الماضي المزعج، ومن الحاضر المتعِب، وفي المستقبل أيضاً. والمقصود بالخلاص هو خلاص من الخطية بالغفران (لو 19: 10) ومن الجوع بالشبع (مز 36: 6) ومن الحرب بالنصرة والسلام (مز 27: 1، 2) ومن المرض بالصحة (لو 8: 36).

اَلْمَزْمُورُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى الْجَتِّيَّةِ. لآسَافَ
1 رَنِّمُوا لِلَّهِ قُوَّتِنَا. اهْتِفُوا لإِلَهِ يَعْقُوبَ. 2ارْفَعُوا نَغْمَةً، وَهَاتُوا دُفّاً عُوداً حُلْواً مَعَ رَبَابٍ. 3انْفُخُوا فِي رَأْسِ الشَّهْرِ بِالْبُوقِ، عِنْدَ الْهِلاَلِ لِيَوْمِ عِيدِنَا، 4لأَنَّ هَذَا فَرِيضَةٌ لإِسْرَائِيلَ، حُكْمٌ لإِلَهِ يَعْقُوبَ. 5جَعَلَهُ شَهَادَةً فِي يُوسُفَ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ. سَمِعْتُ لِسَاناً لَمْ أَعْرِفْهُ. 6«أَبْعَدْتُ مِنَ الْحِمْلِ كَتِفَهُ. يَدَاهُ تَحَوَّلَتَا عَنِ السَّلِّ. 7فِي الضِّيقِ دَعَوْتَ فَنَجَّيْتُكَ. اسْتَجَبْتُكَ فِي سِتْرِ الرَّعْدِ. جَرَّبْتُكَ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ». سِلاَهْ.
8«اِسْمَعْ يَا شَعْبِي فَأُحَذِّرَكَ. يَا إِسْرَائِيلُ إِنْ سَمِعْتَ لِي. 9لاَ يَكُنْ فِيكَ إِلَهٌ غَرِيبٌ، وَلاَ تَسْجُدْ لإِلَهٍ أَجْنَبِيٍّ. 10أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي أَصْعَدَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. أَفْغِرْ فَاكَ فَأَمْلأَهُ. 11فَلَمْ يَسْمَعْ شَعْبِي لِصَوْتِي، وَإِسْرَائِيلُ لَمْ يَرْضَ بِي، 12فَسَلَّمْتُهُمْ إِلَى قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ لِيَسْلُكُوا فِي مُؤَامَرَاتِ أَنْفُسِهِمْ. 13لَوْ سَمِعَ لِي شَعْبِي وَسَلَكَ إِسْرَائِيلُ فِي طُرُقِي، 14سَرِيعاً كُنْتُ أُخْضِعُ أَعْدَاءهُمْ، وَعَلَى مُضَايِقِيهِمْ كُنْتُ أَرُدُّ يَدِي. 15مُبْغِضُو الرَّبِّ يَتَذَلَّلُونَ لَهُ، وَيَكُونُ وَقْتُهُمْ إِلَى الدَّهْرِ. 16وَكَانَ أَطْعَمَهُ مِنْ شَحْمِ الْحِنْطَةِ، وَمِنَ الصَّخْرَةِ كُنْتُ أُشْبِعُكَ عَسَلاً».

دعوة للاحتفال
هذا المزمور هتاف ودعوة للاحتفال ببدء سنة جديدة، وللشكر على الحصاد، فقد أمر الله بني إسرائيل أن يحتفلوا ببداية كل شهر بالنفخ في البوق (عدد 10: 10). وكان الشهر السابع أول شهور السنة الدينية العبرية، وهو في الوقت نفسه الشهر الأول في السنة العبرية المدنية. وكان أول يوم من هذا الشهر السابع يحظى باهتمام خاص، ويدعونه «عيد الأبواق» أو «عيد هتاف البوق» (لا 23: 24 وعدد 29: 1). وفي منتصف هذا الشهر لما يكتمل القمر يرنمون مزمورنا وهم يجمعون غلَّة الأرض ويعيِّدون عيد المظال (لا 23: 39)، وهو أكثر الأعياد بهجةً، يقيمون أثناء الاحتفال به في مظال يبنونها من أغصان الأشجار في ساحات المدن وفوق سطوح البيوت وعلى الجبال المحيطة بأورشليم، ليذكروا إقامتهم في مظال بصحراء سيناء أثناء سنوات التيه الأربعين، وليشكروا الله على الحصاد بحسب أمره: «أما اليوم الخامس عشر من الشهر السابع ففيه عندما تجمعون غلة الأرض تعيِّدون عيداً للرب سبعة أيام. في اليوم الأول عطلة وفي اليوم الثامن عطلة.. لكي تعلم أجيالكم أني في مظال أسكنت بني إسرائيل لما أخرجتهم من أرض مصر. أنا الرب إلهكم» (لا 23: 39، 43). وكان عيد المظال يقع بعد يوم الكفارة العظيم الذي يتطهَّر فيه الشعب من آثامه. وكانوا أثناء عيد المظال يقرأون شريعة موسى مرة كل سبع سنوات (تث 31: 10).

في هذا المزمور نجد:
أولاً – دعوة للاحتفال (آيات 1-5)
ثانياً – نصيحة إلهية (آيات 6-10)
ثالثاً – عقاب العصيان (آيات 11-16)

أولاً – دعوة للاحتفال
(آيات 1-5)
يقدم لنا المرنم في هذه الآيات أربعة أسباب للاحتفال بعيد المظال:
1 – لأن الله قوتنا: «رنموا لله قوتنا» (آية 1أ). الباعث الأول على الاحتفال هو تنشيط أذهان الشعب ليذكروا قوة الله التي خلَّصتهم من عبودية فرعون، وليرتلوا من جديد ترنيمة موسى وشعبه: «أرنِّم للرب فإنه قد تعظَّم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر. الرب قوتي ونشيدي، وقد صار خلاصي. هذا إلهي فأمجِّده، إله أبي فأرفِّعه» (خر 15: 1، 2). «الله لنا ملجأ وقوة. عوناً في الضيقات وُجد شديداً» (مز 46: 1).. والاحتفال ينعش الذاكرة أن خلاصنا ليس من عند أنفسنا بل من إلهنا، لأن الأغصان لا تقدر أن تأتي بثمرٍ من ذاتها إن لم تثبت في الكرمة، ونحن بدون الله لا نقدر أن نفعل شيئاً (يو 15: 4، 5).
2 – لأنه إله العهد: «اهتفوا لإله يعقوب» (آية 1ب). في الاحتفال بالعيد يذكر الشعب أن الله دخل في عهد مع يعقوب أب الأسباط، لا لأن يعقوب يستحق، بل لأن الله أنعم عليه، ورضي أن يُدعى «إله يعقوب». ولا زال الله يقبل كل خاطئ تائب فيكون له إلهاً ويحسبه من شعبه. وعندما يذكر شعب الرب عهد الرب يهتفون. ونذكر مناسبتين كان الشعب يهتف فيهما:
(أ) الهتاف للملك: هتف الشعب وهو يرى الملك الذي اختاره الرب، لأنه ليس مثله في جميع الشعب (1صم 10: 24). ونحن نهتف لرب الأرباب وملك الملوك، ونقول: «من مثلك بين الآلهة يا رب؟ من مثلك معتزّاً في القداسة، مخوفاً بالتسابيح، صانعاً عجائب؟» (خر 15: 11).
(ب) الهتاف للمنتصر: «ترنمي.. افرحي وابتهجي.. الرب في وسطك جبار يخلِّص. يبتهج بك فرحاً. يسكت في محبته. يبتهج بك بترنُّم» (صف 3: 14، 17). ونحن نهتف للملك المنتصر الذي هزم الشيطان والخطية والموت، ولنقُل: «أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟.. شكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح» (1كو 15: 55، 57).
3 – لأنه يوم عيد: «ارفعوا نغْمةً، وهاتوا دُفاً وعوداً حُلواً مع رباب. انفخوا في رأس الشهر بالبوق عند الهلال ليوم عيدنا» (آيتا 2، 3). يحتفل الناس بالعيد لأنه ذكرى حادثة مفرحة، والاحتفال بعيد المظال يذكِّر شعب الرب بحادثة مضت هي إعالة شعب كامل في صحراء مدة أربعين سنة، كما أنه يدفعهم لرفع الشكر لله الذي أعطى الحصاد. فيجب أن يشكر الشعب إلهه على ما كان وما هو كائن، بنغمة عالية، مصحوبة بـ«دف» وهو نوع من الطبل، تُعلَّق في أطرافه أجراس صغيرة، فيهزُّ الطبال الدف فتقرع الأجراس، وبأصابع يده الأخرى يضرب على جلد الطبلة. وبمصاحبة «عود» وهو آلة ذات أوتار ربما يصل عددها إلى عشرة، وهو سهل الحمل. وبعزف «رباب» وهي آلات وترية مرتفعة النغم من بعض أنواع القيثار. و«البوق» وهو آلة موسيقية كالقرن، وكانت أبواق الكهنة من الفضة.
يطلب المرنم من الشعب أن يرتلوا لله بآلات موسيقية مختلفة الرنين، لكنها متوافقة، ويطالبهم أن «يرفعوا نغمةً» تليق بالإله العلي، وأن «ينفخوا» بكل ما في باطنهم بفكر واحد وقلب واحد للإله الواحد.
4 – لأنه واجب: «لأن هذا فريضةٌ لإسرائيل، حكمٌ لإله يعقوب. جعله شهادة في يوسف عند خروجه على أرض مصر. سمعتُ لساناً لم أعرفه» (آيتا 4، 5). الاحتفال بالعيد واجب وفرضٌ على شعب الرب، لأنه يستحق الشكر. لقد اعتنى بشعبه قبل سنوات التيه، كما اعتنى بهم أثناءها. وعنايته أزلية أبدية، واضحة للعيان، شهادة للجميع. لقد قال ليعقوب النائم وحيداً في الصحراء: «ها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب.. لا أتركك حتى أفعل ما كلَّمتك به» (تك 28: 15). وأشهد الرب السماء والأرض على عنايته العظيمة أيام أخرج يوسف من سجن فرعون ليجعله رئيس وزراء مصر، بدونه لا يرفع إنسانٌ يده ولا رِجله في كل أرض مصر (تك 41: 44). ولما جاء فرعون جديد لم يكن يعرف يوسف، وأذلَّ بني إسرائيل خرج الرب بقوته على أرض مصر وعاقب فرعون، وأطلق الأسرى أحراراً.
وعند حدوث هذه المعجزات سمع شعب الله لغةً لم يسبق لهم أن عرفوها، هي لغة الفداء والخلاص والحرية. لقد تعوَّدوا الذل ولم يعرفوا السيادة، فجاءتهم لغةٌ جديدة تقول: «الرب إلهك هو الله الإله الأمين الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل» (تث 7: 9).

ثانياً – نصيحة إلهية
(آيات 6-10)
1 – لنذكر فعل الله العجيب: (آيتا 6، 7).
(أ) حرية من الاستعباد: «أبعدتُ من الحمل كتفه. يداه تحوَّلتا عن السَّلِّ» (آية 6). فعل الله مع شعبه أموراً فريدة، وغير عادية، وغير متوقَّعة، وفائقة الطبيعة، ولا يمكن أن تُنسى.. كان بنو إسرائيل يحملون الطوب على أكتافهم، فأنقذ الله الكتف المستعبَدة بأن أبعدها عن حِمل الطوب، ونقلها إلى مكان فيه حرية وكرامة! وكانوا يصنعون السلال بأيديهم، ثم يحملون فيها الطين والتبن، فحوَّل الله أيديهم عن عمل السلال وعن حملها.
(ب) نجاة من الضيق: «في الضيق دعوتَ فنجَّيتك» (آية 7أ). يربط الله بين بني إسرائيل الذين يخاطبهم المرنم وجدودهم القدماء، فيقول إنهم دعوا الرب في ضيقهم فنجاهم، وهو القائل: «ادعُني في يوم الضيق أنقذك فتمجدَني» (مز 50: 15) «تنهَّد بنو إسرائيل من العبودية وصرخوا، فصعد صراخهم إلى الله.. فسمع الله أنينهم» (خر 2: 23، 24). هذا الإله المحب «نجّانا من موتٍ.. وهو ينجي، الذي لنا رجاءٌ أنه سينجي أيضاً فيما بعد» (2كو 1: 10).
(ج) أسرار الرعد: «استجبتك في ستر الرعد» (آية 7ب). أعلن الله قوته وخلاصه لشعبه في ستر الرعد، (والرعد ظاهرة طبيعية لم يكن الشعب القديم يعرف لها تفسيراً). والمعنى أن الله استجاب شعبه بطريقة سرية لا يفهمونها، لكنهم يرون نتائجها المعجزية. «وكان في هزيع الصبح أن الرب أشرف على عسكر المصريين في عمود النار والسحاب وأزعج عسكر المصريين» (خر 14: 24).. وأعلن الله ذاته لشعبه في إعطائهم الشريعة في ستر الرعد أيضاً وأسراره، فقد «صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل وصوت بوق شديد جداً» (خر 19: 16). وهكذا أعلن الرب في الرعد أسرار الخلاص، وأسرار الشريعة.
(د) ماء للعِطاش: «جرَّبتُك على ماء مريبة» (آية 7ج). مريبة اسم عبري معناه خصام، وهو اسم نبع ماء خرج من الصخر عندما ضربه موسى بأمرٍ إلهي، بعد أن خاصم بنو إسرائيل موسى لأنهم عطشوا، ويُطلَق عليه أيضاً اسم «مسَّة» بمعنى تجربة، فقد تساءل بنو إسرائيل وقت عطشهم إن كان الرب في وسطهم أم لا (خر 17: 7). ومن أعمال الله الفريدة أنه يعتني بالشعب المخاصم المتسائل عن وجوده بالرغم من كل معجزاته، فيستمر يعتني بهم ويُحسن إليهم، ويرويهم من الصخر! (راجع عدد 20: 13). ويحذرنا الوحي من إعادة خطأ بني إسرائيل، فيقول: «إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم كما في الإسخاط يوم التجربة في القفر، حيث جرَّبني آباؤكم.. انظروا أيها الإخوة أن لا يكون في أحدكم قلبٌ شرير بعدم إيمانٍ في الارتداد عن الإله الحي، بل عظوا أنفسكم كل يوم.. لكي لا يُقسَّى أحدٌ منكم بغرور الخطية» (عب 3: 7-13).
2 – لنُطِع الله: (آيات 8-10).
(أ) تحذير: «اسمع يا شعبي فأحذِّرك. يا إسرائيل، إن سمعتَ لي» (آية 8). الأمر «اسمع» يذكرنا بالوصية الأولى والعظمى: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك» (تث 6: 4، 5). وفي بداية النُّصح بطاعة الله يحذر الرب شعبه من خطورة العصيان، وينبِّههم لبركات الطاعة. وقد تكرر هذا التحذير عبر العصور، فقال الله : «ربَّيتُ بنين ونشَّأتُهم، أما هم فعصوا عليَّ.. تركوا الرب. استهانوا بقدوس إسرائيل. ارتدوا إلى الوراء.. اغتسِلوا. تنقّوا. اعزِلوا شرَّ أفعالكم من أمام عينيَّ. كفّوا عن فعل الشر. تعلَّموا فعل الخير.. إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمردتم تُؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم» (إش 1: 2، 4، 16، 17، 19، 20). وقال المسيح: «إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون» (لو 13: 3).. ولكن الله الذي ينصح بالطاعة لا يُجبر أحداً على طاعته، فهو يحترم حرية الإرادة التي أعطاها للإنسان، ويقول له: «إن سمعتَ لي».
(ب) أمر: «لا يكن فيك إلهٌ غريب، ولا تسجد لإله أجنبي» (آية 9). بدأت الوصايا العشر بالقول: «أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي» (تث 5: 6، 7). وقال المسيح: «لا يقدر أحدٌ أن يخدم سيِّدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (مت 6: 24). ولما كانت خدمة سيِّدين مستحيلة، قال إيليا للشعب: «حتى متى تعرجون بين الفرقتين؟ إن كان الرب هو الله فاتَّبعوه، وإن كان البعل فاتَّبعوه» (1مل 18: 21).
(ج) وعد: «أنا الرب إلهك الذي أصعدك من أرض مصر. أَفغِر فاك فأملأه» (آية 10). كان الرب مع شعبه فأنقذهم بمعجزات الخروج من مصر، ولا زال يريد أن يُشبع شعبه بقدر إيمان الشعب وانتظاره، فكلما فغر المؤمن فاه بجوعٍ وشوق إلى النعمة ملأ الرب فمه بالخير. وقال موسى في نشيده، بعد تدوين التوراة: «إن قِسم الرب هو شعبه. يعقوب حبل نصيبه. وجده في أرض قفرٍ وفي خلاءٍ مستوحش خرِبٍ. أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه.. أركبه على مرتفعات الأرض، فأكل ثمار الصحراء، وأرضعه عسلاً من حجر، وزيتاً من صوّان الصخر» (تث 32: 9، 10، 13).. وقال المسيح: «طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يُشبَعون» (مت 5: 6). وكان يقول لطالبيه: «حسب إيمانك ليكن لك» (مت 9: 29).

ثالثاً – عقاب العصيان
(آيات 11-16)
1 –تسليم العاصي لعصيانه: «فلم يسمع شعبي لصوتي، وإسرائيل لم يرضَ بي، فسلَّمتُهم إلى قساوة قلوبهم ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم» (آيتا 11، 12). عندما يعصى إنسانٌ الربَّ يدفع أجرة اختياره الخاطئ، ويحل به غضب الرب وعقابه. وأقسى عقاب هو أن يترك الله الخاطئ يسلك حسب هواه! وقد طبَّق بِلدد الشوحي هذا المبدأ في قوله لأيوب: «إذْ أخطأ إليه بنوك دفعهم إلى يد معصيتهم» (أي 8: 4) والمبدأ هنا صحيح، ولكن تطبيقه على أبناء أيوب كان خاطئاً. وقال الحكيم: «لم يرضوا مشورتي. رذلوا كل توبيخي، فلذلك يأكلون من ثمر طريقهم، ويشبعون من مؤامراتهم» (أم 1: 30، 31). وقال الرسول بولس عن عُبّاد الوثن: «أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشِبه صورة الإنسان الذي يفنى، والطيور والدواب والزحافات. لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم. الذين استبدلوا حق الله بالكذب، واتَّقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق.. لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان» (رو 1: 23-26). وقال أيضاً في الذين يرفضون خلاص المسيح: «لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلُصوا، ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدِّقوا الكذب، لكي يُدان جميع الذين لم يصدقوا الحق، بل سُرُّوا بالإثم» (2تس 2: 10-12). فلنطلب من الله أن يعيننا على طاعته، ولا يتركنا لجهالة قلوبنا. ولنصلِّ: «لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضيَّة أمامك يا رب، صخرتي ووليي» (مز 19: 14).
2 – حرمان العاصي من البركة: (آيات 13-16).
(أ) حرمان من بركة النصر: «لو سمع لي شعبي وسلك إسرائيل في طرقي، سريعاً كنتُ أُخضِع أعداءهم، وعلى مضايقيهم كنت أردُّ يدي. مبغضو الرب يتذللون له، ويكون وقتهم إلى الدهر» (آيات 13-15). المفروض أن شعب الرب منصور بالرب، لأنهم شعبه، ولأنه يعتبر أعداءهم أعداءه. ولكن هذا الانتصار مشروط بطاعتهم للرب، فلو سلك شعب الرب في طرق الرب لانهزم مضايقوهم وأعداؤهم أمامهم لأن الابتعاد عن طرق الرب خراب وذل، كما أن الرب لا بد يوقع الذل والخراب بمبغضيه.. أما شعبه فيكون «وقتهم إلى الدهر»، لأنهم يتمتعون به وبعطاياه في حياتهم الحاضرة والمستقبَلة، فتكون لهم حياة، ويكون لهم أفضل (يو 10: 10). لقد قال الله: «أنا الرب إلهك، معلِّمك لتنتفع، وأمشِّيك في طريق تسلك فيه. ليتك أصغيت إلى وصاياي، فكان كنهرٍ سلامك وبرُّك كلُجج البحر» (إش 48: 17، 18). ولكن شعبه لم يسمعوا له، فأصابهم ما أصاب أورشليم التي قال المسيح لها: «يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسَلين إليها، كم مرةٍ أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا. هوذا بيتكم يُترَك لكم خراباً» (مت 23: 37، 38).
والمقصود بهذا التحذير السماوي أن يجنِّبنا الهزيمة، ويفتح عيوننا إلى طريق الانتصار. فلنثبت في الرب ونتبعه بكل القلب، فنقدر أن نقول: «يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 37).
(ب) حرمان من الشِّبع: «وكان أطعمه من شحم الحنطة، ومن الصخر كنت أُشبعك عسلاً» (آية 16). يُشبع الرب شعبه الذي يطيعه من كل خيراته، فيقولون مع المرنم: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء.. ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقيَّ. مسحت بالدهن رأسي. كأسي ريا» ( مز 23: 1، 5).. لقد سبق أن أطعم الرب شعبه «شحم الحنطة» (مز 147: 14) و«دسم لُبّ الحنطة» (تث 32: 14)، أي أفضل حنطة، وأفضل ما في الحنطة. كما سبق أن أشبعهم عسلاً من صخور صحراء سيناء و«أرضعهم عسلاً من حجر» (تث 32: 13).. ولا زال يحب أن يُشبع شعبه فهو الذي قال في مزمورنا: «أَفغِر فاك فأملأه» (آية 10). ويمكن أن يزيد فهمنا لبركة الامتلاء من الشبع عندما نشاهد طائراً يطعم فراخه في العش، وهي تفتح أفواهها عن آخرها لتنال حظها من الطعام. ولا يمكن أن يبقى الفرخ الصغير على قيد الحياة بدون رعاية الطائر له. ونحن لا نحيا ولا نتحرك ولا نوجد بدون رعاية الله وعنايته بنا.. فلماذا نعصاه فنحرم نفوسنا من كل هذه البركات التي يريد أن يعطيها لنا. إن الرغبة في الحصول على كل هذه البركات تدفعنا لنحيا حياة الطاعة لأبينا السماوي.

اَلْمَزْمُورُ الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ
مَزْمُورٌ لآسَافَ
1 اَللهُ قَائِمٌ فِي مَجْمَعِ اللهِ. فِي وَسَطِ الآلِهَةِ يَقْضِي. 2حَتَّى مَتَى تَقْضُونَ جَوْراً وَتَرْفَعُونَ وُجُوهَ الأَشْرَارِ؟ سِلاَهْ. 3اِقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ. أَنْصِفُوا الْمِسْكِينَ وَالْبَائِسَ. 4نَجُّوا الْمِسْكِينَ وَالْفَقِيرَ. مِنْ يَدِ الأَشْرَارِ أَنْقِذُوا.
5لاَ يَعْلَمُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ. فِي الظُّلْمَةِ يَتَمَشُّونَ. تَتَزَعْزَعُ كُلُّ أُسُسِ الأَرْضِ. 6أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ، وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ. 7لَكِنْ مِثْلَ النَّاسِ تَمُوتُونَ، وَكَأَحَدِ الرُّؤَسَاءِ تَسْقُطُونَ. 8قُمْ يَا اللهُ. دِنِ الأَرْضَ، لأَنَّكَ أَنْتَ تَمْتَلِكُ كُلَّ الأُمَمِ.

أوامر للحكام والقضاة
هذا المزمور موجَّه لكل صاحب سلطة يحتل مكانة قيادية، يؤكد له أنه مسؤول أمام الرب سيد الأرض كلها. إنه مزمور للقضاة، يطالبهم أن يحكموا بالعدل بعد أن فوَّضهم الله أن ينوبوا عنه في إقرار العدالة وأعطاهم سلطاناً أن يصدروا حكماً على شخص بالموت وعلى آخر بالبراءة، فهم بتكليف منه، وتطبيقاً لشريعته يقومون مقامه ويمثلونه في إقرار العدالة. كما أن هذا المزمور موجَّه لكل رئيس عمل في موقعه، ولكل رئيس دولة في بلاده، ولكل رب بيت في عائلته ليكونوا عادلين منصفين مع من أوكل الله لهم تدبير أمورهم. وواضحٌ أن الامتيازات التي يمنحها الله للمسؤولين ليست لتمتُّعهم الشخصي فقط، ولكنها لخدمة كل الذين كلَّفهم بخدمتهم، فكل امتياز العظيم يحمل معه مسؤولية عظيمة.
ولا ندري المناسبة التي دفعت المرنم آساف أن يكتب هذا المزمور. الأغلب أنه لا توجد مناسبة خاصة، لأن الظلم منتشر في كل مكان ولم يتوقف. ولعل المرنم انفعل وهو يسمع عن قاضٍ ظلم أرملة، أو رئيس دولة أصدر قانوناً لمصلحته الشخصية، أو رب أسرة طلَّق السيدة التي تزوجها أيام فقره ليتزوج بغيرها بعد أن نال حظاً من المال، أو لأبٍ يفرِّق في المعاملة بين أولاده!.. فمناسبة كتابة هذا المزمور هي كل يوم، كما قال النبي إشعياء: «انتصب الرب للمخاصمة، وهو قائم لدينونة الشعوب. الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم.. ما لكم تسحقون شعبي وتطحنون وجوه البائسين؟» (إش 3: 13، 15).. ولكن المزمور يرينا جانباً آخر، فهو ينتهي بأن يعلن لنا أن الله هو ديان القضاة والمتقاضين، ولا بد أن يُرسي قواعد العدالة، «لأنه حينما تكون أحكامك في الأرض يتعلم سكان المسكونة العدل» (إش 26: 9).

في هذا المزمور نجد:
أولاً – الله يراقب القضاة (آية 1)
ثانياً – الله يقاضي القضاة (آيات 2-4)
ثالثاً – الله يوبخ القضاة (آيات 5-7)
رابعاً – الله القاضي العادل (آية 8)

أولاً – الله يراقب القضاة
(آية 1)
1 – الله موجود في المحكمة: «الله قائم في مجمع الله» (آية 1أ). يمكن أن تُترجم هذه الآية «الله قائم في مجمع الأقوياء» أو «في مجمع النبلاء والشرفاء» باعتبار أن المحكمة تنعقد وتجتمع بتكليف من الله، وأنها تحت سلطانه، فهو يراقب تصرفات القضاة الأقوياء وأولياء الأمور النبلاء والشرفاء، كما قال موسى لحميه: «الشعب يأتي إليَّ ليسأل الله. إذا كان لهم دعوى يأتون إليَّ، فأقضي بين الرجل وصاحبه، وأعرِّفهم فرائض الله وشرائعه» (خر 18: 15، 16)، وكما قال سليمان الحكيم: «إن رأيتَ ظلم الفقير ونزْعَ الحق والعدل في البلاد فلا ترتَعْ من الأمر، لأن فوق العالي عالياً يُلاحظ، والأعلى فوقهما» (جا 5: 8).. والكنيسة هي مجمع الله حسب قول المسيح: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20)، ولهذا يقول الوحي: «أيتجاسر منكم أحدٌ له دعوى على آخر أن يُحاكم عند الظالمين، وليس عند القديسين؟» (1كو 1:6).
2 – الله يقضي بواسطة القضاة: «في وسط الآلهة يقضي» (آية 1ب). يحتل القضاة مكانة عظيمة لذلك يسميهم «آلهة» لأن سلطانهم في الحكم هو من عند الله، ولأنهم يجب أن يحكموا بشريعة الله. والمسؤولون أصحاب المراكز العالية عندما يجتمعون معاً لإصدار الأحكام، لا يجب أن يظنوا أن السلطات الممنوحة لهم تفوِّضهم ليحكموا كما يريدون، فإن الله قائم وسطهم، ويصدر أحكامه العادلة بواسطتهم، ولا بد أن يقدموا له حساباً عن وكالتهم. قبل وفاة موسى قال للرب: «ليوكل الرب إله أرواح جميع البشر رجلاً على الجماعة، يخرج أمامهم ويدخل أمامهم، ويُخرِجهم ويُدخِلهم، لكيلا تكون جماعة الرب كالغنم التي لا راعي لها». فقال الرب لموسى: «خُذ يشوع بن نون رجلاً فيه روح (أي روح الله)، وضَعْ يدك عليه، وأوقِفه قدام ألعازار الكاهن وقدام كل الجماعة، وأوصِه أمام أعينهم، واجعل من هيبتك عليه لكي يسمع له كل جماعة بني إسرائيل» (عدد 27: 15-21).
أعطى الله القضاة والقادة والمسؤولين ألقاباً عظيمة ومسؤوليات كبيرة، وجعلهم ممثلين له. فما أعظم الشرف، وما أرهب المسؤولية!

ثانياً – الله يقاضي القضاة
(آيات 2-4)
1 – لأنهم رفعوا الشرير: «حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار؟ سلاه» (آية 2). في هذه الآية والتي تليها يوجِّه الله الاتهام للقضاة بأنهم ظلموا الناس وجاملوا الأشرار على حساب المساكين، ويسألهم «حتى متى؟» لينبِّههم لتقييم تصرفاتهم، وليعطيهم فرصةً للدفاع عن أنفسهم. لقد نهى عن الحكم الجائر قائلاً: «لا ترتكبوا جوراً في القضاء. لا تأخذوا بوجه مسكين، ولا تحترم وجه كبير. بالعدل تحكم لقريبك» (لا 19: 15). وكلمة «سلاه» تعني وقفة موسيقية، وقد تعني رفع اللحن الموسيقي، وقد تعني التأمل في ما يُسمع، لأن الله يعطي القضاة فرصة ليفكروا في الاتهام الذي يوجِّهه لهم وليستعدوا للرد عليه. وتوبيخ الله هذا يشبه توبيخه لفرعون: «إلى متى تأبى أن تخضع لي؟ أطلِق شعبي ليعبدوني» (خر 10: 3).. وما أكثر ما نقع في خطأ مجاملة الأغنياء على حساب الفقراء، حتى أن مؤمني الكنيسة الأولى كانوا يقدمون الغني إلى مكان أمامي، وأما المسكين فكانوا يُجلسونه في مكان حقير (يع 2: 1-9). ولما دخل الزعيم الهندي المهاتما غاندي إحدى كنائس جنوب أفريقيا طلب منه المشرف على النظام أن يجلس في صفوف السود، لا البيض، فقال غاندي: «لولا المسيحيين لصرت مسيحياً». ونحن نقف أمام هذه الآية في خجل، لأننا نشترك في الخطأ مع القضاة الذين وجَّه الله إليهم توبيخه هذا.
2 – لأنهم ظلموا المسكين: «اقضوا للذليل ولليتيم. أنصفوا المسكين والبائس. نجّوا المسكين والفقير. من يد الأشرار أنقِذوا» (آيتا 3، 4). يمثل الحاكم والقاضي عدالة الله الذي يطالبهم بالقضاء للذليل واليتيم فيصغون لشكواه، ويمنحونه فرصة طلب العدالة. ويأمرهم بإنصاف للمسكين والبائس فيمنحونه حقوقه المشروعة، وينقذونه من يد الشرير الظالم. وهو أمر يتكرر على صفحات كتاب الله «تعلَّموا فعل الخير. اطلبوا الحق. أنصِفوا المظلوم. اقضوا لليتيم. حاموا عن الأرملة» (إش 1: 17)، كما أنه تحذير متكرر «ويل للذين يقضون أقضية البُطل، وللكتبة الذين يسجِّلون جوراً، ليصدّوا الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حقَّ بائسي شعبي، لتكون الأرامل غنيمتهم، وينهبوا الأيتام. وماذا تفعلون في يوم العقاب حين تأتي التهلكة من بعيد. إلى من تهربون للمعونة؟» (إش 10: 1–3).
هذا نداء إلهي من الله للقضاة وأرباب الأمور كلٍّ في موقعه بحسب مسؤوليته، لينصف الحاكم شعبه، والقاضي طالبي العدالة، وصاحب العمل عُمّاله، ورب البيت زوجته وأولاده.

ثالثاً – الله يوبخ القضاة
(آيات 5-7)
1 – الله يوبخ القاضي الجاهل: «لا يعلمون ولا يفهمون. في الظلمة يتمشَّون. تتزعزع كل أسس الأرض» (آية 5). معرفة الشريعة قبل تطبيقها هي مسؤولية القاضي الأولى، وهي أساس تعيينه للقيام بوظيفته. وقد صلى سليمان: «أيها الرب إلهي، أنت ملَّكتَ عبدك مكان داود أبي، وأنا فتى صغير لا أعلم الخروج والدخول.. فأعطِ عبدك قلباً فهيماً لأحكم على شعبك، وأميِّز بين الخير والشر، لأنه من يقدر أن يحكم على شعبك العظيم هذا؟» (1مل 3: 7، 9). ولكن هؤلاء القضاة أهملوا الشريعة واختاروا عدم فهم كلمة الرب، وتقلَّدوا الكبرياء، ولبسوا كثوبٍ ظلمهم، مع أن الله ينادي: «إلى الشريعة وإلى الشهادة. إن لم يقولوا مثل هذا القول فليس لهم فجر» (إش 8: 20) فإن إشراق نور الفجر مرتبط بالرجوع إلى الشريعة والشهادة التي هي «سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي» (مز 119: 105). «إذا دخلت الحكمة قلبك ولذَّت المعرفة لنفسك، فالعقل يحفظك والفهم ينصرك، لإنقاذك من طريق الشر ومن الإنسان المتكلم بالأكاذيب» (أم 2: 10-12) «لأن الوصية مصباح والشريعة نور، وتوبيخات الأدب طريق الحياة» (أم 6: 23).
ونتيجةً لجهل القاضي الذي يقول «ليس إله» تتزعزع كل أسس الأرض، لأن الأعمدة الأخلاقية تتقلقل، و«إذا انقلبت الأعمدة، فالصدِّيق ماذا يفعل؟» (مز 11: 3). حقاً «هلك شعبي من عدم المعرفة» (هو 4: 6)، فقد «أحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة، لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا تُوبَّخ لأعماله» (يو 3: 19، 20).
2 – الله يذكِّر القاضي بمكانته: (آية 6). في توبيخ القضاة يذكِّرهم الرب بالمكانة الرفيعة التي منحها لهم:
(أ) إنهم آلهة: «أنا قلتُ إنكم آلهة» (آية 6أ). كانت الشريعة تقضي في حالة عدم معرفة الشخص الذي سرق أن «يُقدَّم صاحب البيت إلى الله ليحكم.. في كل دعوى جناية.. تُقدَّم إلى الله دعواهما. فالذي يحكم الله بذنبه يعوِّض صاحبه» (خر 22: 8، 9). والقاضي هنا ينوب عن الله، بتكليف من الله، أن يطبق شرع الله «لأن القضاء لله» (تث 1: 17) وقال الملك يهوشافاط للقضاة الذين أقامهم: «انظروا ما أنتم فاعلون، لأنكم لا تقضون للإنسان بل للرب، وهو معكم في أمر القضاء. والآن لتكن هيبة الرب عليكم» (2أخ 19: 6، 7). ويقول الإنجيل: «لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتَّبة من الله، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله» (رو 13: 1، 2).
وقد اقتبس المسيح هذه الآية عندما أعلن: «أنا والآب واحد» (يو 10: 30)، فتناول اليهود حجارة ليرجموه، فقال لهم: «أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي. بسبب أي عمل منها ترجمونني؟» أجابوه: »لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف. فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً». فقال المسيح: «أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة؟ إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله- ولا يمكن أن يُنقض المكتوب- فالذي قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله؟ إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي. ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي، فآمنوا بالأعمال، لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيَّ وأنا فيه» (يو 10: 31-38).
(ب) إنهم أبناء العلي: «وبنو العلي كلكم» (آية 6ب). هذا اللقب الثاني يبيِّن أن اللقب الأول «إنكم آلهة» ذو معنى روحي لأن اللقب الثاني ذو معنى روحي أيضاً، فلا توجد ولادة جسدية من الله، ولكنها ولادة من فوق من الماء والروح (يو 3: 3، 5). وهي ما جاء المسيح ليهبه للذين يؤمنون به «أما كل الذين قبلوه (المسيح) فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه، الذين وُلدوا من الله» (يو 1: 12، 13). وبهذا صاروا «شركاء الطبيعة الإلهية» (2بط 1: 4). فما أعظم المحبة التي أعطاها لنا الله حتى نُدعى أولاده (1يو 3: 1). فمسؤوليتنا أن نكون طاهرين كما هو طاهر، وقديسين كما أنه قدوس. «نظير القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة» (1بط 1: 15).
3 – الله يعلن أن القاضي يُعاقَب: «لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون» (آية 7). صحيح أن الله منحهم سلطات من سلطاته، ولكن فشلهم في تحقيق انتظارات الله منهم يوقع بهم عقاب الموت، شأنهم شأن كل نفس تخطئ فتموت (حز 18: 4). وكل من لا يطيع كلمة الله يدين نفسه ويحكم عليها، لأن «أجرة الخطية هي موت» (رو 6: 23). ويروي المزمور التالي (مز 83) أخبار الملوك والرؤساء الذين سقطوا وهلكوا بسبب ظلمهم (مز 83: 9-11).

رابعاً – الله القاضي العادل
(آية 8)
«قُم يا الله دِن الأرض. لأنك أنت تمتلك كل الأمم» (آية 8). عرف المرنم أن الله يقضي على قضاة شعبه الذين لم ينصفوا الذليل واليتيم والمسكين والبائس والفقير، فقرر أن يرفع قضيته للقاضي العادل الذي ينصفه وينصف كل مظلوم. لقد رأى في مطلع مزموره الله «قائماً» ولكن القضاة عطلوا عدالة القضاء، فطلب من الله أن يأخذ بيده زمام أمور الأرض كلها، لأنه صاحب السلطان الذي يمتلك الأمم كلها. «الرب يدين الشعوب. اقضِ لي يا رب كحقي» (مز 7: 8) «لأن الرب عليٌّ مخوف، ملكٌ كبير على كل الأرض» (مز 47: 2). إنه القاضي العادل الذي يحوِّل ظلم الشرير إلى بركة للمؤمن، كما قال يوسف لإخوته: «أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به خيراً» (تك 50: 20).
أيها المؤمن، قضيتك لم تكن أبداً ولن تكون في يد إنسان، لكنها دوماً في يد الرب الذي يحلها بيد من يكلفهم بحلِّها، أو بتدخُّله هو شخصياً. فدعونا نلجأ إلى ملك الأرض كلها لنسمع منه الكلمة الحلوة: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 28: 18).
«لأنك أنت تمتلك كل الأمم».

اَلْمَزْمُورُ الثَّالِثُ وَالثَّمَانُونَ
تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لآسَافَ
1 اَللهُمَّ، لاَ تَصْمُتْ. لاَ تَسْكُتْ وَلاَ تَهْدَأْ يَا اللهُ، 2فَهُوَذَا أَعْدَاؤُكَ يَعِجُّونَ، وَمُبْغِضُوكَ قَدْ رَفَعُوا الرَّأْسَ. 3عَلَى شَعْبِكَ مَكَرُوا مُؤَامَرَةً، وَتَشَاوَرُوا عَلَى أَحْمِيَائِكَ. 4قَالُوا: «هَلُمَّ نُبِدْهُمْ مِنْ بَيْنِ الشُّعُوبِ، وَلاَ يُذْكَرُ اسْمُ إِسْرَائِيلَ بَعْدُ».
5لأَنَّهُمْ تَآمَرُوا بِالْقَلْبِ مَعاً. عَلَيْكَ تَعَاهَدُوا عَهْداً. 6خِيَامُ أَدُومَ وَالإِسْمَاعيلِيِّينَ. مُوآبُ وَالْهَاجَرِيُّونَ. 7جِبَالُ وَعَمُّونُ وَعَمَالِيقُ. فَلَسْطِينُ مَعَ سُكَّانِ صُورٍ. 8أَشُّورُ أَيْضاً اتَّفَقَ مَعَهُمْ. صَارُوا ذِرَاعاً لِبَنِي لُوطٍ. سِلاَهْ
9اِفْعَلْ بِهِمْ كَمَا بِمِدْيَانَ، كَمَا بِسِيسَرَا، كَمَا بِيَابِينَ فِي وَادِي قِيشُونَ. 10بَادُوا فِي عَيْنِ دُورٍ. صَارُوا دِمْناً لِلأَرْضِ. 11اجْعَلْ شُرَفَاءهُمْ مِثْلَ غُرَابٍ وَمِثْلَ ذِئْبٍ، وَمِثْلَ زَبَحَ وَمِثْلَ صَلْمُنَّاعَ كُلَّ أُمَرَائِهِمُِ. 12الَّذِينَ قَالُوا: «لِنَمْتَلِكْ لأَنْفُسِنَا مَسَاكِنَ اللهِ».
13يَا إِلَهِي، اجْعَلْهُمْ مِثْلَ الْجُلِّ، مِثْلَ الْقَشِّ أَمَامَ الرِّيحِ، 14كَنَارٍ تُحْرِقُ الْوَعْر،َ كَلَهِيبٍ يُشْعِلُ الْجِبَالَ. 15هَكَذَا اطْرُدْهُمْ بِعَاصِفَتِكَ، وَبِزَوْبَعَتِكَ رَوِّعْهُمُِ. 16امْلأْ وُجُوهَهُمْ خِزْياً فَيَطْلُبُوا اسْمَكَ يَا رَبُّ. 17لِيَخْزُوا وَيَرْتَاعُوا إِلَى الأَبَدِ، وَلْيَخْجَلُوا وَيَبِيدُوا، 18وَيَعْلَمُوا أَنَّكَ اسْمُكَ يَهْوَهُ. وَحْدَكَ الْعَلِيُّ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ.

استغاثة ضد حلف الشرير
يجد قارئ المزامير في كثير منها أن عدواً قوياً يقاوم المؤمن، أو يهاجم شعب الرب، ويكتشف أن مملكة شريرة تقاوم ملكوت الله. ومع أن الأتقياء يخافون ويتزعزعون أحياناً، لكنهم دائماً يجدون ملجأهم الوحيد في ربهم الثابت الباقي، فيتعلَّقون به لينقذهم وينصرهم. وعبر التاريخ كله عندما حاصر أعداء الرب شعب الرب، وعجز الأتقياء عن مواجهتهم، تدخَّلت عناية الرب لتنقذ جماعته.
والمناسبة التي كُتب فيها هذا المزمور مناسبة هجوم شامل من كل جهة على شعب الرب، عجزوا عن مقابلته. فتدخلت اليد الإلهية العليا لتدفع العدو بعيداً وتحمي شعب الرب الضعيف، لأن الوعد يقول: «عندما يأتي العدو كنهر فنفخة الرب تدفعه» (إش 59: 19). وربما كانت مناسبة كتابة هذا المزمور قدوم حلفٍ قوي ضد الملك التقي يهوشافاط، فيقول المؤرخ المقدس: «أتى بنو موآب وبنو عمون، ومعهم العمونيون على يهوشافاط للمحاربة. فجاء أناس وأخبروا يهوشافاط قائلين: قد جاء عليك جمهور كثير من عبر البحر من أرام، وها هم في حصون تامار (هي عين جدي). فخاف يهوشافاط ورفع وجهه ليطلب الرب» (2أي 20: 1-3) وقال: «لا نعلم ماذا نعمل، ولكن نحوك أعيننا». فأرسل الرب واحداً من بني آساف، اسمه يَحْزَئيل بن زكريا اللاوي، كان عليه روح الرب، ليقول للملك وللشعب: «لا تخافوا ولا ترتاعوا بسبب هذا الجمهور الكثير، لأن الحرب ليست لكم بل لله.. قفوا وانظروا خلاص الرب معكم». وكان الترتيل هو السلاح العجيب، فقد أقام الملك يهوشافاط مرتِّلين ومسبِّحين يهتفون: «احمدوا الرب لأن إلى الأبد رحمتَه». واستجاب الرب ونجَّى شعبه بأن نصب أكمنةً للأعداء فسقطوا جميعهم فيها (2أي 20: 14-22)، فإن «اسم الرب برجٌ حصين يركض إليه الصديق ويتمنَّع» (أم 18: 10). «معونتي من عند الرب صانع السماء والأرض» (مز 121: 2).
فلنشكر الله على يهوشافاط وعلى كل أقلية ترى الله فوق كل القوى المعادية «لأن فوق العالي عالياً يلاحظ، والأعلى فوقهما» (جا 5: 8). ويصدُق هذا على سلامة شعب الرب الأَمْنيَّة والروحية. فعندما يأسر إبليس شخصاً، يعجز عن الفكاك من مخالبه، تتنازل اليد العلوية الرفيعة القادرة وترفعه من دائرة الموت وتنقله إلى رحب الحياة. وفي سبيل إنقاذ البشر من أسر الشيطان تنازلت يد المحبة الإلهية في المسيح ووصلت إلى عمق اليأس الذي انحدر البشر إليه لتخلِّصهم وتهبهم حرية مجد أولاد الله. «الكلمة صار جسداً، وحلَّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً.. ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمةً فوق نعمة. لأن الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا» (يو 1: 14، 16، 17).
في هذا المزمور نجد:
أولاً ـ وصف الخطر (آيات 1-8)
ثانياً – تشجيع من التاريخ (آيات 9-12)
ثالثاً – استغاثة (آيات 13-18)

أولاً – وصف الخطر
(آيات 1-8)
1 – الله صمت: «اللهم لا تصمت. لا تسكت ولا تهدأ يا الله» (آية 1). يبدو للخائف المرتعب أن الله صمت وسكت وهدأ ولم يعُد فاعلاً، ولكنه يعلم أنه سبق أن فعل وأنقذ، فيلجأ إليه صارخاً: «اللهم لا تصمت». وقد كرر المؤمنون الخائفون عبر العصور مثل هذه الصلاة «إليك يا رب أصرخ. يا صخرتي لا تتصامم من جهتي، لئلا تسكت عني فأشبه الهابطين في الجب» (مز 28: 1). وقال بعضهم: «قد تركني الرب، وسيدي نسيني» فأجابهم: «هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساك. على كفيَّ نقشتك» (إش 49: 14-16).
2 – الأعداء يستعدون: «فهوذا أعداؤك يعجّون، ومبغضوك قد رفعوا الرأس» (آية 2). يصف المرنم المؤمن أعداءه بأنهم أعداء الرب وأنهم يبغضون الرب. ومع أنه يتحدث عن الخطر المحدق به، إلا أنه يرى الله في جانبه، ولا عجب، فالمؤمن ثابت في المسيح ثبات الغصن في الكرمة (يو 15: 2)، وكل من يؤذي الغصن يؤثر على الكرمة، وكل من يمسه يمس حدقة عينه (زك 2: 8). وأعداء الرب يعجّون ويضجون. والعجيج هو ضجيج كثرة عدد الجنود القادمين لمهاجمة المرنم وشعبه، كما قال إشعياء: «ضجيج شعوب كثيرة تضج كضجيج البحر، وهدير قبائل تهدر كهدير مياه غزيرة» (إش 17: 12). وقد رفع الأعداء رؤوسهم في كبرياء، وهم واثقون من النصر «ولكن الله يسحق رؤوس أعدائه» (مز 68: 21).
3 – الأعداء يتآمرون: «على شعبك مكروا مؤامرةً، وتشاوروا على أحميائك. قالوا: هلم نُبِدهم من بين الشعوب، ولا يُذكر اسم إسرائيل بعد. لأنهم تآمروا بالقلب معاً. عليك تعاهدوا عهداً» (آيات 3-5). استعد الأعداء وجلسوا معاً يتآمرون ويتشاورون ضد جماعة الله، بهدف إبادتهم فلا يعود أحدٌ يذكرهم. ويرى المرنم أن المؤامرة الشريرة تستهدف المصالح الإلهية قبل كل شيء، فالشعب المستهدَف بالمؤامرة هو شعب الله، والمطلوب إبادتهم هم أحمياؤه الذين وعدهم بالحماية والحفظ، والذين يقولون: «لأنه يخبئني في مظلَّته في يوم الشر. يسترني بستر خيمته» (مز 27: 5).. ويرى المرنم أن المعاهدة التي عقدها الأعداء معاً في مؤامرتهم هي معاهدة ضد الله قبل أن تكون ضد شعب الله. ورغم كثرة عدد الأعداء واختلافهم في اللغة والجنس، إلا أن المؤامرة كانت قلبية بكل العزم والإصرار.
ولن تنجح مؤامرة الأعداء على شعب الله، فقد قال المسيح لبطرس: «أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18). كانت أبواب المدن القديمة تؤدي إلى ساحة واسعة يجلس فيها الحاكم وعظماء الأرض والقضاة. ويجلس الشيطان وجنوده في أبواب الجحيم يتآمرون على شعب الرب، لكنهم لن يقووا عليه، فقد قال المسيح: «خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي» (يو 10: 27-29).
4 – الأعداء كثيرون: «خيام أدوم والإسماعيليين. موآب والهاجريون. جبال وعمون وعماليق. فلسطين مع سكان صور. أشور أيضاً اتفق معهم. صاروا ذراعاً لبني لوط» (آيات 6-8). صرخ المرنم طالباً معونة الرب لأن المتآمرين عليه كثيرون، وقد جاءوا من كل جهة، فقد جنَّدت أشور، القوة الكبرى الشمالية، مجموعة شعوب ضد شعب الرب، فجاء الأدوميون من الجنوب الشرقي، وهم نسل عيسو شقيق يعقوب غير أنهم انقلبوا على أبناء عمومتهم، وكانوا يسكنون المنطقة الجبلية بين البحر الميت وخليج العقبة.. وجاء الإسماعيليون البدو الرُّحل من حدود مصر الشمالية الغربية، وهم إخوة غير أشقاء لإسحاق.. وجاء الموآبيون، وهم من نسل لوط من شرق البحر الميت.. وجاء الهاجريون من الشمال الشرقي.. وجاء «جبال» الذين سكنوا الجبال الشرقية من أرض أدوم.. وجاء العمونيون من عبر الأردن، وهم أعداء بني إسرائيل التقليديون.. وجاء العمالقة، أول الأعداء الذين هاجموا بني إسرائيل عندما خرجوا من أرض مصر (خروج 17).. وجاء الفلسطينيون من الغرب.. وجاء الصوريون من الشمال.. «لماذا ارتجَّت الأمم وتفكَّر الشعوب في الباطل؟ قام ملوك الأرض، وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه!» (مز 2: 1، 2). فإلى من يلجأ المرنم وشعبه الضعيف وسط هذا كله إلا إلى الله، يشكو له الخطر المحدق به!

ثانياً – تشجيع من التاريخ
(آيات 9-12)
يرجع المرنم بالذاكرة إلى حادثتين تاريخيتين جرتا في عصر القضاة، وهو أشد عصور بني إسرائيل ظلاماً، عندما نصر الله شعبه الضعيف على عدوين قويين، هما الكنعانيون والمديانيون، فيقول: «افعل بهم كما بمديان، كما بسيسرا، كما بيابين في وادي قيشون. بادوا في عين دور. صاروا دِمَناً للأرض. اجعل شرفاءهم مثل غراب ومثل ذئب. ومثل زَبَح ومثل صَلْمُنّاع كل أمرائهم، الذين قالوا: لنمتلك لأنفسنا مساكن الله» (آيات 9-12).
1 – النصرة على الكنعانيين: كان سيسرا قائداً لجيش الملك يابين ملك حاصور. وكانت مملكته تقع على شاطئ نهر قيشون الشرقي، فكان يسيطر على الطريق من السهل إلى البحر، فأذاق بني إسرائيل مرارة الذل مدة عشرين سنة. وقد شجعت دبورة النبية، قاضية بني إسرائيل، رجلاً اسمه باراق ليحارب سيسرا، وجرت الموقعة عند سفح جبل تابور، فانهزم سيسرا وهرب ماشياً إلى الشمال الشرقي فوصل إلى خيام حابِر القيني حيث قتلته زوجة حابر بأن دقَّت وتد الخيمة في صدغه أثناء نومه (قض 4). ويقول المرنم إن يابين وجيشه بادوا في عين دور، وهي مدينة في نفس الوادي الذي تقع فيه مدينتا تعنك ومجدّو (قض 5: 19 قارن يش 17: 11). وقد سقطت جثث جيش يابين بقيادة سيسرا على الأرض مثل الدِّمَن (أي مثل الزِّبل).

2 – النصرة على المديانيين: كان الملكان زَبَحُ (ومعنى اسمه ذبيحة) وصَلْمُنّاعُ (ومعنى اسمه إله الظلمة) ملكين على المديانيين، وكان يقود جيشيهما قائدان، اسم أحدهما غراب، واسم الآخر ذئب. وكان الأقدمون يسمّون أولادهم بأسماء غريبة كهذه لأنهم يتمنّون أن يكون الابن قوياً شرساً يهاجم الأعداء ويهزمهم. وكان المديانيون ينهبون محاصيل بني إسرائيل بعد حصادها، ويتركونهم نهباً للجوع. واجتمع المديانيون في وادي يزرعيل للهجوم على بني إسرائيل، فكلَّف الله القاضي جدعون ومعه ثلاث مئة رجل ليقوموا بهجوم ليلي ضدهم، فشاعت الفوضى في صفوف المديانيين وقتل بعضهم بعضاً، وقُتل غراب وذئب، وأَسَر جدعونُ زبحَ وصلمناع ثم قتلهما، وكان يوم انتصار مشهود أُطلق عليه اسم «يوم مديان» (قضاة 6-8).
ويختم المرنم هذا الجزء بقوله إن أعداء شعبه قالوا: «لنمتلك لأنفسنا مساكن الله» وهي قولة لا يذكر سفر القضاة أن الكنعانيين أو المديانيين قالوها، لكن التاريخ المقدس يذكر أن الملك يهوشافاط قالها في صلاته: «والآن هوذا بنو عمون وموآب وجبل ساعير.. يكافئوننا بمجيئهم لطردنا من مُلكك الذي ملَّكتنا إياه» (2أي 20: 10، 11). والمرنم واثق أن ما جرى سابقاً في عصر القضاة سيتكرر مع يهوشافاط ومن سيجيئون بعده، فإن الله هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد.

ثالثاً – استغاثة
(آيات 13-18)
1 – طلب زوال العدو: «يا إلهي، اجعلهم مثل الجُلّ. مثل القش أمام الريح. كنار تحرق الوعر، كلهيب يشعل الجبال. هكذا اطردهم بعاصفتك، وبزوبعتك روِّعهم» (آيات 13-15). يطلب المرنم من الرب أن يُبعد الأعداء عن بلاده كما يطرد الريح الجل (أي البعر، أو النفاية التي لا قيمة لها، وقد وردت الكلمة مرة أخرى في صف 1: 17) ومثل القش، ويطلب أن يحترقوا كما تشب النار في غابة على الجبال أيام الجفاف، فلا ينزل عليها مطر ليطفئها، ولا يقدر إنسان أن يصعد إليها ليوقف احتراقها، فيتحقق فيها قول إشعياء: «ويصير جمهور أعدائك كالغبار الدقيق، وجمهور العتاة كالعصافة المارة، ويكون ذلك في لحظةٍ بغتةً. من قِبَل ربِّ الجنود تُفتقَد برعدٍ وزلزلةٍ وصوتٍ عظيم، بزوبعةٍ وعاصفٍ ولهيب نار آكلةٍ» (إش 29: 5، 6). ويقول الله عن أعداء شعبه: «أبدِّدهم كقشٍّ يعبر مع ريح البرية» (إر 13: 24).
والمرنم هنا يتكلم بأسلوب العهد القديم، أسلوب «عين بعين وسن بسن» (لا 24: 20). لكننا نرفع هذه الطلبة بروح المسيح، روح العهد الجديد، الذي عبَّر عنه مسيحي حكيم بقوله: «اقتل أعداءك، بأن تجعلهم أصدقاء. اقتل عداوتهم بالمحبة ، واقتل مواقفك السلبية فيك من نحوهم بأن تخدمهم وأن تقدم لهم رسالة المسيح».
2 – طلب توبة العدو: «املأ وجوههم خزياً فيطلبوا اسمك يا رب. ليخزوا ويرتاعوا إلى الأبد، وليخجلوا ويبيدوا، ويعلموا أنك اسمُك يهوه وحدك، العلي على كل الأرض» (آيات 16-18). يطلب المرنم توبة العدو في خطوتين، أولاهما أن الخزي والخوف يجعلانه يدرك خطأه، وثانيتهما أن يعرف العدو الصواب ويطلب أن يعرف الرب:
(أ) إدراك الخطأ: يطلب المرنم من الرب أن يفشل هجوم الأعداء وأن ينهزموا، فيملأ الله وجوههم من الخزي والخجل والخوف، لأنهم اصطدموا بقوة أقوى منهم لا يعرفونها ولم يكونوا يتوقعونها، هي القوة الإلهية. ومن حكمة الله أنه يصيب الإنسان بالفشل فيدرك عجزه ويطلب وجه الله، وهكذا يقوده خطؤه ليبحث عن الصواب، فيقول: «طرقك يا رب عرِّفني. سبلك علِّمني. درِّبني في حقك وعلِّمني، لأنك أنت إله خلاصي» (مز 25: 4، 5).
(ب) معرفة الصواب: عندما تمتلئ وجوه الأعداء بالخزي يطلبون وجه الرب، وعندما يرتاعون ويسقط كثيرون منهم قتلى يطلبون أن يعبدوا الرب سيد الأرض كلها، لأنه رب الأرباب، وساكن السماوات، وخالق السماء والأرض وما عليهما وفيهما، فهو »يهوه« رب الحياة، الكائن والذي كان والذي يأتي، الأول والآخِر، العلي فوق كل عالٍ ومرتفع.
إن فشلنا من إصلاح نفوسنا بركة لأنه يقودنا إلى طلب الحياة الجديدة من الله، كما أن ضعفنا يعيننا على الاحتماء بالله، وفقرنا يُلجئنا إلى طلب غنى الله، وضِعتنا تجعلنا نطلب رفعة الله العلي. فليُصلِّ كل مؤمن أن يجعل الله أعداءه أحباء الله، وأن يُخضِع مقاوميه للجلال الإلهي، فينالون البركة وينالها هو أيضاً معهم.

اَلْمَزْمُورُ الرَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى الْجَتِّيَّةِ. لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورٌ
1 مَا أَحْلَى مَسَاكِنَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ. 2تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ الرَّبِّ. قَلْبِي وَلَحْمِي يَهْتِفَانِ بِالإِلَهِ الْحَيِّ. 3اَلْعُصْفُورُ أَيْضاً وَجَدَ بَيْتاً، وَالسُّنُونَةُ عُشّاً لِنَفْسِهَا حَيْثُ تَضَعُ أَفْرَاخَهَا، مَذَابِحَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ مَلِكِي وَإِلَهِي. 4طُوبَى لِلسَّاكِنِينَ فِي بَيْتِكَ أَبَداً يُسَبِّحُونَكَ. سِلاَهْ.
5طُوبَى لأُنَاسٍ عِزُّهُمْ بِكَ، طُرُقُ بَيْتِكَ فِي قُلُوبِهِمْ. 6عَابِرِينَ فِي وَادِي الْبُكَاءِ يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعاً. أَيْضاً بِبَرَكَاتٍ يُغَطُّونَ مُورَةَ. 7يَذْهَبُونَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى قُوَّةٍ. يُرَوْنَ قُدَّامَ اللهِ فِي صِهْيَوْنَ.
8يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ، اسْمَعْ صَلاَتِي، وَاصْغَ يَا إِلَهَ يَعْقُوبَ. سِلاَهْ. 9يَا مِجَنَّنَا انْظُرْ يَا اللهُ، وَالْتَفِتْ إِلَى وَجْهِ مَسِيحِكَ، 10لأَنَّ يَوْماً وَاحِداً فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ. اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلَهِي عَلَى السَّكَنِ فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ. 11لأَنَّ الرَّبَّ اللهَ شَمْسٌ وَمِجَنٌّ. الرَّبُّ يُعْطِي رَحْمَةً وَمَجْداً. لاَ يَمْنَعُ خَيْراً عَنِ السَّالِكِينَ بِالْكَمَالِ. 12يَا رَبَّ الْجُنُودِ، طُوبَى لِلإِنْسَانِ الْمُتَّكِلِ عَلَيْكَ!

الإشتياق إلى ديار الرب
يصف هذا المزمور سعادة القلب المشتاق للوجود في بيت الله، العامر بالحماس في خدمته. وهو مثل مزموري 42، 43 اللذين يعبّران عن الاشتياق إلى بيت الرب، وعن الألم بسبب الحرمان من العبادة فيه. كما أن هناك تشابهاً كبيراً بين أفكار مزامير 27، 61، 63 ومزمورنا الذي ربما كتبه المرنم في يوم سبت كان فيه محروماً من التواجد في الهيكل لسببٍ خارج عن إرادته، وكان يأمل ألا يطول حرمانه من التعبُّد فيه، فطوَّب الذين لهم فرصة العبادة التي حُرم هو منها، بقوله: «طوبى (أي يالسعادة) للساكنين في بيتك، أبداً يسبحونك» (آية 4). فهو المشتاق للعبادة في الهيكل، والذي يطوِّب السعيد المتواجد دوماً في بيت الرب. سمعنا أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، ويمكن أن نقول أيضاً إن المرنم يرى ديار الرب تاجاً على رؤوس العابدين لا يراه إلا المحرومون منه.
ولكن المرنم يعتبر أن له نصيباً في التطويب، فيقول: «طوبى لأناس عزُّهم بك. طرق بيتك في قلوبهم» (آية 5). فلئن لم تكن له فرصة التواجد في بيت الرب، إلا أنه سعيد لأن طرق بيت الرب في قلبه، فما سمعه من تراتيل وصلوات وتلاوة من كلمة الله في الهيكل لا يزال يملأ قلبه وعقله ويشغل فكره. ويختم مزموره بالقول: «طوبى للإنسان المتكل عليك» (آية 12). فمع أنه كان بالجسد بعيداً عن ديار الرب إلا أنه متكل على الرب في نوال غفران خطيته بالفداء بالذبائح التي طالبت بها الشريعة الموسوية، ولأنه يثق في الصُّحبة الإلهية. وهناك الوعد العظيم القائل: «ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20).

في هذا المزمور نجد:
أولاً – أسباب الاشتياق إلى هيكل الرب (آيات 1-4)
ثانياً – بركات هيكل الرب (آيات 5-7)
ثالثاً – صلاة إلى رب الهيكل (آيات 8-12)

أولاً – أسباب الاشتياق إلى بيت الرب
(آيات 1-4)
يقدم المرنم أربعة أسباب لاشتياقه إلى بيت الرب:
1 – بسبب حلاوة هيكل الرب: «ما أحلى مساكنك يا رب الجنود» (آية 1). لأن هناك يسكن الله وسط شعبه، كما قال لموسى: «يصنعون لي مقدساً لأسكن في وسطهم» (خر 25: 8). وفي المسكن مذبح المحرقة النحاسي الذي كانوا يقدمون عليه الذبيحة الرئيسية، كما كان الشعب يأتون إليه بذبائحهم ويضعون أيديهم عليها معترفين بخطاياهم، فينالون المغفرة (لا 1: 4). وهناك تابوت عهد الرب، وبه لوحا الشريعة اللذان أعطاهما الله لموسى، وقسط به شيء من المنّ الذي أطعم الله به بني إسرائيل أربعين سنة في صحراء سيناء، وبه عصا هارون اليابسة التي اخضرَّت وأفرخت لتبرهن اختيار الله لهارون ليكون له كاهناً. وكان غطاء التابوت (الذي يُدعى أيضاً كرسي الرحمة) من الذهب يظلله كروبان (ملاكان) من الذهب، وهناك يلتقي الله بشعبه على أساس الدم المسفوك من الذبائح، وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة (عب 9: 22). وفي مساكن الرب يسمع شعبه كلامه الحلو، وقد قال المرنم: «ناموس الرب كامل يردُّ النفس. شهادات الرب صادقة تصيِّر الجاهل حكيماً. وصايا الرب مستقيمة تفرِّح القلب. أمر الرب طاهر ينير العينين. خوف الرب نقي ثابت إلى الأبد. أحكام الرب حق عادلة كلها. أشهى من الذهب والإبريز الكثير، وأحلى من العسل وقطر الشهاد. أيضاً عبدك يُحذَّر بها، وفي حفظها ثواب عظيم» (مز 19: 7-11).
2 – بسبب حبه للرب: «تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب. قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي» (آية 2). الإنسان البعيد عن الله ميت في ذنوبه وخطاياه، ويكتفي بالإشباع المادي وحده، رغم أنه قد يعلم أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (مت 4: 4). أما الإنسان الحي روحياً فلا يشبع إلا بالإله الحي، الذي به يحيا ويتحرك ويوجد (أع 17: 28)، وهو يعلم كم يشتاق الله إليه، فقد حلَّ وسط شعبه القديم في «خيمة الاجتماع» في صحراء سيناء. وفي ملء الزمان حلَّ بيننا في المسيح الكلمة، الذي صار جسداً (يو 1: 14). تشتاق نفس المرنم الحي (أي إرادته) إلى ديار الرب، ويهتف قلبه (أي عواطفه) ولحمه (أي عقله) بالإله الحي، لأن في ديار الرب يلتقي بالرب الذي هو الصديق الألزق من الأخ (أم 18: 24). وعندما يأتي إلى بيت الرب يشترك مع اليونانيين الذين طلبوا أن يروا المسيح، فيراه ويسمع إعلان حبه له، ويختبر صلاحه (يو 12: 20، 21) ويتحقق معه قول المسيح: «الذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه وأُظهِر له ذاتي.. إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً» (يو 14: 21، 23).

3 – بسبب سلامه بالرب: «العصفور أيضاً وجد بيتاً والسُّنونة عشاً لنفسها حيث تضع أفراخها، مذابحك يا رب الجنود ملكي وإلهي» (آية 3). حسد المرنم العصفور والسنونة (وهي طائر صغير يألف الناس ويبني عشه من الطين في البيوت ودور العبادة) لأنهما وجدا في بيت الرب مكاناً مستقراً يبنيان فيه عشهما ويتركان فيه أفراخهما مطمئـنَّين أثناء طيرانهما بعيداً ليجلبا لها القوت! وكل من وجد لنفسه الشبع في الرب وفي بيته يريد لأولاده أن يجدوا نفس الشبع من المصدر نفسه. وكم يفرح كل أب تقي وهو يرى أبناءه أتقياء يحبون الله، ويشتاقون إلى سماع كلمته.. وبالحديث عن السنونة وأفراخها يعلن المرنم أنه عندما يأتي إلى بيت الرب يجد الطمأنينة والسلام، لأن الذبيحة المقدَّمة على المذبح (بحسب شريعة موسى) تؤكد له أن الله غفر خطاياه. ونحن عندما نتعب نلجأ إلى بيت الرب فنجد بابه مفتوحاً يرحب بنا، وكلمته تشجعنا، فنقول: «يا رب أقرب، فأقرب. إليك أقرب وأرغب. في الحزن والشجون يا سيدي الحنون، إليك أقرب فأقرب» لأننا نعلم أنه غفر لنا ذنوبنا وكفَّر عن خطايانا بفضل الذبح العظيم، السيد المسيح الذي بذل نفسه فديةً عنا.
ويطلق المرنم على الرب ألقاب «رب الجنود» و«ملكي» و«إلهي» فربُّ الملكوت القوي العظيم هو ربُّ المرنم نفسه، فياله من ملك محب لشعبه، ويالها من علاقة حميمة عميقة مشجعة للمرنم، تعطيه الطمأنينة وتملأ نفسه بالسلام!
4 – بسبب اتحاده مع المؤمنين في هيكل الرب: «طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك» (آية 4). يطوِّب المرنم خُدَّام الرب الماثلين في دياره يسبحونه في بيته، ويرفعون دوماً ترانيم التسبيح له من كل قلوبهم في هيكله، فإنهم «أهل بيت الله» (أف 2: 19). ويتمنى المرنم المحروم من العبادة أن ينال التطويب نفسه، فيلتقي بخُدّام الله وبالمؤمنين الذين يحبون الرب ويسبحونه، ويتَّحد معهم بالروح والحق، لأنه في المكان البعيد عن بيت الرب يلتقي بمَن يختلفون معه في الاهتمامات والعقيدة والعبادة. أما في بيت الرب المقدس فإنه يضمُّ صوته إلى أصوات المتفقين معه في حب الله والتسبيح له، فيطمئن قلبه وينال شحنةَ قوةٍ روحية يخرج بها إلى العالم مبتهجاً، يعلن لكل البعيدين عن الرب فرحة العيشة مع الرب، ويدعوهم إليها. «هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معاً.. لأنه هناك أمر الرب بالبركة. حياةٍ إلى الأبد» (مز 133: 1، 3).

ثانياً – بركات هيكل الرب
(آيات 5-7)
لم يستطع المرنم أن يتواجد في بيت الرب، لأن ظروفاً خارجية منعته، لكنه يؤكد أن طرق بيت الرب في قلبه، وهو يتوجَّه بروحه إليه، ولسان حاله يقول: «قلباً نقياً اخلُق فيَّ يا الله» (مز 51: 10) فصار قلبه هيكلاً مقدساً يسكنه الرب. وعلى كل مؤمن أن يكون هيكلاً متحركاً، كما أن على كل أسرة أن تكون كنيسة مصلِّية، إذ يجتمع الزوج والزوجة والأولاد ليصلوا معاً، فيتحقق لهم وعد المسيح: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20). فلتكن أجسادنا وبيوتنا مساكن لله ودياراً له، حتى نقول مع يشوع: «أما أنا وبيتي فنعبد الرب» (يش 24: 15).
وفي توجُّه روح المرنم إلى هيكل الرب ينال ثلاث بركات:
1- بركة الاعتزاز بالرب: «طوبى لأناسٍ عزُّهم بك. طرق بيتك في قلوبهم» (آية 5). ما أسعدهم لأنهم جعلوا الرب مصدر قوتهم، فهو البرج الحصين الذي يركض إليه الصدِّيق ويتمنَّع (أم 18: 10) فطوبى لمَن جعل الرب متَّكله (مز 40: 3) ووضع رجاءه في الرب إلهه (مز 146: 5). وبالرغم من بُعد المرنم عن الهيكل بالجسد، إلا أنه يطوب نفسه لأن طرق بيت الرب المقدسة مطبوعة في قلبه، وتأثيراته عميقة في داخله، حتى يمكن أن يُقال له ما قاله الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: «أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولاً في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكني موقنٌ أنه فيك أيضاً» (2تي 1: 5). إنه لم يسلك في طرق الرب فقط، بل جعلها أيضاً في قلبه. وكم نحتاج اليوم أن تُطبع طريق بيت الرب في قلوبنا، وليس فقط أمام عيوننا، فنقول: «وُجد كلامك فأكلته» (إر 15: 16). وإن كان الله مصدر قوتنا وعزَّنا فلنجعل كلمته سراجنا ونور سبيلنا، فننال عزماً وقوة منه، ونتقدم من قوة إلى قوة كما وعدنا المسيح: «ستنالون قوةً متى حل الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً» (أع 1: 8). يريد الرب أن يعطينا قوة روحية، فيغذينا بكلمته، ويملأنا بالروح القدس، حتى يجوز فينا القول: «كتبتُ إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير» (1يو 2: 14). وبكلمة الله وعمل روحه يزيد إيماننا، ويصير كل شيء مستطاعاً لنا، لأن كل شيء مستطاع للمؤمن (مر 9: 23) ونقول مع الرسول بولس: «أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني» (في 4: 13).
2 – بركة الفرح بالرب: «عابرين في وادي البكاء يصيِّرونه ينبوعاً. أيضاً ببركات يغطون مورة» (آية 6). وادي البكاء وادٍ قاحل جاف، تكثر فيه أشجار البلسم التي لا تحتاج في نموِّها إلى رطوبة كثيرة. وعندما كانت تُجرَح كان يخرج منها سائل، مثل أشجار المطاط، لذلك سمّوها «أشجار البكاء» (2صم 5: 23). وكان الحُجاج يجوزون في وادي البكا في طريق صعودهم إلى أورشليم، ولكن إيمانهم كان يحوِّله إلى ينبوع، بمعنى »بركة« لأن فرح الرب يملأ قلب أحبائه حتى في أصعب ظروفهم. إنهم لا يستمدون فرحهم مما يحيط بهم، بل مما يمنحه الله لهم من مباهج روحية. وعندما يعبر محبّو الرب في وادي الدموع يجعلونه مصدر بركة حقيقية. «يقودك الرب على الدوام، ويشبع في الجدوب نفسك، وينشِّط عظامك، فتصير كجنَّة ريا وكنبع مياهٍ لا تنقطع مياهه» (إش 58: 11).
ونلاحظ أن أول كلمة في آية 6 هي كلمة «عابرين» في وادي البكاء. ولم يقل «مقيمين» فيه. وهناك فرق بين هذا وآية 4 التي تقول: طوبى «للساكنين» في بيتك. فنحن نعبر في وادي البكاء ولكننا نسكن في بيت الله. وفي مزمور 23 يقول: «إذا سرتُ» في وادي ظل الموت، ولا يقول «إذا توقَّفت» في وادي ظل الموت، ولا »إذا أقمت«. ففترة الضيق والألم مؤقتة وغير دائمة ولابد أن تعبر، لأن الله وعد المؤمنين أن يأتي إليهم لينقذهم.
«أيضاً ببركات يغطون مورة». ومورة تعني «المرار». وتل مورة هو المكان الذي هاجم فيه المديانيون شعب الرب، فنصرهم بنصره بواسطة القاضي جدعون، كما قيل: «فبكَّر يرُبَّعل (أي جدعون) وكل الشعب الذي معه، ونزلوا على عين حرود، وكان جيش المديانيين شماليَّهم عند تل مورة» (قض 7: 1).
إذاً عندما نأتي إلى وادي الدموع نجعله ينبوع بركة وفرح، وعندما يهاجمنا العدو في تل المرار نغطيه بالبركات، لأن الله يحوِّل آلامنا إلى بركات، ويقول لنا: «في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو 16: 33). وغلبته تصبح غلبتنا عندما نتَّحد به اتحاد الغصن بالكرمة.
3 – بركة النمو في الرب: «يذهبون من قوة إلى قوة. يُرون قدام الله في صهيون» (آية 7). ينال الحجاج الذين سيتعبَّدون في هيكل الرب قوة وهم يصعدون إلى أورشليم، وتتزايد قوتهم وفرحهم كلما اقتربوا من الهيكل، لأنهم يتشجعون ويذهبون من قوة إلى قوة، وينمون في النعمة ومعرفة ربهم (2بط 3: 18). «أما منتظرو الرب فيجدِّدون قوةً، يرفعون أجنحةً كالنسور. يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يعيون» (إش 40: 31). إنهم من ملء الرب جميعاً يأخذون، ونعمة فوق نعمة، فيتقدمون من مجد إلى مجد (يو 1: 16 و2كو 3: 18). ويشتاق مؤمنو العهد الجديد إلى العبادة في صهيون الروحية، وسط جماعة المؤمنين من كل عِرق في كل مكان. وقد أسس الرب على يد الرسول بولس في مدينة فيلبي كنيستين بدون مبانٍ، إحداهما على شاطئ البحر، ومن أعضائها ليديا بائعة الأرجوان، والأخرى في مكان أغرب هو سجن المدينة وقد ارتفعت منه ترانيم بولس وسيلا، والمسجونون يسمعونهما، فآمن السجان، ثم آمن أهل بيته. لقد أجرى الرب معجزة عظيمة. وذهب المؤمنون في فيلبي من قوة إلى قوة، ورآهم الناس قدام الله في كنيسته.

ثالثاً – صلاة إلى رب الهيكل
(آيات 8-12)
1- لأنه إله الجنود: «يا ربُّ، إله الجنود اسمع صلاتي، واصغَ يا إله يعقوب» (آية 8). «رب الجنود» هو الذي قال عنه داود لجليات الجبار: «أنت تأتي إليَّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود» (1صم 17: 45). وجنوده هم كل الخلائق (تك 2: 1). وهم شعبه الذين اختارهم (خر 7: 4). وهم الشمس والقمر والنجوم (تث 4: 19 و17: 3). وهم الملائكة (لو 2: 13). إنه صاحب كل سلطان في السماء والأرض.
ومع كل عظمة «رب الجنود» فإن المرنم لا يرتعب منه بل يأنس إليه، لأنه «إله يعقوب» إله العهد الذي صنع مع خليله إبراهيم ميثاقاً (تك 15: 18). والذي دخل في عهد مع يعقوب، وتعهد أن يتبارك فيه وفي نسله جميع قبائل الأرض، وأن يكون معه وأن يحفظه حيثما يذهب (تك 28: 14، 15). واليوم نعلم أنه أدخل المؤمنين في عهد جديد مع المسيح، ففي كل مرة نقف أمامه مصلّين نعلم أنه الإله القوي «رب الجنود» و«إله العهد» الذي يفي بكل وعوده لنا، فلا تسقط كلمة واحدة من جميع الكلام الصالح الذي تكلم به (يش 23: 14).
2 – لأنه إله الحماية: «يا مجننا، انظر يا الله والتفت إلى وجه مسيحك» (آية 9). المجن هو الترس الكبير، وهو قطعة خشب يغطونها بالجلد، يمسكها الجندي بيده اليسرى ليتلقّى عليها السهام فلا تصيبه. وقال الرب لخليله إبراهيم: «لا تخف.. أنا ترس لك» (تك 15: 1). فالرب يحمي المؤمن من سهام العدو القاتلة. ويطلب المرنم أن يلتفت الله بالحماية إلى وجه مسيحه فلا تصيبه السهام. وربما يقصد بـ«مسيحك» الملك ابن داود الذي تعهَّد الرب له أن «يأمن بيتك ومملكتك إلى الأبد أمامك. كرسيُّك يكون ثابتاً إلى الأبد» (2صم 7: 16). أو قد يقصد به شعب الرب الذين يدعوهم «ابني البِكر» (خر 4: 22). وقد يقصد به رئيس الكهنة (لا 4: 3). (راجع تعليقنا على مز 80: 17).
3 – لأنه إله الفرح: «لأن يوماً واحداً في ديارك خيرٌ من ألف. اخترتُ الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار» (آية 10). يصلي المرنم طالباً بهجة الوجود في ديار الرب وفي حضرته، فاليوم الواحد في دياره هو يوم عيد واحتفال وابتهاج، حيث يذكر فضل الله عليه وعلى آبائه. وهناك يسمع كلمة الله المشجعة، خصوصاً وقت تعبه وضيقه، وبالتأمل في وعود الرب تتشجَّع نفسه. وفي بيت الرب يجد طريق الخلاص بالفداء «وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب 9: 22) فيرتفع عن كاهله ثقل الإحساس بالذنب، ويعتبر اليوم الذي يلتقي فيه بالرب خير من ألف.
وفي بيت الرب يفرح بتقديم خدمة لإلهه مهما كانت متواضعة، ولو كانت خدمة بوّاب، فإن الوقوف على العتبة كبوّاب في بيت الرب خير من السكن والضيافة في خيام الأشرار، حيث تُمارس الرذائل. وكاتب هذا المزمور هو أحد أولاد قورح الذين اشتغلوا حرّاساً لبيت الرب، كما يقول الوحي: «القورحيون على عمل الخدمة حرّاس أبواب الخيمة، وآباؤهم على مَحَلَّة الرب حراس المدخل» (1أخ 9: 19).
4 – صلاة لإله الخير: «لأن الرب الله شمس ومجن. الرب يعطي رحمة ومجداً. لا يمنع خيراً عن السالكين بالكمال. يا ربَّ الجنود، طوبى للإنسان المتَّكل عليك» (آيتا 11، 12). يصف المرنم الرب بأنه «شمس» لأنه المعطي، فهو «شمس البر والشفاء في أجنحتها» (ملا 4: 2). والشمس تعطي النور، فالرب نوري (مز 27: 1) وهي تطهر وتحرق الزغل «ويصير نور إسرائيل ناراً وقدّوسه لهيباً فيُحرِق» (إش 10: 17) وبنوره نرى نوراً (مز 36: 9). وهو يبهج النفوس فالنور «حلوٌ، وخيرٌ للعينين أن تنظرا الشمس» (جا 11: 7). وهو يدفئ حياتنا بمحبته، ويعطينا الطاقة والقوة، ويقيمنا من النوم ويبعث فينا الحياة لنتحرك ونعمل. ويصف الرب بأنه «مجن» لأنه يحمي المؤمن. (انظر آية 9). وهو «يعطي رحمة ومجداً» ففي رحمته يمنع عنا ما نستحقه من عقاب، وفي مجده يعطينا ما لا نستحقه من بركة. إنه يرحمنا بمحبته، ويمجّدنا بقوته، فنقول له: «ولكني دائماً معك. أمسكت بيدي اليمنى. برأيك تهديني وبعدُ إلى مجد تأخذني» (مز 73: 23، 24). صحيحٌ أنه يمجدنا بعد وصولنا للسماء، ولكن عندما نهتدي برأيه نعيش حياة كلها مجد. وهو «لا يمنع خيراً عن السالكين بالكمال» والكمال عطية منه، ومع ذلك يضيف إليه الخير. «الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء؟» (رو 8: 32).
وكردّ فعلٍ طبيعي للصلاة التي يستجيبها إله الخير يعتمد المؤمن عليه، ويتصرَّف مطمئناً في نور ما يعرفه عنه، فهو رب الجنود (آية 1) الإله الحي (آية 2) ملكي وإلهي (آية 3) إله يعقوب (آية 8) شمس ومجن (آية 11).. طوبى لمن يتكل عليه!

اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورٌ
1 رَضِيتَ يَا رَبُّ عَلَى أَرْضِكَ. أَرْجَعْتَ سَبْيَ يَعْقُوبَ. 2غَفَرْتَ إِثْمَ شَعْبِكَ. سَتَرْتَ كُلَّ خَطِيَّتِهِمْ. سِلاَهْ. 3حَجَزْتَ كُلَّ رِجْزِكَ. رَجَعْتَ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ. 4أَرْجِعْنَا يَا إِلَهَ خَلاَصِنَا، وَانْفِ غَضَبَكَ عَنَّا. 5هَلْ إِلَى الدَّهْرِ تَسْخَطُ عَلَيْنَا؟ هَلْ تُطِيلُ غَضَبَكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ؟ 6أَلاَ تَعُودُ أَنْتَ فَتُحْيِينَا فَيَفْرَحَ بِكَ شَعْبُكَ؟ 7أَرِنَا يَا رَبُّ رَحْمَتَكَ، وَأَعْطِنَا خَلاَصَكَ.
8إِنِّي أَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ اللهُ الرَّبُّ، لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ، فَلاَ يَرْجِعُنَّ إِلَى الْحَمَاقَةِ، 9لأَنَّ خَلاَصَهُ قَرِيبٌ مِنْ خَائِفِيهِ، لِيَسْكُنَ الْمَجْدُ فِي أَرْضِنَا. 10الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا. 11الْحَقُّ مِنَ الأَرْضِ يَنْبُتُ، وَالْبِرُّ مِنَ السَّمَاءِ يَطَّلِعُ. 12أَيْضاً الرَّبُّ يُعْطِي الْخَيْرَ، وَأَرْضُنَا تُعْطِي غَلَّتَهَا. 13الْبِرُّ قُدَّامَهُ يَسْلُكُ، وَيَطَأُ فِي طَرِيقِ خَطَوَاتِهِ.

الرحمة والحق التقيا
يبدأ المرنم المزمور بالشكر لله لأنه استجاب الصلاة وأرجع شعبه من سبي بابل، أيام نحميا، وأيام النبي زكريا. وكان أحد الملائكة قد تساءل: «يا ربَّ الجنود، إلى متى أنت لا ترحم أورشليم ومدن يهوذا التي غضبتَ عليها هذه السبعين سنة؟» فأجاب الرب الملاك بكلام طيب وكلام تعزية. فقال الملاك للنبي زكريا: «هكذا قال رب الجنود: غرتُ على أورشليم وعلى صهيون غيرةً عظيمة» (زك 1: 12-14).
لقد صلى بنو إسرائيل في سبيهم تائبين طالبين الإنقاذ، فسمع الرب لهم وردَّ سبيهم، فكان رجوعهم برهاناً على أنه غفر إثمهم وستر خطاياهم، كما قال على لسان النبي إرميا: «أردُّ سبي يهوذا وسبي إسرائيل وأبنيهم كالأول، وأطهِّرهم من كل إثمهم الذي أخطأوا به إليَّ، وأغفر كل ذنوبهم التي أخطأوا بها إليَّ والتي عصوا بها عليَّ. فتكون لي اسم فرح للتسبيح وللزينة لدى كل أمم الأرض الذين يسمعون بكل الخير الذي أصنعه معهم، فيخافون ويرتعدون من أجل كل الخير ومن أجل كل السلام الذي أصنعه لها» (إر 33: 7-9). لكن عندما رجعوا اكتشفوا أن أسوار أورشليم مهدومة، وأن الهيكل لم يُبنَ، وأن الراجعين عددٌ قليل، وكلهم من البسطاء الفقراء، فتحوَّل شكرهم إلى شكوى، لأن الحالة الأليمة التي رأوها أعلنت لهم أن الله لا زال غاضباً عليهم. ولعلهم تساءلوا: متى يحقق لنا الله ما جاء في نبوات إشعياء أصحاحات 40-66 عن بركاته للعائدين من السبي؟ إنها تبدأ بالقول: «عزّوا عزوا شعبي يقول إلهكم. طيِّبوا قلب أورشليم، ونادوها بأن جهادها قد كمُل، أن إثمها قد عُفي عنه، أنها قد قبلت من يد الرب ضِعفين عن كل خطاياها» (إش 40: 1، 2).
يبدأ المزمور بترنيم من الشعب (آيات 1-7) يطلبون فيه قوة الله لهم لينتعشوا ويفرحوا، فيردُّ عليهم الكاهن (آيات 8-13) بأنه قد جاءته إجابةٌ من الله يؤكد فيها السلام لشعبه ولأتقيائه فلا يرجعون إلى الحماقة، وبهذا التقت رحمةُ الله مع حقِّه، وتعانق البر والسلام وتلاثما (آية 10). وواضحٌ أن هذا لا يتحقق إلا في الصليب الذي فيه التقت عدالة الله برحمته، وتلاثم البر الذي يطالب بالعدالة مع السلام الذي يمنح الغفران، فعدالة الله لا تتصالح مع رحمته إلا بالصليب الذي فيه يأخذ العدل حقه وتتبرهن لنا الرحمة السماوية والنعمة الإلهية.
هذا المزمور نبوَّة عن المسيا الآتي، ليحقق الوعود المباركة:
في المسيا نجد السلام، كما رتَّـلت الملائكة يوم مولده: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة» (لو 2: 14).. وبه ننال الخلاص، كما قال عنه سمعان الشيخ: «لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعدَدْته قدام وجه جميع الشعوب» (لو 2: 30، 31).. وبه يسكن المجد أرضنا، لأنه: «نورُ إعلانٍ للأمم، ومجداً لشعبك إسرائيل» (لو 2: 32).. وفيه يلتقي العدل والرحمة: «أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا» (يو 1: 17) كما أن «الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم» (2كو 5: 19)، فأمكن للمصالَحين مع الله أن يقولوا: «فإذ قد تبررنا بالإيمان، لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح» (رو 5: 1).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – مراحم سابقة (آيات 1-3)
ثانياً – طلب مراحم جديدة (آيات 4-7)
ثالثاً – صوت سماوي (آيتا 8، 9)
رابعاً – انتظار واثق (آيات 10-13)
أولاً – مراحم سابقة
(آيات 1-3)
يذكر المرنم ثلاث بركات أعطاها الله لشعبه:
1 – الرجوع من السبي: «رضيتَ يا رب على أرضك. أرجعْتَ سبي يعقوب» (آية 1). عندما غضب الله على شعبه سمح بأن يؤخذوا سبايا، وقيل فيهم: «الرب لم يقبلهم. الآن يذكر إثمهم ويعاقب خطاياهم.. حين يصومون لا أسمع صراخهم، وحين يُصعدون محرقةً وتقدمةً لا أقبلهم، بل بالسيف والجوع والوبأ أنا أُفنيهم» (إر 14: 10، 12). وعندما رضي عليهم بعد مضي سبعين سنة رفع عنهم غضبه وأرجعهم إلى أرضهم.. وهناك سبيٌ أسوأ من سبي بابل، هو سبي الشيطان للخطاة واستعباده لهم. ولكن عندما يرجع الخاطئ لله تائباً، قارعاً على صدره قائلاً: «اللهم ارحمني أنا الخاطي» (لو 18: 13) يغفر الله له ويحرره من ذل الخطية وأسر العادات الشريرة، ويمنحه الحياة ذات المعنى. فإن رجعت إلى الله تائباً ينقلك من عبودية الشيطان وسلطان الظلمة إلى الحرية المجيدة (كو 1: 13).
2 – نوال الغفران: «غفرتَ إثم شعبك. سترتَ كل خطيتهم» (آية 2). الإثم هو العوَج والفساد الأخلاقي، والخطية هي عدم إصابة الهدف. وقد غفر الله لشعبه عوَجَه وفساده، ولم يعُد يحسبه ضدَّهم، وستر كل خطيتهم فلم تعُد ظاهرة ولا محسوبة عليهم. لقد منحهم ما لم يكونوا قادرين على عمله لأنفسهم، فغفر ذنوبهم وكفَّر عن خطاياهم. «مَن هو إلهٌ مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه. لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يُسرُّ بالرأفة» (مي 7: 18). وما فعله مع بني إسرائيل التائبين يفعله معنا نحن اليوم، فيدعونا: «ليترُك الشرير طريقه، ورجل الإثم أفكاره، وليتُب إلى الرب فيرحمه، وإلى إلهنا لأنه يُكثِرُ الغفران» (إش 55: 7)، ويحقِّق لنا قوله: «وأطهِّرهم من كل إثمهم الذي أخطأوا به إليَّ. وأغفر كل ذنوبهم التي أخطأوا بها إليَّ والتي عصوا بها عليَّ» (إر 33: 8). فلنأتِ إليه تائبين معترفين، لأنه «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهِّرنا من كل إثم» (1يو 1: 9).
3 – رفع الغضب: «حجزتَ كل رِجْزك. رجعتَ عن حموِّ غضبك» (آية 3). الرِّجز هو الغضب الشديد، ورأى المرنم في السبي البابلي رجزاً من الله وغضباً متَّقداً، كما رأى في الرجوع من السبي رفعاً للغضب الإلهي. «قد محوتُ كغيم ذنوبك، وكسحابة خطاياك. ارجع إليَّ لأني فديتك» (إش 44: 22). فلنذكر مراحم الله ولنتواضع أمامه، فهو المعطي بسخاء ولا يعيِّر (يع 1: 5)، والغافر الماحي الذنوب ولا يعود يذكرها (إش 43: 25)، والمبارِك الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات (1بط 1: 3)، ولنقدِّم له الشكر القلبي، ولنضع ثقتنا فيه، ولنرفع دوماً صلواتنا إليه قائلين: «باركي يا نفسي الرب وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته. الذي يغفر جميع ذنوبك، الذي يشفي كل أمراضك، الذي يفدي من الحفرة حياتك، الذي يكللك بالرحمة والرأفة، الذي يشبع بالخير عمرك فيتجدد مثل النسر شبابك» (مز 103: 1-5).
ثانياً – طلب مراحم جديدة
(آيات 4-7)
في الآيات الثلاث الأولى رفع المرنم شكره على فضل الله وإحسانه، لأنه أرجع كثيرين من السبي، ولو أن البعض كان لا يزال باقياً فيه باختياره. فطلب من الله أن يكمل الأمور الناقصة، كما قال المرنم: «عندما ردَّ الرب سبي صهيون صرنا مثل الحالمين. حينئذ امتلأت أفواهُنا ضحكاً وألسنتنا ترنُّماً..» (مز 126: 1، 2). ثم قال: «اردُد يا رب سبينا مثل السواقي في الجنوب» (آية 4). فعندما ردَّ الرب سبيهم صاروا كأنهم يحلمون، ولكنهم ذكروا بقية إخوتهم في السبي، فرفعوا الطلبة لأجلهم. إنهم كالخاطئ المستعبَد للخطية، ولا يرى طريقاً للنجاة منها. وعندما يخلِّصه الرب منها بالتوبة وينصره عليها بالتقديس، يهتف مهللاً: «الفخُّ انكسر ونحن انفلتنا» (مز 124: 7). ولكنه بعد ذلك يكتشف في نفسه عيوباً ونقائص، فيطلب من الله أن يكمل خلاصه بمزيد من التقديس والخضوع للروح القدس. فلنطلب من الرب المزيد من البركة، فيعطينا بحسب غِناه وسخائه.
1 – لا زال رجوعهم ناقصاً، عدداً ونوعاً: «أََرجِعنا يا إله خلاصنا» (آية 4 أ). كان عدد الراجعين من السبي قليلاً، وبقي كثيرون في بلاد السبي طمعاً في الربح المادي، وهروباً من مشقَّة السفر إلى مسقط رؤوسهم. وبعض الذين رجعوا واجهوا متاعب ومشاكل، فحنَّت نفوسهم للرجوع إلى أرض السبي، فكان رجوعهم بالجسد فقط وليس بالقلب، فرفع المرنم صلاته لأجلهم ليكون رجوعهم للرب المخلِّص رجوعاً بالجسد والقلب والنفس معاً.
ونحتاج اليوم أن نرفع نفس هذه الصلاة بمعنى روحي، فهناك كثيرون بعيدون عن الرب، يعيشون أسرى إبليس، يجب أن نصلي لأجلهم ليُرجعهم الرب إليه بالتوبة. وهناك كثيرون يتوبون ويرجعون إلى الرب، ولكنهم يحتاجون إلى قوة روحية وعزم صادق للحياة معه، والتعمُّق أكثر في محبته، والاجتهاد أكثر في طاعته. لأجل هؤلاء نصلي مع المرنم: «أَرجِعنا يا إله خلاصنا».
2 – لا زال الله غاضباً عليهم: «وانْفِ غضبك عنا. هل إلى الدهر تسخط علينا؟ هل تطيل غضبك إلى دور فدور؟» (آيتا 4ب، 5). أغضب الشعب إلههم وأغاظوه بخطاياهم، فغضب عليهم واغتاظ منهم، كما قال عن عَبَدة الأوثان منهم: «لسكب سكائب لآلهة أخرى لكي يغيظوني. أفإيّاي يغيظون، يقول الرب؟ أليس أنفسهم؟ .. ها غضبي وغيظي ينسكبان على هذا الموضع، على الناس، وعلى البهائم، وعلى شجر الحقل، وعلى ثمر الأرض، فيتَّقدان ولا ينطفئان» (إر 7: 18-20). والمرنم يطلب من الله أن يوقف غضبه عليهم وأن يضع له حداً، وكأنه يقول: «يا رب، لا توبِّخني بغضبك، ولا تؤدِّبني بغيظك» (مز 6: 1).
3 – لا زالوا محتاجين إلى انتعاش: «ألا تعود أنت فتحيينا فيفرح بك شعبك؟» (آية 6). طلب المرنم من الله انتعاشاً روحياً ونهضة حقيقية، تُنهِض الأفراد، وتُحيي جماعة العابدين. «يعود يرحمنا، يدوس آثامنا، وتُطرح في أعماق البحر جميعُ خطاياهم» (مي 7: 19). قال النبي هوشع: «هلمَّ نرجع إلى الرب، لأنه هو افترس فيشفينا، ضرب فيَجبِرنا. يُحيينا بعد يومين. في اليوم الثالث يُقيمنا فنحيا أمامه» (هو 6: 1، 2). وصلى النبي حبقوق: «يا رب، عملك في وسط السنين أحيِهِ» (حب 3: 2). وهم يحتاجون إلى اختبارٍ شبيه باختبار النبي حزقيال «فقال لي: يا ابن آدم، أتحيا هذه العظام؟ فقلتُ: يا سيد الرب أنت تعلم. فقال لي: تنبأ على هذه العظام وقُل لها: أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب. هكذا قال السيد الرب لهذه العظام: هأنذا أُدخِلُ فيكم روحاً فتحيون» (حز 37: 3-5).
4 – لا زالوا محتاجين إلى الرحمة والخلاص: «أرِنا يا رب رحمتك وأَعطِنا خلاصك» (آية 7). لقد رأوا غضبه، والآن يطلبون رؤية رحمته. «ارحمني يا الله حسب رحمتك. حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ» (مز 51: 1). والخلاص الأول والأهم هو من أجرة الخطية ومن سلطانها الشرير، وخلاصنا منها هو من عمل رحمة الله وحدها، لأنها تغفرها لنا وتكفِّر عنها. ولا يمكن أن يحصل المرنم على استجابة صلاته والنجاة من ضيقاته إلا برحمة من عند الله، فيصلي: «في الغضب اذكر الرحمة» (حب 3: 2).

ثالثاً – صوت سماوي
(آيتا 8 ، 9)
بعد أن طلب المرنم لنفسه ولشعبه الخلاص انتظر الإجابة من الرب، فجاءته في هاتين الآيتين، فهتف بفرح. هاتان الآيتان إذاً استجابة الله لدعاء شعبه، كما قال النبي حبقوق: «على مرصدي أقف وعلى الحصن أنتصب وأراقب لأرى ماذا يقول لي، وماذا أُجيبُ عن شكواي. فأجابني الرب وقال: اكتُب الرؤيا وانقُـشها على الألواح لكي يركض قارئها، لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد، وفي النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظِرها لأنها ستأتي إتياناً ولا تتأخر» (حب 2: 1-3) وكما قال المرنم: «مرةً واحدة تكلم الرب، وهاتين الاثنتين سمعتُ، أن العزة لله. ولك يا رب الرحمة، لأنك أنت تجازي الإنسان كعمله» (مز 62: 11، 12). وفي هاتين الآيتين يقول الرب لشعبه أمرين:
1 – الرب يكلم شعبه بالسلام: «إني أسمع ما يتكلم به الله الرب، لأنه يتكلم بالسلام لشعبه ولأتقيائه فلا يرجعُنَّ إلى الحماقة» (آية 8). «لا سلام، قال الرب، للأشرار» (إش 48: 22). ولكن عندما يتوب الشرير يمنحه الله السلام معه، ومع نفسه، ومع جيرانه. وتجيء إجابة الله على لسان متكلم يقول بصيغة المفرد: «إني أسمع». ولعل كاهناً رنَّم بصوت منفرد معلناً إجابة السؤال، فقال إن ربَّ السماء والأرض يتكلم برسالة سلام لشعبه ولأتقيائه الذين يحبونه ويوقّرونه ويخشونه، وقد قال لهم: «لأني عرفتُ الأفكار التي أنا مفتكرٌ بها عنكم يقول الرب، أفكار سلام لا شرٍّ، لأعطيكم آخرةً ورجاء، فتدعونني وتذهبون، وتصلّون إليَّ فأسمعُ لكم، وتطلبونني فتجدونني إذ تطلبونني بكل قلبكم» (إر 29: 11-13). وقال: «يتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض» (زك 9: 10). ولا بد أن يعود هذا السلام بالخير للشعب، فلا يرجعون مرةً أخرى إلى حماقة الخطية، والاعتماد على الذات. وعندما نتساءل: «ألا تعود أنت فتحيينا؟» (آية 6) يطمئننا ويعِدُنا بالسلام قائلاً: «سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب» (يو 14: 27). فعندما نشكو من ضعف المؤمنين ومن انتشار الشر، يقول الرب لنا: «حيث كثُرت الخطية ازدادت النعمة جداً» (رو 5: 20) فيعمِّر الأمل قلوبنا ولا نيأس، لأن الرب عاملٌ في وسط شعبه، ونقول: «فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح» (رو 5: 1).
2 – الرب يخلِّص شعبه ويمجِّده: «لأن خلاصه قريب من خائفيه ليسكن المجد في أرضنا» (آية 9). عندما يتكلم الرب على شعبه بالسلام يقترب إليهم ويخلِّصهم وينقذهم من الذل والخطر، وبهذا يستجيب صلاتهم «أَرِنا يا رب رحمتك وأَعطِنا خلاصك» (آية 7) فيسكن المجد أرضهم بعد أن أضاعه منهم ذلُّ السبي البابلي. عندما أخذ الأعداء تابوت عهد الرب مات رئيس الكهنة عالي حزناً، ومن شدة الصدمة ماتت أيضاً زوجة ابنه فينحاس وهي تلد. وفي لحظات احتضارها سمَّت ولدها «إيخابود» أي زال المجد. لكن خلاص الرب يُعيد المجد للمؤمنين الذين يخافونه، فيتحقَّق معهم القول: «غطَّت السحابة خيمة الاجتماع، وملأ بهاءُ الرب المسكن، فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الاجتماع لأن السحابة حلَّت عليها وبهاء الرب ملأ المسكن» (خر 40: 34، 35). وهذا ما دُعي «الشكينا» أي حلول الله بمجده في هيكله وسط شعبه. وهو نفس ما حدث عندما دُشِّن هيكل سليمان، فملأ مجد الله المكان (2أخ 7: 1-3). وعندما يتحقَّق هذا الوعد نتغنّى: «ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هأنذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب. فيتصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم ويكونون لي شعباً، فأسكن في وسطك، فتعلمين أن رب الجنود قد أرسلني إليك» (زك 2: 10، 11).
أما المجد الكامل للرب فنجده في المسيح «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله.. والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً.. ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمةً فوق نعمة . لأن الناموس بموسى أُعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا» (يو 1: 1، 14، 16، 17). فالمسيح هو «صورة الله غير المنظور.. لأنه فيه سُرَّ أن يحِلَّ كلُّ الملء.. الذي هو بهاء مجده، ورسم جوهره، وحاملٌ كل الأشياء بكلمة قدرته» (كو 1: 15، 19 وعب 1: 3).
رابعاً – انتظار واثق
(آيات 10-13)
تذكر شعب الرب مراحمه الماضية، وطلبوا منه مراحم جديدة، فأرسل إليهم صوته المشجِّع برسالة سلام. وكنتيجة لهذا السلام انتظر الشعب ثلاثة أمور:
1 – المصالحة مع الله: «الرحمة والحق التقيا. البر والسلام تلاثما» (آية 10). الرب إله رحيم، وفي رحمته العظيمة دخل في عهدٍ مع محبّيه، وقد صدقت وعود رحمته دائماً. وفي الوقت نفسه هو إله بار وعادل، قال عن نفسه: «أنا الربُّ ولا إله غيري. إله بارٌّ ومخلِّص. ليس سواي. التفتوا إليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني أنا الله وليس آخر» (إش 45: 21، 22). فكيف يخلِّص الخاطئ العاصي وهو الإله البار؟ كيف يكون رحيماً وعادلاً معاً؟ وكيف يمارس رحمته مع الخاطئ فيقول له: «مغفورة لك خطاياك» (مر 2: 5) وفي الوقت نفسه ينفذ عدالته «لأن أجرة الخطية هي موت» (رو 6: 23)؟.. إن رحمه وسامحه يكون هذا على حساب عدالته. وإن عاقبه لا يكون رحيماً معه. فكيف يلتقي الحق بالرحمة، وكيف يعانق البرُّ العادلُ السلامَ الغافر؟ لا بد أن المرنم كتب هذه الآية بوحي الروح القدس، وقد أدرك بعض معناها في الذبائح الكفارية التي أمرت بها شريعة موسى، وكلها كانت ترمز إلى ما ندركه نحن اليوم إدراكاً كاملاً بعد أن جاءنا المسيح الذبح العظيم بالفداء والكفارة، ففي صليب المسيح استوفى العدل الإلهي حقَّه، وفيه أُعلنت رحمته بكامل جلالها. وقد لخَّص المسيح رسالته بقوله: «هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). مدَّ الرب لنا يد محبته في الصليب، فانشقَّ حجاب الهيكل من أعلى إلى أسفل، لكيلا يكون هناك حاجز بين الله العادل والإنسان الخاطئ اللاجئ إلى رحمته المخلِّصة (مت 27: 51). وكانت البداية والمبادرة من فوق إلى أسفل، من عند الله «الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح.. أي إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم» (2كو 5: 18، 19). «الرحمة والحق التقيا» في الصليب، حيث دفع المسيح أجرة الخطية وصالحنا مع الله. وتلاثم البر الذي هو العدل مع السلام، لأن عدالة الله أخذت حقها من المسيح، فأُطلِق الخاطئ التائب المعترف حراً، لأن الله لا يتقاضى أجرة الخطية مرتين!
2 – بركة الله: (آيتا 11، 12).
(أ) صُنع البر : «الحق من الأرض ينبت» (آية 11أ) لعن الله الأرض بسبب الخطية، وقال لآدم بعد أن عصاه: «ملعونةٌ الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تُنبِت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخِذتَ منها، لأنك ترابٌ وإلى تراب تعود» (تك 3: 17-19) فخرج الحق من الأرض. ولكن عندما يسود سلام الله قلوبنا نبدأ حياة الحق، ونسلك سلوك البر، لأن إيماننا يظهر في أعمالنا الصالحة، التي سبق الربُّ فأعدَّها لنا لنسلك فيها (أف 2: 10). فيتمُّ فينا القول: «ترنَّمي أيتها السماوات لأن الرب قد فعل. اهتفي يا أسافل الأرض. أشيدي أيتها الجبال ترنُّماً. الوعرُ وكل شجرة فيه، لأن الرب قد فدى يعقوب، وفي إسرائيل تمجَّد» (إش 44: 23).

(ب) بركة السماء: «لأن البر من السماء يطَّلع» (آية 11ب). عندما يسود سلام الله قلوب المؤمنين يتطلَّع برُّ الله إليهم من السماء كما تشرق الشمس، فينمو البر ويزيد ويزدهر في قلوب الناس، ويسود التوافق بين الناس والله، فيقول لهم: «في ذلك اليوم.. أستجيب السماوات وهي تستجيب الأرض. والأرض تستجيب القمح والمسطار والزيت» (هو 2: 21، 22) ويأمر الرب: «اقطُري أيتها السماوات من فوق، ولْيُنزل الجوُّ بِراً. لتنفتح الأرض فيثمرَ الخلاص. ولتُـنبتْ بِراً معاً. أنا الرب قد خلقتُه» (إش 45: 8).
(ج) بركة الأرض: «أيضاً الرب يعطي الخير، وأرضنا تعطي غلتها» (آية 12). عندما يسود البر والحق يجيء النجاح الاقتصادي «يفتح لك الربُّ كنزه الصالح، السماءَ، ليُعطيَ مطر أرضك في حينه، وليباركَ كل عمل يدك، فتُقرِضُ أمماً كثيرة وأنت لا تقترض، ويجعلك الرب رأساً لا ذَنَباً، وتكون في الارتفاع فقط» (تث 28: 12، 13). ويتحقَّق الوعد: «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتوكل عليه. اتَّقوا الرب يا قدّيسيه لأنه ليس عوزٌ لمتَّـقيه» (مز 34: 8، 9). لقد منحنا الله السلام في المسيح، وصالحنا به «الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء؟» (رو 8: 32). فإن كان قد وهبنا البركة الروحية التي هي أثمن مِن البركة الجسدية، ألا يعطينا البركة الجسدية! «انظروا إلى طيور السماء.. تأملوا زنابق الحقل» (مت 6: 26-32) كيف يعتني الرب بها «أما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة» (مت 10: 30). حقاً «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء. في مراعٍ خضر يربضني. إلى مياه الراحة يوردني.. ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقيَّ. مسحتَ بالدُّهن رأسي، كأسي ريا» (مز 23: 1-5).
3 – قيادة الله: «البر قدامه يسلك، ويطأُ في طريق خطواته» (آية 13). يقود الله أولاده دائماً في طرق البر، ويجعل عدله يسلك أمامهم، فيسلكون في آثار خطواته «لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله» (رو 8: 14). «حينئذ ينفجر مثل الصبح نُورُكَ، وتنبت صحتكَ سريعاً، ويسير برُّك أمامك، ومجد الرب يجمع ساقتك» (إش 58: 8). والساقة هم الذين يسيرون في المؤخَّرة، فالرب يرشد أول السائرين، كما يرشد آخرهم، ويفتح أمامهم جميعاً طرق البر، فيسير البر أمامهم، ويسير المؤمنون إلى الأمام أيضاً في طرقه، وهم يقولون: «يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه» (مز 23: 3).
فلنرنم هذا المزمور بالشكر، ولندعُ إله خلاصنا أن يتكلم بالسلام علينا، فيسكن مجده في أرضنا.

اَلْمَزْمُورُ السَّادِسُ وَالثَّمَانُونَ
صَلاَةٌ لِدَاوُدَ
1 أَمِلْ يَا رَبُّ أُذْنَكَ. اسْتَجِبْ لِي لأَنِّي مِسْكِينٌ وَبَائِسٌ أَنَا. 2احْفَظْ نَفْسِي لأَنِّي تَقِيٌّ. يَا إِلَهِي خَلِّصْ أَنْتَ عَبْدَكَ الْمُتَّكِلَ عَلَيْكَ. 3ارْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي إِلَيْكَ أَصْرُخُ الْيَوْمَ كُلَّهُ. 4فَرِّحْ نَفْسَ عَبْدِكَ، لأَنَّنِي إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي، 5لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ صَالِحٌ وَغَفُورٌ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِكُلِّ الدَّاعِينَ إِلَيْكَ.
6اِصْغَ يَا رَبُّ إِلَى صَلاَتِي، وَأَنْصِتْ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي. 7فِي يَوْمِ ضِيقِي أَدْعُوكَ، لأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي. 8لاَ مِثْلَ لَكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ، وَلاَ مِثْلَ أَعْمَالِكَ. 9كُلُّ الأُمَمِ الَّذِينَ صَنَعْتَهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ يَا رَبُّ، وَيُمَجِّدُونَ اسْمَكَ. 10لأَنَّكَ عَظِيمٌ أَنْتَ وَصَانِعٌ عَجَائِبَ. أَنْتَ اللهُ وَحْدَكَ.
11عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ اسْمِكَ. 12أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ إِلَهِي مِنْ كُلِّ قَلْبِي، وَأُمَجِّدُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْرِ، 13لأَنَّ رَحْمَتَكَ عَظِيمَةٌ نَحْوِي، وَقَدْ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ الْهَاوِيَةِ السُّفْلَى.
14اَللهُمَّ، الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ قَامُوا عَلَيَّ، وَجَمَاعَةُ الْعُتَاةِ طَلَبُوا نَفْسِي، وَلَمْ يَجْعَلُوكَ أَمَامَهُمْ. 15أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَالْحَقِّ. 16الْتَفِتْ إِلَيَّ وَارْحَمْنِي. أَعْطِ عَبْدَكَ قُوَّتَكَ، وَخَلِّصِ ابْنَ أَمَتِكَ. 17اصْنَعْ مَعِي آيَةً لِلْخَيْرِ، فَيَرَى ذَلِكَ مُبْغِضِيَّ فَيَخْزُوا، لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ أَعَنْتَنِي وَعَزَّيْتَنِي.

وحِّد قلبي لخوف اسمك
هذا المزمور هو الوحيد في الجزء الثالث من المزامير (مز 73-89) الذي كتبه داود، وعنوانه «صلاة لداود». وتشترك كل مزامير داود في أنها تتحدَّث عن عدوٍّ يهاجم، ومصاعب تزعج، ولكنها تنتهي دوماً بالانتصار بفضل الرب. وفي أثنائها يرى المرنمُ العدوَّ بوضوح، ولكنه يرى الله أكثر وضوحاً.
يتميز هذا المزمور بعدة أمور، فهو صلاة تبدأ بالشكر وتنتهي بالشكر، رغم أنه لا يقول إن الأزمة انتهت أو حتى تكاد تنتهي، مما يعني أن المرنم يَرى مَن لا يُرى وما لا يُرى. إنه يرى الشمس خلف الغيمة، ويدرك أنه بعد ظلمة الليل الشديدة لا بد أن يجيء الفجر، ثم تُشرق شمس صباح اليوم الجديد. في حياة كل مؤمن حقيقي بالمسيح صليبٌ، لا ينتهي الأمر به، لأن القيامة والصعود والمجد ومجيء المسيح ثانية تجيء بعد ذلك الصليب، فيتعبَّد المؤمن إلى الرب الذي يصفه أليهو (صديق أيوب) بأنه «مؤتي الأغاني في الليل» (أي 35: 10)، ويقول: «عند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح ترنُّم» (مز 30: 5)، ومرنمنا لم يرَ بعدُ شمس الصباح، لكنه واثق أنها لا بد ستشرق، فالانتصار النهائي دوماً للمسيح، ولكل من يتبعه.
ويتميَّز هذا المزمور أنه (في لغته العبرية الأصلية) يذكر اسم الجلالة «أدوناي» سبع مرات، بمعنى أنه السيد والرب، الذي يتعبَّد له المرنم ويحيا في خدمته، وبالتالي يعيش تحت حمايته وبفضل إرشاده. وهو في هذا يسير في خُطى والدته، ويقول: «خلِّص ابن أَمَتك» (آية 16) كما قالت العذراء القديسة مريم للملاك: «هوذا أنا أَمَة الرب. ليكن لي كقولك» (لو 1: 38). وقد كرر داود الوصف نفسه في مز 116: 16 إذ قال: «أنا عبدك ابن أمتك». وسيادة الله تعني أن يده القوية الكريمة تمسك بالعدو الشرير الذي يطارد داود، وتجعله يحقق المقاصد الإلهية دون أن يدري. ويحيا كل مؤمن في حماية الرب مثل عليقةٍ تتوقَّد بالنار لكنها لا تحترق (خر 3: 2)، فيتقدم روحياً بالرغم من الصعوبات التي تعترضه، بل إنها تجعله أكثر قوة. تقول أسطورة إن الطيور أول ما خلقها الله اشتكت له من ثقل جناحيها، لأنها لم تكن تعلم أن هذا «الثقل» هو الذي سيجعلها تحلِّق عالياً. إن رفع الأثقال هو الذي يقوّي العضلات. وعندما يسمح الله لنا أن نحمل حملاً ثقيلاً يعطينا القوة التي تمكننا من حمله، وتبقى هذه القوة معنا بعد زواله، فيتلاشى الحمل وتبقى النعمة، لأن الرب لا يسترد نعمته الموهوبة. فطوبى للمؤمنين الذين يدركون أنهم عبيد السيد الرب، وأن الكون كله في يده يحقق مقاصده.
ويتفرَّد هذا المزمور أيضاً بطلبة «وحِّد قلبي لخوف اسمك» (آية 11ب). فما أكثر ما تتنازعنا هموم العالم وغرور الغنى واشتهاء الماديات، فنـتشتَّـت. فلنرفع صلاة المرنم هذه، عالمين أن «شهوة الصديقين تُمنَح» (أم 10: 24) وهي شهوة عمل مشيئة الرب، والحياة في طاعته وخدمته.
ويتميَّز هذا المزمور أيضاً بالقول: «كل الأمم الذين صنعتَهم يأتون ويسجدون أمامك يا رب، ويمجِّدون اسمك» (آية 9) فيرفع أبصارنا إلى مجيء المسيح ثانية الذي يجب أن نستعد له، لا لأن الأحداث السياسية تذكِّرنا به، لكن لأن مخلِّصنا أكَّده لنا (مت 24 مثلاً). فلنكن دائماً منتظرين وطالبين سرعة مجيئه، فتراه كل عين والذين طعنوه، وتنوح عليه جميع قبائل الأرض (رؤ 1: 7) فتفيض دموع المؤمنين فرحاً لاستقباله ويخضعون له، وتنهمر دموع الذين ابتعدوا عنه رعباً من سوء المصير.

في هذا المزمور نجد:
أولاً – طلب الغفران (آيات 1-5)
ثانياً – طلب النجاة (آيات 6-10)
ثالثاً – طلب التكريس (آيات 11-13)
رابعاً – طلب آية (آيات 14-17)

أولاً – طلب الغفران
(آيات 1-5)
في هذا الجزء من المزمور يطلب المرنم الغفران من الله الغفور وكثير الرحمة، للأسباب التالية:
1 – بسبب بؤس المرنم: «أَمِل يا ربُّ أذنك. استجب لي، لأني مسكينٌ وبائس أنا» (آية 1). يشعر المرنم بصغر النفس وقِلَّة القيمة أمام عظمة الرب وارتفاعه، كما صرخ إشعياء وهو يرى عظمة الله: «ويلٌ لي. إني هلكت، لأني إنسانٌ نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود» (إش 6: 5)، وكما صرخ بطرس وهو يختبر معجزة صيد السمك الوفير، فقال للمسيح: «اخرُج من سفينتي يا رب، لأني رجلٌ خاطئ» (لو 5: 8). إنه «مسكين بالروح» (مت 5: 3) يشعر ببؤسه، ويدرك أن الله العليَّ العظيم محب قريب، فيطلب منه أن يميل أذنه إليه، وأن يدنو منه وينحني عليه ليسمع طلباته. وكأنه يقول مع جدِّه يعقوب: «صغيرٌ أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعتَ إلى عبدك» (تك 32: 10). إنه يدرك حجمه وقدراته المحدودة، كطفل صغير يقف إلى جوار أمه، يصرخ بكل ما فيه من قوة، فتحنو الأم عليه، وتنحني حتى تصل إلى مستوى قامته، وتميل أذنها إليه، وتسمع شكواه، وتهتم به، وتطعمه، وتطمئنه. والمرنم يعلم أنه مسكين وبائس، لا نفوذ عنده ولا مال ولا عِلم، ولكنه يلجأ إلى الله المحب، عالماً أنه لا بد سيستجيبه ويغفر خطاياه.
2 – بسبب تقوى المرنم: «احفظ نفسي لأني تقي. يا إلهي خلِّص أنت عبدك المتَّكل عليك» (آية 2). هناك علاقة قويَّة بين المرنم وإلهه، فهو «تقي» وهو «عبد» وهو «متَّكل» وهو واثق أن الله يحبه. وفي تقواه، واستعباد نفسه لله، واعتماده على محبة الله وأمانته وصدق مواعيده، يطلب منه أن يحفظ نفسه من التجارب وأعداء الصلاح، لأنه«حافظٌ نفوس أتقيائه» (مز 97: 10) وكأنه يصلي: «لا تُدخِلنا في تجربة، لكن نجِّنا من الشرير» (مت 6: 13). وهذا ما فعله المسيح لبطرس، فقال له: «الشيطان قد طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكنني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك» (لو 22: 31). ولما كان كل مؤمن مستهدَفاً من العدو، فيطلب الحفظ والخلاص الإلهيين، من الخطايا الماضية بالغفران (لو 7: 48، 50) ومن خطايا الحاضر بالتقديس والتطهير (في 2: 12، 13) كما ينتظر منه مستقبلاً أن يكمل خلاصه بتمجيده في السماء (1بط 1: 5). وخلاص الرب يشمل كل نواحي الحياة، فهو يخلِّص من هجوم الأعداء (مز 27: 1-3)، ومن المرض (لو 8: 36)، ومن الجوع (مز 36: 6)، ومن كل ضيق (مز 34: 6). وقول المرنم: «خلِّص أنت» يعني ثقته أنه لا خلاص له بعيداً عن إلهه، ففي الضيق يصلي المرء مع الملك حزقيا: «أيها الرب إلهنا، خلِّصنا من يده (العدوّ)، فتعلم ممالك الأرض كلها أنك أنت الرب وحدك» (إش 37: 20) وفي خطاياه يستمع المرء إلى نصيحة الرسول بطرس: «ليس بأحدٍ غيره الخلاص، لأن ليس اسمٌ آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلُص» (أع 4: 12).
3 – بسبب صراخ المرنم: «ارحمني يا رب لأنني إليك أصرخ اليوم كله» (آية 3). يصرخ المرنم اليوم كله لأنه يرى خطاياه، ويشعر بشديد حاجته إلى الغفران الإلهي. إنه في غاية الكرب والضيق لأنه يعلم أن أعماله الصالحة وجهاده الشخصي وتعبُّده وبكاءه وندمه لن تمنحه الغفران. ويصف الرسول بولس حالة الخاطئ بأنه ميت في ذنوبه وخطاياه، لأنه بعيد عن الله. ويوضح أن الأمل الوحيد للحصول على الغفران هو في «الله الذي هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبَّنا بها، ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المسيح، وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع، ليُظهِر في الدهور الآتية غِنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع. لأنكم بالنعمة مخلَّصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد» (أف 2: 4-9).
4 – بسبب حزن المرنم: «فرِّح نفس عبدك، لأنني إليك يا رب أرفع نفسي» (آية 4). لا يوجد شيء يكسر قلب الإنسان أكثر من الخطية والبُعد عن الله والشعور بالذنب، فالخطية حِملٌ ثقيل، وهمٌّ مرعب. ولا يقدر العالم أن يعطي أتباعه الفرح الحقيقي والدائم، فحتى أخباره التي تبدأ مفرحة تنتهي بالحزن والألم. وقد اكتشف الملك داود هذه الحقيقة، فلجأ إلى الرب، المصدر الوحيد للفرح الحقيقي، ورفع نفسه من بؤسها إليه وطلب الفرح، لأن فرح الرب هو قوته (نح 8: 10). قال المرنم: «فإني فقير ومسكين أنا، وقلبي مجروح في داخلي» (مز 109: 22)، وقال النبي إرميا: «توجعني جدران قلبي. يئنُّ فيَّ قلبي» (إر 4: 19). ولجأ المرنم، كما لجأ النبي إرميا إلى الرب رافع نفس الإنسان من حفرة الحزن واليأس، فكان لهما ما أرادا. فلنردد مع الرسول بطرس قوله: «يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك» (يو 6: 68) لأنه قال: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (مت 11: 28). وعندما نجيء إليه تائبين، طالبين فرح الغفران نقول: «أما أنا فمسكين وبائس. الرب يهتم بي. عوني ومنقذي أنت» (مز 40: 17) ونطيع الوصية الرسولية: «افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضاً افرحوا» (في 4: 4).
5 – بسبب ثقة المرنم: «لأنك أنت يا رب صالحٌ وغفور وكثير الرحمة لكل الداعين إليك» (آية 5). يطلب المرنم الغفران وهو واثق من نواله لأن الله صالح وغفور وكثير الرحمة، وقلبه متَّسع لكل من يدعوه. «الرب إلهٌ رحيم ورؤوف. بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى ألوف. غافر الإثم والمعصية والخطية» (خر 34: 6، 7). وبسبب هذه الصفات يدعونا: «ارجعوا إليَّ بكل قلوبكم، وبالصوم والبكاء والنوح، ومزِّقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم، لأنه رؤوف رحيم، بطيء الغضب وكثير الرأفة» (يوئيل 2: 12، 13).

ثانياً – طلب النجاة
(آيات 6-10)
طلب المرنم الغفران من الإله الصالح الغفور كثير الرحمة، ووثق في الاستجابة، فاتَّجه إليه مرة أخرى يطلب منه الفرج من ضيقاته. وكثيراً ما يحس الخاطئ بعدم أهليَّته لطلب أي شيء من الله، لأنه يعلم أنه غير راضٍ عنه. لكن عندما يعلم أن الله قبله وغفر له يتقدم بثقة إلى عرش النعمة. في هذه الآيات الخمس يقدم المرنم طلب النجاة من الضيق (آيتا 6، 7)، ثم يمجد الله الذي سينجيه (آيات 8-10).
1 – تضرعات المرنم: «اصغ يا رب إلى صلاتي وانصت إلى صوت تضرعاتي. في يوم ضيقي أدعوك لأنك تستجيب لي» (آيتا 6، 7). كان المرنم يعلم أن ضيقه مؤقت، وليس كل يوم! فلم يقُل «سنة ضيقي» ولا «عُمر ضيقي» لأن الرب لا يسمح للمؤمن أن يتضايق بلا نهاية، كما قال المسيح لملاك كنيسة سميرنا: «يكون لكم ضيق عشرة أيام. كُن أميناً إلى الموت، فسأعطيك إكليل الحياة» (رؤ 2: 10). وكما يوجد يوم ضيق، يوجد أيضاً يوم فرج وبركة، لأن الرب يستجيب صلاة المؤمن المتضايق، وقد أمره: «ادعُني في يوم الضيق أنقذك فتمجدَني» (مز 50: 15). و«الله أمين، الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا» (1كو 10: 13).
2 – إله المرنم: (آيات 8-10).
(أ) هو الأعظم: «لا مثلَ لك بين الآلهة يا رب، ولا مثلَ أعمالك» (آية 8). عبد فرعون أصناماً، وعبد موسى الإله الحي، الذي لا يمكن مقارنة عظمته بآلهة الوثن، فالرب هو الله وليس آخر سواه (تث 4: 35). ترنَّم موسى وشعبُه المفدي لهذا الإله الحي، صانع السماوات والأرض، الذي ينجي الداعي الذي يدعوه وهم يرون جيش فرعون يغرق، فقالوا: «مَن مثلُك بين الآلهة يا رب؟ من مثلك معتزاً في القداسة. صانعاً عجائب؟» (خر 15: 11). وله قال موسى وهو على مشارف أرض الميعاد: «»يا سيدُ الربُّ، أنت قد ابتدأت تُري عبدك عظمتك ويدك الشديدة. فإنه أيُّ إلهٍ في السماء وعلى الأرض يعمل كأعمالك وكجبروتك؟» (تث 3: 24). هذا الإله عظيم في صفاته وأعماله، فعّال لما يريد »الذي نجانا من موتٍ مثلِ هذا، وهو ينجي. الذي لنا رجاءٌ فيه أنه سينجي أيضاً فيما بعد« (2كو 1: 10).
(ب) يسجد له كل البشر: «كل الأمم الذين صنعتَهم يأتون ويسجدون أمامك يا ربُّ، ويمجِّدون اسمك» (آية 9). «صنع من دمٍ واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض، وحتم بالأوقات المعيَّنة وبحدودٍ مسكنهم» (أع 17: 26). فلا بد أن يجيء اليوم الذي فيه يسجدون جميعهم له، يمجدونه بشفاههم وبأعمالهم الصالحة. لم تتحقق هذه النبوَّة الكريمة بتمامها بعد، ولكن لا بد أن تتم. لقد تمت جزئياً في قول المسيح: «إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب إليّ الجميع» (يو 12: 32) فآمن به بلايين البلايين بعد أن رُفع علي الصليب. ولكن سيجيء الوقت الذي تتحقق فيه هذه النبوة بكمالها، عندما يجيء المسيح ثانيةً بمجده إلى أرضنا، فتجثو له كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن المسيح هو رب (في 2: 10، 11) «ويكون الرب ملكاً على كل الأرض. في ذلك اليوم يكون الرب وحده، واسمه وحده» (زك 14: 9). ويتحقق قول المرنم: «تذكر وترجع إلى الرب كل أقاصي الأرض، وتسجد قدامك كل قبائل الأمم، لأن للرب المُلك، وهو المتسلط على الأمم» (مز 22: 27، 28). كما تتحقق نبوة إرميا: «ولا يعلِّمون بعد كل واحد صاحبه، وكل واحد أخاه قائلين: اعرفوا الرب، لأنهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، يقول الرب» (إر 31: 34). وهذا هو موضوع ترنيمة موسى والحمل «عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء. عادلةٌ وحقٌّ هي طرقك يا ملك القديسين. من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك؟ لأنك وحدك قدوس. لأن جميع الأمم سيأتون ويسجدون أمامك، لأن أحكامك قد أُظهِرت» (رؤ 15: 3، 4).
(ج) يُجري المعجزات: «لأنك عظيم أنت وصانعٌ عجائب. أنت الله وحدك» (آية 10). يصنع الله معجزات كل يوم في العناية بمخلوقاته «تأملوا الغربان، إنها لا تزرع ولا تحصد وليس لها مخدع ولا مخزن، والله يقيتها. كم أنتم بالحري أفضل من الطيور!» (لو 12: 24). قال لموسى: «ها أنا قاطعٌ عهداً: قدام جميع شعبك أفعل عجائب لم تُخلَق في كل الأرض وفي جميع الأمم، فيرى جميع الشعب الذي أنت في وسطه فِعل الرب. إن الذي أنا فاعله معك رهيب» (خر 34: 10). قد يصادفنا شيء جميل نقول إنه أعجوبة، لكنه لا يتكرر. أما معجزات الله فهي واحدة بعد الأخرى، وهي لا تجري صدفةً، بل بتدبير سماوي يفوق كل إدراكنا البشري.

ثالثاً – طلب التكريس
(آيات 11-13)
بعد أن نال المرنم الغفران والنجاة قرر أن يعيش لله كل أيام حياته حياة الاتِّباع والطاعة والحب.
1 – قلب موحَّد: «علِّمني يا رب طريقك، أسلك في حقك. وحِّد قلبي لخوف اسمك» (آية 11). يطلب المرنم أن يتعلم طريق الرب، طريق الحق، الطريق المستقيم، فيسلك فيها بكل قلبه، ويتَّجه بمجامع نفسه نحو الرب وحده، فليس من يستحق الثقة المطلقة والطاعة الكاملة إلا هو! تقول الوصية الأولى والعظمى: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك» (تث 6: 4، 5). «ماذا يطلب منك الرب إلهك، إلا أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه، وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك» (تث 10: 12). والمرنم يعلم صعوبة تنفيذ هذا الطلب، ويتفق مع القول: «لأني لستُ أعرف ما أنا أفعله، إذ لست أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإياه أفعل. فإن كنت أفعل ما لست أريده فإني أصادق الناموس أنه حسن. فالآن لستُ بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطية الساكنة فيَّ» (رو 7: 15-17). وفي صلاته «وحِّد قلبي» يرفض انقسام ولائه، وكأنه يصرخ: «قلباً نقياً اخلُق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّد في داخلي» (مز 51: 10)، فيتحقق معه الوعد الإلهي: «وأعطيهم قلباً واحداً وطريقاً واحداً ليخافوني كل الأيام، لخيرهم وخير أولادهم من بعدهم» (إر 32: 39).
2 – قلب شاكر: «أحمدك يا رب إلهي من كل قلبي، وأمجِّد اسمك إلى الدهر، لأن رحمتك عظيمةٌ نحوي، وقد نجَّيت نفسي من الهاوية السفلى» (آيتا 12، 13). يسبِّح المرنم ربه لأن الترنُّم صالح، لأنه مُلذٌّ. التسبيح لائق (مز 147: 1) ويسبِّح ربَّه بسبب فضل الله عليه وعلى أُمَّته، فيقول: «أحمدك بين الشعوب يا رب. أرنِّم لك بين الأمم، لأن رحمتك قد عظُمت إلى السماوات، وإلى الغمام حقُّك» (مز 57: 9، 10). وربما يقصد المرنم بنجاته من الهاوية السفلى نجاته من حفرة ومكيدة دبَّرها له أعداؤه وفشلوا في تنفيذها.. أو لعله كان معرَّضاً للموت، فنجاه الرب من الهاوية السفلى، وهي القبر.. ولعله كان يفكر في أمَّته المعرَّضة للهزيمة والسبي، فأنقذها الله من الهاوية السفلى بنصرٍ من عنده. حقاً «باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته.. الذي يفدي من الحفرة حياتك» (مز 103: 2، 4).

رابعاً – طلب آية
(آيات 14-17)
يطلب المرنم من الرب أن يصنع معه آية، لأربعة أسباب:
1 – بسبب شرور أعدائه: «اللهمَّ، المتكبِّرون قد قاموا عليَّ، وجماعة العُتاة طلبوا نفسي، ولم يجعلوك أمامهم» (آية 14). عندما وشى أهل برية زيف بداود، وقالوا لشاول إن داود عندهم، صلى داود: «غرباء قد قاموا عليَّ، وعتاة طلبوا نفسي. لم يجعلوا الله أمامهم» (مز 54: 3). ومع أن أهل برية زيف كانوا أقرباء داود حسب الجسد، إلا أنهم كانوا غرباء عنه في مشاعرهم، فلجأ إلى إلهه القريب منه طالباً الإنقاذ، وكأنه يردِّد: «لأنه قد أحاطت بي كلاب، جماعة من الأشرار اكتنفتني» (مز 22: 16).
2 – بسبب رحمة إلهه: «أما أنت يا رب فإله رحيم ورؤوف، طويل الروح وكثير الرحمة والحق» (آية 15). صحيح أن الأعداء متكبرون عتاة لا يخافون الله، ولكنه واثق من رحمة إلهه، فيتشجع ويطلب الرحمة والرأفة، كما يطلب العدالة. إنه يستحق عقاب الله على خطاياه، ولكنه يثق أن الله لم يهمله ولن يتركه.
3 – بسبب انتمائه لإلهه: «التفت إليَّ وارحمني. أعط عبدك قوتك، وخلِّص ابن أمتك» (آية 16). يحس داود أنه عبد لله، مولود في بيت سيده (تك 14: 14) يُوثَق فيه ويؤتمَن على مسؤولية. إنه من أهل البيت (أف 2: 19) وهو يشبه النبي صموئيل الذي نذرته أمه للرب. وبسبب هذه العلاقة الخاصة جداً طلب الرحمة والخلاص. لقد وعد الرب عبده ابن أَمَته بمواعيد صالحة، حقَّقها لأنه إلهٌ صالح وكثير الرحمة والحق، ولا بد أن يستمر معه يجدد له تحقيق ما سبق أن وعده به، قائلً له: «تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل» (2كو 12: 9).
4 – ليخزَى أعداؤه: «اصنع معي آيةً للخير فيرى ذلك مبغضيَّ فيخزوا، لأنك أنت يا رب أعنتني وعزَّيتني» (آية 17). يطلب المرنم آية جديدة منظورة وواضحة. لقد سبق وصنع الله معه آيات ومعجزات كثيرة، أعانته في محنته، وعزَّت قلبه وشجعته في الماضي. ويحتاج الموقف الجديد إلى آية جديدة للخير، بحسب وعد الرب «أَجعل عينيَّ عليهم للخير.. وأبنيهم ولا أهدمهم، وأغرسهم ولا أقلعهم، وأعطيهم قلباً ليعرفوني أني أنا الرب، فيكونوا لي شعباً، وأنا أكون لهم إلهاً، لأنهم يرجعون إليَّ بكل قلبهم» (إر 24: 6، 7). حقاً «إن يد إلهنا على كل طالبيه للخير، وصَوْلته (نفوذه) وغضبه على كل من يتركه» (عز 8: 22). «هكذا قال الرب: في وقت القبول استجبتك، وفي يوم الخلاص أعنتُك، فأحفظك.. ترنَّمي أيتها السماوات، وابتهجي أيتها الأرض. لتُشِدِ الجبال بالترنُّم لأن الرب قد عزَّى شعبه، وعلى بائسيه يترحَّم» (إش 49: 8، 13).
ليستجب الله صلاتنا ونحن نصلي مع داود: «التفِت إليَّ وارحمني. أعط عبدك قوتك وخلِّص ابن أمتك» وليكن الرب سيد حياتنا، وصاحب الكلمة الأخيرة في كل قراراتنا وأعمالنا.

اَلْمَزْمُورُ السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ
لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورُ تَسْبِيحَةٍ
1 أَسَاسُهُ فِي الْجِبَالِ الْمُقَدَّسَةِ. 2الرَّبُّ أَحَبَّ أَبْوَابَ صِهْيَوْنَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مَسَاكِنِ يَعْقُوبَ. 3قَدْ قِيلَ بِكِ أَمْجَادٌ يَا مَدِينَةَ اللهِ. سِلاَهْ
4أَذْكُرُ رَهَبَ وَبَابِلَ عَارِفَتَيَّ. هُوَذَا فَلَسْطِينُ وَصُورُ مَعَ كُوشَ. هَذَا وُلِدَ هُنَاكَ. 5وَلِصِهْيَوْنَ يُقَالُ: «هَذَا الإِنْسَانُ وَهَذَا الإِنْسَانُ وُلِدَ فِيهَا، وَهِيَ الْعَلِيُّ يُثَبِّتُهَا». 6الرَّبُّ يَعُدُّ فِي كِتَابَةِ الشُّعُوبِ أَنَّ هَذَا وُلِدَ هُنَاكَ. سِلاَهْ. 7وَمُغَنُّونَ كَعَازِفِينَ كُلُّ السُّكَّانِ فِيكِ.

مدينة الله
هذا المزمور ترنيمة ابتهاج بصهيون، حيث هيكل الرب الذي بناه سليمان. وصهيون معناها «الحصن» والجبل المنيع الذي له مكانة خاصة عند بني إسرائيل، لأن داود استولى عليه من اليبوسيين بقوة الرب، فأُطلق عليه اسم «مدينة داود» (2صم 5: 7)، ونقل إليه تابوت عهد الرب (2صم 6: 10-12)، فصار الحصن مكان سكنى الله، ورمز حضوره وسط شعبه، ورمز الانتصار على العدو. ثم بنى الملك سليمان هيكله على جبل المريا ونقل إليه التابوت. واتسع نطاق صهيون لتشمل حصن صهيون وجبل المريا، وصار المريا معروفاً بصهيون حيث هيكل الله، وموضع قدسه، حتى قال المرنم: «عظيم هو الرب وحميد جداً في مدينة إلهنا جبل قدسه، جميل الارتفاع فرح كل الأرض جبل صهيون.. مدينة الملك العظيم» (مز 48: 1، 2). وكثيراً ما تطلق التوراة اسم صهيون على مدينة أورشليم كلها (مثلاً 2مل 19: 21 وإش 1: 8).
يحقق مزمورنا ما جاء في مزمور 86: 9 «كل الأمم الذين صنعتهم يأتون ويسجدون أمامك يا رب ويمجدون اسمك» وهذه نبوَّة تحققت بصورة مجيدة يوم الخمسين في الكنيسة التي امتدت إلى كل الأمم، الذين كانوا بدون مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد، فصاروا في المسيح رعيَّة مع القديسين وأهل بيت الله (أف 2: 12، 19). وصهيوننا وأورشليمنا اليوم روحيتان، هما الكنيسة التي تضم كل من آمن بالمسيح من كل شعب، الأمر الواضح في قول الرسول بولس: «أورشليم الحاضرة مستعبَدَة مع بنيها، وأما أورشليم العليا، التي هي أمنا جميعاً، فهي حرَّة» (غل 4: 25، 26). ونحن ندرك أن كل مؤمن بالمسيح كان حصناً يحتله إبليس وجنوده، فأنقذه المسيح بمحبته التي حاصرته، وأعتقته من أسر الخطية وأطلقته إلى حرية مجد أولاد الله، وحل الرب بالإيمان في قلبه وسكن فيه، فصار مُلكاً للذي اشتراه بدمه، وجعل منه هيكلاً مقدساً له. صهيون اليوم هي الكنيسة، لا بالمعنى الحرفي من احتلال حربي لجبال مادية، لكن بالمعنى الروحي في امتلاك الرب للفكر والقلب والحياة، فيتحقق الوعد روحياً «ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم. وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب، فيعلِّمنا من طرقه ونسلك في سبله» (إش 2: 2، 3).

في هذا المزمور نجد:
أولاً- المدينة المجيدة (آيات 1-3)
ثانياً- المدينة الولودة (آيات 4-6)
ثالثاً- المدينة الفرحانة (آية 7)

أولاً – المدينة المجيدة
(آيات 1-3)
1 – مجيدة في أساسها: «أساسه في الجبال» (آية 1). أساس بيت الله في الجبال المقدسة، ولذا فهو ثابت ومستقر، والمدينة حوله مجيدة بسبب وجوده في وسطها «الله في وسطها فلن تتزعزع. يعينها الله عند إقبال الصبح» (مز 46: 5). وهي ثابتة لأن الرب يحميها ويحرسها. «الله لنا ملجأ وقوة، عوناً في الضيقات وُجد شديداً. لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار» (مز 46: 1، 2). والكنيسة تبقى ثابتة مجيدة لأن أساسها المسيح صخر الدهور و«لا يستطيع أحد أن يضع أساساً آخر غير الذي وُضع، الذي هو يسوع المسيح» (1كو 3: 11).
ويعتبر صاحب مزمور الأسرة أن بيت الإنسان التقي مدينة صغيرة ثابتة على الصخر، لا يسقط حتى لو جاءت عليه الرياح ونزلت الأمطار، لأنه مؤسس على المسيح صخرنا. حقاً «إن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون. إن لم يحفظ الرب المدينة فباطلاً يسهر الحارس» (مز 127: 1).
2 – مجيدة في قداستها: «أساسه في الجبال المقدسة» (آية 1). بيت الله مقدس لأنه يخص الله، ولأن الله القدوس يسكنه، وقد بُني على جبل ليكون منارة يرى الجميع نورها، لأنه لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل (مت 5: 14). وكل من يُقبل إليه يترك هموم العالم وظلامه ويسلك في النور والقداسة (يو 8: 12). وقد وصف يوحنا الرائي الكنيسة المقدسة، أورشليم السماوية بقوله: «رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله.. وسمعت صوتاً عظيماً من السماء قائلاً: هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعباً، والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم» ( رؤ 21: 1، 3). فما أعظم فرحنا بما أعدَّه الله القدوس لنا في حياتنا الحاضرة والمستقبلة.
3 – مجيدة في حب الرب لها: «الرب أحب أبواب صهيون أكثر من جميع مساكن يعقوب» (آية 2). ارتحل تابوت الرب مرات عديدة وأقام في أماكن كثيرة لفترات طالت وقصرت، لكن الرب اختار جبل صهيون ليكون المقرَّ الأخير لإقامته، ويكون قد أحبه أكثر من كل الأماكن التي أقام فيها بنو إسرائيل، وقال عن صهيون: «هذه راحتي لأني اشتهيتها» (مز 132: 14). كانت هناك جبال كثيرة عالية «جبل الله جبل باشان جبل أسنمة.. لماذا أيتها الجبال المسنَّمة ترصدن الجبل الذي اشتهاه الله لسكنه؟ بل الرب يسكن فيه إلى الأبد» (مز 68: 15، 16). اختار الرب جبل صهيون ليس لأنه أكثرها ارتفاعاً أو أعظمها منظراً، فهو أقل من غيره، ولكنه اختاره اختيار النعمة، كما قال لبني إسرائيل: «ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم، لأنكم أقل من سائر الشعوب، بل من محبة الرب إياكم، وحفظه القسَم الذي أقسم لآبائكم، أخرجكم الرب بيد شديدة وفداكم من بيت العبودية، من يد فرعون ملك مصر» (تث 7: 7، 8). فالرب لم يختر بني إسرائيل لأنهم أكثر الشعوب عدداً، ولا لأنهم أقوى الشعوب، لأنهم كانوا المستضعفين في الأرض. «اختار الله جهّال العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود» (1كو 1: 27، 28). ونحن نسجد بكل تواضع للرب الذي أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا، وسيق للموت طوعاً ليفدينا، وقال لنا: «ليس أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر، ويدوم ثمركم» (يو 15: 16).
اختار الرب داود من وراء الغنم لأنه وجده حسب قلبه (أع 13: 22)، واختار العذراء القديسة مريم لتكون أم المخلص، فقالت بكل تواضع: «هوذا أنا أمة الرب. ليكن لي كقولك» (لو 1: 38). واختار بطرس الصياد وقال له: «على هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18). واليوم يختارك ليقول لك إنه يحبك ويريد أن يخلِّصك.
4 – مجيدة في الإشادة بها: «قد قيل بك أمجاد يا مدينة الله» ( آية 3). مدينة الله مجيدة في حاضرها، ومجيدة في مستقبلها. فيها أعظم فكر، ويسكنها أفاضل الناس. وقد اختارها الرب مسكناً له ليعلن فيها مجده، وليكرمها بسكناه، كما حدث عندما صلى سليمان صلاة تدشين الهيكل «أن بيت الرب امتلأ سحاباً. ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب، لأن مجد الرب ملأ بيت الله» (2أي 5: 13، 14). ويقول المرنم: «عظيم هو الرب وحميد جداً في مدينة إلهنا، جبل قدسه. جميل الارتفاع، فرح كل الأرض جبل صهيون. فرح أقاصي الشمال مدينة الملك العظيم.. كما سمعنا هكذا رأينا في مدينة رب الجنود، مدينة إلهنا. الله يثبتها إلى الأبد» (مز 48: 1، 2، 8).
وتصدق هذه الأقوال العظيمة على كل مؤمن لأنه هيكلٌ للروح القدس، بعد أن حلَّ المسيح بالإيمان في قلبه (أف 3: 17) ومنحه مجد التبني «انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله» (1يو 3: 1)، وسيمنحه المجد العظيم في السماء «ما لم ترَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان: ما أعدَّه الله للذين يحبونه» (1كو 2: 9). ويتطلع المؤمن الذي يسكن المسيح قلبه إلى الأمام، إلى الحياة الأفضل التي يهبها المسيح له في هذا العالم (يو 10: 10). أما الأفضل من الحاضر فهو الآتي «المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله» (عب 11: 10) والكنيسة مشهود لها بأعظم فكر وأسمى تعاليم، وأعظم من يعلنون محبة الله للناس ويُظهرون رائحة المسيح الذكية. فلنحقق فكر الرب ونجعل له السيادة الكاملة على حياتنا الحاضرة مهما كلفنا هذا.

ثانياً – المدينة الولودة
(آيات 4-6)
1 – البعيدون يولدون فيها: «أََذكر رهب وبابل عارفتيَّ. هوذا فلسطين وصور مع كوش. هذا وُلد هناك» (آية 4). المتكلم هنا هو الرب، الذي وحده يستطيع أن يفتح قلوب الوثنيين ليسمعوا رسالته ويقبلوها، والذي وحده يعطي ميلاداً جديداً. وهذه الآية تتطابق مع نبوَّة إشعياء: «لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب.. يكون في ذلك اليوم أن أصل يسى (المسيح) القائم رايةً للشعوب، إياه تطلب الأمم، ويكون محله مجداً» (إش 2: 3 و11: 10). فيقول المولودون من الله: «مباركٌ الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي، بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنَّس ولا يضمحل، محفوظ في السماوات» (1بط 1: 3، 4)، ويقولون إن الله «شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه» (يع 1: 18).
شاء الله أن تولد ضمن عائلته أممٌ بعيدة عن شريعته، يبدأها بدولة «رهب». وهو اسم تنين ذُكر في أيوب 26: 12. و«رهب» في مزمورنا هي مصر (هكذا دعاها الوحي في إش 30: 7 ومز 89: 10) وذلك لكبريائها وعظمتها التي ظهرت في فرعون الذي سام موسى وشعبه سوء العذاب. وكانت مصر القوة الجنوبية العظمى بالنسبة لبني إسرائيل.. ثم شاء أن تولد «بابل» القوة الشمالية العظمى ضمن عائلته، وكذلك فلسطين وصور العدوتان المتحالفتان ضد بني إسرائيل.. ثم تولد كوش المعروفة بتجارتها وشهرتها، وهي البعيدة عن جبل صهيون. وحقق الرب يوم الخمسين نبوة إشعياء القائلة: «يبارِك رب الجنود قائلاً: مباركٌ شعبي مصر، وعمل يديَّ أشور، وميراثي إسرائيل» (إش 19: 25)، فيقول الوحي: «ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معاً بنفس واحدة. وكان يهود رجال أتقياء من كل أمة تحت السماء ساكنين في أورشليم: فرتيون وماديون وعيلاميون، والساكنون ما بين النهرين، واليهودية وكبدوكية وبنتس وأسيا وفريجية وبمفيلية ومصر ونواحي ليبية التي نحو القيروان، والرومانيون المستوطنون، يهود ودخلاء، كريتيون وعرب.. يتكلمون بألسنتنا بعظائم الله» (أع 2: 1، 5، 9-11). فهذه كلها خرافٌ أُخر ليست من حظيرة بني إسرائيل، أتي الرب بها لتكون رعية واحدة وراع واحد (يو 10: 16).
2 – محل الميلاد: «ولصهيون يُقال: هذا الإنسان وُلد فيها. وهى العلي يثبِّتها» (آية 5). عندما حدَّثت المرأة السامرية المسيح عن المكان الذي يجب أن يُسجَد فيه أجابها: «أنتم تسجدون لِما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لِما نعلم، لأن الخلاص هو من اليهود» (يو 4: 22). وقصد المسيح بقوله هذا أنه المخلِّص «وليس بأحدٍ غيره الخلاص، لأن ليس اسمٌ آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلُص» (أع 4: 12)، وأن مكان الخلاص هو حيث يوجد المسيح الذي قال: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20).. قال لي أحد الذين عمَّدتُهم: «أليس غريباً أن الإنسان لا يقدر أن يحدد موعد أو مكان ميلاده الجسدي، ولكنه يستطيع أن يختار موعد ومكان ميلاده الروحي؟». «وأما كل الذين قبلوه (المسيح) فقد أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه. الذين وُلدوا ليس من دمٍ (أي بتناسل طبيعي)، ولا من مشيئة جسدٍ (أي بمجهود إنساني)، ولا من مشيئة رجلٍ (أي بالاتكال على إنسان آخر)، بل من الله» (يو 1: 12، 13). إن كل من يسلِّم حياته للرب يصير من مواليد صهيون الروحية، ويحمل الجنسية السماوية، ويُقال له: «أنتم جنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. الذين قبلاً لم تكونوا شعباً، وأما الآن فأنتم شعب الله» (1بط 2: 9، 10).
3 – المولودون من الله: «الرب يَعُدُّ في كتابة الشعوب أن هذا وُلد هناك» (آية 6). تجهِّز الشعوب سجلات تدوِّن فيها أسماء مواليدها وتاريخ ومكان كل مولود ونسبه ولقبه. هذا من جهة الميلاد الجسدي. وأما الميلاد الروحي فله سجل أعظم وأجل من كل ما على الأرض، لأن الله هو الذي يكتب أسماء المولودين في سفر الحياة، كما قال المسيح لتلاميذه الذين فرحوا لأن الشياطين تخضع لهم باسمه: «رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء. ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السماوات» (لو 10: 17-20) قال أحد المؤمنين: «حين أدخل السماء سأتعجب لأني سأرى أناساً لم أكن أتوقع وجودهم، وسأتعجب أيضاً لأني لن أجد بعض من كنت أتوقع أن أجدهم. ولكن ذهولي الأكبر هو أني أنا نفسي سأكون هناك، لأن الله كتب اسمي في سفر الحياة بفضل عمل المسيح». فهل أنت متأكدٌ أن اسمك مكتوب في سفر الحياة، لأنك قبلت المسيح الفادي المخلِّص مخلِّصاً شخصياً لك؟
وهناك سفر محزن، نرجو أن تتأكد أن اسمك ليس مكتوباً فيه، هو سفر التراب، الذي قال الله عنه: «الحائدون عني في التراب يُكتبون، لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية» (إر 17: 13). تعال للمسيح تائباً واطلب منه أن يكتب اسمك في سفر الحياة، لتدخل المجد الذي قال عنه يوحنا الرائي: «لم أرَ فيها هيكلاً لأن الرب القادر على كل شيء هو والحمَل هيكلها. والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها لأن مجد الله قد أنارها والحمَل سراجها. وتمشي شعوب المخلَّصين بنورها، وملوك الأرض يجيئون بمجدهم وكرامتهم إليها. ولن يدخلها.. إلا المكتوبين في سفر حياة الحمَل» (رؤ 21: 22-27).

ثالثاً – المدينة الفرحانة
(آية 7)
«ومغنون كعازفين كل السكان فيك» (آية 7). سكان هذه المدينة المجيدة في أساسها، وقداستها، ومحبة الله لها، وإشادته الربانية بها تجعل سكانها سعداء يشعرون بفضل الله عليهم، ويعبِّرون عن هذا الشعور بالترتيل والهتاف والعزف. وكل من ينتمي إلى هذه المدينة وُلد من الله، وكُتب اسمه في سفر الحياة. فأي فرح يفوق هذا الفرح الذي يجعل صاحبه يرتل بمصاحبة الموسيقى! وحتى إن اجتازت هذه المدينة في ضيق، فإنها تعرف أن «خفَّة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثِقل مجد أبدياً» (2كو 4: 17)، وأن «آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا» (رو 8: 18)، وتدرك أن الضيق لن يطول، لأن المسيح قال: «كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق. لكن ثقوا، أنا قد غلبت العالم» (يو 16: 33). وهذا ما اختبره بولس وسيلا المقيَّدان في سجن فيلبي، ومع ذلك كانا يصليان ويسبحان الله بصوت مرتفع سمعه كل المسجونين (أع 16: 25). ما أجمل أن نعلم أن الرب يمنح أتقياءه في كل الظروف ثمر الروح الذي هو فرح وسلام «نهر سواقيه تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي. الله في وسطها فلن تتزعزع».
إن كنت تمر بظروف صعبة في وطنك الأرضي، ندعوك أن تتطلع بفرح إلى وطنك السماوي الذي تنتمي إليه، والذي ستصل إليه بنعمةٍ من الله، فيفرح قلبك ولا ينزع أحد فرحك منك «سيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت» (رؤ 21: 4). وفي أورشليم الجديدة سيعزف جميع السكان بلا استثناء ويرنمون «ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوة بخوراً هي صلوات القديسين، وهم يرنمون ترنيمة جديدة» (رؤ 5: 8، 9). إذاً «سبحوا الرب لأن الترنم لإلهنا صالح. لأنه مُلذ. التسبيح لائق» (مز 147: 1).

اَلْمَزْمُورُ الثَّامِنُ وَالثَّمَانُونَ
تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لِبَنِي قُورَحَ. لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى الْعُودِ لِلْغِنَاءِ. قَصِيدَةٌ لِهَيْمَانَ الأَزْرَاحِيِّ
1 يَا رَبُّ إِلَهَ خَلاَصِي، بِالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ صَرَخْتُ أَمَامَكَ، 2فَلْتَأْتِ قُدَّامَكَ صَلاَتِي. أَمِلْ أُذْنَكَ إِلَى صُرَاخِي، 3لأَنَّهُ قَدْ شَبِعَتْ مِنَ الْمَصَائِبِ نَفْسِي، وَحَيَاتِي إِلَى الْهَاوِيَةِ دَنَتْ. 4حُسِبْتُ مِثْلَ الْمُنْحَدِرِينَ إِلَى الْجُبِّ. صِرْتُ كَرَجُلٍ لاَ قُوَّةَ لَهُ. 5بَيْنَ الأَمْوَاتِ فِرَاشِي، مِثْلُ الْقَتْلَى الْمُضْطَجِعِينَ فِي الْقَبْرِ الَّذِينَ لاَ تَذْكُرُهُمْ بَعْدُ، وَهُمْ مِنْ يَدِكَ انْقَطَعُوا. 6وَضَعْتَنِي فِي الْجُبِّ الأَسْفَلِ، فِي ظُلُمَاتٍ فِي أَعْمَاقٍ. 7عَلَيَّ اسْتَقَرَّ غَضَبُكَ، وَبِكُلِّ تَيَّارَاتِكَ ذَلَّلْتَنِي. سِلاَهْ. 8أَبْعَدْتَ عَنِّي مَعَارِفِي. جَعَلْتَنِي رِجْساً لَهُمْ. أُغْلِقَ عَلَيَّ فَمَا أَخْرُجُ. 9عَيْنِي ذَابَتْ مِنَ الذُّلِّ. دَعَوْتُكَ يَا رَبُّ كُلَّ يَوْمٍ. بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ.
10أَفَلَعَلَّكَ لِلأَمْوَاتِ تَصْنَعُ عَجَائِبَ، أَمِ الأَخِيلَةُ تَقُومُ تُمَجِّدُكَ؟ سِلاَهْ. 11هَلْ يُحَدَّثُ فِي الْقَبْرِ بِرَحْمَتِكَ، أَوْ بِحَقِّكَ فِي الْهَلاَكِ؟ 12هَلْ تُعْرَفُ فِي الظُّلْمَةِ عَجَائِبُكَ، وَبِرُّكَ فِي أَرْضِ النِّسْيَانِ؟
13أَمَّا أَنَا فَإِلَيْكَ يَا رَبُّ صَرَخْتُ، وَفِي الْغَدَاةِ صَلاَتِي تَتَقَدَّمُكَ. 14لِمَاذَا يَا رَبُّ تَرْفُضُ نَفْسِي؟ لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟ 15أَنَا مِسْكِينٌ وَمُسَلِّمُ الرُّوحِ مُنْذُ صِبَايَ. احْتَمَلْتُ أَهْوَالَكَ. تَحَيَّرْتُ. 16عَلَيَّ عَبَرَ سَخَطُكَ. أَهْوَالُكَ أَهْلَكَتْنِي. 17أَحَاطَتْ بِي كَالْمِيَاهِ الْيَوْمَ كُلَّهُ. اكْتَنَفَتْنِي مَعاً. 18أَبْعَدْتَ عَنِّي مُحِبّاً وَصَاحِباً. مَعَارِفِي فِي الظُّلْمَةِ.

أُغلِق عليَّ فما أخرج
يتفرَّد هذا المزمور بأنه أكثر المزامير حزناً، فهو صرخة تقي محبَط يائس يجوز آلاماً قاتلة، وليس عنده بارقة أمل. كل المزامير تبدأ بمشكلة يجد لها صاحبها في نهايتها حلاً يشكر الله عليه. أما هذا المزمور فيبدأ بصراخ الألم، وينتهي بكلمة «الظلمة». لهذا اختارته الكنيسة مع مز 22 ليكونا مزموري يوم الجمعة العظيمة، يوم جمعة الآلام.
يبدو أن المرنم أُصيب في مطلع حياته بمرض قاسٍ لا أمل في شفائه، لأنه يقول: «أنا مسكين ومسلِّم الروح منذ صباي. احتملت أهوالك. تحيَّرت» (آية 15). الأغلب أنه أُصيب بمرض البرص، فصار «الميت الحي» فحُرم من الصحة، ومن العلاقات الاجتماعية، ومن الممارسات الدينية في الهيكل، لا يجد صُحبةً إلا صحبة المرضى أمثاله، فبقي معزولاً في هاوية الجب السفلى.
هناك أوجه شبَه بين هذا المزمور وسفر أيوب المليء برثاء الذات، فيقول أيوب: «لِمَ يُعطى لشقيٍّ نور، وحياةٌ لمُرّي النفس، الذين ينتظرون الموت وليس هو، ويحفرون عليه أكثر من الكنوز؟» (أي 3: 20). كما أنه يشبه سفري إرميا ومراثي إرميا الحزينين برثاء شعبٍ لا شفاء له، فيقول إرميا: «توجعني جدران قلبي. يئنُّ فيَّ قلبي» (إر 4: 19). قال البعض إنه ربما كان أيوب هو الكاتب الأصلي لهذا المزمور، ثم أدخل هيمان الأزراحي عليه إضافات أو تعديلات ليناسب العبادة الجمهورية! ومهما كان اسم الكاتب، فإنه بالرغم من الألم الكبير الذي عاش فيه، بدون أمل في نجاة منه، كان صاحب علاقة قوية بالرب، فرفع قلبه إلى الله مصلّياً: »يا رب إله خلاصي، بالنهار والليل صرخت أمامك.. دعوتك يا رب كل يوم. بسطت إليك يديَّ.. أما أنا فإليك يا رب صرخت، وفي الغداة صلاتي تتقدمك» (آيات 1، 9، 13). فهو لم يترك إلهه أبداً بالرغم من ضياع أمله في الشفاء!
قديماً اشتكى إبليس على أيوب قائلاً: «هل مجاناً يتقي أيوب الله؟» (أي 1: 9) ولم تكن تقوى أيوب لأسباب نفعية، بل كانت حباً في الله. وصاحب مزمورنا يقدم لنا نموذج إنسان «يتقي الله مجاناً». وما أبعد الفرق بين كلمات المرنم هنا وكلمات آساف: «حقاً قد زكيتُ قلبي باطلاً» (مز 37: 13). فالمرنم هنا استمر مصلياً رغم صعوبة حالته، ورغم أنه لم يحصل على استجابة. وكم نشكر الله من أجل الذين يحبون الرب لشخصه، لا لعطاياه، والذين يسلِّمون نفوسهم له حتى لو لم ينالوا ما طلبوه، والذين يتمسكون به ولا يتذمرون عليه، ويقولون: «من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدَّةٌ، أم ضيق، أم اضطهاد، أم جوع، أم عري، أم خطر أم سيف؟.. ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 35، 37).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – استغاثة وسط الألم (آيات 1-9)
ثانياً – أسئلة بلا إجابة (آيات 10-12)
ثالثاً – صلاة بلا استجابة (آيات 13-18)
رابعاً – ونحن نسأل..

أولاً – استغاثة وسط الألم
(آيات 1-9)
1 – طلبة طال انتظار تحقيقها: «يا رب إله خلاصي، بالنهار والليل صرخت أمامك. فلتأتِ قدامك صلاتي. أمِل أذنك إلى صراخي» (آيتا 1، 2).
(أ) طلبة من إله الخلاص: «يا رب، إله خلاصي». كان المرنم يعيش في ظلام الألم، ولكنه كان واثقاً من صدق اختبار داود: «الرب نوري وخلاصي» (مز 27: 1). ولهذا تشجع وصلى إلى «الرب» صاحب السلطان، وإلى «إله الخلاص» والنجدة والإنقاذ. لقد رأى وسمع عن خلاص الرب لآخرين، وهو يصرخ وينتظر لأنه واثق أن الرب يقدر أن يخلِّص، ويحب أن يخلِّص.
(ب) طلبة مستمرة: «بالنهار والليل صرختُ أمامك». لعل المرض الذي أصابه جعله قليل النوم بسبب الألم، فأخذ يصلي نهاره وليله، يضم صوته مع صاحب القول: «إلهي، في النهار أدعو فلا تستجيب، في الليل أدعو فلا هدوَّ لي» (مز 22: 2)، ويذكر صرخة بني قورح: «لماذا أنت منحنية يا نفسي، ولماذا تئنين فيَّ؟ ارتجي الله لأني بعدُ أحمده لأجل خلاص وجهه» (مز 42: 5).
(ج) طلبة ممزوجة بصراخ الألم: «صرخت أمامك». هناك صلاة الشكر، وصلاة التضرع، وصلاة الطلب. وهنا نسمع صلاة الصارخ إلى الله، لأن ألمه يفوق الوصف.
(د) طلبة فيها رجاء: «فلتأتِ قدامك صلاتي. أمِل أذنك إلى صراخي» (آية 2). مع أن انتظار تحقيق الطلبة طال، إلا أن المرنم يتضرع إلى ربه وإله خلاصه راجياً الاستجابة «اجعل أنت دموعي في زقِّك. أَما هي في سفرك؟» (مز 56: 8).

2 – سوء حال المرنم: (آيات 3-5).
«لأنه قد شبعت من المصائب نفسي، وحياتي إلى الهاوية دنت. حُسبتُ مثل المنحدرين إلى الجب. صرتُ كرجلٍ لا قوة له. بين الأموات فراشي، مثل القتلى المضطجعين في القبر الذين لا تذكرهم بعد، وهم من يدك انقطعوا» (آيات 3-5). منذ أن وعت ذاكرة المرنم وهو في مصائب مستمرة لا تحتمل المزيد، أدنته من هاوية القبر. وكان المحيطون به يحسبونه من المائتين، وعجز هو عن مساعدة نفسه بعد أن صار شبه ميت لا عافية فيه ولا قدرة على الحركة. ولأنه خسر معركته مع المرض صار مثل القتلى الذين سقطوا في أرض المعركة ودُفنوا في قبر جماعي لا يميِّزهم أحد. واعتبر نفسه منقطعاً من يد الله، فلم تعد لتلك اليد القادرة المخلِّصة المُعينة الشافية صلة به. لقد كان مثل مريض بِركة بيت حسدا الذي قضى ثمانٍ وثلاثين سنة ليس له إنسان يعتني به (يو 5).
3 – غضب الله على المرنم: (آيات 6-9).
(أ) أوصله إلى حافة القبر: «وضعتني في الجب الأسفل، في ظلمات، في أعماق» (آية 6). تعامل الله معه باعتبار أنه قد مات فوضعه في الجب الأسفل، كما قال صاحب المراثي: «أسكنني في ظلمات كموتى القِدم.. دعوتُ باسمك يا رب من الجب الأسفل» (مرا 3: 6، 55)، وكما قال أيوب: «كُفَّ عني فأتبلَّج قليلاً قبل أن أذهب ولا أعود. إلى أرض ظلمة وظل الموت، أرض ظلام مثل دُجى ظل الموت» (أي 10: 20، 21).
(ب) غضب عليه: «عليَّ استقرَّ غضبك، وبكل تياراتك ذللتني» (آية 7). كأن مصائب المرنم جاءت عليه متلاحقة لا تتوقَّف مثل موجة بعد موجة، كما قال المرنم: «يا إلهي، نفسي منحنية فيَّ.. كل تياراتك ولججك طمت عليَّ» (مز 42: 6، 7). وكما قال يونان في جوف الحوت: «جازت فوقي جميع تياراتك ولججك» (يون 2: 3).
(ج) أبعد عنه أصدقاءه: «أبعدت عني معارفي. جعلتني رجساً لهم. أُغلِق عليَّ فما أخرج» (آية 8). وذلك غالباً بسبب مرضه بالبرص. ويعزو المرنم ما وصل إليه من ابتعاد معارفه عنه إلى الله، وهذا ما قاله أيوب: «قد أبعد عني إخوتي، ومعارفي زاغوا عني. أقاربي قد خذلوني، والذين عرفوني نسوني.. كرهني كل رجالي، والذين أحببتهم انقلبوا عليَّ» (أي 19: 13، 14، 19). وما أقسى الشعور بعجز الشفاء من المرض، وكآبة الوحدة، وقهر الحاجة إلى التعاطف والمودَّة!
(د) ضيَّع أمله: «عيني ذابت من الذل. دعوتك يا رب كل يوم. بسطت إليك يديَّ» (آية 9). كما قال أيوب: «كلَّت عيني من الحزن، وأعضائي كلها كالظل» (أي 17: 7) وبالرغم من أنه كان يدعو الرب كل يوم، ويبسط إليه يدي المحتاج، لم يسمع له، ولا أجاب ملتمسه.

ثانياً – أسئلة بلا إجابة
(آيات 10-12)
بعد أن صدرت عن المرنم المتألم صرخة الاستغاثة، جعل يتساءل. وكما أن استغاثته لم تلقَ استجابة فإن أسئلته أيضاً لم تلقَ إجابة! ولم يكن لدى أهل العهد القديم فكرة متكاملة عن الحياة بعد الموت. صحيحٌ أن أيوب قال: «أما أنا فقد علمت أن وليي حي، والآخِر على الأرض يقوم. وبعد أن يُفنى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى الله» (أي 19: 25، 26). إلا أن المرنم قال: «لأنه ليس في الموت ذكرك. في الهاوية، من يحمدك؟» (مز 6: 5)، وقال: «ليس الأموات يسبحون الرب، ولا من ينحدر إلى أرض السكوت. أما نحن فنبارك الرب من الآن وإلى الدهر. هللويا» (مز 115: 17، 18). وصلى الملك حزقيا وهو على سرير الموت طالباً الشفاء وقال: «لأن الهاوية لا تحمدك. الموت لا يسبحك. لا يرجو الهابطون إلى الجب أمانتك. الحي الحي هو يحمدك كما أنا اليوم. الآب يُعرِّف البنين حقك» (إش 38: 18، 19).
ومن هذه الخلفية يثير المرنم ثلاثة أسئلة:
1 – هل يُجري الله معجزات للموتى؟: «أفلعلك للأموات تصنع عجائب، أم الأخيلة تقوم تمجدك؟» (آية 10). الرب هو صانع العجائب والمعجزات، والمؤمنون يمجدونه ويشكرونه عليها. ويتساءل المرنم الذي يطلب الشفاء ولا يناله إن كان الرب يُجري عجائب مع الأموات بعد أن فات أوان إجراء المعجزة؟ كما أنه يتساءل إن كانت الأخيلة تقدر أن تقوم لترفع للرب تسبيحاً وتمجيداً. والأخيلة هي الأطياف، والطيف هو روح الميت.. ولم يجد المرنم على سؤاله الأول جواباً.. على أننا في العهد الجديد نملك الجواب، فقد أجرى المسيح معجزة إقامة ابن أرملة نايين (لو 7) وابنة يايرس (مر 5) ولعازر (يو 11). وفي اليوم الأخير سيأتي المسيح ويقيم الأموات (1تس 4: 16).
2 – هل يُحدِّث الموتى برحمة الله؟: «هل يُحدَّث في القبر برحمتك، أو بحقك في الهلاك؟» (آية 11). يقول المرنم إنه بموته سينقص عدد المؤمنين المرنمين المخبرين بفضل الرب واحد. أما لو نال الشفاء وعاش على الأرض فسيكون هناك مؤمن، يصنع معه معجزة، فيحدِّث برحمة ربه ويخبر بكم صنع الرب به ورحمه.. ولم يجد المرنم على سؤاله الثاني جواباً.
3 – هل يعرف ساكنو القبور معجزات الله؟: «هل تُعرف في الظلمة عجائبك، وبرُّك في أرض النسيان؟» (آية 12). يقول المرنم إن موته سيُدخله القبر، أرض الظلام حيث يُنسى الإنسان. فهل يُجري الله صانع المعجزات عجائب في ظلمة القبر، وهل يدرك الميت برَّه وصلاحه وقد نُسي أمره؟ يريد المرنم أن يذكره الرب أثناء حياته على الأرض، ويصنع معه معجزة فيمجد إلهه ويسبحه.. ولم يجد المرنم على سؤاله الثالث جواباً.
ونحن اليوم في نور العهد الجديد بعد قيامة المسيح، نشكر الله أن المسيح أبطل الموت، وأنار لنا الحياة، وأنار لنا الخلود بواسطة الإنجيل (2تي 1: 10). لقد جاز المسيح وادي ظل الموت قبلنا، وأباد بموته إبليس الذي له سلطان الموت، وحرَّر الذين كان الموت يخيفهم من عبودية خوفهم (عب 2: 14، 15). لقد أضاء المسيح مصباحاً لينير لنا الجانب الآخر من الحياة، بعد أن نترك هذا العالم، فنرى ما ينتظر المؤمنين من مجد.

ثالثاً – صلاة بلا استجابة
(آيات 13-18)
1 – شعور المرنم بالرفض: «أما أنا فإليك يا رب صرخت، وفي الغداة صلاتي تتقدَّمك. لماذا يا رب ترفض نفسي؟ لماذا تحجب وجهك عني؟» (آيتا 13، 14). رأى المرنم نفسه في عِداد الأموات، لأن كل صلواته الماضية لم تلقَ استجابة. ولكنه ظل يرفع صلاته لله لأن الإيمان والرجاء كانا يعمِّران قلبه، فلم يتوقف عن الصلاة حتى النَّفس الأخير. كان يبدأ كل يوم بالصلاة، وكأنه يقول: «يا رب، بالغداة تسمع صوتي. بالغداة أوجِّه صلاتي نحوك وأنتظر» (مز 5: 3). في كل يوم وكل وقت كان يُصعِد بخور صلاته أمام ربِّه، ولم يمنعه شيء من الحديث مع الله الذي يحبه.
فهل رفض الرب نفس المرنم؟ وهل حجب وجهه عنه؟.. الحقيقة هي أن الله لا يرفض المؤمن التقي، ولا يحجب وجهه عنه، لكنه قد يعطيه ما يطلب. وقد يعطيه عطية أفضل مما طلب، كما أعطى بولس نعمة ليحتمل شوكة الجسد ولم يشفِه منها (2كو 12: 9). وقد يرفض أن يعطيه ما طلب لأنه ليس الأفضل له، كما رفض صلاة إيليا في وقت يأسٍ أن يأخذ حياته منه (1مل 19: 4).. ونحن في نور العهد الجديد نقول في كل حال: «من سيفصلنا عن محبة المسيح؟.. في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 35، 37).
2 – شدَّة حاجة المرنم: «أنا مسكين ومسلِّم الروح منذ صباي. احتملتُ أهوالك. تحيرتُ. عليَّ عبر سخطك. أهوالك أهلكتني. أحاطت بي كالمياه اليوم كله. اكتنفتني معاً» (آيات 15-17). يشارك المرنم هنا أيوب في قوله: «سهام القدير فيَّ، وحُمَتها شاربةٌ روحي. أهوال الله مصطفَّة ضدي!» (أي 6: 4). كما يشارك إرميا قوله: «قرضوا في الجب حياتي، وألقوا عليَّ حجارة» (مرا 3: 53). إنه يغرق تحت طوفان الألم واليأس!
3 – وحدة المرنم: «أبعدت عني مُحبّاً وصاحباً. معارفي في الظلمة» (آية 18). لم يعُد أصحابه القدماء يزورونه، ومات بعض معارفه، وكأنه يقول مع أيوب: «قلت للقبر: أنت أبي، وللدود: أنت أمي وأختي. فأين إذاً آمالي؟ آمالي من يعاينها؟ تهبط إلى مغاليق الهاوية إذ ترتاح معاً في التراب» (أي 17: 14-16).

رابعاً – ونحن نسأل:
وفي نهاية تأملنا في هذا المزمور نثير ثلاثة أسئلة:
1 – هل مات المرنم قبل أن يكتب نهاية مزموره؟ في بيت الآب منازل كثيرة، وقد مضى المسيح ليجهِّز لكل مؤمن مكاناً. وعندما يكمل إعداد بيت المؤمن يأتي المسيح ليأخذه إليه، حتى حيث يكون المسيح يكون المؤمن أيضاً. وقد يكون بيت هذا المرنم قد كمل قبل أن ينتهي من وضع نهاية مفرحة لمزموره، فنضع نحن بالإيمان هذه النهاية المفرحة، ونقول إنه «مات وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم.. والآن هو يتعزى» (لو 16: 22، 25).
2 – هل بدأ المرنم كتابة مزموره في وقت الأزمة ولم يكمله؟ هل انتهت مشكلته فعبَّر عنها شِعراً ولم يسجل لنا الحل؟ لا يمكن أن تكون المشكلة قد بقيت معلَّقة. أحياناً نشكو وعندما تُحل مشكلتنا لا نتحدث عن الحل، ولا نرفع شكرنا لله. وكان المسيح قد سأل: «أليس العشرة قد طهروا؟ فأين التسعة؟» (لو 17: 17). ونتعلم من مزمورنا أن لنا الحق أن نعبِّر عن شكوانا، ومن واجبنا أن نعبر أيضاً عن شكرنا.

3 – هل يمكن أن تكون الآية الأولى من المزمور التالي نهاية لمزمورنا هذا؟ يبدأ مزمور 89 بالقول: «بمراحم الرب أغني إلى الدهر. لدور فدور أخبر عن حقك بفمي» فتكون شكوى مزمور 88 قد أُجيبت، وأخذ المرنم يغني بمراحم الرب. «لأني قلت إن الرحمة إلى الدهر تُبنى. السماوات تثبِّت فيها حقك. قطعتُ عهداً مع مختاري. حلفت لداود عبدي» (مز 89: 2، 3). لقد وعد أن يفعل، وسيفعل.

اَلْمَزْمُورُ التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ
قَصِيدَةٌ لأَيْثَانَ الأَزْرَاحِيِّ
1 بِمَرَاحِمِ الرَّبِّ أُغَنِّي إِلَى الدَّهْرِ. لِدَوْرٍ فَدَوْرٍ أُخْبِرُ عَنْ حَقِّكَ بِفَمِي، 2لأَنِّي قُلْتُ: «إِنَّ الرَّحْمَةَ إِلَى الدَّهْرِ تُبْنَى. السَّمَاوَاتُ تُثْبِتُ فِيهَا حَقَّكَ». 3«قَطَعْتُ عَهْداً مَعَ مُخْتَارِي. حَلَفْتُ لِدَاوُدَ عَبْدِي. 4إِلَى الدَّهْرِ أُثَبِّتُ نَسْلَكَ وَأَبْنِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ كُرْسِيَّكَ». سِلاَهْ. 5وَالسَّمَاوَاتُ تَحْمَدُ عَجَائِبَكَ يَا رَبُّ، وَحَقَّكَ أَيْضاً فِي جَمَاعَةِ الْقِدِّيسِينَ. 6لأَنَّهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يُعَادِلُ الرَّبَّ! مَنْ يُشْبِهُ الرَّبَّ بَيْنَ أَبْنَاءِ اللهِ؟ 7إِلَهٌ مَهُوبٌ جِدّاً فِي مُؤَامَرَةِ الْقِدِّيسِينَ، وَمَخُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ الَّذِينَ حَوْلَهُ.
8يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ، مَنْ مِثْلُكَ قَوِيٌّ، رَبٌّ، وَحَقُّكَ مِنْ حَوْلِكَ؟ 9أَنْتَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْبَحْرِ. عِنْدَ ارْتِفَاعِ لُجَجِهِ أَنْتَ تُسَكِّنُهَا. 10أَنْتَ سَحَقْتَ رَهَبَ مِثْلَ الْقَتِيلِ. بِذِرَاعِ قُوَّتِكَ بَدَّدْتَ أَعْدَاءَكَ. 11لَكَ السَّمَاوَاتُ. لَكَ أَيْضاً الأَرْضُ. الْمَسْكُونَةُ وَمِلْؤُهَا أَنْتَ أَسَّسْتَهُمَا. 12الشِّمَالُ وَالْجَنُوبُ أَنْتَ خَلَقْتَهُمَا. تَابُورُ وَحَرْمُونُ بِاسْمِكَ يَهْتِفَانِ. 13لَكَ ذِرَاعُ الْقُدْرَةِ. قَوِيَّةٌ يَدُكَ. مُرْتَفِعَةٌ يَمِينُكَ. 14الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّكَ. الرَّحْمَةُ وَالأَمَانَةُ تَتَقَدَّمَانِ أَمَامَ وَجْهِكَ. 15طُوبَى لِلشَّعْبِ الْعَارِفِينَ الْهُتَافَ. يَا رَبُّ، بِنُورِ وَجْهِكَ يَسْلُكُونَ. 16بِاسْمِكَ يَبْتَهِجُونَ الْيَوْمَ كُلَّهُ، وَبِعَدْلِكَ يَرْتَفِعُونَ. 17لأَنَّكَ أَنْتَ فَخْرُ قُوَّتِهِمْ، وَبِرِضَاكَ يَنْتَصِبُ قَرْنُنَا. 18لأَنَّ الرَّبَّ مِجَنُّنَا، وَقُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ مَلِكُنَا.
19حِينَئِذٍ كَلَّمْتَ بِرُؤْيَا تَقِيَّكَ، وَقُلْتَ: «جَعَلْتُ عَوْناً عَلَى قَوِيٍّ. رَفَعْتُ مُخْتَاراً مِنْ بَيْنِ الشَّعْبِ. 20وَجَدْتُ دَاوُدَ عَبْدِي. بِدُهْنِ قُدْسِي مَسَحْتُهُ. 21الَّذِي تَثْبُتُ يَدِي مَعَهُ. أَيْضاً ذِرَاعِي تُشَدِّدُهُ. 22لاَ يُرْغِمُهُ عَدُوٌّ، وَابْنُ الإِثْمِ لاَ يُذَلِّلُهُ. 23وَأَسْحَقُ أَعْدَاءهُ أَمَامَ وَجْهِهِ، وَأَضْرِبُ مُبْغِضِيهِ. 24أَمَّا أَمَانَتِي وَرَحْمَتِي فَمَعَهُ، وَبِاسْمِي يَنْتَصِبُ قَرْنُهُ. 25وَأَجْعَلُ عَلَى الْبَحْرِ يَدَهُ، وَعَلَى الأَنْهَارِ يَمِينَهُ. 26هُوَ يَدْعُونِي: أَبِي أَنْتَ. إِلَهِي وَصَخْرَةُ خَلاَصِي. 27أَنَا أَيْضاً أَجْعَلُهُ بِكْراً أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ. 28إِلَى الدَّهْرِ أَحْفَظُ لَهُ رَحْمَتِي، وَعَهْدِي يُثَبَّتُ لَهُ. 29وَأَجْعَلُ إِلَى الأَبَدِ نَسْلَهُ، وَكُرْسِيَّهُ مِثْلَ أَيَّامِ السَّمَاوَاتِ. 30إِنْ تَرَكَ بَنُوهُ شَرِيعَتِي وَلَمْ يَسْلُكُوا بِأَحْكَامِي، 31إِنْ نَقَضُوا فَرَائِضِي وَلَمْ يَحْفَظُوا وَصَايَايَ، 32أَفْتَقِدُ بِعَصاً مَعْصِيَتَهُمْ وَبِضَرَبَاتٍ إِثْمَهُمْ. 33أَمَّا رَحْمَتِي فَلاَ أَنْزِعُهَا عَنْهُ، وَلاَ أَكْذِبُ مِنْ جِهَةِ أَمَانَتِي. 34لاَ أَنْقُضُ عَهْدِي، وَلاَ أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ. 35مَرَّةً حَلَفْتُ بِقُدْسِي أَنِّي لاَ أَكْذِبُ لِدَاوُدَ. 36نَسْلُهُ إِلَى الدَّهْرِ يَكُونُ، وَكُرْسِيُّهُ كَالشَّمْسِ أَمَامِي. 37مِثْلَ الْقَمَرِ يُثَبَّتُ إِلَى الدَّهْرِ. وَالشَّاهِدُ فِي السَّمَاءِ أَمِينٌ». سِلاَهْ.
38لَكِنَّكَ رَفَضْتَ وَرَذَلْتَ. غَضِبْتَ عَلَى مَسِيحِكَ. 39نَقَضْتَ عَهْدَ عَبْدِكَ. نَجَّسْتَ تَاجَهُ فِي التُّرَابِ. 40هَدَمْتَ كُلَّ جُدْرَانِهِ. جَعَلْتَ حُصُونَهُ خَرَاباً. 41أَفْسَدَهُ كُلُّ عَابِرِي الطَّرِيقِ. صَارَ عَاراً عِنْدَ جِيرَانِهِ. 42رَفَعْتَ يَمِينَ مُضَايِقِيهِ. فَرَّحْتَ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ. 43أَيْضاً رَدَدْتَ حَدَّ سَيْفِهِ، وَلَمْ تَنْصُرْهُ فِي الْقِتَالِ. 44أَبْطَلْتَ بَهَاءهُ، وَأَلْقَيْتَ كُرْسِيَّهُ إِلَى الأَرْضِ. 45قَصَّرْتَ أَيَّامَ شَبَابِهِ. غَطَّيْتَهُ بِالْخِزْيِ. سِلاَهْ.
46حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ تَخْتَبِئُ كُلَّ الاِخْتِبَاءِ؟ حَتَّى مَتَى يَتَّقِدُ كَالنَّارِ غَضَبُكَ؟ 47اذْكُرْ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ. إِلَى أَيِّ بَاطِلٍ خَلَقْتَ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ؟ 48أَيُّ إِنْسَانٍ يَحْيَا وَلاَ يَرَى الْمَوْتَ؟ أَيٌّ يُنَجِّي نَفْسَهُ مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ؟ سِلاَهْ. 49أَيْنَ مَرَاحِمُكَ الأُوَلُ يَا رَبُّ الَّتِي حَلَفْتَ بِهَا لِدَاوُدَ بِأَمَانَتِكَ؟ 50اذْكُرْ يَا رَبُّ عَارَ عَبِيدِكَ الَّذِي أَحْتَمِلُهُ فِي حِضْنِي مِنْ كَثْرَةِ الأُمَمِ كُلِّهَا، 51الَّذِي بِهِ عَيَّرَ أَعْدَاؤُكَ يَا رَبُّ، الَّذِينَ عَيَّرُوا آثَارَ مَسِيحِكَ. 52مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلَى الدَّهْرِ. آمِينَ فَآمِينَ.

مراحم الرب
يعبِّر هذا المزمور عن الأزمة النفسية التي اجتازها مؤمنٌ تقي أثناء سبيه في بابل، لأنه كان متأكداً من رحمة الله، وواثقاً في أمانته لوعوده أنه سيسحق أعداء داود، ويجعله بكراً أعلى من ملوك الأرض (آيتا 23، 27). ولكنه في الوقت نفسه كان يرى الملك يهوياكين، حفيد داود، مسبياً وقد زال تاجه، وأُخربت مملكته، فيقول: «لكنك رفضت ورذلت .. نقضت عهد عبدك. نجَّستَ تاجه في التراب» (آيتا 38، 39). فكيف تتم المصالحة بين صفات الله من رحمة وأمانة لوعوده الكثيرة لداود ونسله، من ناحية، ومن الناحية الأخرى الأمر الواقع الحزين المؤلم من سبي شعب داود وهوان نسله؟؟
ولكن حيرة المرنم تنتهي بأمرين، أولهما: أن الوعد الإلهي لداود كان مشروطاً بطاعة داود ونسله، فلما سقط نسله في العصيان أرسل إليهم الأنبياء يحذرونهم، ولكنهم استمروا في عصيانهم، فأوقع بهم عقاب السبي، ليؤدبهم، لكنه لن يرفضهم. والثاني: أن وعود الله ومراحمه ستتحقق بكمالها في المسيح ابن داود. فالبكر الأعلى من ملوك الأرض هو المسيح الملك، صاحب المملكة الروحية، وقد تمَّ تحقيق الوعود لداود في المسيح الذي تنبأ عنه النبي إشعياء: «لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه.. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد» (إش 9: 6، 7). وهي مملكة روحية لا سياسية، كما قال المسيح لبيلاطس: «مملكتي ليست من هذا العالم.. ليست مملكتي من هنا» (يو 18: 36).
قال أحد المفسرين إن مزمور 89 يتكون من 52 آية، وأسابيع السنة 52 أسبوعاً، فيها نجد الشتاء والصيف والربيع والخريف. وفي حياة المؤمن ارتفاعات وانخفاضات، وفيها الفرح والحزن. وهذا ما نجده في هذا المزمور.. ولكن في وسط هذه كلها يجب أن يكون المؤمن متواضعاً غاية التواضع، معتمداً كل الاعتماد على النعمة الإلهية وحدها.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يتغنى بمراحم الله (آيات 1-4)
ثانياً – المرنم يمجد الله (آيات 5-37)
ثالثاً – المرنم يشكو إلى الله (آيات 38-51)
رابعاً – تمجيد ختامي (آية 52)
أولاً – المرنم يتغنى بمراحم الله
(آيات 1-4)
1 – رحمة الله وحقه: «بمراحم الرب أغني إلى الدهر. لدور فدور أخبر عن حقك بفمي، لأني قلت إن الرحمة إلى الدهر تُبنى. السماوات تُثْبِت فيها حقك» (آيتا 1، 2). ورد ذكر رحمة الله في مزمورنا سبع مرات (آيات 1، 2، 14، 24، 28، 33، 49)، وورد ذكر الحق خمس مرات (آيات 1، 2، 5، 8، 14). ومراحم الله وحقه موضوعان مفرحان يبهجان قلب المرنم ويفتحان شفتيه ليرنم تسابيح الفرح والشكر. ويبدأ المرنم بالتركيز على هاتين الفكرتين ليرتفع فوق آلامه، ويطمئن وسط تساؤلاته، ويؤكد عزمه على أن يستمر يتذكر مراحم الرب ويخبر بها، لأنه واثق أن رحمة الله قائمة كبناء شاهق الارتفاع، وأن حقه ثابت في السماوات، حيث لا يقدر شيطانٌ أو بشر أن يعبث به.
2 – أمانة الله لوعوده: «قطعتُ عهداً مع مختاري. حلفت لداود عبدي: إلى الدهر أثبِّت نسلك، وأبني إلى دور فدور كرسيك» (آيتا 3، 4). لا تتوقف أمانة الرب على أمانة الإنسان التقي، لأنها مستمدَّة من طبيعة الله نفسه. عندما أراد داود أن يبني هيكلاً للرب أرسل الرب إليه ناثان النبي يقول: «الرب يصنع لك بيتاً. متى كملت أيامك واضطجعت مع آبائك أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأثبِّت مملكته. هو يبني بيتاً لاسمي، وأنا أثبِّت كرسيَّ مملكته إلى الأبد.. ويأمن بيتك ومملكتك إلى الأبد أمامك. كرسيُّك يكون ثابتاً إلى الأبد» (2صم 17: 11، 16). وقد تحقق وعد الله كاملاً لداود في المسيح الذي جاء، حسب الجسد، من نسله.

ثانياً – المرنم يمجد الله
(آيات 5-37)
1 – تمجيد الله على جلاله: (آيات 5-18). يهدف المرنم من الحديث عن جلال الله إلى أمرين: أن يطلب من الله العظيم مساعدة شعبه، وأن يشجع شعبه الذي يعبد هذا الإله الجليل.
(أ) جلال الله في ملائكته: (آيات 5-7). يظهر جلال الله في سماواته حيث يحمد الملائكة القديسون عجائبه وحقه (آية 5). ووصَفَ المرنم الملائكة بأنهم قديسون لأنهم مخصَّصون لخدمة الله. ولكن رغم قداستهم فإنهم لا يعادلون الله ولا يساوونه في سمائه (آية 6)، كما قال أليفاز: «هوذا عبيده لا يأتمنهم، وإلى ملائكته ينسب حماقة» (أي 4: 18). ويظهر جلال الرب من أنه «إلهٌ مهوب جداً في مؤامرة القديسين. ومخوف عند جميع الذين حوله» (آية 7). وكلمة «مؤامرة» يمكن ترجمتها «مجلس» فهناك مجلس للملائكة، وهم واقفون حول الله مستعدين لتنفيذ أوامره، فجميعهُم أرواح خادمة مرسَلة لخدمة الذين سينالون الخلاص (عب 1: 14)، قال دانيال عنهم: «إلهي أرسل ملاكه وسدَّ أفواه الأسود» (دا 6: 22). فهل رأى دانيال ذلك الملاك، وهل شعر بحفيف أجنحته؟ أم وجد الأسود تحوم حوله دون أن تؤذيه؟ أتساءل، لأننا قد لا نرى ملاكاً بعيوننا، لكننا نختبر خدمته لنا. وقد لا تشعر أجسادنا بشيء فائق الطبيعة، لكننا نتيقن في قلوبنا أن الله يجري معنا معجزات، وأن ملاكه حال حول خائفيه وينجيهم (مز 34: 7).

(ب) جلال الله في الخليقة: (آيات 8-14).
(1) جلال سلطانه على البحر: (آيتا 8، 9). ليس مثل الله المتسلط على كبرياء البحر عندما ترتفع لججه، فيأمره: «اسكت. ابكم» فيصير هدوء عظيم (مر 4: 39)!
(2) جلال سلطانه على الأعداء: (آية 10). سحق الله بقوته «رَهَب»، أي الإمبراطورية العظيمة مصر، فغرق جيش فرعون. وصلى إشعياء: «استيقظي. استيقظي. البسي قوة يا ذراع الرب. استيقظي كما في أيام القِدم، كما في الأدوار القديمة. ألستِ أنت القاطعة رهب، الطاعنة التنين؟ ألستِ أنت هي المنشِّفة البحر، مياه الغمر العظيم، الجاعلة أعماق البحر طريقاً لعبور المفديين؟» (إش 51: 9، 10).
(3) جلال سلطانه على كل المسكونة: (آيات 11-13). لله السماوات والأرض لأنه أسسهما. وله الشمال والجنوب (أي جبل غرب الأردن حيث انتصرت القاضية دبورة). وله حرمون (جبل شرق الأردن الشاهق الارتفاع)، وكلها تشهد لقوته الخالقة العظيمة وقدرته السرمدية «يمين الرب مرتفعة. يمين الرب صانعة ببأس» (مز 118: 16). إليه نلجأ، فنجده في الضيقات عوناً شديداً، لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار (مز 46: 1، 2).
(4) جلال سلطان عدله ورحمته: «العدل والحق قاعدة كرسيك. الرحمة والأمانة تتقدمان أمام وجهك» (آية 14). يظهر جلال الله الفريد من أنه العادل الجبار، كما أنه الرحيم الأمين. ولا يلتقي العدل مع الرحمة إلا في الصليب حيث استوفى العدل حقه، وأخذت الرحمة مجراها (مز 85: 10).. ولو كان الله عادلاً فقط مع البشر لأهلكهم بسبب خطاياهم ولم يرحمهم. ولو كان رحيماً فقط معهم لكان هذا على حساب عدالته. أما الصليب فقد أرانا عدالة الله التي تقتصُّ من الخاطئ، كما أرانا رحمته في يد محبته التي تمتد لتصالحنا معه. فليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه (يو 15: 13)، «لكن الله بيَّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو 5: 8).
(ج) جلال الله في المؤمنين: (آيات 15-18).
(1) يسلكون في نور وجهه: (آيتا 15، 16). يسبح المؤمنون الرب، فيسلكون في نور وجهه، ويبتهجون باسمه، ويرتفعون بعدله. والسالكون في نور وجهه هم الذين ينالون رضاه، لأنهم يفرحون به، ويسيرون في نور كلمته قائلين: «سراجٌ لرجلي كلامك ونور لسبيلي» (مز 119: 105)، ويسلكون في نور المسيح الذي قال: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة» (يو 8: 12)، ويتمتعون بعدالته التي ترفعهم.
(2) يتمتعون بنصره: (آيتا 17، 18). يمنح الرب شعبه قوة مجيدة، لأنه راضٍ عليهم، فينتصب قرنهم على أعدائهم. ويرمز القرن للقوة لأن الحيوان القوي يستخدم قرنه في الدفاع وفي الهجوم (تث 33: 17)، ويرمز القرن أيضاً للمجد (مرا 2: 3)، وللانتصار (1مل 22: 11). ويرمز ارتفاع القرن إلى زيادة المجد (1صم 2: 1). وينتصب قرن شعب الرب لأنه مجنُّهم. والمجن هو الترس الكبير، وهو قطعة خشبية مغطاة بالجلد الذي يغمسونه في الزيت لحمايته من التشقُّق، يمسكه الجندي بيده اليسرى ليتلقّى عليه السهام الموجَّهة ضده، فينغرس سنُّ السهم في الخشب المغطى بالجلد.. وينتصب قرن شعب الرب لأنه ملكهم، الذي يدافع عنهم، ويدبر أمورهم، ويشرِّع لهم.
2 – تمجيد الله على عهده مع داود: (آيات 19-37).
(أ) اختيار نعمة: (آيتا 19، 20). اختار الرب داود من وراء الغنم وجعله ملكاً، وكلَّف النبي صموئيل ليمسحه بدهن المسحة. وظن يسى أبو داود أن أكبر أولاده هو الجدير بالمنصب، ولكن ليس كما ينظر الإنسان. لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب. وعندما رأى صموئيل داود أمره الرب: »قم وامسحه لأن هذا هو«. فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه وسط إخوته. وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعداً (1صم 16: 1-13). ولم يكن داود يتوقع شيئاً من هذا، لكن الرب أكرمه. وحدَّث الله ناثان النبي في رؤيا أن سليمان بن داود سيبني الهيكل العظيم (2صم 7: 17). فما أعظم اختيار النعمة، كما قال المسيح: «ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم، لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم» (يو 15: 16).
(ب) اختيار للنصر: (آيات 21-25). بفضل أمانة الرب ورحمته أعان داود وكان معه ونصره على جليات (1صم 17) «وكان داود يتزايد متعظماً والرب إله الجنود معه.. فسكن في مكانه، ولا يضطرب بعد، ولا يعود بنو الإثم يذللونه» (2صم 5: 10، 7: 10). وحقَّق له وعده: «أجعل على البحر يده، وعلى الأنهار يمينه» (آية 25)، فامتدَّ مُلكه إلى البحر الأبيض في الغرب، والفرات في الشمال الشرقي بحسب وعد الله لإبراهيم (تك 15: 18) ولموسى (خر 23: 31)، وكان سليمان «متسلطاً على كل ما عبر النهر من تفسح إلى غزة» (1مل 4: 24).
(ج) اختيار للتبنّي: «هو يدعوني أبي أنت. إلهي وصخرة خلاصي. أنا أيضاً أجعله بكراً أعلى من ملوك الأرض» (آيتا 26، 27). وواضح أن هذا الوعد العظيم لم يتحقق إلا في المسيح ابن داود، الذي «له على ثوبه وعلى فخذه اسمٌ مكتوب: ملك الملوك ورب الأرباب» (رؤ 19: 16). والبكر هو الأعظم لأنه كان يرث ضعف إخوته، وهو كبير عائلته وقائدها، كما أنه يقوم بدور كاهن العائلة.
(د) اختيار دائم: (آيتا 28، 29). حفظ الله أمانته وعهده لداود إلى الدهر، وأدام نسله، وثبَّت عرشه، كما وعده في الرؤيا التي رآها ناثان النبي: «أنا أثبِّت كرسيَّ مملكته إلى الأبد.. ويأمن بيتك ومملكتك إلى الأبد أمامك. كرسيُّك يكون ثابتاً إلى الأبد» (2صم 7: 13، 16). ولكن هذا الوعد تحقق بكماله في المسيح، الذي صُلب ومات ودُفن، ولكنه قام في اليوم الثالث من بين الأموات، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الآب شفيعاً. وسيعود إلى عالمنا ليدين الأحياء والأموات.
(هـ) اختيار مشروط بتأديب المخطئ: (آيات 30-34). كان وعد الله لداود مشروطاً بطاعة نسله. فإن لم يكونوا أمناء يعاقبهم ويؤدبهم كما يؤدب الأب أولاده الذين يحبهم. وهذا ما قيل لداود في رؤيا ناثان النبي: «أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً. إن تعوَّج أؤدبه بقضيب الناس وبضربات بني آدم» (2صم 7: 14). «ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدِّبين، وكنا نهابهم. أفلا نخضع بالأولى جداً لأبي الأرواح فنحيا؟» (عب 12: 9). فعقاب المخطئ جزء من العهد. لكن الله يبقى أميناً، لا يتخلى عن وعوده. «إن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً. لا يقدر أن ينكر نفسه» (2تي 2: 13).
(و) اختيار بوعد دائم: (آيات 35-37). حلف الله لداود بقُدسه، أي بكل كيانه المقدس، فلا يمكن أن يسقط الوعد. سيبقى داود ونسله ملوكاً طالما بقيت الشمس وظلَّ القمر. «هكذا قال الرب الجاعل الشمس للإضاءة نهاراً وفرائض القمر والنجوم للإضاءة ليلاً» (إر 31: 35). «والشاهد في السماء أمين». الذي هو الله في سمائه، كما قال أيوب: «هوذا في السماوات شهيدي، وشاهدي في الأعالي» (أي 16: 19). ووضع قوس قزح في السحاب علامة ميثاقه مع نوح ونسله أنه لن يعود يُغرِق الأرض بالطوفان (تك 9: 13).

ثالثاً – المرنم يشكو إلى الله
(آيات 38-51)
1 – شكوى: «لكنك» (آيات 38-45). ذكر المرنم الوعود الرائعة الأمينة من إله صادق رحيم، ولكن كانت عنده تساؤلات بسبب ما رآه في واقع الحياة في أيامه، وكان مختلفاً عمّا توقَّعه من تحقيق الله لمواعيده، فرفع الأمر للرب الذي منه وبه وله كل الأشياء، يشكو لأن الله العظيم لم يساعد شعبه، بل إنه غضب على مسيحه!
(أ) رفض الله الملك: (آيات 38-40). في جرأة مثل جرأة النبي حبقوق يعاتب المرنم ربَّه بأنه نقض العهد ونجَّس الحصون وأخربها (حب 1: 2، 13). لقد تنجَّس تاج الملك (2صم 1: 10) وتاج رئيس الكهنة (خر 29: 6)، والتاج رمز التخصيص للوظيفة ورمز كرامتها. ويربط المرنم بين حالة الملك وحالة البلد، فيقول: «هدمت كل جدرانه. جعلت حصونه خراباً».
(ب) شماتة أعداء الملك: (آيات 41-43). تثير شماتة الأعداء مرارة النفس المهزومة، فالعدو يرتفع والتقي ينخفض، فيهزأ العدو لأنه انتصر ويخزى التقي لأنه عجز عن حماية نفسه.
(ج) زال مجد الملك: (آيتا 44، 45). يشكو المرنم أن الله أبطل بهاء الملك لأن روعة المملكة انطفأت، وقصَّر الله أيام شبابه فانحنت قامته من الهم والذل، وأصابته الشيخوخة قبل موعدها. ولعل المرنم يشير إلى الملك يهوياكين الذي ملك في الثامنة عشرة من عمره (2مل 24: 8)، وملك مئة يوم فقط، وقضى بقية عمره في السبي.
2 – طلب: «حتى متى؟» (آيات 46-51).
(أ‌) طلب رحمة عاجلة: (آيات 46-48). طال انتظار المرنم للنجاة، واقتربت أيامه من نهايتها، ومع هذا فلا زال غضب الله عليه وعلى شعبه مستمراً، فيقول: «إلى أي باطل خلقت جميع بني آدم؟» (آية 47). فهل لا بد أن تنتهي حياة الإنسان بالمرارة والذل؟ إنه يطلب الرحمة قبل أن يموت، وكأنه يردد: «هوذا جعلت أيامي أشباراً، وعُمري كلا شيء قدامك.. بتأديباتٍ إن أدَّبتَ الإنسان من أجل إثمه، أفنيت مثل العُثِّ مشتهاه» (مز 39: 5، 11).

(ب) طلب عودة المراحم الأولى: (آيات 49-51). في ضراعة يتساءل المرنم: «أين مراحمك الأُوَل يا رب التي حلفت بها لداود بأمانتك؟». فهل كانت المراحم لجيلٍ مضى؟ أم أنها انتهت إلى غير عودة؟.. ولا بد أن المرنم كان يذكر هوان الملك يهوياكين وهم يجرّونه في شوارع بابل ويهزأون به وبإلهه، فقال: «عيَّروا آثار مسيحك» (عدد 51). وكان هذا تساؤل القاضي جدعون: «إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه؟ وأين كل عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا قائلين: ألم يُصعِدنا الرب من مصر؟ والآن قد رفضنا الرب» (قض 6: 13).

رابعاً – تمجيد ختامي
(آية 52)
«مبارك الرب إلى الدهر. آمين فآمين» (آية 52). في ختام الكتاب الثالث من كتب المزامير الخمسة يبارك المرنم الرب كما سبق أن فعل في خاتمة الكتاب الأول (مز 41: 13) وخاتمة الكتاب الثاني (72: 19). ويتوِّج التسبيح الأخير شكوى المرنم باستجابة الرب له، فيبارك ربَّه على صلاحه حتى لو كانت الظروف المحيطة قاتمة وسوداء. إنه كأيوب الذي بارك الرب في وقت ظلام حالك، فقال: «الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركاً» (أي 1: 21). سنبارك الرب حتى لو لم نفهم فكره، عالمين أن المسيح لا بد أن يسحق رأس الحية.
«بمراحم الرب أغني إلى الدهر. لدور فدور أخبر عن حقك بفمي» هي أول آية في مزمورنا، والآية الأخيرة منه تقول: «مبارك الرب إلى الدهر. آمين فآمين». فنجيب جميعنا: «آمين، فآمين». هللويا بالشكر لله الملك الذي يملك على حياتنا.

اَلْمَزْمُورُ التِّسْعُونَ
صَلاَةٌ لِمُوسَى رَجُلِ اللهِ
1 يَا رَبُّ، مَلْجَأً كُنْتَ لَنَا فِي دَوْرٍ فَدَوْرٍ. 2مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ الْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ الأَرْضَ وَالْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ الأَزَلِ إِلَى الأَبَدِ أَنْتَ اللهُ. 3تُرْجِعُ الإِنْسَانَ إِلَى الْغُبَارِ وَتَقُولُ: «ارْجِعُوا يَا بَنِي آدَمَ». 4لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ، وَكَهَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ. 5جَرَفْتَهُمْ. كَسِنَةٍ يَكُونُونَ. بِالْغَدَاةِ كَعُشْبٍ يَزُولُ. 6بِالْغَدَاةِ يُزْهِرُ فَيَزُولُ. عِنْدَ الْمَسَاءِ يُجَزُّ فَيَيْبَسُ.
7لأَنَّنَا قَدْ فَنِينَا بِسَخَطِكَ، وَبِغَضَبِكَ ارْتَعَبْنَا. 8قَدْ جَعَلْتَ آثَامَنَا أَمَامَكَ، خَفِيَّاتِنَا فِي ضُوءِ وَجْهِكَ. 9لأَنَّ كُلَّ أَيَّامِنَا قَدِ انْقَضَتْ بِرِجْزِكَ. أَفْنَيْنَا سِنِينَا كَقِصَّةٍ. 10أَيَّامُ سِنِينَا هِيَ سَبْعُونَ سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْقُوَّةِ فَثَمَانُونَ سَنَةً، وَأَفْخَرُهَا تَعَبٌ وَبَلِيَّةٌ، لأَنَّهَا تُقْرَضُ سَرِيعاً فَنَطِيرُ. 11مَنْ يَعْرِفُ قُوَّةَ غَضِبَكَ، وَكَخَوْفِكَ سَخَطُكَ. 12إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هَكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ.
13اِرْجِعْ يَا رَبُّ. حَتَّى مَتَى؟ وَتَرَأَّفْ عَلَى عَبِيدِكَ. 14أَشْبِعْنَا بِالْغَدَاةِ مِنْ رَحْمَتِكَ فَنَبْتَهِجَ وَنَفْرَحَ كُلَّ أَيَّامِنَا. 15فَرِّحْنَا كَالأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا أَذْلَلْتَنَا، كَالسِّنِينِ الَّتِي رَأَيْنَا فِيهَا شَرّاً. 16لِيَظْهَرْ فِعْلُكَ لِعَبِيدِكَ، وَجَلاَلُكَ لِبَنِيهِمْ. 17وَلْتَكُنْ نِعْمَةُ الرَّبِّ إِلَهِنَا عَلَيْنَا وَعَمَلَ أَيْدِينَا ثَبِّتْ عَلَيْنَا، وَعَمَلَ أَيْدِينَا ثَبِّتْهُ.

صلاة لموسى رجل الله
هذا المزمور هو الوحيد الذي كتبه موسى، والأغلب أنه أقدم المزامير التي كُتبت، ويشبه في أسلوبه بركة موسى التي جاءت في التثنية 33. وما أجمل لقب موسى في أول المزمور بأنه «رجل الله». وقد جاء هذا اللقب في مطلع بركة موسى للشعب (تث 33: 1)، وأطلقه كالب بن يفنة على موسى وهو يحدِّث يشوع بن نون (يش 14: 6) وورد وصفاً لموسى كاتب التوراة بإلهام الروح القدس (عز 3: 2). ولُقِّب موسى بأنه «رجل الله» لأن الله اختاره عندما دعاه ليُخرج شعبه من مصر، ثم استخدمه فأخرجهم منها، وكان قائدهم في البرية أربعين سنة حتى حدود أرض الموعد. وسمي «رجل الله» لأنه أكرم الله وأطاعه. نعم كانت هناك أخطاء في حياة موسى، لكن أي إنسان لا يخطئ؟.. المسيح وحده هو الذي لم يخطئ أبداً.
أحب موسى الله من كل قلبه وقرر أن يطيعه وأن يخدمه، ففضل «أن يُذلَّ مع شعب الله عن أن يكون له تمتع وقتي بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة» (عب 11: 25، 26). اعتبر موسى بقاءه في القصر الملكي المصري خطية، لا لأنه خطية في ذاته، بل لأنه الأولوية الثانية في حياته. ووضع موسى أولويته الأولى أولاً، ففضل أن يُذّل مع شعب الله لأنه «رجل الله». فلنَدْعُ الله أن يعيننا لنضع مرضاته وعمل مشيئته والقيام بخدمته قبل كل شيء في حياتنا، فينال المرء منا لقب «رجل الله».
الأغلب أن هذا المزمور كُتب قرب نهاية أربعين سنة من التيهان في البرية، وقد رأى موسى عقاب الله الذي حلَّ بالشعب. ففي بداية رحلة الخروج أرسل موسى جواسيس ليستكشفوا الأرض التي وعد الله أن يعطيها لهم، فرجعوا بتقارير رائعة عنها، تؤكد صدق ما قاله الله في وصفها، ولكنهم لم يستطيعوا أن يصدقوا أنهم قادرون أن يمتلكوها، لأن سكانها أقوياء وهم ضعفاء، وقالوا: «كنا في أعيننا كالجراد، وهكذا كنا في أعينهم» (عد 13: 33). ولكن وقف رجلان عظيمان، هما يشوع بن نون وكالب بن يفنة، يقولان إن الشعب قادر على امتلاكها، لا من أنفسهم، لكن لأن الله وعدهم بها. وثار الشعب على موسى وعلى هارون، وقالوا: «نقيم رئيساً ونرجع إلى مصر» (عد 14: 4). وأرادوا أن يرجموا موسى وهارون، فقال الله لموسى: «إني أضربهم بالوبأ وأبيدهم، وأصيِّرك شعباً أكبر وأعظم منهم» (عد 14: 12) ولكن موسى، الذي كانت الثورة ضده، تضرع إلى الله في غيرة صادقة ومحبة عظيمة، وفي حكمة القائد الذي يزن الأمور بدقة ورويَّة وصلى: «اصفح عن ذنب هذا الشعب كعظمة نعمتك» (عد 14: 19). فقال الله: «قد صفحت حسب قولك.. إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي.. وجرَّبوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا لقولي، لن يروا الأرض التي حلفتُ لآبائهم.. قل لهم: في هذا القفر تسقط جثثكم.. لن تدخلوا الأرض.. أما أطفالكم.. فإني سأُدخلهم.. فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر» (عدد 14: 20-32). وقرب نهاية الأربعين سنة تأمل موسى الجيل الذي خرج معه من أرض مصر، فإذا هم قد ماتوا جميعاً، فكتب مزمورنا عن عقاب الله الأزلي الأبدي للإنسان الفاني!
في هذا المزمور نجد:
أولاً – عظمة الله وفناء الإنسان (آيات 1-6)
ثانياً – غضب الله على الإنسان (آيات 7-12)
ثالثاً – طلبات الإنسان (آيات 13-17)

أولاً – عظمة الله وفناء الإنسان
(آيات 1-6)
1 – عظمة الله: (آيات 1-4).
(أ) هو الرب: «يا رب» (آية 1أ). الرب هو السيد، يخاطبه الإنسان التراب، كما قال إبراهيم: «شَرَعتُ أكلم المولى وأنا ترابٌ ورمادٌ» (تك 18: 27). والرب هو المدافع الذي يحرس شعبه ويشق لهم طريقاً في البحر، ويُغرق أعداءهم فيه! هذا الرب السيد قريب من شعبه حتى أنه تجسد وصار إنساناً، وُلد في مذود وعاش بيننا، وصار مجرَّباً مثلنا في كل شيء ما عدا الخطية، ومات عنا على الصليب ليفتح لنا طريقاً إلى الأقداس، ونحن ننتظر مجيئه ثانية ديّاناً عادلاً للعالم.
(ب) هو الملجأ: «ملجأ كنت لنا في دور فدور» (آية 1ب). أنقذ الله الأذلاء من سوء العذاب وعبودية فرعون، وشق أمامهم البحر، وكان ملجأهم في صحراء سيناء عندما لم يكن لهم بيت يأوون إليه، ولا حقل يزرعونه ويحصدونه، ولا نهر يستقون منه. أطعمهم في البرية وأعطاهم السلوى، وظلل عليهم نهاراً بعمود سحاب، وحماهم ليلاً من الأعداء والوحوش بعمود نار. ومع أنهم ساروا في صحراء قاحلة إلا أن ثيابهم لم تبْلَ وأرجلهم لم تتورَّم أربعين سنة (تث 8: 4) كما قال الله على لسان موسى: «سرتُ بكم أربعين سنة في البرية لم تبلَ ثيابكم عليكم، ونعلك لم تبل على رجلك» (تث 29: 5). ولم تتوقف عناية الله بهم أبداً، بل كان لهم الملجأ الدائم، في دور فدور، في كل جيل. فنِعمَ الملجأ الذي نحتمي فيه دوماً.
(ج) هو الأزلي الأبدي: «من قبل أن تولد الجبال أو أبدأت الأرض والمسكونة، منذ الأزل إلى الأبد أنت الله» (آية 2). وصف سفر التكوين الخلق بقوله: «هذه مبادئ السماوات والأرض حين خُلقت، يوم عمل الرب الإله الأرض والسماوات» (تك 2: 4). فمن قبل أن يعطي الرب للجبال وجودها، ومن قبل أن أبدأ المسكونة هو الله، منذ الأزل، والباقي إلى الأبد، لا يحدُّه زمن، لأنه العظيم الخالق الأزلي الأبدي، لا بداية أيام له، ولا نهاية حياة، وقد قال: «أنا هو. أنا الأول وأنا الآخِر، ويدي أسَّست الأرض، ويميني نشرت السماوات» (إش 48: 12، 13). «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، يقول الرب الكائن، والذي كان، والذي يأتي، القادر على كل شيء» (رؤ 1: 8).
(د) هو الممسك بمصير الإنسان: «تُرجع الإنسان إلى الغبار، وتقول: ارجعوا يا بني آدم» (آية 3). حياة الإنسان بيد الله، فقد قال لآدم: «بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود» (تك 3: 19). والأمر الإلهي «ارجعوا يا بني آدم» قد يعني أن الله هو الذي يأمر بأن تنتهي حياة الإنسان بالموت. «يسلِّم الروحَ كلُّ بشرٍ جميعاً، ويعود الناس إلى التراب» (أي 34: 15). أو قد يعني أن الله يأمر بقيامة الموتى بعد فنائهم، كما قال المسيح: «تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيآت إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 28، 29).
(هـ) هو خارج نطاق الزمن: «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمسٍ بعدما عبر، وكهزيع من الليل» (آية 4). ينتهي جيل بعد جيل من البشر وكأنه يوم أمس.‍ عاش متوشالح بن أخنوخ 969 سنة، وهي لا شيء بالنسبة للأبدية التي لا نهاية لها، وهي في الذاكرة الإلهية كأنها يوم أمس!‍ «لا يَخْفَ عليكم هذا الشيء الواحد أيها الأحباء، أن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد» (2بط 3: 8). بل إن ألف سنة عند الله كهزيعٍ من الليل. وكان اليهود يقسمون الليل إلى ثلاثة هُزُع: الهزيع الأول من حلول الظلام إلى منتصف الليل، والهزيع الثاني من منتصف الليل إلى صياح الديك أي الفجر تقريباً، والهزيع الثالث من صياح الديك إلى طلوع النهار. أما الرومان فكانوا يقسمون الليل إلى أربعة هُزُع. وألف سنة عند الرب كهزيع من الليل، لا يحس به النائم، فليس عند الله ماضٍ ومستقبل، لأن الكل حاضر. ولا يوجد عنده قبل وبعد، بل الكل عنده الآن.
2 – فناء الإنسان: (آيتا 5، 6).
(أ‌) سريع النهاية: «جرفتهم» (آية 5أ). كأنهم بناء أقيم على رمل، جرفه السيل فلم يعد له وجود.
(ب) قصير العمر: «كسِنةٍ يكونون» (آية 5ب). السِّنة هي النومة القصيرة أو الإغفاءة. ويقول الله إنه يجعل أعداءه ينامون نوماً أبدياً ولا يستيقظون (إر 51: 39).
(ج) يشبه العُشب: «بالغداة كعشب يزول. بالغداة يزهر فيزول. عند المساء يُجَزُ فييبس» (آيتا 5ج، 6). ما هو الإنسان؟ إن قارنته بالجبال أو الأرض تجده لا شيء. فما بالك إن قارنته بالخالق الذي هو إلى دور فدور‍ (إلى كل الأجيال). الإنسان كالعشب الأخضر في مطلع النهار، اليابس في نهايته!‍ يأكله الحيوان أو يجزُّه الإنسان! «صوتُ قائلٍ: نادِ. فقال: بماذا أنادي؟ كل جسد عشب، وكل جماله كزهر الحقل. يبس العشب، ذبل الزهر، لأن نفخة الرب هبَّت عليه. حقاً الشعب عشب. يبس العشب، ذبل الزهر، وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد» (إش 40: 6-8). «الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعباً. يخرج كالزهر ثم ينحسم، ويبرح كالظل ولا يقف» (أي 14: 1، 2). تأمل موسى زملاءه بعد نحو أربعين سنة من الخروج، فوجدهم قد ماتوا جميعاً، وتأمل نفسه وقد اشتعل الرأس شيباً، فبدت الحياة هزيلة والأيام قليلة، لكنه لم يحوِّل عينيه قط عن إلهه، فرأى الحي الباقي الذي له وحده الدوام. وعندما نرفع نحن نظرنا إلى الله ندرك أنه ملجأنا في كل أدوار الحياة، وأنه الملجأ الوحيد الذي يدوم إلى الأبد.

ثانياً – غضب الله على الإنسان
(آيات 7-12)
1 – غضب يُفني ويُرعب: «لأننا قد فنينا بسخطك، وبغضبك ارتعبنا» (آية 7). يعلن المرنم ضعف الإنسان أمام الغضب الإلهي الذي يُفني الخاطئ ويرعبه. وهذه صورة جيش يواجه كارثة ستحل به ولا يقدر أن يواجهها، كما قيل عن سبط بنيامين لما انهزم أمام سائر الأسباط: «هرب رجال بنيامين برعدة، لأنهم رأوا أن الشر قد مسَّهم» (قض 20: 41). ونرى الرعب من الفناء على وجوه إخوة يوسف عندما اكتشفوا فجأة أن ممثل فرعون الذي يكلمهم هو أخوهم الذي سبق أن باعوه «لم يستطع إخوته أن يجيبوه لأنهم ارتاعوا منه» (تك 45: 3). قبل أن يكتشفوا من هو يوسف كانوا يظنون أنهم قادرون أن يحبكوا كذبهم، وأن يقولوا للرجل العظيم شيئاً ينطلي عليه فيتمكنون من أخذ القمح ليرجعوا إلى عائلاتهم. لكن ماذا عساهم يفعلون وقد انكشف أمرهم؟ لقد أصابهم الرعب، لأنهم ظنوا أنه سيفنيهم. فإن كان هذا رعب إخوة يوسف أمام أخيهم البشري، فكم يكون رعب الخاطئ غير التائب في محضر الله كلي القداسة؟
2 – غضب يكشف الآثام: «قد جعلت آثامنا أمامك، خفيّاتنا في ضوء وجهك» (آية 8). عندما ثار الشعب على موسى وأرادوا أن يرجعوا إلى مصر غضب الله عليهم، ولم يعد يُريهم وجه الرضا، ولم يستر خطاياهم، بل أظهرها ووبخهم، وأعلن أن عقابهم آتٍ لا ريب فيه. فلم تكن تلك الثورة في حقيقتها ضد موسى، لكنها كانت ضد الله بسبب ضعف إيمان الشعب بمواعيده الصادقة والأمينة، والتي أعلنها الرب على فم موسى، وبرهن موسى إيمانه بها لما حمل عظام يوسف معه من مصر، لأن يوسف استحلف بني إسرائيل قائلاً: «إن الله سيفتقدكم فتُصعدون عظامي من هنا معكم» (خر 13: 19). ومع ذلك فلم يؤمن بمواعيد الله هذه إلا يشوع بن نون وكالب بن يفنة.
كم نحتاج إلى توبة فورية عن خطايانا حالما نعرفها، فنعترف بها ونتوب عنها فوراً، مصلين: «اغسلني كثيراً من إثمي، ومن خطيتي طهِّرني، لأني عارفٌ بمعاصيَّ وخطيتي أمامي دائماً» (مز 51: 2، 3). ونحن نرتكب خطايا خافية على عيوننا ولو أنها موجودة فينا، «السهوات من يشعر بها؟ من الخطايا المستترة أبرئني» (مز 19: 12)، فإن كانت مستورة عنا إلا أنها مكشوفة لله صاحب العينين اللتين تخترقان أستار الظلام وتريان كل شيء. «وليس خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا» (عب 4: 13). وهناك خطايا مفضوحة وأخرى مستورة، قال عنهما الرسول بولس: «خطايا بعض الناس واضحة تتقدَّم إلى القضاء (لأنها علنية ومكشوفة)، وأما البعض فتتبعهم (لأنها غير منظورة ومستورة وخفية). كذلك أيضاً الأعمال الصالحة واضحة، والتي هي خلاف ذلك لا يمكن أن تُخفى» (1تي 5: 24، 25). ويقول موسى رجل الله للرب إن خطاياه وخطايا شعبه واضحة مكشوفة، وإن أجرتها هي موت، وهو يطلب الرحمة والستر له ولشعبه.
3 – غضب يقصِّر العمر: «لأن كل أيامنا قد انقضت برجزك. أفنينا سنينا كقصةٍ. أيام سنينا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة، وأفخرها تعب وبلية، لأنها تُقرض سريعاً فنطير» (آيتا 9، 10). عندما تأمل موسى مصير الجيل غير المؤمن، رأى أيامهم تنقضي تحت شدَّة الغضب الإلهي، وكأنه يقول مع إرميا: «ويل لنا لأن النهار مال، لأن ظلال المساء امتدت» (إر 6: 4). كانت أيام الآباء تقرب من الألف سنة، فقد عاش آدم 930 سنة، وابنه شيث 912 سنة، ونوح 950 سنة (تك 5: 5، 8 و9: 29). ولكن الخطية قصرت عمر الناس، فصارت أيام سنينا سبعين سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة، وأفخرها تعب وبلية. عندما سأل فرعون يعقوب أبا الأسباط: «كم هي أيام سني حياتك؟» أجاب: «أيام سني غربتي مئة وثلاثون سنة، قليلة وردية كانت أيام سني حياتي، ولم تبلغ إلى أيام سني حياة آبائي في أيام غربتهم» (تك 47: 8، 9). وقال أليفاز لأيوب: «الإنسان مولود للمشقَّة، كما أن الجوارح لارتفاع الجناح» (أي 5: 7).
«أفنينا سنينا كقصة» وما أسرع ما تنتهي رواية القصة، سواء كانت طويلة أو قصيرة! لكن تأثيراتها لا تنتهي، فقد ترتفع بأفكارنا إلى مستوى أخلاقي عالٍ، وقد تقودنا إلى أفكار نجسة. صحيح أنا حياتنا قصيرة وتنتهي بسرعة، لكن تأثيراتها على المحيطين بنا وعلى الجيل القادم لا تنتهي. فما هو تأثير قصة حياتك في شريك حياتك وأولادك وأصدقائك وأحفادك؟
4 – غضب قوي: »مَن يعرف قوة غضبك؟ وكخوفك سخطك» (آية 11). كل من يعرف قوة غضب الله على الخطية يخشى الله ويتقيه حتى لا يثير غضبه عليه، كما قال الحكيم: «اتَّقِ الرب وابعُد عن الشر» (أم 3: 7) «مخافة الرب بُغض الشر. الكبرياء والتعظُّم وطريق الشر وفم الأكاذيب أبغضتُ» (أم 8: 13). وقال الله على فم موسى: «يا ليت قلبهم كان هكذا فيهم حتى يتقوني ويحفظوا جميع وصاياي كل الأيام، لكي يكون لهم ولأولادهم خير إلى الأبد» (تث 5: 29).
5 – غضب يُعلِّم الحكمة: »إحصاء أيامنا هكذا علِّمنا فنُؤتي قلب حكمة» (آية 12). قال موسى في نشيده، قرب نهاية حياته عن شعبه: «إنهم أمة عديمة الرأي، ولا بصيرة فيهم. لو عقلوا لفطنوا بهذه وتأملوا آخرتهم» (تث 32: 28، 29). وفي مزموره يطلب من الرب أن يعلِّمه ويعلمنا أن أيامنا قليلة، وأن نهايتها مجهولة، فنكون حكماء في قراراتنا «لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟» (مت 16: 26). ولو أدرك الإنسان إحصاء أيامه وكم هي زائلة، لقضاها يجهِّز نفسه للأبدية السعيدة مع الله. وتأتينا الحكمة الإلهية من الله، بحسب القول الرسولي: «إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله، الذي يعطي بسخاء ولا يعيِّر، فسيُعطى له» (يع 1: 5).

ثالثاً – طلبات الإنسان
(آيات 13-17)
راقب موسى أصدقاءه وزملاءه أثناء سنوات التيه الأربعين في صحراء سيناء وهم يموتون واحداً بعد الآخر، فرفع وجهه إلى الله مصلياً طالباً أربعة أشياء:
1 – طلب الرحمة: »ارجع يا رب. حتى متى؟ وترأف على عبيدك. أشبعنا بالغداة من رحمتك» (آيتا 13، 14أ). طلب موسى من الله أن يرجع عن غضبه على شعبه، وأن يشرق عليهم بنور رحمته، فيشبعون منها في الغداة (في الصباح الباكر).. عندما صنع الشعب عجلاً ذهبياً سجدوا له فغضب الرب عليهم، فصلى موسى: «ارجع عن حمو غضبك» (خر 32: 12) وصلى داود من بعده: «وأنت يا رب، فحتى متى؟ عُد يا رب. نجِّ نفسي. خلصني من أجل رحمتك» (مز 6: 3، 4). قال مارتن لوثر إننا سنظل دوماً شحاذين نستجدي رحمة الله، فلا يوجد من هو مستحق. روى المسيح مثلاً عن فريسي ظنَّ أنه يستحق رضى الله، فصلى مفتخراً بنفسه محتقراً الآخرين، فرفض الله صلاته. ووقف عشار من بعيد، لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء خجلاً من ذنوبه، وقرع على صدره قائلاً: «اللهم ارحمني أنا الخاطي» فغفر الله له (لو 18: 10-13). وطلب الرحمة يكون دوماً مصحوباً بالاعتراف والتوبة، لأننا نأسف على ما ارتكبناه، ونعزم على هجره، قائلين: «كلنا كغنم ضللنا. مِلنا كل واحد إلى طريقه. الجميع زاغوا وفسدوا معاً، ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد.. إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله» (إش 53: 6 ورو 3: 12، 23). لكن في صليب المسيح جاءتنا الرحمة عندما مات الكامل من أجل الناقصين، والبار من أجل الأثمة، فقد أخلى نفسه وأخذ صورة عبد ليجعلنا أبناء لله. صار ما لم يكُنْهُ ليجعل منا ما لم نكنه. هذه هي الرحمة الحقيقية. «الله الذي هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح.. وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات» (أف 2: 4-6).
2 – طلب الفرح: «فنبتهج ونفرح كل أيامنا. فرِّحنا كالأيام التي فيها أذللتنا، كالسنين التي رأينا فيها شراً» (آيتا 14ب، 15). طلب موسى من الرب أن يفرِّحهم ويعوضهم عن الأيام التي أذاقهم فيها الذل، لأن الرب عندما يرجع عن غضبه يرحم الخاطئ التائب، فيبتهج التائب المغفور له ويفرح، لأن الرب رضي عنه وأرضاه، ويكون فرحه النابع من رحمة الله عليه فرحاً دائماً «كل أيامنا». ويقول الذين غُفرت خطاياهم بعضهم لبعض: «انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله» (1يو 3: 1) ويرنمون:
ما أبهج اليوم الــذي أمنت فيـه بالمسـيح
أضحى سروري كامـلاً ورنَّ صوتـي بالمديح
حبـــي لفاديَّ المجيد يومـاً فيومـاً سيزيد
عمـر جديد، يوم سعيد يوم اختصاصي بالوحيد
عندما غفر الله لشعبه التائب، قال: «عزوا عزوا شعبي يقول إلهكم. طيِّبوا قلب أورشليم و نادوا..أن إثمها قد عُفي عنه، أنها قد قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها» (إش 40: 1، 2). ما أجمل حياة التوبة، فإنه «يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلي توبة.. يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب» (لو 15: 7، 10). أما الفرح الأعظم فهو من نصيب التائب الراجع إلي الله، لأنه يغفر له خطاياه، ويصالحه معه، ويمنحه الأُنس الدائم معه، ويجعله مِلكا له. هذا الإله العجيب في محبته يؤكد للتائب الراجع حضوره الدائم معه، ويفيض عليه بركات السماء والأرض دائماً، ويستجيب طلباته، وينقذه من المآزق، ويجعله يختبر الرحمة الإلهية كل يوم وكل اليوم، فيقول: «إنما خير ورحمه يتبعانني كل أيام حياتي، وأسكن في بيت الرب إلي مدى الأيام» (مز 23: 6).
3 – طلب إظهار قوة الله: «ليظهر فعلك لعبيدك وجلالك لبنيهم» (آية 16). يطلب موسى من الرب أن يُظهر أفعال عنايته بطريقة مرئية كما فعل وقت الخروج من مصر، فرأى الجميع عمود النار وعمود السحاب اللذين قاد الرب بهما شعبه في صحراء سيناء (خر 13: 21، 22)، كما رأوا شق البحر الأحمر فعبروا ونجوا من يد فرعون (خر 14: 21، 28). واستجاب الله صلاة موسى، فرأى البعيد والقريب فعل الله المعجزي لعبيده، وجلال أعماله لبنيهم الذين شاهدوا انفلاق مياه نهر الأردن ولمسوا أعمال العناية الإلهية التي بلا حدود (يش 3: 13، 15، 16 و4: 7).
إلهنا إلهٌ فاعل في التاريخ، كما أنه فاعلٌ بيننا اليوم، وغداً «كنتُ فتى وقد شخت ولم أر صدِّيقاً تُخلِّي عنه، ولا ذرية له تلتمس خبزاً. اليوم كله يترأف ويُقرض، ونسله للبركة» (مز 37: 25، 26) «فيُعلن مجد الرب، ويراه كل بشرٍ معاً» (إش 40: 5).
3 – طلب تثبيت عمل اليدين: «ولتكن نعمة الرب إلهنا علينا، وعمل أيدينا ثبِّت علينا، وعمل أيدينا ثبِّته» (آية 17). يطلب موسى من الله أن يثبت ويؤيد كل ما يقوم به من عمل يومي، فهل نظن أن موسى طلب أن يثبت الرب عليه عمله لو لم يكن عملاً صالحاً؟ هل يمكن أن يطلب تثبيت العمل الرديء عليه؟ إذاً فمعنى الطلبة أن يُنعم الله عليه بأن يجعل عمله صالحاً، فلا يمكن أن يعمل الصالح إلا إن عمل الله فيه أولاً، كما قالت النصيحة الرسولية: «لأننا نحن عمله (عمل الله) مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10). «إذاً يا إخوتي الأحباء، كونوا راسخين، غير متزعزعين، مكثرين في عمل الرب كل حين، عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب» (1كو 15: 58).
عندما نعمل أي شيء دعونا نعمله لمجد الله. ولتكن نعمة الرب إلهنا علينا فيصبح عملنا صالحاً، يثبته علينا ليستمر ويمتد ويتسع. فما هو العمل الذي تقوم به للرب؟ وما هي الخدمة التي تؤديها له لتستطيع أن تصلي: امنحني نعمتك يا رب، وعمل يديَّ ثبت عليّ؟

اَلْمَزْمُورُ الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ
1 اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ. 2أَقُولُ لِلرَّبِّ: «مَلْجَإِي وَحِصْنِي. إِلَهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ». 3لأَنَّهُ يُنَجِّيكَ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِ، وَمِنَ الْوَبَإِ الْخَطِرِ. 4بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ، وَتَحْتَ أَجْنِحَتِهِ تَحْتَمِي. تُرْسٌ وَمِجَنٌّ حَقُّهُ. 5لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ اللَّيْلِ، وَلاَ مِنْ سَهْمٍ يَطِيرُ فِي النَّهَارِ، 6وَلاَ مِنْ وَبَأٍ يَسْلُكُ فِي الدُّجَى، وَلاَ مِنْ هَلاَكٍ يُفْسِدُ فِي الظَّهِيرَةِ. 7يَسْقُطُ عَنْ جَانِبِكَ أَلْفٌ، وَرَبَوَاتٌ عَنْ يَمِينِكَ. إِلَيْكَ لاَ يَقْرُبُ. 8إِنَّمَا بِعَيْنَيْكَ تَنْظُرُ وَتَرَى مُجَازَاةَ الأَشْرَارِ.
9لأَنَّكَ قُلْتَ: «أَنْتَ يَا رَبُّ مَلْجَإِي»، جَعَلْتَ الْعَلِيَّ مَسْكَنَكَ، 10لاَ يُلاَقِيكَ شَرٌّ، وَلاَ تَدْنُو ضَرْبَةٌ مِنْ خَيْمَتِكَ. 11لأَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرْقِكَ. 12عَلَى الأَيْدِي يَحْمِلُونَكَ لِئَلاَّ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ. 13عَلَى الأَسَدِ وَالصِّلِّ تَطَأُ. الشِّبْلَ وَالثُّعْبَانَ تَدُوسُ. 14لأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِي أُنَجِّيهِ. أُرَفِّعُهُ لأَنَّهُ عَرَفَ اسْمِي. 15يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ. مَعَهُ أَنَا فِي الضِّيقِ. أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ. 16مِنْ طُولِ الأَيَّامِ أُشْبِعُهُ، وَأُرِيهِ خَلاَصِي.

الساكن في ستر العلي
توجد نصوص كتابية يتهيَّب الواعظ أمامها لئلا يُنقِص من جمالها وهو يحاول أن يشرحها. وقد وجدتُ نفسي أقف هذا الموقف أمام المزمور الحادي والتسعين، كما وقفته أمام نصوص كتابية أخرى كثيرة.
يتحدَّث هذا المزمور عن طمأنينة الإنسان التقي الذي يحفظه الله من الأخطار التي تهدِّده، روحياً وجسدياً ونفسياً وفكرياً واجتماعياً. وهي بالرغم من كثرتها وخطورتها لا تدمِّر المؤمن، وإن كانت أحياناً تزعجه، لأنها حتى لو اجتمعت معاً فهي لا شيء أمام عظمة القدرة السماوية، والمحبة الإلهية للمؤمن. فما أكثر المخاطر ولكن ما أعظم العناية، التي تجعل المؤمن يقول: «الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت».
يتعرَّض المؤمن لأخطار روحية تهدد علاقته بالله، وتحاول أن تدمِّر أخلاقياته. ويصف الرسول بطرس عدوَّنا الروحي إبليس بأنه كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه (1بط 5: 8) ولكن الرب يعطي المؤمن نصرةً على إبليس وجنوده، فيسمع كلمات الملاك المشجِّع: «لا بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحي قال رب الجنود. مَن أنت أيها الجبل العظيم! أمام زربابل تصير سهلاً (بمعنى: تصير مستوياً)» (زك 4: 6، 7)، فيقول المؤمن: «ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 37)، ويردِّد قول المسيح: «رأيتُ الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء» (لو 10: 18). فمهما كانت قسوة الصعوبة الروحية التي تواجه المؤمن فإنها لا تفشله أبداً، بل تتحوَّل بنعمة الله إلى معونة ترفعه إلى أعلى، وتكون بركة له وللمحيطين به، كما حدث ليوسف الذي باعه إخوته في مصر، فقال لهم بعد أن وصل إلى القمة: «لا تتأسَّفوا.. لأنكم بعتموني إلى هنا، لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم.. ليجعل لكم بقية في الأرض، وليستبقي لكم نجاة عظيمة. فالآن ليس أنتم أرسلتموني بل الله.. أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به خيراً» (تك 45: 4-8 و50: 20).
ويتعرَّض المؤمن لأخطار جسدية، فيهاجمه الأعداء ليصيبوه أو يقتلوه، ولكنه يقول: «إن نزل عليَّ جيش لا يخاف قلبي. إن قامت عليَّ حرب ففي ذلك أنا مطمئن» (مز 27: 3).. ويهاجمه المرض، ولكنه يعرف أن الرب هو شافيه (خر 15: 26). قد يشفيه باستعمال العقاقير كما حدث مع حزقيا (إش 38: 21)، أو بمعجزة كما حدث مع بارتيماوس وغيره (مر 10: 52)، وقد يعطيه نعمة كافية ليحتمل مرضه كما حدث مع الرسول بولس (2كو 12: 9). وسيكون المؤمنون في كمال الصحة بعد انتقالهم ليكونوا مع الرب حيث لا مرض ولا وجع (رؤ 21: 4). أما الأعداء فإنهم سيرتدّون على أعقابهم ويدفعون أجرة خطيتهم.
ويتعرَّض المؤمن لأخطار فكرية، وقد يصيبه الشك، أو الحيرة. وقد يخاف من المستقبل أو من الفشل، أو من الأعداء، فيصرخ: «يا ربُّ، ما أكثر مضايقيَّ! كثيرون قائمون عليَّ. كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاصٌ بإلهه» (مز 3: 1، 2). ولكن نعمة الرب تسنده، فيهتف: «أما أنت يا رب فترسٌ لي. مجدي ورافع رأسي» (مز 3: 3)، ويطيع قول المسيح: «لا تهتمّوا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شرُّه» (مت 6: 34).
ويتعرَّض المؤمن لأخطار من مجتمعه، فقد يضطهدونه، أو يطردونه من عمله، أو يخونه أقرب الناس إليه، ولكنه يقول: «من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدَّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟» (رو 8: 35).
ما أكثر ما يحيط بالمؤمن من صعوبات في كل مراحل حياته، ولكل مرحلة عُمر تجاربها ومتاعبها. لكن المواعيد الإلهية تسانده فيها كلها، وتنصره عليها، وعندها يقول للرب: «ملجإي وحصني إلهي فأتَّكل عليه». فإذا تعلقنا به ينجينا. وقد تجوز كنيستنا اليوم اختباراً كاختبار بني إسرائيل في مصر، لكن لا بد أن نخرج منه بنعمة الله. وقد ندخل اختباراً كسبي بابل، لكن لابد أن يردّ الرب سبينا فنعود منه وقد تخلَّصنا من كل ما يُضعِف صلتنا بالله، فيكون مجد البيت الأخير أعظم من مجد الأول «وفي هذا المكان أُعطي السلام، قال رب الجنود» (حج 2: 9).
يتكوَّن هذا المزمور من 16 آية، نصفها الأول حديث عن اختبارات المؤمن مع الرب، ونصفها الثاني حديث الله للمؤمنين.

في هذا المزمور نجد:
أولاً – حديث المرنم عن نفسه (آيتا 1، 2)
ثانياً – حديث المرنم لقريبه (آيات 3-8)
ثالثاً – حديث الله للمرنم (آيات 9-16)

أولاً – حديث المرنم عن نفسه
(آيتا 1، 2)
1 – قاعدة عامة: «الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت» (آية 1). ليست هذه الكلمات شعارات لتطمين الناس، لكنها حقائق واختبارات. لقد انهار الذين قالوا إن الدين أفيون الشعوب وانتهوا، أما أقوال الله فهي حقائق مُعاشة وثابتة، اختبرها المؤمنون عبر الأجيال، وسيظلّون يعيشونها واثقين فيها إلى يوم الدين، فهي ليست ماضياً انتهى بل حاضر دائم، وواقع يومي. ويقول المرنم إن كل من يسكن في ستر العلي يبيت في ظل القدير، فالذي يسكن هو الذي يبيت في ظله وحمايته، وهو من صارت الحياة له هي المسيح، وعرف معنى القيامة المنتصرة، والجلوس مع المسيح في السماويات (في 1: 21 و3: 10، 11 وأف 2: 6).
(أ) المؤمن ساكن ويبيت: ساكن بمعنى أنه مقيم، ويبيت لأنه مُنتمٍ يقضي ليله في مكان آمِن، فبعد أن أنعم الله عليه بالتبنّي يقيم في بيت الرب أبيه «إلى مدى الأيام» (مز 23: 6)، ويسكن في شركة حلوة بين المؤمنين، ويغمض عينيه ليبيت مطمئناً لأن عيناً ساهرة تحرسه هي عين الإله المحب، ويقول: «أنا اضطجعت ونمت. استيقظت لأن الرب يعضدني» (مز 3: 5) «بسلامة أضطجع، بل أيضاً أنام، لأنك أنت يا رب منفرداً في طمأنينة تسكنني» (مز 4: 8).
(ب) الرب هو العلي القدير: العلي فوق كل عالٍ، الذي يرى من علياء سمائه كل شيء، ولا يخفى عنه أمر. الماضي والمستقبل حاضران أمامه، وهو يعرف حاجة المؤمن من قبل أن يسأل (مت 6: 8) فيسدِّد كل احتياجاته. الرب العلي هو سيد الأرض كلها، ساكن السماء، الذي يُشرف من سمائه على البشر ليرى «هل من فاهم طالب الله؟» (مز 14: 2). «ليست خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا» (عب 4: 13).. وهو القدير الذي صلى له النبي إرميا قائلاً: «أيها السيد الرب، ها إنك قد صنعت السماوات والأرض بقوتك العظيمة وبذراعك الممدودة. لا يعسر عليك شيء» (إر 32: 17). وقال المسيح: «عند الناس غير مستطاع، ولكن ليس عند الله، لأن كل شيء مستطاع عند الله» (مر 10: 27). له يهتف المؤمنون الغالبون: «عظيمةٌ وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء. عادلةٌ وحقٌّ هي طرقك يا ملك القديسين» (رؤ 15: 3).
(ج) المؤمن مستور مظلَّل: يستر الرب المؤمن بستره فيمتِّعه بالسَّتر والسِّتر، فلا يقرب إليه شر أو عدو. ويُنعِم عليه بظل حمايته، فلا تدنو منه ضربة. لا متاعب من البشر، ولا من الأرواح الشريرة. لا متاعب من أعدائه الذين يكيدون له، ولا من أصدقائه الذين قد يتابعونه بحصار نصائحهم التي لا تفيد! ويحاول العالم أن يُذل المؤمن، لكن الذل لا يدخل إلى نفسه، لأنه يقول: «يخبِّئني في مظلته في يوم الشر. يسترني بستر خيمته» (مز 27: 5).. «أنت سترٌ لي. من الضيق تحفظني. بترنُّم النجاة تكتنفني» (مز 32: 7). «يستر الرب سكان أورشليم، فيكون العاثر منهم في ذلك اليوم مثل داود» (زك 12: 8). «ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون» (مز 36: 7). «الرب حافظك. الرب ظل لك عن يدك اليمنى» (مز 121: 5).
ويحاول الأشرار مضايقة المؤمن لكنه لا يتضايق، لأن نعمة الرب تطرد الضيق عنه فينتصر، لأنه يدرك أنه لا يتعامل مع البشر، بل مع رب البشر.
2- اختبار شخصي: (آية 2).
(أ) المرنم رجل صلاة: «أقول للرب» (آية 2أ). فالحديث الحبي والتواصل الفكري مع الله بالصلاة هو بداية الحياة الإيمانية، وهو إعلان جهاري يمجد الله ويقود الآخرين إلى طريق الإيمان والتوبة. عندما يصلي الخاطئ التائب: «اللهم ارحمني أنا الخاطي» (لو 18: 13) تنفتح أبواب السماء وترسل الاستجابة فوراً ويتبرَّر المصلي التائب. عندما التقى شاول الطرسوسي بالمسيح الحي المُقام قيل عنه: «هوذا يصلي» (أع 9: 11). وتستمر السماء تستجيب للخاطئ الذي تاب، ويقول الرب عنه: «ويكون أني قبلما يدعون أنا أُجيب. وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع» (إش 65: 24). ويتميَّز أبناء الله الأتقياء بالحديث الدائم مع الله واثقين فيه متكلين عليه وشعارهم: «أما أنا فصلاة» (مز 109: 4).
(ب) للمرنم علاقة شخصية بالله: «ملجإي. حصني. إلهي» (آية 2ب). الملجأ هو الحصن المبني على جبل، والمحاط بالأسوار العالية، فيصعب على العدو الوصول إليه أو تسلُّق أسواره واقتحامه. والرب سور نار للمؤمن، وهو الحصن الذي يركض إليه الصدِّيق ويتمنَّع (أم 18: 10) فلا يرى فيه أي تغيير ولا ظل دوران (يع 1: 17). والرب هو العظيم صانع السماء والأرض، ومع ذلك فهو يعطي المؤمن مكانةً خاصة في قلبه المحب، فيدعوه التقي: «إلهي». «حبيبي لي وأنا له» (نش 2: 16) «الإله الذي أنا له والذي أعبده» (أع 27: 23).
(ج) للمرنم علاقة مطمئنة بالله: «فأتكل عليه» (آية 3ج). ما أعظم طمأنينة المؤمن الذي عرف الله واختبره وتأكد من انتمائه له، فبدأ يتصرَّف بحسب ما عرف واختبر. الفاء هنا فاء السببية، وتعني أنه: بما أنك ملجإي وحصني وإلهي لذلك أتكل عليك، خصوصاً في وقت الاحتياج، لأنك وحدك تستحق أن أتكل عليك، وأنا مطمئن إليك. «الرب فادي نفوس عبيده، وكل من اتكل عليه لا يُعاقَب» (مز 34: 22).

ثانياً – حديث المرنم لقريبه
(آيات 3-8)
1- يحدِّث المرنم قريبه عمّا يفعله الله: «لأنه ينجّيك من فخ الصياد ومن الوبإ الخطِر. بخوافيه يظللك، وتحت أجنحته تحتمي. تُرسٌ ومجنٌّ حقُّه» (آيتا 3، 4).
(أ) »ينجيك«:
* من «فخ الصياد»: الصياد الأكبر الذي ينصب الفخاخ للناس هو إبليس، ومعه جنوده ممَّن يخدعهم من البشر، ويصفهم المرنم بالقول: «طالبو نفسي نصبوا شركاً، والملتمسون لي الشر تكلموا بالمفاسد، واليوم كله يلهجون بالغش» (مز 38: 12). ويطلب الرسول بولس من تلميذه تيموثاوس أن يؤدِّب المقاومين بوداعةٍ «عسى أن يعطيهم الله توبةً لمعرفة الحق، فيستفيقوا من فخ إبليس إذ قد اقتنصهم لإرادته» (2تي 2: 25، 26). ويلعب إبليس دور أسد ليحقق غايته من اقتناص الناس، فيزأر ليرعب المؤمنين (1بط 5: 8) ولكنه ليس أسداً حقيقياً. وعندما يكون المؤمن داخل حظيرة المسيح يكون في أمان من فخ الصياد غير المنظور، ولن يقدر إبليس أن يصل إليه، ولن ينال منه، لأنه في رعاية الرب الذي يحفظه، فيتحقَّق معه القول: «كل آلة صُوِّرت ضدك لا تنجح» (إش 54: 17)، ويقول مع عزرا الكاهن: «كانت يد إلهنا علينا فأنقذنا من يد العدو والكامن على الطريق» (عز 8: 31). وإبليس لا يملك إلا اقتراح الثورة ضد فكر الله، لكنه لا يُجبِر أحداً على ارتكاب الشر، وهو لا يمكن أن يخطف المؤمن من يد الرب طالما كان المؤمن متمسِّكاً بالرب. فلنكن يقظين حتى نرفض اقتراحات إبليس وعروضه المغرية فلا نقع في فخ الصياد.
* من «الوبإ الخطر»: هناك أوبئة وأمراض ينجي الرب المؤمن منها، ولكن أخطر وبإ هو وبأ الخطية التي تفسد الإنسان. ويفسد المجتمع عندما تصبح الخطية هي الأصل، وتكون التقوى هي الدخيل! حقاً «البر يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية» (أم 14: 34).
(ب) يظللك: «بخوافيه يظللك» (آية 4أ). والخوافي هي الريش الصغير الناعم في بطن الجناح وتحته. والفرخ الصغير لا يحتمل خشونة الريش الكبير، فأعطى الله الخوافي للطائر لتحمي فراخه لئلا يجرحهم الريش الكبير. ما أحلى عناية الرب الذي يعتني بالصغير كما بالكبير. عندما يكون الإنسان مجروحاً في داخله وخارجه يضمد جراحه بكل المحبة.
(ج) يحميك: «تحت أجنحته تحتمي. ترسٌ ومجنٌّ حقُّه» (آية 4ب، ج). كأن للرب جناحين كبيرين يحمي بهما المؤمن من شرور العالم ومن شمس التجارب ومن هجوم العدو. قال بوعز لراعوث الموآبية: «ليكافئ الرب عملك، وليكن أجركِ كاملاً من عند الرب الذي جئتِ لكي تحتمي تحت جناحيه» (را 2: 12). فقد يجيء طائر كبير يحاول أن يخطف الفرخ الصغير، فيمدُّ الأب أو الأم جناحيهما ليحميا الصغير. ويعلِّم النسر صغاره الطيران بالاستعانة بجناحيه الكبيرين «يحرِّك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه ويحملها على مناكبه» (تث 32: 11).
ويجد المؤمن حمايته في حقّ الرب المعلَن في كلمته، وهي أمضى من كل سيف ذي حدَّين (عب 4: 12). كان الجندي قديماً يحتمي بالترس الكبير وبالمجن (وهو الترس الصغير). والترس قطعة خشب مغطاة بجلد، خلفها مقبض جلدي، وكانوا يغمسون الجلد الذي يغطي الخشب بالزيت لحمايته من التشقُّق. ويمسك الجندي الترس من المقبض ليتلقَّى عليه سهام العدو، فينغرس السهم في الجلد والخشب. وكثيراً ما كان العدو يغطي سهمه بقماش مشتعل، فكان الترس يحمي الجندي من الحريق ومن النزيف الدموي. وكان الجندي يسحب السهم من الترس ويعيد توجيهه نحو العدو، فيرتد سهم العدو إلى نحره. ويقول الإنجيل إن الترس الذي يحمي المؤمن هو ترس الإيمان وتصديق الحق الإلهي، الذي به يطفئ المؤمن جميع سهام الشرير الملتهبة (أف 6: 16). وكلما هاجمنا العدو احتجنا أكثر إلى حق الله المعلَن في كتابه، فلا يضيع منطقنا السليم بسبب الهجوم، بل ننال من حق الله المنطق السليم، فإن «الله لم يعطنا روح الفشل، بل روح القوة والمحبة والنصح» (2تي 1: 7). والنصح هو التفكير السليم.
هل ينتابنا شك في محبة الرب لنا؟ كثيراً ما نصلي ولا يعطينا الله ما طلبناه، فيُخيَّل لنا أنه لا يسمع، لكن حق الرب يقول: «اسألوا تُعطَوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتَح لكم» (لو 11: 9)، ويقول المرنم: «انتظاراً انتظرتُ الرب فمال إليَّ وسمع صراخي» (مز 40: 1). الرب يسمع عندما ندعوه.. أحياناً يسمع طلبنا ويرفضه لأنه ليس الأفضل لنا. وفي أحيان أخرى قد يتأنى في الاستجابة ليعطينا احتياجنا في موعدٍ أفضل. وقد يعطينا ما طلبناه. هذا هو الحق الذي يحمينا من الشكوك. قال المسيح: «تعرفون الحق والحق يحرركم» (يو 8: 32). والحق هو أن الله محبة، وهذا ما اكتشفه الابن الضال، ففي طريق عودته إلى أبيه كان خائفاً من أن يرفضه أبوه، وسرعان ما عرف حقيقة أن أباه يحبه، وكان في كل يوم ينتظر عودته، فتحرر من شكوكه في قبول أبيه له. وعلينا أن نتأكد أن الآب السماوي لا يشاء أن يبقى الخاطئ في مكان بعيد، بل أن يرجع إليه فيحيا. فلا تيأس أبداً من محبة أبيك السماوي، لأن قلبه مفتوح لك. قال الأب عن ابنه الضال الراجع: «ينبغي أن نفرح ونُسر.. لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوُجد» (لو 15: 23، 24). وهذا هو الحق المحرِّر من الخطية ومن الخوف ومن الشك.
2 – يحدِّث المرنم قريبه عما يجب أن يفعله القريب: (آيات 5-8).
(أ) لا يجب أن يخاف: «لا تخشى من خوف الليل، ولا من سهم يطير في النهار، ولا من وبإ يسلك في الدُّجى، ولا من هلاك يفسد في الظهيرة» (آيتا 5، 6). عينا الرب تلاحظان المؤمن في كل وقت، في الليل والنهار، وقت الدجى ووقت الظهيرة. كان اليهود يقسمون اليوم إلى شروق وظُهر، وغروب ونصف ليل. ويُطمئِن المرنم أخاه المؤمن بأن لا يخاف في أية ساعة على مدار اليوم، فقد يجيء المرض والوبأ، أو يهاجمنا العدو ليلاً. وأحياناً يحدث كل هذا نهاراً. وفي كل هذه الحالات لا داعي للخوف أو القلق. فلنطلب من الله أن يحقِّق لنا وعده: «إذا اضطجعتَ فلا تخاف، بل تضطجع ويلذّ نومك. لا تخشى من خوفٍ باغت ولا من خراب الأشرار إذا جاء، لأن الرب يكون معتمدك، ويصون رِجلك من أن تُؤخَذ» (أم 3: 24-26).. وقال بعض المفسرين إن الليل والدجى يرمزان إلى وقت الفشل، وإن النهار والظهيرة يرمزان إلى أوقات النجاح. وهناك أخطار تصيبنا وقت الفشل، فننهار ونسقط تحت الضغوط. ولكن أوقات النجاح قد تكون أكثر خطورة على حياتنا الروحية، فننسى الله ونظن أن ذكاءنا جلب لنا النجاح، وقد نضل عن الرب لأننا نعتمد على المال، أو على أصحابنا، أو على شهاداتنا العلمية، أو على نفوذ عائلاتنا. فلا يجب أن نخشى من خوف الليل، ولا من سهام النهار. فلتكن صلاتنا: «لا تعطني فقراً ولا غنى. أطعِمني خبز فريضتي، لئلا أشبع وأكفر وأقول: من هو الرب! أو لئلا أفتقر وأسرق وأتَّخذ اسم إلهي باطلاً» (أم 30: 8، 9).
(ب) سيرى سقوط الأشرار: «يسقط عن جانبك ألف وربوات عن يمينك، إليك لا يقرب. إنما بعينيك تنظر وترى مجازاة الأشرار» (آيتا 7، 8). يؤكد المرنم لكل مؤمن أنه متميِّز ومحروس بقوة الله لخلاصٍ مستعدٍّ أن يُعلَن في الزمان الأخير (1بط 1: 5) «فتعودون وتميِّزون بين الصدِّيق والشرير، بين من يعبد الله ومن لا يعبده» (ملا 3: 18). لقد ميَّز الرب تقيَّه، ففي وقت الخروج من مصر تحوَّل الماء إلى دم في كل البلاد إلا في أرض جاسان (خر 7: 20)، وساد الظلام أرض عُبّاد الوثن، بينما كان لشعب الله نور في مساكنهم (خر 10: 21)، وكان صراخ في كل بيت إلا في بيوت الذين احتموا بالدم فعبر الملاك المهلك عنهم (خر 12: 23)، وعبر شعب الله البحر الأحمر بسلام، وسقط أمامهم الألوف غرقى فيه (خر 14: 30، 31).
فلننتبه ونتعظ ونتوب لننجو من مصير الأشرار الذين يسقطون في الحُفر التي يحفرونها لغيرهم فيسقطون فيها. ولنصلِّ «اللهم ارحمني أنا الخاطي» لتُمحى خطايانا ونضمن أبديتنا ونقول: «كُن ضامني عند نفسك» (أي 17: 3). وليكن لنا الإيمان الواثق بالله ومواعيده، ولنكن مثل كالب بن يفنة ويشوع بن نون اللذين قالا إن الرب سيحقق وعده لشعبه، فنالا المكافأة، وسقطت في القفر جثث جميع الذين لم يؤمنوا، فرأى كالب ويشوع مجازاة الأشرار الذين لم يؤمنوا بوعد ربهم (عدد 14: 36-38).

ثالثاً – حديث الله للمرنم
(آيات 9-16)
بدأ المرنم مزموره بالحديث عن اختباره المفرِّح مع الله، ثم التفت يحدِّث قريبه بأفضال الله. وتدخَّل الله ليشجع المؤمن وقريبه بمراحمه الإلهية:
1- يعِدُ الرب المؤمن بدوام الحماية: «لأنك قلت أنت يا رب ملجإي، جعلتَ العليَّ مسكنك، لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربةٌ من خيمتك» (آيتا 9، 10). يتشجَّع المؤمن بصدق كلام الرب الذي بدأ به المزمور، فيقول: «لأنك قلت» «لأنك جعلت». فلم يحب المؤمنُ اللهَ باللسان فقط، بل أحبه بالعمل والحق. لقد صَدَق وهو يقول: «الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت»، وصدق وهو يشجع قريبه بأن الألوف يسقطون من حوله، دون أن يقربه شر. شهد المؤمن عن اختباره، وتحدَّث مع قريبه عن صلاح الرب، فشهد الله للمؤمن أنه أمين وواثق. ومن له إيمان سيُعطى ويُزاد (مت 13: 12)، فزاد الرب المؤمن تأكيداً أنه سيستمر معه، فلا يلاقيه هو شخصياً شر، ولا تدنو ضربة من خيمته، أي جسده أوعائلته وكنيسته ومجتمعه. دخل المسيح سفينة حياة المؤمن، فلا يمكن أن تغرق مهما اشتدَّت الزوابع ومهما علت الأمواج! قال المسيح: «اثبتوا فيَّ وأنا فيكم» (يو 15: 4) ولن يلاقي الغصن الثابت في الكرمة السماوية شر، ولن تدنو ضربة من بيته.. فإذا سمح الله بوقوع ضربة على المؤمن فإن «كل الأِشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله» (رو 8: 28). فيحوِّل الرب الضربة التي سمح لها أن تدنو من خيمة المؤمن إلى بركة تُثبِّت أوتادها وتزيدها رسوخاً وقوة.
2- يعِدُ الرب المؤمن بالخدمة الملائكية: «لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك. على الأسد والصِّل تطأ. الشبل والثعبان تدوس» (آيات 11-13). والملائكة «أرواح خادمة مُرسَلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص» (عب 1: 14). ونادراً ما يرى المؤمن الملائكة بعينيه الجسديتين لكنهم موجودون حوله. فتح الملاك عيني هاجر لترى بئر الماء، فروت إسماعيل الذي كان يكاد يموت عطشاً (تك 21: 19). وطمأنت الملائكة يعقوب أب الأسباط وهو ينام في الصحراء وحيداً (تك 28: 12). وجاء ملاك الرب إلى إيليا في الصحراء بكعكةٍ وكوز ماء، فأكل ونام من شدة التعب، وأيقظه الملاك بعدها ليتناول وجبةً أخرى (1مل 19: 4-8). وقال دانيال في جب الأسود: «إلهي أرسل ملاكه وسدَّ أفواه الأسود» (دا 6: 22). وفتح الملاك أبواب السجن لبطرس السجين، وأيقظه وقاده إلى الحرية (أع 12: 7-10). وخدمت الملائكة المسيح بعد انتصاره على تجارب إبليس الثلاث في الصحراء (مت 4: 11). وتفرح الملائكة بالخاطئ التائب (لو 15: 10) وتحمل نفس المؤمن إلى النعيم (لو 16: 22) وفي اليوم الأخير يكون الملائكة حصَّادي نفوس الناس (مت 13: 39). «ملاك الرب حالٌّ حول خائفيه وينجيهم» (مز 34: 7). ويعرف الشيطان خدمة الملائكة للمؤمنين، فاقتبس للمسيح آيتي 11، 12 من مزمورنا وهو يجرِّبه أن يطرح نفسه من على الجبل، فتحرسه الملائكة، فيتبعه الناس (مت 4: 6).
وتحمي ملائكة الله المؤمنين من الخطر الظاهر الذي يعبِّر عنه المرنم بالأسد والشبل، كما يحميهم من الخطر المختفي وهو الصل (نوع خبيث من الحيات) والثعابين. ويصف الكتاب إبليس بأنه كأسد يزأر (1بط 5: 8) وبأنه الحية القديمة (رؤ 12: 9 و20: 2) «لأن إله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً» (رو 16: 20). فليطمئن المؤمنون، لأن نسل المرأة الذي سحق رأس الحية سينجيهم من الأسود والثعابين، ويجعلهم يدوسونهم. وكلمة «تدوس» لها معنى عسكري، فقد كان القائد المنتصر يضع قدمه على عنق القائد المهزوم، ويكون هذا إعلان استسلام المهزوم وانتصار المنتصر. وفي المسيح نقول: «يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 37).
«لأنه هكذا قال الرب: هئنذا أدير عليها سلاماً كنهرٍ، ومجد الأمم كسيل جارفٍ، فترضعون وعلى الأيدي تُحمَلون، وعلى الركبتين تُدلَّلون. كإنسان تعزّيه أمه هكذا أعزيكم أنا» (إش 66: 12، 13).
3 – يعِدُ الرب المؤمن بعلاقة حميمة: (آيات 14-16).
(أ) المؤمن يحب الله فينجّيه: «لأنه تعلَّق بي أنجيه» (آية 14أ). يتعلَّق المؤمن بالرب لأن الرب تعلَّق بالمؤمن، فيحب الرب لأن الرب أحبه أولاً (1يو 4: 19). «في هذا هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1يو 4: 10). قال موسى لشعب الله: «التصَقَ الرب بكم واختاركم.. الرب التصق بآبائك ليحبَّهم، فاختار من بعدهم نسلهم الذي هو أنتم، فوق جميع الشعوب، كما في هذا اليوم» (تث 7: 7 و10: 15) فيقولون: «بترنُّم النجاة تكتنفني» (مز 32: 7)، وصَدَق الملك داريوس وهو يقول: «هو ينجي وينقذ ويعمل الآيات والعجائب في السماوات وفي الأرض. هو الذي نجى دانيال من يد الأسود» (دا 6: 27). وهو نفسه الذي سبق أن نجى يوسف من سجن فرعون وأقامه على العرش (تك 41: 14، 41-44)، ونجى داود من يد شاول وولاه المُلك على شعبه (2صم 1: 4)، ونجى مُردخاي من مؤامرة هامان (أس 3-8).
(ب) المؤمن يعرف الله فيرفِّعه: «أُرفِّعه لأنه عرف اسمي» (آية 14ب). بسبب إعلان الوحي عن الله، ونتيجةً لعمل الروح القدس في القلب، يعرف المؤمن الرب معرفة شخصية، فيتمُّ فيه القول: «ويتَّكل عليك العارفون اسمك، لأنك لم تترك طالبيك يا رب» (مز 9: 10). ويستمر المؤمن يقول: «لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه، متشبِّهاً بموته.. لست أحسب أني قد نلت أو صرت كاملاً، لكني أسعى لعلي أدرك» (في 3: 10، 12). وهنا يرفِّع الرب المؤمن، فيصل إلى مستويات أعلى في التقوى والقُرب من الله، ويرتفع رأسه على أعدائه من حوله. «الرب يرفع الودعاء، ويضع الأشرار إلى الأرض» (مز 147: 6). «يُقيم المسكين من التراب. يرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الشرفاء، ويملِّكهم كرسي المجد» (1صم 2: 8).
(ج) المؤمن يدعو الله فيستجيبه: «يدعوني فأستجيب له» (آية 15أ). يحب المؤمن الرب فيخاطبه بدالة البنين «يا أبانا الذي في السماوات» (مت 6: 9) فيستجيب الله ويمنحه بركات السماء والأرض.
(1) ينقذه من الضيق: «معه أنا في الضيق: أنقذه وأمجِّده» (آية 15ب). فالرب يقول: «ادعُني في يوم الضيق أنقذك فتمجدني» (مز 50: 15) والمؤمن يجيب: «أما أنت يا رب فتُرسٌ لي. مجدي ورافع رأسي. بصوتي إلى الرب أصرخ فيجيبني من جبل قدسه» (مز 3: 3، 4).
(2) يطيل أيامه: «من طول الأيام أُشبعه» (آية 16أ). هذا تحقيق للمواعيد الإلهية «إذ تحب الرب إلهك، وتسمع لصوته، وتلتصق به، لأنه هو حياتك، والذي يطيل أيامك» (تث 30: 20). وقال الحكيم: «يا ابني لا تنسَ شريعتي، بل ليحفظ قلبك وصاياي، فإنها تزيدك طول أيام، وسني حياة، وسلامة.. في يمينها طول أيام، وفي يسارها الغِنى والمجد» (أم 3: 1، 2، 16). وهذا بخلاف الأشرار الذين يسقطون عن جانبك، والذين يجازيهم الله حسب شرهم (آيتا 7، 8). وليس المقصود بطول الأيام كثرة السنين، فهناك سنون طوال لا ثمر فيها ولا عطاء، وهناك سنون قليلة تترك بصمات مباركة. لقد صرف المسيح على أرضنا ثلاثاً وثلاثين سنة، وكانت السنوات الثلاث الأخيرة في خدمته العلنيَّة هي أغني السنين. فلنستخدم أيامنا لمجد الله، ولنطلب منه أن يعوِّضنا عن السنين التي أكلها الجراد (يوئيل 2: 25).
(3) يريه خلاصه: «وأريه خلاصي» (آية 16 ب). يطلب المرنم خلاص الرب لشعبه من السبي، ومن الحرب، ومن الأعداء، ومن الجوع، ومن المرض. ويقدم الإنجيل لنا معنى أعمق للخلاص، هو الخلاص من الخطية بفداء المسيح الذي مات من أجلنا على الصليب «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). «مباركٌ الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاءٍ حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراثٍ لا يفنى ولا يتدنَّس ولا يضمحل، محفوظ في السماوات لأجلكم» (1بط 1: 3، 4). وخلاص المسيح ليس قاصراً على الخلاص من الخطية، لكنه خلاص كامل وشامل.
تعالوا نسكن في ستر العلي ونبيت في ظل القدير، ليرينا خلاصه.

اَلْمَزْمُورُ الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ
مَزْمُورُ تَسْبِيحَةٍ. لِيَوْمِ السَّبْتِ
1 حَسَنٌ هُوَ الْحَمْدُ لِلرَّبِّ، وَالتَّرَنُّمُ لاِسْمِكَ أَيُّهَا الْعَلِيُّ. 2أَنْ يُخْبَرَ بِرَحْمَتِكَ فِي الْغَدَاةِ، وَأَمَانَتِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ. 3عَلَى ذَاتِ عَشْرَةِ أَوْتَارٍ، وَعَلَى الرَّبَابِ، عَلَى عَزْفِ الْعُودِ. 4لأَنَّكَ فَرَّحْتَنِي يَا رَبُّ بِصَنَائِعِكَ. بِأَعْمَالِ يَدَيْكَ أَبْتَهِجُ. 5مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ، وَأَعْمَقَ جِدّاً أَفْكَارَكَ. 6الرَّجُلُ الْبَلِيدُ لاَ يَعْرِفُ، وَالْجَاهِلُ لاَ يَفْهَمُ هَذَا. 7إِذَا زَهَا الأَشْرَارُ كَالْعُشْبِ، وَأَزْهَرَ كُلُّ فَاعِلِي الإِثْمِ، فَلِكَيْ يُبَادُوا إِلَى الدَّهْرِ. 8أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَمُتَعَالٍ إِلَى الأَبَدِ. 9لأَنَّهُ هُوَذَا أَعْدَاؤُكَ يَا رَبُّ، لأَنَّهُ هُوَذَا أَعْدَاؤُكَ يَبِيدُونَ. يَتَبَدَّدُ كُلُّ فَاعِلِي الإِثْمِ. 10وَتَنْصِبُ مِثْلَ الْبَقَرِ الْوَحْشِيِّ قَرْنِي. تَدَهَّنْتُ بِزَيْتٍ طَرِيٍّ. 11وَتُبْصِرُ عَيْنِي بِمُرَاقِبِيَّ، وَبِالْقَائِمِينَ عَلَيَّ بِالشَّرِّ تَسْمَعُ أُذُنَايَ.
12اَلصِّدِّيقُ كَالنَّخْلَةِ يَزْهُو. كَالأَرْزِ فِي لُبْنَانَ يَنْمُو. 13مَغْرُوسِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ، فِي دِيَارِ إِلَهِنَا يُزْهِرُونَ. 14أَيْضاً يُثْمِرُونَ فِي الشَّيْبَةِ. يَكُونُونَ دِسَاماً وَخُضْراً، 15لِيُخْبِرُوا بِأَنَّ الرَّبَّ مُسْتَقِيمٌ. صَخْرَتِي هُوَ وَلاَ ظُلْمَ فِيهِ.

دعوة للتسبيح في يوم الرب
هذا المزمور تسبيحة «ليوم السبت» يسبِّح فيها المرنم للرب، مستخدماً مختلف الآلات الموسيقية من ذات العشرة أوتار والرباب والعود (آية 3) لتُضفي المزيد من البهجة على تسبيحه المُلذّ. وهو مزمور متفائل عامر بالفرح، لأنه حمدٌ لله العلي المرتفع (آية 1) المتعالي جداً (آية 8) الذي من علوِّ سمائه يرى كل احتياجات المؤمن فيمدُّ يد عظمته ومحبته ليسدِّدها كلها. وهو تسبيح للرب العادل الذي يبدِّد كل فاعلي الإثم (آية 9) ويمنح المؤمنين الثمر الروحي فيصير «الصدِّيق كالنخلة يزهو، كالأرز في لبنان ينمو» (آية 12). ويسبح المرنِّم الرب الذي يرى الخاطئ ويعاقبه ويطهِّر الأرض من أفعاله الشريرة، كما أنه يرحم الذين يقبلون رحمته، وينقِّيهم ليأتوا بثمر كثير ودائم في كل مراحل عمرهم. «يثمرون في الشيبة. يكونون دِساماً وخُضراً» (آية 14) ولا يخافون من الشيخوخة لأنهم يقضونها مع المسيح الذي قال: «أتيتُ لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل» (يو 10: 10).
دعونا نشترك مع صاحب المزمور في تسبيح الله الذي خلقنا على صورته كشَبَهه، فالإنسان على صورة الرحمان. ولما أفسد الإنسان صورته الجميلة بعصيانه عمِل الله على فدائه وكفَّر عنه خطاياه ليُعيد له الصورة الأولى التي شوَّهتها الخطية. وكل مؤمن مولود من الله يشهد لهذه الحقيقة، فإنه «بإنسانٍ واحد (آدم الأول) دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع.. لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد، فبالأَوْلى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر، سيملكون في الحياة بالواحد يسوعَ المسيح» (رو 5: 12، 17). عندها يخبرون بأن الرب مستقيم، لا ظلم فيه، وهو صخرة المؤمن الذي عليه يستند وبه يحتمي (آية 15).
دعونا نشترك مع المرنم في التسبيح في يوم الرب، الذي كان الشعب القديم يحتفل فيه باكتمال عمل الخَلق، ويحتفل فيه المسيحيون باكتمال عمل الفداء بقيامة المسيح من بين الأموات، فقد صُلب يوم الجمعة وقام يوم الأحد «لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصاً» (إش 12: 2).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – البار يسبِّح الله (آيات 1-7)
ثانياً – البار يفرح بالله (آيات 8-15)

أولاً – البار يسبِّح الله
(آيات 1-7)
تشبه فاتحة مزمور 92 فاتحة مزمور 33، في وصف جمال الترنيم للرب بمصاحبة الموسيقى.
1 – وصف الترنُّم: (آيات 1-3).
(أ) الترنُّم واجب: «حسنٌ هو الحمد للرب والترنُّم لاسمك أيها العلي» (آية 1). الرب هو الله الذي خلقنا، وهو سيد الأرض كلها، وهو العلي والأعلى فوق كل عالٍ في كل الأرض، وفي يده زمام الأمور، وهو صاحب السلطان والحل والربط، لذلك يستحق وحده أن نرنم له «لأن الترنُّم لإلهنا صالح. لأنه مُلذٌّ. التسبيح لائق» (مز 147: 1). فلنسبحه في كل حين، لأنه يرعانا ويدبِّر أمورنا، وليكن شعارنا: «ماذا أردُّ للرب من أجل كل حسناته لي؟ كأس الخلاص أتناول، وباسم الرب أدعو» (مز 116: 12، 13).
والترنيم حسن للمؤمن، فعندما يرنم يتخفَّف من آلامه. في وسط الصعوبات جرِّبْ أن تشكر الله، وستكتشف أنك قد انتعشت. قُل: «باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» (مز 103: 2). كان مارتن لوثر يقول لأصحابه: «تعالوا نرنم مزموراً فنطرد الشيطان» لأن روح التسبيح والشكر والفرح يبدد اليأس والحزن والفشل، وعندها نقول: «حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكاً وألسنتنا ترنُّماً» (مز 126: 2). بالتسبيح نرتفع عن متاعب العالم ونركز على الرب ملك الملكوت، فهو أبونا السماوي الذي يُنعم علينا بالبركات، ويُخرج لنا من الآكل أُكلاً ومن الجافي حلاوة (قض 14: 14)، والذي يشجعنا بقوله: «قولوا للصدِّيق خير» (إش 3: 10). فلنجرِّب الشكر والتسبيح، ولا نركز تفكيرنا على الصعوبات التي تواجهنا، لأنه سينصرنا عليها وعلى آثارها، فتمتلئ نفوسنا بشكر ملك الملوك، فيسمع الجميع من حولنا «صوت ترنُّم وخلاص في خيام الصدِّيقين» (مز 118: 15). وما أروع أصوات المؤمنين الغالبين وهم يرتلون ترنيمة موسى والحمل (رؤ 15: 3) فقد رنَّم موسى وهو يقود شعب الله إلى الحرية السياسية، أما ترنيمة الحمل فهي ترنيمة الحرية الروحية برَفْع خطية العالم.
والترنيم حسن لأنه لغة الطبيعة التي تسبح الله «السماوات تحدِّث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه» (مز 19: 1). وعندما نتأمل الحقول نقول: «اكتست المروج غنماً، والأودية تتعطَّف بُرّاً (قمحاً). تهتف وأيضاً تُغنّي» (مز 65: 13).
والتسبيح حسن لأنه لغة الملائكة، فما أمجد التسابيح التي ملأت جوَّ الأرض قبل مولد المسيح مباشرة، وكان ختامها الترنيمة العظيمة: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة» (لو 2: 14). وما أجمل ترنيمة الملائكة التي سمعها إشعياء النبي: «قدوس قدوس قدوس رب الجنود، مجده ملء كل الأرض» (إش 6: 3).
(ب) الترنُّم شهادة: «أن يُخبَر برحمتك في الغداة، وأمانتك كل ليلة» (آية 2). في الغداة (أي في الصباح) وفي المساء يعلن المرنم لكل المحيطين به عن رحمة الله وأمانته، ويكون إعلانه بترنيمه وحمده. في بدء كل يوم وفي نهايته يشهد لأمانة الله. وقد طالبت شريعة موسى بتقديم ذبيحة للرب في الصباح وأخرى في المساء (خر 29: 38، 39)، وقال المرنم: «أما أنا فإلى الله أصرخ والرب يخلِّصني. مساءً وصباحاً وظهراً أشكو وأنوح فيسمع صوتي» (مز 55: 16، 17). في الصباح يرتل مخبراً برحمة الله التي حفظته بسلام في الليل لأنه «عند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح ترنُّم» (مز 30: 5). «مراحمه لا تزول. هي جديدة في كل صباح» (مرا 3: 23). وفي المساء يرتل معلناً أن الله الأمين سار معه كل اليوم.
(ج) الترنُّم مبهج: «على ذات عشرة أوتار، وعلى الرباب، وعلى عزف العود» (آية 3). يرتل المرنم مزموره بابتهاج بمصاحبة الآلات الموسيقية، فيشترك مع كل خليقة الله في الترنيم والتسبيح لله، فأشجار الوعر تغني (1أي 16: 33)، وكواكب الصبح معاً وجميع بني الله (أي 38: 7)، والأودية تغني (مز 65: 13)، والجبال تغني (إش 55: 12). وفي سفر الرؤيا نقرأ عن ترنيم 144 ألف مؤمن كُتب اسم الرب على جباههم، يعزفون بقيثاراتهم ويرنمون ترنيمة جديدة أمام العرش (رؤ 14: 1-5). وتصاحب الآلات الموسيقية الترنيم لتُضفي عليه جمالاً، من عود ورباب ذي عشرة أوتار، وهي أفضل آلات العزف في زمان المرنم. لكن حتى لو لم تكن هناك آلات عزف فإن المؤمنين يترنمون ويرتلون في قلوبهم للرب (أف 5: 19). وفي هذا التسبيح تشابُهٌ كما أن به جِدَّةً »غنّوا له أغنية جديدة. أَحسِنوا العزف بالهتاف» (مز 33: 3).
2 – دافعان على الترنُّم: (آيات 4-7).
(أ) لشكر الخالق: «لأنك فرَّحتني يا رب بصنائعك. بأعمال يديك أبتهج. ما أعظم أعمالك يا رب، وأعمق جداً أفكارك» (آيتا 4، 5). أعمال الرب متسعة الدوائر، ومستمرة، وكلها تهدف إلى خير البشر، وكل وسائل عملها مقدسة. فما أعظم أعماله وما أبهجها للمؤمن، في الخلق، وفي الفداء، وفي العناية. فلنتأمل الطبيعة وجمالها والجبال وجلالها والبحار وقوتها، ولنتأمل معها زنابق الحقل بألوانها البديعة ورقَّتها الفريدة. كلها بحكمة صنع!.. وتأملوا أعماله في الكفارة والفداء والغفران، وكيف كسا أبوينا الأوَّلين بعد أن عرّاهما العصيان وعجزا عن ستر نفسيهما، وكيف افتُدي إسحاق بن إبراهيم الخليل بالذبح العظيم الذي يرمز إلى المسيح فادي البشر، والذي ليس بأحدٍ غيره الخلاص. في صليب المسيح وحده تلتقي الرحمة والعدل، كما قال المرنم: «الرحمة والحقُّ التقيا. البرُّ والسلام تلاثما» (مز 85: 10).. وتأملوا أعمال عنايته الفريدة وهو يطعم الطيور ويكسو الزهور! لقد وسعت عناية الله كل شيء، وما أجمل كلمات المسيح: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل» (يو 5: 17). الرب الحي يعمل في وسطنا، وهو صانع المعجزات التي لا تتوقَّف، ولن تتوقف، لأن احتياجاتنا مستمرة، ولأنه هو لم يتغيَّر، و«يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد» (عب 13: 8). ومن الغريب أننا نجد من ينكر حدوث المعجزات في يومنا. كأنه يقول إن الإنسان أصبح مكتفياً بقدراته العلمية والمادية التي تحل له كل مشاكله، أو كأنه يقول إن الله لم يعُد راغباً في إجراء المعجزات. والحقيقة هي أن التقدُّم العلمي يكشف للإنسان مقدار ما يجهله، وهذا هو تواضع العلماء. كما أن الله لا زال يحب البشر وسيظل، ويريد أن يمدَّ لهم يد العون في كل حين.
(ب) للبُعد عن الجهالة: «الرجل البليد لا يعرف، والجاهل لا يفهم هذا. إذا زها الأشرار كالعشب وأزهر كل فاعلي الإثم، فلكي يُبادوا إلى الدهر» (آيتا 6، 7). الإنسان بليد وجاهل ما لم يرفع عينيه ليتعلَّم من الله، والحكيم هو الذي يطلب من الله أن يعرِّفه ويعلِّمه ويدرِّبه (مز 25) فيسمع الرب يقول له: «أعلِّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك» (مز 32: 8).. بعد أن فتح الرب عيني المرنم على الحق رفض أن يسلك سبُل الأشرار، حتى لو رآهم ناجحين في أمور هذا العالم، لأن زهوهم ونجاحهم سرعان ما يذبل، فإنهم كالعشب الذي ينمو سريعاً ويجف سريعاً. «لا تَغَر من الأشرار، ولا تحسد عمّال الإثم، فإنهم مثلَ الحشيش سريعاً يُقطعون، ومثلَ العشب الأخضر يذبلون» (مز 37: 1، 2). ومن الغريب أن الأشرار الأذكياء في أمور دنياهم جُهّالٌ في أمور دينهم، لا يدركون معجزات الخَلق والفداء والعناية. إنهم يظنون أن ثراءهم ناتج عن ذكائهم واجتهادهم، وينسون نعمة الله المخلِّصة من الخطية، المتوافرة لهم، لكنهم لا يتمتعون بها، لأنهم كافرون بها أو رافضون لها. «قال الجاهل في قلبه: ليس إله!» (مز 14: 1). صحيحٌ أنه «لا يَهلك كلُّ من يؤمن به» (يو 3: 16)، أما الذي يرفض فإنه لا بد يهلك، ويُباد من الأرض ذكره، ويكون الجحيم مثواه. إنهم كالعصافة التي تذرّيها الريح، مهما بدا أنهم خُضرٌ ناجحون (مز 1: 4). الشرير عشب (آية 7) والمؤمن نخلة وشجرة أرز (آية 12). فماذا تريد أن تكون؟

ثانياً – البار يفرح بالله
(آيات 8-15)
في هذا القسم من المزمور يعبَّر المرنم عن فرحه بالرب العادل الذي يعاقب الخاطئ على شرِّه. وقد يبدو أن هذا قسوةٌ من البار على الشرير، لكن الحقيقة هي أن الشرير يجلب الشر على رأس نفسه، أما البار فلا بد أن يفرح ببركات الإله المحب الذي برَّره.
1 – يفرح البار بعدالة الله التي تعاقب الخاطئ: «أما أنت يا رب فمتعالٍ إلى الأبد. لأنه هوذا أعداؤك يا رب، لأنه هوذا أعداؤك يبيدون. يتبدَّد كل فاعلي الإثم» (آيتا 8، 9). في هاتين الآيتين يحدِّث المرنم ربَّه العالي المرتفع، الذي يرى كل شيء ولا يخفى عنه أمر، ولا بد أن يجازي كل واحد حسب عمله (مت 16: 27). ويطلق المرنم على الخطاة صفتين، فيسمِّيهم «أعداء الرب» و«فاعلي الإثم». وهل يجرؤ أحدٌ أن يعادي الرب، وهو العالي الأزلي الأبدي؟ لا بد أنه فقد كل منطق سليم، لأنه «مخيف هو الوقوع في يدي الإله الحي» (عب 10: 31). ويوضح لنا الرسول بولس سبب هذه الحماقة في قوله: «إله هذا الدهر (إبليس) قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله» (2كو 4: 4). فليس سبب عداوتهم للرب غموض إعلان الرب عن نفسه لهم، لكن لأن الشيطان أعمى قلوبهم وعقولهم. ومع أن الله أرسل إليهم الأنبياء والرسل، وجاءهم مخلِّصاً في المسيح، إلا أنهم «لما عرفوا الله لم يمجِّدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي» (رو 1: 21). قال المسيح لأهل أورشليم الذين رفضوه: «يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسَلين إليها، كم مرةٍ أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا. هوذا بيتكم يُترَك لكم خراباً» (مت 23: 37، 38). فالذين يفعلون الإثم يعملون إرادة الشيطان، وهم أبناء لإبليس، ولا بد أن يدفعوا أجرة انحرافهم وينالوا جزاء شرورهم، فيكونون «كالثوب يأكلهم العث، وكالصوف يأكلهم السوس» (إش 51: 8).
2 – يفرح البار بعدالة الله التي تكافئ المؤمن: (آيات 10-15).
(أ) ينصره الله على أعدائه: «وتَنصب مثل البقر الوحشي قرني. تدهَّنْتُ بزيت طريّ. وتبصر عيني بمراقبيَّ (الجواسيس)، وبالقائمين عليَّ بالشر تَسمع أُذناي» (آيتا 10، 11). القرن رمز القوة، به يهاجم البقر الوحشي عدوَّه فيعجز عن مواجهته. والرب يعطي المؤمن قوة فلا تصيبه هزيمة، بل ينتصب أمام أعدائه منتصراً. «»كل قرون الأشرار أعضب (أقطع). قرون الصدِّيق تنتصب» (مز 75: 10). ويمنح الرب المؤمن «زيتاً طرياً» يتدهَّن به. والزيت الطري هو زيت الزيتون الطازج، يدهن الرب المؤمن به ليكرمه وينعشه، وهو يرمز للنعمة الإلهية التي يمسحنا الله بها كل يوم. عندما تحس بفتور وجفاف روحي تدخل إلى مخدعك وتغلق بابك وتصلي إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية بالانتعاش الحقيقي (مت 6: 6). الجفاف الروحي يصيبنا بالخشونة وتيبُّس العضلات الروحية فننهزم أمام التجارب البسيطة، ولكن مسحة الروح القدس تقوينا بالرب فنواجه تجارب الحياة بانتصار. فلنطلب من الرب دوماً »الزيت الطري« لأن المسيح قال: «إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي. اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً» (يو 16: 24). وقال: «ستنالون قوةً متى حلَّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً» (أع 1: 8).
ويراقب الأشرار المؤمن، بمعنى أنهم يتجسسون عليه ليشتكوه، أو ليهاجموه. وهم يتجسسون لأنهم لا يملكون شجاعة المواجهة، بسبب ضعفهم أمام قوته الأخلاقية. ولا بد أن يحل بهم العقاب فترى عينا المؤمن وتسمع أذناه بمصيرهم السيء. إنه لا ينتقم منهم، لكنه يرى ويسمع أن الرب الإله العادل فعل هذا. «لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء.. لأنه مكتوب: لي النقمة أنا أجازي يقول الرب» (رو 12: 19) «والرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون» (خر 14:14). «لا يغلبنَّك الشر، بل اغلب الشر بالخير» (رو 12: 21).
(ب) يزرعه الله في بيته: «الصديق كالنخلة يزهو، كالأرز في لبنان ينمو. مغروسين في بيت الرب. في ديار إلهنا يزهرون» (آيتا 12، 13). يحب المؤمن بيت الرب ويريد أن يسكن فيه إلى مدى الأيام (مز 23: 6). ولا بد أن المرنم كان يفكر في نخلة وشجرة أرز مزروعتين في ساحة الهيكل، فرآهما، ورأى نفسه فيهما.
* النخلة وشجرة الأرز دائمتا الخضرة حتى لو كانت المياه حولهما قليلة، والظروف المناخية حولهما قاسية. فتنمو النخلة حتى في الصحراء، وتنمو شجرة الأرز على الجبال وسط الثلوج. وكلتاهما تنموان ببطء، وترتفعان إلى أعلى باستقامة، وجذورهما تتعمق إلى أسفل. وكذلك المؤمن لا ينمو بسرعة لأنه يتأصَّل ويضرب بجذوره إلى أسفل فيرتفع إلى أعلى ويثمر، وذلك بالصلاة ودراسة الكتاب والتأمل، وتطبيق ما يعرفه في حياته اليومية، وهذا يحتاج إلى وقت وجهد وشجاعة وإصرار واستمرار عملاً بالوصية: «انموا في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح» (2بط 3: 18). المؤمن إذاً كشجرة مغروسة عند المياه الجارية، تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه ينجح (مز 1: 1-3. راجع إر 17: 7، 8).
* النخلة وشجرة الأرز معمِّرتان: تعيش النخلة أكثر من مئة سنة وتعيش شجرة الأرز إلى ألف سنة. ولما كانتا مزروعتين في فناء الهيكل فإنهما تنالان بركة أكبر لوجودهما في المكان المقدس، ورعاية أفضل فتُعمِّران أطول. وهذا هو حال المؤمن الساكن في ستر العلي.. تنظر إلى الشرير فلا تجده، أما المؤمن فإن الله يمتعه بطول الأيام وعمقها، ويكون ذكره في حياته وبعد موته للبركة (أم 10: 7).
* النخلة وشجرة الأرز مفيدتان ومثمرتان: نأخذ من النخلة التمر، وهو غذاء غني بالفوائد، والمؤمن شجرة جيدة تصنع أثماراً جيدة (مت 7: 17). وكم استراح بنو إسرائيل في الصحراء في إيليم، حيث وجدوا اثنتي عشرة عين ماء وسبعين نخلة (خر 15: 27). ويُستخدم سعف النخل في الاحتفال بعيد المظال (لا 23: 40) واستعمله سكان أورشليم للترحيب بالمسيح يوم دخوله الانتصاري (يو 12: 13). وكانت دبورة القاضية تجلس تحت نخلة دُعيت «نخلة دَبُورة» (قض 4: 5). أما خشب الأرز فكان يُستخدم في التطهير الطقسي (لاويين 14: 4) وفي الأبنية الفخمة مثل قصر الملك داود (2صم 5: 11) وقصر الملك سليمان (1مل 7: 2) وهيكل سليمان (1أي 22: 4). ولخشب الأرز رائحة جميلة، وكان القدماء يستخرجون منه نوعاً من التربنتينا لحفظ الرقوق والثياب. ويشكِّل المؤمن عنصراً أساسياً في تجميل مجتمعه وحفظه من الفساد، فهو ملحٌ للأرض ونورٌ للعالم (مت 5: 13، 14).
(ج) يُثمره الله في الشيبة: «أيضاً يثمرون في الشيبة. يكونون دِساماً وخُضراً» (آية 14). يتحقَّق معهم الوعد: «تاج جمالٍ شَيْبةٌ توجد في طريق البر» (أم 16: 31)، وتُستجاب الصلاة: «إلى الشيخوخة والشَّيْبة يا الله لا تتركني حتى أخبر بذراعك الجيل المقبل، وبقوَّتك كلَّ آتٍ» (مز 71: 18)، فيقول الله: «إلى الشيخوخة أنا هو، وإلى الشيبة أنا أحمل. قد فعلتُ، وأنا أرفع، وأنا أحمل وأنجّي» (إش 46: 4). كلما تقدَّم المؤمن في العمر يكون دسِماً وأخضر، لأنه يذكر الأعمال التي أكملها، فيقول مع المسيح: «العمل الذي أعطيتَني لأعمل قد أكملتُه» (يو 17: 4)، ويأمُل أن يُنجز في المستقبل أفضل من كل ما أنجز في ماضيه، فليس الثمر قاصراً على مرحلة عمر معيَّنة، لأنه نتيجة عصارة النعمة التي تسري في المؤمن، ولأنه عمل الله فيه. وعندما يضعف المؤمن يجدد الرب قوَّته، «وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدَّد يوماً فيوماً» (2كو 4: 16). فلنطمع في ثمر روحي أكثر مهما تقدَّم بنا العُمر، فننمو روحياً، وتزيد محبتنا للرب، ونصبح أكثر طاعةً، فنكون كنخلة وكشجرة أرز، وكزيتونة خضراء في بيت الرب (مز 52: 8) نتدهَّن بزيت طري، هو مسحة الروح القدس (1يو 2: 20، 27).
(د) يجعله الله يشهد له: «ليخبروا بأن الرب مستقيم. صخرتي هو، لا ظلم فيه» (آية 15). يعطي الرب المؤمن شرف الشهادة له، ويجعله كارزاً بحقِّه، يخبر بفضائل الذي دعاه من الظلمة إلى نوره العجيب (1بط 2: 9). والله المستقيم يعطي المؤمن به استقامةً ويمنحه العلاقة السليمة معه، فيشهد لربِّه أنه صخر الدهور الذي لا يتغير، الذي يستند إليه الخاطئ للاختباء والاحتماء. ومن أمانة الرب أنه لا يترك أتقياءه إن ابتعدوا عنه، بل يردُّهم إليه.. فتح شاب قلبه للمسيح وقبِله مخلِّصاً له، وعاش عدة سنوات يحب الرب من كل قلبه، وأكرمه الرب فصار رجل أعمال ناجحاً. ولكنه بعد نجاحه انشغل بأعماله ونسي إلهه مدة أربعين سنة. وفجأة أصابه مرض اضطره للرقاد على ظهره أربعين يوماً فلم يكن لديه إلا أن يتطلع إلى فوق! فقال: «كم أشكر الله لأنه يحبني، وقد افتقدني بعد طول بُعدٍ عنه. نسيته أربعين سنة، فأرقدني على ظهري أربعين يوماً لأرفع عينيَّ نحوه وأذكر محبته لي. لقد أكرمني بمرضي أضعاف ما أكرمني بنجاحي في عملي».
دعونا نشكر الرب ونفرح به، ونخبر بأنه مستقيم، فنكون دساماً وخُضراً في حياتنا الروحية.

اَلْمَزْمُورُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ
1 اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ. لَبِسَ الْجَلاَلَ. لَبِسَ الرَّبُّ الْقُدْرَةَ. اتَّزَرَ بِهَا. أَيْضاً تَثَبَّتَتِ الْمَسْكُونَةُ. لاَ تَتَزَعْزَعُ. 2كُرْسِيُّكَ مُثْبَتَةٌ مُنْذُ الْقِدَمِ. مُنْذُ الأَزَلِ أَنْتَ. 3رَفَعَتِ الأَنْهَارُ يَا رَبُّ، رَفَعَتِ الأَنْهَارُ صَوْتَهَا. تَرْفَعُ الأَنْهَارُ عَجِيجَهَا. 4مِنْ أَصْوَاتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ غِمَارِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ الرَّبُّ فِي الْعُلَى أَقْدَرُ. 5شَهَادَاتُكَ ثَابِتَةٌ جِدّاً. بِبَيْتِكَ تَلِيقُ الْقَدَاسَةُ يَا رَبُّ إِلَى طُولِ الأَيَّامِ.

الرب الملك
هذا المزمور مقدِّمة لستَّة مزامير موضوعها تسبيح الله الملك (هي مزامير 95-100). يبدأ كل مزمورٍ منها بالتسبيح لله والهتاف له، والترنيم والإعلان أنه هو الملك وقد مَلَك، فهو الملك منذ الأزل وإلى الأبد. قال موسى في ترنيمته بعد عبور البحر الأحمر إن الله «يملك إلى الدهر والأبد» (خر 15: 18) وقال صموئيل النبي لبني إسرائيل: «الرب إلهكم ملِكُكم» (1صم 12: 12). ولما بوَّق الملاك السابع هتف الشيوخ الأربعة والعشرون، الذين يمثِّلون الشعبين القديم والجديد، وقالوا: «نشكرك أيها الرب الإله القادر على كل شيء، الكائن والذي كان والذي يأتي، لأنك أخذتَ قدرتك العظيمة وملكت» (رؤ 11: 17). ويقول يوحنا الرائي: «وسمعتُ كصوت جمعٍ كثير، وكصوت مياهٍ كثيرة، وكصوت رعودٍ شديدة، قائلة: هللويا، فإنه قد ملك الرب الإله القادر على كل شيء» (رؤ 19: 6).
ويبدو أحياناً للبشر محدودي الرؤية أن زمام بعض الأمور ليس في يد الرب الملك، كما حدث عندما ضلَّ عنه شعبه القديم، فسلَّط عليهم الملك نبوخذنصَّر ليسبيهم مدة سبعين سنة، فتساءل البعض: كيف يسمح الرب بتسليم شعبه لأعدائهم؟ هل صار العدو أقوى من قدرة الرب على حماية شعبه؟.. لكن الحقيقة هي أن الله الملك العظيم يسمح للبشر الذين خلقهم أن يكوِّنوا حزب معارضة، ولكن زمام الأمور يظل دائماً في يده، فعندما كملت السنوات السبعون للسبي البابلي أعاد الرب شعبه إلى أرضهم. وقال النبي دانيال: «في السنة الأولى لداريّوس بن أحشويروش، من نسل الماديين الذي مُلِّك على مملكة الكلدانيين، في السنة الأولى من مُلكه، أنا دانيال فهمتُ من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى إرميا النبي لكَمَالة سبعين سنة على خراب أورشليم، فوجَّهتُ وجهي إلى الله السيد، طالباً بالصلاة والتضرعات» (دا 9: 1-3). وفي الموعد المعيَّن من الله عاد الشعب إلى أرضهم وقد تابوا عن عبادة الوثن، ولم يعودوا إليها أبداً، فهتفوا «الرب قد ملك»!
في هذا المزمور نجد:
أولاً – مُلك الملك (آيتا 1، 2)
ثانياً – أعداء يقاومون الملك (آيتا 3، 4)
ثالثاً – انتصار كلمة الملك (آية 5)

أولاً – مُلك الملك
(آيتا 1، 2)
1 – الرب هو الملك: «الرب قد ملك» (آية 1أ). هذه حقيقة تظهر في أعمال الله حولنا، فنصلي قائلين: «لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد» (مت 6: 13). قال بعض المفسرين إن قول المرنم «الرب قد ملك» يعني أن الله خلق الملائكة والكون والطبيعة والبشر واستراح في اليوم السابع، فاستوى على عرشه وجلس ملكاً، تخضع له الملائكة والطبيعة، وينفّذ كل البشر مشيئته، سواء بإرادتهم أم رغماً عنهم. وقال مفسرون آخرون إن هذا القول يعني أن الله خلق العالم، ولكن «قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه قائلين: لنقطع قيودهما، ولنطرح عنا ربطهما» (مز 2: 2، 3)، فيحطمهم بقضيب من حديد، ومثل إناء خزّافٍ يكسّرهم (مز 2: 9) «لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه» (1كو 15: 25). يبدو للعين البسيطة أن معارضي الرب قد عطلوا مُلكه، ويبدو للمؤمنين في وقت ضعفهم أن الأشرار قد تسلَّطوا على العالم، وكأن الرب قد فقد سلطانه على الكون، فيصرخون مع النبي إشعياء: «استيقظي استيقظي، البَسي قوةً يا ذراع الرب. استيقظي كما في أيام القِدم كما في الأدوار القديمة.. ألستِ أنتِ هي المنشِّفة البحر.. الجاعلة أعماق البحر طريقاً لعبور المفديين؟» (إش 51: 9، 10)، فيثبِّت الرب إيمانهم الضعيف ويزيل الغشاوة من على عيونهم فيرون أنه الملك، ويهتفون: «ما أجمل على الجبال قدمي المبشِّر، المخبر بالسلام، المبشِّر بالخير، المخبر بالخلاص، القائل: قد ملك إلهك» (إش 52: 7). والخلاص كائنٌ في أن «الرب قد ملك» فأرجع شعبه من السبي البابلي ليعيدوا بناء الهيكل، ويقدموا له العبادة فيه بحسب شريعة موسى.
ونمرُّ نحن بمثل هذا الاختبار، إذ يتسلَّط علينا إبليس، أو يهزمنا القلق، أو تغلبنا الشكوك، فنصرخ إلى الله فيستجيب صلاتنا وينقذنا ويرفعنا، فنهتف مع المرنم: «الرب قد ملك»، ونقول مع الملك داود: «مباركٌ أنت أيها الرب من الأزل وإلى الأبد. لك يا رب العظمة والجبروت والجلال والبهاء والمجد، لأن لك كل ما في السماء والأرض. لك يا رب المُلك وقد ارتفعت رأساً على الجميع. والغِنى والكرامة من لدنك، وأنت تتسلط على الجميع، وبيدك القوة والجبروت، وبيدك تعظيم وتشديد الجميع» (1أخ 29: 10-12). وما أجمل صلاة الملك يهوشافاط: «يا رب، إلهَ آبائنا، أمَا أنت هو الله في السماء، وأنت المتسلّط على جميع ممالك الأمم، وبيدك قوةٌ وجبروتٌ، وليس من يقف معك؟» (2أخ 20: 6). بعدها نرتل:
قد تحيـــرت كثيــراً واستبدَّت بي الهمــوم
عصــف الحزن بقلبـي ضِعتُ في ليلٍ بهيــم
غيـــر أن الله أســرى بي إلى فجرٍ عميـــم
وإذا بي بعد ذاك اليأسِ أجثـو للصــــلاة
وأرى نفسي اطمأنَّـت عنــد أعتاب الإلـه
2 – جلال الملك: «لبس الجلال» (آية 1ب). الجلال هو المجد والعظمة والمقام المرتفع، وقد لبِسَه الله ليحارب أعداء شعبه «لبِس البرَّ كدِرْعٍ، وخوذةَ الخلاص على رأسه» (إش 59: 17). لم يلبس مظهر الجلال لكنه لبس الجلال نفسه كثوب فريد وحيد! ويدعونا إمام المغنّين لننشد: «يا جميع الأمم صفِّقوا بالأيادي. اهتفوا لله بصوت الابتهاج. لأن الرب عليٌّ مخوف. ملكٌ كبير على كل الأرض. يُخضِع الشعوب تحتنا والأمم تحت أقدامنا» (مز 47: 1-3). فعندما نرى أبناء الملكوت يعانون من الاضطهاد، يجب أن نتشجَّع لأن الرب لبس الجلال. لقد جاءنا المسيح في غاية التواضع مولوداً في مذود، لكنه يلبس الجلال، فرنمت الملائكة وقت مولده، وجاء المجوس من بلاد بعيدة يسجدون له بعد أن رأوا نجمه في المشرق. وحمله سمعان الشيخ بين يديه بفرح وقال: «لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك» (لو 2: 30). فهو خلاص الله حتى وهو في مظهره الفقير «فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح: أنه من أجلكم افتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقره» (2كو 8: 9). ورُفع على خشبة الصليب ومات، ثم بُعث حياً وصعد إلى السماء، ومنها سيعود إلى أرضنا دياناً للأحياء والأموات.
3 – قوة الملك: «لبس الرب القدرة. ائتزر بها. أيضاً تثبَّتت المسكونة، لا تتزعزع» (آية 1ج، د). مرة أخرى يشبِّه المرنم قدرة الله برداء فريد وحيد، فهو «المُثْبت الجبال بقوَّته، المتنطِّق بالقدرة» (مز 65: 6). وما أعظم الذي ائتزر بقدرة المحبة لشعبه. والمحبة هي القدرة في عظمة خدمتها بينما الجبروت هو القوة في عجز طغيانها. في ليلة العشاء الأخير أخذ المسيح منشفةً وائتزر بها، وصبَّ ماءً في مِغسل وجعل يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة (يو 13: 5) فثبَّت قلوبهم في المحبة والتواضع والخدمة.. وائتزر الرب بالعدل وهو القوة الدائمة، بينما الظلم هو القوة المؤقَّتة «يدين المسكونة بالعدل والشعوب بالاستقامة» (مز 98: 9). لبس الرب القدرة فتثبتت المسكونة حسب القوانين التي وضعها لها «يا رب إله الجنود.. لك السماوات. لك أيضاً الأرض. المسكونة وملؤها أنت أسَّستها. الشمال والجنوب أنت خلقتهما» (مز 89: 8-12).. ولبس الرب القدرة فثبَّت القوانين الأخلاقية «لأنه من قِبَل الرب تتثبَّت خطوات الإنسان، وفي طريقه يُسرُّ» (مز 37: 23)، فقانون «الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً» (غل 6: 7) لا استثناء فيه. وكل من يتحدى القوانين الإلهية يؤذي نفسه. قال الرب لشاول الطرسوسي: «صعبٌ عليك أن ترفس مناخس» (أع 9: 5)، والمنخاس هو سنُّ المحراث الحديدي، فإذا تضايق الثور من جر المحراث يرفس السن، فلا يؤذينَّ إلا نفسه، ويبقى السن يحرث التربة.
4 – أزلية الملك: «كرسيُّك مُثْبتة منذ القِدم. منذ الأزل أنت» (آية 2). يومٌ واحدٌ عنده كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد (2بط 3: 8). وهو القائل: «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، يقول الرب الكائن، والذي كان، والذي يأتي، القادر على كل شيء» (رؤ 1: 8). وهو منذ الأزل يعتني بشعبه ويخلِّصهم، ويُحصي شعور رؤوسهم (مت 10: 30 ولو 12: 7). «الإله القديم ملجأ، والأذرع الأبدية من تحت» (تث 33: 27). لن ينسى بنو إسرائيل حادثة الخروج. وتبدأ سنة بني إسرائيل بعيد الفصح، من ساعة حريتهم من عبودية فرعون، كما يبدأ عمرنا الجديد في حياتنا الإيمانية بميلادنا الثاني عندما يدخل المسيح القلب ويغيِّر الحياة ويحررنا من أجرة الخطية التي هي موت (رو 6: 23) ومن تسلُّطها، لأن كل من يعمل الخطية هو عبدٌ للخطية (يو 8: 34). لقد أعدّ الله فداءنا من قبل تأسيس العالم، وقدَّم المسيح نفسه عنا بروح أزلي (عب 9: 14) فلما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من العذراء القديسة مريم (غل 4: 4). حقاً «معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله» (أع 15: 18). فلنبتهج ونفرح لأننا أبناء الملك الذي ملك منذ الأزل. إنه «ملك الدهور الذي لا يفنى ولا يُرى، الإله الحكيم وحده، له الكرامة والمجد إلى دهر الدهور» (1تي 1: 17).

ثانياً – أعداء يقاومون الملك
(آيتا 3، 4)
1 – الأعداء يقاومون: «رفعت الأنهار يا رب، رفعت الأنهار صوتها. ترفع الأنهار عجيجها» (آية 3). كانت بلاد بني إسرائيل تقع بين ثلاث بلاد تكوِّن قوتين عُظميين، هما بابل وأشور في الشمال، ومصر في الجنوب. فإذا حارب الشماليُّ الجنوبيَّ، أو حارب الجنوبيُّ الشماليَّ يصبح بنو إسرائيل بين شقَّي الرحى! فيشعرون بالانسحاق والضياع. ويرفع المرنم للرب أمر أعدائه، كما فعل حزقيا وهو ينشر رسائل أعدائه أمام الرب (إش 37: 14). ويصف المرنم الأعداء بأنهم أنهارٌ تضرب الشاطئ، ولكنها لا تؤذيه، ويقول للرب: «أنت متسلِّطٌ على كبرياء البحر. عند ارتفاع لججه أنت تسكِّنها» (مز 89: 9)، ويقول النبي: «عندما يأتي العدو كنهرٍ فنفخة الرب تدفعه» (إش 59: 19). ويشبِّه الوحي القوتين العظميين بنهرين هائلين يريدان أن يغرقا بلاده، ولكن دون جدوى، فيقول إن أشور مثل نهر الفرات (إش 8: 7، 8)، وإن مصر كنهر النيل (إر 46: 7، 8). ولكن هذه المقاومة باطلة لأن الرب الملك يدافع عن شعبه، كما أمر المسيح الرياح فهدأت والأمواج فسكنت (مت 8: 26).
2 – المقاومة تنهزم: «من أصوات مياه كثيرة، من غِمار أمواج البحر، الرب في العُلى أَقْدَرُ» (آية 4). تُحدِث المقاومة ضوضاء عالية الصوت، ولكن الرب في عُلاه أكثر قدرة، وكلمته هي النهائية. ويصف النبي إشعياء ملك أشور القوي في الشمال بأنه خادم الرب ورسوله الذي يحقق أهدافه، فيقول: «لذلك هوذا السيد (الرب) يُصعِد عليهم مياه النهر القوية والكثيرة، ملكَ أشور وكلَّ مجده. فيصعَد فوق جميع مجاريه، ويجري فوق جميع شطوطه، ويندفِق إلى يهوذا. يفيض ويعبر. يبلغ العُنق. ويكون بسْطُ جناحيه ملء عرض بلادك يا عمانوئيل» (إش 8: 7، 8). ويصف النبي إرميا كبرياء ملك مصر بقوله: «مَن هذا الصاعد كالنيل، كأنهارٍ تتلاطم أمواهها؟ تصعد مصرُ كالنيل، وكأنهارٍ تتلاطم المياه، فيقول: أصعد وأغطي الأرض. أُهلك المدينة والساكنين فيها» (إر 46: 7، 8). ومن هول خطر العدو يصرخ النبي: «آهِ! ضجيج شعوب كثيرةٍ تضجُّ كضجيج البحر، وهدير قبائل تهدر كهدير مياهٍ غزيرة. قبائل تهدر كهدير مياه كثيرة. ولكنه ينتهرها فتهرب بعيداً، وتُطرَد كعُصافة الجبال أمام الريح وكالجُل (أي القش الصغير الدقيق) أمام الزوبعة. في وقت المساء إذا رعب. قبل الصبح ليسوا هم. هذا نصيب ناهبينا وحظُّ سالبينا» (إش 17: 12-14). ثم يهتف مع المرنم مطمئناً يرتل: «الله لنا ملجأ وقوة، عوناً في الضيقات وُجد شديداً. لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار. تعجُّ وتجيش مياهها، تتزعزع الجبال بطموِّها. نهرٌ سواقيه تُفَرّح مدينة الله، مقدس مساكن العلي» (مز 46: 1-4). نعم إنها تعجُّ وتجيش، ولكن النصرة هي للرب، الذي نصر موسى وقومه على فرعون، فغنّى أغنية النصر: «الرب قوَّتي ونشيدي وقد صار خلاصي. هذا إلهي فأمجِّده، وإله أبي فأرفِّعه. مركبات فرعون وجيشه ألقاهما في البحر، فغرق أفضل جنوده المركبيَّة في بحر سوف. تغطيهم اللجج. قد هبطوا في الأعماق كحجر. يمينك يا رب معتزَّة بالقدرة. يمينك يا رب تحطِّم العدو» (خر 15: 1-6).

ثالثاً – انتصار كلمة الملك
(آية 5)
1 – كلمته ثابتة: «شهاداتك ثابتة جداً» (آية 5أ). شهادات الرب هي وعوده الصادقة والأمينة، وهي ثابتة لا تغيير فيها لأنها إعلانات الرب الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران (يع 1: 17). وحيث كلمة الرب هناك سلطان الرب، فعندما نادى المسيح: «لعازر، هلمَّ خارجاً» قام الميت (يو 11: 43، 44). ولو أنه قال: «هلم خارجاً« دون تحديد اسم الميت لقام كل المدفونين في تلك القبور! وأمر المسيح المفلوج: «لك أقول قُم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك» فقام وحمل السرير وخرج قدام الكل (مر 2: 11، 12).
سأل أحد الأباطرة الرومان الذين اضطهدوا الكنيسة نجاراً مسيحياً قبل استشهاده: «ماذا يصنع نجار الناصرة اليوم؟« فأجابه: »يجهِّز نعشاً للإمبراطورية الرومانية». ثم جاء الإمبراطور الروماني المسيحي الأول قسطنطين، فأوقف اضطهاد الكنيسة، وعقد مجمع نيقية للدفاع عن الإيمان المسيحي حضره 318 أسقفاً، وقبّل أحد الأساقفة في عينه التي فقدها بسبب الاضطهاد، وأمر بنسخ خمسين كتاباً مقدساً على نفقة الدولة، وهكذا تجهَّز النعش لأعداء النجار الناصري. صَدَقَ كليم الله موسى وهو يقول لبني إسرائيل: «أيُّ شعبٍ هو عظيمٌ، له آلهة قريبةٌ منه كالرب إلهنا في كل أدعيتنا إليه! وأي شعب هو عظيم له فرائضُ وأحكامٌ عادلة مثلُ كل هذه الشريعة التي أنا واضعٌ أمامكم اليوم!» (تث 4: 7، 8).
«شهاداتك ثابتة جداً» تشهد للمؤمنين أن الرب أمين، فهو يعطي شعبه أرضاً صالحة «عينا الرب إلهك عليها دائماً من أول السنة إلى آخرها» (تث 11: 12) ويقول له: «لا أهملك ولا أتركك» (عب 13: 5).. وشهاداته ثابتةٌ جداً عن أعدائه فإنهم «كالعُصافة التي تذرّيها الريح، لذلك لا تقوم الأشرار في الدّين، ولا الخطاة في جماعة الأبرار. لأن الرب يعلم طريق الأبرار، أما طريق الأشرار فتهلك» (مز 1: 4-6).
2 – مكان إعلان كلمته: «ببيتك تليق القداسة يا رب إلى طول الأيام» (آية 5ب). بيت الله هو الهيكل، أو هو الأرض المقدسة التي قال الله عنها: «فتعرفون أني الرب إلهكم، ساكناً في صهيون جبل قدسي. وتكون أورشليم مقدَّسة، ولا يجتاز فيها الأعاجم في ما بعد» (يوئيل 3: 17). وقال عنها النبي إشعياء: «وتسير شعوبٌ كثيرة ويقولون: هلمَّ نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب، فيعلِّمنا من طرقه ونسلك في سبُله» (إش 2: 3). لما أكمل سليمان بناء الهيكل رنَّم الكهنة «لأن إلى الأبد رحمته» فامتلأ الهيكل سحاباً، ولم يقدروا أن يقفوا للخدمة لأن مجد الرب ملأ بيت الله (2أخ 5: 13، 14). وعندما صلى سليمان وهو يدشن الهيكل ملأ مجد الرب البيت (2أخ 7: 2). فالله يقدس بيته وأرضه بوجوده في وسطها. وبيت الرب هو مكان إعلان كلمته حيث يتعبد الناس، وحيث يوجد المسيح حسب وعده: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20).. وأجساد المؤمنين هي بيوت للرب، لأنهم هياكل للروح القدس الساكن فيهم، حسب القول الرسولي: «فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً» (2كو 6: 16، 17).. وبيوت المؤمنين هي بيوت للرب، وشعار المؤمن: «أما أنا وبيتي فنعبد الرب» (يش 24: 15). وقال المسيح لزكا بعد توبته: «ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك» (لو 19: 5). فلا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، ولا يجب أن تتزوج المؤمنة إلا مؤمناً، ولا يتزوج المؤمن إلا مؤمنة ليكون بيتهما بيتاً للرب. في بدء تاريخ الكنيسة لم تكن هناك مبانٍ للكنائس، فكان المؤمنون يجتمعون في بيوت بعضهم البعض، فصار بيت كل مؤمن كنيسة روحية وكنيسة فعلية (فل 2). فليجعل الرب بيوتنا كنائس تشهد لنعمة المسيح، فتليق القداسة بمحل مُلكه إلى طول الأيام. عندها نقول بالشكر إن «الرب قد ملك» على المسكونة كلها، فتجثو له كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ينفِّذون مشيئته حباً أو كَرْهاً.

اَلْمَزْمُورُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ
1 يَا إِلَهَ النَّقَمَاتِ، يَا رَبُّ يَا إِلَهَ النَّقَمَاتِ، أَشْرِقِ. 2ارْتَفِعْ يَا دَيَّانَ الأَرْضِ. جَازِ صَنِيعَ الْمُسْتَكْبِرِينَ. 3حَتَّى مَتَى الْخُطَاةُ يَا رَبُّ، حَتَّى مَتَى الْخُطَاةُ يَشْمَتُونَ؟ 4يُبِقُّونَ، يَتَكَلَّمُونَ بِوَقَاحَةٍ. كُلُّ فَاعِلِي الإِثْمِ يَفْتَخِرُونَ. 5يَسْحَقُونَ شَعْبَكَ يَا رَبُّ، وَيُذِلُّونَ مِيرَاثَكَ. 6يَقْتُلُونَ الأَرْمَلَةَ وَالْغَرِيبَ، وَيُمِيتُونَ الْيَتِيمَ. 7وَيَقُولُونَ: «الرَّبُّ لاَ يُبْصِرُ، وَإِلَهُ يَعْقُوبَ لاَ يُلاَحِظُ».
8اِفْهَمُوا أَيُّهَا الْبُلَدَاءُ فِي الشَّعْبِ. وَيَا جُهَلاَءُ، مَتَى تَعْقِلُونَ؟ 9الْغَارِسُ الأُذُنَِ أَلاَ يَسْمَعُ؟ الصَّانِعُ الْعَيْنَ أَلاَ يُبْصِرُ؟ 10الْمُؤَدِّبُ الأُمَمَ أَلاَ يُبَكِّتُ؟ الْمُعَلِّمُ الإِنْسَانَ مَعْرِفَةً. 11الرَّبُّ يَعْرِفُ أَفْكَارَ الإِنْسَانِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ. 12طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي تُؤَدِّبُهُ يَا رَبُّ وَتُعَلِّمُهُ مِنْ شَرِيعَتِكَ، 13لِتُرِيحَهُ مِنْ أَيَّامِ الشَّرِّ، حَتَّى تُحْفَرَ لِلشِّرِّيرِ حُفْرَةٌ، 14لأَنَّ الرَّبَّ لاَ يَرْفُضُ شَعْبَهُ، وَلاَ يَتْرُكُ مِيرَاثَهُ. 15لأَنَّهُ إِلَى الْعَدْلِ يَرْجِعُ الْقَضَاءُ، وَعَلَى أَثَرِهِ كُلُّ مُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ.
16مَنْ يَقُومُ لِي عَلَى الْمُسِيئِينَ؟ مَنْ يَقِفُ لِي ضِدَّ فَعَلَةِ الإِثْمِ؟ 17لَوْلاَ أَنَّ الرَّبَّ مُعِينِي لَسَكَنَتْ نَفْسِي سَرِيعاً أَرْضَ السُّكُوتِ. 18إِذْ قُلْتُ: «قَدْ زَلَّتْ قَدَمِي» فَرَحْمَتُكَ يَا رَبُّ تَعْضُدُنِي. 19عِنْدَ كَثْرَةِ هُمُومِي فِي دَاخِلِي تَعْزِيَاتُكَ تُلَذِّذُ نَفْسِي. 20هَلْ يُعَاهِدُكَ كُرْسِيُّ الْمَفَاسِدِ، الْمُخْتَلِقُ إِثْماً عَلَى فَرِيضَةٍ؟ 21يَزْدَحِمُونَ عَلَى نَفْسِ الصِّدِّيقِ، وَيَحْكُمُونَ عَلَى دَمٍ زَكِيٍّ. 22فَكَانَ الرَّبُّ لِي صَرْحاً، وَإِلَهِي صَخْرَةَ مَلْجَإِي، 23وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِثْمَهُمْ وَبِشَرِّهِمْ يُفْنِيهِمْ. يُفْنِيهِمُ الرَّبُّ إِلَهُنَا.

نداء لطلب العدالة
في هذا المزمور يشكو المرنم للرب من نجاح الأشرار واضطهادهم للمؤمنين، ولسان حاله يقول: إن كان الرب هو الملك، فلماذا يضطهد الأشرار المؤمنين ويصيبونهم بالأذى، وهم يدَّعون بشرورهم أنهم يقيمون فرائض الرب. كانت مشكلة المرنم كامنةً في أهله وشعبه المنتمين لإله يعقوب (آية 7) المختلقين إثماً على فريضة (آية 20)، لأنهم يعرفون الفريضة الإلهية، لكنهم يلوون معانيها ليستخرجوا منها معاني وشرائع تناقض ما قصده الله منها. وانزعج المرنم من الاضطهاد الذي يقع عليه من قريبه. ولو أن الاضطهاد جاء من عدو لما استغربه، أما وقد جاءه من القريب فقد صرخ منه متسائلاً.
يعبِّر هذا المزمور عن صرخة المضطهَدين في كل زمن: كيف يكون الله ملكاً يسود على كل الخليقة ويسمح باضطهاد الشرير للصدّيق؟ ولكن تعزية المؤمن كامنةٌ في أنه يقدر أن يرفع قلبه للرب الملك، فيجده عوناً في الضيقات وُجد شديداً (مز 46: 1)، ويسمعه يقول: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (مت 11: 28).

في هذا المزمور نجد:
أولاً – التماس لطلب العدالة (آيتا 1، 2)
ثانياً – ثلاثة أسئلة (آيات 3-23)

أولاً – التماس لطلب العدالة
(آيتا 1، 2)
1 – الاتجاه لإله العدالة: «يا إله النقمات، يا رب يا إله النقمات أشرِق. ارتفِع يا ديّان الأرض. جازِ صنيع المستكبرين» (آيتا 1، 2). صرخ المرنم يطلب النقمات من مضايقيه، لأن الله قوي مرتفع، وهو ديان الأرض، صاحب الحق وحده في الانتقام لأنه يقول:«لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكانا للغضب، لأنه مكتوب: لي النقمة، أنا أجازي، يقول الرب» (رو 12: 19 مقتبسة من تث 32: 35). وهو «إله مجازاةٍ، يكافئ مكافأةً» (إر 51: 56) يقيم ميزان العدل ويعطي كل ذي حق حقه، لأنه «ليست خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا» (عب 4: 13)، فنقول له: «العدل والحق قاعدة كرسيِّك. الرحمة والأمانة تتقدمان أمام وجهك» ( مز 89: 14).
2 – الطلب من إله العدالة:
(أ) أَشرِق: لأن الله هو النور الحقيقي الذي يبدد كل ظلم وظلام عندما يشرق بنور عدله وبره على شعبه الذي يعاني من الخطاة الذين يعوِّجون الحق، ويقول لشعبه: «أجعل الظلمة أمامهم نوراً والمعوجات مستقيمة. هذه الأمور أفعلها ولا أتركهم» (إش 42: 16).
(ب) ارتفِع: الرب هو المرتفع القدوس اسمه الذي يلجأ إليه البائس ويحتمي به المظلوم فينصفه عندما يعتلي منصَّة القضاء ليدين الظالم، الصارخ: «اقضِ لي حسب عدلك يا رب إلهي فلا يشمتوا بي» (مز 35: 24).
(ج) جازِ: ولا يملك المجازاة إلا الرب الخالق العادل «مُجري العدل والقضاء لجميع المظلومين» (مز 103: 6) القائل: «إنما بعينيك تنظر وترى مجازاة الأشرار» (مز 91: 8).

ثانياً – ثلاثة أسئلة
(آيات 3-23)
في حيرة المرنم من كثرة المضايقين، وجد نفسه يثير ثلاثة أسئلة، وكأنه يقول: «إلى متى أجعل هموماً في نفسي وحزناً في قلبي كل يوم؟ إلى متى يرتفع عدوي عليَّ؟ انظُر واستجب لي يا رب إلهي» (مز 13: 2، 3). وبعد أن يسأل يجد الإجابة المطمئنة، لأنه ثابت في الرب مهما أحاطت به الهموم.

السؤال الأول: (آيات 3-15).
1 – السؤال: «حتى متى الخطاة يا رب، حتى متى الخطاة يشمتون؟» (آية 3). يعكس التكرار صرخة الإنسان الضعيف الذي طالت معاناته، فيستعجل الرب ليسرع إلى معونته، مؤمناً أن الحل سيأتيه، كما صرخت نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله: «حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض؟ فأُعطوا كل واحد ثياباً بيضاً، وقيل لهم أن يستريحوا زماناً يسيراً أيضاً حتى يكمل العبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتلوا مثلهم» (رؤ 6: 10، 11).
2 – دوافع السؤال: (آيات 4-7).
(أ) تكلموا بوقاحة: «يُبِقّون. يتكلمون بوقاحة. كل فاعلي الإثم يفتخرون» (آية 4). يبقون أي يثرثرون ويخرج من أفواههم سيل من كلمات الوقاحة المليئة بالجرأة والكبرياء والإساءات والكذب، بغير خجل ولا خوف من الرب «تقلَّدوا الكبرياء. لبسوا كثوب ظلمهم. جعلوا أفواههم في السماء وألسنتهم تتمشى على الأرض» (مز 73: 6، 9).
(ب) سحقوا: «يسحقون شعبك يا رب ويذلون ميراثك. يقتلون الأرملة، والغريب، ويميتون اليتيم» (آيتا 5، 6). يسحقون الشعب الذي اختاره الرب لنفسه ويذلونه في التراب، فيبدو وكأن عهد الرب مع شعبه قد أُلغي. إنهم مثل الطرسوسي في جهالة تعصُّبه «ينفث تهدداً وقتلاً على تلاميذ الرب.. حتى إذا وجد أناساً من الطريق، رجالاً ونساء، يسوقهم موثقين إلى أورشليم» (أع 9: 1-3). وفي أفعالهم الشريرة كسروا وصية الله القائلة: «لا تضطهد الغريب ولا تضايقه.. لا تسئ إلى أرملة ولا يتيم. إن أسأت إليه فإني إن صرخ إليَّ أسمع صراخه» (خر 22: 21-23). ولا عجب فهو «أبو اليتامى وقاضي الأرامل، الله في مسكن قدسه.. مخرج الأسرى إلى فلاح. إنما المتمردون يسكنون الرمضاء» (مز 68: 5، 6).
(ج) جدَّفوا: «يقولون: الرب لا يبصر، وإله يعقوب لا يلاحظ» (آية 7). ظلم الأشرار الأبرار، ووجدوا لأنفسهم مبررات من الشريعة، وهم يجدفون على الله بقولهم إنه لا يبصر ولا يلاحظ! فكيف يقولون إنه الرب سيد الكون، وإنه إله يعقوب الأمين للعهود، ثم يناقضون أنفسهم ويقولون إنه لا يعاقب ولا يكافئ؟ لقد قال ليعقوب الخائف الهارب من أخيه: «أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق.. أنا معك وأحفظك حيثما تذهب وأردك إلى هذه الأرض، لأني لا أتركك حتى أفعل ما كلمتك به» (تك 28: 13، 15). فكيف يقولون إنه لا يرى؟ لقد شابهوا من قالوا: «الرب لا يُحسن ولا يسيء» (صف 1: 12).
3 – نصيحة للأشرار: (آيات 8-11).
عندما ذكر المرنم أشرار شعبه الذين أساءوا إلى الله وإلى أتقيائه، هاله الموقف، فقدَّم لهم النصيحة لعلهم يتوبون. «الحكمة تنادي في الخارج. في الشوارع تعطي صوتها. تدعو في رؤوس الأسواق في مداخل الأبواب. في المدينة تبدي كلامها قائلة: إلى متى أيها الجهال تحبون الجهل؟.. ارجعوا عند توبيخي. هأنذا أفيض لكم روحي. أعلمكم كلماتي» (أم 1: 20، 23).
(أ‌) تحذير من الجهل: «افهموا أيها البلداء في الشعب. ويا جهلاء، متى تعقلون؟» (آية 8). إساءتهم للمؤمنين وإلى ربهم تنمُّ عن حماقة وجهل روحيين خطيرين، يستحقان وصفهم بالبلداء والجهلاء. «لأن شعبي عمل شرين: تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آباراً آباراً مشققة لا تضبط ماءً» (إر 2: 13).

(ب‌) تنوير من الحق: (آيات 9-11).
قدم المرنم للأشرار الجهلة ثلاث حقائق:
(1) الله خلقكم: «الغارس الأذن، ألا يسمع؟ الصانع العين، ألا يبصر؟» (آية 9). الذي خلق الأذن يسمع والذي خلق العين يبصر هؤلاء الأشرار القائلين إنه لا يبصر ولا يلاحظ! كيف يكون مبدئ الفكر بلا فكر؟ وكيف لا يملك الصانع أسرار صناعته؟ «نسجتني في بطن أمي.. لم تختفِ عنك عظامي حينما صُنِعتُ في الخفاء.. رأت عيناك أعضائي، وفي سِفرك كلها كُتبت يوم تصوَّرَت إذ لم يكن واحدٌ منها» (مز 139: 13، 15، 16).
(2) الله يبكِّتكم: «المؤدِّب الأمم، ألا يبكت؟ المعلِّم الإنسان معرفة» (آية 10). أباد الله شعوباً أخطأت بالطوفان، وعلَّم فرعون بأن أدَّبه، ولا بد أنه يبكت الخطاة على خطاياهم ليتوبوا، فإن الروح القدس «يبكت العالم على خطية» (يو 16: 8). كما أن كلمة الله تبكت وتقول: «قد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين: يا ابني، لا تحتقر تأديب الرب، ولا تخُر إذا وبَّخك. لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله» (عب 12: 5، 6). وتأديبه دائماً للخير، ليعلِّم الإنسان الحكمة الإلهية كما تعلمها بولس الذي كان مجدِّفاً ومفترياً، وفعل ما فعله بجهلٍ في عدم إيمان (1تي 1: 13)، فقال: «إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية، لكي أربح المسيح» (في 3: 8). ولا زال الله ينادي: «ارجعوا عن طرقكم الردية واحفظوا وصاياي» (2مل 17: 13).
(3) الله يعرفكم: «الرب يعرف أفكار الإنسان أنها باطلة» (آية 11). ينبِّه المرنم الأشرار أن الله يعرف أفكارهم، وأن كل مؤامراتهم ضد شعبه باطلة. وهو يعرف الأفكار والخطط والنيات، وليس الأعمال الظاهرة فقط، «لأن سواعد الأشرار تنكسر، وعاضد الصديقين الرب» (مز 37: 17).
4 – إجابة السؤال الأول: (آيات 12-15).
في إجابة السؤال «حتى متى الخطاة يشمتون؟» يقدم المرنم أربعة أفكار:
(أ) الرب يؤدب المؤمن ليعلِّمه: «طوبى للذي تؤدّبه يا رب وتعلّمه من شريعتك» (آية 12). قال أليفاز التيماني: «طوبى لرجلٍ يؤدبه الله، فلا ترفض تأديب القدير» (أي 5: 17) وقال الحكيم: «يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تكره توبيخه، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، وكأبٍ بابنٍ يُسرُّ به» (أم 3: 11، 12). وقال الله لداود عن نسله: «إن تعوَّج أؤدبه بقضيب الناس وبضربات بني آدم. ولكن رحمتي لا تُنزع منه» (2صم 7: 14، 15). فليعتبر المؤمن كلام الأشرار ضده، وعنفهم معه، وتجديفهم على الله امتحانات له، يهدف الرب بها تأديبه وتعليمه وتهذيبه، فيقول: «تأديباً أدَّبني الرب وإلى الموت لم يسلمني» (مز 118: 18). ولا بد أن الألم يصاحب التأديب، فإن «كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن. وأما أخيراً فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام» (عب 12: 11). ويلاحظ التقي أن كلمة الله وعصاه يسيران جنباً إلى جنب، فهو يعلمنا من كلمته، ويؤدبنا إن ضللنا، والتأديب بدون كلمة من الله أتون يصهر المعدن ويشقيه، لكن كلمة الله مع الأتون تصهر المعدن وتنقيه. ويدخلنا الرب بوتقة الألم ليشكل حياتنا لنكون مشابهين صورة ابنه (رو 8: 29). «طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه» (يع 1: 12).
(ب) الرب يعاقب الشرير: «لتريحه من أيام الشر حتى تحفر للشرير حفرة» (آية 13). يتعلم التقي أن الرب لا بد أن يريحه من أيام الشر، عندما يكتمل حفر الحفرة للشرير. صرخ التلاميذ في سفينتهم الموشكة على الغرق قائلين للمسيح: «أما يهمك أننا نهلك؟» وكان يجب أن يعرفوا أن السفينة التي يستقلُّها المسيح لا يمكن أن تهلك، فأسكت البحر الهائج، ثم قال لهم: «كيف لا إيمان لكم؟». لا بد أن ينتهي شر الشرير كما أمر المسيح البحر: «اسكت! ابكم». فصار هدوء عظيم (مر 4: 38-40). «كعبور الزوبعة فلا يكون الشرير. أما الصدِّيق فأساسٌ مؤبَّد» (أم 10: 25).
(ج) الرب يقضي للمؤمن: «لأن الرب لا يرفض شعبه، ولا يترك ميراثه» (آية 14). بسبب سحق العدو للمؤمن يبدو للعين أن الرب رفض شعبه، ولكن كيف يرفض شعبه وميراثه، مع أن الميراث أغلى ما عند الإنسان، ليس فقط لقيمته المادية، بل لمعناه العاطفي؟ يقول الله لشعبه: «لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة، وبإحسان أبدي أرحمك، قال وليُّكِ الرب» (إش 54: 7، 8).
(د) ضيق المؤمن سينتهي: «لأنه إلى العدل يرجع القضاء وعلى أثره كل مستقيمي القلوب» (آية 15). لا بد أن ينتهي ضيق المؤمن من شر الأشرار وظلمهم، لأن القاضي العظيم سيجيء ليبدأ حكم العدل، فتسير الأمور بالاستقامة، ويفرح الأتقياء، وتتحرك عربة العدالة منتصرة، يتبعها مستقيمو القلوب، فيعلم الكل أن العدل عاد ظافراً، ويسير المؤمن في البِر بلا عائق ولا معطل. وقد يتأنى العدل لكن القاضي العظيم لا بد سيأتي. «هوذا بالعدل يملك ملك، ورؤساء بالحق يترأّسون» (إش 32: 1).

السؤال الثاني: (آيات 16-19).
1 – السؤال: «مَن يقوم لي على المسيئين؟ من يقف لي ضد فعلة الإثم؟» (آية 16). يسأل المرنم نفسه: من هو المنقذ الذي يعينني ويدافع عني ضد الأشرار الذين يسيئونني ويرتكبون الإثم ضدي باستمرار؟
2 – دافعان على السؤال: (آيتا 17، 18).
(أ) خطر الموت: «لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعاً أرض السكوت» (آية 17). رأى المرنم نفسه في خطر الموت والدفن في أرض السكوت (القبر) لولا أن الرب أعانه «الشرير يراقب الصديق محاولاً أن يميته. الرب لا يتركه في يده» (مز 37: 23، 33).
(ب) خطر الشك: «إذ قلت قد زلت قدمي فرحمتك يا رب تعضدني» (آية 18). حين أحاط الأشرار بالمرنم خارت قواه وظن أن سيده نسيه، وكادت قدماه أن تزل في عالم الشكوك وتنزلق إلى هاوية الارتداد عن الإيمان، فيقول مع آساف: «أما أنا فكادت تزل قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي» (مز 73: 2). لكن رحمة الله أسندته فلم يسقط، ولسان حاله: «لأنك أنقذت نفسي من الموت، وعيني من الدمعة، ورجلي من الزلق» (مز 116: 8).
3 – إجابة السؤال الثاني: «عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذِّذ نفسي» (آية 19). عندما سخر الأشرار من المرنم وهزؤوا به وسحقوا شعبه زادت همومه ومخاوفه وتحيَّر عقله، كملاحٍ هاجمته الزوابع ودخلت داخل سفينته. ولكن تعزيات الله كانت موضوع تأمله وتلذذه فلم تغرق سفينته. «هذا المسكين صرخ والرب استمعه ومن كل ضيقاته خلَّصه» (مز 34: 6). لقد وجد كنزاً وذخيرة حية من تعزيات مواعيد الله الصالحة، فأحسَّ بالاطمئنان والأمان، فهتف: «ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون. يَروَوْنَ من دسم بيتك، ومن نهر نِعمك تسقيهم» (مز 36: 7، 8).

السؤال الثالث: (آيات 20-23).
1 – السؤال: «هل يعاهدك كرسي المفاسد المختلق إثماً على فريضة؟» (آية 20). هذا سؤال استنكاري: هل يمكن أن يدخل كرسيُّ المفاسد ومعقل الشر في معاهدة مع الكرسي السماوي؟ هل يمكن أن يقوم هناك عهد وميثاق بين النور والظلمة، وبين الحق والإثم؟ هل يتحالف العرش الفاسد مع الله صاحب العرش المقدس؟.. اضطربت أفكار المرنم واختلطت عليه الأمور وهو يرى ظلم الأشرار ونجاحهم، مع أنهم يختلقون إثماً على فريضة، فيصدرون قوانين آثمة تظلم الناس، ويستخدمون شريعة موسى لإذلال المساكين، ويعوجون فروضاً شرعية تُظهِر الخطأ كأنه صواب. فكيف يتعاهد هؤلاء مع الله؟! وقد قال المسيح لأمثال هؤلاء: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون» (مت 23: 13).
2 – الدافع على السؤال: «يزدحمون على نفس الصديق ويحكمون على دم زكي» (آية 21). يشكو المرنم من خطورة موقفه، لأن هؤلاء الأشرار الذين يعوِّجون المستقيم يجتمعون ضد الصدِّيق ويصدرون عليه أحكاماً جائرة قد تصل إلى الإعدام، وهو بريء. وهذا ما حدث في محاكمة المسيح «قال لهم بيلاطس: فماذا أفعل بيسوع الذي يُدعى المسيح؟ قال له الجميع: ليُصلب!.. فأخذ ماءً وغسل يديه أمام الجميع قائلاً: إني بريء من دم هذا البار.. فأجاب جميع الشعب: دمه علينا وعلى أولادنا» (مت 27: 22-25).
3 – إجابة السؤال الثالث: (آيتا 22، 23).
يقدم الرب للمرنم إجابتين عن سؤاله الثالث:
(أ) الرب خط دفاعه: «فكان الرب لي صَرْحاً، وإلهي صخرة ملجإي» (آية 22). الصرح هو القلعة العالية والحصن المنيع. وقد كان الرب للتقي المظلوم صرحاً عالياً طمأن نفسه وصار ملجأه، فيقول: «أصعدني من جب الهلاك، من طين الحمأة، وأقام على صخرة رجليَّ. ثبَّت خطواتي» (مز 40: 2) «الرب نوري وخلاصي، ممن أخاف؟ الرب حصن حياتي، ممن أرتعب؟» (مز 27: 1). «الرب صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي، به أحتمي. ترسي وقرن خلاصي وملجإي» (مز 18: 2).
(ب) الرب سيعاقب الشرير: «يردُّ عليهم إثمهم. بشرِّهم يفنيهم» (آية 23). يطمئن الله المرنم أن الشرير سينال جزاءه «لأن عاملي الشر يُقطَعون، والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض» (مز 37: 9). «قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلِّص المنسحقي الروح» (مز 34: 18).

اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ
1 هَلُمَّ نُرَنِّمُ لِلرَّبِّ، نَهْتِفُ لِصَخْرَةِ خَلاَصِنَا. 2نَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِحَمْدٍ، وَبِتَرْنِيمَاتٍ نَهْتِفُ لَهُ. 3لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهٌ عَظِيمٌ، مَلِكٌ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ الآلِهَةِ. 4الَّذِي بِيَدِهِ مَقَاصِيرُ الأَرْضِ، وَخَزَائِنُ الْجِبَالِ لَهُ. 5الَّذِي لَهُ الْبَحْرُ وَهُوَ صَنَعَهُ، وَيَدَاهُ سَبَكَتَا الْيَابِسَةَ.
6هَلُمَّ نَسْجُدُ وَنَرْكَعُ وَنَجْثُو أَمَامَ الرَّبِّ خَالِقِنَا، 7لأَنَّهُ هُوَ إِلَهُنَا، وَنَحْنُ شَعْبُ مَرْعَاهُ وَغَنَمُ يَدِهِ. الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ، 8فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي مَرِيبَةَ، مِثْلَ يَوْمِ مَسَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ، 9حَيْثُ جَرَّبَنِي آبَاؤُكُمُ. اخْتَبَرُونِي. أَبْصَرُوا أَيْضاً فِعْلِي. 10أَرْبَعِينَ سَنَةً مَقَتُّ ذَلِكَ الْجِيلَ، وَقُلْتُ: «هُمْ شَعْبٌ ضَالٌّ قَلْبُهُمْ، وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا سُبُلِي». 11فَأَقْسَمْتُ فِي غَضَبِي لاَ يَدْخُلُونَ رَاحَتِي!

دعوة للعبادة
رأينا في مزمور 93 أن الرب قد ملك ولبس الجلال، فحلَّقنا معه في سماء المحبة والقوة. ولكن مزمور 94 أرجعنا إلى أرض الواقع والألم، وكأنه يتساءل مع جدعون: إن كان الرب هو الملك، فلماذا أصابتنا كل هذه المتاعب والكوارث، وأين كل عجائبه؟ (قض 6: 13). في هذا المزمور يعود المرنم إلى تفاؤله، ويوجِّه النظر إلى عظمة الله التي تدعو شعبه لعبادته بالحمد والترنيم. ويُقال إن مزمور 95 كُتب بمناسبة تدشين بناء الهيكل بعد الرجوع من السبي عام 516 ق.م.. كانت خيمة الاجتماع التي أقامها موسى أول مكان لعبادة بني إسرائيل بعد الخروج من مصر، وعندما استقر الأمر بالشعب أراد داود أن يبني بيتاً للرب، فقال الرب له إنه قد سفك دماً كثيراً، فيبني البيت ابنه الملك سليمان. ولم يُرد الملك داود أن يحرم نفسه من شرف الاشتراك في بناء هيكل الرب فأعدَّ مواد بناء كثيرة ليستخدمها ابنه في البناء. وقام سليمان ببناء الهيكل العظيم وحل الرب فيه بمجده (2أخ 5: 13 و7: 2). ولكن الشعب ابتعد عن عبادة الرب، فسلَّمهم لنبوخذنصَّر ملك بابل، الذي سباهم وهدم هيكلهم. وبقي الشعب في السبي 70 سنة كما قال الرب (إر 25: 12-14). بعدها حرَّك الرب روح كورش الفارسي ليسمح لهم بالرجوع إلى أرضهم وبناء هيكلهم، فبدأوا العودة بقيادة عزرا الكاتب، وبدأوا في بناء الهيكل، ثم توقَّفوا. فأرسل الرب النبيين حجي وزكريا ليشجعاهم على البناء. قال لهم النبي حجي: أنتم رجعتم من السبي إلى أرضكم، فبنيتم بيوتكم، وتركتم بيت الرب خراباً. ليس حسناً ما أنتم تفعلون (حج 1: 3، 4). فأكمَلوا البناء ودشَّنوه. ويُقال إن هذا المزمور كُتب بمناسبة إعادة بناء الهيكل بعد السبي.
يقول المرنم في هذا المزمور إن بني إسرائيل كانوا مستعبَدين في مصر، وأخرجهم الرب بمعجزة. بعدها سمح لهم ببناء هيكل عظيم له، وكان كريماً مع آبائهم، ولكن آباءهم لم يكونوا كرماء معه. وها هم يرون هيكلاً جديداً، فليحترسوا من أن يكرروا غلطة آبائهم. وهو يدعوهم: «هلمَّ نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا.. اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في مريبة (عندما خاصم بنو إسرائيل الرب بسبب نقص الماء – عدد 20: 13)، ومثل يوم مسة في البرية (عندما تساءل بنو إسرائيل إن كان الرب في وسطهم أم لا – خر 17: 7) حيث جرَّبني آباؤكم.. مقتُّ ذلك الجيل».
أنقذ الرب شعبه بالخروج من مصر، ولكنهم نسوه، فسمح بسبيهم، ثم أعادهم منه. ولكنَّ الطاعة شرطُ استمرار البركة، ورِضى الله علينا وتمتُّعنا بالأنس به يتوقَّفان على ثباتنا في الرب، وعلى أمانتنا له.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – دعوة مسببَّة للعبادة (آيات 1-7أ)
ثانياً – تحذير من رفض الدعوة للعبادة (آيات 7ب-11)

أولاً – دعوة مسبَّبة للعبادة
(آيات 1-7أ)
يقدم المرنم خمسة أسباب لعبادة الرب:
1 – لأنه صخرة خلاصنا: «هلم نرنم للرب. نهتف لصخرة خلاصنا. نتقدَّم أمامه بحمدٍ، وبترنيمات نهتف له» (آيتا 1، 2). يهتف المرنم للرب ويقدم له السجود والعبادة، لأنه صخرة الخلاص الذي نؤسس عليه بناءنا الروحي فيثبت، مهما جاءت الأمطار وهبَّت الرياح وصدمته، لأنه مؤسس على الصخر. وبيتنا الروحي لا يمكن أن يُبنى إلا على المسيح صخر الدهور «فإنه لا يستطيع أحدٌ أن يضع أساساً آخر غير الذي وُضع، الذي هو يسوع المسيح» (1كو 3: 11).. وهو صخرة خلاصنا الذي يروي حياتنا. عندما عطش بنو إسرائيل أثناء سيرهم في البرية أمر الرب موسى أن يضرب الصخرة بعصاه، فخرج الماء الذي شرب منه الشعب جميعه (خر 17: 1-7). والصخرة رمزٌ للمسيح، صخر الدهور، الذي ضُرب من أجلنا على الصليب فأعطانا ماء الحياة، الذي قال عنه للسامرية: «لو كنتِ تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لك: أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه، فأعطاك ماءً حياً» (يو 4: 10).. وهو الصخرة الذي به نحتمي، كما قال له داود: «أحبك يا رب يا قوتي. الرب صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي به أحتمي. ترسي وقرن خلاصي وملجإي. أدعو الرب الحميد فأتخلَّص من أعدائي» (مز 18: 1-3).
وتأمُّلنا في «صخرة خلاصنا» يجعلنا نتقدَّم أمامه بحمد وبترنيمات نهتف له، لأنه «عظيمٌ هو الرب وحميدٌ جداً» (مز 48: 1) فنشكره لأجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها. وكل الذين يأتون إلى الرب يفرحون به. «الصدِّيقون يفرحون. يبتهجون أمام الله ويطفرون فرحا» (مز 68: 3). ومكتوب: «فرح التلاميذ إذ رأوا الرب» بعد قيامته من الأموات (يو 20: 20). كان تلميذا عمواس يمشيان عابسَيْن، ولكن عبوسهما انتهى عند كسر الخبز حالما عرفا أن المسيح حي، فرجعا إلى أورشليم وقد امتلأ قلباهما بالفرح العظيم ليخبرا باقي التلاميذ (لو 24: 13-35). وعندما نتناول من جسد الرب ودمه نفرح بمخلِّصنا، كما نفرح كلما تذكرنا يوم انتمائنا إليه بولادتنا الروحية من الروح القدس، ويوم تسليم حياتنا له. هلم نرنم ونهتف، فليست العبادة واجباً مفروضاً علينا، لكنها امتياز وفرحة حقيقية لنا، لأننا عندما نمثُل في محضر الرب نلتقي به شخصياً، فنحمده ونرنم له اعترافاً بفضله.
2 – لأنه الإله الوحيد: «لأن الرب إلهٌ عظيم، ملكٌ كبير على كل الآلهة» (آية 3). قال موسى للشعب: «الرب إلهكم هو إله الآلهة ورب الأرباب، الإله العظيم الجبار المهيب» (تث 10: 17). ربما يقصد المرنم بقوله »الآلهة« الأصنام. وتوجد في عالمنا آلهة كثيرة من صُنع الناس، كالتماثيل أصنام الوثنيين، والمال إله الماديين، والجنس إله الشهوانيين. عندما أدخل الفلسطينيون تابوت عهد الرب إلى بيت صنمهم «داجون» وجدوا داجون في الصباح ساقطاً على وجهه على الأرض أمام تابوت الرب، فأقاموه. وفي اليوم التالي وجدوه أيضاً ساقطاً على وجهه على الأرض، ورأسه ويداه مقطوعة على العتبة (1صم 5: 3، 4). وكل من يعبد المال يكتشف أن قوته الشرائية تقل، كما أن هناك أشياء لا يمكن أن يشتريها، مثل الصحة والمحبة، و«متى كان لأحدٍ كثير فليست حياته من أمواله» (لو 12: 15). ومن يتكل على الصحة يجدها تتأخر مع تقدُّم العمر، ومن يتكل على الأصدقاء قد يهجرونه وقت الاحتياج. أما الرب فهو الإله العظيم وحده، الكبير على كل الآلهة التي لا تُشبِع، ولا تعين، ولا تدوم. فالشبع والعون والدوام هي في الرب وحده.
وقد ظهرت عظمة الله على كل آلهة الوثن عندما تحدَّى النبي إيليا كهنة الصنم أن يقدموا له ذبيحة، ويقدم هو ذبيحة للرب، والإله الذي يُنزِل ناراً على الذبيحة يكون هو الإله الحقيقي. وأعطاهم إيليا الفرصة الأولى ليقدموا ذبيحتهم. وبالرغم من كل دعائهم لأوثانهم لم تنزل أية نار على ذبيحتهم. ثم دعا إيليا الرب، فأنزل ناراً من السماء التهمت ذبيحة إيليا، فهتف الشعب: «الرب هو الله» (1مل 18: 21-39).
وربما يقصد المرنم بـ«الآلهة» القضاة والحكام، بحسب القول: «الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي». ويقول الرب لهم: «أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم» (مز 82: 1، 6) لأن القاضي يحكم على المتقاضين بالبراءة أو بالإدانة، وذلك بتكليف من الله، وبحسب شريعته. والرب إله عظيم وملك كبير على كل القضاة، لأن فوق العالي عالياً، والأعلى فوقهما يلاحظ (جا 5: 8). وكل حاكم يموت ويجيء بعده حاكم آخر، أما الرب فهو هو أمساً واليوم وإلى الأبد (عب 13: 8)، وملكوته لا يتغير ولا ينتهي.
3 – لأنه الإله الغني: «الذي بيده مقاصير الأرض، وخزائن الجبال له. الذي له البحر وهو صنعه، ويداه سبكتا اليابسة» (آيتا 4، 5). المقاصير هي الأماكن المنخفضة كالمناجم وآبار البترول مثلاً، ومقاصير الأرض تحوي ثروة أوجدها الرب. وخزائن الجبال العالية أيضاً له، بكل ما فيها من غابات ومراعٍ.. وله البحر الذي يرمز إلى التقلقل وعدم الثبات، وله الأرض اليابسة التي ترمز إلى الثبات. أمر الرب موسى أن يشقَّ بعصاه البحر الأحمر فانفلق وظهرت اليابسة وسطه، ومرَّ عليها شعب الله. ثم عادت المياه إلى حالتها الطبيعية فغرق جيش فرعون (خر 14: 21، 22). وتكرر الأمر مع مياه نهر الأردن في أيام يشوع (يش 3: 13). ومشى المسيح على البحر كأنه يسير على أرض يابسة، وأعطى تلميذه بطرس ذات الامتياز (مت 14: 29). وأمر المسيح بطرس أن يصيد سمكة بصنارة ليجد في فمها عُملة هي «إستار» ليدفع الضريبة عنه وعن بطرس (مت 17: 24-27). فلنرنم للرب لأنه الغني القدير.
4 – لأنه خالقنا: «هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا» (آية 6). يقدم المرنم التسبيح لله بالسجود والركوع والجثو أمامه لأنه الخالق الذي صنعه وصنعنا. وليس المقصود بهذا اتِّخاذ وضع معيَّن في الصلاة، بل التوقير والاحترام، فإن «ذبائح الله هي روحٌ منكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره» (مز 51: 17). لقد جلس داود يصلي وقبل الله صلاته (1أي 17: 16)، ويقف المؤمنون للصلاة باسطين أيديهم نحو السماء (مز 141: 2)، ووجَّه الملك حزقيا وجهه إلى الحائط فسمعه الرب (إش 38: 2). وعندما أتلفت الخطية الخَلق الأول أعاد الله خلق الإنسان من جديد، وتحقَّق القول: «إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً» (2كو 5: 17). وقد كشف الرب لنبيِّه إرميا هذا الأمر عندما ذهب إلى محل فخاري ليرى كيف يصنع الفخار، فرآه يمسك قطعة طين ليصنع منها إناءً، لكن الطينة لم تتجاوب مع عمل يديه وتفتَّتت، فجمعها من جديد وأعاد صنعها وعاءً كما حسن في عينيه أن يصنعه. وقال الرب للنبي إرميا: «كالطين بيد الفخاري، أنتم هكذا بيدي يا بيت إسرائيل» (إر 18: 6). فما أروع الصُّنع الأول الذي أفسدته الخطية، وما أعظم الصنع الثاني الذي تبرَّر بدم المسيح! دعنا نصلي: «اختبِرني يا الله واعرِف قلبي. امتحِنِّي واعرِف أفكاري، وانظر إن كان فيَّ طريق باطل، واهدني طريقاً أبدياً» (مز 139: 24). «لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضيَّةً أمامك يا رب صخرتي ووليي» (مز 19: 14).
5 – لأنه راعينا: «لأنه هو إلهنا، ونحن شعب مرعاه وغنم يده» (آية 7أ). الرب هو إلهنا لأنه خلقنا وهو يقودنا ويرعانا ويسدد كل أعوازنا الجسدية والروحية والفكرية، وقد اختارنا لنكون له شعباً خاصاً، وتنازل وأدخلنا معه في عهد جديد، قال عنه: «خذوا كلوا هذا هو جسدي». وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: «اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفَك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26: 26، 27). فأصبحنا جميعاً ملكاً له وشعب مرعاه. هو الراعي الصالح الذي قال: «أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف» (يو 10: 11)، وهو الذي منحنا امتياز أن نقول: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء. في مراعٍ خضر يربضني. إلى مياه الراحة يوردني» (مز 23: 2) «نحن شعبك وغنم رعايتك. نحمدك إلى الدهر. إلى دور فدور نحدِّث بتسبيحك» (مز 79: 13) «يا راعي إسرائيل اصغَ، يا قائد يوسف كالضأن، يا جالساً على الكروبيم أشرِق» (مز 80: 1).

ثانياً – تحذير من رفض الدعوة للعبادة
(آيات 7ب-11)
يقدم المرنم ثلاثة تحذيرات من رفض الدعوة للعبادة:
1- خوفاً من القساوة: «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم» (آيتا 7ب، 8أ). الحياة قصيرة وغَدُها ليس ملكنا، لأنه بين يدي الرب. لذلك يجب أن نسمع صوته «اليوم» ونطيعه، لأن تأجيل التوبة يقسّي قلب من يظن أن مصيره بيده، فيتَّكل على صحته أو على غناه، ويعتقد أنه يمكن أن يتوب غداً. ولكن «هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص» (2كو 6: 2). اليوم يوم توبة ويوم خلاص، لا يدعونا الله إليهما فقط بل يأمرنا بهما «اليوم»! هذه دعوة واضحة لجميعنا لأخذ قرار فوري وحاسم بالحياة مع الرب. قال المسيح: «هئنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي» (رؤ 3: 20). فلا تترك المسيح واقفاً على باب قلبك يقرع أطول مما تركته. لو لم تتَّخذ اليوم خطوة التوبة فقد لا تأخذها أبداً، لأن روح الله لا يدين في الإنسان الزائغ إلى الأبد (تك 6: 3). كفى إهمالاً طال أمده، لأن كل يوم يمرُّ بك بدون معرفة المسيح معرفة شخصية هو خسارة حقيقية لك. ولن تجد الحياة ذات المعنى إلا إذا عشتَ مع الله، متمتعاً بقربك منه.
«اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم». وكلمة قلب في الكتاب المقدس تحمل عدَّة معانٍ:
* الإرادة: «فإذا سمعتم لوصاياي التي أنا أوصيكم بها اليوم لتحبوا الرب إلهكم وتعبدوه من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم، أعطي مطر أرضكم» (تث 11: 13، 14). فلتكن إرادتك خاضعة لمشيئة الرب.
* الضمير: «قلب داود ضربه على قَطْعه طرف جبة شاول» (1صم 24: 5). فلتكن حسّاساً لصوت الرب. وإذا دعاك تقول: «تكلَّم يا رب، لأن عبدك سامع» (1صم 3: 9).
* الذاكرة: «خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطئ إليك» (مز 119: 11). فلا تنسَ كلمة الرب.
* العقل: «وجَّهتُ قلبي لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل» (جا 1: 17). فليكن عقلك منفتحاً لكلمة الرب.
* العواطف: «تحب الرب إلهك من كل قلبك« (مت 22: 37). فلتكن مشاعرك وعواطفك متَّجهة للرب.
فلا تُقسِّ إرادتك، ولا ضميرك، ولا ذاكرتك، ولا عقلك، ولا عواطفك، بل أَخضِعها كلها لله.
2 – ابتعاداً عن أخطاء الماضي: «كما في مريبة، مثل يوم مسَّة في البرية، حيث جرَّبني آباؤكم. اختبروني. أبصروا فعلي» (آيتا 8ب، 9). يطلب المرنم من الشعب ألا يقسّوا قلوبهم، ويعطيهم مثالاً من قساوة قلوب آبائهم حتى لا يخطئوا كما أخطأ الآباء. تعوَّدنا أن نتحدث عن آبائنا بفخر واعتزاز وأن ننسى أخطاءهم لأننا نحبهم، ولكن الرب يصف الأمور بأوصافها الموضوعية لا العاطفية، فيذكر ما جرى في «مريبة» (ومعناها عراك وخصام)، وما جرى في «مسَّة» (ومعناها تجربة أو امتحان). فقد تذمَّر بنو إسرائيل على الله وعلى موسى وهارون بسبب عدم وجود الماء. وكان تذمرهم الأول في رفيديم، في بداية سنوات التيهان في البرية (خر 17: 1-7) وتذمروا أيضاً في قادش في السنة الأربعين للتيهان (عد 20: 1-13). وما أكثر ما تذمر بنو إسرائيل على الله، فقال عنهم: «جرَّبوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا لقولي» (عد 14: 22). وتُسمَّى «مريبة» أيضاً «مسَّة» وهو اسم نبعٍ خرج من صخرةٍ في حوريب لما ضرب موسى الصخرة بعصاه، بعد أن أمر الله موسى أن يضرب الصخرة. حقاً ما أشقى الإنسان الذي لا يمكن إرضاؤه! ودعا موسى اسم المكان: مسة ومريبة «من أجل مخاصمة بني إسرائيل، ومن أجل تجربتهم للرب قائلين: أفي وسطنا الرب أم لا؟». والمؤلم أن هذا التذمر حدث بالرغم من أن الآباء اختبروا صلاح الله وأمانته وقوته، وأبصروا أيضاً فِعْله. فلم يكن تذمُّر الشعب بسبب عمى أو جهل، إنما لغلاظة قلوبهم وعدم إيمانهم، بالرغم من أنهم رأوا محبة الله وعنايته ورعايته.
3 – اتِّقاءً لعقوبات الماضي: «أربعين سنة مقتُّ ذلك الجيل، وقلت: هم شعبٌ ضالٌّ قلبهم، وهم لم يعرفوا سبلي. فأقسمتُ في غضبي لا يدخلون راحتي»« (آيتا 10، 11). وكلمة «مقتُّ» قد تعني ندمت وحزنت. وقيل عن الشعب النادم: «ومقتوا أنفسهم لأجل الشرور التي فعلوها في كل رجاساتهم» (حز 6: 9). حزن الرب على ضلال الإنسان لأنه لا يُسرُّ بموت الشرير بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا (حز 33: 11). فيا حسرةً على العباد!.. وقد تعني كلمة «مقتُّ» أحبَّ أقل، فقد أنقص الرب عنايته بهم، ورفع عنهم حمايته ورعايته. قيل إن الذي يريد أن يتبع المسيح يجب أن يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته (لو 14: 26)، بمعنى أن يجيء حبه لله قبل حبه لعائلته، فتَقْوى محبته لله على محبته لعائلته، وتصير محبته لعائلته كضوء شمعة أمام نور الشمس، إذ تملك محبة الله على كل قلبه ومشاعره، فيقول: «محبة المسيح تحصرنا» (2كو 5: 14).
لقد ضلَّ الشعب عن الرب، وهجروا سبُله المستقيمة، لأنهم كفَّارون ظلومون، وتاهت قلوبهم عن الرب فتاهت أقدامهم عن سبُل الرب. قال عنهم المرنم: «زاغ الأشرار من الرَّحِم. ضلّوا من البطن، متكلمين كذباً» (مز 58: 3)، وقال عنهم النبي إشعياء: «كلنا كغنمٍ ضللنا. مِلنا كل واحد إلى طريقه» (إش 53: 6). هذا الجيل «شعبٌ ضالٌّ قلبهم» ضلالهم من داخل نفوسهم، بإرادتهم وعواطفهم وعقولهم. ونتيجة لهذا الضلال مقتهم الرب وحرمهم من دخول أرض الموعد، فسقطت جثثهم في الصحراء.
وبسبب هذا الضلال والإصرار عليه أقسم الرب في غضبه أن لا يُدخِلهم أرض راحته، فقد قال الرب لموسى وهارون: «قد سمعتُ تذمُّر بني إسرائيل الذين يتذمرونه عليَّ. قُل لهم: حيٌّ أنا يقول الرب، لأفعلنَّ بكم كما تكلَّمتم في أذنيَّ. في هذا القفر تسقط جثثكم، جميع المعدودين منكم حسب عددكم، من ابن عشرين سنة فصاعداً، الذين تذمَّروا عليَّ. لن تدخلوا الأرض التي رفعتُ يدِي لأسكنـنَّكم فيها، ما عدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون» (عد 14: 26-30).
وينتهي المزمور بهذه الكلمات نهاية فجائية. والنصيحة المقدَّمة لنا فيه والتي يجب أن تبقى أمام عيوننا دائماً، هي أن كرَمَ الرب معنا يجب أن يذكِّرنا بمسؤوليتنا الروحية، وأن الإنعام الإلهي علينا لا يعني أبداً أن نحيا كما نشاء، لكن أن نعيش كما يريد مخلِّصنا وراعينا. اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم. هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا، لأنه هو إلهنا ونحن شعب مرعاه وغنم يده.

اَلْمَزْمُورُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ
1 رَنِّمُوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً. رَنِّمِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ الأَرْضِ. 2رَنِّمُوا لِلرَّبِّ، بَارِكُوا اسْمَهُ، بَشِّرُوا مِنْ يَوْمٍ إِلَى يَوْمٍ بِخَلاَصِهِ. 3حَدِّثُوا بَيْنَ الأُمَمِ بِمَجْدِهِ، بَيْنَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِعَجَائِبِهِ. 4لأَنَّ الرَّبَّ عَظِيمٌ وَحَمِيدٌ جِدّاً. مَهُوبٌ هُوَ عَلَى كُلِّ الآلِهَةِ. 5لأَنَّ كُلَّ آلِهَةِ الشُّعُوبِ أَصْنَامٌ، أَمَّا الرَّبُّ فَقَدْ صَنَعَ السَّمَاوَاتِ. 6مَجْدٌ وَجَلاَلٌ قُدَّامَهُ. الْعِزُّ وَالْجَمَالُ فِي مَقْدِسِهِ.
7قَدِّمُوا لِلرَّبِّ يَا قَبَائِلَ الشُّعُوبِ، قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْداً وَقُوَّةً. 8قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْدَ اسْمِهِ. هَاتُوا تَقْدِمَةً وَادْخُلُوا دِيَارَهُ. 9اسْجُدُوا لِلرَّبِّ فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ. ارْتَعِدِي قُدَّامَهُ يَا كُلَّ الأَرْضِ. 10قُولُوا بَيْنَ الأُمَمِ: «الرَّبُّ قَدْ مَلَكَ. أَيْضاً تَثَبَّتَتِ الْمَسْكُونَةُ فَلاَ تَتَزَعْزَعُ. يَدِينُ الشُّعُوبَ بِالاِسْتِقَامَةِ». 11لِتَفْرَحِ السَّمَاوَاتُ، وَلْتَبْتَهِجِ الأَرْضُ. لِيَعِجَّ الْبَحْرُ وَمِلْؤُهُ. 12لِيَجْذَلِ الْحَقْلُ وَكُلُّ مَا فِيهِ. لِتَتَرَنَّمْ حِينَئِذٍ كُلُّ أَشْجَارِ الْوَعْرِ 13أَمَامَ الرَّبِّ لأَنَّهُ جَاءَ. جَاءَ لِيَدِينَ الأَرْضَ. يَدِينُ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ، وَالشُّعُوبَ بِأَمَانَتِهِ.

العز والجمال في مقدسه
هذا المزمور أحد مزامير تسبيح الله الملك (مزامير 95-100)، وكان يُرنَّم استجابة للدعوة الواردة في مطلع المزمور السابق: «هلم نرنم للرب، نهتف لصخرة خلاصنا». وقد ذكرت الترجمة السبعينية في مطلع مزمورنا أنه لداود. والأغلب أن داود كتبه بمناسبة نقل التابوت إلى الخيمة التي بناها له في أورشليم (كما ورد المزمور في 1أي 16: 8-33)، ورنمه آساف وإخوته، ثم أُدخلت عليه بعض التعديلات ليصبح مناسباً لكل عبادة جمهورية، على الصورة الواردة في مزمورنا. وقد استنتج بعض المفسرين أن إدخال هذه التعديلات كان بمناسبة تدشين بناء الهيكل بعد الرجوع من سبي بابل عام 516 ق م، لأن الترجمة السبعينية أوردت في مطلع مزمور 95 (أول مزامير تسبيح الله الملك) القول: «لما بُني البيت بعد السبي».
ولما كان الله هو الملك فلا بد أن يمتد ملكه على كل المسكونة، وتدخل كل الأمم دياره، في زينة مقدسة، تحمل تقدمةً، وتسبح جميع الشعوب، وتفرح السماوات، وتبتهج الأرض والبحر والحقل والأشجار، لأن «الرب قد ملك. أيضاً تثبَّتت المسكونة فلا تتزعزع. يدين الشعوب بالاستقامة».

في هذا المزمور نجد:
أولاً – تمجيد الله في كل الأرض (آيات 1-3)
ثانياً – تمجيد الله المهوب (آيات 4-6)
ثالثاً – تمجيد الله في دياره (آيات 7-9)
رابعاً – تمجيد الله الملك (آيات 10-12)

أولاً – تمجيد الله في كل الأرض
(آيات 1-3)
1 – تمجيده بترنيمة جديدة: «رنموا للرب ترنيمة جديدة. رنمي للرب يا كل الأرض» (آية 1). تدعونا مراحم الله الجديدة إلى التسبيح بترنيمة جديدة. وهي دعوة مقدسة لكل سكان الأرض ليفكروا في البركات الإلهية بصورة مستمرة، كما أمر الرب: «غنوا للرب أغنية جديدة، تسبيحهُ من أقصى الأرض. أيها المنحدرون في البحر وملؤه، والجزائر وسكانها. لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار. لتترنم سكان سالع. من رؤوس الجبال ليهتفوا. ليعطوا الرب مجداً، ويخبروا بتسبيحه في الجزائر» (إش 42: 10-12). فهو يدعو قيدار، ابن إسماعيل الثاني، ويدعو سالع أحصن حصون أدوم التي يسكنها نسل عيسو، كما يدعو سكان الجزائر البعيدة للترنيم والهتاف والتبشير بمجد الرب «خالق السموات وناشرها، باسط الأرض ونتائجها، معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحاً» (إش 42: 5). فهو صاحب الفضل في حياتهم الجسدية والروحية لأنه مانح الحياة ومجدد الصحة، الذي يعطي للمعيي قوة ولعديم القدرة يكثر شدة، المعطي خبزاً للجياع، وإليه يرجع الفضل في كل نجاح، لأنه بمهارة يديه يقود ويهدي. له نهتف مع موسى: «أرنم للرب فإنه قد تعظم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر» (خر 15: 1)، ومع دبورة وباراق: «أنا للرب أترنم. أزمر للرب إله إسرائيل» (قض 5: 3). وقد منحنا نعمة الخلاص المجانية، وأنقذنا من عبودية الخطية، وأطلقنا أحراراً. فهو يستحق أن نسبحه كل يوم جديد لأن مراحمه جديدة كل صباح. وعندما نرنم تنقشع الغيوم ونرتفع فوق عثرات الطريق ولا تعود الأشواك تدمي أقدامنا لأن أنظارنا مثبتة على إله العناية. «فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه» (عب 4: 16).
2 – تمجيده بالتبشير بخلاصه: «رنموا للرب. باركوا اسمه. بشِّروا من يوم إلى يوم بخلاصه» (آية 2). الخلاص بمعناه الواسع هو خلاص من المرض، ومن الجوع، ومن ويلات الحروب، ومن الخطية، بفضل فداء المسيح الذي بشر الملاك بمولده قائلاً: «ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الرب» (لو 2: 10، 11). فلنرنم له ونبارك اسمه ونتحدَّث عن خلاصه الكامل، هاتفين: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح» (أف 1: 3)، و«مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ في السماوات» (1بط 1: 3، 4). فلنرفع تسبيحنا: «باركي يا نفسي الرب وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» (مز 103: 1، 2). ولنبشر بفضائل الذي دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب وجعلنا أبناء وورثة لملكوته، ولننشر بشارة الإنجيل المفرحة لأنه «قوة الله للخلاص لكل من يؤمن.. لأن فيه معلن بر الله بإيمان» (رو 1: 16، 17). وهو البشارة المفرحة المعلنة من الرب الذي «يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع» (1تي 2: 4-6)، وليكن شعارنا: «إن كنت أبشر فليس لي فخر، إذ الضرورة موضوعة عليَّ. فويل لي إن كنت لا أبشر» (1كو 9: 16). ولنُطع أمر المسيح: «اذهب إلى بيتك وإلى أهلك وأخبرهم كم صنع الرب بك ورحمك» (مر 5: 19).
3 – تمجيده بالحديث عن معجزاته: «حدثوا بين الأمم بمجده، بين جميع الشعوب بعجائبه» (آية 3). لا شك أن المرنم كان يذكر معجزة الخروج، ومعجزة العودة من سبي بابل، والتي كانوا يسمونها «الخروج الثاني» وقد صاحبت الخروجين معجزات وعجائب. واليوم نشكر الله على خروج روحي هو إنقاذنا من مذلَّة خطايانا بالغفران والتقديس، وهموم متاعبنا المادية.. وكلها عجائب ومعجزات. وتحيط بنا الآن معجزات الرب اليومية، وهي مذهلة لا نستطيع أن نتمتع بها صامتين، فنتحدث عنها بين الأمم ولجميع الشعوب، ونهتف: «ما أعظم أعمالك يا رب وأعمق جداً أفكارك.. عجيبة هي أعمالك، ونفسي تعرف ذلك يقيناً.. أحمد الرب بكل قلبي. أحدِّث بجميع عجائبك» (مز 92: 5، 139: 14، 9: 1).

ثانياً – تمجيد الله المهوب
(آيات 4-6)
1 – تمجيده لأنه الخالق المهوب: «لأن الرب عظيم وحميد جداً. مهوب هو على كل الآلهة. لأن كل آلهة الشعوب أصنام، أما الرب فقد صنع السموات» (آيتا 4، 5). «الرب إلهك في وسطك إلهٌ عظيم ومخوف.. الرب إلهكم هو إله الآلهة ورب الأرباب، الإله العظيم الجبار المهيب» (تث 7: 21، 10: 17). هو الرب العظيم جداً في قدرته، والحميد جداً في محبته. عظيم وحميد في غفرانه وخلاصه وشفائه وأعماله وحكمته وجوده وسخائه «لا مثل لك يا رب. عظيم أنت وعظيم اسمك في الجبروت.. في جميع حكماء الشعوب وفي كل ممالكهم ليس مثلك. أما الرب الإله فحق. هو إله حي وملك أبدي» (إر 10: 6، 7، 10). كل أعماله صالحة، وإحساناته وافرة، ومراحمه عجيبة تستحق كل شكرنا «نحمدك يا الله نحمدك، واسمك قريب. يحدثون بعجائبك» (مز 75: 1). هو المقتدر الفعال المهوب، الذي يأمر فيصير. رأفته على خائفيه كثيرة جداً ومحبته واسعة جداً وليس لعلمه استقصاء «عند الله جلال مرهب. القدير لا تدركه. عظيم القوة والحق وكثير البر.. لذلك فلتخفه الناس» (أي 37: 22-24).
ومن المؤسف أن هناك شعوباً عبدت الأصنام الباطلة من خشب وحجارة وذهب وفضة. واليوم، نسي بعض الناس الرب، وعبدوا المال أو السلطان أو الشهوات «وإن وُجد ما يسمى آلهة، سواءٌ كان في السماء أو على الأرض، كما يوجد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون. لكن لنا إلهٌ واحد: الآب الذي منه جميع الأشياء، ونحن له. ورب واحد: يسوع المسيح، الذي به جميع الأشياء ونحن به» (1كو 8: 5، 6).
2 – تمجيده لأنه الخالق الجليل: «مجد وجلال قدامه. العز والجمال في مقدسه» (آية 6). في برية سيناء كان المجد والجلال يتقدمان شعب الرب، في عمود سحاب نهاراً ليحميهم من حرارة الشمس، وعمود نار ليلاً ليضيء لهم الطريق ويرهب وحوش البرية. «وكان عمود السحاب، إذا دخل موسى الخيمة، ينزل ويقف عند باب الخيمة، ويتكلم الرب مع موسى.. فقال: أرني مجدك. فقال: أجيز كل جودتي قدامك» (خر 33: 9، 18، 19). أما في مقدسه فكل العز «طوبى لأناس عزهم بك، طرق بيتك في قلوبهم» (مز 84: 5)، وفيه كمال الجمال الذي يغيِّر ويصيِّر كل من يتمتع به إلى صورة مجيدة، كما حدث مع موسى لما قضى في حضرته المقدسة أربعين نهاراً وأربعين ليلة. وعند نزوله من الجبل كان جلد وجهه يلمع، وهو لا يعلم (خر 34: 28، 29). وفي مقدس الرب يتجدد الإنسان وينال الخلاص «لأن الرب راضٍ عن شعبه. يجمِّل الودعاء بالخلاص» (مز 149: 4). فيردد المؤمن مع داود: «واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس: أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس في هيكله» (مز 27: 4).

ثالثاً – تمجيد الله في دياره
(آيات 7-9)
تحتوي هذه الآيات الثلاث على ثلاثة أوامر، أولها تكرر ثلاث مرات: «قدموا.. قدموا.. قدموا.. هاتوا.. اسجدوا».
1 – تمجيده بتقديم المجد له: «قدموا للرب يا قبائل الشعوب، قدموا للرب مجداً وقوة. قدموا للرب مجد اسمه» (آيتا 7، 8أ). «قدموا للرب يا أبناء الله، قدموا للرب مجداً وعزاً. قدموا للرب مجد اسمه. اسجدوا للرب في زينة مقدسة» (مز 29: 1، 2)، ولتنادِ كل أمم العالم، وأصحاب القوة والجاه، أن للرب كل المجد وكل القوة، لأنه المجيد القوي، ونحن مديونون أن نعترف علناً بهذه الحقيقة أمام كل العالم، ونمارس هذا الاعتراف عملياً بأن نخضع له ونكون آلات مقدسة في يده، مستعدين أن نحقق مقاصده.
2 – تمجيده بتقديم التقدمات له: «هاتوا تقدمة وادخلوا دياره» (آية 8ب). أمر الوحي: «لا يحضروا أمام الرب فارغين. كل واحد حسبما تعطي يده، كبركة الرب إلهك التي أعطاك»‎ (تث 16: 16، 17). والتقدمة التي ندخل بها دياره هي عبادتنا وعشورنا وتسبيحنا، وهو القائل: «من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يُقرَّب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة، لأن اسمي عظيم بين الأمم، قال رب الجنود» (ملا 1: 11). كل ما عندنا عطية منه، وهو يعطي الجميع بسخاء ولا يعيِّر، فمن يده نعطيه (1أي 29: 14)، وأمرنا المسيح: «أعطوا تُعطوا، كيلاً جيداً ملبداً مهزوزاً فائضاً يعطون في أحضانكم، لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يُكال لكم» (لو 6: 38). ومع أن الوحي يقول: «لا تجربوا الرب إلهكم»‎ (تث 6: 16)، إلا أنه يقول: «هاتوا جميع العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام، وجربوني بهذا قال رب الجنود، إن كنت لا أفتح لكم كوى السموات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسَع» (ملا 3: 10).
3 – تمجيده بتقديم السجود له: «اسجدوا للرب في زينة مقدسة. ارتعدي قدامه يا كل الأرض» (آية 9). أمر الرب موسى أن يصنع ثياباً مقدسة لهارون، للمجد والبهاء، يلبسها أثناء خدمته للرب (خر 28: 2)، فعلى شعب الرب أن يمثلوا في حضرته بلباس التقوى والقداسة، خاشعين أمامه ساجدين له، لأنه «مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد» (لو 4: 8). ولا تكن زينتنا الزينة الخارجية من ثياب وعطور «بل إنسان القلب الخفي، في العديمة الفساد، زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن» (1بط 3: 4). وبدون القداسة لن يعاين أحدٌ الرب (عب 12: 14) الذي يدير أعظم معهد تجميل، فهو يجمِّل شفاهنا بالكلمات النافعة للبنيان، ويجمِّل عيوننا بالنظر إليه، ويجمِّل أيدينا بخدمة الآخرين. فلنأت إليه بتواضع ليجملنا بالحق ويقدسنا بالبر «إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه. فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين.. تواضعاً ووداعة» (كو 3: 9، 10، 12). وفي حضرة الرب العظيم ترتعد كل الأرض خشية وعبادة لأن «الرب في هيكل قدسه. فاسكتي قدامه يا كل الأرض»‎ (حب 2: 20).

رابعاً – تمجيد الله الملك
(آيات 10-13)
1 – الملك الذي يُطمئن: «قولوا بين الأمم: الرب قد ملك. أيضاً تثبَّتت المسكونة فلا تتزعزع. يدين الشعوب بالاستقامة» (آية 10). ليس الرب ملك شعب، لكنه الملك الأعظم لخليقته كلها. ولما كان هو الملك فإنه ينصر العدل فيسود الاستقرار وتتثبت المسكونة فلا تتزعزع. الظلم يقلب الأوضاع، ويجعل الظالم والمظلوم متقلقلين في أفكارهما وأفعالهما. وكثيراً ما ييأس المظلوم فيمارس الظلم، أما الرب فيعطي الثبات والدوام للعدالة لأنه إله العدل، وهو يعلمنا: «لا تضلوا. الله لا يُشمخ عليه، فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً» (غل 6: 7). «لأنه حينما تكون أحكامك في الأرض يتعلم سكان المسكونة العدل» (إش 26: 9). فليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره، فيضعف عمل إبليس الذي يريد أن يغربل المسكونة ويزعزع استقرارها بالظلم والجشع ورعب الحروب.
2 – الملك الذي يُفرِّح: «لتفرح السموات ولتبتهج الأرض. ليعج البحر وملؤه. ليجذَل الحقل وكل ما فيه. لتترنم حينئذ كل أشجار الوعر أمام الرب لأنه جاء. جاء ليدين الأرض. يدين المسكونة بالعدل والشعوب بأمانته» (آيات 11-13). وقد تحققت هذه النبوَّة جزئياً في مولد المسيح من العذراء القديسة مريم كما تنبأ إشعياء: «يخرج قضيب من جذع يسى، وينبت غصن من أصوله.. يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المنافق بنفخة شفتيه. ويكون البر منطقة متنيه، والأمانة منطقة حقويه» (إش 11: 1-5)، وستتحقق بكمالها عند إعلان مُلكه السعيد، عندما يأتي ثانية ليدين المسكونة بالعدل، ويجازي كل واحد بحسب عمله، و«بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر»‎ (2بط 3: 13)‎.. أما الآن فإننا نسمع كل الخليقة تئن وتتوجع بسبب الخطية ونتائجها، لأنها أُخضِعت للبُطل لما لُعنت فأثمرت شوكاً وحسكاً (تك 3: 18)، وتدنَّست الأرض تحت سكانها لأنهم تعدّوا الشرائع (إش 24: 5)، وهي تتوقع إعلان حق الله ومجيء المسيح للدينونة ليعتقها من عبودية الفساد. وحتى الذين قبلوا المسيح مخلِّصاً يئنون اليوم في أنفسهم متوقِّعين ثمار تبني الله لهم، ومنها كمال فداء أجسادهم عندما يغيِّر شكل جسد تواضعهم ليكون على صورة جسد مجده (في 3: 21). ويعين الروح القدس ضعفات المؤمنين ويعلمهم كيف يصلّون حتى في أنينهم الذي يعبِّر عن آلامهم بدون كلمات مسموعة (رو 8: 20-26). وعندما يجيء المسيح ثانية تستطيع الخليقة كلها أن تطيع الأمر: «ترنمي أيتها السموات لأن الرب قد فعل. اهتفي يا أسافل الأرض. أشيدي ترنماً، الوعر وكل شجرة فيه، لأن الرب قد فدى يعقوب وفي إسرائيل تمجد» (إش 44: 23).
«رنموا للرب ترنيمة جديدة. رنمي للرب يا كل الأرض».
اَلْمَزْمُورُ السَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ
1 اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ، فَلْتَبْتَهِجِ الأَرْضُ، وَلْتَفْرَحِ الْجَزَائِرُ الْكَثِيرَةُ. 2السَّحَابُ وَالضَّبَابُ حَوْلَهُ. الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّهِ. 3قُدَّامَهُ تَذْهَبُ نَارٌ وَتُحْرِقُ أَعْدَاءهُ حَوْلَهُ. 4أَضَاءَتْ بُرُوقُهُ الْمَسْكُونَةَ. رَأَتِ الأَرْضُ وَارْتَعَدَتْ. 5ذَابَتِ الْجِبَالُ مِثْلَ الشَّمْعِ قُدَّامَ الرَّبِّ، قُدَّامَ سَيِّدِ الأَرْضِ كُلِّهَا. 6أَخْبَرَتِ السَّمَاوَاتُ بِعَدْلِهِ، وَرَأَى جَمِيعُ الشُّعُوبِ مَجْدَهُ.
7يَخْزَى كُلُّ عَابِدِي تِمْثَالٍ مَنْحُوتٍ، الْمُفْتَخِرِينَ بِالأَصْنَامِ. اسْجُدُوا لَهُ يَا جَمِيعَ الآلِهَةِ. 8سَمِعَتْ صِهْيَوْنُ فَفَرِحَتْ، وَابْتَهَجَتْ بَنَاتُ يَهُوذَا مِنْ أَجْلِ أَحْكَامِكَ يَا رَبُّ. 9لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ عَلِيٌّ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ. عَلَوْتَ جِدّاً عَلَى كُلِّ الآلِهَةِ.
10يَا مُحِبِّي الرَّبِّ، أَبْغِضُوا الشَّرَّ. هُوَ حَافِظٌ نُفُوسَ أَتْقِيَائِهِ. مِنْ يَدِ الأَشْرَارِ يُنْقِذُهُمْ. 11نُورٌ قَدْ زُرِعَ لِلصِّدِّيقِ، وَفَرَحٌ لِلْمُسْتَقِيمِي الْقَلْبِ. 12افْرَحُوا أَيُّهَا الصِّدِّيقُونَ بِالرَّبِّ، وَاحْمَدُوا ذِكْرَ قُدْسِهِ.

نور زُرع للصدِّيق
هذا أحد مزامير تسبيح الله الملك (مزامير 95-100). «الرب قد ملك» فأعلن أنه الجالس على عرش القضاء يذري بعينه كل شر (أم 20: 8)، فتفرح المسكونة لأن سيدها ووليها سيثبت حقه وعدله في كل الأرض. وما أجمل أن يرفع الأتقياء عيونهم إلى أعلى، فيشرق نوره وبهاؤه على وجوههم وتمتلئ نفوسهم فرحاً وتشدو ألسنتهم ترنماً لرب الكون الصالح العظيم المحب، الذي يستحق أن نعبده بكل القلب والنفس والفكر والقدرة، وأن نتبعه في ثقة وطاعة ورجاء، لأنه لما يملك على حياة المؤمن يبارك عائلته، وينجح عمله، ويحفظه من الشر حتى لا يتعبه. «الرب قد ملك» على عالمنا، ليمنح المظلوم عدلاً ويجازي الظالم، وينصر الحق. ولأنه الملك لا بد أن تجثو له كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، لأنه يجب أن يملك فيضع أعداءه موطئاً لقدميه (1كو 15: 25).
«الرب قد ملك» دائماً وخلَّص شعبه وأنقذهم بالخروج من مصر، وأعطى موسى شريعته على جبل سيناء. ثم جاءنا في المسيح الذي أعطانا شريعته في الموعظة على الجبل مفتتحاً إياها بالتطويبات ليفتح لنا أبواب السعادة والخلاص «لأن الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا» (يو 1: 17). ثم جاء يوم الخمسين بروح القوة والحكمة والإعلان في معرفته (أف 1: 17) معلناً حبه للبشر، فخلص في يوم واحد نحو ثلاثة آلاف نفس (أع 2: 41). وبين مجيء المسيح الأول المتواضع في مذود بيت لحم ومجيئه الثاني العظيم الآتي يجيء للمؤمن آلاف المرات: في وقت المرض ليشفيه، وفي وقت الضيق لينقذه، وفي وقت الحاجة ليسددها بحسب غناه في المجد. «الرب قد ملك. لبس الجلال. لبس الرب القدرة. ائتزر بها. أيضاً تثبتت المسكونة. لا تتزعزع. كرسيك مثبتة منذ القِدم. منذ الأزل أنت» (مز 93: 1، 2).
«الرب قد ملك» وسيأتي بقوة ومجد كثير، فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت ليجمعوا مختاريه من أقصاء السماوات إلى أقصائها (مت 24: 30، 31). فلنستعد لملاقاته فنسعد بها.

في هذا المزمور نجد:
أولاً – مظاهر مجيء الملك (آيات 1-3)
ثانياً – تأثير مجيء الملك (آيات 4-9)
ثالثاً – بركات مجيء الملك (آيات 10-12)

أولاً – مظاهر مجيء الملك
(آيات 1-3)
1 – مجيئه بالفرح: «الرب قد ملك. فلتبتهج الأرض، ولتفرح الجزائر الكثيرة» (آية 1). أسس الرب المسكونة بالحق والخير والجمال، وخلقها نقية جاهزة لسكن الإنسان فيها. ولكن الإنسان دنس أرض الله بخطيته، فقيل له: «ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. شوكاً وحسكاً تنبت لك» (تك 3: 17، 18). ولأن الله ملك المحبة لم يترك الإنسان في ضلاله، فافتقده بالشريعة على يد موسى، ولكن «الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحاً. ليس ولا واحد» (رو 3: 12). وكشفت الشريعة عجز الإنسان عن طاعة الله، ولكنها لم تساعده ليحيا حياة الطاعة. وفي ملء الزمان أرسل الله ابنه فادياً ومخلِّصاً وشفيعاً يكرز ببشارة الملكوت ويقول: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر 1: 14، 15)، فافتدى الذين تحت الناموس ليمنحهم التبني (غل 4: 4، 5)، وانتشل من فخ إبليس الذين استفاقوا بعد أن كان إبليس قد اقتنصهم لإرادته (2تي 2: 26). وفي الصليب والقيامة أعلن الملك انتصاره، ونصر معه كل من يتبعه، ومنحهم العدل والسلام فارتفع الحق، وتحقق لهم الوعد: «عوضاً عن الخجل يبتهجون بنصيبهم. لذلك يرثون في أرضهم ضعفين. بهجة أبدية تكون لهم. لأني أنا الرب محب العدل، مبغض المختلس بالظلم» (إش 61: 7، 8).
2 – مجيئه بالجلال: «السحاب والضباب حوله. العدل والحق قاعدة كرسيه» (آية 2). الله نور لا يقدر الإنسان أن يراه ويعيش (خر 33: 20)، وهو ساكن في نور لا يُدنى منه (1تي 6: 16). لكننا نرى صلاحه في أعماله، كما نرى كمال مجده في المسيح الكلمة الذي صار جسداً وحلَّ بيننا، فرأينا مجده (يو 1: 14)، والذي قيل عنه: «الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر» (يو 1: 18). ويصوِّره المرنم وقد أحاطه السحاب والضباب، فلا تراه العين البشرية، ولو أنها ترى حقه وعدله في أعماله وأحكامه. فعند خروج بني إسرائيل من مصر «كان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق» (خر 13: 21). ولما تبع فرعون الشعب «انتقل عمود السحاب من أمامهم ووقف وراءهم، فدخل بين عسكر المصريين وعسكر إسرائيل، وصار السحاب والظلام وأضاء الليل. فلم يقترب هذا إلى ذاك كل الليل» (خر 14: 19، 20). وفي حادثة التجلي أخذ المسيح بطرس ويعقوب ويوحنا إلى جبل عال منفردين «وإذا موسى وإيليا قد ظهرا يتكلمان معه. وفيما هو يتكلم إذا سحابة نيِّرة ظللتهم، وصوت من السحابة قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت. له اسمعوا» (مت 17: 1-5). وفي مجيئه ثانيةً سيأتي بكل جلاله مع السحاب، وستنظره كل عين (رؤ 1: 7).
على قاعدتي العدل والحق ثبَّت الرب عرشه في السماء، وجعل الأرض موطئاً لقدميه «فيسكن في البرية الحق، والعدل في البستان يقيم. ويكون صُنع العدل سلاماً وعمل العدل سكوناً وطمأنينة إلى الأبد. ويسكن شعبي في مسكن السلام وفي مساكن مطمئنة وفي محلات أمينة» (إش 32: 16-18).
3 – مجيئه بالنصرة: «قدامه تذهب نار، وتحرق أعداءه حوله» (آية 3). مخيفٌ هو الوقوع في يدي الله الحي، فإن إلهنا نار آكلة تحرق الأعداء والمقاومين (عب 10: 31 و12: 29). وكلمته أيضاً نار تذهب أمامه (إر 23: 29) ترعب من يرفضونها، وتفرح من يقبلونها. هكذا كانت كلمة الرب لشاول الطرسوسي نوراً عظيماً كالبرق أسقطه على الأرض (أع 22: 6، 7) فأحرقت عداوته وشكوكه، وغيَّرت حياته، وجعلت منه رسولاً كارزاً بالمسيح ينفِق وينفَق من أجل اسمه (2كو 12: 15)، قال عنه الرب: «لأن هذا لي إناء مختار، ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل. لأني سأريه كم ينبغي أن يتألم من أجل اسمي» (أع 9: 15، 16). إنها نار المحبة والدينونة معاً. هي نور الرحمة لمن يقبل العدل، ونار العدل لمن يرفض الرحمة.

ثانياً – تأثير مجيء الملك
(آيات 4-9)
1 – تأثيره في الأرض: «أضاءت بروقه المسكونة. رأت الأرض وارتعدت» (آية4). تصاحب مجيء الملك العظيم القوة، وتحيط به مظاهر الجلال الإلهي، وتنبئ عنه البروق المضيئة التي تعلن قدوم النور إلى عالم الظلام، فترتجف الأرض وترتعد خشيةً وخشوعاً أمام إله الخليقة المهوب. وقد صاحبت البروق نزول الشريعة لموسى، فيقول الوحي: «حدث في اليوم الثالث.. أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل وصوت بوق شديد جداً. فارتعد كل الشعب.. وكان الجبل كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار. وصعد دخانه كدخان الأتون، وارتجف كل الجبل جداً» (خر 19: 16-18).
2 – تأثيره في الجبال: «ذابت الجبال مثل الشمع قدام الرب، قدام سيد الأرض كلها» (آية 5). تفتخر الجبال بارتفاعها، وقد اختار الرب أحدها مكاناً لهيكله (مز 68: 16). ويتطلع الإنسان إلى القمم الشامخة المغطاة بالثلوج بإجلال، فتتحداه ليحاول التسلُّق إلى أعلاها. ولكن هذه الجبال المهيبة في وقت الزلازل والبراكين تفقد قوتها وتذوب أمام سيد الأرض كلها كما يذوب الشمع أمام النار. «ومن يحتمل يوم مجيئه؟ ومن يثبت عند ظهوره؟ لأنه مثل نار الممحِّص، ومثل أشنان القصّار» (ملا 3: 2). وسيظهر تأثيره في الجبال عند مجيء المسيح ثانيةً «لا يتباطأ الرب عن وعده.. لكنه يتأنى علينا، ولا يشاء أن يهلك أناس، بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة. ولكن سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السموات بضجيج، وتنحل العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها» (2بط 3: 9، 10).
3 – تأثيره في السماوات: «أخبرت السماوات بعدله، ورأى جميع الشعوب مجده» (آية 6). الرب في السماء عرشه، وحوله ملائكته يفعلون مرضاته وينفذون أوامره العادلة، وتحت قدميه كل الكواكب. و«ملاك الرب حالٌّ حول خائفيه وينجيهم» (مز 34: 7). وتنفذ الكواكب أوامره، فعندما وُلد المسيح أعلن النجم عن مكان ميلاده، وقاد المجوس ليسافروا إلى بيت لحم ليسجدوا له، فرأى ممثلو جميع الشعوب مجده (مت 2: 1، 2، 7). وعندما صُلب عن خطايانا أظلمت الشمس لصلبه (مت 27: 45)، ورأى جميع الشعوب في الصليب التقاء عدالة الله مع رحمته. وتعلن السماء عدالة الله في البروق والرعود، كما رأى جميع الشعوب مجده في الطوفان يوم قال لنوح: «نهاية كل بشر أتت أمامي، لأن الأرض امتلأت ظلماً منهم، فها أنا مهلكهم مع الأرض. ها أنا آتٍ بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء» (تك 6: 13، 17). حقاً «السماوات تحدِّث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. يوم إلى يوم يذيع كلاماً وليل إلى ليل يبدي علماً.. في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم» (مز 19: 1-4).
4 – تأثيره في الوثنيين: «يخزى كل عابدي تمثالٍ منحوت، المفتخرين بالأصنام. اسجدوا له يا جميع الآلهة» (آية 7). يخزى عابدو الوثن يوم يكتشفون أنهم يعبدون ما صنعته أيديهم. فهل يعبد الصانع صنعة يديه؟ ويخزون يوم يكتشفون أنها لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم ولا تعين، كما خزي سحرة فرعون وهم يقولون له عن ضربة البعوض: «هذا إصبع الله» (خر 8: 19). ولله تسجد جميع آلهة الوثنيين، فما يتعبَّد له الوثنيون من حجر ومعادن وحيوان هي خليقة الله. وما يتعبد له أهل عصرنا الحاضر من مال وجاه وصحة وعائلة هي من عطايا الله. ويخزى عابدو هذه كلها وهم يسمعون قول المسيح للسامرية: «أنتم تسجدون لما لستم تعلمون.. تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالبٌ مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا» (يو 4: 22-24).
5 – تأثيره في المؤمنين: «سمعت صهيون ففرحت، وابتهجت بنات يهوذا من أجل أحكامك يا رب، لأنك أنت يا رب عليٌّ على كل الأرض. علوت على كل الآلهة» (آيتا 8، 9). عندما يخزى الوثنيون لأن أوثانهم باطلة، وعندما يكتشفون أن الله علا على كل الأرض والسماء، يبتهج المؤمنون لأن زمن معرفة الوثنيين بالإله الحقيقي قد جاء، فقد أعلن الله لهم الحق، ولأنه «لا مثل لك يا رب. عظيم أنت وعظيم اسمك في الجبروت. من لا يخافك يا ملك الشعوب لأنه بك يليق. لأنه في جميع حكماء الشعوب وفي كل ممالكهم ليس مثلك» (إر 10: 6، 7). و«ما أجمل على الجبال قدمي المبشر، المخبر بالسلام، المبشر بالخير، المخبر بالخلاص، القائل لصهيون: قد ملك إلهك. صوت مراقبيك. يرفعون صوتهم، يترنمون معاً» (إش 52: 7، 8).. ويبشر المسيح بأخبار مفرحة عن عهد النعمة للبشر جميعاً، ويقول لكل من يقبل خلاصه وفداءه: «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفَك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26: 28)، وأنه «لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح» (رو 8: 1).

ثالثاً – بركات مجيء الملك
(آيات 10-12)
1 – قداسة أتباعه: «يا محبي الرب أبغضوا الشر» (آية 10أ). عندما يعلن الملك ملكوته يحيط به محبوه وتابعوه وحافظو وصاياه، فيحبونه أكثر لأنهم يقتربون منه أكثر، ويبغضون الشر بكل صوره ويطردونه من قلوبهم وأفكارهم وبيوتهم، ويعملون بالوصية الرسولية: «امتحنوا كل شيء. تمسكوا بالحسن. امتنعوا عن كل شِبه شر» (1تس 5: 21، 22). ولأنهم يحبون الرب القدوس يكونون نظير القدوس الذي دعاهم قديسين في كل سيرة، لأنه مكتوب: «كونوا قديسين لأني أنا قدوس» (1بط 1: 15، 16). وكما كان بنو إسرائيل في عيد الفصح يفتشون بيوتهم بمصباح ليعثروا على أي خمير ليخرجوه من بيوتهم هكذا يفعل المؤمنون، قائلين مع المرنم: «إن راعيتُ إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب» (مز 66: 18). ولأنهم يحبون الرب لا يفرحون بالإثم بل يفرحون بالحق (1كو 13: 6).
2 – سلامة أتباعه: «هو حافظ نفوس أتقيائه. من يد الأشرار ينقذهم» (آية 10ب). عندما يبغض محبو الرب الشر لا يعودون يرهبون الأشرار، لأن الرب يحفظ نفوسهم، وهو الحافظ الذي لا ينعس ولا ينام (مز 121: 4). بخوافيه يظللهم وتحت أجنحته يحتمون (مز 91: 4). باع الإخوة أخاهم يوسف فصار عبداً أُلقي في السجن ظلماً، ولكن الرب كان يجهزه ليصبح رئيس وزراء أعظم مملكة في عصره. وأخيراً قال لإخوته: «أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به خيراً» (تك 50: 20). ووقف بولس أمام محكمة نيرون، وتركه جميع المؤمنين، فقال: «في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي، بل الجميع تركوني. لا يُحسب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقواني.. وسينقذني من كل عمل رديء ويخلصني لملكوته السماوي» (2تي 4: 16-18). ولا زال المسيح الراعي الصالح يرعى قطيعه ويحفظه، فلا يسرقه لص في الليل ولا يفترسه ذئب في النهار، ويقول لهم ما قاله لبطرس: «الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك» (لو 22: 31، 32). واجتاز بطرس غربلة الشيطان بسلام. ومع أنه أنكر المسيح ثلاث مرات إلا أن المسيح حفظ عليه إيمانه، فعاد يعترف بمحبته له ثلاث مرات (يو 21: 15-17). ولا زال المسيح يؤكد لنا: «لا أهملك ولا أتركك» (عب 13: 5).
3 – استنارة أتباعه: «نور قد زُرع للصديق» (آية 11أ). الصديق هو البار، وهو صاحب الموقف السليم من الله. وهو ليس صالحاً في ذاته، لكنه صدِّيق بار لأن المسيح برَّره بعد أن صلى: «اللهم، ارحمني أنا الخاطي» فنزل إلى بيته مبرراً (لو 18: 13، 14)، وصار وجهه يلمع من رضى الرب عليه «لأنكم كنتم قبلاً ظلمة، وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور» (أف 5: 8). الله نور وليس فيه ظلمة البتة، وبنوره نرى نوراً (مز 36: 9) فتستنير عيون أذهاننا (أف 1: 18). ونور الصديق قد زُرع، كما يسبق الفجر انبلاج نور النهار، فيصير ظاهراً معلناً لا يمكن إخفاؤه. «نور أشرق في الظلمة للمستقيمين» (مز 112: 4).
4 – حمد أتباعه: «فرح للمستقيمي القلب. افرحوا أيها الصديقون بالرب. احمدوا ذكر قدسه» (آيتا 11ب، 12). يحق للصديقين، مستقيمي القلوب، أصحاب الموقف السليم من الله، أن يفرحوا بالرب في كل حين (في 4: 4)، لأن فرح الرب قوتهم (نح 8: 10)، ولا ينزعه أحدٌ منهم (يو 16: 22). ويعبِّرون عن هذا الفرح بالترتيل في بيت الرب، فيحمدون ذكر قدسه ويقولون: «افتحوا لي أبواب البر، أدخل فيها وأحمد الرب. هذا الباب للرب. الصديقون يدخلون فيه. أحمدك لأنك استجبت لي وصرت لي خلاصاً» (مز 118: 19-21). «عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء. عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين. من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك، لأنك وحدك قدوس ، لأن جميع الأمم سيأتون ويسجدون أمامك، لأن أحكامك قد أُظهرت» (رؤ 15: 3، 4).

اَلْمَزْمُورُ الثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ
1 رَنِّمُوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً لأَنَّهُ صَنَعَ عَجَائِبَ. خَلَّصَتْهُ يَمِينُهُ وَذِرَاعُ قُدْسِهِ. 2أَعْلَنَ الرَّبُّ خَلاَصَهُ. لِعُيُونِ الأُمَمِ كَشَفَ بِرَّهُ. 3ذَكَرَ رَحْمَتَهُ وَأَمَانَتَهُ لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ. رَأَتْ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ خَلاَصَ إِلَهِنَا.
4اِهْتِفِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ الأَرْضِ. اهْتِفُوا وَرَنِّمُوا وَغَنُّوا. 5رَنِّمُوا لِلرَّبِّ بِعُودٍ. بِعُودٍ وَصَوْتِ نَشِيدٍ. 6بِالأَبْوَاقِ وَصَوْتِ الصُّورِ اهْتِفُوا قُدَّامَ الْمَلِكِ الرَّبِّ. 7لِيَعِجَّ الْبَحْرُ وَمِلْؤُهُ، الْمَسْكُونَةُ وَالسَّاكِنُونَ فِيهَا. 8الأَنْهَارُ لِتُصَفِّقْ بِالأَيَادِي، الْجِبَالُ لِتُرَنِّمْ مَعاً 9أَمَامَ الرَّبِّ، لأَنَّهُ جَاءَ لِيَدِينَ الأَرْضَ. يَدِينُ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ، وَالشُّعُوبَ بِالاِسْتِقَامَةِ.

تعظم نفسي الرب
هذا هو المزمور الوحيد في كل سفر المزامير الذي يحمل عنوانه كلمة «مزمور» بدون إضافة شيء بعدها. وهو أحد المزامير السبعة التي تدعونا لنسبح الرب الملك (هي 93 و95-100) لأنه جاء بالخلاص لشعبه، ودعاهم دعوة مقدسة، وأخرجهم من العالم الشرير ليتبعوه. وهو يدعو الطبيعة بأنهارها وبحارها وجبالها وسكانها لتسبِّح الرب. والأغلب أن المرنم غنى كلمات هذا المزمور بمناسبة رجوع بني إسرائيل من السبي البابلي. وعلى الكنيسة المفدية أن تترنم به اليوم، وهي تتأمل سلطان الرب الملك على أرضنا، فيصنع العجائب ويخلص شعبه. فلنرنم كلمات هذا المزمور حتى لو أحاطت بنا المشاكل والمتاعب، وخُيِّل لنا أن مملكة الله مهزومة وأن مملكة إبليس منتصرة. حدثني أحد القادة المسيحيين عن معجزة أجراها الله في بلده استجابة لصلوات الكنيسة، ثم قال: «أحياناً نعطي الشيطان أكثر من حقه ونعلي من شأنه فنقول إنه ضايق وعطل وعاكس، بينما الحقيقة هي أن الرب هو الملك المنتصر، وأن كل الأمور في يده، وهو الذي يحرك المسكونة وسكانها بكلمة منه. ومهما بلغت قوة الشيطان فهو مجرد عامل مُرغَم على خدمة مملكة الله». وقد صدق هذا القائد الحكيم.
يستحق الله الملك أن يستسلم المؤمنون له باختيارهم، وأن يخدموه بكل قلوبهم، ويقدموا له نفوسهم بكامل رغبتهم (رو 12: 1)، لأنه ملكهم، والذي يمسك دفة سفينة العالم ويقودها لصالح الذين هم له. فلنجدد عهودنا دائماً معه ليكشف لنا قوة محبته وعنايته التي تسبي قلوبنا.
قال المفسر آدم كلارك إن هذا المزمور نبوة عن مجيء المسيح الملك ليخلِّص العالم من خطاياه، وإن ما تنبأ به صاحب مزمورنا أعلنت العذراء تحقيقه في تسبيحتها بعد أن بشرها الملاك بولادة المسيح (لو 1: 46-54). وإليك بعض كلمات المزمور، وتسبيح العذراء استجابة للبشارة:
المرنم: رنموا للرب ترنيمة جديدة.
العذراء: تعظم نفسي الرب.
المرنم: لأنه صانع عجائب.
العذراء: لأن القدير صنع بي عظائم.
المرنم: خلَّصته يمينه وذراع قُدسه.
العذراء: صنع قوة بذراعه. شتَّت المستكبرين بفكر قلوبهم.
المرنم: أعلن الرب خلاصه. لعيون الأمم كشف بره.
العذراء: رحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه.
المرنم: ذكر رحمته وأمانته لبيت إسرائيل.
العذراء: عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة.
ولا بد أن كلمات مزمورنا كانت ماثلة في ذهن العذراء وهي ترنم تسبيحتها بمجيء المخلص الذي يصنع خلاصاً لشعبه أعظم من خلاص الخروج من مصر، وأعظم من العودة من السبي البابلي، لأن خلاص المسيح خلاص شامل لكل العالم، كما أنه خلاص أبدي من الخطية وسلطانها وأجرتها.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – لماذا نسبح الرب؟ (آيات 1-3)
ثانياً – كيف نسبح الرب؟ (آيات 4-6)
ثالثاً – مَن يسبح الرب؟ (آيات 7-9)

أولاً- لماذا نسبح الرب؟
(آيات 1-3)
1 – نسبحه لأن أعماله عجيبة: «رنموا للرب ترنيمة جديدة لأنه صانع عجائب. خلصته يمينه وذراع قدسه» (آية 1). عجائب الله ملموسة في حياة كل مؤمن، وهي الدافع على كل تسبيح. يغيِّر الله قلب الخاطئ الحجري ويعطيه قلباً لحمياً بالولادة الروحية الثانية من الله، بحسب قوله الكريم: «وأجعل في داخلكم روحاً جديداً، وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم، لكي يسلكوا في فرائضي» (حز 11: 19، 20). فامتلأ فم المؤمن بتسبيحة جديدة لله. كانت أعظم عجائب الله مع بني إسرائيل هي معجزة الخروج من عبودية فرعون، بعد أن أهلك الملاك المهلك كل أبكار مصر، دون أن يمس أبكار بني إسرائيل الذين أطاعوا أمر الرب ورشوا الدم على قائمتي أبواب بيوتهم وعلى عتباتها العليا (خر 12: 23)، فاضطر فرعون أن يأمرهم بمغادرة البلاد. ولما ندم على خروجهم، تبعهم بجيشه ليعيدهم إلى عبوديته، فشق الله أمامهم البحر الأحمر فعبروه، بينما غرق عدوهم فيه (خر 14: 29، 30). وعندما وصلوا إلى حدود أرض الميعاد شق الله لهم نهر الأردن فعبروه سالمين (يش 3: 17). وأجرى الله مع بني إسرائيل معجزة أخرى، يسمونها «الخروج الثاني» هي إعادتهم من السبي البابلي الذي استمر سبعين سنة، فقد كلف الرب كورش الفارسي أن يسهل لهم أمر عودتهم لبلادهم وإعادة بناء هيكلهم بعد نهاية السنوات السبعين.. أجرى الرب كل هذه العجائب، وخلص شعبه من كل ضيقاتهم دون حاجة لمعونة من بشر. «قد شمَّر الرب عن ذراع قدسه أمام عيون كل الأمم، فترى كل أطراف الأرض خلاص إلهنا» (إش 52: 10). «فخلصت ذراعه لنفسه، وبرُّه هو عضده» (إش 59: 16) وبين الخروجين العظيمين استمر حب الله لشعبه يصنع العجائب.
واليوم نرى أكثر بكثير مما رآه بنو إسرائيل، لأن المسيح هو «عمانوئيل» ومعناه «الله معنا» (مت 1: 21-23)، فقد أعلن الوحي لنا أنه «عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد» (1تي 3: 16). وعندما يسألنا المحيطون بنا: كيف يتجسد الله؟ نجيب: أليس هو القادر على كل شيء؟ أليس هو صاحب السلطان أن يعلن نفسه للبشر بالطريقة التي يريدها؟ فكيف لا يتجسد؟ إنه محبة، فانظروا محبة من تنازل إلينا ليتمم خلاصنا. إنه الآب السماوي الذي منه يتعلم كل أب وكل أم أرضيين كيف يحبون أولادهم غريزياً وتطوعياً. لاحظ تضحياتهما لأجل أولادهما خصوصاً في مرحلة الصغر، وفي وقت المرض. فلماذا يبدو غريباً أن يتنازل الله إلينا ويهتم بنا ليخلصنا؟ لقد أظهر صليب المسيح أعظم عجائب الله وخلاصه المقدس، لأن لنا فيه الفداء. كان المسيح قادراً لو أراد أن ينزل من على الصليب، لكن المعجزة الكبرى هي أنه بقي على الصليب ليخلص نفوسنا بذراع قدسه، فهزم الشيطان، وأمات الموت بموته الفدائي (كو 2: 15 وعب 2: 14). ثم قام في اليوم الثالث من بين الأموات. وقال الرسول بطرس لشيوخ اليهود عن المسيح: «بأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه، الذي أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت، إذ لم يكن ممكناً أن الموت يمسكه» (أع 2: 23، 24).
وعندما نتأمل حياة المسيح على أرضنا نرى خلاصه العجيب وأعمال رحمته، فذات مرة توقف فجأة أثناء سيره مع الجمع لأنه مريضة بنزيف دم لمست طرف ثوبه لتنال الشفاء، فنالته في الحال. وكانت شريعة موسى تقول إن هذه المرأة نجسة طقسياً، وإن من تلمسه يتنجس. ولم يكتفِ المسيح بأن سمح لها أن تلمسه، وأن يشفي مرضها الجسدي بالقوة التي خرجت منه، ولكنه منحها حياة روحية جديدة عندما قال لها: «يا ابنة، إيمانك قد شفاك. اذهبي بسلام، وكوني صحيحة من دائك» فضمَّد جراحها، وداوى كسور نفسها، وقدم لها خلاصه العظيم (مر 5: 25-34). ولا زلنا اليوم نرى معجزات محبته واضحة بيننا، فعندما كان على أرضنا شفى المرضى، والآن قد رفعه الله هو حي يجري المعجزات نفسها. فلنرنم للرب ترنيمة جديدة لأنه صنع عجائب ولا يزال يصنع.
2 – نسبحه لأن أعماله معلنة: «أعلن الرب خلاصه. لعيون الأمم كشف بره» (آية 2). قال الرب: «لأنه قريب مجيء خلاصي واستعلان برّي» (إش 56: 1) فخلاص الله وبره (الذي هو عدالته) يسيران معاً. وعدالة الله هي أمانته لوعوده، وعمله على تنفيذ تلك الوعود. أعلن الله خلاصه بمجيء المسيح إلى أرضنا وتتميم فدائنا، ثم بانسكاب روحه القدوس على المؤمنين به لينالوا قوة فيشهدون له. وهكذا حقق وعوده التي أعلنها بفم أنبيائه القديسين. أعلن الله بره ورحمته في الصليب الذي عليه حمل إثمنا، وفيه استوفى أجرة خطايانا، وفيه «الرحمة والحق التقيا. البر والسلام تلاثما» (مز 85: 10). أعلن الرب خلاصه وكشف بره لعيون الأمم الذين لا يملكون كتاباً منزلاً، وهم أصحاب بصيرة دينية مغلقة وعيون روحية عمياء، لأن إبليس، إله هذا الدهر، أعمى أذهانهم حتى لا يتبعوا الحق. لهؤلاء العميان أعلن الرب خلاصه وكشف بره ليفتح بصيرتهم ويقودهم إلى سبل البر. وليعلن حتى لأشد الناس قساوة أنه إله المحبة، كما فعل مع شاول الطرسوسي مضطهِد الكنيسة، ففتح بصيرته وأزال القشور عنها، وقال عنه: «لأن هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل، لأني سأريه كم ينبغي أن يتألم من أجل اسمي» (أع 9: 15، 16). فتغيَّر من «الطرسوسي» إلى «بولس الرسول» الذي قال: «لستُ أحتسب لشيء، ولا نفسي ثمينة عندي، حتى أتمم بفرح سعيي، والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع، لأشهد ببشارة نعمة الله» (أع 20: 24). لقد فتح المسيح عيني المولود أعمى، كما فتح عيون الذين أعمتهم الخطية. ذات يوم قاد البعضُ الأصدقاء الأعمى للمسيح طالبين أن يفتح عينيه، فوضع يديه على عينيه وسأله: هل أبصر شيئاً؟ فأجاب أنه يرى الناس كأشجار يمشون، ولكنه لم يكن متحمساً ليحصل على بركة أكبر. ومع ذلك فقد وضع المسيح يديه مرة أخرى على عينيه، ووهبه البصر الكامل، فكشف بهذا الشفاء بر الله ومحبته وقدرته لذلك الأعمى ولنا (مر 8: 22-26). وفي هذه المعجزة وغيرها نرى إله الخلاص الذي لا يعطي نصف البركة فقط، بل يعطي البركة كلها. أعلن الرب خلاصه وكشف بره، ولا يوجد ما يعطل عمل نعمته أو يوقف فعالية ذراع قدسه.‍‍‍
3 – نسبحه لأن أعماله بحسب عهده: «ذكر رحمته وأمانته لبيت إسرائيل» (آية 3أ). لا يمكن أن ينسى الله العهد الذي دخل فيه مع شعبه، وهو القائل: «قطعتُ عهداً مع مختاري. حلفت لداود عبدي» (مز 89: 3)، وقد قيل له: «تصنع الأمانة ليعقوب، والرأفة لإبراهيم، اللتين حلفت لآبائنا منذ أيام القِدم» (مي 7: 20). ولكن شعب الرب قد يقول في يأسه: «قد تركني الرب وسيدي نسيني» فيجيبهم: «هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساك. هوذا على كفيَّ نقشتك. أسوارك أمامي دائماً» (إش 49: 14-16).
هذا الإله المخلص البار الذي دخل مع شعبه القديم في عهد، دخل مع كل الذين يقبلون المسيح مخلصاً في عهد جديد، قال عنه: «خذوا كلوا هذا هو جسدي». وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: «اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26: 26، 27). وهو يدعونا لنكون أمناء في هذا العهد معه كما أنه أمين دائماً في عهده معنا، ويذكر رحمته وأمانته.
4 – نسبحه لان أعماله منظورة: «رأت كل أقاصي الأرض خلاص إلهنا» (آية 3ب). خلاص الله عظيم ومرتفع يراه القريب والبعيد، لأنه يكشفه لعيون الأمم (آية 2). «يرى ذلك الودعاء فيفرحون، وتحيا قلوبكم يا طالبي الله» (مز 69: 32). يقول المؤرخ المقدس: «عندما سمع جميع ملوك الأموريين الذين في عبر الأردن غرباً، وجميع ملوك الكنعانيين الذين على البحر (شرقاً) أن الرب قد يبَّس مياه الأردن.. ذابت قلوبهم، ولم تبق فيهم روح بعد» (يش 5: 1). إن أعمال الله الخلاصية واضحة للمؤمنين الذين يختبرونها، كما أنها واضحة لكل المحيطين بهم. عندما زرع إسحاق بن إبراهيم حصد مئة ضعف وباركه الرب، فتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيماً جداً، وأرحب الرب له، وأثمر في الأرض. فجاء ملك البلاد وقائد الجيش وقالا له: «رأينا أن الرب كان معك، فقلنا: ليكن بيننا حلف، ونقطع معك عهداً» (تك 26: 12-33). وعندما التقى المسيح بالسامرية الخاطئة خلَّص نفسها من خطاياها، فرجعت تشهد لأهل بلدها عنه، فأتوا إليه وسمعوا منه وقبلوا خلاصه، ثم قالوا لها: «لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن، لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم» (يو 4: 42)

ثانياً: كيف نسبح الرب؟
(آيات 4-6)
1 – نسبِّحه بفرح: «اهتفي للرب يا كل الأرض. اهتفوا ورنموا وغنوا» (آية 4). يطلب المرنم من كل الخلائق أن تهتف لخالقها «اهتفي يا أسافل الأرض. أشيدي أيتها الجبال ترنماً، الوعر وكل شجرة فيه، لأن الرب فدى يعقوب» (إش 44: 23). عندما كان ملك يعتلي العرش كان الشعب يحتفل به بالهتاف، كما هتفوا للملك شاول (1صم 10: 24).. وبالغناء تصاحبه الموسيقى، كما احتفلوا بالملك سليمان (1مل 1: 39).. وبالتصفيق، كما صفقوا للملك يوآش (2مل 11: 12). والهتاف هو صيحات إنسان فرحان، والغناء هو كلمات ملحَّنة ومنغَّمة بصوت منفرد أو من جوقة، لأن من فضلة القلب يتكلم الفم. «طوبى للشعب العارفين الهتاف.. باسمك يبتهجون اليوم كله» (مز 89: 15، 16).. وعندما رد الرب سبي شعبه قال النبي لهم: «أشيدي، ترنمي معاً يا خرب أورشليم، لأن الرب قد عزى شعبه، فدى أورشليم» (إش 52: 9).
2 – نسبحه بمصاحبة الموسيقى: «رنموا للرب بعود وصوت نشيد. بالأبواق وصوت الصور» (آيتا 5، 6أ). يطلب المرنم أن يكون الترنيم للرب بعود، وهو آلة وترية تكون أحياناً ذات عشرة أوتار، ويطلب أن تنطلق الحناجر الفرحانة بصوت النشيد للرب الملك، الذي يطمئننا بقوله: «أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20)، فيقول: «جعلت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع» (مز 16: 8).
أما الصور فهو البوق وكان قرن خروف أو ثور، عالي الصوت يسمعه الجميع. وكانوا يستخدمونه لدعوة الشعب للعبادة في بيت الرب، كما أمر الرب موسى: «اصنع لك بوقين من فضة. مسحولين تعملهما، فيكونان لك لمناداة الجماعة ولارتحال المحلات. إذا ضربوا بهما يجتمع إليك كل الجماعة إلى باب خيمة الاجتماع» (عد 10: 2، 3).. كما كانوا يستخدمون البوق لدعوة الشعب للدفاع في وقت الحرب وللابتهاج بالانتصار: «إذا ذهبتم إلى حرب في أرضكم على عدو يضربكم، تهتفون بالأبواق فتُذكرون أمام الرب إلهكم وتُخلَّصون من أعدائكم» (عد 10: 9).. وكان صوت البوق يدعو الشعب للاحتفال بالعيد، فيقول الرب: «في يوم فرحكم وفي أعيادكم ورؤوس شهوركم تضربون بالأبواق» (عد 10: 10).. وكان صوت البوق يعلن سنة اليوبيل، فيقول الرب: «وتعُدّ لك سبعة سبوت سنين، سبع مرات، فتكون لك أيام السبعة السبوت السنوية تسعاً وأربعين سنة. ثم تعبِّر بوق الهتاف في الشهر السابع في عاشر الشهر في يوم الكفارة، تعبِّرون البوق في جميع أرضكم» (لا 25: 8، 9). وسنة اليوبيل هي سنة تحرير العبيد، وسنة عودة الأرض المرهونة إلى أصحابها. فلنحتفل وندعو بعضنا بعضاً للتمتع بالحرية التي يمنحها المسيح لنا «فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو 8: 36).
3 – نسبحه بالاحترام: «اهتفوا قدام الملك الرب» (آية 6ب). يعلم المؤمنون عظمة الشرف الممنوح لهم في أن الرب هو ملكهم، وأنهم أعضاء في ملكوت محبته، وأن لهم حق المثول في محضره، فالرب هو الملك الذي يجب أن يملك على حياتنا، وهو الإله الذي اشترانا لنفسه من كل قبيلة وشعب وأمة ولسان لنكون له. والهتاف أمام الملك يعلن الحب والطاعة لله والخضوع لسلطانه، كما استقبلت الجموع المسيح في دخوله الانتصاري إلى أورشليم هاتفةً: «أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب. أوصنا في الأعالي» (مت 21: 9).

ثالثاً: من يسبح الرب
(آيات 7-9)
1 – البحار والأنهار: «ليعج البحر وملؤه.. الأنهار لتصفق بالأيادي» (آيتا 7أ و8أ). البحار والأنهار خليقة الله، فيدعوها المرنم ليصفقوا بالأيادي، وكأن صوت المياه وهي تضرب الشاطئ تصفيق لمن أوجدها ووضع لها حداً لا تتعداه (مز 104: 9). وترمز البحار والأنهار للعدو، أو القوة المضادة للرب، ولو أنها خليقته. ولا بد أن المخلوق يتمم إرادة الخالق طوعاً أو كرهاً، فإن «غضب الإنسان يحمدك يا رب» (مز 76: 10). وعلى ذلك فإنه مهما عج البحر فإنه في النهاية يطيع الله خالقه. لقد عج البحر الأحمر ولكنه صفَّق وبنو إسرائيل يعبرونه، كما صفق نهر الأردن وهو ينشق ليعبروه: «الآن هكذا يقول الرب: لا تخف لأني فديتك، دعوتك باسمك، أنت لي. إذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيت في النار فلا تُلذع واللهيب لا يحرقك. لأني أنا الرب إلهك قدوس إسرائيل مخلصك» (إش 43: 1-3). يقول المرنم: «رفعت الأنهار صوتها. ترفع الأنهار عجيجها» (مز 93: 3). لكن «عندما يأتي العدو كنهر فنفخة الرب تدفعه» (إش 59: 19).
2 – الأرض والبشر: »المسكونة والساكنون فيها« (آية 7ب). المسكونة وساكنوها مدعوون ليسبحوا الرب الذي خلقهم ويعتني بهم. وينقسم ساكنو المسكونة إلى قسمين: أبناء للرب وشحاذين منه، وكلاهما يأخذ من الرب الذي يفتح يديه فيشبعون خيراً (مز 104: 28). ولكن ما أعظم الفرق بين الذين يأخذون من الله فيشبعون لأنه أنعم عليهم بالتبني حسب القول: «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤنون باسمه» (يو 1: 12)، وبين الشحاذين الذين يأكلون من الفتات الساقط من مائدة البنين (لو 16: 21). فهل أخذت البنوية من الله؟ أم هل أنت مجرد شحاذ تستجدي الخبز منه؟
3 – الجبال: «الجبال لترنم معاً أمام الرب إلهنا لأنه جاء ليدين الأرض. يدين المسكونة بالعدل والشعوب بالاستقامة» (آيتا 8ب، 9). يدعو المرنم الجبال، وهي أعلى ما في الأرض لتسبح الرب، لأنه عادل وقوي، ولا ضعف فيه. وكل مظلوم يفرح لأن الرب يدين البشر فيعطي كل ذي حق حقه. «لأنكم بفرح تخرجون وبسلام تُحضَرون. الجبال والآكام تشيد أمامكم ترنماً، وكل شجر الحقل تصفق بالأيادي.. ويكون للرب اسماً علامة أبدية لا تنقطع» (إش 55: 12، 13). وعندما نسمع صوت المسيح الذي سيدين العالم يقول «أنا آتي سريعاً» نهتف: «آمين. تعال أيها الرب يسوع» (رؤ 22: 20).
* * *
عندما نتأمل في تمجيد الرب الملك دعونا نجاوب على ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: قال المرنم: «أعلن الرب خلاصه. لعيون الأمم كشف برَّه». فهل اختبرت خلاصه الذي صنعه بحبه العظيم في فدائه لك على الصليب؟ وهل نلت غفران خطاياك وتكفيره عنك؟
السؤال الثاني: قال المرنم: «اهتفوا ورنموا وغنوا». فهل أنت فرحان بالرب؟.. اختبر كثيرون خلاص الرب، لكن وجوه بعضهم عابسة لا تُظهر فرح خلاصهم. فليظهر فرح خلاصنا لا بابتسامة خارجية لكن من عمق قلوبنا، فإن فرح الرب هو قوتنا.
السؤال الثالث: قال المرنم: «رأت كل أقاصي الأرض خلاص إلهنا». فهل نعلن خلاصه لكل الأرض؟ وهل نشهد لإيماننا؟ يكتفي كثيرون من المؤمنين بحياة الأنس الدافئ مع إخوتهم المؤمنين، ولا ينتبهون لصرخة العالم الذي يستنجد بهم قائلاً: اعبروا إلينا وأعينونا. فلنعلن خلاص إلهنا ليراه الجميع وليسمع به الجميع.

اَلْمَزْمُورُ التَّاسِعُ وَالتِّسْعُونَ
1 اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ، تَرْتَعِدُ الشُّعُوبُ. هُوَ جَالِسٌ عَلَى الْكَرُوبِيمِ، تَتَزَلْزَلُ الأَرْضُ. 2الرَّبُّ عَظِيمٌ فِي صِهْيَوْنَ، وَعَالٍ هُوَ عَلَى كُلِّ الشُّعُوبِ. 3يَحْمَدُونَ اسْمَكَ الْعَظِيمَ وَالْمَهُوبَ. قُدُّوسٌ هُوَ. 4وَعِزُّ الْمَلِكِ أَنْ يُحِبَّ الْحَقَّ. أَنْتَ ثَبَّتَّ الاِسْتِقَامَةَ. أَنْتَ أَجْرَيْتَ حَقّاً وَعَدْلاً فِي يَعْقُوبَ.
5عَلُّوا الرَّبَّ إِلَهَنَا، وَاسْجُدُوا عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ. قُدُّوسٌ هُوَ. 6مُوسَى وَهَارُونُ بَيْنَ كَهَنَتِهِ، وَصَمُوئِيلُ بَيْنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِاسْمِهِ. دَعُوا الرَّبَّ وَهُوَ اسْتَجَابَ لَهُمْ. 7بِعَمُودِ السَّحَابِ كَلَّمَهُمْ. حَفِظُوا شَهَادَاتِهِ وَالْفَرِيضَةَ الَّتِي أَعْطَاهُمْ. 8أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُنَا، أَنْتَ اسْتَجَبْتَ لَهُمْ. إِلَهاً غَفُوراً كُنْتَ لَهُمْ، وَمُنْتَقِماً عَلَى أَفْعَالِهِمْ. 9عَلُّوا الرَّبَّ إِلَهَنَا، وَاسْجُدُوا فِي جَبَلِ قُدْسِهِ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَنَا قُدُّوسٌ.

قدوسٌ هو
هذا ثالث المزامير التي تبدأ بالقول «الرب قد ملك» (وهي مزامير 93، 97، 99)، وهو آخرها، ويبدأ بالتسبيح لله الملك القدوس، تتكرر فكرة قداسة الرب فيه ثلاث مرات، فيقول في آيتي 3، 5 «قدوس هو» وفي آية 9 «إلهنا قدوس». وهو يدعو كل الشعوب ليضمّوا أصواتهم مع شعب الرب في إعلان قداسته الكاملة، ويهتفوا له مع ملائكة السرافيم: «قدوس قدوس قدوس رب الجنود. مجده ملء كل الأرض» (إش 6: 3). ولا يمكن للخاطئ أن يقف في محضر الله القدوس إلا إن أخذ من عنده ثوب الخلاص ورداء البر ولباس التقوى. وقد روى لنا المسيح مثل عُرس ابن الملك (مت 22: 1-14)، فقال إن الملك دعا شعبه لوليمة عرس ابنه، وجهَّز لمدعوّيه كل ما يمكن أن يحلموا به، ووزَّع عليهم ملابس ملكية، ثم جال بين صفوف ضيوفه يرحِّب بهم، فوجد أحد المدعوين لا يلبس الملابس الملكية، لأنه كان يظن أن ثيابه تصلح لحضور الوليمة، فأمر الملك بطرده خارج القصر. وهذا يعني أننا لا يمكن أن نمثل في محضر الرب إلا إن احتمينا في ستر كفارته الكريمة لنكون مقبولين في محضره. حاول أبوانا الأولان أن يسترا نفسيهما بأوراق الشجر ففشلت محاولاتهما، حتى ستَرهما الرب بالفداء وبأقمصةٍ من جلد. إن وقوف الخاطئ في محضر الرب مخيف، وليس له من حماية إلا حماية كفارة المسيح الذي قال: «ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلِّص ما قد هلك.. ابن الإنسان لم يأت ليُخدَم بل ليَخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (لو 19: 10 ومت 20: 28).
يركز هذا المزمور على القداسة ويذكر ثلاث شخصيات، هي موسى صاحب الشريعة، وهارون الكاهن، وصموئيل النبي والقاضي، ويقول إنهم دعوا الرب فاستجاب لهم، ليس بسبب كمالهم، لكن لأنه متَّعهم بالغفران والنجاة بواسطة حمل الفصح الذي حمى أبكار بني إسرائيل من الموت، وبواسطة الذبائح الكفارية التي أمر الرب بها موسى، وكلها تشير إلى كفارة المسيح على الصليب. وقد قاد هؤلاء الثلاثة المؤمنين في طريق الرب، وصلوا لأجلهم، وعاشوا حياة مقدسة لأنهم حصلوا على القبول الإلهي، بالبر الذي من الله بالإيمان.
في هذا المزمور يقول المرنم إن الرب أرسى قواعد مُلكه في الأرض كلها، وفي هيكله المقدس، وهو يحكم بالعدل والحق والاستقامة، ولذلك يجب أن يسبِّحه الجميع.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الرب يملك على المسكونة (آيات 1-3)
ثانياً – الرب يملك بالبر (آيتا 4، 5)
ثالثاً – مظاهر مُلك الرب (آيات 6-9)

أولاً – الرب يملك على المسكونة
(آيات 1-3)
في هذه الآيات الثلاث يقول المرنم إن الرب يملك، فترتعد المسكونة وسكانها، ويحمد المؤمنون اسمه المهوب.
1- ترتعد أمامه المسكونة وسكانها: «الرب قد ملك. ترتعد الشعوب. هو جالس على الكروبيم. تتزلزل الأرض» (آية 1). عندما يملك الرب ترتعد الشعوب وتتزلزل الأرض، إجلالاً وتوقيراً واحتراماً للخالق الذي أوجدها. قال المرنم للرب: «صوت رعدك في الزوبعة. البروق أضاءت المسكونة. ارتعدت ورجفت الأرض» (مز 77: 18). وقال النبي إشعياء للرب: «ليتك تشقُّ السماوات وتنزل! من حضرتك تتزلزل الجبال. كما تُشعل النار الهشيم، وتجعل النارُ المياه تغلي، لتُعرِّف أعداءك اسمك، لترتعب الأمم من حضرتك» (إش 64: 1، 2). عندما تجلى الرب بعظمته للنبي إشعياء امتلأ الهيكل دخاناً، واهتزَّت أساسات أعتابه، فصرخ النبي: «ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد رأتا الملك ربَّ الجنود» (إش 6: 5). ترتعد المسكونة وسكانها لأنهم يشعرون بعدم استحقاقهم للمثول في محضر الرب، ويدركون أنهم هالكون بسبب خطاياهم، ولا سبيل لهم للنجاة إلا بالمراحم الإلهية.
ويقول المرنم إن الرب «جالس على الكروبيم». والكروبيم (في العِبرية) جمع كلمة «كروب»، والمثنى كروبان، وهم قسم مختار من الملائكة المقرَّبين إلى الله أكثر من سواهم، ويُعرَفون بملائكة الحضرة، وأطلق عليهم علماء اليهود »ملائكة القُدرة« وقد أقامهم الله حُرّاساً لأبواب جنة عدن عندما طرد آدم وحواء منها (تك 3: 24). وطلب الله من موسى أن يصنع كروبَيْن من ذهب يبسطان أجنحتهما على تابوت عهد الرب في قدس الأقداس (خر 25: 18، 19). والقول «جالس على الكروبيم» تعبير رمزي لأن الذي يجلس هو الذي أكمل عمله. وهو تعبير يعني أن الملائكة بكل عظمتهم يخدمون الله ويؤدّون له السجود، ويقومون بكل ما يكلفهم به. صلى حزقيا أمام الرب وقال: «أيها الرب، إلهُ إسرائيل، الجالسُ فوق الكروبيم، أنت هو الإله وحدك لكل ممالك الأرض. أنت صنعت السماء والأرض» (2مل 19: 15). وقال المرنم لله: «يا راعي إسرائيل اصْغَ.. يا جالساً على الكروبيم أَشرِق» (مز 80: 1). وفي تشبيه شعري يقول داود إن الرب ركب على كروب وطار (مز 18: 10). ورأى النبي حزقيال الكروبيم تحت عرش الله (حز 11: 22). ومن فرط قوة الله الذي يخدمه الكروبيم تتزلزل الثوابت، فقد تزعزع المكان الذي اجتمع فيه التلاميذ وصلّوا (أع 4: 31) وانفتحت أبواب سجن فيلبي بعد ترنيم وصلوات بولس وسيلا (أع 16: 26) وارتجفت القلوب القاسية وهي ترى عظمة عمل الله (أع 16: 29). حقاً «كل وطاءٍ يرتفع، وكل جبل وأكمة ينخفض، ويصير المُعوَجُّ مستقيماً والعراقيب (الطريق الوعر) سهلاً» (إش 40: 4).
2- المؤمنون يحمدون: «الرب عظيم في صهيون، وعالٍ هو على كل الشعوب. يحمدون اسمك العظيم والمهوب. قدوس هو» (آيتا 2، 3). في صهيون بنى الملك سليمان الهيكل العظيم، ويقول المرنم: «الرب أحبّ أبواب صهيون أكثر من جميع مساكن يعقوب» (مز 87: 2). «عظيمٌ هو الرب وحميدٌ جداً في مدينة إلهنا، جبلِ قدسه» (مز 48: 1). وسبب هذا الحمد أن نعمة الله العظيمة تظهر في الهيكل، فهناك ينال الخاطئ المعترف غفران خطاياه وهو يقدم الذبيحة طلباً للرحمة، كما أمرت شريعة موسى. كما أن من الهيكل يتضح كمال شريعة الله وتعليمه، فيحمد المؤمنون اسمه العظيم والمهوب، لأنه القدوس، ويتحقق القول: «الرب إلهك في وسطك إلهٌ عظيم ومخوف» (تث 7: 21). «ويكون في آخر الأيام أن جبل الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم، وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلمَّ نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب، فيعلِّمنا من طُرقه ونسلك في سُبله، لأن من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب، فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سِككاً ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفاً، ولا يتعلمون الحرب في ما بعد» (إش 2: 2-4 ومي 4: 1-3).
وبعد مجيء المسيح إلى أرضنا توقَّف تقديم الذبائح الموسوية، وهُدم هيكل أورشليم، لأن كفارة المسيح كانت المرموز إليه. فلما جاءت الذبيحة الحقيقية انتهت الرموز، كما تسقط الزهرة من الشجرة لأن الثمرة نبتت. والكنيسة اليوم هي مسكن الرب، وقد أظهر لها قوته وحكمته وبرَّه وفداءه، فعليها أن تطيعه وأن تحمده من أجل الخلاص والفداء، ومن أجل العناية والرعاية، ومن أجل استجابة الصلاة، وهو يقول لشعبها: «الذي فيكم أقوى من الذي في العالم» (1يو 4: 4) «المسيح فيكم رجاء المجد» (كو 1: 27).. الكنيسة اليوم هي صهيون الروحية، والمسيح في وسطها حسب وعده: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي هناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20). فلنطلب من الرب الموجود في وسطنا أن يُظهر لنا جلال وجوده، لنعبده ونفرح به، كما فرح التلاميذ إذ رأوا الرب (يو 20: 20). ولنعلِّ الرب في وسطنا، فيرتفع اسمه القدوس في تصرفاتنا وحياتنا «لأن الرب عليٌّ مخوف، ملكٌ كبير على كل الأرض» (مز 47: 2).
ويختم المرنم هذا الجزء من مزموره بهتافه «قدوسٌ هو».

ثانياً – الرب يملك بالبر
(آيتا 4، 5)
في هاتين الآيتين يقول المرنم إن الرب يحب الحق، ويثبِّت الاستقامة، ويُجري العدل، ويطالب شعبه بالسجود عند موطئ قدميه.
1- الرب الملك يحب الحق: «وعِزُّ الملك أن يحب الحق» (آية 4أ). العز هو القوة، والرب قوي لأنه الحق الذي لا خطأ فيه ولا كذب ولا مكر. «الله نور، وليس فيه ظلمة البتَّة» (1يو 1: 5). قال المسيح: «أنا هو الطريق والحق والحياة.. وتعرفون الحق، والحق يحرركم.. فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو 14: 6 و8: 32، 36). وقال في صلاته الشفاعية: «هذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقيَّ وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو 17: 3) فهو الإله الحقيقي بالمقارنة بالآلهة الوهمية التي عبدها الوثنيون، والآلهة الغامضة التي تعبَّد لها اليونانيون. «هوذا الله عزيز ولكنه لا يرذل أحداً. عزيز قدرة القلب. لا يحيي الشرير، بل يُجري قضاء البائسين. لا يحوِّل عينيه عن البار» (أي 36: 5-7).
2- الرب الملك يثبِّت الاستقامة: «أنت ثبَّتَّ الاستقامة» (آية 4ب). وقد قال: «لأني أنا الرب محبُّ العدل، مبغض المختلس بالظلم. وأجعل أجرتهم أمينة، وأقطع لهم عهداً أبدياً.. كل الذين يرونهم يعرفونهم أنهم نسلٌ باركه الرب» (إش 61: 8، 9). ولأنه يحب الحق فهو يزيل العوَج من نفوس محبّيه الذين يتبعونه بكل قلوبهم، كما يعاقب كل أثيم أعوج.
3- الرب الملك يُجري العدل: «أنت أجريتَ حقاً وعدلاً في يعقوب» (آية 4ج). يعقوب هو أب الأسباط، ويُطلَق اسمه على بني إسرائيل جميعاً. ويمكن أن يكون المعنى أن الله أجرى الحق والعدل في حياة يعقوب نفسه، وأجراه أيضاً في أعماله معه. لقد خلَّص يعقوب من خطاياه، كما أنقذه من أعدائه. كان يعقوب في مطلع حياته يتعقَّب الآخرين، فخدع أباه وأخاه وخاله، فغيَّر حياته وغيَّر اسمه من يعقوب المتعقِّب إلى إسرائيل المجاهد، وبهذا التغيير أجرى حقاً وعدلاً في حياة يعقوب. ثم أجرى الحق والعدل معه، فأنقذه من أعدائه وحقَّق له وعوده.. كما يمكن أن يكون المعنى أن الله أجرى الحق والعدل في حياة نسل يعقوب ومعهم، فإنه عاقبهم بالسبي البابلي لما ارتدّوا عن عبادته وقدَّموا ذبائحهم للأصنام. ولما تخلَّصوا نهائياً من العبادة الوثنية أعادهم إلى أرضهم بأمرٍ من كورش الفارسي. وأجرى الله حقاً وعدلاً مع بني إسرائيل عندما أنقذهم من أعدائهم.. والرب مستعد أن يُجري هذا الحق والعدل في حياتنا ومعنا، إذ يغيِّر حياتنا تغييراً جذرياً كاملاً، فيتم فينا القول: «إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً» (2كو 5: 17). وهو يُجري الحق والعدل معنا فنقول: «إن كان الله معنا، فمن علينا؟» (رو 8: 31).
4- الرب الملك يستحق المُلك: «علّوا الرب إلهنا. اسجدوا عند موطئ قدميه. قدوسٌ هو» (آية 5). كيف نعلّي الرب إلهنا؟ وهل يحتاج إلى ارتفاع، وهو العلي العظيم؟.. المقصود أن يملك الرب على حياتنا بالكامل، فندعوه: «الإله الذي أنا له والذي أعبده» (أع 27: 23)، وأن نعلّي كلمته في حياتنا بطاعتها، لتكون له الكلمة العليا فينا. وقد علَّمنا المسيح أن نصلي: «ليتقدَّس اسمك، ليأتِ ملكوتك. لتكن مشيئتك» (مت 6: 9، 10). والمقصود أن نقدِّس نحن اسمه بالعبادة، وأن يأتي ملكوته في حياتنا بخضوعنا له، فيتحقق معنا قول القديس أغسطينوس: «عندما تفعل مشيئة الله كأنها مشيئتك، يفعل الله مشيئتك كأنها مشيئته».
ويطلب المرنم أن نسجد عند موطئ قدميه. وقد فهم بنو إسرائيل أن موطئ قدمي الرب هو تابوت العهد داخل قدس الأقداس، فقد قال داود لرؤساء شعبه: «كان قلبي أن أبني بيت قرارٍ لتابوت عهد الرب، ولموطئ قدمي إلهنا» (1أي 28: 2). وهذا يعني أن المرنم يطالبنا بالسجود في بيت الله المقدس.. وموطئ قدمي الله هو الأرض كلها، كما قال الرب: «السماوات كرسيي، والأرض موطئ قدميَّ» (إش 66: 1). ويريدنا المرنم أن نعتبر الأرض كلها مكان سجود وعبادة، فلا نكتفي بشكر الله وحمده في مكان العبادة، بل حيثما نكون ونوجد.
يملك الرب بالبر لأنه »قدوسٌ هو«. وعندما تدعوه كما صلى العشار: «اللهمَّ ارحمني أنا الخاطي» تنزل إلى بيتك مبرراً (لو 18: 13). فإن اعترفنا له بخطايانا ننال نعمة الغفران، فيباركنا ويجعلنا بركة. فلنسجد عند موطئ قدميه كخطاة نحتاج إلى الرحمة، وكمساكين بالروح تخلو أيدينا من أي صلاح، فنخضع له معترفين بعدم استحقاقنا، فينعِم علينا بعطاياه السماوية.

ثالثاً – مظاهر مُلك الرب
(آيات 6-9)
في هذه الآيات الأربع يذكر المرنم أن مُلك الله ظهر في الماضي في حياة المؤمنين، الذين صلّوا للرب وأطاعوه.. وظهر في تعاملاته مع هؤلاء المؤمنين، فاستجاب لهم، وغفر خطاياهم، وفي محبةٍ عاقبهم على ذنوبهم ليردَّهم إليه، فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟ (عب 12: 7).. ثم يطالبنا المرنم اليوم أن نعلّي اسم الرب وأن نسجد له.

1- يظهر مُلكه في ما فعله المؤمنون قديماً: (آيتا 6، 7).
(أ) المؤمنون قديماً صلّوا له : «موسى وهارون بين كهنته، وصموئيل بين الذين يدعون باسمه. دعوا الرب وهو استجاب لهم» (آية 6). يذكر المرنم ثلاث شخصيات عظيمة، هي موسى وهارون وصموئيل: موسى الذي هجر عظمة مصر وفضَّل أن يُذلَّ مع شعب الله فجعله الله كاهناً، واستخدمه جسراً يعبر به الناس إلى الله، كما أنه كان بوعظه يكلِّم الشعب عن الله، وبصلواته يكلم الله عن الشعب. ولو أن موسى بقي في مصر أميراً لأصبح ملكاً، ولانتهى أمره بأن يرى الزائرون جثَّته ترقد محنَّطةً في المتحف المصري في ميدان التحرير بالقاهرة. ولكنه فضَّل أن يطيع الله وقاد شعبه في الخروج، ورفع صلواته لأجلهم فنصرهم الله وغفر لهم. وقد صلى موسى لأجل شعبه أثناء الحرب مع عماليق، و«كان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب وإذا خفض يده أن عماليق يغلب. فلما صارت يدا موسى ثقيلتين أخذا (هارون وحور) حجراً ووضعاه تحته فجلس عليه، ودعم هارون وحور يديه، الواحد من هنا والآخر من هناك، فكانت يداه ثابتتين إلى غروب الشمس. فهزم يشوع عماليق وقومه بحدّ السيف» (خر 17: 11-13). وغفر الله لشعبه بسبب صلوات موسى عندما أخطأوا وعبدوا العجل (خر 32: 30-32 وتث 9: 18-21). وغفر لهم الله مرة أخرى لما لم يصدِّقوا وعود الله وصدَّقوا تقرير الجواسيس العشرة أنهم لا يقدرون أن يمتلكوا الأرض (عد 14: 13-15).
والشخص الثاني الذي يذكره المرنم هو هارون شقيق موسى، الذي اختاره الله ونسله ليكونوا كهنة شعبه، وقد استجاب الله لصلاة هارون يوم ثار الشعب عليه وعلى موسى بقيادة قورح، فأرسل الرب وبأً ليهلك الشعب، فأسرع هارون وأخذ المجمرة ووضع فيها ناراً من على مذبح الرب، ووضع بخوراً، وركض إلى وسط الشعب وكفَّر عنهم، ووقف بين الموتى والأحياء فامتنع الوبأ (عد 16: 41-50).
والشخص الثالث الذي يذكره المرنم هو صموئيل، وهو ابن الصلاة، فقد أعطاه الله لأمه العاقر لما صلَّت في هيكل الرب ليعطيها الله نسلاً، فاستجاب لها، فقالت: «لأجل هذا الصبي صلَّيت، فأعطاني الرب سؤلي الذي سألته من لدُنْهُ» (1صم 1: 27). وهو الذي ناداه الله في الهيكل وهو بعد صبي، فأجاب: «تكلَّم يا رب لأن عبدك سامع» (1صم 3: 10). وهو الذي قال لشعبه: «حاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكفَّ عن الصلاة من أجلكم، بل أعلّمكم الطريق الصالح المستقيم» (1صم 12: 23). وعندما تضايق الشعب من أعدائه طلبوا من صموئيل أن لا يكفَّ عن الصلاة لأجلهم «فصرخ صموئيل إلى الرب من أجل بني إسرائيل، فاستجاب له الرب» (1صم 7: 9).
(ت‌) المؤمنون قديماً أطاعوه : «بعمود السحاب كلَّمهم. حفظوا شهاداته والفريضة التي أعطاهم» (آية 7). كلَّم الله شعبه في عمود سحاب، ليؤكد لهم بطريقة مرئيَّة واضحة لا تُنسى أنه في وسطهم، يحميهم ويرعاهم، فانتبهوا للمحبة الإلهية الكاملة، وتجاوبوا معها، وحفظوا شهاداته التي تشهد عليهم، والتي كتبها الرب على لوحي الحجر، وحُفظت في تابوت العهد لأنها عهدٌ بينه وبين شعبه، يشهد عليهم وعلى أعمالهم وعلى إيمانهم و«طوبى لحافظي شهاداته» (مز 119: 2). وحفظوا الفريضة التي أعطاهم، وهي أمر تسنده سلطة، فيقول الابن لأبيه: «علِّمني فرائضك» (مز 119: 12) لأن الأب يضع لبيته قوانينه وفرائضه لسلامة أفراده ولخير أولاده ولتقدُّم الأسرة.

2- يظهر مُلكه في ما فعله هو: (آية 8).
(أ) استجاب لهم: «أيها الرب إلهُنا أنت استجبتَ لهم» (آية 8أ) صحيح الرب هو سامع الصلاة الذي يأتي إليه كل بشر (مز 65: 2) أما شعبه فينال منه رعايةً خاصة، فسمعناه يقول: «إني رأيتُ مذلَّة شعبي في مصر، وسمعتُ صراخهم من أجل مسخّريهم. إني علمت أوجاعهم، فنزلتُ لأُنقذهم» (خر 3: 7، 8). وقال للملك حزقيا: «قد سمعتُ صلاتك. قد رأيتُ دموعك. هأنذا أضيف إلى أيامك خمس عشرة سنة» (إش 38: 5).
(ب) غفر لهم: «إلهاً غفوراً كنت لهم» (آية 8ب). «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهِّرنا من كل إثم» (1يو 1: 9). قد يقول شخص: لا أمل لي في أن يقبلني الرب لأن خطاياي كثيرة جداً. لكن عليه أن يفكر في اللص المصلوب الذي كان يجدِّف على المسيح، ولكن الرب فتح عينيه ليرى أن المصلوب في الوسط هو ملكٌ صاحب مملكة يقدر أن يُدخِل إليها من يشاء، فقال له: «اذكُرني يا رب متى جئتَ في ملكوتك» فجاءته الإجابة الفورية: «اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 42، 43). إن ذنب الخاطئ عظيم لكن عفو الرب أعظم. فلا يجب أن نؤجل التوبة. «هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص» (2كو 6: 2).
(ج) عاقبهم: «ومنتقماً على أفعالهم» (آية 8ج). الرحمة لمن يقبل الرحمة، والعقاب لمن يرفضها. الذي يقبل الخلاص يتمتع بكل فوائده، والذي يرفضه يعرِّض نفسه لأعظم خطر. «مخيفٌ هو الوقوع في يدي الله الحي» (عب 10: 31). دعونا ندخل فُلك النجاة كما فعل نوح، وفلك نجاتنا هو المسيح الذي جهَّز لنا الفداء والكفارة بصليب محبته. وعدم دخولنا فلك النجاة يعني هلاكنا، حتى إن كنا نظن أننا أطول الناس في القامة الروحية، وأن كانت بيوتنا الروحية أعلى البيوت، لأنه «ليس بأحدٍ غيرهِ الخلاص، لأن ليس اسمٌ آخر تحت السماء قد أُعطيَ بين الناس به ينبغي أن نخلُص» (أع 4: 12).
3 – يظهر مُلكه في ما يجب أن يفعله المؤمنون اليوم: (آية 9).
(أ) يجب أن يعلّوه: «علّوا الرب إلهنا» (آية 9أ). يكرر المرنم هنا ما سبق أن أمر به في الآية الخامسة، وهو ما يجب أن يفعله المؤمنون دائماً.
(ب) يجب أن يسجدوا له: «اسجدوا في جبل قدسه، لأن الرب إلهنا قدوس» (آية 9ب). السجود هو إخضاع الإرادة للرب، والانحناء أمامه في محبة. وكل من ينحني أمامه يختبر جمال الحياة معه. «القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره» (مز 51: 17). وعندما يكون السجود في جبل الله المقدس تتقدَّس حياة العابد ويتطهَّر سلوكه. كان على الكهنة قبل دخولهم إلى القدس أن يمروا أولاً بالمرحضة ليغتسلوا (خر 40: 30-32). وكان هذا التطهير الطقسي يرمز إلى ضرورة نقاوة القلب، كما طلب داود: «قلباً نقياً اخلُق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّد في داخلي» (مز 51: 10). و«طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله» (مت 5: 8). وعندما نصعد إلى جبل قدس الرب ونتعبَّد له، تلمع وجوهنا بالفرح، كما كان جلد وجه موسى يلمع بسبب وجوده في محضر الله (خر 34: 29)، وقد قال المسيح: «أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلَّمتكم به.. لا أعود أسمّيكم عبيداً.. لكني قد سمّيتكم أحباء لأني أعلمتُكم بكل ما سمعته من أبي» (يو 15: 3، 15).
«الرب قد ملك.. علّوا الرب إلهنا واسجدوا عند موطئ قدميه.. لأن الرب إلهنا قدوس».

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ
مَزْمُورُ حَمْدٍ
1 اِهْتِفِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ الأَرْضِ. 2اعْبُدُوا الرَّبَّ بِفَرَحٍ. ادْخُلُوا إِلَى حَضْرَتِهِ بِتَرَنُّمٍ. 3اعْلَمُوا أَنَّ الرَّبَّ هُوَ اللهُ. هُوَ صَنَعَنَا، وَلَهُ نَحْنُ، شَعْبُهُ وَغَنَمُ مَرْعَاهُ. 4ادْخُلُوا أَبْوَابَهُ بِحَمْدٍ، دِيَارَهُ بِالتَّسْبِيحِ. احْمَدُوهُ، بَارِكُوا اسْمَهُ، 5لأَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ. إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتُهُ، وَإِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ أَمَانَتُهُ.

دعوة مكرَّرة للحمد
هذا المزمور خاتمة مجموعة مزامير التسبيح للرب الملك، كما أنه ذروتها. فيه يكرر المرنم الدعوة مرتين إلى كل الشعوب ليشتركوا مع بني إسرائيل في تسبيح الرب الإله الحقيقي وحده، الذي أرجع شعبه من سبي بابل، فلا بد أن تتحقَّق النبوَّة: «أبناء الغريب الذين يقترنون بالرب ليخدموه، وليحبوا اسم الرب ليكونوا له عبيداً.. آتي بهم إلى جبل قُدسي، وأفرِّحهم في بيت صلاتي، وتكون محرقاتهم وذبائحهم مقبولة على مذبحي، لأن بيتي بيتَ الصلاة يُدعى لكل الشعوب» (إش 56: 6، 7).
كان هذا المزمور يُرنَّم عادة بمناسبة تقديم ذبيحة الشكر، التي يقول عنها سفر اللاويين: «وهذه شريعة ذبيحة السلامة التي يقرِّبها للرب.. لأجل الشكر.. وإن كانت ذبيحةُ قربانِه نذراً، أو نافلة» (لا 7: 11-21). فعندما يكرم الرب المؤمن ويمنحه بركة أكبر مما ينتظر، يعبِّر عن شكره بتقديم ذبيحة السلامة حمداً وتسبيحاً للرب، ويرنم أثناء تقديمها كلمات هذا المزمور، فالرب هو «القادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر، بحسب القوة التي تعمل فينا. له المجد في الكنيسة إلى جميع أجيال دهر الدهور» (أف 3: 20، 21).. وعندما ينذر المؤمن نذراً ويعطيه الرب طلبه، كان يقدم للرب ما نذر به، ويرنم معه كلمات هذا المزمور.. وعندما يريد المؤمن أن يقدِّم للرب نافلةً، بمعنى قربان أو ذبيحة تطوعية واختيارية، لأنه يحب الرب، كان يقدم نافلته ويرنم معها كلمات هذا المزمور.
فتعالوا نشارك صاحب المزمور في الترنيم للرب الملك لأننا نريد أن نشكره قائلين: «باركي يا نفسي الرب، وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» (مز 103: 1، 2). لقد لمس حياتنا آلاف اللمسات الرقيقة. حتى في وقت تأديبه لنا لنشكُره قائلين: «تأديباً أدَّبني الرب وإلى الموت لم يسلمني» (مز 118: 18) لأنه في تأديبه يريد أن يحيينا ويردَّ لنا حياة القُرب منه. وهو يستخدم الظروف الصعبة لبركة نفوسنا، وعائلاتنا، وكنيستنا. تجيئنا بركته مرات داخل مظروف أبيض يفرحنا، كما تجيئنا أحياناً داخل مظروف أسود. فلا تتوقَّفوا عند الغلاف الخارجي، بل افتحوا رسالته واقرأوها شاكرين، وستجدونها تؤكد لنا من جديد أن الله محبة، ومحبته صافية صادقة عجيبة، لأنها من النبع الذي لا ينضب. إنه «لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، فكيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء؟» (رو 8: 32). فلنقدِّم لله «ذبيحة التسبيح» (عب 13: 15)، وفي نضوج روحي لنقُل له: أسلِّمك نفسي، فباركني كيفما تشاء. «لأنك أنت تبارك الصِّدِّيق يا رب. كأنه بترسٍ تحيطه بالرضى» (مز 5: 12). نحن لا نعيش ظروف الحياة وحدنا، لكننا نعيش في المسيح وسط الظروف، ولنا فيه الحماية الكاملة. فلنشترك مع مقدِّم ذبيحة السلامة في تقديم ذبيحة شكر اختيارية، مرنمين هذا المزمور، معترفين بفضل الله علينا.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – دعوة أولى مسبَّبة للحمد (آيات 1-3)
ثانياً – دعوة ثانية مسبَّبة للحمد (آيتا 4، 5)

أولاً – دعوة أولى مسبَّبة للحمد
(آيات 1-3)
1- الدعوة الأولى للحمد: (آيتا 1، 2).
(أ) هي دعوة للجميع: «اهتفي للرب يا كل الأرض» (آية 1). هذه دعوة عامة للبشر جميعاً ولمحبي الرب خصوصاً ليهتفوا للرب الملك شكراً وحمداً. بعضنا يمرُّ بظروف قاسية أو فشل، وبعضنا يمر بظروف مفرحة أو نجاح. والنجاح لا يستمر وكذلك الفشل، فنحن نعيش في عالم يتغيَّر باستمرار. لكن صلتنا بالرب يجب أن تستمر وتتعمَّق، لأنها لا تتوقَّف على ظروفنا، بل على علاقتنا به وعلى محبتنا له. وبقدر عمق علاقتنا به واستمرارها يكون هتافنا له وشكرنا لجلاله. فلنحب الرب بكل قلوبنا، لننال لقب سبط بنيامين: «حبيب الرب» (تث 33: 12)، ولقب «يديديا» (2صم 12: 25) ومعناه «محبوب الرب» وهو اللقب الذي أطلقه ناثان النبي بأمرٍ إلهي على الملك سليمان، ولقب «التلميذ الذي كان يسوع يحبه» (يو 20: 2) الذي أُطلق على تلميذ المسيح يوحنا. فليكن شعارنا: «نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً» (1يو 4: 19). ولنهتف للرب، وندعو كل الأرض لتشاركنا في هذا الهتاف.
(ب) هي دعوة للفرح: «اعبدوا الرب بفرح. ادخلوا إلى حضرته بترنُّم» (آية 2). تتميز عبادتنا بالترتيل والترنيم والتسبيح الفرحان، الذي تصاحبه الموسيقى، لأن الوحي يأمرنا: «لتسكُن فيكم كلمة المسيح بغِنى، وأنتم بكل حكمة معلِّمون ومُنذرون بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغانيَّ روحية مترنِّمين في قلوبكم للرب» (كو 3: 16). وإلهنا إله الفرح، وقد شبَّه المسيح ملكوت الله بوليمة عرس (مت 22: 1-14)، كما أجرى أولى معجزاته في حفل عرسٍ بقانا الجليل (يو 2: 1-11).. وضرب لنا مثل الابن الضال الذي رجع إلى نفسه وإلى أبيه، وفي هذا المثل صوَّر المسيح لنا فرح السماء والأرض بالخاطئ الواحد الذي تاب. لم يكن الابن الضال متأكداً من قبول أبيه له، لأنه كان يشعر بعدم الاستحقاق. وكم فرح بقبول أبيه له، وكم فرح الأب بعودة الابن، كما فرح العبيد الذين جهَّزوا الوليمة، وفرح الأصدقاء الذين دُعوا للوليمة لأن الابتسامة عادت إلى وجه الأب الحزين بعد رجوع ابنه (لو 15). وكل من يذكر أنه للمسيح يرنم: «ما أبهج اليوم الذي آمنتُ فيه بالمسيح!». قد يذكر بعضنا يوماً محدَّداً تاب فيه ونال الحياة الجديدة، وقد لا يكون عند بعضنا يوم محدد يعرفه، لكن على كل واحد منا أن يتأكد أن المسيح دخل قلبه واستلم حياته، فنسبِّح لله إله الغفران الذي يعمِّر قلوبنا بالفرح، فنقول: «فرحاً أفرح بالرب، تبتهج نفسي بإلهي. لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص. كساني رداء البر» (إش 61: 10).

2 – سبب الدعوة الأولى للحمد: (آية 3).
(أ) نحمده لأنه الله: «اعلموا أن الرب هو الله» (آية 3أ). دعا المرنم كل سكان الأرض ليعرفوا من هو الرب الخالق المالك فيطيعونه ويحبونه، وإذ يعرفونه حقَّ معرفته يرنمون له، لأنه مستحقٌّ أن يأخذ «المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقتَ كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنة وخُلقت» (رؤ 4: 11). ومع ذلك فما أكثر ما يضل الإنسان عن معرفة الله! غير أن الله في محبته يردُّ الضال إلى سبُل البر من أجل اسمه (مز 23: 3). لقد ضلَّ بنو إسرائيل في زمن موسى وعبدوا العجل الذهبي، فردَّهم الرب إلى الصواب (خر 32). وفي زمن النبي إيليا عبدوا البعل، إله البلاد المحيطة بهم، فتحدَّى النبي إيليا صنمهم، وأظهر الله قوته بأن أنزل النار على ذبيحة النبي إيليا، فصرخ الشعب قائلين: «الرب هو الله. الرب هو الله» (1مل 18: 21-39).. فلنتأكد أن الرب هو الإله الذي يمسك بزمام كل الأمور. قال بيلاطس للمسيح: «ألستَ تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أطلقك؟» فأجابه: «لم يكن لك عليَّ سلطانٌ البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق» (يو 19: 10، 11). لقد ظن بيلاطس وهو يعتلي عرش الولاية أنه صاحب سلطان، لكن صاحب السلطان الحقيقي هو المسيح الذي ارتضى أن يقف أمام بيلاطس ليبدأ السير في طريق الآلام نحو الصليب ليتمِّم الفداء العجيب، وهو الذي قال: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 28: 18).
(ب) نحمده لأنه الخالق: «هو صنعنا» (آية 3 ب). «الرب صنع الكل لغرضه» (أم 16: 4). صنع كل شيء من لا شيء، دون أن يعاونه أحد، وهو يحفظ كل خليقته بكلمة أمره. صنعنا لما جَبَل آدم أبانا الأول تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسَمة حياة، فصار آدم نفساً حية (تك 2: 7) ثم خلق حواء معينةً له من أحد أضلاعه. ولكن الخطية دخلت إلى العالم فأفسدت براءة الخلق الأول، وعرَّت أبوينا الأولين وأخجلتهما، فستر الله الإنسان العاري، وأعاد خلقه فصار خليقة جديدة «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10). لأنه «إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً» (2كو 5: 17). وهذا ما يدعوه المسيح «الولادة من فوق« و«الولادة من الماء والروح» (يو 3: 3، 5). ولذلك يصلي كل مؤمن ويقول: أشكرك يا رب لأنك خلقتني مرتين، الخلق الجسدي، لأن «المولود من الجسد جسد هو»، والخلق الروحي لأن «المولود من الروح هو روح» (يو 3: 6). ويقول هذا الخالق العظيم لكل مؤمن: «لا تخف لأني فديتُك. دعوتك باسمك. أنت لي» (إش 43: 1)، فتمتلئ قلوبنا بالفرح والتسبيح للرب لأننا افتُدينا فداءً عجيباً بدم المسيح الثمين.
(ج) نحمده لأنه الراعي: «وله نحن، شعبه، وغنم مرعاه» (آية 3ج). لسنا لأنفسنا لأنه خالقنا، ولغيره سبحانه لن نكون «كل من دُعي باسمي ولمجدي خلقته وجبلته وصنعته» (إش 43: 7). ونحن ملكه بحكم فدائه لنا «لستُم لأنفسكم، لأنكم اشتُريتُم بثمن. فمجِّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله» (1كو 6: 19، 20). ونحن له لأنه ملكنا الذي أعطانا شريعته لنحيا بحسبها. ونحن له لأنه قاضينا الذي سنقف أمامه لنقدِّم حساباً عما فعلنا. وهو راعينا العظيم الذي فتش عنا في ضلالنا حتى وجدنا وردَّنا إليه. لذلك يقول المؤمن: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء» (مز 23: 1) لأن المسيح يقول: «أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف» (يو 10: 11). ويقول الرسول بطرس: «كنتُم كخرافٍ ضالة، لكنكم رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم وأسقفها» (1بط 2: 25)، فالمسيح هو الراعي والأسقف، يعني أنه الناظر الذي يراقب قطيعه، فإذا ضل أحدها أو جاع أو مَرِض يراه ويسعفه.

ثانياً – دعوة ثانية مسبَّبة للحمد
(آيتا 4، 5)
1 – الدعوة الثانية للحمد: «ادخلوا أبوابه بحمد، دياره بالتسبيح. احمدوه. باركوا اسمه» (آية 4). يدعو المرنم الناس جميعاً ليدخلوا بيت الرب الذي لا يُغلق في وجه أحد. فليدخلوه وقد امتلأت نفوسهم بالحمد والتسبيح، وليحمدوا الله ويباركوا اسمه، وهم يهتفون: «فرحتُ بالقائلين لي إلى بيت الرب نذهب» (مز 122: 1).
2 – سبب الدعوة الثانية للحمد: (آية 5).
(أ) نحمده لأنه صالح: «لأن الرب صالح» (آية 5أ). ورد القول «لأن الرب صالح. إلى الأبد رحمته» 36 مرة في الكتاب المقدس (26 مرة في مزمور 136، كما وردت في 1أي 16: 34 و2أي 5: 13 و7: 3، عز 3: 11 ومز 100: 5 و106: 1 و107: 1 و118: 1، 29 وإر 33: 11). الله محبة، وهو كريم مُنعمٌ سخيٌّ، لا يخطئ أبداً في أي عمل يقوم به أو يسمح به، فكل أعماله من أجل محبّيه صالحة. عرفتُ سيدة كندية من أصل يوناني تزوجت مصرياً هاجر إلى كندا، وسافرا إلى المملكة السعودية للعمل بها. وهناك تعرَّفا على شاب مصري استخدمه الله ليقودهما كليهما لمعرفة المسيح معرفة خلاصية، فسلَّما حياتيهما للمسيح. وعندما انتهت فترة عمل الزوجين قررا أن يتوقَّفا بالقاهرة، ثم أثينا، ليكلِّما أهلهما عن الخلاص بالفداء، حتى يفرح الجميع بأن تكون لهم العلاقة الحية مع المسيح. وبارك الله خدمتهما في القاهرة وأثينا، وعادا إلى كندا فرحانين. وفجأة مرض الزوج ومات تاركاً أولاده الصغار في رعاية الأرملة، التي وجدت عزاءها في أن زوجها انطلق ليكون مع الرب وهو يقول: «لي اشتهاءٌ أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جداً» (في 1: 23). وعندما كتبتُ لها معزِّياً جاوبَتني بأن الرب صالحٌ ولا يخطئ أبداً، وأنه في حكمته ومحبته أخذ زوجها ليكون معه في المجد. هذا اختبار حقيقي لعمل نعمة الله التي تسند وسط أصعب الظروف.. ليست كلمات الإنجيل وعوداً جوفاء، ولا هي مخدراً وأفيوناً للشعوب، لكنها حقائق مُعاشة تعلن لنا صلاح الرب. «احمدوا رب الجنود لأن الرب صالح، لأن إلى الأبد رحمته. صوت الذين يأتون بذبيحة الشكر إلى بيت الرب» (إر 33: 10، 11).
(ب) نحمده لأنه رحيم: «إلى الأبد رحمته» (آية 5ب). وورد القول «إلى الأبد رحمته» خمس مرات (1أي 16: 41 و2أي 7: 6 و20: 21 ومز 118: 3، 4). ورحمته دائمة يختبرها الأبناء كما اختبرها الآباء. ولو كانت رحمته مؤقَّتة لكنا هلكنا ومُتنا بسبب كثرة أخطائنا، لكن روعة الرحمة الإلهية أنها تنبع من قلب كله رحمة، لا يأتي إلا بأعمال الرحمة التي لا تتوقف أبداً. فلنطمئن إلى مراحم الله، لأنها إلى الأبد.
وما أعظم الرحمة الإلهية لو قارنّاها برحمة البشر لبعضهم. ولنضرب مثلاً لذلك نقول إنه أثناء رحلة بولس الرسول التبشيرية الأولى كان معه برنابا ومرقس. وفي منتصف الطريق ترك مرقس خدمته معهما ورجع إلى بيته في أورشليم حيث الراحة والأمن. ولما قرَّر الرسول بولس أن يقوم برحلته التبشيرية الثانية رفض أن يصحب مرقس معه، بحُجَّة أن «الذي فارقهما ولم يذهب معهما للعمل، لا يأخذانه معهما». وكان عادلاً في رفضه. ولكن برنابا، خال مرقس، كان رحيماً بابن أخته، وقرر أن يصحب ابن أخته في رحلة تبشيرية ثانية.. كان برنابا رحيماً بمرقس، وكان مثالياً في تشجيع الضعفاء، فأطلقوا عليه لقب «ابن الوعظ» أي ابن التشجيع (أع 12: 25 و13: 5، 13 و15: 36-41). وظهرت عدالة الرسول بولس مرة أخرى في حكمه على مرقس، بعد بضعة سنوات، لما رأى جدِّية خدمة مرقس، فطلب حضوره ليخدم معه، لأنه نافعٌ لخدمة الرب (2تي 4: 11). وكم نشكر الله من أجل رحمته ومحبته، لأنه يسامحنا، ويمنحنا فرصة ثانية، وينسى أخطاءنا، ويقول: «أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها» (إش 43: 25).
(ج) نحمده لأنه أمين: «إلى دورٍ فدور أمانته» (آية 5ج). الرب أزلي أبدي لا بداية أيام له ولا نهاية حياة. وأمانته تلازمه دائماً «فاعلم أن الرب إلهك هو الله الأمين، الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل» (تث 7: 9).
وتظهر أمانة الله معنا في مغفرة خطايانا، فإنه «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم» (1يو 1: 9).. كما تظهر أمانته في وقت تجاربنا، فإن «الله أمين الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا» (1كو 10: 13).. وتظهر أمانته أيضاً في أنه ثبَّت إيماننا، فإنه «أمين هو الرب الذي سيثبِّتكم ويحفظكم من الشرير» (2تس 3: 3). ويبقى الرب أميناً لشعبه مهما كانوا غير أمناء (2تي 2: 13). فلنجتهد أن نكون أمناء، وأن تستمر أمانتنا له، لنسمع صوته: «نعِمّا أيها العبد الصالح والأمين. كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير. ادخُل إلى فرح سيدك» (مت 25: 23).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّادِسُ
1 هَلِّلُويَا! احْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 2مَنْ يَتَكَلَّمُ بِجَبَرُوتِ الرَّبِّ؟ مَنْ يُخْبِرُ بِكُلِّ تَسَابِيحِهِ؟ 3طُوبَى لِلْحَافِظِينَ الْحَقّ،َ وَلِلصَّانِعِ الْبِرَّ فِي كُلِّ حِينٍ. 4اذْكُرْنِي يَا رَبُّ بِرِضَا شَعْبِكَ. تَعَهَّدْنِي بِخَلاَصِكَ، 5لأَرَى خَيْرَ مُخْتَارِيكَ. لأَفْرَحَ بِفَرَحِ أُمَّتِكَ. لأَفْتَخِرَ مَعَ مِيرَاثِكَ.
6أَخْطَأْنَا مَعَ آبَائِنَا. أَسَأْنَا وَأَذْنَبْنَا. 7آبَاؤُنَا فِي مِصْرَ لَمْ يَفْهَمُوا عَجَائِبَكَ. لَمْ يَذْكُرُوا كَثْرَةَ مَرَاحِمِكَ، فَتَمَرَّدُوا عِنْدَ الْبَحْرِ، عِنْدَ بَحْرِ سُوفٍ، 8فَخَلَّصَهُمْ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ، لِيُعَرِّفَ بِجَبَرُوتِهِ. 9وَانْتَهَرَ بَحْرَ سُوفٍ فَيَبِسَ، وَسَيَّرَهُمْ فِي اللُّجَجِ كَالْبَرِّيَّةِ، 10وَخَلَّصَهُمْ مِنْ يَدِ الْمُبْغِضِ، وَفَدَاهُمْ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ، 11وَغَطَّتِ الْمِيَاهُ مُضَايِقِيهِمْ. وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَبْقَ. 12فَآمَنُوا بِكَلاَمِهِ، غَنُّوا بِتَسْبِيحِهِ. 13أَسْرَعُوا فَنَسُوا أَعْمَالَهُ. لَمْ يَنْتَظِرُوا مَشُورَتَهُ. 14بَلِ اشْتَهُوا شَهْوَةً فِي الْبَرِّيَّةِ، وَجَرَّبُوا اللهَ فِي الْقَفْرِ، 15فَأَعْطَاهُمْ سُؤْلَهُمْ وَأَرْسَلَ هُزَالاً فِي أَنْفُسِهِمْ. 16وَحَسَدُوا مُوسَى فِي الْمَحَلَّةِ وَهَارُونَ قُدُّوسَ الرَّبِّ. 17فَتَحَتِ الأَرْضُ وَابْتَلَعَتْ دَاثَانَ، وَطَبَقَتْ عَلَى جَمَاعَةِ أَبِيرَامَ، 18وَاشْتَعَلَتْ نَارٌ فِي جَمَاعَتِهِمْ. اللهِيبُ أَحْرَقَ الأَشْرَارَ.
19صَنَعُوا عِجْلاً فِي حُورِيبَ، وَسَجَدُوا لِتِمْثَالٍ مَسْبُوكٍ، 20وَأَبْدَلُوا مَجْدَهُمْ بِمِثَالِ ثَوْرٍ آكِلِ عُشْبٍ. 21نَسُوا اللهَ مُخَلِّصَهُمُ، الصَّانِعَ عَظَائِمَ فِي مِصْرَ، 22وَعَجَائِبَ فِي أَرْضِ حَامٍ، وَمَخَاوِفَ عَلَى بَحْرِ سُوفٍ، 23فَقَالَ بِإِهْلاَكِهِمْ، لَوْلاَ مُوسَى مُخْتَارُهُ وَقَفَ فِي الثَّغْرِ قُدَّامَهُ لِيَصْرِفَ غَضَبَهُ عَنْ إِتْلاَفِهِمْ. 24وَرَذَلُوا الأَرْضَ الشَّهِيَّةَ. لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَلِمَتِهِ، 25بَلْ تَمَرْمَرُوا فِي خِيَامِهِمْ. لَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ الرَّبِّ، 26فَرَفَعَ يَدَهُ عَلَيْهِمْ لِيُسْقِطَهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ، 27وَلِيُسْقِطَ نَسْلَهُمْ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلِيُبَدِّدَهُمْ فِي الأَرَاضِي. 28وَتَعَلَّقُوا بِبَعْلِ فَغُورَ، وَأَكَلُوا ذَبَائِحَ الْمَوْتَى، 29وَأَغَاظُوهُ بِأَعْمَالِهِمْ، فَاقْتَحَمَهُمُ الْوَبَأُ. 30فَوَقَفَ فِينَحَاسُ وَدَانَ، فَامْتَنَعَ الْوَبَأُ. 31فَحُسِبَ لَهُ ذَلِكَ بِرّاً إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ إِلَى الأَبَدِ.
32وَأَسْخَطُوهُ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ، حَتَّى تَأَذَّى مُوسَى بِسَبَبِهِمْ، 33لأَنَّهُمْ أَمَرُّوا رُوحَهُ حَتَّى فَرَطَ بِشَفَتَيْهِ. 34لَمْ يَسْتَأْصِلُوا الأُمَمَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ الرَّبُّ عَنْهُمْ، 35بَلِ اخْتَلَطُوا بِالأُمَمِ، وَتَعَلَّمُوا أَعْمَالَهُمْ، 36وَعَبَدُوا أَصْنَامَهُمْ، فَصَارَتْ لَهُمْ شَرَكاً، 37وَذَبَحُوا بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ لِلأَوْثَانِ، 38وَأَهْرَقُوا دَماً زَكِيّاً، دَمَ بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمِ الَّذِينَ ذَبَحُوهُمْ لأَصْنَامِ كَنْعَانَ، وَتَدَنَّسَتِ الأَرْضُ بِالدِّمَاءِ، 39وَتَنَجَّسُوا بِأَعْمَالِهِمْ وَزَنُوا بِأَفْعَالِهِمْ، 40فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى شَعْبِهِ وَكَرِهَ مِيرَاثَهُ، 41وَأَسْلَمَهُمْ لِيَدِ الأُمَمِ، وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مُبْغِضُوهُمْ، 42وَضَغَطَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ فَذَلُّوا تَحْتَ يَدِهِمْ. 43مَرَّاتٍ كَثِيرَةً أَنْقَذَهُمْ. أَمَّا هُمْ فَعَصُوهُ بِمَشُورَتِهِمْ وَانْحَطُّوا بِإِثْمِهِمْ، 44فَنَظَرَ إِلَى ضِيقِهِمْ إِذْ سَمِعَ صُرَاخَهُمْ، 45وَذَكَرَ لَهُمْ عَهْدَهُ، وَنَدِمَ حَسَبَ كَثْرَةِ رَحْمَتِهِ. 46وَأَعْطَاهُمْ نِعْمَةً قُدَّامَ كُلِّ الَّذِينَ سَبُوهُمْ. 47خَلِّصْنَا أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُنَا، وَاجْمَعْنَا مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ، لِنَحْمَدَ اسْمَ قُدْسِكَ وَنَتَفَاخَرَ بِتَسْبِيحِكَ. 48مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ مِنَ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ. وَيَقُولُ كُلُّ الشَّعْبِ: «آمِينَ». هَلِّلُويَا!

العهد كما يحفظه الإنسان
هذا المزمور خاتمة الكتاب الرابع من سفر المزامير (وقد بدأ بالمزمور التسعين). وهو أحد المزاميرالأربعة التاريخية (78، 105، 106، 136). وقد ذكرنا في مقدمة مزمور 105 أن المزمورين مترابطان، يتحدث أولهما عن أمانة الله في حفظ العهد، ويتحدث مزمورنا عن ضعف الإنسان الذي لا يحفظ العهد، ويعترف فيه صاحبه بنقص الأمانة وإنكار الجميل، وهما صفتان سيئتان لازمتا بني إسرائيل عبر تاريخهم، عبَّر عنهما نحميا بقوله: «أبوا الاستماع ، ولم يذكروا عجائبك التي صنعت معهم، وصلَّبوا رقابهم. وعند تمرُّدهم أقاموا رئيساً ليرجعوا إلى عبوديتهم» (نح 9: 17). ويشبه مزمورنا صلاة تدشين الهيكل لسليمان (1مل 8)، كما يشبه صلاة نحميا (نح 9) وصلاة دانيال (دا 9).
يبدأ مزمورنا بالتهليل «لأن الرب صالح. إلى الأبد رحمته» وهو تعبير ورد 36 مرة في الكتاب المقدس (26 مرة في مزمور 136، كما ورد في 1أي 16: 34 و2أي 5: 13 و7: 3 وعز 3: 11 ومز 100: 5 و106:1 و107: 1 و118: 1، 29 وإر 33: 11). وورد التعبير «إلى الأبد رحمته» خمس مرات، في 1أي 16: 41 و2أي 7: 6 و20: 21 ومز 118: 3، 4. وهي الحقيقة التي شجعت المرنم أن يطلب من الرب أن يعود فيخلِّص شعبه الجاحد، بمن فيهم هو، إذ يقول: «اذكرني يا رب برضا شعبك. تعهَّدني بخلاصك» (آية 4).
وهذا المزمور أول عشرة مزامير تبدأ بكلمة «هللويا» بمعنى «سبحان الله» (وهي مزامير 106، 111،112، 113، 135، 146، 147، 148، 149، 150 وتنتهي بها ما عدا مزموري 111، 112). كما أن المزامير 104، 105، 117 تنتهي بكلمة «هللويا» ولو أنها لا تبدأ بها.
ويتميز هذا المزمور بأنه اعترافات صادقة بخطايا شعبه ومتاعبهم وهزائمهم، يقول فيه كاتبه: «أخطأنا مع آبائنا. أسأنا وأذنبنا» (آية 6). وهو لا يدافع عن شعبه مدفوعاً بالكبرياء الوطنية، ولا يفتخر بنبي ولا كاهن ولا ملك، بل يعتذر عن خطاياهم، ويعزو كل عظمة في تاريخ شعبه إلى أمانة الرب وحفظه للعهد. إنه وصف لصلاح الله وخطية البشر.

في هذا المزمور نجد:
أولاً – دعوة لنذكر الرب (آيات 1-5)
ثانياً – اعتراف بنقض العهد (آيات 6-46)
ثالثاً – صلاة وتمجيد ختاميان (آيتا 47، 48)

أولاً – دعوة لنذكر الرب
(آيات 1-5)
1 – نذكره بتعبُّد: (آيتا 1، 2). يبدأ المرنم بكلمة «هللويا» فيدعو المستمع للعبادة وتقديم الشكر، لأن الرب صالح رحيم اختبر المرنم وشعبه عبر العصور صلاحه ورحمته، ونحن أيضاً نشاركهم في القول: «إحسانات الرب أذكر، تسابيح الرب، حسب كل ما كافأنا به الرب والخير العظيم» (إش 63: 7). إن كل خطايا بني إسرائيل لم تضع نهاية لرحمته، فإن صلاح البشر يتعطل، وعصيانهم يستمر، ولكن رحمته تبقى، فيقول المرنم: «إذ قلتُ قد زلَّت قدمي فرحمتك يا رب تعضدني» (مز 94: 18). ولا يستطيع لسان مهما كان بليغاً ولا حنجرة مهما كانت ذهبية أن تخبر بعظمة صنيعه الكثيرة المعجزية.
2 – نذكره بطاعة: (آية 3). وما أسعد من يحفظون الحق الموحى به، ويصنعون البر دائماً، فتفيح منهم رائحة المسيح الذكية، فإنه «هكذا قال الرب: احفظوا الحق وأجروا العدل، لأنه قريب مجيء خلاصي واستعلان بري» (إش 56: 1).
3 – نذكره بانتماء: (آيتا 4، 5). يلتمس المرنم من الرب أن يذكره وشعبه بالرضا، لأن ليس بأحد غيره الخلاص. وهو يتقدم بطلبه بدالة البنين فيقول إن الخلاص «خلاصك» والشعب «شعبك» و«مختاروك» و»أمَّتك» و«ميراثك». ويطلب أن يذكره الرب «برضا شعبك» وأن يكون جوابه السماوي عليه هو: «في وقت القبول استجبتك، وفي يوم الخلاص أعنتك» (إش 49: 8). وهو ينتظر أن يتعهده الرب بخلاص «شعبك» ليرى خير «مختاريك» ويفرح بفرح «أمَّتك» فيفتخر مع «ميراثك». فما أروع أن ندنو من الله مصلين ونحن نثق أننا ننتمي إليه، وأن لنا علاقة شخصية معه.

ثانياً – اعتراف بنقض العهد
(آيات 6-46)
يقدم المرنم لله اعترافاً عاماً، فيقول: «أخطأنا. أسأنا وأذنبنا» (آية 6). «الكل قد زاغوا معاً. فسدوا. ليس من يعمل صلاحاً. ليس ولا واحد» (مز 14: 3). والخطأ هو عدم إصابة الهدف، والإساءة هي إحداث الضرر بشخص آخر، والذنب هو كسر القانون وارتكاب الأمر المنهي عنه. وفي الآيات 7-47 يعترف المرنم تفصيلياً بخطاياه وخطايا شعبه عبر تاريخهم، لأنه «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم» (1يو 1: 9).

1 – نقض العهد وقت الخروج: (آيات 7-12). كان التذمر ونقص الإيمان بالله هو خطأ بني إسرائيل الأول عند البحر الأحمر، وسببه النسيان وعدم الفهم، وهو ما ذكره موسى في نشيده بعد أن أكمل كتابة التوراة، فقال: «إنهم أمَّة عديمة الرأي، ولا بصيرة فيهم. لو عقلوا لفطنوا بهذه وتأملوا آخرتهم» (تث 38: 28، 29). ويروي سفر الخروج (14: 10-12) هذا الخطأ، فبعد الضربات التي حلَّت بفرعون، أمر بخروجهم، ولكنه ندم وتابعهم إلى الشاطئ الغربي للبحر الأحمر. ولما رأوا البحر أمامهم والعدو خلفهم، قالوا لموسى: «هل لأنه ليست قبورٌ في مصر أخذتنا لنموت في البرية؟.. لأنه خيرٌ لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية». لم يفهموا نعمة الله، ولا أدركوا محبته لهم، ولا قدرته على إنقاذهم. ويصف المرنم خطيتهم بأنها تمرد على الإرادة الإلهية.. وكان يمكن أن يعطيهم الله طلبهم فيعيدهم إلى مصر، ولكنه من أجل اسمه ورحمته خلَّصهم، ليعرف الأمم أنه القادر على كل شيء. وشقَّ البحر الأحمر فعبروا، الأمر الذي لما شرع فيه المصريون غرقوا. وهنا آمن بنو إسرائيل بكلام ربهم وغنوا بتسبيحه. ولكن هذا كان مؤقتاً، فسرعان ما عادوا إلى نسيانهم وجهلهم وتمردهم.
2 – نقض العهد في صحراء سيناء: (آيات 13-23).
(أ) تذمر على الطعام: (آيات 13-15). بعد عبور البحر الأحمر بثلاثة أيام تذمروا بسبب نقص الماء (خر 15: 22-24)، وبعد هذا بستة أسابيع تذمروا على الطعام (خر 16: 2-4)، وفي رفيديم عادوا يتذمرون بسبب الماء (خر 17: 2-4)، ونسوا عطايا الرب، ولم ينتظروا مشورته وخططه لصالحهم، وقالوا: «من يطعمنا لحماً؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجاناً، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم. والآن قد يبست أنفسنا. ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن» (عد 11: 4-6). وأعطاهم الله ما طلبوا، لكنه عاقبهم «وإذ كان اللحم بعد بين أسنانهم.. ضرب الرب الشعب ضربة عظيمة جداً» (عد 11: 33). ودُعي ذلك المكان «قبروت هتأوة» أي قبور الشهوة.
(ب) تذمر على موسى وهارون: (آيات 16-18). قاوم قورح وجماعة من قادة بني إسرائيل موسى وهارون وقالوا: «كفاكما. إن الجماعة بأسرها مقدسة، وفي وسطها الرب. فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؟» (عد 16: 3). ورفع موسى مظلمته إلى الله، فعاقب الرب المتمردين بأن «فتحت الأرض فاها وابتلعتهم وبيوتهم.. وخرجت نار من عند الرب وأكلت المئتين والخمسين رجلاً» (عد 16: 32، 35). ومن المؤسف أن بين المؤمنين من يصيبه الغرور وتمتلكه الكبرياء كما حدث مع جماعة قورح، فينافس إخوته، وتكون النتيجة أن جماعة الرب تدفع ثمن هذه المنافسة الجسدانية. وما أحوج كل مؤمن إلى سماع النصيحة: «لا يرتئي أحد فوق ما ينبغي أن يرتئي، بل يرتئي إلى التعقُّل، كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان» (رو 12: 3).
(ج) تذمر على الله: (آيات 19-23). في سيناء صعد موسى إلى جبل حوريب ليتلقى لوحي الشريعة من الرب، وقضى هناك أربعين يوماً، فظن بنو إسرائيل أنه مات، وطلبوا من هارون أن يصنع لهم عجلاً يعبدونه، فصنعه من الذهب الذي أخذوه من المصريين (تث 9: 7-21). ولا شك أنهم كانوا متأثرين بعبادة العجل أبيس أحد معبودات المصريين. وأخذوا يهتفون: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر» (خر 32: 8). وكان عملهم هذا ثورة ضد الله الذي أمر بعدم صنع تماثيل يعبدونها (خر 20: 4)، كما أنه نسيان لفضل الرب عليهم. وأراد الرب أن يهلكهم لولا أنه استجاب صلاة موسى من أجلهم (خر 32: 9-14).

3 – نقض العهد على مشارف أرض كنعان: (آيات 24-33).
(أ) ثورة للعودة إلى مصر: (آيات 24-27). أرسل موسى اثني عشر قائداً كجواسيس يستطلعون أحوال الأرض التي سيمتلكونها حسب وعد الرب لهم (عد 13، 14)، فعادوا بتقرير عن عظمة الأرض، ولكنهم قالوا إنهم لا يقدرون أن يمتلكوها لأن العمالقة ساكنون فيها، وقالوا: «كنا في أعيننا كالجراد، وهكذا كنا في أعينهم» (عد 13: 33). فصرخ بنو إسرائيل: «ليتنا متنا في أرض مصر، أو ليتنا متنا في القفر. لماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف؟.. أليس خيراً لنا أن نرجع إلى مصر؟.. نقيم رئيساً ونرجع إلى مصر» (عد 14: 2-4). ويقول المرنم إنهم في هذا الموقف ارتكبوا خطايا متعددة، فقد رذلوا أرض الميعاد التي ترمز إلى أورشليم السماوية، ولم يؤمنوا بوعد الرب، وتذمروا، وعصوا الأوامر الإلهية. ولكن الله عفا عنهم استجابة لصلاة موسى وهارون من أجلهم (عد 14: 13-19).
(ب) الاشتراك في نجاسة العبادة الوثنية: (آيات 28-31). ارتبطت كثير من العبادات الوثنية بالزنا، وقد اشترك بنو إسرائيل مع النسوة الموآبيات في هذه العبادة الفاسدة، وعبدوا وثنهم «بعل فغور» (عد 25). (فغور اسم مكان). ويقول المرنم إنهم أكلوا ذبائح الأوثان الموتى، مع أن إلههم هو الرب الحي. فغضب الرب عليهم وأصابهم بالوبأ الذي قتل منهم أربعة وعشرين ألفاً (عد 25: 9). فقلم فينحاس بن هارون وقتل رجلاً إسرائيلياً وامرأة موآبية كانت تخطئ معه فامتنع الوبأ، وقال الله عن فينحاس: «أعطيه ميثاقي، ميثاق السلام، فيكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدي» (عد 25: 12، 13).
(ج) التذمر عند ماء مريبة: (آيتا 32، 33). مريبة معناها خصام. فعندما وصل الشعب إلى مريبة لم يجدوا ماءً، فاجتمعوا على موسى وهارون وخاصموهما، وصرخوا: «ليتنا فنينا فناء إخوتنا أمام الرب. لماذا أتيتما بجماعة الرب إلى هذه البرية لكي نموت فيها نحن ومواشينا؟ ولماذا أصعدتمانا من مصر لتأتيا بنا إلى هذا المكان الرديء؟ ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان، ولا فيه ماء للشرب» (عد 20: 3-5). وتأذّى موسى بسبب هذه الشكوى، وصرخ إلى الرب فأمره أن يكلم الصخرة لتُخرج ماءً، لكنه في غضبه، ولأن روحه كانت مُرَّة بسبب كلامهم غضب وهو الحليم، وأخطأ وضرب الصخرة، فخرج الماء غزيراً. وبسبب خطإ موسى حرمه الله من دخول أرض كنعان.
4 – نقض العهد في أرض كنعان: (آيات 34-46).
(أ) الخطأ: (آيات 34-39). يوضح المرنم خطايا بني إسرائيل بعد دخولهم أرض الموعد بأنهم عصوا أمر الرب ولم يستأصلوا سكان تلك الأرض، كما قيل: «بنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم، فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين» (قض 1: 21. راجع قض 1: 27، 29 و2: 1).. مع أن الأمر باستئصالهم تكرر في أماكن كثيرة، منها خر 23: 32، 33 وتث 7: 2-4. وكانت نتيجة هذا أن اختلط بنو إسرائيل بالأمم الوثنية وتعلموا منهم عبادتهم، ثم عبدوا أصنامهم، وذبحوا بنيهم وبناتهم للأصنام ليرضوا عليهم ويزيدوا محاصيلهم، كما كان الكنعانيون يفعلون. وبهذا خانوا عهودهم مع الرب إلههم، وتلوَّثوا بشرور الوثنيين، فإن «المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة» (1كو 15: 33).
(ب) العقاب: (آيات 40-43). غضب الرب على بني إسرائيل بسبب خياناتهم الكثيرة وزيغانهم المستمر، فأسلمهم ليد الشعوب المحيطة بهم، فاستعبدوهم وأذلوهم. ومع هذا كان يشفق عليهم ويقيم لهم قضاةً لينقذوهم، مثل جدعون (قض 6) ويفتاح (قض 11) وشمشون (قض 13). غير أنهم استمروا في عصيانهم.
(ج) أمانة الله لعهده: (آيات 44-46). ظل الرب أميناً لعهده مع بني إسرائيل فسمع صراخهم، ونظر إلى ضيقهم، وذكر عهده معهم، وأنقذهم من أعدائهم، بل إنه أعطاهم نعمة أمام كل من حاربوهم، استجابة لصلاة سليمان: «اغفر لشعبك ما أخطأوا به إليك، وجميع ذنوبهم التي أذنبوا بها إليك، وأعطهم رحمة أمام الذين سبوهم فيرحموهم» (1مل 8: 50). وتاريخ بني إسرائيل سلسلة من ارتكاب الشر، فوقوع العقاب، فالصراخ طلباً للرحمة والإنقاذ، فحلول الرحمة الإلهية والنجاة، ليعودوا من جديد يمارسون الخطأ نفسه. وهذا هو تاريخ الإنسان الخطاء الذي يعصى وصايا الرب، فيؤدبه. ويصرخ في آلامه فيتحنن عليه إله الرأفة وينقذه، فيقول: «بالنهار يوصي الرب رحمته، وبالليل تسبيحه عندي صلاة لإله حياتي» (مز 42: 8).

ثالثاً – صلاة وتمجيد ختاميان
(آيتا 47، 48)
1 – صلاة: (آية 47). بعد أن ذكر المرنم خطايا شعبه عبر التاريخ بالتفصيل واعترف بها بأمانة، رفع صلاة كأنه يقول فيها: «ما أفظع الخطايا الكثيرة التي ارتكبناها، والتي عاقبتنا عليها برحمة، لأننا كنا نستحق عقاباً أشد مما حلَّ بنا. ولكننا الآن نعترف بها ونتوب عنها، ونلجأ إلى غنى رحمتك، فأعِدنا إلى أرضنا ونعدك أن نكون أمناء للعهد هذه المرة، فنسبح لك ونتفاخر بهذا التسبيح، فنحن لا نزال شعبك الذي دُعي عليه اسمك، وأنت سيدنا وملاذنا الوحيد الذي عليه نتكل وبه نبتهج».
2 – تمجيد: (آية 48). يمكن أن يكون هذا التمجيد خاتمة هذا المزمور، كما يمكن أن يكون تمجيداً يختم الكتاب الرابع من سفر المزامير، الذي بدأ بالمزمور التسعين. وفي هذا التمجيد يبارك المرنم ربَّه الأمين لعهده من الأزل وإلى الأبد، كما مجَّده داود عندما بارك بني إسرائيل قائلاً: «مباركٌ أنت أيها الرب إله إسرائيل أبينا من الأزل وإلى الأبد.. والآن يا إلهنا نحمدك ونسبح اسمك الجليل» (1أي 29: 10، 13). وكما طلب اللاويون من بني إسرائيل أن يمجدوه قائلين: «قوموا باركوا الرب إلهكم من الأزل إلى الأبد، وليتبارك اسم جلالك المتعالي على كل بركة وتسبيح» (نح 9: 5).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّابِعُ
1 اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 2لِيَقُلْ مَفْدِيُّو الرَّبِّ الَّذِينَ فَدَاهُمْ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ، 3وَمِنَ الْبُلْدَانِ جَمَعَهُمْ، مِنَ الْمَشْرِقِ وَمِنَ الْمَغْرِبِ، مِنَ الشِّمَالِ وَمِنَ الْبَحْرِ. 4تَاهُوا فِي الْبَرِّيَّةِ فِي قَفْرٍ بِلاَ طَرِيقٍ. لَمْ يَجِدُوا مَدِينَةَ سَكَنٍ. 5جِيَاعٌ عِطَاشٌ أَيْضاً أَعْيَتْ أَنْفُسُهُمْ فِيهِمْ، 6فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ فَأَنْقَذَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ، 7وَهَدَاهُمْ طَرِيقاً مُسْتَقِيماً لِيَذْهَبُوا إِلَى مَدِينَةِ سَكَنٍ. 8فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ.
9لأَنَّهُ أَشْبَعَ نَفْساً مُشْتَهِيَةً، وَمَلأَ نَفْساً جَائِعَةً خُبْزاً، 10الْجُلُوسَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ مُوثَقِينَ بِالذُّلِّ وَالْحَدِيدِ. 11لأَنَّهُمْ عَصُوا كَلاَمَ اللهِ وَأَهَانُوا مَشُورَةَ الْعَلِيِّ، فَأَذَلَّ قُلُوبَهُمْ بِتَعَبٍ. عَثَرُوا وَلاَ مَعِينَ. 13ثُمَّ صَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ. 14أَخْرَجَهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، وَقَطَّعَ قُيُودَهُمْ. 15فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ، 16لأَنَّهُ كَسَّرَ مَصَارِيعَ نُحَاسٍ وَقَطَّعَ عَوَارِضَ حَدِيدٍ.
17وَالْجُهَّالُ مِنْ طَرِيقِ مَعْصِيَتِهِمْ، وَمِنْ آثَامِهِمْ يُذَلُّونَ. 18كَرِهَتْ أَنْفُسُهُمْ كُلَّ طَعَامٍ وَاقْتَرَبُوا إِلَى أَبْوَابِ الْمَوْتِ. 19فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ. 20أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ، وَنَجَّاهُمْ مِنْ تَهْلُكَاتِهِمْ. 21فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ، 22وَلْيَذْبَحُوا لَهُ ذَبَائِحَ الْحَمْدِ، وَلْيَعُدُّوا أَعْمَالَهُ بِتَرَنُّمٍ.
23اَلنَّازِلُونَ إِلَى الْبَحْرِ فِي السُّفُنِ، الْعَامِلُونَ عَمَلاً فِي الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ،24هُمْ رَأُوا أَعْمَالَ الرَّبِّ وَعَجَائِبَهُ فِي الْعُمْقِ. 25أَمَرَ فَأَهَاجَ رِيحاً عَاصِفَةً فَرَفَعَتْ أَمْوَاجَهُ. 26يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاوَاتِ. يَهْبِطُونَ إِلَى الأَعْمَاقِ. ذَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالشَّقَاءِ. 27يَتَمَايَلُونَ وَيَتَرَنَّحُونَ مِثْلَ السَّكْرَانِ، وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ابْتُلِعَتْ، 28فَيَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، وَمِنْ شَدَائِدِهِمْ يُخَلِّصُهُمْ. 29يُهَدِّئُ الْعَاصِفَةَ فَتَسْكُنُ وَتَسْكُتُ أَمْوَاجُهَا، 30فَيَفْرَحُونَ لأَنَّهُمْ هَدَأُوا، فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْمَرْفَإِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ. 31فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ، 32وَلْيَرْفَعُوهُ فِي مَجْمَعِ الشَّعْبِ، وَلْيُسَبِّحُوهُ فِي مَجْلِسِ الْمَشَايِخِ.
33يَجْعَلُ الأَنْهَارَ قِفَاراً. وَمَجَارِيَ الْمِيَاهِ مَعْطَشَةً، 34وَالأَرْضَ الْمُثْمِرَةَ سَبِخَةً مِنْ شَرِّ السَّاكِنِينَ فِيهَا. 35يَجْعَلُ الْقَفْرَ غَدِيرَ مِيَاهٍ، وَأَرْضاً يَبَساً يَنَابِيعَ مِيَاهٍ. 36وَيُسْكِنُ هُنَاكَ الْجِيَاعَ، فَيُهَيِّئُونَ مَدِينَةَ سَكَنٍ، 37وَيَزْرَعُونَ حُقُولاً وَيَغْرِسُونَ كُرُوماً، فَتَصْنَعُ ثَمَرَ غَلَّةٍ. 38وَيُبَارِكُهُمْ فَيَكْثُرُونَ جِدّاً، وَلاَ يُقَلِّلُ بَهَائِمَهُمْ. 39ثُمَّ يَقِلُّونَ وَيَنْحَنُونَ مِنْ ضَغْطِ الشَّرِّ وَالْحُزْنِ. 40يَسْكُبُ هَوَاناً عَلَى رُؤَسَاءَ، وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلاَ طَرِيقٍ، 41وَيُعَلِّي الْمِسْكِينَ مِنَ الذُّلِّ، وَيَجْعَلُ الْقَبَائِلَ مِثْلَ قُطْعَانِ الْغَنَمِ. 42يَرَى ذَلِكَ الْمُسْتَقِيمُونَ فَيَفْرَحُونَ، وَكُلُّ إِثْمٍ يَسُدُّ فَاهُ. 43مَنْ كَانَ حَكِيماً يَحْفَظُ هَذَا، وَيَتَعَقَّلُ مَرَاحِمَ الرَّبِّ.

ترنيمة المفديين
هذا المزمور بداية الجزء الخامس من سفر المزامير، ويتناسق هذا الجزء مع سفر التثنية الذي ينبِّر على كلمة الله (انظر مقدمة الكتاب). ومزمورنا ترنيمة كل مؤمن فداه الله، يذكر فيه المرنم صوراً من واقع الحياة لصلوات مستجابة وترانيم مرتفعة من تقي قد يكون تائهاً في صحراء يكاد يهلك من العطش والجوع فيهديه الطريق إلى أرض الرحب، أو قد يكون سجيناً عقاباً على ذنب جناه فيطلقه إلى الحرية، أو قد يكون مريضاً على فراشه بسبب خطاياه فيمنحه الشفاء، أو قد يكون على ظهر سفينة موشكة على الغرق فيوصله إلى الشاطئ بأمان.. ولعل المرنم كتب هذا المزمور وهو في قمة فرحه على العودة من السبي، فجعل يذكر بركات الله على كل شعب الله المفدي. و«من كان حكيماً يحفظ هذا ويتعقَّل مراحم الرب» (آية 43).
يبدأ مزمورنا بالقول: «احمدوا الرب لأنه صالح. لأن إلى الأبد رحمته» وهو تعبير ورد 36 مرة في الكتاب المقدس (26 مرة في مزمور 136، كما ورد في 1أي 16: 34 و2أي 5: 13 و7: 3، عز 3: 11 و مز 100: 5 و106: 1 و107: 1 و118: 1، 29، إر 33: 11). وورد التعبير «إلى الأبد رحمته» خمس مرات، في 1أي 16: 41 و2أي 7: 6 و20: 21 ومز 118: 3، 4.
وهناك ارتباط بين هذا المزمور وسابقَيْه، ففي مز 105: 44 وعدٌ بالأرض يبرهن أمانة الله لعهوده، وفي مز 106: 27 عقاب في الأرض على عدم أمانة الإنسان في حفظ عهوده، وفي مزمورنا (آية 3) أمانة الله في استجابة الصلاة وعودة شعبه إلى أرضهم.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – فرحة الفداء (آيات 1-3)
ثانياً – ضعف الإنسان (آيات 4-32)
ثالثاً – قوة الله (آيات 33-42)
رابعاً – دعوة للحكمة (آية 43)

أولاً – فرحة الفداء
(آيات 1-3)
1 – لأن الرب صالح: (آية 1). يدعو المرنم الشعب أن يسبحوا الرب ويحمدوه لأجل صلاحه الظاهر في عنايته، فقد جهَّز جنة عدن لآدم وحواء من قبل أن يخلقهما، ولكن صلاحه ظهر بصورةٍ أعمق لما ستر عريهما بعد أن سقطا. ولا زلنا نختبر كل يوم صلاح إله العناية وإله الفداء، ورحمته الأبدية التي لا تتغيَّر، فإنه لا يعاملنا حسب خطايانا، بل يتنازل إلينا بغفرانه في المسيح، فنقول: «الله بيَّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو 5: 8).
2 – لأن الرب فادٍ: (آية 2). يقصد المرنم أن بني إسرائيل كانوا أسرى في بابل، ففداهم الله من يد العدو، كما سبق أن فداهم من سوء تعذيبات فرعون، وعبَّر الملاك المهلك الذي رأى الدم على أبوابهم (خر 12: 13، 14). والفادي هو الوليُّ الأقرب. والفداء الأعظم طبعاً هو الفداء من أسر إبليس «لأنه لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدَّمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار برِّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة، بإمهال الله» (رو 3: 22-25). والمسيح هو الوليُّ الأقرب، لأنه في ملء الزمان صار الكلمة جسداً وحلَّ بيننا، ويقول المؤمنون إنهم من ملئه أخذوا نعمة فوق نعمة. فندعوه قائلين: «اقترِب إلى نفسي. فُكَّها. بسبب أعدائي افدني» (مز 69: 18).
3 – لأن الرب يجمع: (آية 3). وعد الله أنه بعد سبعين سنة من السبي يُعيد شعبه من بابل إلى أرضهم، وحقق وعده كما تنبأ إشعياء: «يرفع رايةً للأمم ويجمع منفيي إسرائيل ويضم مشتَّتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض» (إش 11: 12). وفي هذه الآية يسجل المرنم استجابة الطلبة المرفوعة في ختام المزمور السابق: «خلِّصنا أيها الرب إلهنا واجمعنا.. لنحمد اسم قدسك ونتفاخر بتسبيحك» (مز 106: 47). ونحن اليوم نشكر الله الذي يرد نفوسنا من سبي الخطية وأسرها، فنقول: «يرد نفسي. يهديني إلى سبُل البر من أجل اسمه» (مز 23: 3).

ثانياً – ضعف الإنسان
(آيات 4-32)
1- الإنسان التائه: (آيات 4-9). يقدم المرنم صورة للضعف الإنساني متمثِّلاً في مسافرين في الصحراء ضلوا طريقهم، وكادوا يهلكون عطشاً وجوعاً، ولم يجدوا بلداً يمكن أن يجدوا فيها الشراب والطعام والمأوى، فصرخوا إلى الرب، فأنقذهم بأن هداهم إلى الطريق الصحيح حيث وجدوا بلداً آهلة بالسكان. ويدعوهم المرنم إلى شكر الرب على رحمته ومعجزاته.. وهي صورة الإنسان الضال بعيداً عن بيت الآب، فيصرخ: «اللهم ارحمني أنا الخاطي» فيهديه الرب إلى المسيح الذي هو الطريق والحق والحياة (يو 14: 6)، مريح التعابى (مت 11: 28)، الذي يروي الظمأ بمائه الحي (يو 4: 10)، ويشبع الجوع بخبز الحياة (يو 6: 51)، ويهدي إلى المدينة السماوية (عب 12: 22-24). فالمجد للرب الذي ملأ نفساً جائعة خبزاً، كما أشبع الابن الضال الذي لم يكن يجد طعام الخنازير، فأشبعه بوليمة أبوية (لو 15)، »كما هو مكتوب: ما لم ترَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعدَّه الله للذين يحبونه، فأعلنه لنا بروحه» (1كو 2: 9، 10).
2 – الإنسان السجين: (آيات 10-16). يقدم المرنم صورة ثانية للضعف الإنساني متمثِّلة في سجناء موثقين في ظلمة سجن لأنهم ارتكبوا ذنباً، وهم في غاية الذل، ليس لهم محامٍ ولا مدافع. وصرخوا إلى الرب: «اذكرني يا رب» فسمع صرختهم وأنقذهم وأخرجهم من الظلمة وقطع قيودهم. ويدعوهم المرنم إلى شكر الرب على رحمته ومعجزاته، لأنه يكسر الأبواب الضخمة النحاسية، ويقطع العوارض الحديدية، فيقول كل منهم: «حللت قيودي، فلك أذبح ذبيحة حمد، وباسم الرب أدعو» (مز 116: 16، 17).. وهي صورة الإنسان السجين في خطاياه، فيخلِّصه المسيح ويشرق عليه بنوره (يو 8: 12) ويطلقه حراً (يو 8: 36) ويرفعه من حفرة السجن، ويقدم له العون، فهو «المشرق من العلاء ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت، لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام» (لو 1: 78، 79) وهو الذي قال: «أُرسل المنسحقين في الحرية» (لو 4: 19).
3 – الإنسان المريض: (آيات 17-22). يقدم المرنم صورة ثالثة للضعف الإنساني متمثلة في جهّالٍ كان ضلالهم عن سواء السبيل سبباً في مرضهم. وقد تكون الخطية سبباً للمرض، كما قال المسيح لمريضٍ شفاه: «ها أنت قد برئت، فلا تخطئ أيضاً لئلا يكون لك أشر!» (يو 5: 14). ولكن الخطية ليست سبباً لكل مرض، فلم يكن المولود أعمى قد أخطأ، ولا أخطأ أبواه (يو 9: 2، 3). والحالة التي يصفها المرنم حالة مريض خاطئ فقد شهيته للطعام فهزل جسده حتى اقترب من الموت، فصرخ إلى الرب طالباً الإنقاذ، فأرسل الرب كلمته وشفاه ونجّاه من الموت. وكلمة الله تحمل سلطان الله، فهو الذي يقول فيكون. إنها «حية وفعالة وأمضى من كل سيفٍ ذي حدَّين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ» (عب 4: 12). ويدعو المرنم أمثال هذا المريض أن يشكروا الرب على رحمته ومعجزاته، وأن يذبحوا له ذبائح الحمد، ويُحصوا أفضال الله عليهم بترنُّم.. وقد أوصى الرسول يعقوب بالصلاة لأجل المريض في قوله: «أمريضٌ أحدٌ بينكم؟ فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلّوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب، وصلاة الإيمان تشفي المريض، والرب يقيمه، وإن كان قد فعل خطية تُغفَر له. اعترِفوا بعضكم لبعضٍ بالزلات، وصلّوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشفوا. طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها» (يع 5: 14-16).عندها يقدم الذي نال الشفاء »ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه» (عب 13: 15).
4 – الإنسان الغارق: (آيات 23-32). ويقدم المرنم صورة رابعة للضعف الإنساني متمثلة في مجموعة ملاحين متمرسين في البحر بسبب طبيعة عملهم، وقد جازوا من قبل في عواصف عاتية واختبروا عجائب الله في المياه العميقة. ولكن الله أمر الرياح العاصفة أن تحرك الأمواج، فجعلت سفينتهم تعلو ثم تهبط بسرعة كبيرة ولمسافات عظيمة، وهم يترنحون كالسكارى، لا يجدون في حكمتهم السابقة ما يمكِّنهم من مواجهة هذا الموقف الأخير المرعب، فاكتشفوا جميعاً أنهم صغار ضعاف. ولما وجد هؤلاء الشجعان المختبرون أنفسهم عاجزين في مواجهة البحر، عرفوا أنه لا ملجأ لهم إلا رحمة الله، فصرخوا إليه فسمع صراخهم، وأمر الرياح والأمواج فصار هدوء، ثم أبلغهم وُجهتهم سالمين. فوجب عليهم أن يحمدوه على رحمته ومعجزاته.. وقال رجل حكيم: «دعِ الذي لا يعرفون الصلاة أن يواجهوا البحر». وهذه صورة كل من يواجه مشاكل في دائرة تخصصه يجد نفسه عاجزاً عن مواجهتها رغم كل ما عنده من خبرة، فيصرخ إلى الله فينقذه، فيهتف «انتظاراً انتظرت الرب فمال إليَّ وسمع صراخي، وأصعدني من جب الهلاك، من طين الحمأة، وأقام على صخرة رجليَّ. ثبَّت خطواتي، وجعل في فمي ترنيمة جديدة، تسبيحة لإلهنا» (مز 40: 1-3). كما أنها صورة المؤمن المختبر الذي تعمَّق وتثور عليه العاصفة، فيصرخ: «أما يهمك أننا نهلك؟» فينتهر الرب الريح فيسود الهدوء وتطمئن النفس (مر 4: 37-41).

ثالثاً – قوة الله
(آيات 33-42)
1 – يجعل القفر غدير مياه: (آيات 33-38). تقول هذه الآيات إن الله يحوِّل الأراضي الخصبة إلى صحارى بسبب شرور أهلها، كما قال موسى إن الرب يضرب أرض الخطاة، فتصير «كبريتاً وملحاً. كل أرضها حريق. لا تُزرع ولا تنبت ولا يطلع فيها عشبٌ ما، كانقلاب سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم التي قَلَبَها الرب بغضبه» (تث 29: 23)، كما أنه يُنزِل مطره على الصحراء الجرداء فتصير أرضاً خضراء يجد فيها الجياع طعاماً والفقراء مكاناً للسكن، كما يقول إشعياء: «انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر، ويصير السراب أجَماً والمعطشة ينابيع ماء» (إش 35: 6، 7)، فتكثر المراعي للقطعان المتزايدة، ويزرعون حقولاً ويغرسون كروماً ويباركهم فيزيد عددهم. وهذه صورة للبشر الذين يرجعون للرب تائبين، فيرويهم من الماء الحي كما روى السامرية (يو 4)، وصورة للذين يرفضون الرب كما رفضه يهوذا الإسخريوطي فهلك (يو 17: 12).
2 – يرفع المتواضع: (آيات 39-42). عندما تزيد ثروة الناس وخيراتهم قد يتكبَّرون، فيوقع الله بهم عقابه فينقص عددهم بالموت، وتضيع بهجتهم ويفقدون سلامهم وينحنون من ضغط الشر والحزن الذي ارتكبوه بالقول والفعل. ويقع الذل والهوان برؤسائهم المتكبرين فيضلون في طرقهم الشريرة.. أما المساكين بالروح، الذين يؤمنون أن كل ما عندهم عطية من عند الرب، فيرفعهم من ذل المسكنة ويزيد عددهم وتنمو ثروتهم الحيوانية. «لأن الله يقاوم المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة» (1بط 5: 5). فيستدّ كل فم يتكلم ضد الله، ويفرح المستقيمون بأمانة إلههم وصلاحه، لأن إلى الأبد رحمته.

رابعاً – دعوة للحكمة
(آية 43)
«من كان حكيماً يحفظ هذا، ويتعقَّل مراحم الرب». كل من كان حكيماً يتأمل عمل الرب الفادي الذي ينقذ الإنسان الضعيف من ضعفاته، ويعاقب الشرير على شروره، وينصف المسكين ويرفعه لا بد يحفظ هذا في قلبه كما فعلت العذراء وهي تسمع عن أعجب معجزة، فكانت «تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها» (لو 2: 51). ولا بد أن الشرير يتَّعظ ويتوب، كما أن المؤمن يزيد اعتماده على الرب وطاعته. وما أجمل القول النبوي: «من هو حكيمٌ حتى يفهم هذه الأمور، وفهيم حتى يعرفها؟ فإن طرق الرب مستقيمة والأبرار يسلكون فيها، وأما المنافقون فيعثرون فيها» (هو 14: 9).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّامِنُ
تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1 ثَابِتٌ قَلْبِي يَا اللهُ. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ. كَذَلِكَ مَجْدِي. 2اسْتَيْقِظِي أَيَّتُهَا الرَّبَابُ وَالْعُودُ. أَنَا أَسْتَيْقِظُ سَحَراً. 3أَحْمَدُكَ بَيْنَ الشُّعُوبِ يَا رَبُّ، وَأُرَنِّمُ لَكَ بَيْنَ الأُمَمِ. 4لأَنَّ رَحْمَتَكَ قَدْ عَظُمَتْ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وَإِلَى الْغَمَامِ حَقُّكَ. 5ارْتَفِعِ اللهُمَّ عَلَى السَّمَاوَاتِ، وَلْيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ مَجْدُكَ، 6لِكَيْ يَنْجُوَ أَحِبَّاؤُكَ. خَلِّصْ بِيَمِينِكَ وَاسْتَجِبْ لِي.
7اَللهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِقُدْسِهِ. أَبْتَهِجُ. أَقْسِمُ شَكِيمَ، وَأَقِيسُ وَادِيَ سُكُّوتَ. 8لِي جِلْعَادُ. لِي مَنَسَّى. أَفْرَايِمُ خُوذَةُ رَأْسِي. يَهُوذَا صَوْلَجَانِي. 9مُوآبُ مِرْحَضَتِي. عَلَى أَدُومَ أَطْرَحُ نَعْلِي. يَا فَلَسْطِينُ اهْتِفِي عَلَيَّ.
10مَنْ يَقُودُنِي إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُحَصَّنَةِ؟ مَنْ يَهْدِينِي إِلَى أَدُومَ؟ 11أَلَيْسَ أَنْتَ يَا اللهُ الَّذِي رَفَضْتَنَا وَلاَ تَخْرُجُ يَا اللهُ مَعَ جُيُوشِنَا؟ 12أَعْطِنَا عَوْناً فِي الضِّيقِ، فَبَاطِلٌ هُوَ خَلاَصُ الإِنْسَانِ. 13بِاللهِ نَصْنَعُ بِبَأْسٍ، وَهُوَ يَدُوسُ أَعْدَاءَنَا.
.
ترنيمة المنتصرين
هذا المزمور اقتباس من مزمورين، فنصفه الأول (آيات 1-6) مقتبس من النصف الثاني من مزمور 57 (آيات7-11)، ونصفه الثاني (آيات 7-13) مقتبس من النصف الثاني من مزمور 60 (آيات 6-12). ومزمورا 57 و60 يعبِّران في بدايتهما عن بؤس داود، ولكنهما يختتمان بأمله وثقته في الانتصار بالرب. ولما كان المرنم قد اقتبس ختامهما يكون قد هتف بنشيد المنتصر الذي امتلأ قلبه بكل الأمل والثقة والشكر. كان المرنم في المزامير الثلاثة السابقة قد دعا شعبه لحمد الرب (105: 1-3 و106: 1 و107: 1)، وها هو في مزمورنا يعمل بالوصية التي سبق أن أوصى بها، فيؤكد أن من اختبر الصليب لا بد أن يتمتع بعده بالقيامة. فإن كنا نحمل صليبنا ونُدفن مع المسيح بالمعمودية للموت، فلا بد أن نقوم معه في جِدَّة الحياة، ويصير لنا أمل رائع في المستقبل (رو 6: 4). «صادقة هي الكلمة: إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضاً معه» (2تي 2: 13). إن ملكنا المنتصر آتٍ ثانية، لأنه لا بد أن يملك ليضع أعداءه موطئاً لقدميه. لقد وعدنا بذلك، وهو أمين لوعوده، صادق في محبته، سخي في عطاياه «إنما لله انتظري يا نفسي لأن من قِبَله رجائي» (مز 62: 5).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – التسبيح في الصعوبة (آيات 1-6)
ثانياً – تحقيق المواعيد رغم الصعوبة ( آيات 7-13)

أولاً – التسبيح في الصعوبة
(آيات 1-6)
1 – اطمئنان صاحب التسبيح: «ثابتٌ قلبي يا الله» (آية 1أ). بدأ المرنم بإعلان طمأنينته بالرب لأنه واثق فيه معتمد على صُحبته، وشعاره: «من لي في السماء؟ ومعك لا أريد شيئاً في الأرض» (مز 73: 25). أحياناً يقول المؤمن: خائف قلبي، لأن رياح الحياة تهبُّ عليَّ، ولأن العواصف والأمواج تحيط بسفينتي وتهدد سلامتها. ولكن عندما يوجد الرب في سفينة حياة مؤمن لا يمكن أن يهلك ذلك المؤمن، بل يهتف: «جعلتَ سروراً في قلبي أعظم من سرورهم.. بسلامة أضطجع بل أيضاً أنام، لأنك أنت يا رب منفرداً في طمأنينة تسكنني» (مز 4: 7، 8).
2- شكر صاحب التسبيح: «أغني وأرنم. كذلك مجدي» (آية 1ب). القلب الثابت يغني ويرنم لله لأن إبليس عجز عن أن يزعزع ثقته بربِّه. كان شاول يطارد داود قبل أن يملك، وبعد أن تولى المُلك هدَّد الأعداء حدود بلاده، ولكن مطاردة شاول وهجوم الأعداء لم يرهباه لأنه كان يعلم أن كل أموره في يد الرب، فثبت قلبه وتهلل لسانه وترنمت شفتاه بتسابيح وأغاني روحية ترددت أصداؤها في مغارات الجبال التي اختبأ فيها، فعرف الجميع أن سلامه مستمد من الرب وليس من الظروف. وفي آثار داود سار بولس وسيلا اللذان لما أُلقيا في سجن فيلبي كان قلباهما يحلقان في سماء الفرح صلاةً وتسبيحاً حتى تزعزعت أساسات السجن. وكان هذا سبباً في خلاص ضابط السجن وأهل بيته (أع 16).
»كذلك مجدي« ترنمت شفتاه وترنم مجده، أي أفضل ما في أعماق نفسه، فتغنَّى بكل ما فكر فيه عقله، وكل ما عبَّر به لسانه، وكل ما جمَّله خياله. سبَّح بكل مجد الصورة التي خلقه الرب عليها، فهتف: «أحمدك من أجل أني قد امتزت عجباً. عجيبة هي أعمالك ونفسي تعرف ذلك يقيناً» (مز 139: 14). وسبَّح بكل مجد الحياة الجديدة التي منحها الله له، وكأنه يقول: يا رب، مجَّدتني ورفعتني من موت خطاياي، وأقمتني من قبر الخطية، وأعتقتني وأطلقتني إلى حرية مجد أولاد الله، فكل مجدي مستمد منك، وهو يخدمك ويرفع اسمك «أما أنت يا رب فترسٌ لي. مجدي ورافع رأسي» (مز 3: 3).
نعبس حين نرى الأمور من خلال عيني العالم، ولكننا نبتهج عندما نتطلع إلى أمورنا من وجهة نظر المسيح.
3- حماس صاحب التسبيح: «استيقظي أيتها الرباب والعود. أنا أستيقظ سحراً» (آية 2). كأن عوده وربابته رقدا لما مضى هو إلى فراشه لينام. ولما استيقظ مع الفجر ليناجي إلهه، أوقظهما معه ليشاركاه أنغامه وألحانه ليرفع للرب ذبيحة حمده، أي ثمر شفاه معترفة باسمه (عب 13: 15) وهو يقول: «أما أنا فبالبر أنظر وجهك. أشبع إذا استيقظت بشبهك» (مز 17: 15). فما أبهج أن نبكر للرب بقلوبنا فيعطينا زاداً لنحتمل مسؤوليات يومنا ونواجه مشاكلنا.
4- مكان صاحب التسبيح: «أحمدك بين الشعوب يا رب، وأرنم لك بين الأمم» (آية 3). لم يكن اليهود يخالطون الوثنيين ولا يعاملون السامريين، لكن داود الممتلئ بالروح ارتفع بقلبه وفكره ليشكر الرب بين الجميع من يهود وأمم، ويعلن أمامهم فرحه بالرب. وقد أعلن المسيح لنا أن الله يحب العالم كله، وأنه لا يفرِّق بين إنسان وآخر بسبب جنسه «لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعاً واحد في المسيح» (غل 3: 26-28). وقد أمرنا الرب أن نذهب إلى العالم أجمع ونكرز بالإنجيل للخليقة كلها. وعلينا أن نسلك بهذه الروح الكرازية التي تتخطى حواجز الجنس واللون واللغة. وما أجمل أن يجتمع الإخوة معاً لأنه «هناك أمر الرب بالبركة: حياةٍ إلى الأبد». (مز 133: 3).
5- دوافع صاحب التسبيح: «لأن رحمتك قد عظمت فوق السموات، وإلى الغمام حقك» (آية 4). في زمن الخروج ظهرت رحمة الله في عمود السحاب الذي سار أمام شعبه ليهديهم ويحميهم من حرارة الشمس (خر 13: 21)، وعندما تابعهم أعداؤهم انتقل عامود السحاب من أمامهم ووقف وراءهم ليحميهم من العدو (خر 14: 19). وفي أيام يشوع عظمت رحمته العالية وحقه الرفيع، فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل (يش 10: 13). وأحاط الرب المرنم بالرحمة والحق فاندفع يسبح الرب. كان يعرف أن هناك أجرة يستحقها، وأن هناك هبة لا يستحقها، فأجرة الخطية هي موت، أما هبة الله فهي حياة أبدية في المسيح (رو 6: 23). وهو محتاج إلى الرحمة لأنه يستحق الهلاك، فعظمت الرحمة فوق السموات وسترت شروره وآثامه، وغطَّته وهو يحتمي بها من الموت كما احتمى الابن الضال في أحضان محبة أبيه وغفرانه (لو 15: 20). ولأن العدل الإلهي لا بد أن يستوفي حقه فقد ارتفع عالياً واضحاً إلى الغمام، فتغنَّى المرنم به لأنه رآه علامة ميثاق في قوس قزح في السحاب (تك 9: 13)، ثم رآه في المطر الذي ينزل ليروي الأرض فتُنبت غذاءً للإنسان والطير والحيوان. حقاً «الرحمة والحق التقيا. البر والسلام تلاثما» (مز 85: 10).
6- تواضع صاحب التسبيح: «ارتفع اللهم على السموات، وليرتفع على كل الأرض مجدك» (آية 5). شعر المرنم بضآلة تسبيحه وتمجيده للرب، فهو السيد الجالس على العرش العالي المرتفع، ترنم له جيوش الملائكة: «قدوس قدوس قدوس رب الجنود، مجده ملء كل الأرض» (إش 6: 1، 3). ولكن أكثر البشر لا يشعرون، ويحتاجون أن يسمعوا أمر الرب: «ادخل إلى الصخرة واختبئ في التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته. توضع عينا تشامخ الإنسان، وتُخفض رفعة الناس ويسمو الرب وحده في ذلك اليوم» (إش 2: 10، 11).. ومهما عظُم تسبيح المؤمن فهو لا يتناسب مع جلال الرب وعظمته، فيناشد الله المرتفع أن يرتفع أكثر على السموات، ويعلو مجده على كل الأرض، ويملك على قلوب المؤمنين وحياتهم، ويعرفه الكبير والصغير، وتجثو لاسمه كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض، ويعترف كل لسان بسلطانه غير المحدود وملكه غير المتناهي، فهو رب الماضي والحاضر والآتي.
7-أمل صاحب التسبيح: «لكي ينجو أحباؤك، خلِّص بيمينك واستجب لي» (آية6). يأمل المرنم أن تمتدَّ يد الله الملك العظيم إليه بالاستجابة فينجو لأنه حبيب الرب ولأنه يحب الرب. لقد طلب أن يرتفع الرب وحقه فوق الجميع، فينحني أمامه كل أعدائه، وينجو أحباؤه المحتمون بظل جناحيه، ويخلص كل من يدعو باسمه. ومن سماء قدسه يميل الرب أذنه ويستجيب. وما أعظم الخلاص بيمين الرب الصانعة ببأس لأولاده بشفاء الجسد وعتق الروح من أسر الخطية والذنوب والهلاك «أعلى أحد بينكم مشقات؟ فليصلِّ. أمسرور أحد؟ فليرتل.. صلوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشفوا. طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها» (يع 5: 13-16).

ثانياً – تحقيق المواعيد رغم الصعوبة
(آيات 7-13)
1- مواعيد تحقَّقت في الماضي: «الله تكلم بقدسه. أبتهج، أقسم شكيم، وأقيس وادي سكوت. لي جلعاد، لي منسى. أفرايم خوذة رأسي. يهوذا صولجاني» (آيتا 7، 8) يتحدث المرنم عن معاملات الله السابقة مع يشوع حين شقَّ نهر الأردن فعبر الشعب واستولوا على أراضي الشرق: سكوت وجلعاد (عجلون) ومنسى، وأراضي الغرب: شكيم (نابلس) وأفرايم ويهوذا، فقاسوها وقسموها للأسباط. لقد تكلم الرب بقدسه، فتمَّ كل ما تكلم به، لأنه لا تسقط كلمة واحدة من كلامه الصالح. أنقذ المستضعفين في الأرض، وهدى التائهين في برية سيناء، وجعل من هؤلاء البدو الرحَّل قادة عسكريين يفتحون الأراضي دون أن يتلقوا أي تعليم حربي، وخلق منهم كهنة بغير أن يتلقوا تعليماً كهنوتياً، فقد كان هو قائدهم الأعظم ومعلمهم الصالح.
2- مواعيد تتحقق في الحاضر: «موآب مرحضتي. على أدوم أطرح نعلي. يا فلسطين، اهتفي عليَّ. من يقودني إلى المدينة الحصينة، من يهديني إلى أدوم؟» (آيتا 9، 10). واجه المرنم ثلاثة أعداء هاجموه، أولهم موآب، وكان يرى بعين الإيمان نصرته عليها فيجعل منها مرحضة يعلو فوقها كمن يغسل أقدامه من عناء مشوار طويل لإخضاعها واستعبادها. وكانت أدوم ثاني هؤلاء الأعداء، وقد رأى المرنم نفسه يطرح نعله على أدوم، بمعنى أنه يمتلك أرضه ويسود عليه، تحقيقاً لقول الرب ليشوع: «كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيه» (يش 1: 3). أما العدو الثالث: فلسطين فقد رآها المرنم تهتف له دليل الخضوع والتبعيَّة. وحقق الرب لداود ما سبق أن توقعه بالإيمان، فيقول الوحي: «وبعد ذلك ضرب داود الفلسطينيين وذللهم.. وضرب الموآبيين وقاسهم بالحبل.. وصار الموآبيون عبيدا لداود» (2صم 8: 1، 2، 14).
وكما كان لداود ثلاثة أعداء، يواجه المؤمن ثلاثة أعداء: الجسد والعالم وإبليس «لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر» (غل 5: 17). وعلى المؤمن أن ينهض ليقاوم شهوة جسده المناقضة لمشيئة الله. أما العدو الثاني فهو العالم ومبادئه الزائفة وشهواته الزائلة، فيسمع المؤمنون روح الله يناديهم: «أما تعلمون أن محبة العالم عداوة لله؟ فمن أراد أن يكون محباً للعالم فقد صار عدواً لله.. قاوموا إبليس فيهرب منكم» (يع 4: 4، 7). أما العدو الثالث فهو إبليس الذي يخدع الناس بكلامه الباطل محاولاً أن يضل، لو أمكن، المختارين أيضاً، مع أنه لا يملك إلا الاقتراح، ولا يلوي ذراع أحد لينفذ اقتراحه. فإذا انجذب المؤمن إلى اقتراح إبليس وانخدع به يرتكب الخطية، لأن الشهوة إن سكنت القلب تلد خطية. والخطية إذا كملت تنتج موتاً (يع 1: 14، 15). وإبليس «كان قتالاً للناس من البدء، ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق.. لأنه كذاب وأبو الكذاب» (يو 8: 44).
غير أن الرب الذي نصر شعبه في الماضي بقيادة موسى ويشوع، والذي أيَّد داود بقوته هو نفسه القادر أن يحفظنا غير عاثرين، ويلبسنا سلاحه الكامل لنثبت ضد مكايد إبليس وهجماته، فلا نشبه أهل هذا الدهر ولا نطبِّق مبادئهم. ومع أننا نحيا في العالم إلا أن العالم لا يحيا فينا. وعندها نتغير عن شكلنا بتجديد أذهاننا نختبر إرادة الله الصالحة المَرْضيَّة الكاملة، فنقدم حياتنا على مذبح التكريس الإلهي ذبيحة حية مقدسة (رو 12: 1، 2).

3- مواعيد ستتحقَّق في المستقبل: (آيات 11-13). يتطلع المرنم نحو المستقبل برجاء وثقة، ويحدِّث إلهه بأشواق قلبه.
(أ) تقييم سبب الهزيمة: «أليس أنت يا الله الذي رفضتنا، ولا تخرج يا الله مع جيوشنا؟» (آية 11). مع أن الماضي كان عامراً بالانتصارات إلا أنه كان يحوي هزائم. ويعترف المرنم أن الهزائم جاءت بسبب خطايا الشعب وابتعاده عن تعاليم إلهه، فرفض الرب شعبه ولم يخرج مع جيشه، فانكسروا. وعندما يفتخر المؤمن بقواه أو بتقواه الشخصية ينهزم، لأن الله لا يعود يسير بوجهه أمامه. وعندما يسأل إلهه عن السبب يأتيه الجواب: «اذكر من أين سقطت وتُب واعمل الأعمال الأولى، وإلا فإني آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتُب» (رؤ 2: 5). وطالما كنا في العالم نحتاج إلى توبة مستمرة، وتطهير دائم من أفكار العالم، ورجوع إلى حضن الآب، فتأتينا أوقات الفرج من عنده.
(ب) إعلان الله كالمعتَمَد الوحيد: «أعطنا عوناً في الضيق، فباطل هو خلاص الإنسان» (آية12). لما ترك الشعب ربَّه تركه الرب فانهزم، لأنه وحده الملجأ، ومنه وحده العون والانتصار على الضيق. بدونه لا نقدر أن نفعل شيئاً، فباطل هو خلاص الإنسان، من داخل نفسه أو من خارجها. «لا تتكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده. تخرج روحه فيعود إلى ترابه. في ذلك اليوم نفسه تهلك أفكاره» (مز 146: 3، 4) «في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو 16: 33).
(ج) النصرة النهائية قادمة: «بالله نصنع ببأس وهو يدوس أعداءنا» (آية 13). اطمأنت نفس المرنم حينما رفع عينيه إلى أعلى من حيث يأتيه العون، فتأكد من النجاة «لا تخف لأني معك. لا تتلفَّت لأني إلهك. قد أيَّدتك وأعنتك وعضدتك بيمين بري» (إش 41: 10). فلنترك ما هو وراء ونمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13) فيعظم انتصارنا بالذي أحبنا (رو 8: 37).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالتَّاسِعُ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ
1 يَا إِلَهَ تَسْبِيحِي، لاَ تَسْكُتْ، 2لأَنَّهُ قَدِ انْفَتَحَ عَلَيَّ فَمُ الشِّرِّيرِ وَفَمُ الْغِشِّ. تَكَلَّمُوا مَعِي بِلِسَانِ كَذِبٍ، 3بِكَلاَمِ بُغْضٍ أَحَاطُوا بِي، وَقَاتَلُونِي بِلاَ سَبَبٍ. 4بَدَلَ مَحَبَّتِي يُخَاصِمُونَنِي. أَمَّا أَنَا فَصَلاَةً. 5وَضَعُوا عَلَيَّ شَرّاً بَدَلَ خَيْرٍ، وَبُغْضاً بَدَلَ حُبِّي.
6فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيراً، وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ. 7إِذَا حُوكِمَ فَلْيَخْرُجْ مُذْنِباً، وَصَلاَتُهُ فَلْتَكُنْ خَطِيَّةً. 8لِتَكُنْ أَيَّامُهُ قَلِيلَةً، وَوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ. 9لِيَكُنْ بَنُوهُ أَيْتَاماً، وَامْرَأَتُهُ أَرْمَلَةً. 10لِيَتِهْ بَنُوهُ تَيَهَاناً، وَيَسْتَعْطُوا وَيَلْتَمِسُوا خَيْراً مِنْ خِرَبِهِمْ. 11لِيَصْطَدِ الْمُرَابِي كُلَّ مَا لَهُ، وَلْيَنْهَبِ الْغُرَبَاءُ تَعَبَهُ. 12لاَ يَكُنْ لَهُ بَاسِطٌ رَحْمَةً، وَلاَ يَكُنْ مُتَرَإِّفٌ عَلَى يَتَامَاهُ. 13لِتَنْقَرِضْ ذُرِّيَّتُهُ. فِي الْجِيلِ الْقَادِمِ لِيُمْحَ اسْمُهُمْ. 14لِيُذْكَرْ إِثْمُ آبَائِهِ لَدَى الرَّبِّ، وَلاَ تُمْحَ خَطِيَّةُ أُمِّهِ. 15لِتَكُنْ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِماً، وَلْيَقْرِضْ مِنَ الأَرْضِ ذِكْرَهُمْ. 16مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنْ يَصْنَعَ رَحْمَةً، بَلْ طَرَدَ إِنْسَاناً مِسْكِيناً وَفَقِيراً وَالْمُنْسَحِقَ الْقَلْبِ لِيُمِيتَهُ. 17وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِالْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ. 18وَلَبِسَ اللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ، فَدَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ، وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ. 19لِتَكُنْ لَهُ كَثَوْبٍ يَتَعَطَّفُ بِهِ، وَكَمِنْطَقَةٍ يَتَنَطَّقُ بِهَا دَائِماً. 20هَذِهِ أُجْرَةُ مُبْغِضِيَّ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، وَأُجْرَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ شَرّاً عَلَى نَفْسِي.
21أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ السَّيِّدُ فَاصْنَعْ مَعِي مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ. لأَنَّ رَحْمَتَكَ طَيِّبَةٌ نَجِّنِي. 22فَإِنِّي فَقِيرٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا، وَقَلْبِي مَجْرُوحٌ فِي دَاخِلِي. 23كَظِلٍّ عِنْدَ مَيْلِهِ ذَهَبْتُ. انْتَفَضْتُ كَجَرَادَةٍ. 24رُكْبَتَايَ ارْتَعَشَتَا مِنَ الصَّوْمِ، وَلَحْمِي هُزِلَ عَنْ سِمَنٍ. 25وَأَنَا صِرْتُ عَاراً عِنْدَهُمْ. يَنْظُرُونَ إِلَيَّ وَيُنْغِضُونَ رُؤُوسَهُمْ.
26أَعِنِّي يَا رَبُّ إِلَهِي. خَلِّصْنِي حَسَبَ رَحْمَتِكَ. 27وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ هِيَ يَدُكَ. أَنْتَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ هَذَا. 28أَمَّا هُمْ فَيَلْعَنُونَ وَأَمَّا أَنْتَ فَتُبَارِكُ. قَامُوا وَخَزُوا، أَمَّا عَبْدُكَ فَيَفْرَحُ. 29لِيَلْبِسْ خُصَمَائِي خَجَلاً، وَلْيَتَعَطَّفُوا بِخِزْيِهِمْ كَالرِّدَاءِ. 30أَحْمَدُ الرَّبَّ جِدّاً بِفَمِي، وَفِي وَسَطِ كَثِيرِينَ أُسَبِّحُهُ. 31لأَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْمِسْكِينِ لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الْقَاضِينَ عَلَى نَفْسِهِ.

وظيفته يأخذها آخر!
يشبه هذا المزمور مزموري 35 و69 في أنه شكوى للرب من الأعداء الكذابين المتآمرين القتلة، وفي طلب صبّ اللعنة عليهم، بعد أن ردّوا خير المرنم شراً وحبه بغضة. وقد اعتبرت الكنيسة مزمورنا مسياوياً (أي يتنبأ بمجيء المسيا) لأن الرسول بطرس اقتبس الآية الثامنة منه كنبوَّة عن يهوذا الإسخريوطي، فقال: «لأنه مكتوب في سفر المزامير: لتصِر داره خراباً ولا يكن فيها ساكن، وليأخذ وظيفته آخر» (أع 1: 20).
وتشكل تمنيات اللعنة في آيات 6-20 مشكلة للمسيحي الذي يجب أن يحب أعداءه ويبارك لاعنيه ويُحسن إلى مبغضيه، ولذلك فسرها البعض بأنها كلمات اللعنة التي فاه بها أعداء المرنم ضده، ولو أن مفسرين آخرين قالوا إنها اللعنات التي صبَّها المرنم على أعدائه، الأمر الذي يتفق مع اقتباس بطرس المشار إليه بأنها نبوَّة عن تلميذ المسيح الخائن، وهي كلمات غضب البار المعلن على الشرير «إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً» (2تس 1: 6).. على أن البعض رأوا فيها نبوَّة عن مصير أعداء المرنم لأنه بريء محب و«صلاة». وبحسب روح العهد القديم الذي عاش فيه المرنم، والذي كانت شريعته «عين بعين وسن بسن» لم يرَ غضاضة في تمني الأذى لهم وطلب القصاص منهم.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – طلب المعونة الإلهية (آيات 1-5)
ثانياً – طلب اللعنة للعدو (آيات 6-20)
ثالثاً – سبب طلب المعونة الإلهية (آيات 21-27)
رابعاً – الاستجابة الإلهية (آيات 28-31)

أولاً –طلب المعونة الإلهية
(آيات 1-5)
1 – طلبة من الإله المُسبَّح: «يا إله تسبيحي» (آية 1أ). رغم أن المرنم متعَب ونفسه مُرة من تقاول الأعداء عليه، إلا أن هذا لم يؤثر على ثقته بالرب ولا على علاقته بإلهه، حصنه في زمان الضيق، فناداه بالتسبيح الشاكر على البركات السابقة والآتية التي تخلِّص نفسه وتشفي جراحه «اشفني يا رب فأُشفى. خلِّصني فأُخلَّص، لأنك أنت تسبيحي» (إر 17: 14).
2- طلبة من الإله الساكت: «لا تسكت» (آية 1ب). بسبب شدَّة آلام المرنم شعر أن الوقت طال عليه والرب صامت لا يتدخل، فهاجت أفكاره داخله وارتفع ضجيج الأعداء خارجه، فصرخ يطلب تدخُّل الرب، ليتبدد مضايقوه وتنتهي مخاوفه. ولا شك أن الرب يجيبه بقوله: «هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك» (إش 49: 15). فلنصلِّ ونصبر له ونتوقع استجابته.
3- طلبة للنجاة من الكذب: «لأنه قد انفتح عليَّ فم الشرير وفم الغش. تكلموا معي بلسان كذب» (آية 2). انفتح فم الأعداء على المرنم ومعه بافتراءات فاقت احتماله، فنفد صبره، ووصف أعداءه بثلاث صفات: الشر، والغش، والكذب «فإنه من فضلة القلب يتكلم الفم. الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات. والإنسان الشرير من الكنز الشرير يُخرج الشرور. ولكن.. كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين» (مت 12: 34-36).
4- طلبة من قلب نقي: عندما فحص المرنم نفسه وجد ثلاث صفات صالحة:
(أ) إنه بريء: «بكلام بُغضٍ أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب» (آية 3). كل ما قالوه عنه من كلام كراهية وبغض، وكل حرب شنّوها عليه لم تكن بسبب شر ارتكبه. وهو لا يبرئ نفسه البراءة المطلقة، لكنه يعلن براءته مما ألصقوه به من اتهامات ظالمة، مثل اتهام الملك شاول لداود بأنه سيأخذ المملكة منه، مع أن الرب هو الذي اختار داود دون شاول ليملك، لأن قلب داود كان حسب قلب الرب (أع 13: 21). ولا بد أن ينقذ الله المؤمن المضطهَد بلا سبب، والرب يقول لنا: «طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة، من أجلي، كاذبين» (مت 5: 11). والعالم يبغض المؤمنين لأنه أبغض المسيح من قبلهم. ولو كانوا من العالم لأحبَّهم العالم (يو 15: 18، 19).
(ب) إنه محب وهو صلاة: «بدل محبتي يخاصمونني، أما أنا فصلاة. وضعوا عليَّ شراً بدل محبتي، وبغضاً بدل حبي» (آيتا 4، 5). وقد قيل: «أنا سلام، وحينما أتكلم فهُم للحرب» (مز 120: 7). قدم المرنم لأعدائه محبة وانتظر منهم مثلها، لكنهم خاصموه ورفضوا محبته، فلجأ إلى الصلاة واستجار بالرب، فوجد عنده العون، فصارت حياته بخوراً عطراً صاعداً أمام ساكن السماء لأنه قال: «أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي. جعلتُ بالسيد الرب ملجأي لأخبر بكل صنائعك» (مز 73: 28). «أما أنا فلك صلاتي يا رب في وقت رضى. يا الله، بكثرة رحمتك استجب لي، بحق خلاصك» (مز 69: 13).

ثانياً- طلب اللعنة للعدو
(آيات 6-20)
في هذه الآيات يطلب المرنم معاملة الأعداء بمثل ما أرادوا أن يوقعوه فيه، ويتنبأ بما سيصيبهم من شر ليتجرعوا كأس المرارة التي أذاقوه إياها. حقاً «الشر يميت الشرير، ومبغضو الصديق يُعاقَبون» (مز 34: 20).
1 – طلب محاكمة العدو: «فأقِم أنت عليه شريراً، وليقف شيطان عن يمينه. إذا حوكم فليخرج مذنباً وصلاته فلتكن خطية» (آيتا 6، 7). يطلب المرنم من الرب أن يقيم على عدوه من هو أشر منه ليكون الانتقام من نفس نوع العمل. ويطلب أن يقف «شيطان» (أي خصم ومشتكٍ) عن يمينه يوجِّه له الاتهامات، ويقدم له المشورة الفاسدة المهلكة التي تفضح ذنبه. فإذا صلى لا تُقبل صلاته لأنها مكروهة عند الرب «ذبيحة الأشرار مكرهة الرب وصلاة المستقيمين مرضاته» ( أم 15: 8).
2- ضياع وظيفة العدو: «لتكن أيامه قليلة، ووظيفته ليأخذها آخر» (آية 8). وهذا ما أصاب الملك شاول الذي عادى داود وكان يطلب أن يهلكه فهلك هو، وتولى داود المُلك. وهو ما أصاب يهوذا الخائن الشرير فأخذ مكانه آخر (أع 1: 20). وقد تعني قلة الأيام انعدام البركة، فيعمِّر الشرير طويلاً، ولكن ثمره يكون سيئاً وغير مرضي أمام الرب.
3- فقر عائلة العدو: «ليكن بنوه أيتاماً، وامرأته أرملة. ليته بنوه تيهاناً ويستعطوا، ويلتمسوا خبزاً من خربهم» (آيتا 9، 10). لأن الرب يقصر أيام الشرير ويميته يتيتَّم أطفاله وتترمَّل زوجته، ويفقدون عائلهم فيعانون من العوز، يسكنون الخرب ويشتهون الخبز. وهذا ما لا يمكن أن يحدث للصديق فيقول: «كنت فتى وقد شخت ولم أرَ صِدّيقاً تُخلي عنه ولا ذرية له تلتمس خبزاً» (مز 37: 25).
4- إفلاس العدو: «ليصطد المرابي كل ماله، ولينهب الغرباء تعبه» (آية11). فيزرع بلا حصاد، ويزن فضة لغير خبز ويتعب لغير شبع، ويأكل وليس إلى الشبع، ويشرب ولا يرتوي، ويكتسي ولا يدفأ، ويأخذ أجرة لكيس منقوب (إش 55: 2 وحج 1: 6). يذهب تعبه وكده هباء وتغادره البركة وكل ما يجتنيه يذهب ثمره للمرابي والغريب.
5- ظلام مستقبل العدو: «لا يكن له باسط رحمة، ولا يكن مترأِّف على يتاماه. لتنقرض ذريته. في الجيل القادم ليُمح اسمهم. ليُذكَر إثم آبائه لدي الرب، ولا تُمحَ خطية أمه. لتكن أمام الرب دائماً، وليقرض من الأرض ذكرهم» (آيات 12-15). يأكل الآباء الحصرم فتضرس أسنان أبنائهم. اجتماعياً يترك الشرير وراءه سيرة سيئة، واقتصادياً يورث أولاده الديون، وصحياً يترك لهم الأمراض، فيؤثر على مستقبل أبنائه إذ يعيرهم معاصروهم. وحتى إن تاب الشرير بعد سنوات شر فيغفر الرب له، يظل الناس يعيِّرون نسله، لأن الله ينسى ذنوب التائب أما البشر فيذكرونها. لقد تاب اللص المصلوب، ودخل الفردوس، ولكن الناس ظلوا يعيِّرون أولاده وأحفاده بأن أباهم وجدَّهم لص مات مصلوباً!
6- حلول اللعنة بالعدو: «من أجل أنه لم يذكر أن يصنع رحمة، بل طرد إنساناً مسكيناً وفقيراً، والمنسحق القلب ليميته. وأحب اللعنة فأتته، ولم يُسرّ بالبركة فتباعدت عنه. ولبس اللعنة مثل ثوبه، فدخلت كمياه حشاه وكزيت عظامه. لتكن له كثوب يتعطَّف به، وكمنطقة يتنطَّق بها دائماً» (آيات 16-19). أنعم الرب على هذا الشرير وبسط له رحمة، ولكنه لم يرحم الفقير المتسوِّل بل طرده من على بابه وشيَّعه بكلمات مؤلمة سحقت قلبه حزناً حتى كاد يموت. وباركه الرب بنِعم الحياة الدنيا ولكنه أحب اللعنة وانحرف إلى الشر، فتباعدت البركة عنه، وأحاطت به اللعنة كثوب يرتديه نهاراً وليلاً، فدخلت إلى أحشائه كماء اللعنة لورم البطن وإسقاط الفخذ (عد 5: 22)، وتخللت اللعنة عظامه كالزيت، فصارت ضعيفة هشَّة. ويرمز الماء والزيت عادة للبركة، ولكن هذه البركة صارت لعنة للشرير الذي يطرد الفقير، فيقول الرب له: «بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا. فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية» (مت 25: 45، 46).
7- دينونة العدو: «هذه أجرة مبغضيَّ من عند الرب، وأجرة المتكلمين شراً على نفسي» (آية 20). الرب رحيم وبار ومترأف على الجميع، يطيل أناته على الخاطئ ليتوب. «يتأنى علينا، وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة» (2بط 3: 9). أما من يعاند فإنه يذخر لنفسه غضباً ودينونة مخيفة كأجرة لعدم توبته. ويحسب المرنم عدوَّه إنساناً يرفض التوبة، فينال أجرة رفضه.

ثالثاً – سبب طلب المعونة الإلهية
(آيات 21-27)
يبدأ هذا الجزء بكلمة «أما» تعبيراً عن تغيير موقف وعن اختلاف فكر. فبعد أن امتلأت نفس المرنم من مرارة رثاء الذات نتيجة ذكر سلوك الأشرار تجاهه، حوَّل نظره إلى مصدر عونه وقوته. وبعد أن تذكر ظلم الأعداء اتجه إلى رحمة الله الدائمة يطلب منه الحماية «من يقوم لي على المسيئين؟ من يقف لي ضد فعلة الإثم؟ لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعاً أرض السكوت» (مز 94: 16، 17). ويذكر المرنم أربعة أسباب لطلب معونة الله.
1 – لأجل اسم الرب: «أما أنت يا رب السيد فاصنع معي من أجل اسمك» (آية 21أ). عندما أشرق نور الرب على المرنم بنعمته الفعالة توقف عن طلب اللعنة على العدو، وهُرع إلى اسم الرب البرج الحصين الذي يركض إليه الصديق ويتمنَّع (أم 18: 10) فهو الخالق المعتني، حافظ النفس من السقوط والهلاك. حقاً «إن كان الله معنا فمن علينا؟» (رو 8: 31). والاسم يصف الشخصية، وشخصية الرب محبة وقوية وقدوسة وأمينة، أما المؤمن فضعيف، ويعلم أنه لا يستحق فضل الرب، فيحتمي في الاسم الكريم الذي دُعي عليه، ويقول: «ليس لنا يا رب ليس لنا، لكن لاسمك أعط مجداً. من أجل رحمتك من أجل أمانتك» (مز 115: 1).
2 – لإعلان رحمة الرب: «لأن رحمتك طيبة نجِّني» (آية 21ب). لا يستحق الإنسان نجاة، ولكن رحمة الله الطيبة تنجيه. «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتوكل عليه» (مز 34: 8). «إذ قلت قد زلَّت قدمي فرحمتك يا رب تعضدني» (مز 94: 18).
3 – لأن المرنم عاجز: «فإني فقير ومسكين أنا، وقلبي مجروح في داخلي. كظلٍّ عند ميله ذهبتُ. انتفضتُ كجرادة. ركبتاي ارتعشتا من الصوم، ولحمي هزل عن سِمن، وأنا صرتُ عاراً عندهم. ينظرون إليَّ ويُنغضون رؤوسهم» (آيات 22-25). طرد الشرير مساكين وفقراء، وأراد أن يُميت منكسري القلوب (آية 16). ولعل المرنم كان أحد هؤلاء، فصار كظل يميل قرب غروب الشمس وقد أشرف على الاختفاء، وأخذ ينتفض وكأن الجراد التهم خُضرته، أو كأنه جرادة تنتفض لتطير. وبسبب خوفه امتنع عن الطعام فارتعشت ركبتاه ونقص وزنه، وصار موضوع السخرية عند أعدائه. ودفعه هذا ليطلب عون الله.

4 – لإعلان قوة الرب: «أعنّي يا رب إلهي. خلِّصني حسب رحمتك، وليعلموا أن هذه هي يدك. أنت يا رب فعلت هذا» (آيتا 26، 27). لا بد أن يسرع الرب بالمعونة والنجاة. «هذا المسكين صرخ والرب استمعه ومن كل ضيقاته خلَّصه.. كثيرون يرون ويخافون ويتوكلون على الرب» (مز 34: 6 و40: 3). وهكذا يعلن الرب للجميع أنه مخلِّص شعبه. ويتكرر ما قالته شعوب الأرض عندما أخرج شعبه من أرض العبودية إلى أرض الرحب. «ليبتهج ويفرح بك جميع طالبيك. ليقل أبداً محبو خلاصك يتعظم الرب» (مز 40: 16).

رابعاً – الاستجابة الإلهية
(آيات 28-31)
يختم المرنم مزموره بذكر ثلاث مفارقات بين ما كان فيه وما وصل إليه:
1 – البركة بعد اللعنة: «أما هم فيلعنون، وأما أنت فتبارك» (آية 28أ). وهل تصيب اللعنة من باركه الرب؟ قال الله لإبراهيم: «أبارك مباركيك ولاعنك ألعنه» (تك 12: 3). ولم يستطع بلعام أن يلعن شعب الرب لأن الرب بارك شعبه، وقال: «لا تلعن الشعب لأنه مبارك» (عد 22: 12).
2 – الفرح بعد الخزي: «قاموا وخزوا. أما عبدك فيفرح» (آية 28ب). كم كان خزي ضابط سجن فيلبي وهو يرى نفسه سجين خوفه، بينما بولس وسيلا منطلقين في الحرية، وقد ظهر هذا في صرخته: «يا سيديَّ، ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلُص؟» (أع 16: 30). أما هما فكانا يسبحان ويصليان. وقال بولس لأهل فيلبي: «افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضاً افرحوا» (في 4: 4).
3 – الخلاص بعد الخطر: «ليلبس خُصمائي خجلاً، وليتعطَّفوا بخزيهم كالرداء. أحمد الرب جداً بفمي، وفي وسط كثيرين أسبحه، لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلِّصه من القاضين على نفسه» (آيات 29-31). قصد أعداء المرنم له الشر، أما الرب فقصد بشرِّهم خيراً (تك 50: 20) فخزي أعداؤه، وانطلق هو يحمد ويسبح، لأن الله خلَّصه وهو قريب من الموت! وما أعظم المفارقة بين الشرير الذي يقف شيطان على يمينه (آية 6) والمسكين الذي يقف الرب عن يمينه يعينه وينقذه.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالْعَاشِرُ
لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ
1 قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ». 2يُرْسِلُ الرَّبُّ قَضِيبَ عِزِّكَ مِنْ صِهْيَوْنَ. تَسَلَّطْ فِي وَسَطِ أَعْدَائِكَ. 3شَعْبُكَ مُنْتَدَبٌ فِي يَوْمِ قُوَّتِكَ، فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ، مِنْ رَحِمِ الْفَجْرِ. لَكَ طَلُّ حَدَاثَتِكَ.
4أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ: «أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ». 5الرَّبُّ عَنْ يَمِينِكَ يُحَطِّمُ فِي يَوْمِ رِجْزِهِ مُلُوكاً. 6يَدِينُ بَيْنَ الأُمَمِ. مَلأَ جُثَثاً أَرْضاً وَاسِعَةً. سَحَقَ رُؤُوسَهَا. 7مِنَ النَّهْرِ يَشْرَبُ فِي الطَّرِيقِ، لِذَلِكَ يَرْفَعُ الرَّأْسَ.

المسيح الملك والكاهن
هذا المزمور من أكثر المزامير المقتبسَة في العهد الجديد، فقد اقتبس منه المسيح في مت 22: 44 (راجع مر 12: 36 ولو 20: 42، 43)، واقتبس معناه في مت 26: 64 عندما قال: «مِن الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة». واقتبس منه الرسول بطرس في عظته يوم الخمسين (أع 2: 34، 35) واقتُبس في عب 1: 13 لبيان أن المسيح أعظم من الملائكة. وتكررت فكرة جلوس المسيح عن يمين الآب في مر 16: 19 وأع 5: 31 و7: 55 ورو 8: 34 وأف 1: 20 وكو 3: 1 وعب 1: 3 و8: 1 و10: 12 و12: 2 و1بط 3: 22. وتكرَّرت فكرة مُلكه والخضوع تحت قدميه في 1كو 15: 24-27 وعب 10: 13 و1بط 3: 22. وتكررت فكرة تفوُّق كهنوته عن الكهنوت اللاوي، وأن هذا الملكوت على رتبة ملكي صادق في عب 5: 5-7 و6: 20 و7: 17-19.
إن الأوصاف الواردة في هذا المزمور لا تنطبق إلا على المسيح، فهو وحده ربُّ داود، وهو الوحيد المُقام عن يمين الله، وهو الوحيد الذي يتسلط على أعدائه إلى الأبد، وهو الوحيد الذي جمع الكهنوت والمُلك معاً. ولقد رفَّع الله الآب المسيح بعد أن رفضه الناس، فقال بطرس والرسل لرؤساء اليهود: «هذا رفَّعه الله بيمينه رئيساً ومخلِّصاً، ليعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا» (أع 5: 31). ولا عجب فهو صاحب القربان الكفاري المقبول «فبعدما قدَّم عن الخطايا ذبيحةً واحدةً جلس إلى الأبد عن يمين الله، منتظراً بعد ذلك حتى توضع أعداؤه موطئاً لقدميه» (عب 10: 12، 13). لقد جلس عن يمين الرب لأنه الشفيع الكامل الذي لا يحتاج إلى من يشفع فيه، فهو «الذي مات، بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا» (رو 8: 34).
اقتبس المسيح الآية الأولى من هذا المزمور ليبرهن أنه المسيا، وهي: «قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك» وذلك في الأسبوع الأخير، بعد أن وجَّه شيوخ اليهود إليه أربعة أسئلة:
(1) سألوه سؤالاً شخصياً: عندما طهَّر الهيكل من الباعة والصيارفة سألوه: «بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟» فأجاب أن يوحنا المعمدان، الذي كان كل اليهود يقبلونه كنبي شهد لسلطان المسيح السماوي (مت 21: 23-27).
(2) وسألوه سؤالاً سياسياً: «أيجوز أن تُعطى جزية لقيصر أم لا؟» فأجاب أن الجزية يجب أن تُدفع، لأننا يجب أن نعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فنقوم بواجباتنا المدنية، وواجباتنا الروحية (مت 22: 17-21).
(3) وسألوه سؤالاً عقائدياً: عن سيدة تزوجت سبع مرات، ومات أزواجها السبعة، وآخر الكل ماتت هي. فلأي زوج من السبعة تكون زوجةً في القيامة؟ فأجاب أنهم في القيامة لا يُزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كملائكة الله. وكان سائلوه من طائفة الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالقيامة، فأكد المسيح لهم أن القيامة حقيقة، لأن الله يقول إنه إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهو ليس إله أموات بل إله أحياء (مت 22: 23-33).
(4) وأخيراً سألوه سؤالاً روحياً: أية وصية هي العظمى في الناموس؟ فأجاب: «تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك» والوصية الثانية مثلها «تحب قريبك كنفسك» (مت 22: 34-40).
وبعد إجابته على الأسئلة الأربعة وجَّه هو إليهم سؤالاً: «ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟» فأجابوا: «ابن داود» (مت 22: 42)، وهذا ما تقوله نبوات التوراة. فاقتبس فاتحة مزمور 110، وسألهم: «فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه رباً، فكيف يكون ابنه؟».. وصمت شيوخ اليهود ولم يقدروا أن يجاوبوه، لأن الإجابة الوحيدة هي أن المسيح ربي هو ابن داود بالجسد، وفي الوقت نفسه هو رب داود بالروح.
ويؤكد سؤال المسيح أن المزامير من وحي الروح القدس، ويوضِّح أن مضمون مز 110 لا يخصُّ ملكاً ولا كاهناً ولا نبياً من أصلٍ أرضي، بل موضوعه المسيا المخلِّص المنتظَر الآتي من السماء، ولذلك هو أعظم من داود. وكان ملك اليهود من سبط يهوذا، ومن نسل داود، بينما كان كهنتهم من سبط لاوي ومن نسل هارون.. ومِن صمت شيوخ اليهود عن الإجابة على سؤال المسيح نستدل أن ما قاله المسيح هو التفسير الحقيقي للمزمور، والمقبول من كل طوائف اليهود. وقد اعتاد المسيح أن يثير سامعيه ليبحثوا الكتب المقدسة، فقال لهم مرة: «فتِّشوا الكتب، لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي» (يو 5: 39). وهي نصيحة لنا كلنا، لندرس الكتاب المقدس بأنفسنا، ونطلب من الذي أوحى به أن يفسِّر لنا معانيه، وأن يكشف لنا المستتر من كنوزه.
ونحن اليوم نقدر أن نقول بيقين إن المسيح الذي تجسَّد إنساناً ووُلد من العذراء القديسة مريم هو ابن داود حسب الجسد، ولكنه في الوقت نفسه هو كلمة الله بحسب الروح. وما ورد في التوراة من نبوّات عن تجسُّده وعن ألوهيته وعن التثليث الإلهي ورد كامناً، ولكنه جاء في الإنجيل معلَناً، فقد قال المسيح: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل» فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضاً إن الله أبوه، معادلاً نفسه بالله (يو 5: 17، 18). وقال المسيح أيضاً: «الحقَّ الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائنٌ» فأراد اليهود أن يرجموه لأنه أطلق على نفسه لقب «الكائن» أي الله الدائم الوجود (يو 8: 58، 59). وقيل عنه إنه عندما عادل نفسه بالله لم يكن مختلساً ما ليس من حقه (في 2: 6). وقيل: «عظيمٌ هو سرُّ التقوى: الله ظهر في الجسد» (1تي 3: 16). وقيل: «عمل شدة قوة الله الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات، وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة، وكل اسم يُسمَّى، ليس في هذا الدهر فقط، بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه، وإياه جعل رأساً فوق كل شيء.. إذ صعد إلى العلاء سبى سبياً وأعطى الناس عطايا. وأما أنه صعد فما هو إلا أنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السماوات لكي يملأ الكل» (أف 1: 19-22 و4: 8-10).. «فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السماوات: يسوعُ ابن الله، فلنتمسَّك بالإقرار، لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مُجرَّبٌ في كل شيء مثلُنا، بلا خطية. فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة، ونجد نعمة عوناً في حينه» (عب 4: 14-16).. «الذي هو في يمين الله! إذ قد مضى إلى السماء، وملائكةٌ وسلاطينُ وقواتٌ مُخضَعةٌ له» (1بط 3: 22). وهذا يعني أن الرب قال لربي بعد أن أكمل عمل الفداء أن يجلس عن يمينه في مكان السلطة، حتى تجثو للمسيح كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن المسيح هو رب (في 2: 10، 11).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المسيح الملك (آيات 1-3)
ثانياً – المسيح الكاهن (آيات 4-7)

أولاً – المسيح الملك
(آيات 1-3)
1 – إعلان ملكوت المسيح: «قال الرب لربي» (آية 1أ). في فاتحة المزمور يعلن داود بوحي الروح القدس أن هناك حواراً بين الأقانيم الثلاثة في اللاهوت الأقدس، ولا عجب، فإنه «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله» (يو 1: 1). ويقول داود إن المسيح الملك ربُّه، فإن الرب يطلب من ربي المسيا، الذي هو الكلمة، ومسيح الرب، أن يجلس عن يمينه. وقد سمعنا الله الابن يقول في المزمور الثاني: «إني أخبر من جهة قضاء الرب. قال لي: أنت ابني. أنا اليوم ولدتك.. قبِّلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق. طوبى لجميع المتكلين عليه» (مز 2: 7، 12). وهذا ما عبَّر عنه يشوع لرئيس جند الرب عندما جاء إليه «فسقط يشوع على وجهه إلى الأرض وسجد وقال له: بماذا يكلم سيدي عبده؟» فأجابه: «اخلع نعلك من رِجلك لأن المكان الذي أنت واقفٌ عليه مقدس» (يش 5: 14، 15). فلنكن مُرهَفي السمع مثل صموئيل الذي عندما دعاه الرب قال: «تكلَّم يا رب لأن عبدك سامع» (1صم 3: 10) ولنطِع ما قالته العذراء القديسة مريم لأهل عرس قانا الجليل: «مهما قال لكم فافعلوه» (يو 2: 5) ولنقل للمسيح مع شاول الطرسوسي: «ماذا تريد يا رب أن أفعل؟» (أع 9: 6). ولتمتلئ نفوسنا بالثقة في الرب الملك كلما هاجمتنا عواصف الحياة وأمواجها، فسيجيئنا الرب الملك ليسكّنها فتخضع الأمواج تحت قدميه، كما سبق أن جاء لتلاميذه ماشياً على أمواج مياه بحيرة طبرية التي كانت موشكةً أن تبتلعهم، فهدّأها وأنقذهم (مر 6: 45-53).
2 – سموّ ملكوت المسيح: «اجلِس عن يميني» (آية 1ب). الجلوس عن اليمين هو مكان الشرف والعظمة، كما أنه يرمز إلى إكمال العمل، فقد أرسل الرب كلمته المسيح إلى عالمنا ليقوم بعمل الفداء، ولما أكمله قال: «أنا مجَّدتُك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. والآن مجِّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم» (يو 17: 4، 5)، فاستحقَّ أن يجلس عن يمين العظمة في الأعالي، ورفَّعه الله وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسمه كل ركبة ممَّن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض (في 2: 9). والمساواة بين «ربي وربي» واضحة بصورة كاملة في الإنجيل، فالمسيا أعظم من داود، لأن داود يدعوه «ربي». وداود لم يصعد إلى السماوات، أما المسيح فقد ارتفع إلى السماء (مر 16: 19). وهو أعظم من الملائكة لأن الله لم يقُل لأحدٍ من الملائكة قَطّ: «اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك» (عب 1: 13).
الرب وربي على عرش واحد، فقد قال المسيح: «أنا والآب واحد» (يو 10: 30). واحد فقط هو الذي يساوي الآب في الجوهر، هو الإله الحق من الإله الحق، نور من نور. قال عنه الرسول بطرس يوم الخمسين لشيوخ اليهود: «يسوع هذا أقامه الله، ونحن جميعاً شهود لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم تبصرونه وتسمعونه. لأن داود لم يصعد إلى السماوات، وهو نفسه يقول: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا، الذي صلبتموه أنتم، رباً ومسيحاً» (أع 2: 32-36). قال الرب لربي اجلس عن يميني، على ذات عرشي، مساوياً لي، بعد أن أكملتَ عمل الفداء.. ولا يمكن أن يُطلب من أي مخلوقٍ بشري، مهما بلغ من القداسة أو السلطان أو معرفة أسرار ملكوت السماوات، أن يجلس عن يمين الرب، لأن اليمين مكان السلطة، والبشري مخلوق من تراب.
3 – انتصار ملكوت المسيح: (آيتا 1ج، 2).
(أ) خضوع الأعداء للمسيح: «حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك» (آية 1ج). من الغريب أن تكون هناك مقاومة مستمرة للمسيح الملك، يصفها مز 2 بأن ملوك الأرض ورؤساءها تآمروا عليه، ولكن الآب يقول له: «اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك، وأقاصي الأرض مُلكاً لك» (مز 2: 7، 8). «لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه» (1كو 15: 25). ويصف سفر الرؤيا هذه المعركة بقوله عن أعداء المسيح: «هؤلاء سيحاربون الحمل، والحمل يغلبهم لأنه رب الأرباب وملك الملوك، والذين معه مدعوّون ومختارون ومؤمنون» (رؤ 17: 14). فلا بد أن يوضع الأعداء موطئاً لقدميه، علامة الهزيمة الكاملة، كما قيل في الرؤيا «وهو متسربلٌ بثوبٍ مغموس بدم، ويُدعى اسمه كلمة الله.. ومن فمه يخرج سيفٌ ماضٍ لكي يضرب به الأمم، وهو سيرعاهم بعصاً من حديد» (رؤ 19: 13، 15). ولكننا لا نرى الكل تحت قدمي المسيح بعد، لأن النهاية لم تأتِ بعد. وزمن السماح هذا فرصةٌ للبعيدين ليتوبوا، وللثائرين ليتعقَّلوا ويخضعوا، لأن غِنى لطف الله وإمهاله وطول أناته يمكن أن يقود البعض للتوبة (رو 2: 4).
(ب) مُلك الرب المسيح: «يرسل الرب قضيب عزِّك من صهيون» (آية 2أ). قضيب العزِّ هو صولجان المُلك الذي يرمز إلى السلطة والقدرة، لحماية الرعايا، ولعقاب الثائرين «فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين» (إش 2: 4). وقد أرسل المسيح صولجان قوته ونعمته من أورشليم، عندما أوصى تلاميذه أن لا يبرحوها حتى يتعمَّدوا فيها بالروح القدس، فينالون القوة ويكونون له شهوداً فيها وفي اليهودية وفي السامرة وإلى أقصى الأرض (أع 1: 4-8) وهذا ما حدث فعلاً يوم الخمسين (أع 2: 1-4). ويذكِّرنا صولجان المسيح بعصا موسى التي شقَّت البحر الأحمر ليعبر مع الشعب، وأخرجت الماء من الصخرة (خر 14: 21 و17: 5). والمسيح هو الذي يشقُّ لشعبه طريقاً في البحر، ويرويهم من نهر نِعَمه. ويذكِّرنا صولجان المسيح بعصا هارون التي أفرخت وأعطت أوراقاً خضراء (عدد 17: 8)، فقد تجسَّد المسيح كلمة الله وجاءنا إنساناً، فلم يؤمن به أصحاب النظرة السطحية، وكان في نظرهم مثل عصا هارون اليابسة، لأن «إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح، الذي هو صورة الله» (2كو 4: 4). ولكن الذين اقتربوا منه، وفتح الله بصيرتهم ليؤمنوا به، رأوه المخلِّص والفادي، وقد برهنت لهم شخصيته وتعاليمه ومعجزاته أنه كلمة الله الذي يحمل كل سلطان الله. ويذكِّرنا صولجان المسيح بالصولجان الذهبي الذي مدَّه الملك أحشويروش للملكة أستير فأعطاها حقَّ التقدُّم إلى حضرته الملكية، فالمسيح هو صاحب صولجان القوة والنعمة الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو 14: 6) ففتح لنا باب المثول أمام عرش النعمة، وإلى السماء. هو الذي يفتح ولا أحد يغلق، وهو الذي يغلق ولا أحد يفتح (رؤ 3: 7). هو صاحب السلطان الملكي المنتصر.
(ج) سلطة الرب المسيح: «تسلَّط في وسط أعدائك» (آية 2ب). ربما كانت هذه كلمات الرب لربي، أو كلمات الشعب لربي، أو كلمات دعاء صاحب المزمور لربي. وهي تحمل وعداً بتأكيد الغلبة. فمع أن الأعداء يحيطون به من كل جانب، إلا أنه يجب أن يتولى ويحكم، فيقطف ثمار نصرته. ومع أن أعداءه موجودون إلا أن النصرة هي للمسيح الذي خرج غالباً ولكي يغلب.
4 – جيش المسيح الملك: (آية 3).
(أ) جيش متطوِّعين مقدَّسين: «شعبك مُنتدَبٌ في يوم قوَّتك، في زينة مقدسة» (آية 3أ). سيربح المسيح معركته في يوم قوته بشعبه المنتدَبين المتطوِّعين المزيَّنين بالقداسة، الذين لا يجبرهم ولا يُكرههم أحد لينضموا إليه وهو يحارب معركته المقدسة ضد الشيطان، لأن روح الله يعمل فيهم، كما عمل في بني إسرائيل فتجنَّدوا في جيش دبورة وباراق، فترنَّما عنهم قائلَيْن: «لأجل قيادة القواد في إسرائيل، لأجل انتداب الشعب، باركوا الرب» (قض 5: 2). وهكذا عمل روح الله في إشعياء النبي، الذي سمع دعوة سماوية عامة تنادي: «مَن أُرسل، ومن يذهب من أجلنا؟» فأجاب متطوِّعاً: «هئنذا أرسلني» (إش 6: 8). وهكذا فعل بولس وهو يقول لأهل كنيسة فيلبي: «إن كنتُ أنسكب أيضاً على ذبيحة إيمانكم وخدمته، أُسرُّ وأفرح معكم أجمعين» (في 2: 17). وهذا ما يطالبنا به الوحي في القول: «فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مَرْضيَّة عند الله.. غير متكاسلين في الاجتهاد، حارين في الروح، عابدين الرب» (رو 12: 1، 11). فتعالوا نعمل بالنصيحة الرسولية: «البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس.. احملوا سلاح الله الكامل.. وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله» (أف 6: 11-17). وليكن الله سيد حياتنا المطاع، ورب عائلتنا المعبود، وقائدنا في كل عملٍ يكلّفنا به.
(ب) جيش سماويين منتشرين: «من رحم الفجر لك طلّ حداثتك» (آية 3ب). رحم الفجر هو أجمل ساعات النهار، ساعة يولد النور إيذاناً بانتهاء الليل وانقشاع الظلام، فقد قال المسيح: «أنا قد جئت نوراً إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة» (يو 12: 46). وشعب الرب هم أبناء النور المولودون ثانيةً من الروح القدس، فيكونون كالندى الذي ينزل وقت الفجر، فيُقال عنهم: «هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معاً.. مثل ندى حرمون النازل على جبل صهيون، لأنه هناك أمر الرب بالبركة: حياة إلى الأبد» (مز 133: 1، 3).. لقد أرسل الرب صولجان قوته، الذي هو إنجيل الخلاص، الذي به أنار لنا الحياة وأنار لنا الخلود، فأقبل المؤمنون يتجنَّدون في جيش الرب وهم شباب فتيِّ كثيرو العدد، مثل ندى الفجر المنعش الذي ينتشر من السماء بوفرة وبهدوء وقت الفجر، فيروي ظمأ نفوس عطشى إلى كلمة الرب وإلى خلاصه، ويفك أسرى الشيطان من قيود خطاياهم. إنهم يندفعون متطوّعين فور سماعهم النداء الإلهي، فيصطفّون ليحاربوا معركة الرب ضد أعدائه الأشرار، ويأسرونهم إلى طاعته، مستهينين بالصعوبة وبالموت لأنهم لم يحبّوا حياتهم حتى الموت (قض 5: 18 ورؤ 12: 11).
فيا أيها المؤمنون الأنقياء، يا مَن وُلدتم من السماء في وقت الفجر، ارووا الأرض من حولكم. أنتم جيشٌ مبارك للرب، فانتشروا متطوِّعين مقدَّسين، لتقدِّموا للعالم خلاص المسيح الملك وبركته، فأنتم «جنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب» (1بط 2: 9).

ثانياً – المسيح الكاهن
(آيات 4-7)
الكاهن هو الذي يكلّم الله عن الناس، ويكلم الناس عن الله، فهو يعلن للبشر كلام الله، ويشفع فيهم أمام الله. والمسيح كلمة الله هو الكلمة وهو المتكلم، وهو الرسالة وهو الرسول، وهو النبي وهو موضوع النبوات. في المسيح، الكلمة، عرفنا الله المعرفة الكاملة، فقد قال: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو 14: 9). منذ القديم أعلن الله نفسه للبشر في الطبيعة التي تحدِّث بمجده، وفي الفلَك الذي يُخبر بعمل يديه (مز 19: 1)، وفي الأنبياء بأنواعٍ وطرقٍ كثيرة (عب 1: 1). أما إعلانه الأكمل فهو في كلمته الذي جاءنا مولوداً من روحه في بيت لحم، وهو الطريق والحق والحياة. وهذا «الكلمة» هو الوسيط الوحيد بين الله والناس، لأنه كاملٌ بلا خطأ فلا يحتاج إلى شفيع، وهو الذي وفى ديون الخطاة وناب عنهم.
1 – سمو كهنوت المسيح: «أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهنٌ إلى الأبد على رُتبة ملكي صادق» (آية 4). تظهر مكانة المسيح الكهنوتية السامية من أنها أُعلنت بقسَمٍ إلهي. لقد أعلن الله مُلك المسيح بكلمة منه تحمل سلطانه «قال الرب لربي»، ولكنه أعلن كهنوت المسيح بقَسمٍ منه «أقسم الرب ولن يندم»، «فإن الناس يُقسِمون بالأعظم، ونهاية كل مشاجرة عندهم، لأجل التثبيت، هي القَسَم. فلذلك إذْ أراد الله أن يُظهِر.. عدم تغيُّر قضائه توسَّط بقسَمٍ» (عب 6: 16، 17). ويقارن الوحيُ بين كهنوت سبط لاوي وكهنوت المسيح بقوله: «لأن أولئك (هارون ونسله) بدون قسمٍ قد صاروا كهنة، أما هذا (الرب المسيح) فبقَسمٍ من القائل له: أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهنٌ إلى الأبد، على رُتبة ملكي صادق» (عب 7: 21، 22).
وكانت هناك رُتبتان كهنوتيتان، رتبة هارون وهي الكهنوت فقط، ورتبة ملكي صادق وهي الكهنوت والمُلك. وفي هذا المزمور يعلن الوحي مكانة المسيح الكهنوتية السامية من أن كهنوته على رتبة كهنوت ملكي صادق، وليس على رُتبة كهنوت هارون. ونجد أخبار ملكي صادق في التكوين 14: 18-20، وهو ملكٌ يحمل اسماً ساميّاً معناه «ملك البر»، وكان ملكاً على «شاليم»، أي أورشليم، ومعناها «مدينة السلام» كما كان كاهناً لله العلي، وقدَّم لخليل الله إبراهيم طعاماً من خبز وخمر، وباركه، فقدَّم له إبراهيم العشور تأييداً له. وبهذا يكون ملكي صادق أعظم من إبراهيم، لأنه بارك إبراهيم. ولم يكن ملكي صادق من العبرانيين، ولكنه كان محافظاً على شريعة الله القديمة بينما كان يسكن وسط الوثنيين، ولذلك كان سابقاً لإبراهيم، وسابقاً للكهنة الذين جاءوا بعده. ويرمز ملكي صادق للمسيح، فكلاهما كان كاهناً وملكاً معاً، وكلاهما ليسا من سبط لاوي حفيد إبراهيم الخليل، وليس لكهنوتهما بداية ولا نهاية معروفة، فالمسيح لا «بداية أيامٍ له ولا نهاية حياة إلى الأبد» (عب 7: 3).. وكلاهما يملك بالبر والسلام. فالمسيح هو البار في ذاته، والذي يبرِّر كل من يؤمنون به، فيقولون: «إذ قد تبرَّرنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح» (رو 5: 1). والمسيح هو ملك السلام الذي قال: «سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا.. وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع» (يو 14: 27 وفي 4: 7). هو الملك المُسالم الذي لا يحارب بل يصنع خيراً فعندما تشاور الفريسيون عليه ليقتلوه «علم يسوع وانصرف من هناك. وتبعته جموعٌ كثيرة فشفاهم جميعاً، وأوصاهم أن لا يُظهِروه، لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: هوذا فتاي الذي اخترتُه، حبيبي الذي سُرَّت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق. لا يخاصم ولا يصيح ولا يَسمع أحد في الشوارع صوته. قصبةً مرضوضة لا يقصف، وفتيلةً مدخِّنة لا يطفئ، حتى يُخرِج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم» (مت 12: 14-21).
وقد سما كهنوت المسيح على كهنوت هارون بدوامه، فكهنوته إلى الأبد، على رتبة ملكي صادق «إذ هو حيٌّ في كل حين» (عب 7: 25). وهذا بالمفارقة مع كهنوت هارون الذي منعه الموت من البقاء، فكان بنو إسرائيل يعيِّنون رئيس كهنةٍ جديد عندما يموت الكاهن الأول. ولما كان هارون ونسله بحكم طبيعتهم خطائين، فقد كان رئيس الكهنة على نظام هارون يدخل إلى الأقداس بدمٍ عن نفسه أولاً. فإذا رضي الرب عنه يعود فيدخل بدمٍ عن خطايا الشعب. أما المسيح فقد دخل إلى الأقداس لا بدمٍ عن نفسه، لأنه لم يكن محتاجاً أن يقدم ذبيحةً عن نفسه، لكنه دخل بدم نفسه. وكان رئيس الكهنة على رُتبة هارون يقدِّم الذبيحة إلى قدس الأقداس مرة كل سنة، أما المسيح فقد قدَّم ذبيحةً واحدة ، فوجد فداءً أبدياً. وعلى أساس هذا الفداء هو ضامنٌ لعهدٍ أفضل.
2 – نصرة كهنوت المسيح: «الرب عن يمينك يحطم في يوم رجزه ملوكاً. يدين بين الأمم. ملأ جثثاً أرضاً واسعة. سحق رؤوسها» (آيتا 5، 6). ماذا يفعل الرب لمن يرفض ملكوت المسيح وكهنوته؟ وما هي نتيجة قساوة القلب الذي يرفض خلاص الله؟ إنها الدينونة المخيفة في اليوم الأخير. «هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلُص به العالم. الذي يؤمن به لا يُدان، والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم الله الوحيد. وهذه هي الدينونة: إن النور قد جاء إلى العالم، وأحبَّ الناسُ الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة» (يو 3: 16-19). وقد يبدو الكلام عن الدينونة خشناً وقاسياً، لكننا يجب أن ننتبه لجدِّيَّة القوانين السماوية «فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً» (غل 6: 7). لقد زرع هؤلاء الأشرار ظلمةً، والآن يحصدون هلاكاً وموتاً أبدياً. صحيحٌ أن الله هو الإله المحب، ولكنه في الوقت نفسه الإله العادل.
3 – رفعة كهنوت المسيح: «من النهر يشرب في الطريق، لذلك يرفع الرأس» (آية 7). ربما كان المسيح هو المقصود بالذي يشرب ويرفع رأسه منتصراً، أو ربما كان المقصود هو جيش المسيح، عِلماً بأن نصرة المسيح هي نصرةٌ لجيشه، فإن أمطار البركات الإلهية تغمر أرضنا، فتمتلئ الأنهار بالمياه لتروي شعب الله وتنعشه.. ولعل المرنم عاد بذاكرته إلى القاضي جدعون وجيشه الغالب، فقد اجتمع حوله جيشٌ من اثنين وثلاثين ألف جندي ليحاربوا غُزاتهم المديانيين، فقال الله لجدعون: «الشعب الذي معك كثير عليَّ.. لئلا يفتخر عليَّ إسرائيل قائلاً: يدي خلَّصتني. والآن ناد:.. مَن كان خائفاً ومرتعداً فليرجع وينصرف». فرجع اثنان وعشرون ألفاً وبقي عشرة آلاف، فقال الرب لجدعون: «لم يزل الشعب كثيراً. انزِل بهم إلى الماء.. كل من يَلَغُ بلسانه من الماء فأوقِفه وحده، وكذا كلُّ من جثا على ركبتيه للشُّرب». وكان عدد الذين ولغوا بيدهم ثلاث مئة رجل. فقال الرب لجدعون: «بالثلاث مئة رجل الذين ولغوا أخلّصكم وأدفع المديانيين ليدك» (قض 7: 2-7). وقد كان، فانتصر الذين شربوا من النهر في الطريق، ورفعوا رؤوسهم بالنصر. لم يعطلهم النهر عن السير، بل ساعدهم عليه.
ولعل المرنم يقصد أن جيش المسيح الغالب، يستريحون ليشربوا ويأخذوا قوة، ثم يتابعون مسيرة حربهم الروحية ضد قُوى الشر، فالرب يناديهم: «أيها العطاش جميعاً هلموا إلى المياه» (إش 55: 1). وقال المسيح: «إن عطش أحدٌ فليُقبِل إليَّ ويشرب. مَن آمن بي، كما قال الكتاب، تجري مِن بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه» (يو 7: 37-39). وقد حلَّ الروح القدس على أتباع المسيح يوم الخمسين، فأعطاهم القوة لينتصروا على مخاوفهم وضعفاتهم، وصاروا للمسيح شهوداً في عاصمتهم، وفي اليهودية، والسامرة، ثم إلى أقصى الأرض (أع 1: 8).
ولا زال شعب المسيح يرتوون من روحه القدوس عندما يملأهم، فيرتوون بعدالة قضيتهم، ويرتوون برضا الله عليهم، ويرتوون بإنعامات الله وأمانته، ويرتوون بانتصارهم، فيقولون: «ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون. يَروَون من دسم بيتك، ومن نهر نِعمك تسقيهم» (مز 36: 7، 8). فدعونا نشرب من نهر نعيم الله، وندعو آخرين ليرتووا معنا فنرفع رؤوسنا المنتصرة بخلاص الرب، حتى يتحقَّق لنا النصر النهائي الذي يصفه الرائي بالقول: «وأراني نهراً صافياً من ماء حياةٍ، لامعاً كبلور خارجاً من عرش الله والحمل.. وعرش الله والحمل يكون فيها، وعبيده يخدمونه، وهم سينظرون وجهه، واسمه على جباههم، ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراجٍ أو نور شمسٍ، لأن الرب الإله ينير عليهم، وهم سيملكون إلى أبد الآبدين» (رؤ 22: 1-5).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالْحَادِي عَشَرَ
1 هَلِّلُويَا! أَحْمَدُ الرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي فِي مَجْلِسِ الْمُسْتَقِيمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ. 2عَظِيمَةٌ هِيَ أَعْمَالُ الرَّبِّ. مَطْلُوبَةٌ لِكُلِّ الْمَسْرُورِينَ بِهَا. 3جَلاَلٌ وَبَهَاءٌ عَمَلُهُ، وَعَدْلُهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ. 4صَنَعَ ذِكْراً لِعَجَائِبِهِ. حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ هُوَ الرَّبُّ. 5أَعْطَى خَائِفِيهِ طَعَاماً. يَذْكُرُ إِلَى الأَبَدِ عَهْدَهُ. 6أَخْبَرَ شَعْبَهُ بِقُوَّةِ أَعْمَالِهِ لِيُعْطِيَهُمْ مِيرَاثَ الأُمَمِ. 7أَعْمَالُ يَدَيْهِ أَمَانَةٌ وَحَقٌّ. كُلُّ وَصَايَاهُ أَمِينَةٌ، 8ثَابِتَةٌ مَدَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ، مَصْنُوعَةٌ بِالْحَقِّ وَالاِسْتِقَامَةِ. 9أَرْسَلَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ. أَقَامَ إِلَى الأَبَدِ عَهْدَهُ. قُدُّوسٌ وَمَهُوبٌ اسْمُهُ. 10رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ. فِطْنَةٌ جَيِّدَةٌ لِكُلِّ عَامِلِيهَا. تَسْبِيحُهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ.

صلاح الرب
المزموران 111، 112 مترابطان ومتشابهان في اللغة والتركيب والمحتوى، يبدأ كلاهما بالكلمة «هللويا» وهي كلمة التهليل للرب، وتعني تسبيحه وحمده لأجل أعمال نعمته في الخليقة. ونرى في أولهما قوة الله وصلاحه وعدالته، وفي ثانيهما نجاح الأتقياء وصلاحهم وعدالتهم، فصلاح الرب يقود المؤمن للتقوى، ويطبع على قلبه صفات ربه. ويوضح المزموران ما أمر المسيح به: «كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل» (مت 5: 48)، والنصيحة الرسولية: «كونوا متمثِّلين بالله كأولادٍ أحبّاء، واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح» (أف 5: 1، 2). والفرق بين صفات الله وصفات المؤمن أن صفات الله مُطلقة وكاملة من الأزل وإلى الأبد، بينما صلاح المؤمن نسبي بقدر ما يُخلِص للرب. ويبدأ هذا الصلاح يوم يعرف المؤمنُ الربَّ ويملِّكه سيداً لحياته.
يتكون كلٌّ من مزموري 111، 112 من عشر آيات، تكوِّن اثنتين وعشرين شطرة، تبدأ كل شطرة منها بحرف أبجدي من الحروف العبرية التي عددها 22 حرفاً. ويبدأ مز 112 من حيث ينتهي مز 111، فإن مز 111 ينتهي بالقول: «رأس الحكمة مخافة الرب» ويبدأ مزمور 112 بتطويب الرجل «المتقي الرب»، لأن مخافة الله هي تقوى الله التي تؤدي إلى سعادة الحياة.
ويتبع مزمورا 111، 112 ستَّةُ مزامير (113-118) يسمِّيها بنو إسرائيل مزامير التهليل المصري، لأنهم يترنَّمون فيها للرب الذي حرَّرهم من عبودية فرعون. وكانوا يرنمون مزموري 113، 114 قبل أن يأكلوا وليمة الفصح، كما كانوا يرنمون المزامير 115 إلى 118 بعد تناول وليمة الفصح، وهي المزامير التي قيل عنها إن المسيح وتلاميذه سبحوها قبل أن يخرجوا إلى جبل الزيتون ليلة القبض على المسيح (مر 14: 26).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – تمجيد الرب الصالح (آية 1)
ثانياً – براهين صلاح الرب (آيات 2-9)
ثالثاً – مخافة الرب الصالح (آية 10)

أولاً – تمجيد الرب الصالح
(آية 1)
1 – نمجِّده بالتهليل: «هللويا» (آية 1أ). «هللويا» كلمة عبرية، معناها «سبِّحوا يهوه» وقد أصبحت كلمة دولية في كل لغات العالم، شأنها شأن الكلمة العبرية «آمين» التي تعني «ثابت» و«راسخ» و«صادق». فعندما نقول «آمين» بعد الصلاة نقصد بها: «ليكن هكذا» «ليتمَّ هذا الأمر» «استجب» لأنك يا رب ثابت وراسخ وصادق وأمين، لابد أن تحقِّق مواعيدك في الاستماع لمن يدعوك. يهلل المرنم للرب ويدعو الآخرين لتسبيحه «لأن الترنُّم لإلهنا صالح، لأنه مُلذٌّ. التسبيح لائق» (مز 147: 1).
2 – نمجِّده بالحمد: «أحمد الرب بكل قلبي» (آية 1ب). يحمد المرنم الرب الصالح من قلبه بسبب العلاقة الحبية التي تربطه به، لأن «سرَّ الرب لخائفيه، وعهده لتعليمهم» (مز 25: 14). ويستحق الرب الحمد بكل القلب الموحَّد في مخافته، فهو الإله الواحد القدوس الذي نشكره في السر والعلانية، في أوقات الفرح كما في أوقات الضيق، كما قالت النصيحة الرسولية: «أعلى أحدٍ بينكم مشقات؟ فليصلِّ. أمسرور أحد؟ فليرتل» (يع 5: 13).
3 – نمجِّده مع المستقيمين: «في مجلس المستقيمين وجماعتهم» (آية 1ج). يسبِّحه في مجلس دائرته الخاصة حيث يجتمع بأصحابه المستقيمي القلوب، فهُم الأتقياء الذين يتَّفقون معه في حب الرب، وشعاره: «القديسون الذين في الأرض والأفاضل كل مسرتي بهم» (مز 16: 3). وكأنه يقول لهم: «اهتفوا أيها الصدِّيقون بالرب. بالمستقيمين يليق التسبيح» (مز 33: 1). فهو «إلهٌ مهوب جداً في مؤامرة القديسين، ومخوفٌ عند جميع الذين حوله» (مز 89: 7).

ثانياً – براهين صلاح الرب
(آيات 2-9)
مظاهر صلاح الله كثيرة يورد المرنم منها خمساً:
1 – أعمال الرب عظيمة: «عظيمة هي أعمال الرب، مطلوبة لكل المسرورين بها» (آية 2). يظهر صلاح الرب العظيم في أعماله الصالحة العظيمة في قوتها وتأثيرها ووفرتها. «ما أكرم أفكارك يا الله عندي، ما أكثر جملتها. إن أُحصِها فهي أكثر من الرمل» (مز 139: 17، 18). هو الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعيِّر، وهو صالحٌ لكل الذين يطلبونه بالحق. «كل عطية صالحة وكل موهبةٍ تامة هي من فوق، نازلة من عند أبي الأنوار، الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران. شاء فولدنا بكلمة الحق» (يع 1: 17، 18). خلق الكون والإنسان، ثم رأى أن كل ما عمله حسنٌ جداً (تك 1: 31). وعنايته عظيمة وصالحة، فهو «الساقي الجبالَ من علاليه. من ثمر أعمالك تشبع الأرض.. ما أعظمَ أعمالك يا رب. كلها بحكمة صَنعْتَ. ملآنةٌ الأرضُ مِن غِناك.. يكون مجدُ الرب إلى الدهر. يفرح الرب بأعماله» (مز 104: 13، 24، 31).
وعظيمة هي أعمال المسيح، وجميعها تتَّفق مع أقواله. أشبع خمسة آلاف شخص من خمسة أرغفة وسمكتين (يو 6: 1-15) لأنه لم يشأ أن يصرف سامعيه جياعاً لئلا يخوروا في الطريق، ثم قال: «أنا هو خبز الحياة» (يو 6: 41). وقال: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة» (يو 8: 12) ثم فتح عيني المولود أعمى (يو 9). وقال: «أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد» (يو 11: 25، 26)، ثم أمر لعازر الذي كان قد مات منذ أربعة أيام أن يخرج من قبره، فقام (يو 11: 43).
على أن أعظم أعمال الله الصالحة هي تغيير قلب الإنسان وغفران خطاياه، فهذا عمل النعمة الإلهية. وفي هذا يقول الوحي عن المؤمنين: «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10). فالرب يصنع من الشرير إنساناً جديداً، يُقال عنه: «إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة» (2كو 5: 17). وهذا التغيير يحدث للتائبين الراجعين إلى الله.
هذه الأعمال العظيمة الصالحة «مطلوبة لكل المسرورين بها» بمعنى أنهم يجب أن يدرسوها ويتأملوها ويفكروا فيها، وطوبى للإنسان الذي «في ناموس الرب مسرَّتُه، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً» (مز 1: 2).
2 – أعمال الرب عادلة: «جلالٌ وبهاءٌ عمله، وعدله قائم إلى الأبد» (آية 3). أعمال الرب جليلةٌ وبهيَّةٌ تُظهِر عدالته الدائمة التي لا تتغيَّر. والرب القوي عادل في كل ما يفعل. قال عنه كليمه موسى: «هوذا الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبُله عدلٌ. إله أمانةٍ لا جور فيه. صدِّيقٌ وعادلٌ هو» (تث 32: 4). وقال الله على فم نبيِّه إشعياء: «هكذا يقول الرب قدوس إسرائيل وجابله (الذي خلقه): اسألوني عن الآتيات (عن المستقبل). من جهة بنيَّ ومن جهة عمل يدي أوصوني. أنا صنعت الأرض وخلقت الإنسان عليها. يداي أنا نشرتا السماوات، وكل جندها أنا أمرت» (إش 45: 11، 12).
وقد نتساءل: إن كان الله جليلاً وبهيّاً في ما يفعل، وإن كانت عدالته دائمة وفاعلة، فلماذا يسمح بظُلم الضعيف؟ ولماذا يترك المؤمنين يعانون من الأشرار؟ ولماذا يسمح للقوي أن يظلم غيره، أو أن يفرض رأيه عليه؟ فما أكثر ما نرى ظلم رأس المال للعمال، وظلم أصحاب الأملاك للفعَلة، وظلم الحكّام للمحكومين.. والإجابة أن تعاملات الله مع الشرير هي تعاملات عدالة، فقد أعطاه حرية التصرُّف لأنه لا يُكرِه أحداً على عمل الخير، وهو يُطيل أناته على الشرير لعله يتوب. وفي الوقت نفسه لا بد أن ينقذ المؤمن من ضيقته الوقتية، كما قال المسيحُ إن ضيق ملاك كنيسة سميرنا ستكون مدته «عشرة أيام» (رؤ 2: 10) فهو لا يدوم ولا يستمر. ويقول الوحي للمؤمنين المتألمين: «مع أنكم الآن، إن كان يجب، تُحزَنون يسيراً بتجارب متنوِّعة، لكي تكون تزكية إيمانكم، وهي أثمن مِن الذهب الفاني، مع أنه يُمتَحن بالنار، توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح» (1بط 1: 6، 7).

3 – أعمال الرب عجيبة: (آيات 4-6).
(أ) تعاملاته عجيبة: «صنع ذِكراً لعجائبه» (آية 4أ). نصنع ذِكراً لعجائب الله عندما نحتفل بعيدي الميلاد والقيامة فنذكر محبة الله في المسيح الكلمة المتجسِّد، وفي موته وقيامته لأجل خلاصنا. وكان بنو إسرائيل يحتفلون بعيد الفصح ليذكروا عجيبة الخروج من عبودية فرعون، وقد قال الله لهم: «يكون لكم هذا اليوم تذكاراً، فتعيِّدونه عيداً للرب.. فريضة أبدية.. ويكون حين يقول لكم أولادكم: ما هذه الخدمة لكم؟ أنكم تقولون: هي ذبيحة فصحٍ للرب الذي عبر عن بيوت بني إسرائيل في مصر لما ضرب المصريين وخلَّص بيوتنا» (خر 12: 14، 26، 27). ويحتفل المسيحيون بالتناول من العشاء الرباني، لأنهم يذكرون «المسيح فصحنا، قد ذُبح لأجلنا» (1كو 5: 7) فيحتفلون به حسب قول الوحي: «إن الرب يسوع في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزاً وشكر فكسر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلاً: هذه الكأس هي للعهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري. فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (1كو 11: 23-26).
وكل من اختبر الحياة الجديدة في المسيح، يذكر كيف حرَّره المسيح من عبودية إبليس، وهو اختبار مجيد لا يُمحى من الذاكرة أبداً. وهذا الاختبار واضح عند البعض، له قصةٌ تُذكَر وتُروَى، كما حدث مع شاول الطرسوسي (أع 9: 4). ولكنه عند البعض الآخر بلا قصة دراماتيكية، كما حدث مع تيموثاوس الذي قال له الرسول بولس: «أتذكَّر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولاً في جدَّتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكني موقنٌ أنه فيك أيضاً.. وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكِّمك للخلاص بالإيمان» (2تي 1: 4 و3: 15). ولكن تيموثاوس لم يكن لينسى الكتب المقدسة التي جعلته حكيماً في معرفة طريق الخلاص.
(ب) مراحمه عجيبة: «حنَّان ورحيم هو الرب» (آية 4ب). ولعل أجمل وصفٍ لهذا الحنان هو القول: «ليس بارٌّ ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معاً، ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد.. إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبرِّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدَّمه الله كفارة» (رو 3: 10-12، 24، 25). وهناك وصف جميل للرحمة الإلهية يقول: «الله الذي هو غنيٌّ في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبَّنا بها، ونحن أمواتٌ بالخطايا أحيانا مع المسيح» (أف 2: 4، 5). والربُّ حنان ورحيم حتى إن أخطأ شعبه، كما قال نحميا عن بني إسرائيل: «أبوا الاستماع، ولم يذكروا عجائبك.. وأنت إلهٌ غفورٌ وحنّان ورحيم، طويل الروح وكثير الرحمة، فلم تتركهم.. ولكن لأجل مراحمك الكثيرة لم تُفْنهم ولم تتركهم، لأنك إلهٌ حنّان ورحيم» (نح 9: 17، 31). «هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسَيْن، وأنا لا أنساك» (إش 49: 15).
(ج) عطاياه عجيبة: «أعطى خائفيه طعاماً» (آية 5أ). الله مضيف كريم، قال له المرنم: «ترتِّب قدامي مائدة تُجاه مضايقيَّ. مسحتَ بالدهن رأسي. كأسي ريا» (مز 23: 5). قال لشعبه في صحراء سيناء: «أنا أمطر لكم خبزاً من السماء، فيخرج الشعب ويلتقطون حاجة اليوم بيومها.. كان في المساء أن السَّلوى صعدت وغطَّت المحلَّة (المعسكر)، وفي الصباح كان سَقيط النَّدى حوالي المحلة، فقال موسى: هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا» (خر 16: 4، 13، 15). وعندما عطش الشعب أمر موسى أن يضرب الصخرة لتُخرج الماء (خر 17: 6). ويقول المسيح: «انظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟» (مت 6: 26).
ولكن الشبع الأكبر هو الشبع الروحي بالمسيح الذي قال: «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم» (يو 6: 51).
(د) عهوده عجيبة: «يذكر إلى الأبد عهده» (آية 5ب). قال الله لإبراهيم خليله: «اعلم يقيناً أن نسلك سيكون غريباً في أرضٍ ليست لهم، ويُستعبَدون لهم، فيذلونهم أربع مئة سنة. ثم الأمة التي يُستعبَدون لها أنا أدينها. وبعد ذلك يخرجون بأملاكٍ جزيلة» (تك 15: 13، 14). وصدق الله وعده. فلما أذلَّ فرعون بني إسرائيل «سمع الله أنينهم، فتذكر الله ميثاقه مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. وقال: أنا أيضاً قد سمعت أنين بني إسرائيل الذين يستعبدهم المصريون وتذكرتُ عهدي» (خر 2: 24 و6: 5). ووعود الله للمؤمنين صادقة وأمينة، إذ يقول: «أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20). وعندما يدخل سفينة حياتنا يسكُن الريح ويهدأ الموج، لأنه يقول: «ثِقوا، أنا هو. لا تخافوا» (مر 6: 50). وإن خارت قُوانا في الطريق أو لاطمتنا أمواج الحياة يسرع إلى نجدتنا.
(هـ) مواريثه عجيبة: «أخبر شعبه بقوة أعماله، ليعطيهم ميراث الأمم. أعمال يديه أمانة وحق» (آيتا 6، 7أ). قال موسى الكليم إن الله وعد شعبه بأن «يطرد من أمامك شعوباً أكبر وأعظم منك، ويأتي بك ويعطيك أرضهم نصيباً» (تث 4: 38). فأعطى الرب الأرض للشعب المستضعَف، الذي خرج من مصر ذليلاً، لا يتقن فنوناً حربية، ولا يحمل سلاحاً، ويعجز عن حماية نفسه. وكان إعطاء الأرض لنسل إبراهيم أمانةً وحقاً، لأن سكان تلك البلاد كانوا خطائين مفسدين في الأرض، فقد قال كليم الله موسى للشعب: «ليس لأجل برِّك وعدالة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم، بل لأجل إثم أولئك الشعوب يطردهم الرب إلهك من أمامك، ولكي يفي بالكلام الذي أقسم الرب عليه لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. لأنهم قد عملوا لآلهتهم كل رِجسٍ لدى الرب مما يكرهه، إذ أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار لآلهتهم.. وبسبب هذه الأرجاس الرب إلهك طاردهم من أمامك» (تث 9: 5 و12: 31 و18: 12).
ويتطلع المؤمنون إلى الميراث الأبدي في السماء، الذي وعدهم المسيح به، فيقولون: «مباركٌ الله أبو ربِّنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانيةً لرجاءٍ حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراثٍ لا يفنى ولا يتدنَّس ولا يضمحل، محفوظٌ في السماوات لأجلكم، أنتم الذين بقوَّة الله محروسون بإيمانٍ لخلاصٍ مستعدٍّ أن يُعلَن في الزمان الأخير» (1بط 1: 3-5).
4 – أقوال الرب صالحة: (آيتا 7ب، 8).
(أ‌) مسجَّلة بأمانة: «كل وصاياه أمينة» (آية 7ب). هي وصايا صالحة وأمينة بمعنى أنها تُسعد الإنسان الذي يطيعها، وتحكِّم الجهال الذين يتعلمون منها. «ناموس الرب كامل يردُّ النفس. شهادات الرب صادقة تصيِّر الجاهل حكيماً. وصايا الرب مستقيمة تفرِّح القلب. أمر الرب طاهر ينير العينين. خوف الرب نقي ثابت إلى الأبد. أحكام الرب حقٌّ عادلةٌ كلها» (مز 19: 7-9). وهي مسجَّلة بالأمانة، لأن «كل الكتاب هو موحىً به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً، متأهباً لكل عمل صالح» (2تي 3: 16، 17)، لأنه «لم تأت نبوَّة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بط 1: 21). «فعندما كمَّل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتابٍ إلى تمامها، أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم، ليكون هناك شاهداً عليكم» (تث 31: 24-26). وهذا معناه أن نص التوراة مسجَّل منذ أيام موسى، وكان كل ملك من ملوك بني إسرائيل يجب أن يحتفظ بنسخة من التوراة كدستورٍ له في الحكم. وقد ظلت كلمة الله متداولة سنة بعد أخرى في أيدي المؤمنين الذين يحبون الله ويحبون كلمته، ويحافظون عليها أكثر من محافظتهم على حياتهم.

(ب) الكلمة ثابتة: «ثابتة مدى الدهر والأبد. مصنوعة بالحق والاستقامة» (آية 8). الله لا يتغيَّر فلا يمكن أن تتغيَّر كلمته أو تتحرَّف، لأنها كلمة ملك الملوك. قال المرنم: «إلى الأبد يا رب كلمتك مثبَّتةٌ في السماوات» (مز 119: 89)، وقال النبي إشعياء: «أما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد» (إش 40: 8)، وقال المسيح: «إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرفٌ واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (مت 5: 18)، وقال أيضاً: «السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول» (مت 24: 35). لقد أوحى الله بكلمته، وهو ضامنٌ لسلامتها من أي عبث. وإن كان الملك الأرضي لا يقبل التلاعب بكلامه، فكم بالأحرى يحفظ الله كلمته من التحريف والتبديل والتغيير، خصوصاً وهي طريق الخلاص الوحيد!
وكل وعود الله صادقة وأمينة، فقد قال موسى الكليم لبني إسرائيل: «فاعلم أن الرب إلهك هو الله الإله الأمين، الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل» (تث 7: 9)، وقال يشوع: «وتعلمون بكل قلوبكم وكل أنفسكم أنه لم تسقط كلمة واحدة من جميع الكلام الصالح الذي تكلم به الرب عنكم. الكل صار لكم» (يش 23: 14)، وقال سليمان: «مباركٌ الرب الذي أعطى راحةً لشعبه إسرائيل حسب كل ما تكلم به، ولم تسقط كلمة واحدة من كل كلامه الصالح الذي تكلم به عن يد موسى عبده» (1مل 8: 56)، وقال الرسول بولس: «أمين هو الله الذي به دُعيتُم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا» (1كو 1: 9).
5 – فداء الرب صالح: «أرسل فداءً لشعبه. أقام إلى الأبد عهده. قدوسٌ ومهوبٌ اسمه» (آية 9). الفادي هو الذي يفدي الأسير، وهو الذي يفكُّ أسر المديون العاجز عن وفاء ديونه. و«الفادي» هو «ولي الأمر» و«المخلِّص». وهو القريب الأقرب. والقصد من القول إن الرب فدى شعبه أن الرب قريبٌ من شعبه، وهو وليُّ أمره. وقال المسيح إنه جاء ليعلن قيام سنة اليوبيل، ودعاها «سنة الرب المقبولة» التي ينادي فيها للمأسورين بالإطلاق وللمنسحقين بالحرية (لو 4: 19)، وبهذا أعلن أنه فادينا، ووليُّ أمرنا، وأقرب قريبٍ لنا، الذي وحده يقدر أن يفدينا من خطايانا، وقال: «لا أعود أسمّيكم عبيداً .. لكني قد سمَّيتكم أحباء» (يو 15: 15).
وقد أرسل الله الفداء لشعبه في الخروج من عبودية فرعون، وجعل فرعون وجيشه فدية لهم. ثم أرسل فداءً لشعبه مرة أخرى فأعادهم من السبي، وقال لهم على فم النبي إرميا: «هكذا قال الرب: إن نقضتُم عهدي مع النهار وعهدي مع الليل، حتى لا يكون نهار ولا ليل في وقتهما، فإن عهدي أيضاً مع داود عبدي يُنقَض، فلا يكون له ابن مالكاً على كرسيه، ومع اللاويين الكهنةِ خادميَّ. كما أن جند السماوات لا يُعدُّ، ورملَ البحر لا يُحصى هكذا أُكثِّر نسل داود عبدي، واللاويين خادميَّ» (إر 33: 20-22).
بهذا الفداء من عبودية إبليس ومن عبودية فرعون أظهر الرب أنه القدوس الذي يستحق أن نحبه ونمجده ونهابه ونتَّقيه ونتعبَّد له، فتجثو له كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض (في 2: 10).

ثالثاً -مخافة الرب الصالح
(آية 10)
(أ) مخافة الرب هي بدء الحكمة: «رأس الحكمة مخافة الرب. فطنةٌ جيدة لكل عامليها» (آية 10أ، ب). والحكمة المقصودة هنا ليست المعرفة العقلية للأمور الفلسفية، بل التطبيق العملي لوصايا الله، فهذه هي التقوى الحقيقية. وقد نصح موسى شعبه بالقول: «ماذا يطلب منك الرب إلهك إلا أن تتَّقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه، وتحبه، وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك» (تث 10: 12). وقال الحكيم سليمان: «فلنسمع ختام الأمر كله: اتَّقِ الله واحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كلُّه» (جا 12: 13). وقال الرسول بطرس: «أَكرِموا الجميع. أَحبّوا الإخوة. خافوا الله. أَكرموا الملك» (1بط 2: 17).
والتقوى ومخافة الرب تمنحان الإنسان فطنة وحكمة في كل ما يفعل، فقد قال أيوب: «هوذا مخافة الرب هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم» (أي 28: 28)، وقال الحكيم سليمان: «الحكمة هي الرأس، فاقتنِ الحكمة، وبكل مقتناك اقتنِ الفهم» (أم 4: 7)، وقال النبي هوشع: «مَن هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور وفهيمٌ حتى يعرفها؟ فإن طرق الرب مستقيمة، والأبرار يسلكون فيها، وأما المنافقون فيعثرون فيها» (هو 14: 9)، وقال المسيح: «فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبِّهه برجلٍ عاقل بنى بيته على الصخر، فنزل المطر وجاءت الأمطار وهبَّت الرياح ووقعت على ذلك البيت، فلم يسقط» (مت 7: 24، 25). و«الفطنة الجيدة تمنح نعمة» (أم 13: 15).
(ب) مخافة الرب تدفع لتسبيحه: «تسبيحه قائم إلى الأبد» (آية 10 ج). يختم المرنم المزمور كما بدأه بالتسبيح للرب. كان قد قال: «عدله قائمٌ إلى الأبد» (آية 3) وهكذا كل صفات الله، الأمر الذي يدفع المؤمن ويشجعه ليحيا حياة التقوى ولأن يقوم بالتسبيح له هنا على الأرض. وعندما يدخل سماءه يظل يسبِّحه إلى الأبد. «أغنّي للرب في حياتي. أرنِّم لإلهي ما دمتُ موجوداً، فيلذُّ له نشيدي، وأنا أفرح بالرب» (مز 104: 33، 34).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّانِي عَشَرَ
1 هَلِّلُويَا! طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَّقِي الرَّبَِّ، الْمَسْرُورِ جِدّاً بِوَصَايَاهُ. 2نَسْلُهُ يَكُونُ قَوِيّاً فِي الأَرْضِ. جِيلُ الْمُسْتَقِيمِينَ يُبَارَكُ. 3رَغْدٌ وَغِنًى فِي بَيْتِهِ، وَبِرُّهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ. 4نُورٌ أَشْرَقَ فِي الظُّلْمَةِ لِلْمُسْتَقِيمِينَ. هُوَ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ وَصِدِّيقٌ.
5سَعِيدٌ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَرَأَّفُ وَيُقْرِضُ. يُدَبِّرُ أُمُورَهُ بِالْحَقِّ. 6لأَنَّهُ لاَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ. الصِّدِّيقُ يَكُونُ لِذِكْرٍ أَبَدِيٍّ. 7لاَ يَخْشَى مِنْ خَبَرِ سُوءٍ. قَلْبُهُ ثَابِتٌ مُتَّكِلاً عَلَى الرَّبِّ. 8قَلْبُهُ مُمَكَّنٌ فَلاَ يَخَافُ حَتَّى يَرَى بِمُضَايِقِيهِ. 9فَرَّقَ أَعْطَى الْمَسَاكِينَ. بِرُّهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ. قَرْنُهُ يَنْتَصِبُ بِالْمَجْدِ. 10الشِّرِّيرُ يَرَى فَيَغْضَبُ. يُحَرِّقُ أَسْنَانَهُ وَيَذُوبُ. شَهْوَةُ الشِّرِّيرِ تَبِيدُ.

صلاح التقي
كلما تأملنا صفات الله وأعماله انطبعت صورته المقدَّسة العامرة بالمحبة على قلوبنا، لأننا عادةً نتمثَّل بمن نحترم ونسير في خطوات من نحب، فنرغب أن نكون صالحين مثله. إن الناس على دين ملوكهم، فإذا ملك الله على القلب تأثَّرت به الحياة. وقد أورد المرنم في المزمور 111 صفات الله وصلاحه، وفي مزمورنا يشرح كيف يتأثَّر المؤمن بإلهه في سلوكه اليومي. وهناك نصيحة رسولية تقول: «فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح» (في 2: 5). فلنتأمل دوماً صفات الله وأعماله ليصوغ حياتنا بحسب صلاحه الإلهي، ويضيء نورنا أمام الناس فيرون أعمالنا الحسنة ويمجدون أبانا الذي في السماوات (مت 5: 16).
ينتهي المزمور السابق بالقول: «رأس الحكمة مخافة الرب. فطنةٌ جيدة لكل عامليها» ويبدأ مزمورنا بالقول: «هللويا. طوبى للرجل المتَّـقي الرب، المسرور جداً بوصاياه». فعندما نتأمل الرب نتَّقيه، وعندما نتقيه نصبح مطوَّبين مباركين، ثم نصير مسرورين جداً بوصاياه، لا يجبرنا أحدٌ على طاعتها لأن «الناموس الكامل هو ناموس الحرية» (يع 1: 25) الذي يحررنا من الخوف، فنطيع الرب لا عن اضطرار بل بالاختيار، بدافع الحب.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – بيت التقي (آيات 1-5)
ثانياً – ثبات التقي (آيات 6-10)

أولاً – بيت التقي
(آيات 1-5)
1 – رب البيت: «هللويا. طوبى للرجل المتَّقي الرب، المسرور جداً بوصاياه» (آية 1). التقي هو الذي يحب الله ويهابه ويطيعه، وهو المسرور بوصاياه، والذي يزيد سروره بوصايا الرب يوماً بعد يوم، و«في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً» (مز 1: 2) فيقول: «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررتُ، وشريعتك في وسط أحشائي» (مز 40: 8)، ويقول: «درِّبني في سبيل وصاياك لأني به سُررت.. كم أحببتُ شريعتك! اليوم كله هي لهجي» (مز 119: 35، 97). تتشكل تصرفاتنا بما تتغذى به عقولنا من أفكار، فإذا قرأنا أخباراً مزعجة انزعجنا، وإذا قرأنا كتباً دنسة هاجمتنا التجارب الدنسة. أما إن قرأنا كلمة الله وجعلناها محل سرورنا المتزايد فإنها تشجعنا على التقوى. فما أسعد الإنسان التقي، لأن التقوى هي أساس السعادة لحياة رب البيت ولحياة أفراد البيت، فهو يقول: «أما أنا وبيتي فنعبد الرب» (يش 24: 15). ويصلي رب البيت التقي قائلاً: «تعرِّفني سبل الحياة. أمامك شِبع سرور في يمينك نِعمٌ إلى الأبد» (مز 16: 11).
2 – أبناء البيت: «نسله يكون قوياً في الأرض. جيل المستقيمين يُبارَك» (آية 2). منذ أن رأى الله أنه ليس جيداً أن يكون آدم وحده، فخلق له حواء معيناً نظيره، نرى الكتاب المقدس ينبِّر كثيراً على أهمية العائلة وضرورة تقوى الآباء والأبناء. والتقي المستقيم مباركٌ في بيته وفي نسله القوي صاحب السيرة الحسنة، الذي تفيح رائحة تقواه في الأرض كلها، والذي يُقال عنه: «مَن هو الإنسان الخائف الرب؟ يعلِّمه طريقاً يختاره. نفسه في الخير تبيت، ونسله يرث الأرض» (مز 25: 12، 13). «أما الودعاء فيرثون الأرض، ويتلذَّذون في كثرة السلامة» (مز 37: 11)، كما قال الرب عن إبراهيم: «يكون أمة كبيرة وقوية، ويتبارك به جميع أمم الأرض، لأني عرفتُه، لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب، ليعملوا براً وعدلاً، لكي يأتي الربُّ لإبراهيم بما تكلم به» (تك 18: 18، 19).
وهناك معنى روحي لنسل التقي القوي في الأرض، هو النسل الروحي الذي يربحه التقي للرب من العالم الخاطئ، كما اختبر الرسول بولس، فقد ولد في الإيمان نسلاً روحياً، قال لبعضهم: «كأولادي الأحباء أنذركم، لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح، ولكن ليس آباءٌ كثيرون، لأني أنا ولدتكم في المسيح بالإنجيل، فأطلب إليكم أن تكونوا متمثِّلين بي» (1كو 4: 14-16). وكل من يرجعون إلى الله بالتوبة يسمعون القول: «فلستم إذاً بعد غرباء ونُزلاً، بل رعيَّةٌ مع القديسين وأهل بيت الله» (أف 2: 19).
3 – غِنى البيت: (آية 3).
(أ) الغنى المادي: »«رَغَدٌ وغِنى في بيته» (آية 3أ). يكرم الرب التقي فلا يحتاج إلى شيء، فيقول: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء» (مز 23: 1). قال المرنم: «اتَّقوا الرب يا قدّيسيه، لأنه ليس عوَزٌ لمتَّقيه. الأشبال احتاجت وجاعت، وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير» (مز 34: 9، 10)، وقال: «كنتُ فتى وقد شخت، ولم أرَ صدِّيقاً تُخُلّي عنه، ولا ذرية له تلتمس خبزاً. اليوم كله يترأف ويُقرِض، ونسله للبركة» (مز 37: 25، 26). والبار مبارك في بيته، وفي نسله، وفي تقواه «لا يتعبون باطلاً، ولا يلدون للرعب، لأنهم نسلُ مباركي الرب، وذُرِّيتهم معهم» (إش 65: 23).
(ب) الغنى الروحي: «برُّه قائمٌ إلى الأبد» (آية 3ب). التقي غني بالبر، والبر هو الاستقامة، وهو الموقف السليم من الله. والبار هو المستقيم صاحب الموقف السليم من الله، وهو العادل الذي يعطي كل صاحب حقٍّ حقه. وهذا البر قائمٌ إلى الأبد لأنه عطية من الله الصالح للإنسان الذي يتبرَّر بالإيمان، فيدرك أولاً أنه خاطئ فيصرخ: «اللهم ارحمني أنا الخاطي» (لو 18: 13)، ويؤمن أنه «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم» (1يو 1: 9) فيقول: «إذ قد تبرَّرنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح» (رو 5: 1).
في بيت التقي إذاً غِنى النعمة، حتى قال الرسول بولس: «كفقراء ونحن نُغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء» (2كو 6: 10). فالغِنى الحقيقي ليس غنى الثراء المادي ولا غنى المعرفة العلمية، فإن اثنين لا يشبعان: طالب عِلمٍ وطالب مال. أما الغِنى الحقيقي فهو غنى التقوى النافعة لكل شيء، إذ لها موعد الحياة الحاضرة والآتية (1تي 4: 8). وما أجمل ما وصف به الرسول بولس عائلة تيموثاوس وهو يقول له: «أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولاً في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكني موقنٌ أنه فيك أيضاً» (2تي 1: 5) فالجدَّة رفعت الصلاة من أجل الابنة، والجدة والابنة صلّتا معاً من أجل تيموثاوس، فكانت البركة للجدة والأم والابن. وما أسعد الإنسان الذي يقدر أن يقول: أشكرك يا رب من أجل إيمان أبي وأمي.. فإن لم يتوفَّر لك أن تقول هذا القول، فابدأ أنت بأن تكون بركة لأولادك ولأحفادك.
4 – نور البيت: «نورٌ أشرق في الظلمة للمستقيمين. هو حنّان ورحيمٌ وصدِّيق» (آية 4). يسمح الله للأبرار أحياناً أن تكتنفهم الظلمة، أو أن يسيروا في الظلمة. ولكنهم في وادي ظل الموت لا يخافون شراً لأن الرب معهم (مز 23: 4) فقد قال المسيح: «في العالم سيكون لكم ضيق، لكن ثقوا أنا قد غلبتُ العالم» (يو 16: 33). ويشرق نور الله في الظلمة للمستقيمين، أصحاب الموقف السليم من الله، فيُقال عنهم: «نورٌ قد زُرع للصدِّيق، وفرحٌ للمستقيمي القلب» (مز 97: 11) ويُقال لهم: «يشرق في الظلمة نورك، ويكون ظلامك الدامس مثل الظهر» (إش 58: 10) لأن نور الله «يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» (يو 1: 5) فنرى بنور الله نوراً (مز 36: 9).
أما مصدر النور المشرق على المؤمن وسط ظلمته فهو أن الرب حنّان ورحيم وصدِّيق، فيقول مع إخوته المؤمنين: «ليس لنا يا رب، ليس لنا، لكن لاسمك أعطِ مجداً، من أجل رحمتك، من أجل أمانتك» (مز 115: 1). ومن رحمة الرب وحنانه أن الظلمة لا تغيِّر إيمان المؤمن، بل تعمِّقه. فعندما تهبُّ العواصف على شجرة حية مغروسة عند المياه الجارية، فإنها تزيد جذورها عمقاً في الأرض. وعندما تجيء تجربةٌ قاسية على المؤمن تعمِّق فيه الإيمان، كما قال المسيح لبطرس: «الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبتُ من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعتَ ثبِّت إخوتك» (لو 22: 31، 32).
5 -كرم البيت: «سعيدٌ هو الرجل الذي يترأَّف ويُقرِض» (آية 5أ). بالرغم من الظلمة التي قد تكتنف التقيّ إلا أنه محسنٌ كريم لأنه يريد أن يتشبَّه بالله المحب إله كل رأفة، ولأنه يدرك أن كل ما عنده هو عطية من عند الله له، فهو ليس مالكاً، لكنه وكيل من الله على ما عنده، فيستخدم ما عنده بحكمة، ويعطي مَن حوله رحمة ومالاً ومعرفةً ونصيحة. وهو يطيع الوصية القائلة: «إن كان فيك فقيرٌ.. فلا تقسِّ قلبك، ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير، بل افتح يدك له، وأَقرضه قدر ما يحتاج إليه» (تث 15: 7، 8). وقال الحكيم: «ارمِ خبزك على وجه المياه، فإنك تجده بعد أيام كثيرة» (جا 11: 1). وأوصى النبي إشعياء: «أن تكسر للجائع خبزك، وأن تُدخِل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك» (إش 58: 7). وقال المسيح: «أّعطوا تُعطَوا، كيلاً جيداً ملبَّداً مهزوزاً فائضاً يعطون في أحضانكم. لأنه بنفس الكيل الذي تكيلون به يُكال لكم» (لو 6: 38). وأوصى الرسول بولس: «مشتركين في احتياجات القديسين، عاكفين على إضافة الغرباء» (رو 12: 13).
قدَّم داود تبرُّعاً سخياً لبناء هيكل للرب، ثم قال: «مَن أنا ومَن هو شعبي حتى نستطيع أن ننتدب (نتبرع) هكذا؟ لأن منك الجميع، ومن يدك أعطيناك» (1أخ 29: 14). فكِّر في شخص تساعده ليقف على قدميه، لتملأ السعادة قلبك، لأن المعطي المسرور يحبه الله (2كو 9: 7).
6 – الحق في البيت: «يدبِّر أموره بالحق» (آية 5ب). التقي الكريم، الذي يترأف ويُقرِض برحمة، يدبِّر كل أموره في التجارة والعمل بالحق والعدل والأمانة، فلا يظلم أحداً ليغتني، ولا يرتشي ليزيد ثروته. إن المال سيد قاسٍ، ومتى سيطرت محبته على القلب فسدت الحياة. ومن تجارب الأغنياء أنهم قد يظلمون الفقير الضعيف، مع أن الحكيم يقول: «ظالم الفقير يعيِّر خالقه» (أم 14: 31). وقد يُصاب الأغنياء بداء الكبرياء وهم يظنون أن ثروتهم نتجت عن ذكائهم، وقد يجعلون المال معبودهم ومتَّكلهم من دون الله، وقد يصيبهم البُخل فلا يعطون الفقير، وقد يعيشون في خوف من ضياع الثروة، وقد يظنون أن أصدقاءهم يحبونهم ليستغلّوهم. ولكن التقوى تنقذ صاحبها من هذه التجارب وتنصره عليها. إن «التقوى مع القناعة تجارةٌ عظيمة، لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضحٌ أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء» (1تي 6: 6، 7).

ثانياً – ثبات التقي
(آيات 6-10)
1 – ثبات التقي في حياته: «لأنه لا يتزعزع إلى الدهر» (آية 6أ). التقي لا يخشى من الظلم ولا من الأشرار ولا من المستقبل، وهو «لن يُزحزَح أبداً» (أم 10: 30) لأنه يطيع الوصية: «أَلقِ على الرب همَّك وهو يعولك. لا يدع الصدِّيق يتزعزع إلى الأبد» (مز 55: 22). عندما جاءت الأخبار السيئة لأيوب خبرٌ وراء آخر، لم يتزعزع ولم يخطئ ولم ينسب لله جهالة، فرفع الرب وجهه، وردَّ سبيه، وزاد على كل ما كان له ضِعفاً (أي 42: 9، 10)، وتحقَّق له القولُ النبوي: «ذو الرأي الممكن تحفظه سالماً سالماً لأنه عليك متوكل. توكلوا على الرب إلى الأبد، لأن في ياه الرب صخر الدهور» (إش 26: 3، 4).
2 – ثبات ذكر التقي بعد موته: «الصدِّيق يكون لذكرٍ أبدي» (آية 6ب). تبقى الذكرى الصالحة للصدِّيق إلى الأبد عند الله وعند الناس. لقد ضاع ذكر كثيرين من قادة العالم، وإن ذُكر كثيرون منهم فإنهم يُذكرون باللوم. أما الصدِّيق فاسمه مكتوبٌ في سِفر الحياة، وذكراه عاطرة عند إلهه، وفي قلوب أفراد عائلته، وفي أفئدة أعضاء كنيسته.. مَن منّا يقدر أن ينسى يوسف في طهارته وهو يرفض أن يرتكب الشر، أو يتغافل مزامير داود؟ ومن ينسى استجابة صلاة الملك حزقيا؟ أو يهمل ذِكر رحلات الرسول بولس للتبشير بأخبار المسيح المفرحة؟ ومن منّا ينسى أمه التقية أو أباه الصالح؟ حقاً «ذِكرُ الصدّيق للبركة، واسم الأشرار يَبلى» (أم 10: 7).
3 – ثبات التقي بالرغم من خبر السوء: «لا يخشى من خبر سوءٍ. قلبه ثابت متَّكلاً على الرب. قلبه مُمَكَّن فلا يخاف حتى يرى بمضايقيه» (آيتا 7، 8). صاحب الضمير المستريح لا يخاف أخبار السوء، فيقول: «ثابتٌ قلبي يا الله، ثابتٌ قلبي» (مز 57: 7). «قولوا للصدّيق خير» (إش 3: 10) «ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله، الذين هم مدعوّون حسب قصده» (رو 8: 28). إنه مثل الرسول بطرس الذي كان نائماً في السجن رغم أنه كان مربوطاً بسلسلتين، ينتظر إعدامه في اليوم التالي (أع 12: 1-11). أما الشرير فيهرب دون أن يطارده أحد (أم 28: 1)، كما قال قايين: «فيكون كل من وجدني يقتلني» (تك 4: 14). صحيحٌ أن «خوف الشرير هو يأتيه، وشهوة الصدّيقين تُمنَح» (أم 10: 24).
طوبى للرجل المتَّقي الرب، المسرور جداً بوصاياه، فلا يخاف حتى يرى قضاء الله وقد وقع على مضايقيه، فإن «الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت.. يسقط عن جانبك ألفٌ ورِبوات عن يمينك. إليك لا يقرب. إنما بعينيك تنظر وترى مجازاة الأشرار» (مز 91: 1، 7، 8).
4 – ثبات التقي في العطاء: «فرَّق، أعطى المساكين. برُّه قائمٌ إلى الأبد. قرنه ينتصب بالمجد» (آية 9). التقي سخيٌّ جوّاد، فإن «الديانة الطاهرة النقيَّة عند الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم» (يع 1: 27). فهو يفرِّق ويعطي المساكين، و«يوجد من يفرِّق فيزداد أيضاً، ومَن يُمسِك أكثر من اللائق وإنما إلى الفقر» (أم 11: 24)، و«من يزرع بالشحّ فبالشح أيضاً يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضاً يحصد» (2كو 9: 6). وقد اقتبس الرسول بولس قول المرنم هنا في رسالته الثانية إلى كنيسة كورنثوس (2كو 9: 9) وهو يتحدث عن الكنائس الغنية التي ساعدت الكنائس الفقيرة، فالمؤمنون الحقيقيون يفرِّقون ويعطون المساكين، فيبقى برُّهم قائماً أمام الله والناس إلى الأبد، ويسمعون في اليوم الآخِر قول المسيح: «تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا المُلك المعدَّ لكم منذ تأسيس العالم.. الحق أقول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم» (مت 25: 34، 40). فحتى إن كان كل ما لديه مجرَّد لقمة يابسة، فإن الرب يباركها فيأكلها المؤمن في سلام مع عائلته، ويجعلها الرب له خيراً من بيت ملآن ذبائح مع خصام (أم 17: 1). صَدَق الحكيم: «أكلةٌ من البقول حيث تكون المحبة خيرٌ من ثور معلوف ومعه بُغضة» (أم 15: 17).
ويكافئ الرب التقي الذي يفرِّق ويعطي المساكين بأن «قرنه ينتصب بالمجد» وهو تشبيه مأخوذ من قرن الحيوان الذي يرفع رأسه منتصباً بعد عراكه مع حيوان آخر وانتصاره عليه. وقد ترنَّمت حنة أم النبي صموئيل لما أعطاها الله نسلاً بعد سنوات من العُقم، كانت ضرَّتها أثناءها تغيظها وتُذلّها، فقالت: «ارتفع قرني بالرب» (1صم 2: 1). وعندما يعطي المؤمن عشور دخله لعمل الرب ولأعمال الخير يرفع الرب رأسه.
5 – ثبات التقي بالرغم من فاعلي السوء: «الشرير يرى فيغضب. يحرِّق أسنانه ويذوب. شهوة الشرير تبيد» (آية 10). من الغريب أن يكون للتقي أعداء، ولكن المؤسف أنه عندما يكرم الله التقي، يغضب الشرير من بركات الرب للتقي! ولكن غضب الشرير وتحريق أسنانه لن يضرَّ إلا نفسه، فهو يذوب غيظاً وكمداً، بينما ترتفع تراتيل التقي بالشكر لله، ويقول مع المرنم: «الرب لي فلا أخاف. ماذا يصنع بي الإنسان؟ الرب لي بين معينيَّ، وأنا سأرى بأعدائي.. قوتي وترنمي الرب وقد صار لي خلاصاً. صوت ترنُّم وخلاص في خيام الصدّيقين» (مز 118: 6، 7، 14، 15).
والآية الختامية في هذا المزمور تدعو الخاطئ للتوبة، لأنها تعلن عن بركات الرب للتقي، وعن شهوة الشرير البائدة. يحقق الله رغبات قلب التقي الذي يتلذَّذ به فيعطيه سؤل قلبه، أما عاملو الشر فيُقطَعون (مز 37: 4، 9). «طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار.. فيكون كشجرة مغروسة على المياه الجارية، التي تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل.. ليس كذلك الأشرار، لكنهم كالعُصافة التي تذرّيها الريح» (مز 1: 1، 3، 4).
ألا تحب أن تكون تقياً فيبارك الرب حياتك وبيتك ونسلك وعملك؟ «حِدْ عن الشر وافعل الخير واسكن إلى الأبد، لأن الرب يحب الحق ولا يتخلى عن أتقيائه. إلى الأبد يحفظون» (مز 37: 27، 28).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّالِثُ عَشَرَ
1 هَلِّلُويَا! سَبِّحُوا يَا عَبِيدَ الرَّبِّ. سَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ. 2لِيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكاً مِنَ الآنَ وَإِلَى الأَبَدِ. 3مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا اسْمُ الرَّبِّ مُسَبَّحٌ. 4الرَّبُّ عَالٍ فَوْقَ كُلِّ الأُمَمِ. فَوْقَ السَّمَاوَاتِ مَجْدُهُ. 5مَنْ مِثْلُ الرَّبِّ إِلَهِنَا السَّاكِنِ فِي الأَعَالِي، 6النَّاظِرِ الأَسَافِلَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ، 7الْمُقِيمِ الْمِسْكِينَ مِنَ التُّرَابِ، الرَّافِعِ الْبَائِسَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ 8لِيُجْلِسَهُ مَعَ أَشْرَافٍ، مَعَ أَشْرَافِ شَعْبِهِ. 9الْمُسْكِنِ الْعَاقِرَِ فِي بَيْتٍ أُمَّ أَوْلاَدٍ فَرْحَانَةً! هَلِّلُويَا!

من مشرق الشمس إلى مغربها
تُعرَف المزامير الستَّة 113-118 بمزامير «التهـليل المصري» نسبةً لترنيمة الخروج المعجزي من عبودية فرعون، وتمييزاً لها عن مزامير «التهليل العظيم» (120-134) المعروفة بمزامير المصاعد. وكان بنو إسرائيل يرتلون مزامير «التهليل المصري» في ثلاثة أعياد لهم، هي الفصح، والخمسين، والمظال. كما كانوا يرتلونها في مطلع كل شهر قمري (ماعدا مطلع الشهر الأول من السنة). وكان عيد الفصح (ومعناه عيد العبور) أعظم الأعياد (تث 16: 1-6)، لأنه تذكار نجاة بني إسرائيل من عبودية فرعون والخروج من مصر، فكانوا يرتلون مزموري 113، 114 قبل أكل خروف الفصح، ثم يرنمون مزامير 115-118 بعده. وكان موعد عيد الخمسين، أو عيد الأسابيع بعد عيد الفصح بخمسين يوماً، وكان شكراً على الحصاد (خر 34: 22). أما عيد المظال فهو آخر الأعياد السنوية الكبرى (تث 16: 16)، وكان بنو إسرائيل أثناءه يُقيمون في مظال من أغصان الشجر، تذكاراً لإقامتهم أربعين سنة في صحراء سيناء (لا 23: 43). وقد اختارت الكنيسة مزامير 113 و114 و118 لتُرنَّم مساء أحد عيد القيامة، لأن هذا العيد حلَّ محل الأعياد اليهودية الثلاثة الفصح، والخمسين، والمظال.
والذي يذكر حادثة خروج بني إسرائيل من مصر بعد أن سامهم فرعون سوء العذاب يُذهَل من عظمة المعجزات التي جرت، من قتل أبكار المصريين ونجاة أبكار بني إسرائيل، لأن الملاك المُهلك عبر عن البيوت التي رأى دم خروف الفصح على أبوابها، ويُذهل من إطعام شعبٍ بكامله وإروائه أربعين سنة في صحراء سيناء، بالمن واللحم والماء الخارج من الصخرة. فقد كان الخروج مواجهةً بين الإله الحقيقي «يهوه» غير المنظور وآلهة المصريين التي منها العجل أبيس ونهر النيل وغير ذلك. لقد تبنّى الربُّ جماعة المستضعَفين في الأرض لينقذهم من جبروت الطاغوت، أقوى حاكم لأعظم إمبراطورية في وقته. وكان المنتظَر منطقياً أن القوة العظمى تسحق الأمة الضعيفة التي لا تملك سلاحاً. لكن الرب أنقذ الشعب الضعيف، وشقَّ أمامهم البحر الأحمر. وفي ذهولنا من المعجزات الإلهية نقول: «هللويا. سبِّحوا يا عبيد الرب. سبحوا اسم الرب.. لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس.. إن كان الله معنا فمن علينا» (مز 113: 1 ولو 1: 49 ورو 8: 31). حقاً «لا مثل لك بين الآلهة يا رب، ولا مثل أعمالك.. لأنك عظيمٌ أنت وصانع عجائب. أنت الله وحدك» (مز 86: 8، 10). ونحن اليوم مهما كنا صغار الشأن أو كنا أقلية، فإن لنا وعد المسيح: «لا تخف أيها القطيع الصغير، لأن أباكم قد سُرَّ أن يعطيكم الملكوت» (لو 12: 32).
ولا زال الله الحي يُجري المعجزات في يومنا. ربما لن تحدث معك معجزة كمعجزة الخروج في حجمها، لكن لا بد قد حدثت معك معجزة فيها صلَّيت، ففتح الله لك طريقاً للنجاة لم تكن تراه، ولا بد أنه سبحانه حماك من قوة غاشمة لم تكن تقدر أن تنقذ نفسك منها. وهناك معجزات أجراها معك الرب الكريم فأنقذك من مخاطر لم تكن تراها فلم تشعر بها ولم تشكر عليها. لكن عندما تعرفها تدرك عظمة عمل الرب معك، وتشترك مع صاحب المزمور في الشكر والتسبيح للرب صانع المعجزات، وتقول: «حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكاً وألسنتنا ترنُّماً.. عظَّم الرب العمل معنا، وصرنا فرحين» (مز 126: 1، 3).
وكل من نال الحياة الجديدة في المسيح يشارك بني إسرائيل فرحة عبورهم البحر الأحمر، لأن الحياة الجديدة عبورٌ من العبودية إلى الحرية، ومن الموت إلى الحياة، ومن الظلمة إلى النور، فيقول: «كنت أعمى والآن أبصر» (يو 9: 25)، ويهتف: «هللويا. سبحوا يا عبيد الرب، سبحوا اسم الرب».
في هذا المزمور نجد:
أولاً – دعوة عامة لتسبيح الرب (آيات 1-3)
ثانياً – تسبيح الرب لعظمة شخصه (آيتا 4، 5)
ثالثاً – تسبيح الرب لعظمة عمله (آيات 6-9)

أولاً – دعوة عامة لتسبيح الرب
(آيات 1-3)
1 – عبيد الرب يسبِّحون الرب: «هللويا. سبِّحوا يا عبيد الرب. سبحوا اسم الرب» (آية 1). يدعو المرنم سامعيه إلى تسبيح الرب لأنهم عبيده العابدون المُخلصون، الذين يقول الرب لهم: «يا إسرائيل عبدي، يا يعقوب الذي اخترتُه، نسلَ إبراهيم خليلي، الذي أمسكتُه من أطراف الأرض، ومن أقطارها دعوتُه، وقلتُ لك: أنت عبدي، اخترتُك ولم أرفضك» (إش 41: 8، 9). والمؤمنون عبيد الرب لأنه اشترى منهم نفوسهم وكل ما يملكون. كان العبد يُشترى بالمال، أما المؤمنون فقد اشتراهم المسيح لا بفضة ولا بذهب «بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيبٍ ولا دنس، دم المسيح» (1بط 1: 19). وبهذا الشراء صرنا ملكيته، نهتف له، ونخضع لتوجيهاته، ونسبِّح اسمه.
الخليقة كلها مِلكٌ للرب الذي أوجدها وأبدعها وأعالها. فماذا يقدم العبد لخالقه وسيده إلا التسبيح الدائم، فالملائكة تشدو له: «قدوس. قدوس. قدوس رب الجنود. مجده ملء كل الأرض» (إش 6: 3). «السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه.. الجبال والآكام تُشيد أمامكم ترنُّماً وكل شجر الحقل تصفِّق» (مز 19: 1 وإش 55: 12). «فلنقدِّم في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه» (عب 13: 15).
ويعتزُّ المؤمنون الحقيقيون بلقب «عبد الرب» فهو اللقب الذي ناله موسى كليم الله 18 مرة في التوراة (أولها تث 34: 5 وآخرها 2أخ 24: 6، 9)، وهو لقب يشوع بن نون خليفة موسى (يش 24: 29 وقض 2: 8)، وهو لقب إيليا النبي الذي قال لله: «أنا عبدك» (1مل 18: 36)، وهو اللقب الذي أطلقه نبوخذنصَّر ملك بابل على الفتية الثلاثة الذين ألقاهم في أتون النار لأنهم أطاعوا الله ورفضوا أن يطيعوا الملك (دا 3: 26)، وهو ما لقَّبت به العذراء القديسة مريم نفسها، فقالت بعد أن بشَّرها الملاك جبرائيل بأنها ستلد المسيح المخلِّص: «هوذا أنا أَمَة الرب. ليكن لي كقولك» (لو 1: 38)، وهو لقب اعتزَّ به الرسول بولس فأطلقه على نفسه في مطلع رسائله، فقال: «بولس عبدٌ ليسوع المسيح» (رو 1: 1) و«بولس عبد الله» (تي 1: 1) لأنه لم ينسَ أنه سقط أمام نور المسيح على وجهه على الأرض قائلاً: «يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟» (أع 9: 6 و22: 10)، واعتزَّ به الرسول بطرس فأطلقه على نفسه (2بط 1: 1)، كما أطلقه الرسول يهوذا أيضاً على نفسه (يه 1: 1).
عندما نعصى الرب وندير دفَّة سفينة حياتنا بحسب رغباتنا، نتعب، فنكتشف أننا أخطأنا، ونصرخ طالبين أن يكون هو الملك صاحب السيطرة على حياتنا. ونتعلم الدرس الذي تعلَّمه نبي الله يونان صاحب الحوت، الذي وجَّه وجهه إلى عكس توجيه الله له، فبدل أن يتَّجه إلى نينوى العراقية في الشمال الشرقي، اتَّجه إلى ترشيش الأسبانية في أقصى الغرب، وركب سفينة مسافرة إليها، فهبَّت عاصفةٌ عاتية على السفينة كانت بلاءً على ركابها وحمولتها وعليه هو. ولم تكن النجاة ممكنةً حتى ألقوا به في البحر الهائج ليعيده الحوت إلى حيث شاء الله له أن يكون، فرجع إلى نقطة البداية (يو 1: 3، 17 و2: 10). ولما أطاع يونان توجيه الله باركه وبارك أهل نينوى بكرازته، فتابوا.. فلنذكر أننا عبيد الرب، ولا حقَّ لنا أن نتجه إلا إلى حيث يريد الرب. فلتكن صلاتنا: «اجعلني عبداً لك، وإذ ذاك أصبح حراً. أرغِمني أن أسلِّم سيفي لك فأصبح منتصراً. فلكي أصل إلى العرش ينبغي أن أُلقي تاجي عند قدميك، ولكي أقف ظافراً رافع الرأس ينبغي أن أنحني أمامك». عندها نسبِّح الرب لأننا عبيد الرب.
2 – تسبيح الرب في كل العصور: «ليكن اسم الرب مباركاً من الآن وإلى الأبد» (آية 2). اسم الرب مبارك دائماً في كل وقت وزمان، يدعونه «أبانا الذي في السماوات، ليتقدَّس اسمك» (مت 6: 9). وبسبب بُعد الناس عن الله نظن أحياناً كما ظن النبي إيليا أنه لم يبقَ أحدٌ يعبد الله سوانا. ولكن الرب يشجعنا كما شجع إيليا بقوله: «أبقيتُ سبعة آلافٍ، كلَّ الرُّكب التي لم تجثُ للبعل، وكلَّ فمٍ لم يقبِّله» (1مل 19: 18). وقال بطرس الرسول لبيت كرنيليوس: «أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه، بل في كل أمةٍ الذي يتَّقيه ويصنع البر مقبول عنده. الكلمة التي أرسلها إلى بني إسرائيل يبشِّر بالسلام بيسوع المسيح. هذا هو رب الكل» (أع 10: 34، 35). هو بالحق رب كل الذين عرفوه مخلِّصاً، فيقولون: «أما نحن فنبارك الرب من الآن وإلى الدهر» (مز 115: 18).
3 – تسبيح الرب في كل مكان: «من مشرق الشمس إلى مغربها اسم الرب مسبَّح» (آية 3). اسم الرب مسبَّحٌ دائماً في كل مكان من الشرق إلى الغرب.. تغرب الشمس عن مكان لتشرق في مكان آخر على الأرض، وفي كل مكان تشرق عليه أو تغرب عنه يوجد من يسبِّح الرب ويهلل له، لأن فيه له شعباً أميناً، يقول عنه: «مِن مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يُقرَّب لاسمي بَخور وتقدمة طاهرة، لأن اسمي عظيم بين الأمم، قال رب الجنود» (مل 1: 11)، ويقول: «أحوِّل الشعوب إلى شفةٍ نقيَّة ليدعوا كلهم باسم الرب، ليعبدوه بكتف واحدة» (صف 3: 9).

ثانياً – تسبيح الرب لعظمة شخصه
(آيتا 4، 5)
1 – عظمة الرب بسبب رفعته: «الرب عالٍ فوق كل الأمم. فوق السماوات مجده» (آية 4). «الرب عليٌّ مخوف. ملكٌ كبير على كل الأرض.. الرب قد ملك، ترتعد الشعوب. هو جالس على الكروبيم، تتزلزل الأرض. الرب عظيم في صهيون، وعالٍ هو على كل الشعوب. يحمدون اسمك العظيم والمهوب. قدوس هو» (مز 47: 2 و99: 1-3).. بنى له سليمان هيكلاً عظيماً كان بالنسبة لسليمان ولشعبه آيةً في العظمة، ولكن سليمان في صلاة تدشين الهيكل تساءل في تواضع: «هل يسكن الله حقاً على الأرض؟ هوذا السماوات لا تسعك، فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيتُ!» (1مل 8: 27). ولم يكن هيكل سليمان قليلاً، لكنه كان لا شيء بالنسبة لعظمة الرب. لذلك ترفع الخليقة كلها ترنيمها لله هاتفة: «أنت مستحقٌّ أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقتَ كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنةٌ وخُلِقت» (رؤ 4: 11)، كما تهتف الخليقة المفدية قائلة: «للجالس على العرش وللحمل البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين» (رؤ 5: 13).
2 – عظمة الرب بسبب تفرُّده: «مَن مثل الرب إلهنا الساكن في الأعالي!» (آية 5). رتَّل له موسى وبنو إسرائيل بعد الخروج قائلين: «مَن مثلك بين الآلهة يا رب؟ مَن مثلك معتزاً في القداسة، مَخوفاً بالتسابيح، صانعاً عجائب؟» (خر 15: 11)، وقال له موسى بعد عبور صحراء سيناء: «أيُّ إله في السماء وعلى الأرض يعمل كأعمالك وكجبروتك؟» (تث 3: 24). وتساءل النبي إشعياء: «فبِمن تشبِّهون الله، وأيَّ شَبَهٍ تعادلون به؟» (إش 40: 18). حقاً، هل يتساوى المخلوق بالخالق؟ هل هناك وجه شبَه بين الكمال والنقص، أو بين القوة والضعف؟ هل يكون الغني المعطي مثل الفقير المتلقّي؟.. يتَّصف الله بالحب الكامل فهو «الله محبة» (1يو 4: 8، 16)، وهو القادر على كل شيء، وهو القدوس الذي بلا عيب، وهو الحق المطلق. وفي حبه يعتني بخليقته من أزهار وطيور وبشر، حتى أن شعور رؤوسنا جميعَها مُحصاة، أو مرقَّمة عنده (مت 10: 30). وقال المسيح إن عصفورين يُباعان بفلس، وخمسةً تُباع بفلسين، والعصفور الذي سقط من حساب التاجر لم يسقط من حساب الله! ثم قال: «أنتم أفضل من عصافير كثيرة» (لو 12: 7).
وتظهر عظمة الله في أنه يغيِّر طبيعة الخاطئ ليجعل منه إنساناً جديداً. تساءل النبي إرميا: «هل يغيِّر الكوشي جلده، أو النمر رُقَطه؟» (إر 13: 23). والإجابة: لا. لكن في المسيح يصير الفاسد قديساً لأن الله يخلق منه شخصاً جديداً، فقد غيَّر زكا جابي الضرائب من ظالمٍ إلى معطاء، وغيَّر السامرية من خاطئة كان لها خمسة أزواج، والذي كانت تعيش معه لم يكن زوجها، فتوَّبها وجعلها كارزة بالخلاص لأهل بلدها. هذا هو الرب إلهنا الساكن في الأعالي، والذي تنازل إلينا بمحبته في المسيح الكلمة.

ثالثاً – تسبيح الرب لعظمة عمله
(آيات 6-9)
1 – الرب يرى الأسافل: «الناظر الأسافل في السماوات وفي الأرض» (آية 6). بالنسبة للعظمة الإلهية تكون السماوات في الأسافل، وكذلك الأرض. فالخالق هو ربُّ الخليقة في السماوات وعلى الأرض، ومع ذلك فهو يتنازل ليسدد احتياج المحتاجين، وينجد المتضايقين ويخلّصهم من خطاياهم ومن ضيقاتهم. نظر إلى سجن فرعون ورأى يوسف الصدّيق السجين بسبب طهارته، وقد «آذوا بالقيد رجليه. في الحديد دخلت نفسه.. أرسل الملكُ فحلَّه. أرسل سلطانُ الشعب فأطلقه. أقامه سيداً على بيته ومُسلَّطاً على كل مُلكه ليأسُر رؤساءه حسب إرادته، ويعلّم مشايخه حكمة» (مز 105: 17-22). ونظر إلى أسافل سجن خطية «أغسطينوس» في علاقاته الجنسية الدنسة، وخلق منه «القديس أغسطينوس» الأسقف ومفسِّر الكلمة الإلهية. ولا زال الله هو الأب والراعي والحافظ، فإن عيني الرب نحو الصدّيقين وأذنيه إلى صراخهم (مز 34: 15) «لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدَّد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه» (2أخ 16: 9).
2 – الرب يُقيم المسكين: «المقيم المسكين من التراب، الرافع البائس من المزبلة ليُجلسه مع أشرافٍ، مع أشراف شعبه» (آيتا 7، 8). اختار الرب جدعون الذي كان يخبط بعض الحنطة ليهرِّبها من غُزاة المديانيين وجعله قاضياً ومنقذاً لبني إسرائيل (قض 6: 11، 14)، واختار شاول البنياميني الذي كان يفتش على أُتن أبيه الضالة ليجعله أول ملك على بني إسرائيل (1صم 9: 3)، و«اختار داود عبده وأخذه من حظائر الغنم. من خلف المرضعات أتى به ليرعى شعبه.. فرعاهم حسب كمال قلبه، وبمهارة يديه هداهم» (مز 78: 70-72). ورتَّلت العذراء المطوَّبة: «تعظِّم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلِّصي، لأنه نظر إلى اتِّضاع أمته.. أنزل الأعزّاء عن الكراسي، ورفع المتَّضعين» (لو 1: 47، 48، 52). واختار المسيح بعض صيادي السمك ليجعل منهم تلاميذه، وليكونوا صيادي الناس (مت 4: 19). وقال الرسول بولس: «اختار الله جُهّال العالم ليُخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليُخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم والمزدَرى وغير الموجود ليُبطل الموجود، لكي لا يفتخر كل ذي جسدٍ أمامه» (1كو 1: 27-29). ويمكنك أن تقارن حالة الابن الضال بعيداً عن بيت أبيه وهو لا يجد ما تأكله الخنازير بحالته عندما رجع إلى بيت أبيه، فأُقيم له احتفال تكريم، ذُبح فيه العجل المسمَّن، وأُعطي حذاءً في رجليه علامة السيادة، وأُلبِس خاتماً في يده لأن أباه أعاد إليه كل ثقته فيه (لو 15: 22).. وهكذا يستبدل الله الفقرَ بالغنى، والعارَ بالشرف، والمتكأ الأخير بالمتكإ الأول، والحزن بالفرح، وعبودية الخطية بحرية مجد أولاد الله، والعمى بالبصر الروحي. وأعظم ما فعله الله معنا أن المسيح نزل إلى أقسام الأرض السفلى لكي يملأ الكل، وأعطى البعض أن يكونوا رسُلاً والبعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلّمين (أف 4: 9-11).
3 – الرب يعطي المحروم: «المُسْكِن العاقر في بيتٍ، أُمَّ أولادٍ، فرحانةً. هللويا» (آية 9). لعل المرنم كان يذكر سارة زوجة خليل الله إبراهيم، وقد ضاع أملها في أن تلد له وهي في التسعين من العمر، فاقترحت على زوجها أن يتزوَّج جاريتها هاجر ليتحقَّق وعد الله لخليله أنه سيكون أباً لجمهور من الأمم. ولكن الرب أجرى المعجزة مع سارة، وأعلن لها أنها ستلد ابناً، فضحكت من غرابة الوعد ومن استحالة تنفيذه بالقدرة الإنسانية. ولكن وعد الله الحق تمَّ، وولدت سارة إسحاق (ومعنى اسمه: ضحك). وأنجب إسحاق يعقوب أب الأسباط.
أما حنة زوجة ألقانة فقد كانت مذلولة أمام ضرَّتها «فننَّة» لأن فننة كانت ذات أولاد بينما كانت حنة عاقراً، فذهبت حنة إلى الهيكل تشكو لله مرارة نفسها في صلاة طويلة، حتى ظنَّ رئيس الكهنة أنها سكرانة. واستجاب الله طلبتها، ووهبها صموئيل الذي قالت عنه: «لأجل هذا الصبي صلّيت، فأعطاني الرب سؤلي الذي سألتُه من لدُنه» (1صم 1: 27)، ثم جعل الله منه قائداً لشعبه.
ويصف الوحي الكنيسة بمعنى روحي أنها أمٌّ تلد مؤمنين يحبون الله ويطيعونه. وقد تنقضي فترة طويلة دون أن نرى نفوساً ترجع لله تائبة، فندعو مصلّين أن يرجع الخطاة إلى الرب، فيولد للكنيسة أبناء مؤمنون، ويصبح المؤمنون الذين لم يسبق لهم أن ربحوا أحداً للتوبة ذوي أولاد روحيين، فتتحقَّق النبوة القائلة: «ترنَّمي أيتها العاقر التي لم تلد. أشيدي بالترنُّم أيتها التي لم تمخَض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل، قال الرب. (يعني مَن لا نتوقع لها أن تلد، بمعنى روحي، سيكون عندها أولاد أكثر من التي نتوقَّع لها أن تلد). أوسِعي مكان خيمتك، ولِتُبْسَط شُقق مساكنك. لا تُمسكي. أطيلي أطنابك وشدِّدي أوتادك (لأن الخيمة يجب أن تكبر لتتَّسع لكثيرين). لأنك تمتدّين إلى اليمين وإلى اليسار، ويرث نسلُكِ أمماً، ويُعْمِرُ مدناً خرِبة» (إش 54: 1-3).
دعونا نرفع عيوننا إلى الحقول التي ابيضَّت للحصاد، فنخرج كفعَلة في كرم الرب، ندعو الناس للتوبة، فيكون كل مؤمن مثل أمِّ أولادٍ، فرِحاً بالبركة، فنهتف هتاف خاتمة مزمورنا كما بدأناه بالقول: «هللويا». سبحوا الرب.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالرَّابِعُ عَشَرَ
1 عِنْدَ خُرُوجِ إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ، وَبَيْتِ يَعْقُوبَ مِنْ شَعْبٍ أَعْجَمَ، 2كَانَ يَهُوذَا مَقْدِسَهُ، وَإِسْرَائِيلُ مَحَلَّ سُلْطَانِهِ. 3الْبَحْرُ رَآهُ فَهَرَبَ. الأُرْدُنُّ رَجَعَ إِلَى خَلْفٍ. 4الْجِبَالُ قَفَزَتْ مِثْلَ الْكِبَاشِ، وَالآكَامُ مِثْلَ حُمْلاَنِ الْغَنَمِ. 5مَا لَكَ أَيُّهَا الْبَحْرُ قَدْ هَرَبْتَ، وَمَا لَكَ أَيُّهَا الأُرْدُنُّ قَدْ رَجَعْتَ إِلَى خَلْفٍ، 6وَمَا لَكُنَّ أَيَّتُهَا الْجِبَالُ قَدْ قَفَزْتُنَّ مِثْلَ الْكِبَاشِ، وَأَيَّتُهَا التِّلاَلُ مِثْلَ حُمْلاَنِ الْغَنَمِ؟ 7أَيَّتُهَا الأَرْضُ تَزَلْزَلِي مِنْ قُدَّامِ الرَّبِّ، مِنْ قُدَّامِ إِلَهِ يَعْقُوبَ! 8الْمُحَوِّلِ الصَّخْرَةَ إِلَى غُدْرَانِ مِيَاهٍ، الصَّوَّانَ إِلَى يَنَابِيعِ مِيَاهٍ.

الخروج الذي حرك الطبيعة
هذا ثاني مزامير التهليل المصري الستة (مزامير 113-118) التي تعبِّر عن تسبيح بني إسرائيل لما أخرجهم الرب من أرض مصر. في المزمور السابق سمعنا المرنم يتحدث عن محبة الله «الناظر الأسافل» من المساكين والبائسين. أما هذا المزمور فيعلن عن قوة الله التي أنقذت هؤلاء المساكين والبائسين، لأن هذه القوة تعمل في خدمة محبته الفعالة. ويصوِّر مزمورنا الطبيعة وقد تحرَّكت خشية وارتعاداً من مجد الرب الذي يقود شعبه ويقول لهم: »توكلوا على الرب إلى الأبد، لأن في ياه الرب صخر الدهور» (إش 26: 4).
كانت الكنيسة الأولى ترنم هذا المزمور تسبيحاً لله في عيد القيامة، لأنه يعبِّر عن الخروج من قبر وموت، فقد كان بنو إسرائيل أمواتاً في قبر الاستعباد والتعذيب والإهانة، فأقامهم الرب منه وأطلقهم أحراراً. وهذا ما يجري في العهد الجديد بفضل قيامة المسيح الذي بعد أن صُلب وقُبر وقام من بين الأموات صار بكراً بين إخوة كثيرين (رو 8: 29). وبقيامته أعطى كل من يؤمن به رباً وفادياً الرجاء والوعد بالقيامة من قبر خطيته حسب قوله: «الحق الحق أقول لكم إنه تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون يحيون» (يو 5: 25).
وتتكرر معجزة الخروج في حياة المؤمنين أفراداً وجماعة، كما كررها الرب مع شعبه إذ أعادهم من سبي السنوات السبعين في بابل، فقد كان السبي قبراً ثانياً لبني إسرائيل بعد قبر عبودية مصر، فأخرجهم الرب منه بعد أن ذاقوا مرارة هدم الهيكل، وتوقُّف العبادة، وذل الصمت حزناً وامتناعاً عن ترتيل ترنيمة الرب في أرض غريبة (مز 137: 4). ولا زال الرب يُجري معجزة خروج جديد لنفوس المؤمنين من سبيهم في المرض والفقر والضيق، فيرنمون كلمات هذا المزمور بالشكر والحمد.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الرب يُخرج شعبه من مصر (آيتا 1، 2)
ثانياً – المعجزات التي رافقت الخروج (آيات 3-6)
ثالثاً – تكرار معجزات الخروج (آيتا 7، 8)

أولاً- الرب يُخرج شعبه من مصر
(آيتا 1،2)
1 – أخرجهم: «عند خروج إسرائيل من مصر وبيت يعقوب من شعب أعجم» (آية1). حادثة الخروج من مصر موضوع افتخار كل مؤمن بأعمال الرب المعجزية تجاه خاصته، وهي موضوع تسبيح وحمد للرب الذي وعد ويفي بوعده، ويبقى أميناً لا يقدر أن ينكر نفسه. لقد جاء بنو إسرائيل إلى مصر أعزاء بعد أن رحَّب بهم فرعون يوسف، وخرجوا منها مكرَّمين بعد أن هُزم فرعون الخروج! وفي الدخول والخروج أكرم الرب شعبه. وهذه قصة كل مؤمن يحب الرب. لقد خلق الله الإنسان على صورته كشبَهه، فالإنسان على صورة الرحمان، وأعطاه الرب سلطاناً ومكانة عظيمة. ولما أخطأ الإنسان صار تحت الدينونة العادلة، فجاء المسيح ليعيد لكل من يؤمن به رباً وفادياً حالته الأولى بالميلاد الثاني. فإنه «بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس.. لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح» (رو 5: 12، 17).
كانت مصر أرض عبودية لا تعرف الرب، تتكلم لغةً أعجميةً غريبة في الحديث والعبادة، وتتعبَّد لآلهة غريبة. ولكن الرب أنقذ شعبه من الكاتب الذي يسجل أسماء العبيد، ومن الجابي الذي يتقاضى الضرائب، ومن الذي يعد الأبراج التي بُنيت بالتسخير، فقال النبي إشعياء: «قلبك يتذكر الرعب. أين الكاتب؟ أين الجابي؟ أين الذي عدَّ الأبراج؟ الشعب الشرس لا ترى. الشعب الغامض اللغة عن الإدراك، العيي بلسان لا يُفهم» (إش 33: 18، 19).
2- سكن وسطهم: «كان يهوذا مقدسه، وإسرائيل محل سلطانه» (آية 2). أخرج الرب شعبه من أرض العبودية وسكن وسطهم، وجعلهم مقدسه وموضع اهتمامه وعنايته وسلطانه، فقد أمر موسى أن يجهِّز خيمة يجتمع فيها بشعبه ليعلن لهم مشيئته (عد 17: 4). وكانت الخيمة أيضاً تُسمى «المسكن» حيث يسكن الله وسط شعبه (خر 25: 8). وكانت الخيمة تتوسط خيام أسباط بني إسرائيل حسب النظام الموضح في سفر العدد الأصحاح الثاني، فكانت تعلن لهم قداسة الله بسبب طقوس العبادة التي يمارسونها فيها، كما تعلن لهم حضوره المقدس، وتؤكد لهم نعمته، لأنه وهو القدوس يتنازل ليسكن وسطهم ليحبوه ويعبدوه، ويقول كل مؤمن عنه: «الإله الذي أنا له، والذي أعبده» (أع 27: 23). ولم يكتفِ المرنم بالحديث عن الخيمة، بل اعتبر الشعب كله مسكناً لله، كما قال لهم: «أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين. وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليَّ. فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب.. وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة» (خر 19: 4-6). وهكذا صاروا مقدسه، أي هيكله الذي يتمجد فيه، ويمكن أن يُقال لهم: «أما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب» (1بط 2: 9).

ثانياً- المعجزات التي رافقت الخروج
(آيات 3-6)
رافق الخروج من مصر معجزات وقع رعبها على المصريين بالرغم من حكمتهم، وعلى الطبيعة بالرغم من جبروتها، فاستسلموا معلنين خضوعهم لسيد الخليقة.
1- تراجعت الحواجز: «البحر رآه فهرب. الأردن رجع إلى خلف» (آية 3). «مدَّ موسى يده على البحر، فأجرى الرب البحر بريح شرقية.. وجعل البحر يابسة وانشقَّ الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم» (خر 14: 21، 22). «أبصرتك المياه يا الله، أبصرتك المياه ففزعت. ارتعبت أيضاً اللجج» (مز 77: 17). «شقَّقت الأرض أنهاراً.. سيل المياه طما. أعطت اللجة صوتها. رفعت يديها إلى العلاء» (حب 3: 9، 10). وعندما حاول المصريون أن يسيروا في الطريق الذي أوجده الرب بين الأمواج انغلق عليهم فغرقوا بمركباتهم في البحر الذي سخره الرب لنجاه شعبه. «عندما يأتي العدو كنهر فنفخة الرب تدفعه» (إش 59: 19).
وذكر المرنم حادثة ثانية هربت فيها المياه من أمام شعب الرب، يوم عبروا نهر الأردن بقيادة يشوع، بعد أن قال الرب له: «ويكون حينما تستقر بطون أقدام الكهنة حاملي تابوت الرب، سيد الأرض كلها، في مياه الأردن، أن مياه الأردن، المياه المنحدرة من فوق، تنفلق وتقف نداً واحداً.. فتوقفت المياه المنحدرة من فوق وقامت نداً واحداً.. والمنحدرة إلى بحر العربة بحر الملح انقطعت تماماً، وعبر الشعب مقابل أريحا» (يش 3: 13-17).
2- استسلمت المصاعب: «الجبال قفزت مثل الكباش، والآكام مثل حملان الغنم» (آية 4). عندما أعطى الله الشريعة لموسى «كان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار.. وارتجف كل الجبل جداً» (خر 19: 18). «تزلزلت الجبال من وجه الرب، وسيناء هذا من وجه الرب» (قض 5: 5).
واليوم يقف الخاطئ المتجبِّر المتكبِّر مذعوراً أمام صوت الرب الذي يعلن الدينونة على الخطاة، فلا يطمئن إلا بعد أن يحتمي في كفارة المسيح الذبح العظيم. فإن شريعة الله تحكم على الخاطئ بالموت، ولو أنها في الوقت نفسه توجِّهه إلى طريق النجاة بالفداء الذي دبَّره الله بالصليب، لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة. وكل من يحتمي بالمسيح الفادي يقدر أن يرنم: «لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال في قلب البحار» (مز 46: 2)
3- انذهل المشاهدون: «مالك أيها البحر قد هربت؟ ومالك أيها الأردن قد رجعت إلى خلف؟ ومالكن أيتها الجبال قد قفزتن مثل الكباش، وأيتها التلال مثل حملان الغنم؟» (آيتا 5، 6). عندما صاغ المرنم بالروح القدس عبارات هذا المزمور شعر كأنه انتقل بالروح إلى زمن الخروج ووقف وسط الناجين، يرى عمل الرب حاضراً أمامه، فسأل البحر الأحمر ونهر الأردن عن سبب تراجعهما أمام شعب الله، وسأل جبل سيناء والتلال المحيطة به عن سبب قفزها مثل الكباش وحملان الغنم، وأبدى دهشته من سرعة طاعة الطبيعة وخضوعها لأمر الرب بالمفارقة مع عصيان فرعون وشعبه!
لقد تزعزعت هذه الجبال الراسيات. ولا زلنا في يومنا هذا نرى اهتزاز الثوابت الأرضية أو المعنوية التي نستند عليها، مثل المال وقوته الشرائية، فنتعلم الدرس: «إن زاد الغِنى فلا تضعوا عليه قلباً» (مز 62: 10)، ومثل الصحة أمام مداهمة المرض كما جرى مع أيوب الذي قال: «عظمي قد لصق بجلدي ولحمي، ونجوت بجلد أسناني» (أي 20:19)، ومثل الأصحاب، كما قال بولس: «الجميع تركوني. لا يُحسب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقوّاني» (2تي 4: 16، 17)، ومثل العائلة التي تهجر بالخيانة أو الموت، كما قالت راعوث لنعمي: «إنما الموت يفصل بيني وبينك» (را 1: 17). هذه كلها تهرب وتنتهي، ولا تبقى لنا إلا أمانة الرب ومحبته وعنايته، فهذه وحدها هي الثابتة، فنقول للصعوبة: «من أنت أيها الجبل العظيم؟ أمام زربابل تصير سهلاً (أرضاً مستوية)» (زك 4: 7).

ثالثاً – تكرار معجزات الخروج
(آيتا 7،8)
1- ستستسلم المصاعب: «أيتها الأرض تزلزلي من قدام الرب، من قدام إله يعقوب» (آية 7). إن كان البحر قد هرب إلى خلف وقفزت الجبال مثل الكباش، فلماذا لا تتزلزل الأرض أمام الرب سيد الأرض كلها؟ «أضاءت بروقه المسكونة. رأت الأرض وارتعدت. ذابت الجبال مثل الشمع قدام الرب، قدام سيد الأرض كلها. أخبرت السماوات بعدله، ورأى جميع الشعوب مجده» (مز 97: 4-6). «الذي صوته زعزع الأرض حينئذ، وأما الآن فقد وعد قائلاً: إني مرة أيضاً أزلزل لا الأرض فقط بل السماء أيضاً. فقوله «مرة» أيضاً يدل على تغيير الأشياء المتزعزعة كمصنوعة، لكي تبقى التي لا تتزعزع. لذلك ونحن قابلون ملكوتاً لا يتزعزع ليكن عندنا شكر به نخدم الله.. لأن إلهنا نار آكلة» (عب 12: 26-29).
وسيد الأرض كلها هو «إله يعقوب» «إله العهد» الذي خصَّ يعقوب أبا الأسباط بإعلاناته ومراحمه وعهوده. هو إله العهد، الذي لم يعامل يعقوب حسب أعماله، بل عامله حسب كثرة محبته التي غيَّرت يعقوب فجعلت من المتعقِّب مجاهداً مع الله. وهو نفسه إله العهد الجديد الذي سدَّد الأعواز في عرس قانا الجليل، وأعطى نيقوديموس ولادة جديدة، وتوَّب السامرية، وأعطى مريض بِركة بيت حِسدا صحة، وقدَّم للشعب الجائع خبزاً، وفتح عيني المولود أعمى، وهو نور العالم، وهو الراعي الصالح الذي يحمي قطيعه، وهو الخالق الذي أقام لعازر من الموت. وفي كل مرة نتناول فيها من عشاء الرب نسمع القول الكريم: «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (متى 26: 28). وإله العهد هذا هو الفاعل في الطبيعة وفي قلوب البشر. «عجيبة هي أعمالك، ونفسي تعرف ذلك يقيناً» (مز 139: 14).
2- سيرتوي العطاش: «المحوِّل الصخرة إلى غدران مياه، الصَّوَّان إلى ينابيع مياه» (آية 8). هو إله العناية. لقد أخرج شعبه من العبودية وسار بهم وسط صحراء قاحلة مدة أربعين سنة، أشبعهم فيها بالمن والسلوى. وعندما تذمروا بسبب نقص الماء أمر موسى في برية سين أن يضرب الصخرة ليخرج منها ماء ليشرب الشعب «ففعل موسى.. ودعا اسم الموضع مسة ومريبة، من أجل مخاصمة بني إسرائيل، ومن أجل تجربتهم الرب، قائلين: أفي وسطنا الرب أم لا؟» (خر 17: 7). ولكنهم سرعان ما نسوا فعل الرب، فخاصموا موسى في برية صين لأجل الماء، فضرب الصخرة «فخرج ماء غزير فشربت الجماعة ومواشيها. هذا ماء مريبة حيث خاصم بنو إسرائيل الرب فتقدس فيهم» (عد 20: 11، 13).

مع هذا الإله الصالح العظيم تسقط حواجز المقاومة وترتوي النفوس العطشى، لأن كل شيء مستطاع عنده، كما أننا بدونه لا نقدر أن نفعل شيئاً. فلنطلب منه برجاء، ولنصلِّ بلا ملل، ولنصبر بتوقُّع، فهو الذي يحوِّل العوز إلى وفرة، وفي وقته يسرع به بطرقه الحكيمة وقلبه الرحيم. «لا تهتموا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس. لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم» (مت 6: 31، 33).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالْخَامِسُ عَشَرَ
1 لَيْسَ لَنَا يَا رَبُّ لَيْسَ لَنَا، لَكِنْ لاِسْمِكَ أَعْطِ مَجْداً، مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكَ، مِنْ أَجْلِ أَمَانَتِكَ. 2لِمَاذَا يَقُولُ الأُمَمُ: «أَيْنَ هُوَ إِلَهُهُمْ؟» 3إِنَّ إِلَهَنَا فِي السَّمَاءِ. كُلَّمَا شَاءَ صَنَعَ. 4أَصْنَامُهُمْ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ عَمَلُ أَيْدِي النَّاسِ. 5لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ. 6لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. لَهَا مَنَاخِرُ وَلاَ تَشُمُّ. 7لَهَا أَيْدٍ وَلاَ تَلْمِسُ. لَهَا أَرْجُلٌ وَلاَ تَمْشِي. وَلاَ تَنْطِقُ بِحَنَاجِرِهَا. 8مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا، بَلْ كُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا.
9يَا إِسْرَائِيلُ، اتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ. هُوَ مُعِينُهُمْ وَمِجَنُّهُمْ. 10يَا بَيْتَ هَارُونَ، اتَّكِلُوا عَلَى الرَّبِّ. هُوَ مُعِينُهُمْ وَمِجَنُّهُمْ. 11يَا مُتَّقِي الرَّبِّ، اتَّكِلُوا عَلَى الرَّبِّ. هُوَ مُعِينُهُمْ وَمِجَنُّهُمْ. 12الرَّبُّ قَدْ ذَكَرَنَا فَيُبَارِكُ. يُبَارِكُ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ. يُبَارِكُ بَيْتَ هَارُونَ. 13يُبَارِكُ مُتَّقِي الرَّبِّ، الصِّغَارَ مَعَ الْكِبَارِ. 14لِيَزِدِ الرَّبُّ عَلَيْكُمْ، عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَبْنَائِكُمْ. 15أَنْتُمْ مُبَارَكُونَ لِلرَّبِّ الصَّانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. 16السَّمَاوَاتُ سَمَاوَاتٌ لِلرَّبِّ، أَمَّا الأَرْضُ فَأَعْطَاهَا لِبَنِي آدَمَ. 17لَيْسَ الأَمْوَاتُ يُسَبِّحُونَ الرَّبَّ، وَلاَ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى أَرْضِ السُّكُوتِ. 18أَمَّا نَحْنُ فَنُبَارِكُ الرَّبَّ مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ. هَلِّلُويَا!

ليس لنا
هذا هو المزمور الثالث من مزامير «التهليل المصري» الستة. رأينا في أولها (مز 113) محبة الله للذين هم في «أسافل الأرض» وفي الثاني (114) رأينا قدرة الله في خدمة محبته التي تهزُّ الجبال وتجعل البحر يرجع إلى خلف. وفي هذا المزمور نرى أن كل هذه المعجزات ليست بسبب صلاح فينا ولا بر عملناه، إنما من أجل اسمه، فهو «يهديني إلى سبُل البر من أجل اسمه» (مز 23: 3). ويتشابه مزمورنا مع مزمور 118، آخر مزامير «التهليل المصري» في أنهما كانتاتا رائعة، أي أنهما قصيدة تنشدها جوقة مرنمين بمصاحبة الموسيقى. ونرجو من القارئ أن يراجع ما قلناه في مقدمة أول مزامير «التهليل المصري» (مزمور 113) كمقدمة لدراسة هذا المزمور.
يوضح مزمورنا عظمة الرب بالمفارقة مع عجز الأوثان. وهو مزمور عبادة ذو مردّات، تبدأ الجوقة بترنيم آيات 1-8 منه، ثم يتبادل الترنيم كلٌّ من الكاهن والجوقة حتى نهايته. وهذا المنهج في الترنيم وصفه نحميا بقوله: «فوقف الفرقتان من الحمادين في بيت الله، وأنا ونصف الولاة معي» (نح 12: 40).

في هذا المزمور نجد:
أولاً – دعاء لتمجيد اسم الرب (آيات 1-3)
ثانياً – مفارقة بين الرب والوثن (آيات 4-8)
ثالثاً – دعوة للاتكال على الرب (آيات 9-11)
رابعاً – بركة الاتكال على الرب (آيات 12-18)

أولاً – دعاء لتمجيد اسم الرب
(آيات 1-3)
1 – يمجد اسمه إكراماً لشخصه: «ليس لنا يا رب ليس لنا، لكن لاسمك أعطِ مجداً» (آية 1أ). بكل تواضع يبدأ فريق المرنمين ترنيم هذا المزمور فيطلبون من الرب أن يمجد اسمه، لأنهم لا يستحقون أن يطلبوا مثل هذا الطلب منه. وهم لا يطلبون طلباً لأجل أنفسهم، بل يطلبون أن يمجد اسمه بنجاة شعبه، فإن الذي يضطهدهم يضطهده (أع 9: 4)، والذي يمس حدقة عيونهم يمس حدقة عين الرب (زك 2: 8). وكانت هذه صلاة دانيال: «لا لأجل برنا نطرح تضرعاتنا أمام وجهك، بل لأجل مراحمك العظيمة. يا سيد اسمع. يا سيد اغفر. يا سيد أصغِ واصنع. لا تؤخِّر من أجل نفسك يا إلهي، لأن اسمك دُعي على مدينتك وعلى شعبك» (دا 9: 18، 19). ويجيب الرب: «ليس لأجلكم أنا صانع.. بل لأجل اسمي القدوس.. فأقدس اسمي العظيم.. فتعلم الأمم أني أنا الرب، يقول السيد الرب، حين أتقدس فيكم قدام أعينهم» (حز 36: 22، 23). «من أجل اسمي أبطئ غضبي، ومن أجل فخري أمسك عنك حتى لا أقطعك. من أجل نفسي.. أفعل. لأنه كيف يدنَّس اسمي؟ وكرامتي لا أعطيها لآخر» (إش 48: 9، 11).
والمؤمن الأمين يرفع صلاته إلى الرب باسم المسيح، لأنه يقبلنا من أجل عمله الكفاري على الصليب، ولأننا في شفاعته ننتظر الإجابة، فإنه «إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون» (رو 5: 1، 2).
2 – يمجد اسمه إكراماً لرحمته وأمانته: «من أجل رحمتك من أجل أمانتك» (آية 1ب). ويستمر المرنمون يقولون للرب إنه إن لم يتدخل لينجيهم فسيظن الوثنيون (كما يظن ضعفاء الإيمان منهم) أنه لم يرحم شعبه، ولم يحقق لهم ما سبق أن وعدهم به، وهو الذي قال: «الرب إله رحيم ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء» (خر 34: 6). ولذلك قال موسى للشعب: «ليس من كونكم من أكثر سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم، لأنكم أقل من سائر الشعوب. بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم» (تث 7: 7، 8).
لقد دعا الرب إبراهيم من أور الكلدانيين وأعطاه وعداً واحداً حققه له برحمته وأمانته. أما نحن مؤمني العهد الجديد فقد دعانا بالمجد والفضيلة، ووهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي نصير بها شركاء الطبيعة الإلهية (2بط 1: 3، 4). فما أسعدنا باسمه الذي دُعي علينا، وبوعوده الموهوبة لنا في المسيح فادينا.
3 – يمجد اسمه ليخجل الوثنيون: «لماذا يقول الأمم: أين هو إلههم؟» (آية 2). ويمضي المرنمون يطلبون تمجيد اسم الرب حتى لا يسألهم الوثنيون: أين إلهكم؟.. إن كل أعمال الرب عظيمة ومعلنة ومنظورة في الخليقة والطبيعة والعناية، وفوق الكل في الفداء. ولكنه روح غير منظور، لذلك يسأل عابدو الأصنام شعب الرب: أين إلهكم؟.. وعندما يصرخ شعب الرب دون أن ينالوا إجابة سريعة يسألهم الوثنيون: إن كان إلهكم موجوداً فلماذا لا يتدخل ويخلصكم؟.. وقد سبق لأحد المرنمين أن صرخ في انحناء نفسه: «صارت لي دموعي خبزاً نهاراً وليلاً، إذ قيل لي كل يوم: أين إلهك؟.. لماذا أنت منحنية يا نفسي، ولماذا تئنين فيَّ؟ ترجي الله لأني بعد أحمده، خلاص وجهي وإلهي» (مز 42: 3، 11).
4 – يمجد اسمه ليُظهر قوته: «إن إلهنا في السماء، كل ما شاء صنع» (آية 3). بهذه الآية يرد المرنمون على سؤال الوثنيين، فإن إلههم يسكن السماء ويرى كل المضطهَدين ويسمع كل صلواتهم. إنه أبونا الذي في السماوات، وهو الفعال على الأرض، يصنع كل ما يشاء «صنع الثريا والجبار، ويحوِّل ظل الموت صبحاً، ويظلم النهار كالليل. الذي يدعو مياه البحر ويصبها على وجه الأرض. يهوه اسمه» (عا 5: 8). فإن ظن الوثنيون أنه قد تخلى عن شعبه لأنهم مُتعَبون، فليعلموا أنه الحي المخلِّص، وأن كل ما يمرُّ به أولاده من متاعب هو بسماح منه، فيقولون: «لا تشمتي بي يا عدوتي. إذا سقطت أقوم. إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي. أحتمل غضب الرب لأني أخطأت إليه، حتى يقيم دعواي ويجري حقي. سيخرجني إلى النور. سأنظر بره» (مي 7: 8، 9). و«كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن. وأما أخيراً فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام» (عب 12: 11).

ثانياً – مفارقة بين الرب والوثن
(آيات 4-8)
1 – لا حياة في الأوثان: «أصنامهم فضة وذهب، عمل أيدي الناس. لها أفواه ولا تتكلم. لها أعين ولا تبصر. لها آذان ولا تسمع. لها مناخر ولا تشم. لها أيد ولا تلمس. لها أرجل ولا تمشي، ولا تنطق بحناجرها» (آيات 4-7). اقتُبست هذه الآيات في مزمور 135: 15-18. وهي استمرار لترنيم الجوقة، وفيها يردون على الوثنيين الذين سألوهم: «أين هو إلهكم؟» فيقولون لهم: بل أين آلهتكم أنتم؟ إنها أوثان ميتة لا تنفع ولا تضر، أما إلهنا فهو «في السماء. كل ما شاء صنع». «ماذا نفع التمثال المنحوت حتى نحته صانعه؟.. ويل للقائل للعود: استيقظ، وللحجر الأصم: انتبه. أهو يعلِّم؟ ها هو مطلي بالذهب والفضة، ولا روح البتة في داخله. أما الرب ففي هيكل قدسه، فاسكتي قدامه يا كل الأرض» (حب 2: 18-20). «لأنهم ليسوا آلهة، بل صنعة أيدي الناس. خشب وحجارة فأبادوهم. والآن أيها الرب خلِّصنا فتعلم ممالك الأرض كلها أنك أنت الرب وحدك» (إش 37: 19، 20). أما الرب فيقول أيوب له: «يداك كونتاني وصنعتاني.. كسوتني جلداً ولحماً فنسجتني بعظام وعصب. منحتني حياة ورحمة وحفظت عنايتك روحي» (أي 10: 8، 11، 12).
للأصنام أفواه ولا تتكلم، أما الرب فيتكلم في الوحي في الكتاب المقدس، ويهمس في قلوبنا بالحديث الباطني بكلمات المحبة والنصح والسلام، فإن «الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه» (عب 1: 1، 2).
ومن المؤسف أنه حتى في يومنا هذا لا نزال نرى من يصنعون أصناماً يعبدونها. وهي وإن كانت تختلف عن أوثان الأقدمين في شكلها، إلا أنها تشبهها في صفاتها، فما أكثر من يسجدون لصنم العِلم، والمال، والمركز الاجتماعي، والرياضة، والجنس، والمخدرات، فيعطونها الأولوية الأولى في حياتهم، ويتحولون عن عبادة الإله الواحد، لأنه «حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً» (متى 6: 21).
2 – لا حياة في عابدي الأوثان: «مثلها يكون صانعوها، بل كل من يتكل عليها» (آية 8). يشبه العابدون معبوداتهم العمياء الصماء البكماء. فمع أن نسمة القدير وهبتهم الحياة ليعرفوه ويعبدوه ويعيشوا له فينالوا حياة أبدية، إلا أنهم ساروا وراء الباطل وأظلم قلبهم لأن «إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لكي لا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله» (2كو 4: 4). لقد فقدوا الحس، فلم يعودوا يستجيبون لصوت الرب، فحكموا على أنفسهم بالهلاك. «لأنه وإن وُجد ما يُسمى آلهة، سواء كان في السماء أو على الأرض.. لكن لنا إله واحد: الآب الذي منه جميع الأشياء، ونحن له. ورب واحد: يسوع المسيح، الذي به جميع الأشياء، ونحن به» (1كو 8: 5، 6).

ثالثاً – دعوة للاتكال على الرب
(آيات 9-11)
في هذه الآيات يطلب قائد الجوقة ثلاث مرات، من مختلف طبقات شعبه، أن يتكلوا على الرب، فتجيبه الجوقة معبِّرة عن مختلف طبقات الشعب بأن الرب هو معينهم ومجنُّهم. والمجن ترس كبير، هو قطعة خشب مغطاة بجلد، يصدُّ به حامله سهام الأعداء.
1– دعوة بني إسرائيل: «يا إسرائيل، اتكل على الرب» (آية 9أ). هذه دعوة من قائد جوقة الترنيم. والاتكال على الرب يعني الثقة في قدرته التي ترفع وتحمل وتنجي، فقد قال: «اسمعوا لي يا بيت يعقوب وكل بقية إسرائيل المحمَّلين عليَّ من البطن، المحمولين من الرحم. وإلى الشيخوخة أنا هو وإلى الشيبة أنا أحمل» (إش 46: 3، 4).. والاتكال يعني الخضوع والتسليم الكامل لإرادة الرب الصالحة وهو يُجري، «أَلقِ على الرب همك فهو يعولك. لا يدع الصدِّيق يتزعزع إلى الأبد» (مز 55: 22).
وتردُّ الجوقة على القائد: «هو معينهم ومجنهم» (آية 9ب). «حتى إننا نقول واثقين الرب معين لي فلا أخاف. ماذا يصنع بي إنسان؟» (عب 13: 6).
2- دعوة الكهنة: «يا بيت هارون، اتكلوا على الرب» (آية 10أ). هذه دعوة من القائد.
وتردُّ الجوقة على القائد: «هو معينهم ومجنهم» (آية 10ب).
3– دعوة الأتقياء: «يا متقي الرب، اتكلوا على الرب» (آية 11أ). يدعو القائد كل متقي الرب من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة، الذين أنار الرب قلوبهم فعرفوه وأحبوه وتبعوه، ليتكلوا عليه، فإنه «في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده» (أع 10: 35).
وترد الجوقة على القائد: «هو معينهم ومجنهم» (آية 11ب).

رابعاً – بركة الاتكال على الرب
(آيات 12-18)
تستمر الجوقة في آيتي 12، 13 ترنم رداً على قائد الجوقة.
1– الرب يذكر المتكلين عليه: «الرب قد ذكرنا فيبارِك» (آية 12أ). هو السيد في سمائه، الذي يذكر مخلوقاته ويعتني بها، فلا ينسى حتى عصفوراً يسقط على الأرض (مت 10: 29). «لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك» (مز 91: 11). «هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصاً» (إش 12: 2). وقد يظن الأتقياء في شدة ضيقهم أنه نسيهم، فيشجعهم بقوله: «هل تنسى المرأة رضيعها؟.. حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك. هوذا على كفيَّ نقشتك» (إش 49: 14-16).
يذكر الرب الإنسان في خطيته وضلاله ليتوِّبه، ويذكره بالمواعيد العظمى والثمينة التي يحققها له، ويذكره في احتياجاته المادية فيباركه، ويذكره في مرضه فيبرئه، ويقول: «هئنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي» (رؤ 3: 20). ويهتف الأتقياء: «باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» (مز 103: 2).
2– الرب يبارك المتكلين عليه: «يبارك بيت إسرائيل. يبارك بيت هارون. يبارك متقي الرب الصغار مع الكبار» (آيتا 12ب، 13). رنمت الجوقة رداً على القائد أن الله يذكر جميع المتكلين عليه، وهنا يرنمون أنه يباركهم ببركته التي تُغني، ولا يزيد الله معها تعباً (أم 10: 22). بارك إبراهيم لما أطاع وجعله بركة (تك 12: 2، 3)، ويبارك نسل إبراهيم المؤمن من كل جنس وشعب. إنه يبارك متقي الرب من صغار الأعمار أو حديثي الإيمان، كما بارك اللص التائب الذي ناداه: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك. فقال له: اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 42). ويبارك الكبار الذين أمضوا معه حياة طويلة عميقة في أُنسٍ ومحبة وعبادة، كما بارك سمعان الشيخ وحنَّة النبية اللذين كانا ينتظران خلاص الرب بمولد المسيح، فرأياه بالعيان (لو 2). فإنه «طوبى لكل من يتقي الرب ويسلك في طرقه.. طوباك وخير لك. امرأتك مثل كرمة مثمرة.. بنوك مثل غروس الزيتون.. هكذا يُبَارَك الرجل المتقي الرب» (مز 128).
3- الرب يزيد البركة للمتكلين عليه: «ليزد الرب عليكم. عليكم وعلى أبنائكم. أنتم مباركون للرب الصانع السماوات والأرض» (آيتا 14، 15). هاتان الآيتان ردُّ قائد فرقة الترنيم على الفرقة التي قالت إن الرب يذكر وسيبارك، فيقول لهم إن الله سيزيد لهم البركة، بأن يزيدهم عدداً ويُنعم عليهم المزيد من خيراته.
حقق الرب وعده لإبراهيم أن يكون نسله كرمل البحر في الكثرة وكنجوم السماء في العدد. وعندما جاءوا إلى مصر بدعوة من يوسف كانوا نفراً قليلاً، ولكنهم غادروها عدداً غفيراً، وقد باركهم الرب بكل عنايته، وقال لهم موسى: «الرب إلهكم قد كثركم.. الرب إله آبائكم يزيد عليكم مثلكم ألف مرة ويبارككم كما كلمكم» (تث 1: 11). ويطلب قائد الفريق من الرب أن يبارك أبناء جيله فيمنحهم بركة فوق بركة ونعمة فوق نعمة، فيكونون ملكاً للرب، وتتبارك ذريتهم لتكون أيضاً للرب، ويكون شعار الجميع: «أما أنا وبيتي فنعبد الرب» (يش 24: 15)، «ويُعرَف بين الأمم نسلهم وذريتهم في وسط الشعوب. كل الذين يرونهم يعرفونهم أنهم نسل باركه الرب» (إش 61: 9)، كما وُصف إيمان تيموثاوس أنه عديم الرياء سكن أولاً في جدته لوئيس وأمه أفنيكي (2تي 1: 5).
«مباركون للرب». تحل بركة الرب الذي خلق السماء والأرض على كل الذين يتَّقونه، ويمنحهم خيرات السماء والأرض، فيسبحون له ويكونون مباركين منه وله، فيجعلهم ملح الأرض ونور العالم، فيضيء نورهم قدام الناس ويرون أعمالهم الحسنة ويمجدون أباهم الذي في السموات (مت 5: 13-16).
4- الجميع يباركون الرب: (آيات 16-18). هنا تردُّ الجوقة على القائد.
(أ) يباركون من أعطاهم الأرض: «السماوات سماوات للرب، أما الأرض فأعطاها لبني آدم» (آية 16). قال قائد جوقة الترنيم في آية 15 إن الرب خلق السماوات والأرض، فتجيبه الجوقة أنه هو خالقها، ولكنه جعل البشر خلفاءه ووكلاءه فيها، يعملون فيها ويحفظونها (تك 2: 15). وبهذا أعطاهم امتيازاً، وحمَّلهم بمسؤولية. و«طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض» (مت 5: 5).
(ب) يباركون من أعطاهم الحياة: «ليس الأموات يسبحون الرب ولا من ينحدر إلى أرض السكوت. أما نحن فنبارك الرب من الآن وإلى الدهر» (آيات 17، 18). وتستمر الجوقة تقول للقائد إن شعب الرب يغتنمون فرصة الحياة الحاضرة لتسبيح الرب والترنم له، ولا بد أن الأتقياء سيعمرون طويلاً ليستمر تسبيح الرب. ولم يذكر المرنمون شيئاً عن الترنيم في الأبدية لأن فكرة الخلود كانت غامضة عندهم، عبَّر عنها داود بقوله: «ليس في الموت ذكرك. في الهاوية من يحمدك؟» (مز 6: 5)، وقال الملك حزقيا: «لأن الهاوية لا تحمدك. الموت لا يسبحك. لا يرجو الهابطون إلى الجب أمانتك» (إش 38: 18). أما نحن فنشكر الله أن الإنجيل أنار لنا الحياة وأنار لنا الخلود، بعد أن أبطل المسيح شوكة الموت وهزم الهاوية (2تي 1: 10 و1كو 15: 55). وبهذا ندرك أن لنا دائماً فرصة الترنيم والتسبيح لله في الأرض وفي السماء. وقد رأى يوحنا الرائي ربوات ربوات يهتفون بصوت عظيم: «مستحق هو الحمل المذبوح أن يأخذ القدرة والغِنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة». وسمع كل الخليقة تقول: «للجالس على العرش وللحمل البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين» (رؤ 5: 12، 13).
يبارك الله الأتقياء ببركات السماء والأرض، فيباركونه أثناء حياتهم على الأرض، كما يباركونه عندما يقفون أمام عرشه هاتفين «هللويا» سبحوا الرب! سبحان الله!

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّادِسُ عَشَرَ
1 أَحْبَبْتُ لأَنَّ الرَّبَّ يَسْمَعُ صَوْتِي تَضَرُّعَاتِي. 2لأَنَّهُ أَمَالَ أُذْنَهُ إِلَيَّ فَأَدْعُوهُ مُدَّةَ حَيَاتِي. 3اكْتَنَفَتْنِي حِبَالُ الْمَوْتِ. أَصَابَتْنِي شَدَائِدُ الْهَاوِيَةِ. كَابَدْتُ ضِيقاً وَحُزْناً. 4وَبِاسْمِ الرَّبِّ دَعَوْتُ: «آهِ يَا رَبُّ، نَجِّ نَفْسِي». 5الرَّبُّ حَنَّانٌ وَصِدِّيقٌ، وَإِلَهُنَا رَحِيمٌ. 6الرَّبُّ حَافِظُ الْبُسَطَاءِ. تَذَلَّلْتُ فَخَلَّصَنِي. 7ارْجِعِي يَا نَفْسِي إِلَى رَاحَتِكِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكِ. 8لأَنَّكَ أَنْقَذْتَ نَفْسِي مِنَ الْمَوْتِ، وَعَيْنِي مِنَ الدَّمْعَةِ، وَرِجْلَيَّ مِنَ الزَّلَقِ. 9أَسْلُكُ قُدَّامَ الرَّبِّ فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ.
10آمَنْتُ لِذَلِكَ تَكَلَّمْتُ. أَنَا تَذَلَّلْتُ جِدّاً. 11أَنَا قُلْتُ فِي حَيْرَتِي: «كُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبٌ». 12مَاذَا أَرُدُّ لِلرَّبِّ مِنْ أَجْلِ كُلِّ حَسَنَاتِهِ لِي؟ 13كَأْسَ الْخَلاَصِ أَتَنَاوَلُ، وَبِاسْمِ الرَّبِّ أَدْعُو. 14أُوفِي نُذُورِي لِلرَّبِّ مُقَابِلَ كُلِّ شَعْبِهِ.
15عَزِيزٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ مَوْتُ أَتْقِيَائِهِ. 16آهِ يَا رَبُّ. لأَنِّي عَبْدُكَ. أَنَا عَبْدُكَ ابْنُ أَمَتِكَ. حَلَلْتَ قُيُودِي. 17فَلَكَ أَذْبَحُ ذَبِيحَةَ حَمْدٍ، وَبِاسْمِ الرَّبِّ أَدْعُو. 18أُوفِي نُذُورِي لِلرَّبِّ مُقَابِلَ شَعْبِهِ، 19فِي دِيَارِ بَيْتِ الرَّبِّ، فِي وَسَطِكِ يَا أُورُشَلِيمُ. هَلِّلُويَا!
ماذا أردُّ للرب؟
كُتبت مزامير «التهليل المصري» ( 113-118) تسبيحاً لله على خلاص الأمة، والحديث فيها بصيغة الجمع، لأن الرب خلَّص شعبه كجماعةٍ من سوء عذاب فرعون. ويقف مزمورنا وسط مجموعة «التهليل المصري» يتحدَّث عن خلاص الفرد، الذي لا يضيع الاهتمام به وسط الاهتمام بالجماعة، فخلاص الله عامٌ وشامل، لكنه في الوقت نفسه اختبار فرديٌّ وشخصي، فيه يصلي المؤمن بصيغة المفرد صلاة الشكر في عيد الفصح، لأن الملاك المُهلك عبر ببيته ولم يقتله، لأن دم حَمَل الفصح كان يغطي عتبة الباب العليا وقائمتيه. ولعل المرنم ذكر مرضاً شديداً أصابه كابد منه ضيقاً وحزناً، شفاه الرب منه ومسح دموع عينيه، وخلَّصه من الانزلاق إلى القبر. واختبار المرنم هنا يشبه اختبار الملك حزقيا عندما قال له النبي إشعياء (بناءً على أمر الرب): «أوصِ بيتك لأنك تموت». فصلى طالباً الشفاء، فاستجاب الله له وعبر الموت عنه، وأعطاه علامة هي أن ترجع الشمس عشر درجات في درجات السُلَّم التي نزلتها، فصار يومه أطول من سائر الأيام (إش 38: 1-8).
وفي مزمورنا يشكر المرنم الرب ويتساءل: ماذا يفعل ليردَّ على فضل الرب الذي أحسن إليه؟ ويجاوب أنه سيتناول كأس الخلاص، ويدعو باسم الرب، ويوفي نذوره للرب مقابل كل الشعب. لقد استجاب الله صلاته ونجّاه، فجاء إلى الهيكل وسط المصلّين ليحدِّث بنعمة ربه، كما فعل مريض كورة الجدريين الذي قال المسيح له: «اذهب إلى بيتك وإلى أهلك وأخبرهم كم صنع الرب بك ورحمك» (مر 5: 19).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يدعو الرب (آيات 1-4)
ثانياً – الرب يستجيب المرنم (آيات 5-9)
ثالثاً – المرنم يشكر الرب (آيات 10-19)

أولاً – المرنم يدعو الرب
(آيات 1-4)
1 – المرنم يحب الصلاة: «أحببتُ لأن الرب يسمع صوت تضرُّعاتي» (آية 1). ربما قصد أنه يحب الرب الذي يستجيب له، فقد قال له: «أحبُّك يا رب يا قوَّتي» (مز 18: 1)، وقال الرسول يوحنا: «نحن نحبُّه لأنه هو أحبنا أولاً» (1يو 4: 19). والله محبة، وكل أعماله محبة، وهو القائل: «محبةً أبدية أحببتُك، من أجل ذلك أدمْتُ لك الرحمة» (إر 31: 3). أو ربما قصد المرنم أنه يحب أن الرب يسمع صلاته. والحقيقة هي أن الآية تحتمل المعنيين معاً، فالمرنم يحب أن الرب يسمع صلاته، لأنه يتضرع إليه، وهو يحب الرب فيوجِّه صلاته إليه وينتظر الاستجابة. فلو لم يكن يحب الرب ما دعاه، ولو لم يكن يثق فيه ما كلَّمه.
2 – المرنم يستمر في الصلاة: «لأنه أمال أذنه إليَّ، فأدعوه مدة حياتي» (آية 2). استجابة الصلاة تدفع إلى مزيدٍ من الصلاة. ولقد أمال الرب أذنه في رفقٍ وحنان على المرنم، فعزم أن يستمر في الصلاة مدة حياته كلها، وهو يقول: «مباركٌ الرب لأنه سمع صوت تضرُّعي.. خلِّص شعبك وبارِك ميراثك وارْعهم واحمِلهم إلى الأبد» (مز 28: 6، 9). ويفرح المرنم ليس فقط باستجابة الصلاة، بل بالأُنس بالله، فهو في الصلاة يكلّم حبيبه. بعضنا يكلمه وقت الاحتياج فقط، وهو يسمع لهم، لأنه يقول: «ادعُني في يوم الضيق أنقذك فتمجدني» (مز 50: 15). لكن هناك من يتمتعون بالحديث الدائم مع الله.
وقد يتجرَّب بعض المصلّين بالتوقُّف عن الصلاة لأن الرب (بحسب فكرهم) تأخَّر عليهم في الاستجابة، أو يظنون أنه لا يستجيب، فيقولون: صلّينا ولم يسمع، فلن نستمر في الصلاة حتى يعطي ما سبق أن طلبناه. لكن المؤمن يعرف أن الرب يستجيب دوماً. قد يعطي ما نطلبه، وقد يؤجل العطاء لوقتٍ أفضل، وقد يمنع عنا ما نطلبه لأنه في غير صالحنا وقد يؤذينا. قال المسيح: «ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً، وهو متمهِّلٌ عليهم (من وجهة نظرهم). أقول لكم: إنه ينصفهم سريعاً (وهو الأمر الواقع)» (لو 18: 7، 8). ولكي نطمئن يستخدم الوحي تعبيراً إنسانياً فيقول عن الصلاة إن الله «أصغى وسمع، وكُتب أمامه سفر تذكرة للذين اتَّقوا الرب، وللمفكّرين في اسمه» (مل 3: 16). فلنستمر مصلّين لنتمتع بالرب نفسه قبل أن نتمتع بعطاياه.
3 – الدافع على الصلاة: «اكتنفتني حبال الموت. أصابتني شدائد الهاوية. كابدتُ ضيقاَ وحزناً. وباسم الرب دعوتُ: آهِ يا رب نجِّ نفسي» (آيتا 3، 4). وجد المرنم نفسه مدفوعاً للصلاة للإله المحب المستجيب، وهو يعاني من مرض شديد كاد يُنهي حياته، وكأن الموت ربطه بحبال يسحبه بها إلى القبر، فامتلأت نفسه ضيقاً وحزناً لأنه رأى الموت والقبر كصيّادين ينصبان له الشِّباك والمشانق. لم يكن المرنم يعرف المسيح الذي أبطل الموت، وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل (2تي 1: 10)، لكن إيمانه القوي جعله في ضيقه هذا يلتجئ إلى الرب داعياً، لأنه قال: «أنا الرب شافيك» (خر 15: 26). والرب يشفي بطريقته الخاصة، بحسب استحسان محبته، وبما هو أفضل للمؤمن.. قد يستجيب ويشفي باستعمال الدواء، كما شفى الملك حزقيا بالوصفة الطبية التي قدَّمها له النبي إشعياء (2مل 20: 1، 7). وقد يستجيب ويشفي بمعجزة إلهية، فهو الرب الذي لم يتغيَّر والذي يسدِّد أعوازنا التي لا تتوقَّف. وقد يستجيب دون أن يشفي بأن يشدِّد المؤمن في مرضه بنعمةٍ تكفيه، كما قال للرسول بولس بعد أن صلى ثلاث مرات لترتفع عنه شوكة مرضه: «تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تُكمَل» (2كو 12: 9). وقد يستجيب الرب بأن يستلم وديعة المريض وينقلَه من عالم الآلام ويُدخِلَه المجد السماوي، ويعطيه في اليوم الأخير الجسد المجيد.
يستجيب الرب دوماً صلاة المتضايق، فهو ملجأ المؤمن الذي يدعوه فينجّيه من الضيق والحزن. «الله لنا ملجأ وقوة. عوناً في الضيقات وُجد شديداً. لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار» (مز 46: 1، 2)، لذلك كرر المرنم دعاءه في هذا المزمور أربع مرات بقوله: «أدعوه مدة حياتي.. باسم الرب دعوتُ.. باسم الرب أدعو.. باسم الرب أدعو» (آيات 2، 4، 13، 17). ولا عجب، فإلى من نذهب إلا لصاحب المحبة والسلطان؟ مَن يشفق ويُنعِم إنعامات سامية إلا هو؟.. حياتنا الجسدية والروحية هما عطيته، فهو الملجأ الوحيد. حقاً «نظروا إليه واستناروا، ووجوههم لم تخجل» (مز 34: 5).

ثانياً – الرب يستجيب المرنم
(آيات 5-9)
1- لأن الرب حنّان: «الرب حنان وصِدّيق، وإلهنا رحيم» (آية 5). فهو يستجيب لأنه يشفق على المتعَبين. وهو يستجيب بالرغم من عدم استحقاق الإنسان، لأنه صِدّيق عطوف منعِمٌ أمين لمواعيده بالاستجابة. «الرب إلهٌ رحيم ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء» (خر 34: 6). «صنع ذِكراً لعجائبه. حنّان ورحيم هو الرب» (مز 111: 4). ومن فرط حنانه يقول: «اسألوا تُعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم» (مت 7: 7).
2- لأن المرنم ضعيف: «الرب حافظ البسطاء. تذلَّلتُ فخلَّصني» (آية 6). يحس المرنم أمام مرضه وفي مواجهة المخاطر المحيطة به أنه بسيط، يحتاج إلى الحكمة والخبرة، وهو يعلم أن «شهادات الرب صادقة تصيِّر الجاهل حكيماً» (مز 19: 7)، ويثق أن ربَّ السماء والأرض قد أخفى الحكمة عن الذين يظنون أنهم الحكماء الفهماء، وأنه يعلنها للبسطاء الذين يشبهون الأولاد في استعدادهم للتصديق والتعلُّم (مت 11: 25)، وأنه يدعو البسطاء والمزدرَى وغير الموجود ليمنحهم نعمته (1كو 1: 27-29).. وفي بساطته وذلِّه لا يقدر أن يعاون نفسه، فيطلب من الرب أن يخلِّصه، ويصرخ مع الملك حزقيا وقت أن هدَّده ربشاقَى: «يا رب، قد تضايقت. كُن لي ضامناً.. الرب لخلاصي، فنعزف بأوتارنا كل أيام حياتنا في بيت الرب» (إش 38: 14، 20).
3- لأن المرنم ينتظر: «ارجعي يا نفسي إلى راحتك لأن الرب قد أحسن إليك، لأنك أنقذتَ نفسي من الموت، وعيني من الدمعة، ورجليَّ من الزَّلق. أسلك قدام الرب في أرض الأحياء» (آيات 7-9). ينتظر المرنم أن ترجع نفسه إلى الراحة التي كانت فيها قبل أن تداهمه المصائب وتكتنفه حبال الموت وتصيبه شدائد الهاوية، فيطلب من نفسه أن تهجر القلق وتطمئن. كان المرنم قد سأل نفسه: «لماذا أنت منحنية يا نفسي، ولماذا تئنين فيَّ؟ ارتجي الله لأني بعد أحمده لأجل خلاص وجهه» (مز 42: 5)، وقال لها: «باركي يا نفسي الرب، وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» (مز 103: 1، 2). وطالب نفسه في مزموري 42 و103 أن ترجو الله، وأن تشكره، وفي مزمورنا يطالبها أن تستريح في الله، لأنه أحسن إليه، فيقول: «أغنّي للرب لأنه أحسن إليَّ» (مز 13: 6).
والكلمة «راحتك» في الأصل العبري للمزمور جاءت في صيغة الجمع، فيكون المعنى أن الرب أحسن إلى المرنم وأراحه من جميع الجهات، كما قال سليمان: «والآن فقد أراحني الرب إلهي من كل الجهات، فلا يوجد خصمٌ ولا حادثة شر» (1مل 5: 4).. معروف أن معنى اسم «نوح» راحة، وقد أراح الله نوحاً في الفلك. وأما راحتنا نحن فهي في المسيح فُلك نجاتنا الذي فيه نخلُص، فقد قال: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (مت 11: 28)، وبفدائه الذي يغفر جميع الذنوب نستريح من عذاب الضمير، وبتقديس روحه القدوس ننجو مِن سطوة الخطية لأنه ينصرنا عليها، وبعطائه السخي نتخلَّص من القلق لأنه إله العناية، فنقول: «كحزانى ونحن دائماً فرحون. كفقراء ونحن نغني كثيرين. كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء» (2كو 6: 10).
ويرجع انتظار المرنم للراحة إلى اختباراته الماضية العظيمة مع الرب، فقد سبق أن أنقذ نفسه من الموت الجسدي ومن موت الخطية، كما أنقذ عينه من الدموع ورجله من الزَّلق، كما سبق وقيل: «أصعدني من جب الهلاك من طين الحمأة، وأقام على صخرة رجليَّ. ثبَّت خطواتي» (مز 40: 2). إنه خالقه الذي نفخ في التراب فصار آدم نفساً حية (تك 2: 7) وهو الذي يحفظ هذه الحياة، فيقول المرنم: «أوفي ذبائح شكرٍ لك، لأنك نجَّيت نفسي من الموت، ورجليَّ من الزلق، لكي أسير قدام الله في نور الأحياء» (مز 56: 13). هو الذي يعزي الحزين ويمسح دموع المتألم، وهو الذي يفدي حياته من الحفرة (مز 103: 4)، فيحيا ويسلك قدام الرب في أرض الأحياء، في نور شريعة الرب ونور شخصه، متمتعاً بعنايته، مثبتاً النظر عليه، فرحاناً به، مطمئناً إليه، في سلام داخلي وخارجي. وسيأتي اليوم الذي فيه «يمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخٌ ولا وجعٌ في ما بعد» (رؤ 21: 4).

ثالثاً – المرنم يشكر الرب
(آيات 10-19)
1- حيرة سبقت الشكر: (آيتا 10، 11). في هاتين الآيتين يعلن المرنم إيمانه بالرغم من حيرته أمام مشكلتين، هما تذلّله، وكذب المحيطين به. ولكنه بالرغم منهما لا يزال المؤمن الشاكر.
(أ) حيرة من الذل: «آمنتُ لذلك تكلمت. أنا تذللتُ جداً» (آية 10). كان المرنم واثقاً أن الرب سينجيه من مصاعبه مهما كثُرت ومهما طالت مدتها، فيرفع آيات الشكر له. ولو لم يكن متمسكاً بإيمانه لما تكلم، فقد بقي إيمانه قوياً ثابتاً وسط كل الظروف القاسية. وهو صادقٌ في تعبيره عن واقع حياته وعن حقيقة نفسه. قال الرسول بولس: «فإذ لنا روح الإيمان عينه، حسب المكتوب: آمنتُ لذلك تكلمت، نحن أيضاً نؤمن، ولذلك نتكلم أيضاً» (2كو 4: 13) «لأنه من فضلة القلب يتكلم الفم» (مت 12: 34). صحيحٌ أن المرنم في ذل، لكن إيمانه يقول له إن الرب سينجيه فيرى النور في أرض الأحياء، وسيُرجِع الرب نفسه إلى راحتها السابقة، ويُحسن إليه وينقذه من الموت، ويمسح دموعه «لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصتَ، لأن القلب يؤمَن به للبر، والفم يُعتَرف به للخلاص، لأن الكتاب يقول: كل من يؤمن به لا يُخزَى» (رو 10: 9-11).
(ب) حيرة من الكاذبين: «أنا قلت في حيرتي كل إنسان كاذب» (آية 11). لا بد أن أصدقاء المرنم وعدوه أثناء ضيقته بمساعدات كثيرة، ولكنهم لم يقدموها له، ربما لأنهم عجزوا، أو لأنهم لم يريدوا.. كانوا كأصحاب أيوب الذين قسوا عليه في تجاربه الأليمة، فقال لهم: «معزّون مُتعِبون كلكم» (أي 16: 2)، أو ربما كانوا كأصحاب الابن الضال الذين تجمَّعوا حوله وهتفوا له يوم كان يملك المال، لكنهم انفضّوا عنه لما افتقر، فلم يجد إلا واحداً أرسله إلى حقوله ليرعى الخنازير (لو 15: 15). وقد سبق أن تحيَّر المرنم من أصحابه وقال: «أعطِنا عوناً في الضيق، فباطلٌ هو خلاص الإنسان.. إنما باطلٌ بني آدم. كذبٌ بنو البشر. في الموازين هم إلى فوق. هم من باطل أجمعون» (مز 60: 11 و62: 9). ولا بد أن ثقة المرنم في أصحابه عادت إليه، فلا يمكن أن يكون كل إنسانٍ كاذباً، ولا بد أن ضيقة نفسه جعلته يصدر حكماً عاماً على كل المحيطين به. وما أكثر ما نتكل على وعود أصدقائنا وأقاربنا فيخيِّبون أملنا، فندرك أهمية وصية المرنم: «لا تتَّكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده. تخرج روحه فيعود إلى ترابه. في ذلك اليوم نفسه تهلك أفكاره. طوبى لمن إله يعقوب معينه، ورجاؤه على الرب إلهه» (مز 146: 3-5).
2 – تساؤل سبَق الشكر: (آيات 12-14).
(أ) التساؤل: «ماذا أردُّ للرب من أجل كل حسناته لي؟» (آية 12). لا بد أن التقي يفكر في التعبير عن مشاعر شكره لله المحسن الكريم، وهو يسأل سؤال العاجز عن الوفاء بدَيْنٍ عظيم، لأن لسان حاله يقول: «صغيرٌ أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعتَ إلى عبدك» (تك 32: 10). وكلما تمتعنا بحسنات الرب يجب أن نسأل هذا السؤال.
(ب) الردّ على التساؤل: (آيتا 13، 14).
(1) تناول كأس الخلاص: «كأس الخلاص أتناول» (آية 13أ). يشبِّه المرنم خلاص الله بكأس مليء بالمشروب المبهج المروي يقدِّمه الرب إليه، وهو يردّ على الرب بأن يقبله ويشربه، ويقول: «كأسي ريا» (مز 23: 5). ما أكثر الذين يظنون أنهم مرتوون وفي غير حاجة لكأس الخلاص، وكأنهم يقولون مع الفريسي: «اللهم، أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس.. أصوم مرتين في الأسبوع وأعشِّر كل ما أقتنيه» (لو 18: 11، 12)، أو يقولون مع الذي قال إنه غني، وقد استغنى، ولا حاجة له إلى شيء، وهو لا يعلم أنه شقي وبائس وفقير وأعمى وعريان، ينصحه الرب أن يشتري منه ذهباً مصفّى بالنار ليستغني، وثياباً بيضاً ليلبس ويستر نفسه (رؤ 3: 17، 18)، وقد يتكلون على مستواهم الاجتماعي الرفيع، أو على مكانتهم العائلية أو الشخصية المتميزة في الكنيسة. لكن بالرغم من كل شيء يوجد احتياج لتناول كأس الخلاص من يد الله كل يوم، فللخلاص ثلاث خطوات: الخلاص من ماضينا بالغفران، وفي حاضرنا الذي يستغرق العمر كله بالتقديس، وفي مستقبلنا عندما تنتهي الحياة على الأرض بالتمجيد مع الله في السماء. فإن لم تكن قد أخذتَ الخلاص بمعنى الغفران بالتوبة والثقة في عمل المسيح الكفاري من أجلك على الصليب، فتناوله الآن.
(2) الدعاء باسم الرب: «وباسم الرب أدعو» (آية 13ب). وفي هذا الدعاء المستمر يعلن المرنم أن الرب وحده هو الذي يستحق الشكر. «أخبر باسمك إخوتي. وسط الكنيسة أسبِّحك» (عب 2: 12). لقد دعا باسم الرب لينجيه (آية 4)، ووعد أن يدعو باسمه شاكراً (آية 17)، فتكون كل حياته دعاءً للرب، كما قال المرنم: «أما أنا فصلاة» (مز 109: 4).
(3) وفاء النذر: «أوفي نذوري للرب مقابل كل شعبه» (آية 14). النذر هو التعهُّد بعمل شيء ما في حالة تحقيق طلب ما، كما نذر الملك حزقيا أن يصعد إلى بيت الرب إن منحه الشفاء (2مل 20: 8). ونجد شريعة النذور في العدد 6: 2-21. ونحن نتعهَّد للرب عهوداً كثيرة في بداية العام، أو عند استجابة صلواتنا. وعلينا أن نكون أمناء في ما نتعهد به للرب، فنوفي له النذر.
3 – سببان للشكر: (آيتا 15، 16).
(أ) التقي عزيز: «عزيزٌ في عيني الرب موت أتقيائه» (آية 15). يهتم الرب بحياة الأتقياء كما يهتم بموتهم، ويحدد يوم ميلادهم ويوم وفاتهم، فإن «الله لنا إله خلاص، وعند الرب السيد للموت مخارج» (مز 68: 20)، «من الظلم والخطف يفدي أنفسهم، ويكرم دمهم في عينيه» (مز 72: 14). ولكلمة «عزيز» في الكتاب المقدس ثلاثة معانٍ على الأقل:
(1) العزيز مكرَّم: يقول الرب لشعبه: «إذ صرتَ عزيزاً في عينيَّ، مكرَّماً، وأنا قد أحببتُك» (إش 43: 4). بسبب هذه الكرامة نقل الرب أخنوخ إلى السماء بدون موت ورفعه إلى درجة أعلى (تك 5: 24 وعب 11: 5)، وقال الرسول بولس: «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جداً» (في 1: 23)، لأن المسيح وعد أتقياءه: «أنا أمضي لأُعدَّ لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً» (يو 14: 2، 3). ومع أن المسيح أكمل عمل الفداء وجلس عن يمين العظمة في الأعالي (عب 1: 3)، إلا أن استفانوس الشهيد المسيحي الأول رآه «قائماً عن يمين العظمة» (أع 7: 56) ليستقبله شهيداً مكرَّماً.

(2) العزيز مُسِر: قال الرب عن شعبه (ويدعوه هنا أفرايم): «أفرايم ابنٌ عزيز لديَّ، وَلَدٌ مُسِرٌ» (إر 31: 20)، ووصف الرسول بولس نهاية أيامه بقوله: «فإني أنا الآن أُسكَب سكيباً. وقت انحلالي قد حضر. قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان. وأخيراً قد وُضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل. وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً» (2تي 4: 6-8).
(3) العزيز مكلِّف: لأنه غالي الثمن. وللخلاص من الخطية تكلفةً كبيرة «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). وموت المؤمن عزيز في عيني الله، لأنه يخرج من الكنيسة المجاهدة إلى الكنيسة المنتصرة.
(ب) التقي عبد للرب: «آهِ يا رب، لأني عبدك. أنا عبدك ابن أَمَتك» (آية 16). يقول المرنم عن نفسه إنه عبد الرب التقي، وإن أمَّه أمَة الرب التقية. والعبارة مكررة في مز 86: 16 «التفِت إليَّ وارحمني. أعطِ عبدك قوَّتك وخلِّص ابن أمتك». والمؤمنون جميعاً عبيد الرب لأنه خلقهم، ولأنه يعولهم، ولأنه اشتراهم بالفداء. وهم يتشرَّفون بالعبودية له، لأن هذه العبودية هي الحرية الكاملة، فهي الانتماء لسيد الأرض كلها، وقد قال أحد القديسين: «أنا محتاجٌ إلى ربوبيتك، ولكنك لست محتاجاً لعبوديتي». ولقب العبد والأَمَة لقب محبَّب لنفوس المؤمنين، أُطلق على موسى مرات كثيرة (تث 34: 5 و1أخ 6: 49)، وعلى يشوع (يش 24: 29 وقض 2: 8)، وعلى إيليا (1مل 18: 36)، وعلى دانيال (دا 6: 20)، وعلى بولس (رو 1: 1)، وعلى بطرس (2بط 1: 1)، وعلى يعقوب (يع 1: 1)، وعلى كل من حرَّرهم المسيح (1بط 2: 16). وقد أطلقته العذراء مريم على نفسها حين قالت للملاك: «هوذا أنا أَمَة الرب» (لو 1: 38).
وتفرِّق التوراة بين العبد المولود في البيت والعبد المشترَى بالمال، فالعبد المولود في البيت أغلى لأنه ينتمي إلى ذلك البيت (تك 14: 14). وما أجمل بيت تيموثاوس الذي قال له الرسول بولس: «أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولاً في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكني موقن أنه فيك أيضاً» (2تي 1: 5).
والمؤمن الحقيقي هو الذي يقول للرب: «أُحبُّ سيدي.. لا أخرج حراً» (خر 21: 5)، وهو الذي يتكلم كلاماً صالحاً عن سيده، وشعاره: «لأن يوماً واحداً في ديارك خيرُ من ألف. اخترتُ الوقوف على العتبة في بيت إلهي (كأنه بواب البيت) على السكن في خيام الأشرار» (مز 84: 10).
4 – كيفية تقديم الشكر: (آيات 17-19).
(أ) يذبح ذبيحة الحمد: «أذبح ذبيحة حمد» (آية 17أ). يشبِّه المرنم تسبيحه بذبيحة شكرٍ يقدمها على مذبح الله، كما نصحنا المرنم: «اذبَحْ لله حمداً، وأَوفِ العليَّ نذورك» (مز 50: 14)، وكما أمر النبي هوشع الشعب: «ارجِعوا إلى الرب. قولوا له: ارفع كلَّ إثم.. فنقدِّم عجول شفاهنا» (هو 14: 2). وقد نظمت التوراة ذبيحة السلامة والشكر والحمد في لاويين 7:11-13. ويقول كاتب العبرانيين: «فلنقدم به (بالمسيح رئيس كهنتنا) في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه» (عب 13: 15).
(ب) يدعو باسم الرب: «باسم الرب أدعو» (آية 17ب). تساءل في آية 12 ماذا يرد للرب من أجل كل حسناته له؟ وأجاب في آية 13 أنه سيدعو باسم الرب، ويتحدث عن فضله وهو مبهور فخور. اعتاد البشر عندما يحققون نجاحاً مادياً أن يشاركوا أخبار نجاحهم مع غيرهم. فكم يكون مناسباً أن يعلن التقي أخبار نجاحه الروحي بفضل الرب سيد الكون، الذي بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا (رو 5: 8).
(ج) يوفي النذور أمام الجميع: «أوفي نذوري للرب مقابل شعبه، في ديار بيت الرب، في وسطك يا أورشليم» (آيتا 18، 19). وعد التقي ونذر نذراً، عزم أن ينفذه أمام الجميع في بيت الرب. وعلينا عندما نتعهَّد لله عهداً أن نوفيه في وسط جماعة المؤمنين، في المكان الذي اختاره الله ليكون له مقدساً، حيث أمر أن تكون العبادة. وأورشليم هي عاصمة المرنم الروحية والسياسية. وهذا يعلمنا أن نعلن حمدنا للرب ونوفي نذورنا له أمام كل القيادات الروحية والسياسية، فالرب هو ملك الملوك، وهو رب الأرباب.
وخُتم هذا المزمور بالدعوة «هللويا» لتسبيح الرب، كما خُتم مزمور 104 و105 و106 و113 و115.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّابِعُ عَشَرَ
1 سَبِّحُوا الرَّبَّ يَا كُلَّ الأُمَمِ. حَمِّدُوهُ يَا كُلَّ الشُّعُوبِ. 2لأَنَّ رَحْمَتَهُ قَدْ قَوِيَتْ عَلَيْنَا، وَأَمَانَةُ الرَّبِّ إِلَى الدَّهْرِ. هَلِّلُويَا!

كل الأمم تسبح الرب
هذا خامس مزامير التهليل المصري الستة (مزامير 113-118) التي كانت تُرنَّم أثناء تناول عشاء الفصح، وكانوا يُرتّلونه في بداية العبادة وفي ختامها. وهو أقصر المزامير بالمفارقة مع مزمور 119 أطولها جميعاً. ويدعو مزمورنا أمم العالم كله ليسبحوا الرب الإله الواحد خالقهم جميعاً والمعتني بهم، فحياتهم منه ورجاؤهم فيه، لأنه «يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين» (مت 5: 45). فليقدموا له شكر قلوبهم وعبادتهم لأنه أحبهم فضلاً، لا لصلاح فيهم ولا لبرٍّ عملوه، لكن بسبب كثرة رأفته وعظمة صلاحه.
وقد ظهر صلاح الله وقوته في معجزة الخروج، وهذا يؤكد أنه لا بد ينقذ المظلومين ويعاقب الظالمين، الأمر الذي يدفع الجميع لتسبيحه وحمده. فلتلتفت إليه جميع أقاصي الأرض لتنال الخلاص، لأنه هو الله وليس آخر (إش 45: 22)، فيصير المؤمنون به من كل شعب واحداً، يتعبَّدون للإله الواحد «وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص» (أع 4: 12).
وقد اعتبرت الكنيسة هذا المزمور مسياوياً (يتنبأ عن المسيح) لأن الرسول بولس اقتبس الآية الأولى منه في رومية 15: 11 عندما تحدث عن امتداد رحمة الله إلى الأمم الوثنية.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – أمر بالتسبيح (آية 1)
ثانياً – أسباب التسبيح (آية 2)

أولا- أمر بالتسبيح
(آية 1)
«سبحوا الرب يا كل الأمم. حمِّدوه يا كل الشعوب» (آية 1). نسل إبراهيم «إسرائيليون، ولهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد» (رو 9: 4). أما الوثنيون فلم يكن لهم نصيب في الوعد بالبركة والميراث، إلى أن قبل بعضهم المسيح المخلِّص الفادي، فقال الرسول بولس لهؤلاء: «إنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لكم وبلا اله في العالم. ولكن الآن في المسيح يسوع، أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح» (أف 2: 12، 13).
إلى هؤلاء الأمم يوجِّه المرنم الدعوة ليرنموا للرب، لأنه صالح وقد أطال أناته عليهم بالرغم من شرورهم وعصيانهم، وكان كريماً سخياً في عطاياه لهم. فكيف يتعبدون للأوثان؟ إن من يعبدها أعمى ولو كان مبصراً، وجاهل ولو كان حكيماً في أمور دنياه. هل يقارن أوثانه بالرب الذي خلق السماء والأرض، ثم نفخ في تراب فخلق منه آدم أبا البشر؟ لينظر إلى الطبيعة من حوله فيجد «السماوات تحدِّث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه« (مز 19: 1)، تقول للبشر: »سبحوا الرب لأن الترنُّم لإلهنا صالح. لأنه مُلذ. التسبيح لائق» (مز 147: 1). «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتوكل عليه» (مز 34: 8).
وقد سمع كثيرون من الوثنيين في زمن العهد القديم نداء هذا المزمور وأمثاله، فآمنوا بالله الواحد ولفظوا أوثانهم، فصاروا مختاري الرب. من هؤلاء راحاب الزانية التي أشرق عليها الرب بنعمته المخلِّصة، فقالت للجاسوسين اللذين أرسلهما يشوع: «الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت» (يش 2: 11)، فكان إيمانها بالله أقوى من حبها لوطنها، فمنحها الله الوطن السماوي الأفضل. ومنهم راعوث الموآبية التي اختارت أن تصير من شعب الرب لأنها رأت مراحمه وأمانته. ومنهم حيرام ملك صور الذي بارك الرب وقدم خشب أرز وخشب سرو وذهباً لبناء بيت الرب (1مل 5). ومنهم ملكة سبأ التي قالت لسليمان: «مبارك الرب إلهك» (1مل 10). ومنهم نعمان السرياني رئيس الجيش السوري الذي نال بركة الشفاء من مرض البرص «فرجع إلى رجل الله (أليشع) هو وكل جيشه.. وقال: هوذا قد عرفت أنه ليس إله في كل الأرض إلا في إسرائيل» (2مل 5: 15).
وهكذا تحققت نبوات أصحاب المزامير الذين قالوا: »تذكر وترجع إلى الرب كل أقاصي الأرض، وتسجد قدامك كل قبائل الأمم« (مز 22: 26). «يا جميع الأمم صفِّقوا بالأيادي. اهتفوا لله بصوت الابتهاج، لأن الرب عليٌّ مخوف، ملك كبير على كل الأرض» (مز 47: 1، 2). «كل الأمم الذين صنعتهم يأتون ويسجدون أمامك يا رب، ويمجدون اسمك، لأنك عظيم أنت وصانع عجائب. أنت الله وحدك» (مز 86: 9، 10).

ثانياً – أسباب التسبيح
(آية 2)
1 – يسبحونه لأجل رحمته: «لأن رحمته قد قويت علينا» (آية 2أ). لا بد أن تكون رحمة الله قوية لأنها احتملت أوزار البشر، فيقول المؤمن: «لأن رحمتك أمام عيني» (مز 26: 3). ويحتاج الإنسان إلى رحمة الله القوية لأنه ضعيف، فالجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله. فظهرت رحمة الله للبشر جميعاً «وأما الأمم فمجدوا الله من أجل الرحمة، كما هو مكتوب: من أجل ذلك سأحمدك في الأمم وأرتل لاسمك» (رو 15: 9).
«رحمته قد قويت» بمعنى تعاظمت كما تعاظمت مياه الطوفان فغطَّت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء (تك 7: 18-20)، وذلك لتغطي كثرة آثامنا وخطايانا وتغمرنا بفيض غفران «آثام قد قويت عليَّ.. معاصينا أنت تكفِّر عنها« (مز 65: 3). «ولكن حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً» (رومية 5: 20). «وتفاضلت نعمة ربنا جداً مع الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع» لتنقذ الخاطئ البعيد جداً عن الله.
و«قويت» بمعنى غلبت. ومصدر الرحمة هو الرب العالي ساكن السماوات، وكل من تحت سمائه يلتمس أن تشمله الرحمة فيقوى وينتصر على كل قوى الشر، لأن محبة الله القوية تغلب قساوة قلوبنا الحجرية وتحوِّلها إلى قلوب لحمية تهتف بالإله الحي «لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه. كبُعد المشرق عن المغرب أبعد عنا معاصينا» (مز 103: 11، 12).
وحاجتنا كبشر إلى رحمة الله هي بمقدار الحاجة إلى الحياة «لأن غضب الله مُعلَنٌ من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم.. متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح» (رو 1: 18 و3: 24)، «لذلك يقول: استيقظ أيها النائم وقُم من الأموات فيضيء لك المسيح» (أف 5: 14).
2 – يسبحونه لأجل أمانته: «وأمانة الرب إلى الدهر» (آية 2ب). الله أمين في صفاته ووعوده وأعماله. هو «إله أمانة لا جور فيه. صدِّيق وعادل هو» (تث 32: 4). قال له داود: «والآن يا سيدي الرب أنت هو الله، وكلامك هو حق» (2صم 7: 28). «فماذا إن كان قوم لم يكونوا أمناء؟ (أي: إن كان بعض اليهود غير أمناء ورفضوا المسيح) أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله؟ حاشا! بل ليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذباً، كما هو مكتوب: لكي تتبرر في كلامك وتغلب متى حوكمت»« (رو 3: 3، 4). ويوصي الرسول بولس المؤمنين من أصل يهودي ووثني فيقول: «اقبلوا بعضكم بعضاً كما أن المسيح أيضاً قبلنا لمجد الله. وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان (اليهود) من أجل صدق الله، حتى يثبت مواعيد الآباء (مواعيد الله لإبراهيم ونسله بالمسيح). وأما الأمم فمجّدوا الله من أجل الرحمة، كما هو مكتوب (في مز 18: 49): من أجل ذلك سأحمدك في الأمم، وأرتل لاسمك. ويقول أيضاً (في تث 32: 43): تهللوا أيها الأمم مع شعبه. وأيضاً (في مز 117: 1): سبحوا الرب يا جميع الأمم، وامدحوه يا جميع الشعوب. وأيضاً يقول إشعياء (11: 1، 10): سيكون أصل يسّى والقائم ليسود على الأمم، عليه سيكون رجاء الأمم (يرجو الأمم الخلاص بالاعتماد عليه)» (رو 15: 7-12).
وفي المسيح نرى رحمة الله القوية «أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا» (يو 1: 17)، كما نرى أمانته الدائمة لأن «يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد» (عب 13: 8).
هللويا! سبحان الله!

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّامِنُ عَشَرَ
1 اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 2لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: «إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ». 3لِيَقُلْ بَيْتُ هَارُونَ: «إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ». 4لِيَقُلْ مُتَّقُو الرَّبِّ: «إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ».
5مِنَ الضِّيقِ دَعَوْتُ الرَّبَّ فَأَجَابَنِي مِنَ الرُّحْبِ. 6الرَّبُّ لِي فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِي الإِنْسَانُ؟ 7الرَّبُّ لِي بَيْنَ مُعِينِيَّ، وَأَنَا سَأَرَى بِأَعْدَائِي. 8الاِحْتِمَاءُ بِالرَّبِّ خَيْرٌ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى إِنْسَانٍ. 9الاِحْتِمَاءُ بِالرَّبِّ خَيْرٌ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى الرُّؤَسَاءِ. 10كُلُّ الأُمَمِ أَحَاطُوا بِي. بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ. 11أَحَاطُوا بِي وَاكْتَنَفُونِي. بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ. 12أَحَاطُوا بِي مِثْلَ النَّحْلِ. انْطَفَأُوا كَنَارِ الشَّوْكِ. بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ. 13دَحَرْتَنِي دُحُوراً لأَسْقُطَ، أَمَّا الرَّبُّ فَعَضَدَنِي. 14قُوَّتِي وَتَرَنُّمِي الرَّبُّ، وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصاً. 15صَوْتُ تَرَنُّمٍ وَخَلاَصٍ فِي خِيَامِ الصِّدِّيقِينَ. يَمِينُ الرَّبِّ صَانِعَةٌ بِبَأْسٍ. 16يَمِينُ الرَّبِّ مُرْتَفِعَةٌ. يَمِينُ الرَّبِّ صَانِعَةٌ بِبَأْسٍ. 17لاَ أَمُوتُ بَلْ أَحْيَا، وَأُحَدِّثُ بِأَعْمَالِ الرَّبِّ. 18تَأْدِيباً أَدَّبَنِي الرَّبُّ، وَإِلَى الْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي.
19اِفْتَحُوا لِي أَبْوَابَ الْبِرِّ. أَدْخُلْ فِيهَا وَأَحْمَدِ الرَّبَّ. 20هَذَا الْبَابُ لِلرَّبِّ. الصِّدِّيقُونَ يَدْخُلُونَ فِيهِ. 21أَحْمَدُكَ لأَنَّكَ اسْتَجَبْتَ لِي، وَصِرْتَ لِي خَلاَصاً. 22الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. 23مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هَذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا.
24هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ. 25آهِ يَا رَبُّ خَلِّصْ! آهِ يَا رَبُّ أَنْقِذْ! 26مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ. بَارَكْنَاكُمْ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ. 27الرَّبُّ هُوَ اللهُ وَقَدْ أَنَارَ لَنَا. أَوْثِقُوا الذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ. 28إِلَهِي أَنْتَ فَأَحْمَدُكَ. إِلَهِي فَأَرْفَعُكَ. 29احْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ.

مباركٌ الآتي باسم الرب
هذا المزمور هو آخر مزامير التهليل الستة (113-118)، والتي كانت تُرنَّم احتفالاً بالخروج من مصر، وكانوا يرنمونه وهم في طريقهم إلى هيكل الرب. وهو يشبه الكانتاتا، أي القصيدة التي تنشدها مجموعة من المرنمين على أنغام الموسيقى، بدون تمثيل. وموضوع هذه الكانتاتا: هيا نحمد الرب في هيكله. مباركٌ الآتي باسم الرب.
وقد اقتبس العهد الجديد آيات كثيرة من هذا المزمور، فعندما ضرب المسيح مثل الكرامين الأردياء الذين رفضوا ابن صاحب الكرم وقتلوه اقتبس من هذا المزمور آيتي 22، 23 في قوله: «أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية. من قِبَل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا» (مت 21: 42)، وقد تحققت نبوة مزمورنا في الصليب والقيامة، عندما رفض اليهودُ «الكرامون» المسيحَ المخلِّص «الابن» وقتلوه، مع أنه الحجر الذي لا يمكن أن يقوم بناء حياتهم أو يستقيم بغيره. ومن كلمات هذا المزمور هتف الشعب يوم دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم: «مبارك الآتي باسم الرب» (آية 26 مقتبسة في مت 21: 9). كما رنمه المسيح مع تلاميذه بعد وليمة الفصح، عندما رسم لنا فريضة العشاء الرباني قبل ذهابه إلى بستان جثسيماني (مت 26: 30). واقتبس الرسول بطرس آية 22 أيضاً مرة عندما قاوم اليهود إعلانه أن قوة المسيح هي التي أقامت الرجل المقعد من بطن أمه، فقال لهم: «هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون الذي صار رأس الزاوية» (أع 4: 11) ومرة أخرى ليؤكد أنه لن يخزى الذين يؤمنون بالمسيح حجر الزاوية المختار الكريم. أما الذين يرفضونه فسيكون حجر الزاوية لهم حجر صدمة وصخرة عثرة (1بط 2: 6-8). وهذه دعوة لوضع الثقة في المسيح لأنه حجر زاوية حياتنا، ولا نقدر أن ندخل بيت الرب ونتعبد له عبادة مقبولة بدون قبوله. كما لا يمكن أن ندخل بيته الأبدي بدون وضع كل ثقتنا فيه.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يدعو إلى بيت الرب (آيات 1-4)
ثانياً – الترنيم في الطريق إلى بيت الرب (آيات 5-18)
ثالثاً – الترنيم في بيت الرب (آيات 19-29)

أولاً – المرنم يدعو إلى بيت الرب
(آيات 1-4)
يبدأ مزمورنا وينتهي بالدعوة: «احمدوا الرب لأنه صالح، لأن إلى الأبد رحمته». وهي دعوة وردت 36 مرة في الكتاب المقدس (26 مرة في مزمور 136، كما ورد في 1أي 16: 34 و2أي 5: 13 و7: 3 وعز 3: 11 ومز 100: 5 و106: 1 و107: 1 و118: 1، 29 وإر 33: 11). وورد التعبير «إلى الأبد رحمته» خمس مرات، في 1أي 16: 41 و2أي 7: 6 و20: 21 ومز 118: 3، 4).
1 – الدافع على الدعوة: «احمدوا الرب لأنه صالح، لأن إلى الأبد رحمته» (آية 1). يدعو المرنم شعب الرب عامة للذهاب إلى بيت الرب لتقديم الشكر والحمد لأن إلهنا صالح ورحيم، ورحمته إلى الدهر والأبد، لا تنتهي أبداً. فيجب أن يهتفوا برحمته وأن يترنموا بصلاحه. «صوت الطرب وصوت الفرح.. صوت القائلين: احمدوا رب الجنود لأن الرب صالح، لأن إلى الأبد رحمته. صوت الذين يأتون بذبيحة الشكر إلى بيت الرب» (إر 33: 11)، فهو «يريد الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون» (1تي 2: 4).
2 – المدعوون: (آيات 2-4). يدعو المرنم ثلاث فئات من الناس ليذهبوا معه إلى هيكل الرب. وقد تكرر ذكر هذه الفئات في مزمور 115: 9-11 و135: 19.
(أ) بنو إسرائيل: «ليقل إسرائيل: إن إلى الأبد رحمته» (آية 2). «بمراحم الرب أغني إلى الدهر. لدور فدور أخبر عن حقك بفمي» (مز 89: 1). «يعود يرحمنا. يدوس آثامنا، وتطرح في أعماق البحر جميع خطاياهم» (مي 7: 19).
(ب) الكهنة: «ل«ليقل بيت هارون: إن إلى الأبد رحمته» (آية 3).
(ج) أتقياء الأمم: «ليقل متقو الرب: إن إلى الأبد رحمته» (آية 4). وهم الذين دخلوا الديانة اليهودية، ولكنهم لم يولدوا من نسل إبراهيم حسب الجسد. لقد آمنوا كما آمن إبراهيم، فصاروا من متَّقي الرب. وقد قال المسيح: «لي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضاً فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة لراع واحد» (يو 10: 16).

ثانياً – الترنيم في الطريق إلى بيت الرب
(آيات 5-18)
يسود ترنيم الفرح جماعة الرب في الطريق إلى بيت الرب، فيرنم القائد وتجاوبه الجوقة:
1 – القائد يرنم شكراً على النجاة من الضيق: «من الضيق دعوت الرب فأجابني من الرحب. الرب لي فلا أخاف. ماذا يصنع بي الإنسان؟ الرب لي بين معينيَّ، وأنا سأرى بأعدائي». (آيات 5-7). يسير القائد، ولعله أحد الكهنة، أمام الشعب يرنم هذه الآيات بصوت منفرد، وحوله فريق الترنيم، يقطعون شوارع أورشليم متَّجهين إلى الهيكل ليعبدوا الرب. ويذكر القائد أنه دعا الرب في ضيقه فاستجاب له ونجاه. ويعلن للجوقة وللسائرين معهم في الطريق إلى الهيكل أن الرب رحبَّ له من بعد الضيق، فلم يعُد يخاف، لأن الرب له بين معينيه، وقد دبَّر له مساعدين يعاونونه، فعجز أعداؤه عن إيقاع الأذى به، بل «ترتد أعدائي إلى الوراء في يومٍ أدعوك فيه. هذا قد علمتُه لأن الله لي» (مز 56: 9). «لأنه قال لا أهملك ولا أتركك، حتى إننا نقول واثقين: الرب معين لي فلا أخاف. ماذا يصنع بي إنسان؟» (عب 13: 5، 6). «قبلما يدعون أنا أجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع» (إش 65: 24). «لأنه تعلق بي أنجيه أرفعه لأنه عرف اسمي» (مز 91: 14).
2 – الجوقة تعلن طريق النجاة من الضيق: «الاحتماء بالرب خير من التوكل على إنسان. الاحتماء بالرب خير من التوكل على الرؤساء» (آيتا 8، 9). أجابت الجوقة المرنم مؤكِّدةً أن الرب هو الملجأ والحِمى الوحيد. عندما أعطى الملك أرتحشستا الوالي نحميا رسائل إلى ولاة الجهات المختلفة في مملكة فارس ليعطوه ما يلزم لبناء سور أورشليم، وليتولوا حراسته في الطريق (نح 2: 7-9) لم تمتنع عداوة طوبيا وسنبلط لنحميا، ولا توقَّفت! وقد شرح سفر نحميا المقاومة المستمرة من تهديد سياسي: «أعلى الملك تتمردون؟» (نح 2: 19)، ومن سخرية «إن ما يبنونه إذا صعد ثعلب فإنه يهدم حجارة حائطهم» (نح 4: 3)، ومن مقاومة عسكرية (نح 4: 8)، ومن تآمر لقتل نحميا (نح 6: 2، 10، 11)، ومن رسائل تخويف (نح 6: 19). وكان السبب الأول في انتصار نحميا هو: توجُّه قلبه دائماً إلى الرب (نح 2: 4). فما أصحَّ النصيحة: «لا تتكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده. تخرج روحه فيعود إلى ترابه. في ذلك اليوم نفسه تهلك أفكاره» (مز 146: 3، 4).
2 – القائد والجوقة يعلنان النصر: في الآيات 10-18 نسمع القائد بترنيمه المنفرد أن الخطر قادم، فيؤكدون له أن النصر آتٍ من عند الرب. ويقتنع بما قالوا، فيعلن نصره باسم الرب.
(أ) يقول القائد: «كل الأمم أحاطوا بي». كان المرنم وشعبه كمدينة محاصرة، كما قال المرنم: «أحاطت بي كلاب. جماعة الأشرار اكتنفتني» (مز 22: 16). وهو الوصف الذي أوضحه نحميا بقوله: كل أعدائنا وجميع الأمم الذين حوالينا من العمونيين والفلسطينيين والعرب (نح 6: 7، 8، 16 وعز 4: 7-23).
(ب) فترد الجوقة: «باسم الرب أبيدهم» (آية 10). الرب الذي يفي بوعوده. «اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصدّيق ويتمنَّع» (أم 18: 10).
(ج) يقول القائد: «أحاطوا بي واكتنفوني».
(د) فترد الجوقة: «باسم الرب أبيدهم» (آية 11).
(هـ) يقول القائد: «أحاطوا بي مثل النحل»، كما قال موسى لشعبه: «فخرج الأموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائكم وطردوكم كما يفعل النحل، وكسروكم» (تث 1: 44).
(و) فترد الجوقة: «انطفأوا كنار الشوك. باسم الرب أبيدهم» (آية 12). تشتعل نار الشوك بسرعة وتنطفئ بسرعة، وهكذا كان غضب العدو شديداً وسريعاً، وانتهى كما بدأ، لأن الرب يدافع عن شعبه وهم يتطلعون بتعجُّب ودهشة (خر 14: 14). وهو ما قاله المرنم: «لماذا ارتجَّت الأمم وتفكر الشعوب في الباطل؟.. الساكن في السماوات يضحك. الرب يستهزئ بهم.. يرجفهم بغيظه» (مز 2: 1-5).
(ز) ويقول القائد: «دحرتني دحوراً لأسقط، أما الرب فعضدني. قوتي وترنمي الرب وقد صار لي خلاصاً. صوت ترنم وخلاص في خيام الصديقين. يمين الرب صانعة ببأس». (آيات 13-15). في كلمات القائد هذه يبدأ بمخاطبة العدو الذي حاول أن يدفعه دفعاً ليسقط، ثم يرفع عينيه إلى الرب الذي عضده فأسنده ونصره. ولا بد أن المرنم كان يذكر ترنيمة موسى: «الرب قوتي ونشيدي وقد صار خلاصي. هذا إلهي فأمجِّده وإله أبي فأرفِّعه» (خر 15: 2) وترنيمة إشعياء: «هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصاً» (إش 12: 2). ويذكر المرنم صوت ترانيم الخلاص وهي تعلو من الخيام المصنوعة من سعف النخل وأغصان الشجر أثناء احتفالات الفرح في عيد المظال، آخر الأعياد السنوية الكبرى وثاني أعياد الحصاد والذي كان يقع بعد يوم الكفارة العظيم، وفيه يذكر بنو إسرائيل إقامتهم في مظال في البرية لا يزرعون ولا يحصدون، فعالهم الرب بالمن والسلوى، ورواهم بالماء يجري من الصخر! وفي كل هذا يعظم انتصار القائد بالرب، فيختم بالقول: «يمين الرب صانعة ببأس» كما رنم موسى: «يمينك يا رب معتزَّةٌ بالقدرة. يمينك يا رب تحطم العدو.. تمد يمينك فتبتلعهم الأرض» (خر 15: 6، 12).
(ح) فترد الجوقة: «يمين الرب مرتفعة. يمين الرب صانعة ببأس» (آية 16)، وهي كلمات تؤيد تسبيح القائد. فعندما تقوم العقبات والمتاعب في طريقنا تجيبنا السماء بجوقة ترنيم تهتف: «ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم» (مز 34: 7).
(ط) ويقول القائد: «لا أموت بل أحيا وأحدِّث بأعمال الرب. تأديباً أدَّبني الرب، وإلى الموت لم يُسْلمني» (آيتا 17، 18). يسمح الرب للعدو أن يُتعب أولاده، ويسمح أن يجوز المؤمنون في آلام وتجارب. ويقول الحكيم: «أمينة هي جروح المحب، وغاشة هي قبلات العدو» (أم 27: 6). ولكن المؤمن التقي الواثق في الرب يُدرك أن يد الله من وراء كل موقف. فلنخضع تحت يد الله القوية كما يستسلم الإناء في يد الفخاري ليصنع منه إناءً للكرامة، عالمين أن «كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن، وأما أخيراً فيُعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام» (عب 12: 11). وبهذا نعلن انتصارنا وانتصار جميع الذين يمرون بمثل ما نمرُّ به، فإن المعركة والمصير كليهما في يدٍ واحدة أمينة قادرة، هي يد الرب.

ثالثاً – الترنيم في بيت الرب
(آيات 19-29)
اقترب المرنمون من أبواب الهيكل، فينادي القائد:
1 – القائد: «افتحوا لي أبواب البر أدخل فيها وأحمد الرب» (آية 19). لم تكن أبواب الهيكل مغلقة فينادي القائد طالباً فتحها، ولكن المرنم وجوقته والشعب المصاحب له يعلنون رغبتهم أن يقدموا العبادة للرب بالترنيم والحمد. وهذا ما قصده داود بقوله: «ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن، وارفعنها أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد» (مز 24: 9)، فقد كانت الأبواب مفتوحة، لكن المكان يجب أن يكون مستعداً لاستقبال ملك المجد.. ويدعو المرنم أبواب الهيكل «أبواب البر» لأن الرب البار العادل يقيم فيها، ولأن الرب يبرر من يدخلونها عابدين مستسلمين له معترفين بخطاياهم، فيصبحون أبراراً، بمعنى أنهم يصيرون أصحاب موقف سليم مقبول أمامه. وقد دخل المسيح هذا الباب باستحقاق ذاته، أما نحن فندخله باستحقاق المسيح وعمله الكفاري لأجلنا. «إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح» (رو 5: 1).
2 – يرد الكهنة: «هذا الباب للرب. الصدّيقون يدخلون فيه» (آية 20). يؤكد الكاهن شرط الدخول في أبواب البر، فيقول إنه قاصر على الصدّيقين الذين نالوا التبرير من الله لأنهم صرخوا مع العشار: «اللهم ارحمني أنا الخاطي، فنزل إلى بيته مبرراً» (لو 18: 13، 14). فيقال لهم: «افتحوا الأبواب لتدخل الأمة البارة الحافظة الأمانة. ذو الرأي الممكَّن تحفظه سالماً سالماً، لأنه عليك متوكل» (إش 26: 2، 3).
3 – فيهتف القائد: «أحمدك لأنك استجبت لي وصرت لي خلاصاً. الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية. مِن قِبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا» (آيات 21-23). تمم المرنم مطالب الله، وطلب مغفرته، فاستجاب له وصار له خلاصاً. وهكذا صار الحجر الذي رفضه البناؤون رأس الزاوية في حياته، لأنه حجر قوي جداً وكبير جداً، يربط الحوائط معاً، ويكمل البناء، فقال الله عنه: «هأنذا أؤسس في صهيون حجراً، حجر امتحانٍ، حجر زاوية كريماً. أساساً مؤسساً» (إش 28: 16). مِن قِبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا، لأنه يرمز إلى المسيح نفسه، بحسب ما أعلنه لنا (في مت 21: 42 ومر 12: 10، 11 ولو 20: 17). ومع هذا فقد رفضه بنو إسرائيل، قائلين: «أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟» (يو 1: 46) وكانوا يتساءلون: «أليس هذا ابن النجار؟ أليست أمه تُدعى مريم، وإخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا؟.. فكانوا يعثرون به» (مت 13: 55، 57). «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله. أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه» (يو 1: 11، 12). وقد أعلن الرسول بطرس هذه الحقيقة في قوله لليهود: «هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون، الذي صار رأس الزاوية. وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص» (أع 4: 11، 12). وقال عنه الرسول بولس للمؤمنين: «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية» (أف 2: 20).
4 – وترنم الجوقة: «هذا هو اليوم الذي صنعه الرب. نبتهج ونفرح فيه. آه يا رب خلِّص. آه يا رب أنقِذ» (آيتا 24، 25). أيقن مرنمو الجوقة أن يوم الخلاص قد جاء من عند الرب، فالمسيح حجر الزاوية هو المخلِّص الآتي، ويوم مجيئه هو يوم الفرح. عندما أعلن الملاك جبرائيل للعذراء أنها ستحبل وتلد ابناً تسمّيه يسوع، هتفت: «تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلِّصي» (لو 1: 46، 47). وقال الملاك للرعاة وقت ميلاده: «أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب» (لو 2: 10)، وترنمت جوقة الملائكة: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرَّة» (لو 2: 14). وعلى كل من يسمع هذا الخبر المفرح أن يهتف: «آه يا رب خلِّص. آه يا رب أنقِذ» فلا تدع فرصة الخلاص تفوتك فإن «اليوم يوم خلاص. الوقت وقت مقبول. اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم» (عب 3: 7). ولا زال صوت الرب يدعو كل بعيد ليختبر خلاص الرب. إن لم تكن قد اختبرته ارفع قلبك مع الجوقة وقُل: «آه يا رب خلِّص. آه يا رب أنقذ». أما كل من سلَّم حياته للرب فيهتف: «صوت ترنم وخلاص في خيام الصديقين».
5 – ويرد الكهنة: «مبارك الآتي باسم الرب. باركناكم من بيت الرب» (آية 26). عندما يدخل الصدّيقون أصحاب الموقف السليم من الله هيكل الرب يباركهم الكهنة من بيت الرب، وينادون لهم: «أوصنا» أي «يا رب خلِّص». وهو هتاف الشعب يوم دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم: «أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب. أوصنا في الأعالي» (مت 21: 9). مبارك الرب الذي أتي لينقذ ويخلص. ومبارك أيضاً كل من يأتي من أرض الهلاك ليخلُص بالمسيح ويتمتع به.. يبارك الكهنة المسيح ويمجدونه لأنه الآتي باسم الرب ليخلِّص كل من يحتمي به، ويباركون كل من يقبل المسيح مخلِّصاً.
6 – هتاف الكهنة والقائد والجوقة: «الرب هو الله وقد أنار لنا. أوثقوا الذبيحة بربط إلى قرون المذبح. إلهي أنت فأحمدك، إلهي أنت فأرفعك. احمدوا الرب لأنه صالح. لأن إلى الأبد رحمته» (آيات 27-29). الرب هو الله وهو النور، فقد قال المسيح: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة» (يو 8: 12). «الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور» (إش 9: 2). «لأنكم كنتم قبلاً ظلمة، أما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور» (أف 5: 8).
وكل من أشرق الرب عليه بنوره يوثق نفسه ويربطها إلى قرون المذبح كذبيحة مقدَّمة لله، مكرَّسة لشخصه الكريم، كما يقول الأمر الرسولي: «فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضيَّة عند الله، عبادتكم العقلية» (رو 12: 1)، لأن الرب جذبهم إليه «برُبُط المحبة» (هو 11: 4). فيكون المؤمن مثل العبد الذي كان يقول: «أحب سيدي.. لا أخرج حراً» (خر 21: 5).
ويختم الجميع تسبيحهم في بيت الرب بدعاءٍ أن يرتفع الرب في حياتهم ويكون السيد والأول والآخِر، وهم يهتفون: «إلهي أنت فأحمدك. إلهي أنت فأرفعك، احمدوا الرب لأنه صالح. لأن إلى الأبد رحمته».

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالتَّاسِعُ عَشَرَ

أبجدية المحبة لله
هذا المزمور نشيد مؤمن يحب الله ويحب كلمته، ويريدها أن تكون أساس أهدافه وسلوكه اليومي، تصبح دستور حياته وتصوغ فكره. وهو يشرح العلاقة الحميمة بينه وبين كلمة الرب، وفيه يعلن إيمانه بكل ما أعلنه الله من مواعيد تحققت في حياته، ويعلن ثقته في عناية الله به، والحرية التي منحها له، فكم أنقذه وقدَّس حياته بالرغم من مقاومة الأعداء له. وكل آيات هذا المزمور صلوات، ما عدا أربع آيات (هي 1-3، 115). وهو يتكوَّن من 176 آية، مقسَّمة إلى 22 قسماً، كل قسم منها ثماني آيات، يبدأ كلٌّ منها بأحد حروف الأبجدية العبرية. ولما كانت الأبجدية هي بداية تعلُّم القراءة، فإن كل من يريد أن يبدأ الحياة الإيمانية العميقة الواثقة يجب أن يدرس كلمة الله لأنها الأساس. (هناك مزامير أبجدية أخرى هي 9، 10، 25، 34، 37، 111، 112، 145).
سُمِّي هذا المزمور «مزمور القديسين» لأنهم هم الذين أحبوا كلمة الله وتشبَّعت أفكارهم بها، فعاشوا بحسبها، ويقول المسيح لهم: «أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلَّمتكم به» (يو 15: 3). وسُمِّي أيضاً «أبجدية المحبة لله» لأنه يشرح حالة قلب عرف وصايا الله، وأطاع الأمر: «لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك.. اكتُبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك» (تث 6: 6، 9). وهو قلبٌ امتلأ بروح العهد الذي قال الله: «أقطعه مع بيت إسرائيل.. لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم.. لأني أصفح عن إثمهم» (إر 31: 33، 34). وهو قلبٌ عامرٌ بحب الله بالرغم من عداوة الأعداء ومقاومتهم (مز 119: 22، 23، 39).
يبدو هذا المزمور للقارئ المتعجِّل أنه يكرر نفس المعاني، لكن القارئ المتأني الذي يتأمل فيه ويتلذذ به يكتشف عُمق معانيه وتنوُّع أسلوبه، فالمرنم يطلب أن يعرف كلمة الله أكثر ويفهمها أعمق ويطيعها دوماً. والمعرفة يتبعها الفهم والتطبيق، وحين نخطئ في التطبيق نتعلم من أخطائنا، ونحاول من جديد بغير يأس.
عندما كتب القديس أغسطينوس تفسيره لسفر المزامير فسَّر هذا المزمور آخر الكل، وقال إنه اقترب منه بتردُّد وعدم ثقة بالنفس، لأنه أعمق من أن يُفسَّر، فكلمة الله واسعة جداً «لكل كمال رأيت حداً، أما وصيتك فواسعة جداً» (مز 119: 96). وكم من مرة تأملنا آية ونلنا منها بركة، وعندما عاودنا قراءتها وجدنا فيها نوراً جديداً وبركة جديدة.
في هذا المزمور أعلن المرنم فرحه بكلمة الرب (آيتا 14، 16) وأكَّد قيمتها عنده (آية 72) فأحبها (آيات 24، 40، 47، 97، 103) وأعلن فعاليتها، فيقول: «من كلامك جزع قلبي» (آية 161) لأنها كشفت له خطاياه فبكَّته ضميره، كما كشفت له محبة الله المذهلة للخطاة. وهذا ما حدث للسامرية يوم التقت بالمسيح فأعلن لها سراً كانت تخفيه عنه، جعل قلبها يجزع، ولكنها جزعت أكثر لما أعلن لها محبته الفائقة المعرفة، وأكَّد لها قبوله، ثم روى نفسها العطشى من الماء الحي. وأعلن المرنم أن الكلمة تحرِّر وتقود إلى الرحب (آيتا 32، 45)، وتنوِّر الحياة (آية 105)، وتحيي الميت بذنوبه وخطاياه (آيتا 17، 37)، وتثبِّت المؤمن في التمسُّك بمواعيد الله (آيتا 49، 50).
في هذا المزمور أطلق المرنم على كلمة الله ألقاباً تلمس اليوم كل ناحية من نواحي حياتنا، فدعاها:
1- شريعة: وهي في العبرية «توراه»Torah وفي اليونانية »نوموس» Nomos أخذت منها العربية: ناموس، أي طريق سلوك للتهذيب والتعليم، ويجب طاعتها لأنها طريق الرب المستقيمة التي تقودنا إلى السلام والراحة والسعادة «طوبى للكاملين طريقاً السالكين في شريعة الرب» (آية 1).
2- كلمة: وفي اليونانية Logos وهي لقب السيد المسيح، أي الخالق «في البدء كان الكلمة.. كل شيء به كان» (يو 1: 1، 3). ويتحدث هنا عن الكلمة المكتوبة التي خرجت من فم الله والتي تعلن فكره «بمَ يزكي الشاب طريقه؟ بحفظه إياه حسب كلامك» (آية 9). وكلمة الرب هي وسيلة اتصال الله بالبشر، فهو يكلمنا ليتواصل معنا «الله بعدما كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً (في كلمته المكتوبة) كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه (الكلمة الحي الرب يسوع المسيح)» (عب 1: 1، 2).
3- فرائض: والفريضة أمر تسنده سلطة، فيقول الابن لأبيه: «علِّمني فرائضك» (آية 12) لأن الأب يضع فرائض البيت لسلامة أفراده ولخير أولاده ولتقدُّم الأسرة. وعند كنيستنا فريضتان: المعمودية، والعشاء الرباني، وتُسمَّيان بهذا الاسم لأن الرب أمرنا بهما.
4- وصايا: وكانت الوصايا الأساسية تُحفَر، مثل الوصايا العشر التي حفرها الله بإصبعه على لوحي حجر، ويجب أن تُحفر أيضاً على ألواح قلوبنا، فنقبلها ونعمل بها لأنها صالحة تقوِّم طريقنا وتضمن لنا الابتعاد عن الضلال «أنت أوصيتَ بوصاياك» (آية 4).
5- أحكام: وهو تعبير قضائي يعبِّر عن حكم الله القاضي العادل الذي سيدين العالم، فالله أصدر حكمه علينا في قوله إن الإنسان خاطئ، وإن الجميع أخطأوا، وإن النفس التي تخطئ تموت. لكن الحكم نفسه يقول إن كل من يضع ثقته في كفارة المسيح يتصالح مع الله بفضل هذه الكفارة. فإن كنا نريد أن نحيا روحياً يجب أن نتصالح مع الله عن طريق كفارة المسيح. وإن كنا نريد أن نحيا في سلام مع الله لنحتمِ في كفارة المسيح، ونقول: «أحمدك باستقامة قلب عند تعلُّمي أحكام عدلك» (آية 7).
6- شهادة: لأنها تشهد علينا، ويُسمَّى تابوت الشهادة «تابوت عهد الرب» (تث 31: 26) لأن الرب كتب الوصايا، وأمر بحفظها في تابوت العهد لأنها عهد بينه وبين شعبه يشهد عليهم وعلى أعمالهم وعلى إيمانهم و«طوبى لحافظي شهاداته» (آية 2). فإن عصينا ليس لدينا عذر، لأنه أعلمنا، كما قال الرسول بولس: «لم أؤخِّر شيئاً من الفوائد إلا وأخبرتكم وعلَّمتكم به جهراً وفي كل بيت» (أع 20: 20).
7- طريق: كلمة الله ترسم لنا سبيل السلوك الصائب، وتعرِّفنا أنها طريق: «في طرقك يسلكون» (آية 3). كان سلوك العهد القديم يقول: «عين بعين وسن بسن» (تث 19: 21) فجاءت المسيحية طريقاً جديداً يقول: «أَحِبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أَحْسنوا إلى مبغضيكم» (متى 5: 44).
في هذا المزمور نجد أربعة أجزاء رئيسية:
الجزء الأول – المرنم يرفع قلبه للرب (آيات 1-32)
الجزء الثاني – الرب إله العطاء (آيات 33-80)
الجزء الثالث – الرب إله الإنقاذ (آيات 81-128)
الجزء الرابع – الرب إله الانتصار (آيات 129-176)

الجزء الأول
المرنم يرفع قلبه للرب
(آيات 1-32)
أ
1 طُوبَى لِلْكَامِلِينَ طَرِيقاً، السَّالِكِينَ فِي شَرِيعَةِ الرَّبِّ. 2طُوبَى لِحَافِظِي شَهَادَاتِهِ، مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَهُ. 3أَيْضاً لاَ يَرْتَكِبُونَ إِثْماً. فِي طُرُقِهِ يَسْلُكُونَ. 4أَنْتَ أَوْصَيْتَ بِوَصَايَاكَ أَنْ تُحْفَظَ تَمَاماً. 5لَيْتَ طُرُقِي تُثَبَّتُ فِي حِفْظِ فَرَائِضِكَ، 6حِينَئِذٍ لاَ أَخْزَى إِذَا نَظَرْتُ إِلَى كُلِّ وَصَايَاكَ. 7أَحْمَدُكَ بِاسْتِقَامَةِ قَلْبٍ عِنْدَ تَعَلُّمِي أَحْكَامَ عَدْلِكَ. 8وَصَايَاكَ أَحْفَظُ. لاَ تَتْرُكْنِي إِلَى الْغَايَةِ.

ب
9 بِمَ يُزَكِّي الشَّابُّ طَرِيقَهُ؟ بِحِفْظِهِ إِيَّاهُ حَسَبَ كَلاَمِكَ. 10بِكُلِّ قَلْبِي طَلَبْتُكَ. لاَ تُضِلَّنِي عَنْ وَصَايَاكَ. 11خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ. 12مُبَارَكٌ أَنْتَ يَا رَبُّ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. 13بِشَفَتَيَّ حَسَبْتُ كُلَّ أَحْكَامِ فَمِكَ. 14بِطَرِيقِ شَهَادَاتِكَ فَرِحْتُ كَمَا عَلَى كُلِّ الْغِنَى. 15بِوَصَايَاكَ أَلْهَجُ، وَأُلاَحِظُ سُبُلَكَ. 16بِفَرَائِضِكَ أَتَلَذَّذُ. لاَ أَنْسَى كَلاَمَكَ.

ج
17أَحْسِنْ إِلَى عَبْدِكَ فَأَحْيَا وَأَحْفَظَ أَمْرَكَ. 18اكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ. 19غَرِيبٌ أَنَا فِي الأَرْضِ. لاَ تُخْفِ عَنِّي وَصَايَاكَ. 20انْسَحَقَتْ نَفْسِي شَوْقاً إِلَى أَحْكَامِكَ فِي كُلِّ حِينٍ. 21انْتَهَرْتَ الْمُتَكَبِّرِينَ الْمَلاَعِينَ الضَّالِّينَ عَنْ وَصَايَاكَ. 22دَحْرِجْ عَنِّي الْعَارَ وَالإِهَانَةَ، لأَنِّي حَفِظْتُ شَهَادَاتِكَ. 23جَلَسَ أَيْضاً رُؤَسَاءُ تَقَاوَلُوا عَلَيَّ، أَمَّا عَبْدُكَ فَيُنَاجِي بِفَرَائِضِكَ. 24أَيْضاً شَهَادَاتُكَ هِيَ لَذَّتِي أَهْلُ مَشُورَتِي.
د
25لَصِقَتْ بِالتُّرَابِ نَفْسِي فَأَحْيِنِي حَسَبَ كَلِمَتِكَ. 26قَدْ صَرَّحْتُ بِطُرُقِي فَاسْتَجَبْتَ لِي. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. 27طَرِيقَ وَصَايَاكَ فَهِّمْنِي فَأُنَاجِيَ بِعَجَائِبِكَ. 28قَطَرَتْ نَفْسِي مِنَ الْحُزْنِ. أَقِمْنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ. 29طَرِيقَ الْكَذِبِ أَبْعِدْ عَنِّي، وَبِشَرِيعَتِكَ ارْحَمْنِي. 30اخْتَرْتُ طَرِيقَ الْحَقِّ. جَعَلْتُ أَحْكَامَكَ قُدَّامِي. 31لَصِقْتُ بِشَهَادَاتِكَ. يَا رَبُّ، لاَ تُخْزِنِي. 32فِي طَرِيقِ وَصَايَاكَ أَجْرِي لأَنَّكَ تُرَحِّبُ قَلْبِي.

في هذا الجزء نجد:
أولاً – شريعة الرب ترفع القلب (آيات 1-8)
ثانياً – المرنم يطلب النقاوة (آيات 9-16)
ثالثاً – المرنم يطلب معرفة الكلمة (آيات 17-24)
رابعاً – المرنم يطلب الحق (آيات 25-32)

أولاً – شريعة الرب ترفع القلب
(آيات 1-8)
1- الشريعة تسعد القلب: (آيات 1-3).
(أ) سعادة السلوك: «طوبى للكاملين طريقاً السالكين في شريعة الرب» (آية 1). يبدأ هذا المزمور بالتطويب كما يبدأ المزموران 1، 32 «طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار.. لكن في ناموس الرب مسرته.. طوبى للذي غُفر إثمه وسُترت خطيته» (مز 1: 1، 2 و32: 1)، كما تبدأ الموعظة على الجبل بالتطويب: «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات» (مت 5: 3). كل الناس في تعاسة الخطية يطلبون السعادة ولا يجدونها إلا في الشريعة التي هي طريق الله وتعليمه الواجب الطاعة، فيصيرون كاملين وبلا لوم. واليوم نعلم أن الطريق هو المسيح الذي قال: «أنا هو الطريق» (يو 14: 6). وهو الذي يقول: «ادخلوا من الباب الضيق.. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة» (مت 7: 13، 14).
نحن بالطبيعة دنسون، بعيدون عن الطريق، لكن كل من يغتسل بالدم الذي يطهِّر من كل خطية، يتجدَّد بقوة الروح القدس، ويردُّه الرب إلى سبُل البرّ من أجل اسمه، ويجعله يسلك أمامه بالكمال، ويمنحه النعمة القادرة أن تحفظه في الطريق الصحيح، فهو «القادر أن يحفظكم غير عاثرين، ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الابتهاج. الإله الحكيم الوحيد مخلِّصنا» (يه 24، 25).
(ب‌) سعادة الطاعة: «طوبى لحافظي شهاداته، من كل قلوبهم يطلبونه. أيضاً لا يرتكبون إثماً. في طرقه يسلكون» (آيتا 2، 3). وحفظ الشيء يعني الحرص الشديد عليه، ونحن نحتفظ في القلب بما نحبه ونرغبه. وحفظ الكلمة يعني أن نعيش في خضوع لسلطانها، فهي كالمسطرة التي توضِّح لنا طول قامتنا الروحية وكم هي ناقصة، وترينا مقدار العوَج الذي فينا، فندرك شدَّة حاجتنا إلى نعمة الله التي تكمل نقصنا وتقوِّم عوجنا. والذين يدرسون كلمة الله ويعزمون على السلوك بموجبها يسلكون بالتدقيق لا كجهلاء بل كحكماء، ويفتدون الوقت لأن الأيام شريرة (أف 5: 15، 16). ما أسعد أيوب وهو يقول: «بخطواته استمسكَت رِجْلي. حفظت طريقه ولم أحِد» (أي 23: 11). وإذا حفظنا شهادات الرب حفظتنا «وفي حفظها ثواب عظيم» (مز 19: 11).

2- الشريعة أوامر الرب: (آيات 4-8).
(أ) التقي يرغب في طاعتها: «أنت أوصيتَ بوصاياك أن تُحفظ تماماً. ليت طرقي تُثبَّت في حفظ فرائضك» (آيتا 4، 5). يبدأ التقي طاعته للكلمة عند معرفته أن الرب أوحى بها. وعندما يتكلم الرب فلا بديل عن الطاعة. ويذكِّر المرنم نفسه بمسؤوليته ومسؤولية شعبه، فإذا ساروا في طريق الكاملين يكونون قد بدأوا الطريق السليم. وكم يختلف طريق الإنسان عن طريق الرب «ولا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيَّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم» (رو 12: 2). وعندما يواجه المؤمن مشكلة قد يسلك سلوكاً على شكل سلوك أهل هذا الدهر الخاطئ، فيظن أنه ينجو لو كذب، ويستريح لو انتقم، وقد يشكُّ في محبة الله. ولكنه سرعان ما يكتشف خطأه، فيرجع إلى الرب، ويثبِّت طرقه في حفظ الفرائض، فينطبق عليه الوصف: «ذو الرأي الممكن تحفظه سالماً سالماً لأنه عليك متوكل» (إش 26: 3).
(ب) التقي يتبارك بطاعتها: «حينئذ لا أَخزى إذا نظرتُ إلى كل وصاياك. أحمدك باستقامة قلب عند تعلُّمي أحكام عدلك» (آيتا 6، 7). الخطية تولِّد الخزي، وإذا تخلَّصنا منها تزول أسباب الخزي. لم يعرف أبونا الأوَّل الخزي إلا بعدما استمع لكلام الحية، ولم يتحرر منه إلا بعد أن ستره الإله المحب بالأقمصة المصنوعة من جلد الذبيحة (تك 3: 21). وعندما نقرأ وصاياه ونتأملها لا نخزى منها، بل نشهد بها أمام الآخرين، ونقول: «لستُ أستحي بإنجيل المسيح، لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن» (رو 1: 16). ولن نكون أتقياء بالحقيقة إلا إذا صمَّمنا أن نحفظ كل وصايا الرب. و«إن لم تلُمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه لأننا نحفظ وصاياه، ونعمل الأعمال المرضيَّة أمامه» (1يو 3: 21، 22). ومن يطلب حياة القداسة سيحمد الرب باستقامة قلب، ويرتفع التسبيح من قلبه المستقيم الذي يحب الله.
(ج) التقي يحبا في محضر الرب: «وصاياك أحفظ. لا تتركني إلى الغاية» (آية 8). عندما أخطأ بنو إسرائيل غضب الرب عليهم وسمح بسبيهم، ولكنه لم يتركهم في السبي «إلى الغاية»، بل أرجعهم بعد سبعين سنة. ويطلب المرنم من إلهه الصالح أن لا يتركه وألا يعاقبه إلى الغاية، بل أن يردَّه إليه كما ردَّ سبي أيوب، فعاش فرحاً في محضر الرب.

ثانياً – المرنم يطلب النقاوة
(آيات 9-16)
بدأت الفقرة الأولى من المزمور بتطويب الكاملين طريقاً، وتبدأ الفقرة الثانية بتحديد معالم طريق ذلك الكمال.
1- النقاوة نتيجة الطاعة: (آيات 9-11).
(أ) سؤال: «بِمَ يزكّي الشاب طريقه؟» (آية 9). في جزء «ب» من هذا المزمور نجد ست آيات تبدأ كلماتها بحرف الباء، لأن هذا الحرف في اللغة العربية له نفس المعنى في اللغة العبرية (وهي آيات 9، 10، 13-16). والتزكية تعني أن يطهِّر الشاب طريقه ويحفظ نفسه طاهراً (1تي 5: 22). كل البشر خطاؤون كفارون بنعمة الله، والشباب معرَّضون أكثر من غيرهم للشهوات الشبابية. فليكن للشاب ضمير صالح وشهادة حسنة. وعُمْر الشباب هو وقت إلقاء البذار لبلوغ الحياة الناضجة، ثم للحياة الأبدية. فما أهم البداية السليمة والاستمرار في الطريق الصحيح! وعلى الشاب أن يزكي طريقه لأن خطوةً واحدة خاطئة في زمن الشباب تقود إلى خطوات أخرى أبعد، فما أجمل النصيحة: «اذكُر خالقك في أيام شبابك قبل أن تأتي أيام الشر أو تجيء السنون إذ تقول ليس فيها سرور» (جا 12: 1).. ويجاوب المرنم على السؤال الذي أثاره، فيقول: «بحفظه إياه حسب كلامك» لأن عظمة الكلمة تظهر في قدرتها على إحداث التطهير المطلوب، والكتاب المقدس هو كلمة الله، وهو «نافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي هو في البر» (2تي 3: 16). فلنتضرَّع إلى إلهنا قائلين: «لا تذكر خطايا صباي ولا معاصيَّ. كرحمتك اذكرني أنت من أجل جودك يا رب» (مز 25: 7).
(ب) طلبة: «بكل قلبي طلبتك. لا تضلَّني عن وصاياك» (آية 10). طلب المرنم بكل قلبه أن يكون الرب له سيداً، ومشيراً، وصديقاً ليطمئن ويسير على دربه، لا يبتعد عنه، لأنه بقدر ما يحب القداسة بكل القلب يطلب النجاة من السقوط من الخطية. «إذاً من يظنُّ أنه قائم فلينظر أن لا يسقط» (1كو 10: 12) لأنه «توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمةً، وعاقبتها طرق الموت» (أم 14: 12).
(ج) حِرْص: «خبأتُ كلامك في قلبي لكيلا أخطئ إليك» (آية 11). فهم المرنم الكلمة وصدَّقها وأحبها، فخبأها في مكان آمن هو قلبه باعتبارها كنزاً ثميناً يُحرِص عليه من الضياع. ومن يخبئ كلمة الله في قلبه يكون مستعداً لمواجهة التجارب «يا ابني إن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك.. فالعقل يحفظك والفهم ينصرك لإنقاذك من طريق الشرير» (أم 2: 1، 11، 12).. انتصر المسيح على إبليس بالمكتوب. وعندما سخر المستمعون من الرسول بطرس وزملائه بسبب تكلُّمهم بألسنة يوم الخمسين، اقتبس الرسول بطرس من الكلمة ودافع بها عن نفسه وعن زملائه، وعن رسالته (أع 2: 16). إن كلمة الله تعلن لك فكر الله وإرادته. فإذا أطعت الله كل يوم، وخضعت للفخاري العظيم سيصنع منك إناءً للكرامة مقدساً نافعاً للسيد (2تي 2: 21).
2- النقاوة نتيجة دراسة الكلمة: (آيات 12-16).
(أ) تعلَّم الكلمة: «مباركٌ أنت يا رب. علِّمني فرائضك» (آية 12). سبَّح المرنم الرب وباركه لأجل كل ما أعلنه له وما فعله معه، وطلب أن يعلِّمه الفرائض التي لا يقدر أن يعرفها إلا الذين تعلموا من القائل: «تعلَّموا مني» (مت 11: 29). وفرائض الله هي الطريق إلى القداسة، فلنتعلمها كتلاميذ في مدرسة الرب، خاضعين لهذا المعلم، و«نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة» (1بط 1: 15).
(ب) ردَّد الكلمة: «بشفتيَّ حسبتُ كل أحكام فمك» (آية 13). أعلن المرنم بصوت عال كل أحكام الله التي إذا خبأها في قلبه ظهرت على شفتيه، لأن من فضلة القلب يتكلم الفم (مت 12: 34). لقد آمن فتكلم (مز 116: 10) فشهد له ضميره أنه بشَّر الآخرين بما تعلَّمه من كلمة الله، ولم يُخفِ البشارة عنهم، لكنه من كنز قلبه الصالح أخرج الصالحات (مت 12: 35)، وكان كربِّ بيتٍ يُخرج من كنزه جدداً وعتقاء (مت 13: 52). شبع قلبه من كلمة الله فأراد أن يُشبع الآخرين، وكل من يفرِّق يزداد (أم 11: 24). ذهب المرنم ينادي بأحكام الرب، لأنه أدرك مسؤولية القول: «أنتم نور العالم.. لا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت» (مت 5: 14، 15).
(ج) فرح بالكلمة: «بطريق شهاداتك فرحتُ كما على كل الغِنى. بوصاياك ألهج وألاحظ سبلك. بفرائضك أتلذَّذ، لا أنسى كلامك» (آيات 14-16). في هذه الآيات الثلاث خمسة أفعال جديرة بالتأمل: فرحتُ، ألهج، ألاحظ، أتلذَّذ، لا أنسى. وليس سرورٌ أعظم من معرفة كلمة الله والعمل بها. وكلما كملت الطاعة تعاظم الفرح. والذي يريد أن يتمتع بأيام السماء على الأرض يجعل سروره بطاعة وصايا الله، فالابتهاج بالكلمة دليل على أنها عملت في القلب، وطهَّرت الحياة.. وشهادات الرب أعظم من كل غِنى الأرض، وقد تلذَّذ المرنم بالكلمة أكثر من تلذُّذ الأغنياء بثرواتهم. كان داود ملكاً وغنياً، آلت إليه ثروات الشعوب كمكاسب حرب، لكنه لم يضع قلبه عليها بل كرَّسها لبناء بيت الرب. يفرح أهل العالم بغنى العالم، لكن ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ (مت 16: 26). ومتى كان لأحدٍ كثير فليست حياته من أمواله (لو 12: 15).
ومن فرط سعادة المرنم بالكلمة لهج بها وكررها، ثم لاحظها، أي ربط بين ما يردِّده بفمه والحياة التي يحياها. واللهج في كلمة الله هو الطريق إلى التقوى العملية، وكل من يختبر نعمة اللهج يستمر فيه، ويطيع الوصية: «لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهاراً وليلاً، لكي تتحفَّظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه» (يش 1: 8).

ثالثاً – المرنم يطلب معرفة الكلمة
(آيات 17-24)
1- معرفة الكلمة إحسان من الله: (آيتا 17، 18).
(أ) لأنها محيية: «أحسِن إلى عبدك فأحيا وأحفظ أمرك» (آية 17). الحياة الجسدية والروحية إحسان من الرب، فلا يمكن أن نعرف الله معرفةً محيية إلا عندما نقبل كلمته، وهذا إنعامٍ منه علينا. ويعترف المرنم أنه مجرد عبد، لا حقَّ له أن يطلب شيئاً، وليس له أي استحقاق في ذاته، فاعتمد على نعمة الله وطلب رحمته الكثيرة، و«الله الذي هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المسيح. بالنعمة أنتم مُخلَّصون» (أف 2: 4، 5). ومن إحسان الله علينا أنه يقبل أن نصرف الحياة في خدمته، وشعارنا: «مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ» (غل 2: 20).
(ب) لأنها عجيبة: «اكشف عن عينيَّ فأرى عجائب من شريعتك» (آية 18). حياتنا الطبيعية تغشاها الظلمة الروحية، ولا يمكن للبصيرة العادية أن تفهم أسرار الإعلان الإلهي، فطلب المرنم من الرب أن يكشف عن عينيه ليرى عجائب الشريعة، كما صلى أليشع من أجل غلامه: «يا رب افتح عينيه فيبصر. ففتح الرب عيني الغلام، فأبصر، وإذا الجبل مملوء خيلاً ومركبات نار حول أليشع» (2مل 6: 17) فأدرك الغلام أن الذين معهم أكثر من الذين عليهم. وإن كان المرنم قد رأى في الناموس عجائب، فكم يكون في الإنجيل! «كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح، أبو المجد، روح الحكمة والإعلان في معرفته. مستنيرةً عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين» (أف 1: 17، 18). وهذا ما فعله المسيح مع تلميذي عمواس لما «فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» (لو 24: 45). أما البعيدون عن إحسان الرب فقد «أُغلظت أذهانهم، لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باقٍ غير منكشف، الذي يُبطَل في المسيح. لكن حتى اليوم حين يُقرأ (ناموس) موسى البرقع موضوع على قلبهم. ولكن عندما يرجع إلى الرب يُرفَع البرقع» (2كو 3: 14-16). ونحن نحتاج إلى بصيرة روحية لنرى كل ما ذخره الرب لنا في كلمته وأعماله.
2- المرنم يحتاج للمعرفة: (آيات 19-24).
(أ) لأنه غريب: «غريبٌ أنا في الأرض، لا تُخْفِِ عني وصاياك» (آية 19). أدرك المرنم أنه غريب في هذه الدنيا التي يحكمها إبليس، رئيس هذا العالم (يو 14: 30 و16: 11)، ودستورها شيطاني، لأن «إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح، الذي هو صورة الله» (2كو 4: 4). ويرى المرنم أنه غريب لأن مبادئه مختلفة عن مبادئ مَن هم حوله. ويعترف كل شعب الرب أنهم غرباء، لأن السماء موطنهم، وليس العالم إلا مكان سياحتهم، وهم في احتياج إلى مرشد ورفيق ومعزٍّ حتى ينتهي زمان غربتهم. ويشبه الأتقياء مسيحهم الذي كان غريباً في عالمنا، وقال: «مملكتي ليست من هذا العالم.. ولكن الآن ليست مملكتي من هنا» (يو 18: 36).
(ب) لأنه مشتاق للمعرفة: «انسحقَت نفسي شوقاً إلى أحكامك في كل حين» (آية 20). انسحقت من شدة شوقه ليعرف أحكام الله في ما يختلف فيه الناس، فكلمة الله هي الحكَم الذي يحسم كل خلاف، ومنها يعرف المؤمن مشيئة الله، ويميِّز الأمور المتخالفة، متعلِّماً من الناموس (رو 2: 18). وعبَّر المرنم عن أشواقه لأنه كان دائماً يحيد عن الشر، ولا يعرج بين فرقتين، ولا يخدم سيدين.
(ج) لأنه محاطٌ بالأشرار: «انتهرْتَ المتكبرين الملاعين الضالين عن وصاياك. دَحْرِج عني العار والإهانة لأني حفظت شهاداتك. جلس أيضاً رؤساء تقاولوا عليَّ، أما عبدك فيناجي بفرائضك. أيضاً شهاداتك هي لذَّتي أهل مشورتي» (آيات 21-24). يرى المرنم المنطق الخاطئ للعالم والأشرار، ومع ذلك يرى نجاحهم فينزعج «رأيت الشرير عاتياً وارفاً مثل شجرة شارقة ناضرة» (مز 37: 35). إنهم يتعظمون على الله ويعملون ضد إرادته «وقالوا: كيف يعلم الله؟ وهل عند العلي معرفة؟» (مز 73: 11). ولكن المرنم يعرف أن «مكرهة الرب كل متشامخ القلب» (أم 16: 5) ويقول: «مخافة الرب بُغْضُ الشرِّ. الكبرياء والتعظم وطريق الشر وفم الأكاذيب أبغضتُ» (أم 8: 13)، ويطلب من الرب أن لا يجعل المعاشرات الرديئة تفسد أخلاقه الجيدة (1كو 15: 33)، ويطلب أن يرفع عنه العار والازدراء. لقد عيَّره أعداؤه وأهانوه لأنه حفظ شهادات الرب، فاحتمل العار لأجل الرب قائلاً: «إننا مِن أجلك ُنمات كل النهار. قد حُسبنا مثل غنمٍ للذبح» (رو 8: 36). فاختبر كيف «أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتَّضعين» (لو 1: 52).. وكلما تعرَّضنا للتعيير نجد تعزيتنا في مخلّصنا الذي تجرَّب وتألم قبلنا، ونجده قادراً أن يعين المجرَّبين (عب 2: 18)، فهو يُسكت شفاه الكذب، ويقيم المسكين من التراب، ويعطينا نعمة لنحتمل الافتراءات، ونثق أنه سيدافع عنا في الوقت المناسب «ويُخرِج كالنور برَّك، وحقَّك مثل الظهيرة» (مز 37: 6).. ولكن من المؤسف أن بعض الاتهامات الموجَّهة ضدَّنا قد تكون صحيحة. عندها نحتاج أن نسمع النصيحة: «أي مجدٍ إن كنتُم تُلطَمون مخطئين فتصبرون؟ بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضلٌ عند الله» (1بط 2: 20).
وفي كل هذا كانت شهادات الرب هي لذَّته، أهل مشورتي، فقد أحبَّ شهادات الرب الحكيمة التي تمدُّه بالمشورة وقت الحيرة وهو في مفترَق الطرق، ووسط الخوف والقلق، وفي زمن الاحتياج. «وهذا أصلّيه أن تزداد محبتكم أيضاً أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم، حتى تميِّزوا الأمور المتخالفة، لكي تكونوا مُخْلصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح، ومملوئين من ثمر البر الذي بيسوع المسيح، لمجد الله وحمده» (في 1: 9-11).

رابعاً – المرنم يطلب الحق
(آيات 25-32)
1- لأنه مضطهَد: «لصِقت بالتراب نفسي فأَحْيِني حسب كلمتك» (آية 25). يصوِّر المرنم نفسه ساقطاً على الأرض عاجزاً عن القيام، وهو يريد أن يعرف السبب: هل هو فساده الطبيعي الذي يجعله كلما أراد أن يفعل الحسنى وجد الشر حاضراً عنده؟ (رو 7: 18)، أم هل هي المضايقات من خارجه ومن داخله؟.. إنه يعلم أن نفس الإنسان تسكن بيتاً من تراب، وبسبب سقوطها تلتصق بالتراب، فيعترف بعجزه ويطلب من الله أن يحييه، ويقول: «يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك. ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي» (يو 6: 68، 69). إن في كلمة الله قوة تمنحنا الحياة، إن طلبناها، فنسلك قدام الرب في أرض الأحياء (مز 116: 9)، ونكون «مولودين ثانيةً، لا من زرعٍ يفنى، بل مما لا يفنى، بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد» (1بط 1: 23). فلتكن صلاتنا: «ألا تعود أنت فتحيينا فيفرح بك شعبك؟ أَرنا يا ربُّ رحمتك، وأعطنا خلاصك» (مز 85: 6).
2- لأنه يحب الوصايا: «قد صرَّحتُ بطرقي فاستجب لي، علِّمني فرائضك. طريق وصاياك فهِّمني فأناجي بعجائبك» (آيتا 26، 27). يصرِّح المرنم للرب بطرقه، ويعترف له، ويشكو من متاعبه، ويطلب أن يتعلم الفرائض فيناجي بمعجزات العناية العجيبة، ويقول: «الله لنا ملجأ وقوة. عوناً في الضيقات وُجد شديداً» (مز 46: 1).. إن كنا حزانى يعزينا، أو ضعفاء يقوينا، أو حيارى يهدينا. «لنتقدَّم بثقة إلى عرش النعمة، لكي ننال رحمة ونجد نعمة، عوناً في حينه» (عب 4: 16). وكل من يطلب أن يفهم وصايا الرب يقول له: «أعلّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك» (مز 32: 8). «لي المشورة والرأي. أنا الفهم. لي القدرة» (أم 8: 14). لقد قال الله لشعبه القديم: «هذه هي الطريق» (إش 30: 21) وقال المسيح لنا: «أنا هو الطريق» (يو 14: 6). فلنطلب أن يفهِّمنا لأنه معلمنا الذي قال: «إن شاء أحدٌ أن يعمل مشيئته يعرف التعليم» (يو 17: 7). وحين نعرف ونفهم ننقل للآخرين ما تعلمناه، فنقول: «أعطاني السيد الرب لسان المتعلمين لأعرف أن أغيث المعيي بكلمة» (إش 50: 4) فنتبارك نحن ويتبارك شعبنا.
3- لأنه يكره الكذب: «قطَرت نفسي من الحزن، أقِمني حسب كلامك. طريق الكذب أبعِد عني، وبشريعتك ارحمني» (آيتا 28، 29). تذوب النفس التائبة حزناً على خطاياها، فتسكب تضرعاتها أمام الله. وتذوب النفس المضطهَدة حزناً من افتراءات الكاذبين، فالعالم موضوع في الشرير، يقوده الكذاب وأبو الكذاب (يو 8: 44). وطريق الكذب هو طريق الخطية والضلال، وحياة الخطية كذبة من أولها إلى آخرها. لقد ذابت نفس المرنم لهذين السببين حتى تحوَّلت إلى دموع منسكبة أمام الله، كما قال أيوب: «لله تقطر عيني» (أي 16: 20). وكثيراً ما تثقَّلت نفوسنا بالأحزان حتى أحسسنا أننا نُسكَب سكيباً، لكن من الخير لنا أن نذوب حزناً من أن تتقسى قلوبنا بعدم التوبة، فلنكن من عابري وادي البكاء الذين يصيِّرونه ينبوعاً (مز 84: 6)، الذين في شدة حزنهم يطلبون نعمةً من الله حتى يقدروا أن يحتملوا الأحزان دون أن يخوروا، فيسمعون الوعد: «كأيامك قوتك» (تث 33: 25)، ويهتفون:«»حوَّلت نَوْحي إلى رقصٍ لي. حللتَ مِسْحي ومنطقتني فَرَحاً» (مز 30: 11). فما أعظم رحمة الله الذي أعطانا شريعته التي تحفظنا من الضلال ومن طريق الكذب. «إن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض، ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية» (1يو 1: 7).
4- لأنه يحب الحق: «اخترتُ طريق الحق، جعلتُ أحكامك قدامي. لصقْتُ بشهاداتك. يا ربُّ لا تُخْزني. في طريق وصاياك أجري لأنك ترحِّب قلبي» (آيات 30-32). الأفعال الموجودة في هذه الآيات الثلاث هي: «اخترتُ» أي أخذتُ قراراً أن أبغض طريق الكذب وأن أحب طريق الحق، فلا خير في مؤمن يعرج بين الفرقتين، ويخدم سيدين. والذين يختارون طريق الحق هم الذين سبق الله فعرفهم، وسبق فعيَّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه، فدعاهم وبرَّرهم، ولا بد يمجِّدهم. ثم يقول: «لصِقْتُ» أي اتَّحدت بما قررتُه ولن أتركه. والذي يلتصق بكلمة الله يثق ويؤمن أن يكون مقبولاً عنده. لقد بدأ المرنم هذا الجزء من المزمور بقوله: «لصقَتْ بالتراب نفسي» وأحياه الله حسب كلمته، فقال: «لصقْتُ بشهاداتك»، وأَتبَعها بالقول: «يا ربُّ، لا تُخْزني» فعظُم انتصاره بمن أحبه. بعدها يقول «في طريق وصاياك أجري» من العالم إليك. «هكذا اركضوا لكي تنالوا، وكل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء» (1كو 9: 24). ونتيجة استجابة الرب لرغبات المرنم الثلاث :اخترتُ، لصقتُ، أجري، رحَّب الله له، فقال: «لأنك ترحِّب قلبي» فيتَّسع لكلمة الله التي هي «واسعة جداً» (مز 119: 96). ويرحِّب الله قلوب شعبه بعمل الروح القدس فيهم، ويعطيهم الحكمة السماوية، فيقولون: «عند دعائي استجِب لي، يا إله بري. في الضيق رحَّبت لي. تراءف عليَّ واسمع صلاتي» (مز 4: 1). وعندما يسكب الرب محبته في قلوبنا فإن كل ما نفعله تفعله نعمة الله العاملة فينا، فنصير مثل موسى الذي فضَّل «أن يُذلَّ مع شعب الله على أن يكون له تمتُّع وقتي بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة» (عب 11: 25، 26). ونصير مثل بولس الذي قال: «أسعى، لعلي أدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع.. أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت، ولكني أفعل شيئاً واحداً، إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتدّ إلى ما هو قدام. أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع» (في 3: 12-14). لقد التصق المرنم بكلمة الرب، فرحَّب له، وعندما استراح من متاعبه استخدم قواه فيما هو أفضل.

الجزء الثاني
الرب إله العطاء
(آيات 33-80)
هـ
33عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَ فَرَائِضِكَ، فَأَحْفَظَهَا إِلَى النِّهَايَةِ. 34فَهِّمْنِي فَأُلاَحِظَ شَرِيعَتَكَ وَأَحْفَظَهَا بِكُلِّ قَلْبِي. 35دَرِّبْنِي فِي سَبِيلِ وَصَايَاكَ، لأَنِّي بِهِ سُرِرْتُ. 36أَمِلْ قَلْبِي إِلَى شَهَادَاتِكَ لاَ إِلَى الْمَكْسَبِ. 37حَوِّلْ عَيْنَيَّ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْبَاطِلِ. فِي طَرِيقِكَ أَحْيِنِي. 38أَقِمْ لِعَبْدِكَ قَوْلَكَ الَّذِي لِمُتَّقِيكَ. 39أَزِلْ عَارِي الَّذِي حَذِرْتُ مِنْهُ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ طَيِّبَةٌ. 40هَئَنَذَا قَدِ اشْتَهَيْتُ وَصَايَاكَ. بِعَدْلِكَ أَحْيِنِي.
و
41 لِتَأْتِنِي رَحْمَتُكَ يَا رَبُّ، خَلاَصُكَ حَسَبَ قَوْلِكَ، 42فَأُجَاوِبَ مُعَيِّرِي كَلِمَةً، لأَنِّي اتَّكَلْتُ عَلَى كَلاَمِكَ. 43وَلاَ تَنْزِعْ مِنْ فَمِي كَلاَمَ الْحَقِّ كُلَّ النَّزْعِ لأَنِّي انْتَظَرْتُ أَحْكَامَكَ. 44فَأَحْفَظَ شَرِيعَتَكَ دَائِماً إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ، 45وَأَتَمَشَّى فِي رُحْبٍ لأَنِّي طَلَبْتُ وَصَايَاكَ، 46وَأَتَكَلَّمُ بِشَهَادَاتِكَ قُدَّامَ مُلُوكٍ وَلاَ أَخْزَى، 47وَأَتَلَذَّذُ بِوَصَايَاكَ الَّتِي أَحْبَبْتُ، 48وَأَرْفَعُ يَدَيَّ إِلَى وَصَايَاكَ الَّتِي وَدِدْتُ، وَأُنَاجِي بِفَرَائِضِكَ.

ز
49اُذْكُرْ لِعَبْدِكَ الْقَوْلَ الَّذِي جَعَلْتَنِي أَنْتَظِرُهُ. 50هَذِهِ هِيَ تَعْزِيَتِي فِي مَذَلَّتِي، لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي. 51الْمُتَكَبِّرُونَ اسْتَهْزَأُوا بِي إِلَى الْغَايَةِ. عَنْ شَرِيعَتِكَ لَمْ أَمِلْ. 52تَذَكَّرْتُ أَحْكَامَكَ مُنْذُ الدَّهْرِ يَا رَبُّ، فَتَعَزَّيْتُ. 53الْحَمِيَّةُ أَخَذَتْنِي بِسَبَبِ الأَشْرَارِ تَارِكِي شَرِيعَتِكَ. 54تَرْنِيمَاتٍ صَارَتْ لِي فَرَائِضُكَ فِي بَيْتِ غُرْبَتِي. 55ذَكَرْتُ فِي اللَّيْلِ اسْمَكَ يَا رَبُّ، وَحَفِظْتُ شَرِيعَتَكَ. 56هَذَا صَارَ لِي، لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ.

ح
57 نَصِيبِي الرَّبُّ قُلْتُ لِحِفْظِ كَلاَمِكَ. 58تَرَضَّيْتُ وَجْهَكَ بِكُلِّ قَلْبِي. ارْحَمْنِي حَسَبَ قَوْلِكَ. 59تَفَكَّرْتُ فِي طُرُقِي، وَرَدَدْتُ قَدَمَيَّ إِلَى شَهَادَاتِكَ. 60أَسْرَعْتُ وَلَمْ أَتَوَانَ لِحِفْظِ وَصَايَاكَ. 61حِبَالُ الأَشْرَارِ الْتَفَّتْ عَلَيَّ، أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. 62فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ أَقُومُ لأَحْمَدَكَ عَلَى أَحْكَامِ بِرِّكَ. 63رَفِيقٌ أَنَا لِكُلِّ الَّذِينَ يَتَّقُونَكَ، وَلِحَافِظِي وَصَايَاكَ. 64رَحْمَتُكَ يَا رَبُّ قَدْ مَلأَتِ الأَرْضَ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ.

ط
65 خَيْراً صَنَعْتَ مَعَ عَبْدِكَ يَا رَبُّ حَسَبَ كَلاَمِكَ. 66ذَوْقاً صَالِحاً وَمَعْرِفَةً عَلِّمْنِي، لأَنِّي بِوَصَايَاكَ آمَنْتُ. 67قَبْلَ أَنْ أُذَلَّلَ أَنَا ضَلَلْتُ، أَمَّا الآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ. 68صَالِحٌ أَنْتَ وَمُحْسِنٌ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. 69الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ لَفَّقُوا عَلَيَّ كَذِباً، أَمَّا أَنَا فَبِكُلِّ قَلْبِي أَحْفَظُ وَصَايَاكَ. 70سَمِنَ مِثْلَ الشَّحْمِ قَلْبُهُمْ، أَمَّا أَنَا فَبِشَرِيعَتِكَ أَتَلَذَّذُ. 71خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ. 72شَرِيعَةُ فَمِكَ خَيْرٌ لِي مِنْ أُلُوفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ.

ي
73 يَدَاكَ صَنَعَتَانِي وَأَنْشَأَتَانِي. فَهِّمْنِي فَأَتَعَلَّمَ وَصَايَاكَ. 74مُتَّقُوكَ يَرُونَنِي فَيَفْرَحُونَ، لأَنِّي انْتَظَرْتُ كَلاَمَكَ. 75قَدْ عَلِمْتُ يَا رَبُّ أَنَّ أَحْكَامَكَ عَدْلٌ، وَبِالْحَقِّ أَذْلَلْتَنِي. 76فَلْتَصِرْ رَحْمَتُكَ لِتَعْزِيَتِي حَسَبَ قَوْلِكَ لِعَبْدِكَ. 77لِتَأْتِنِي مَرَاحِمُكَ فَأَحْيَا، لأَنَّ شَرِيعَتَكَ هِيَ لَذَّتِي. 78لِيَخْزَ الْمُتَكَبِّرُونَ لأَنَّهُمْ زُوراً افْتَرُوا عَلَيَّ. أَمَّا أَنَا فَأُنَاجِي بِوَصَايَاكَ. 79لِيَرْجِعْ إِلَيَّ مُتَّقُوكَ وَعَارِفُو شَهَادَاتِكَ. 80لِيَكُنْ قَلْبِي كَامِلاً فِي فَرَائِضِكَ لِكَيْ لاَ أَخْزَى.

في هذا الجزء نجد:
أولاً – احتياجات المرنم (آيات 33-48)
ثانياً – المشجِّعات على الطلب (آيات 49-64)
ثالثاً – الشكر على الاستجابة (آيات 65-80)

أولاً – احتياجات المرنم
(آيات 33-48)
1- الحاجة إلى المعرفة: (آيات 33-35).
(أ) علِّمني فأحفظ: «علِّمني يا رب طريق فرائضك فأحفظها إلى النهاية» (آية 33). يعلن المرنم أن حاجته الأولى هي إلى المعرفة والتعلُّم، والمعرفة معلومة تدخل عقولنا، أما التعلم فهو الخضوع بوداعة لتطبيق ما تعلمناه في الحياة اليومية «الرب صالح ومستقيم. لذلك يعلم الخطاة الطريق.. ويعلم الودعاء طرقه» (مز 25: 8، 9). ويطلب المرنم من الله أن يعلِّمه طريقاً يسير فيه إلى نهايته، وإلى نهاية حياته، حيث يحصل على الجزاء السماوي، فإن «في حفظها ثواب عظيم» (مز 19: 11). أراد المرنم أن يعرف طريق القداسة العملية، فأشبع الرب فيه هذه الرغبة القلبية، لأنه يستجيب، وقد أحبنا إلى المنتهى، ولا حدود لعمل نعمته الفاعلة دائماً في المؤمن ليكمل القداسة في خوف الله. «الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً يكمل إلى يوم يسوع المسيح» (في 1: 6) لأنه «هوذا الله يتعالى بقدرته، ومن مثله معلماً؟» (أي 36: 22).
(ب) فهِّمني فألاحظ: «فهِّمني فألاحظ شريعتك وأحفظها بكل قلبي» (آية 34). بعدما تعلم، طلب أن يفهم لأن «كون النفس بلا معرفة ليس حسناً» (أم 19: 2). وحين بدأ في تطبيق ما تعلمه اصطدم بمقاومة الأشرار الذين وضعوا العراقيل في طريقه، فطلب ذهناً مستنيراً وفهماً مقدساً، لأن روح الحكمة والإعلان في معرفة المكتوب تفهمنا كل شيء، فإن «ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق» (1يو 5: 20). ومن المؤسف أن هناك فهماء في أعين أنفسهم فلا يطلبون الفهم السماوي «وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء» (رو 1: 22). فلنطلب الفهم السماوي، لأن «الحكمة هي الرأس. فاقتنِ الحكمة، وبكل مقتناك اقتن الفهم» (أم 4: 7) فتلاحظ شريعته وتتمسك بها بكل قلبك «لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً» (مت 6: 21).
(ج) درِّبني فأُسرَّ: «درِّبني في سبيل وصاياك لأني به سُررت» (آية 35). يطلب المرنم التدريب السماوي لتخضع إرادته للرب، لأن الله هو العامل فيه أن يريد وأن يعمل من أجل المسرة (في 2: 13). والتدريب هو التعلم من التجربة والخطأ فنعرف الصواب، ونطيع الكلمة بالرغم من المقاومة، ونتمسك بها بسرور لأن المعونة السماوية تأتينا من عند الرب. وحتى إن سقطنا نقوم لأن الرب يمسك يدنا (مز 37: 24) «لأن الصدِّيق يسقط سبع مرات، ويقوم» (أم 24: 16)، ويتحقق له ما تحقق مع سليمان عندما قال الرب له: «سألت لنفسك تمييزاً لتفهم الحكم، هوذا قد فعلتُ حسب كلامك. هوذا أعطيتك قلباً حكيماً ومميزاً» (1مل 3: 11، 12).. طلب المرنم التدريب ليسير في سبيل وصايا الله الذي سار فيه كل عبيد الرب الأمناء، كما قال داود: «ها قد سُررتَ بالحق في الباطن، ففي السريرة تعرفني حكمة» (مز 51: 6).
2- الحاجة إلى التقديس: (آيتا 36، 37).
(أ) محبة الكلمة: «أَمِل قلبي إلى شهاداتك، لا إلى المكسب» (آية 36). في سبيل الوصول إلى الحياة المقدسة طلب المرنم أن يُميل الله قلبه إلى شهاداته، لا إلى المكسب الحرام، فيكون «السالك بالحق، والمتكلم بالاستقامة، الراذل مكسب المظالم، النافض يديه من قبض الرشوة» (إش 33: 15). وطلب أن يحفظه الرب من الطمع الذي يُبعد القلب عن شهادات الرب، فيطيع وصية المسيح: «انظروا وتحفَّظوا من الطمع» (لو 12: 15)، فإن محبة المال أصل لكل الشرور. ومن يريد أن يميل قلبه إلى محبة الله وكلمته يجب أن يتخلَّص من محبة العالم التي هي عداوة لله (يع 4: 4).
(ب) الهروب من الباطل: «حوِّل عينيَّ عن النظر إلى الباطل. في طريقك أحيني» (آية 37). الذي يحب الكلمة يهرب من الباطل إلى المقدس. وليصل المرنم إلى حياة القداسة طلب من الله أن يحول نظره عن الباطل الفاني غير الحقيقي، لأنه يريد أن يسلك في طريق مستقيم، فيقاوم تجارب إبليس الذي يعوج الطريق، ويطيع الوصية: «لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب. لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة. ليس من الآب بل من العالم. والعالم يمضي وشهوته. وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد» (1يو 2: 15-17). وفي تحويل النظر عن الباطل وتثبيته في طريق الرب يملك الرب على الحياة، فيفعل المؤمن الحسنى.
3- الحاجة إلى تحقيق الوعود: (آيات 38-40).
(أ) الوعود أقوال الله: «أقِم لعبدك قولك الذي لمتَّقيك» (آية 38). وعد الرب أتقياءه ببركات روحية ومادية، فإن هم طلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه يزيد لهم كل شيء (مت 6: 33). وفي هذه الطلبة يسأل المرنم الرب أن يحقق له وعوده الصادقة والأمينة (رؤ 21: 5) فيقول: «مبارك الرب الذي أعطى راحة لشعبه حسب كل ما تكلم به، ولم تسقط كلمة واحدة من كل كلامه الصالح» (1مل 8: 56).
(ب) الوعود طيبة: «أَزِل عاري الذي حذِرتُ منه لأن أحكامك طيبة. هأنذا قد اشتهيت وصاياك، بعدلك أحيني» (آيتا 39، 40). وعود الله لا بد أن تتحقق لأن قائلها هو الله، ولا بد أن تزيل عار المرنم الذي عيَّره به أعداؤه لأنه أطاع الله، فيقول: «مِن كل معاصيَّ نجني. لا تجعلني عاراً عند الجاهل» (مز 39: 8). وهناك تعيير يأتي على المؤمن لأنه أخطأ، وهذا التعيير يجلب الإهانة لله وللمؤمن. لكن إن كان التعيير بسبب طاعة الله وإتمام مشيئته فطوبى لصاحبه، كما قال المسيح: «طوبى لكم إذا عيَّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة، من أجلي، كاذبين» (مت 5: 11)، وكما قيل: «إن عُيِّرتم باسم المسيح فطوبى لكم، لأن روح المجد والله يحل عليكم» (1بط 4: 14). ويشتهي المرنم الوعود الإلهية الصالحة الطيبة، ويثق في العدالة الإلهية المنصفة، التي تجعله لا يهتم بأحكام الناس عليه، بل بأحكام الرب.

4- الحاجة إلى الرحمة: (آيات 41-48).
(أ) الرحمة تخلِّص: «لتأتني رحمتُك يا رب، خلاصُك حسب قولك» (آية 41). تخلِّص الرحمة الإلهية التي وعدنا الرب بها من الخطايا، ومن الضيق، ومن الأعداء، ومن العوز. ويضرع الخاطئ: «ارحمني يا الله حسب رحمتك. حسب كثرة رأفتك اُمح معاصيَّ» (مز 51: 1). «اللهم ارحمني أنا الخاطي» (لو 18: 13). ويؤسس المرنم طلبه على إيمانه الواثق في كفاية رحمة الله التي هي أفضل من الحياة (مز 63: 3). وحين تدركنا الرحمة يأتينا معها الخلاص حسب قوله: «قلتَ اطلبوا وجهي. وجهك يا رب أطلب» (مز 27: 8). والمرنم يعرف أن خلاصه الحاضر عربون للخلاص الأبدي «هوذا الله خلاصي فأطمئن» (إش 12: 2) وهو نابع من رحمة الله وليس من أي استحقاق فينا «بالنعمة أنتم مُخلَّصون» (أف 2: 5). وبالإيمان ننال المواعيد كما آمن إبراهيم حسب الرجاء «فحُسب له براً» (تك 15: 6).
(ب) الرحمة تجاوب المعيِّر: «فأجاوب معيريَّ كلمة، لأني اتكلت على كلامك. ولا تنزع من فمي كلام الحق كل النزع، لأني انتظرت أحكامك، فأحفظ شريعتك دائماً إلى الدهر والأبد» (آيات 42-44). عندما تدركنا رحمة الله تنقذنا، فنجاوب المعيِّرين الذين طالما قالوا: «ليس له خلاص بإلهه» (مز 3: 2). فنقول لهم: بل مواعيد الله صادقة وأمينة، نعتمد عليها كصخرة منيعة ثابتة، فإن الله هو «القادر أن يحفظكم غير عاثرين، ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الابتهاج، الإله الحكيم الوحيد، مخلصنا. له المجد والعظمة والقدرة والسلطان» (يه 24).
وفي تواضع يطلب المرنم من الله أن لا ينزع من فمه كلام الحق، لأنه ينتظر أحكامه، فلا يقول إلا الحق، وينطق بكلمة الحق في أوانها لأجل مجد الله، ويكون مستعداً أن يجاوب كل من يسأله عن سبب الرجاء الذي فيه (1بط 3: 15). وهذا يؤدي به إلى حفظ كلمة الله إلى نهاية الحياة، وإلى الأبد، فيكون إنسان الله الكامل المتأهب لكل عمل صالح (2تي 3: 17). ومع أن المؤمن يمر بلحظات ضعف أمام مقاومة الشرير، إلا أنه يدرك ضعفه، فيطلب أن يحفظ شريعة الرب إلى نهاية الحياة، مهما كانت تعييرات المعيِّر.
(ج) الرحمة تجعلنا نشهد: «وأتمشَّى في رحب لأني طلبت وصاياك، وأتكلم بشهاداتك قدام ملوك ولا أخزى» (آيتا 45، 46). رحمة الله توسع لنا وتقودنا إلى الرحب، أي إلى الأرض المتسعة حيث لا خوف ولا اضطهاد، فنتمشى في رحب بلا خوف، لأن الرب يمنحنا الطمأنينة. ليس المؤمن أسير خطاياه لأنه بالنعمة يتحرر من كل خطية، فيفعل الخير لا كرهاً بل طوعاً. وعندما يأتي ضيق من داخل نفس المؤمن كالخوف، أو الشك، أو القلق من المستقبل، أو يأتي من خارجه من تعيير واضطهاد، فإنه يعتمد على إلهه، ويطيع وصاياه، فيختبر الرحب لأنه أحب الوصية، فيتكلم بشهادات الرب قدام ولاة وملوك ولا يخزى، لأن رحبه يشهد أن إلهه حي، كما شهد النبي إيليا أمام الملك أخآب (1مل 18: 41-46)، وكما شهد الفتية الثلاثة أمام ملك بابل (دا 3)، وكما شهد الرسول بولس أمام الواليين فيلكس وفستوس (أع 24)، وأمام الملك أغريباس (أع 26)، وهو القائل: «لأني لستُ أستحي بإنجيل المسيح، لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن» (رو 1: 16).
(د) الرحمة تلذِّذ وتدفع للتعبُّد: «وأتلذذ بوصاياك التي أحببتُ، وأرفع يديَّ إلى وصاياك التي وددت، وأناجي بفرائضك» (آيتا 47، 48). حيث يكون كنزنا هناك يكون قلبنا. وكل من يحب كلمة الله يتلذَّذ بسماعها وتلاوتها والتحدُّث بها. ويتلذذ المؤمن عندما ينتصر على الخوف والشك، فلا تدخل تهديدات العدو إلى داخل نفسه، فيثق ويثبت في كلام الله ووعوده التي تحققت معه «أحكام الرب حق عادلة كلها. أشهى من الذهب والإبريز الكثير وأحلى من العسل وقطر الشهاد» (مز 19: 9، 10). فيرفع يديه إلى وصايا الله العامرة بالمواعيد التي يحبها ويناجي بها. ورفع اليدين معناه الصلاة من مستغيث يقول: «أستغيث بك وأرفع يديَّ إلى محراب قدسك» (مز 28: 2)، كما رفع موسى يديه فانتصر شعبه (خروج 17: 8-13). ورفع اليدين معناه ابتعادهما عن العالم وانشغالهما بما هو فوق حيث المسيح جالس (كو 3: 1). ومعناه الصلاة بلجاجة كما فعل عزرا (عز 9: 5). ومعناه الثقة في أنه سيتلقَّى المعونة والعطاء «معونتي من عند الرب صانع السماوات والأرض» (مز 121: 2) «هوذا كما أن عيون العبيد نحو أيدي سادتهم، كما أن عيني الجارية نحو يد سيدتها، هكذا عيوننا نحو الرب إلهنا حتى يترأف علينا» (مز 123: 2).

ثانياً – المشجِّعات على الطلب
(آيات 49-64)
1- وعود الرب: «اذكُر لعبدك القول الذي جعلتني أنتظره. هذه هي تعزيتي في مذلتي، لأن قولك أحياني» (آيتا 49، 50). كانت مواعيد الرب المشجع الأول للمرنم ليطلب من إله العطاء، فطالب الرب أن يذكر وعوده المشجعة التي جعلته أن ينتظر الرب الذي قال: «ادعُني في يوم الضيق، أنقذك فتمجدني» (مز 50: 15). فيقول مع داود: «أيها الرب، ليثبت إلى الأبد الكلام الذي تكلمت به عن عبدك وعن بيته، وافعل كما نطقت» (1أخ 17: 23). ويذكِّر المرنم الرب بوعوده الأمينة لأنها تعزيته في مذلته، ولأنها تمنحه الحياة الفضلى التي وعده بها، واثقاً أن الله يذكر ولا ينسى.
2- متاعب المرنم: «المتكبرون استهزأوا بي إلى الغاية. عن شريعتك لم أَمِلْ. تذكَّرتُ أحكامك منذ الدهر يا رب فتعزَّيت. الحَمِيَّة أخذتني بسبب الأشرار تاركي شريعتك» (آيات 51-53). شجعت المتاعب المرنم ودفعته ليشكو ويطلب الإنقاذ من شدة مضايقات المستهزئين به بسبب إيمانه. والمستهزئون هم أشرُّ أنواع الخطاة لأنهم يرفضون الكلمة ويسخرون من الذين يقبلونها، وعنهم قال المسيح: «لا تعطوا القُدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها، وتلتفت فتمزقكم» (مت 7: 6). تمسك المرنم بالشريعة التي رفضها المتكبرون المستهزئون، ولم يمل عنها بالرغم من استهزائهم، فامتلأت نفسه بالتعزية والراحة.. ولكن استهزاء المتكبرين بكلمة الله وبعبادته جعله يغضب غضباً مقدساً، فشعر كأن الحمى أصابته ورفعت درجة حرارته، كما شعر عزرا فقال: «اللهم إني أخجل وأخزى من أن أرفع يا إلهي وجهي نحوك، لأن ذنوبنا قد كثرت فوق رؤوسنا، وآثامنا تعاظمت إلى السماء» (عز 9: 6). ولا بد أن المرنم خاف على مصير المستهزئين وعلى مصير أولادهم، لأن الشر يؤذي الشرير ويؤذي المحيطين به.
3- غُربة المرنم: «ترنيمات صارت لي فرائضك في بيت غربتي. ذكرت في الليل اسمك يا رب وحفظت شريعتك. هذا صار لي لأني حفظت وصاياك» (آيات 54-56). كان المشجع الثالث للمرنم على الطلب من إله العطاء أنه غريب في الأرض مشغول بالسماء. جسده في الأرض، ولكن روحه مع الرب ومع كلمته التي سهر على تلاوتها. والشعور بالاغتراب عن العالم طبيعي في المؤمنين، فقد «قال يعقوب لفرعون: أيام سني غربتي مئة وثلاثون سنة. قليلة وردية» (تك 47: 9). وهم يحتاجون إلى فرح سماوي يعبِّرون عنه بترنيمات هي قصائد شعر تصاحبها الموسيقى، فيصير حفظها وترديدها أسهل وأسرع. وعندما يرنم المؤمن يذكر اسم الرب بكل صفاته، ويقول: «نحمدك يا الله نحمدك، واسمك قريب» (مز 75: 1). وفي ظلمة الليل وكآبة الأحزان يلجأ المؤمن لاسم الرب البرج الحصين ويتمنع (أم 18: 10). ويقول: «في منتصف الليل أقوم لأحمدك على أحكام برك» (مز 119: 62).
4- انتماء المرنم: «نصيبي الرب قلتُ لحفظ كلامك. ترضَّيت وجهك بكل قلبي. ارحمني حسب قولك. تفكَّرتُ في طرقي ورددتُ قدميَّ إلى شهاداتك. أسرعت ولم أتوان لحفظ وصاياك» (آيات 57-60). هذا سبب رابع شجع المرنم ليطلب من إله العطاء، فهو متأكد من انتمائه لله، لأن الرب هو نصيبه، فإن «الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها» (لو10: 42) وقال إرميا: «نصيبي هو الرب قالت نفسي» (مرا 3: 24). وكل من يجعل الرب نصيبه يصبح الرب موضوع بهجته، ويجعل وصاياه منهاج حياته الذي عزم أن يستمر فيه حتى النهاية، ويفضل كلمة الله على كل غنى العالم ومباهجه و«طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه» (لو 11: 28). وكل من ينتمي للرب يحبه ويحفظ كلامه ويطلب مرضاته ويبتغيها، ويقول: «لا أطلقك إن لم تباركني» (تك 32: 26)، ولا يكف عن طلب وجهه ورحمته، ويتفكَّر في طرقه فيفحص سلوكه باستمرار قائلاً: «انظُر إن كان فيَّ طريق باطل واهدني طريقاً أبدياً» (مز 139: 24). «لتكُن أقوال فمي وفكر قلبي مرضيَّة أمامك يا رب، صخرتي ووليي» (مز 19: 14). لقد وجد المرنم كنزه في وصايا الرب، فدفعه انتماؤه للصلاة والطلب من رب العطاء.
5- تمسُّك المرنم: «حبال الأشرار التفَّت عليَّ، أما شريعتك فلم أنسها. في منتصف الليل أقوم لأحمدك على أحكام برك. رفيقٌ أنا لكل الذين يتَّقونك ولحافظي وصاياك. رحمتك يا رب قد ملأت الأرض. علِّمني فرائضك» (آيات 61-64). لم يكن المرنم في وضع مريح، لأن حبال الأشرار التفَّت عليه مثل الفخ أو الشبكة التي ألقوها عليه لتكون مشنقة يخنقونه بها. إنهم يريدونه سجيناً أو ميتاً. ولكنه في هذه جميعها يؤكد أنه لم ينسَ شريعة الرب، بل تمسك بها، ولم يكف عن طلب وجه الرب والسلوك في طاعته، وشعاره: «الأشرار وضعوا لي فخاً، أما وصاياك فلم أضل عنها» (مز 119: 110). وفي منتصف الليل، بينما كان الناس نائمين استيقظ هو ليسجد على ركبتيه ليمجد الرب على أحكامه، لأنه كان واثقاً أنه سينصفه لأنه إله عادل. لم يهتم بأن يراه أحد، لكنه قدَّم شكره لأبيه السماوي الذي يرى في الخفاء ويجازيه علانية. ومثالنا في الصلاة هو المسيح الذي كان يقوم باكراً جداً للصلاة (مر 1: 35) ويقضي الليل كله في الصلاة (لو 6: 12).
وأدَّى تمسك المرنم بكلمة الله إلى تمسكه بالمؤمنين ووجد فيهم مسرته، كما قيل: «القديسون الذين في الأرض والأفاضل، كل مسرتي بهم» (مز 16: 3). وعندما يتمسك المؤمنون بكلمة الرب، ويحبون بعضهم بعضاً تمتلئ الأرض من رحمة الرب الذي «يحب البر والعدل. امتلأت الأرض من رحمة الرب» (مز 33: 5).

ثالثاً – الشكر على الاستجابة
(آيات 65-80)
1 – شكر على خير الرب: «خيراً صنعت مع عبدك يا رب حسب كلامك. ذوقاً صالحاً ومعرفةً علِّمني لأني بوصاياك آمنت. قبل أن أُذلل أنا ضللت، أما الآن فحفظت قولك» (آيات 65-67). يرفع المرنم شكره لأن الرب أعطاه خيراً، وكل ما يصنعه الرب مع عبيده هو للخير. المرض للخير. ابتعاد الأصدقاء للخير. الخسارة خير. «قولوا للصديق خير» (إش 3: 10). لا شك أن اختبار الضيق أليم، لكن إن كان الله معنا فمن علينا؟ (رو 8: 31). ولأن الله وهب المرنم خيراً يطلب منه حكمة ليستخدم هذا الخير ليقود إلى خير أكبر «لأن كل من له يُعطى فيزداد» (مت 25: 29). والحكمة هي الذوق الصالح، والقدرة على التمييز بين الخير والشر، وتعليم الآخرين أن يذوقوا وينظروا ما أطيب الرب (مز 34: 8)، لأن «كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر لأنه طفل. وأما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرُّن قد صارت لهم الحواس مدرَّبة على التمييز بين الخير والشر» (عب 5: 13، 14). فنطيع الوصية: «خذوا تأديبي لا الفضة، والمعرفة أكثر من الذهب المختار. لأن الحكمة خير من اللآلئ وكل الجواهر لا تساويها» (أم 8: 10، 11).
ويذكر المرنم اختباراً سابقاً، فقد ضلَّ عن الرب فأدَّبه، فقال: «أعترف للرب بذنبي وأنت رفعت آثام خطيتي» (مز 32: 5). وليس لدى الله أولاد لا يخطئون، ولكن كل أولاده يتوبون، ويقولون: «إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي. أحتمل غضب الرب لأني أخطأت إليه» (مي 7: 8، 9). ولا يجب أن ندين المخطئ، بل أن نصلي لأجله. «هو لمولاه يثبت أو يسقط. ولكنه سيُثبَّت، لأن الله قادر أن يثبته» (رو 14: 4).
2- شكر على صلاح الرب: «صالحٌ أنت ومحسن. علِّمني فرائضك. المتكبرون قد لفَّقوا عليَّ كذباً، أما أنا فبكل قلبي أحفظ وصاياك. سمن مثل الشحم قلبهم، أما أنا فبشريعتك أتلذذ. خيرٌ لي أني تذللت لكي أتعلم فرائضك. شريعة فمك خيرٌ لي من ألوف ذهب وفضة» (آيات 68-72). يكرر المرنم شكره لله إله العطاء لأنه صالح ومحسن. هو صالح في ذاته ومحسن لخلائقه. والصلاح في الإنسان صفة أو عطية، لكنه في الله جوهر، وليس أحدٌ صالحاً إلا واحد، وهو الله (مر 10: 18). وتشهد إحسانات الله بأنه صالح. «لم يترك نفسه بلا شاهد، وهو يفعل خيراً، يعطينا من السماء أمطاراً وأزمنة مثمرة، ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً» (أع 14: 17). قد يُحسن الإنسان إلى شخص يحبه، أما الله فيحسن إلى من لا يستحق. قال المسيح: «فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات. يهب خيرات للذين يسألونه» (مت 7: 11). لقد أحسن الآب السماوي إلى المرنم بأن أنعم عليه بالتبني (يو 1: 12)، ثم أعطاه كل ما يحتاج إليه (مز 23: 1)، فقرر أن يطيع الله بكل قلبه وأن يتلذَّذ بالأُنس به، رغم أنه محاطٌ بأشرار يختلقون الأكاذيب ضده، وهم متكبرون وكاذبون، يبدو كما لو أن قلوبهم مغلَّفة بطبقة من الشحم فلا تؤثر فيها الحقائق الروحية.
ويشكر المرنم الرب على متاعبه، لأنها جعلته يتمسك بالرب ويعتمد عليه أكثر مما فعل في الماضي، فيقول: «خيرٌ لي أني تذللت لكي أتعلم فرائضك». لقد رأى أن «الضيق ينشئ صبراً، والصبر تزكية» (رو 5: 3)، وعلم أن خفَّة ضيقته الوقتية تنشئ له أكثر فأكثر ثِقل مجد أبدياً (2كو 4: 17)، واعترف أن شريعة الله أفضل من كل الغِنى. وليس هناك عيب في امتلاك الذهب أو الفضة، ولكن الخطأ في أن تحتلَّ هذه مكان الشريعة في قلب الإنسان، أو في إن كان مصدرها حراماً.
3- شكر على أعمال الرب: «يداك صنعتاني وأنشأتاني. فهِّمني فأتعلَّم وصاياك. متَّقوك يرونني فيفرحون لأني انتظرت كلامك. قد علمت يا رب أن أحكامك عدل، وبالحق أذللتني» (آيات 73-75). يشكر المرنم ربَّه لأنه خلقه، كما قال أيوب: «يداك كوَّنتاني وصنعتاني كلي جميعاً» (أي 10: 8)، وكما قال المرنم: «لم تختفِ عنك عظامي حينما صُنعتُ في الخفاء ورُقمتْ في أعماق الأرض. رأت عيناك أعضائي، وفي سِفرِك كلها كُتبت يوم تصوَّرت إذ لم يكن واحد منها» (مز 139: 15، 16). قال موسى في نشيده، بعد كتابة التوراة: «أليس هو أباك ومقتنيك؟ هو عملك وأنشأك» (تث 32: 6).. ولما يسقط المؤمن في الخطية ويضل يُعيد الله خلقه إناءً جديداً كما يفعل الفخاري (إر 18).. بالولادة الأولى دخلنا عالم الجسد، والمولود من الجسد جسد هو. وبالولادة الثانية ندخل عالم الروح، لأن المولود من الروح هو روح «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10). وكثيراً ما يسمح الله بالذل والتعب للإنسان ليقرِّبه إليه، كما قال موسى لشعبه: «وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك.. لكي يذلك ويجربك ليعرف ما في قلبك: أتحفظ وصاياه أم لا؟ فأذلك وأجاعك وأطعمك.. لكي يعلمك» (تث 8: 2، 3). وهكذا تعلَّم المرنم أن أحكام الرب عادلة، وأنه إن أذلَّه سيكون هذا بالحق والعدل، وسينتج له كل الخير. «عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء. عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين» (رؤ 15: 3).
4- شكر على رحمة الرب: «فَلْتصِر رحمتك لتعزيتي حسب قولك لعبدك. لتأتني مراحمُك فأحيا لأن شريعتك هي لذتي» (آيتا 76، 77). يعود المرنم ثانية ليطلب الرحمة الإلهية وتحقيق المواعيد الإلهية العامة لكل شعب الرب، والخاصة به هو «حسب قولك لعبدك» ويسأل التعزية نتيجةً لمراحم الرب التي هي جديدة كل صباح (مرا 3: 23)، فإن «الله أمين. الذي لا يدعكم تجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا» (1كو 10: 13). حقاً «كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزِّيكم أنا» (إش 66: 13). «حينئذ تفرح العذراء بالرقص والشبان والشيوخ معاً. وأحوِّل نوحهم إلى طرب، وأعزيهم، وأفرحهم من حزنهم. وأروي نفس الكهنة من الدسم، ويشبع شعبي من جودي يقول الرب» (إر 31: 13، 14). «من أجل اسمك يا رب تحييني. بعدلك تُخرج من الضيق نفسي» (مز 143: 11).
5 – شكر على نصر الرب: «ليخْزَ المتكبرون لأنهم زوراً افتروا عليَّ، أما أنا فأناجي بوصاياك. ليرجع إليَّ متَّقوك وعارفو شهاداتك. ليكن قلبي كاملاً في فرائضك لكيلا أخزى» (آيات 78-80). يثق المرنم أن الله سينصره، فيخزى أعداؤه الأشرار الذين افتروا عليه زوراً. ولعل المرنم كان يذكر النصر الذي منحه الله لداود وقت انقلاب أبشالوم ابنه عليه، فخزي كل من قام ضد داود، وبقي داود ملكاً ينشد لله تراتيل الفرح والشكر، فرجع الأتقياء إلى الله يسبحونه ويشكرونه على انتصار الحق وهزيمة الباطل. وعاد المرنم يطلب ما طلبه داود: أن يكون قلبه كاملاً حتى يستمر انتصاره ولا يخزيه أحد. لقد علم أن المتكبرين افتروا عليه زوراً وأبغضوه بلا سبب، وبدل محبته كافأوه شراً، ولكن الرب أكرمه. وهو يريد أن يكرم الرب بأن يكون قلبه كاملاً. والكمال هنا هو كمال النية لا الكمال المطلق. وينوي المرنم بكل قلبه أن يخدم الرب وأن يعبده، فلا يخجل منه، لأنه «إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه لأننا نحفظ وصاياه ونعمل الأعمال المرضية أمامه» (1يو 3: 21، 22).

الجزء الثالث
الرب إله الإنقاذ
(آيات 81-128)

ك
81 تَاقَتْ نَفْسِي إِلَى خَلاَصِكَ. كَلاَمَكَ انْتَظَرْتُ. 82كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى قَوْلِكَ، فَأَقُولُ: «مَتَى تُعَزِّينِي؟» 83لأَنِّي قَدْ صِرْتُ كَزِقٍّ فِي الدُّخَانِ، أَمَّا فَرَائِضُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. 84كَمْ هِيَ أَيَّامُ عَبْدِكَ؟ مَتَى تُجْرِي حُكْماً عَلَى مُضْطَهِدِيَّ؟ 85الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ كَرُوا لِي حَفَائِرَ. ذَلِكَ لَيْسَ حَسَبَ شَرِيعَتِكَ. 86كُلُّ وَصَايَاكَ أَمَانَةٌ. زُوراً يَضْطَهِدُونَنِي. أَعِنِّي. 87لَوْلاَ قَلِيلٌ لأَفْنُونِي مِنَ الأَرْضِ، أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَتْرُكْ وَصَايَاكَ. 88حَسَبَ رَحْمَتِكَ أَحْيِنِي فَأَحْفَظَ شَهَادَاتِ فَمِكَ.

ل
89 إِلَى الأَبَدِ يَا رَبُّ كَلِمَتُكَ مُثَبَّتَةٌ فِي السَّمَاوَاتِ. 90إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ أَمَانَتُكَ. أَسَّسْتَ الأَرْضَ فَثَبَتَتْ. 91عَلَى أَحْكَامِكَ ثَبَتَتِ الْيَوْمَ، لأَنَّ الْكُلَّ عَبِيدُكَ. 92لَوْ لَمْ تَكُنْ شَرِيعَتُكَ لَذَّتِي لَهَلَكْتُ حِينَئِذٍ فِي مَذَلَّتِي. 93إِلَى الدَّهْرِ لاَ أَنْسَى وَصَايَاكَ لأَنَّكَ بِهَا أَحْيَيْتَنِي. 94لَكَ أَنَا فَخَلِّصْنِي لأَنِّي طَلَبْتُ وَصَايَاكَ. 95إِيَّايَ انْتَظَرَ الأَشْرَارُ لِيُهْلِكُونِي. بِشَهَادَاتِكَ أَفْطَنُ. 96لِكُلِّ كَمَالٍ رَأَيْتُ حَدّاً، أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدّاً.

م
97 كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ! الْيَوْمَ كُلَّهُ هِيَ لَهَجِي. 98وَصِيَّتُكَ جَعَلَتْنِي أَحْكَمَ مِنْ أَعْدَائِي، لأَنَّهَا إِلَى الدَّهْرِ هِيَ لِي. 99أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مُعَلِّمِيَّ تَعَقَّلْتُ، لأَنَّ شَهَادَاتِكَ هِيَ لَهَجِي. 100أَكْثَرَ مِنَ الشُّيُوخِ فَطِنْتُ، لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ. 101مِنْ كُلِّ طَرِيقِ شَرٍّ مَنَعْتُ رِجْلَيَّ، لِكَيْ أَحْفَظَ كَلاَمَكَ. 102عَنْ أَحْكَامِكَ لَمْ أَمِلْ، لأَنَّكَ أَنْتَ عَلَّمْتَنِي. 103مَا أَحْلَى قَوْلَكَ لِحَنَكِي! أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لِفَمِي. 104مِنْ وَصَايَاكَ أَتَفَطَّنُ، لِذَلِكَ أَبْغَضْتُ كُلَّ طَرِيقِ كَذِبٍ.

ن
105 سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ، وَنُورٌ لِسَبِيلِي. 106حَلَفْتُ فَأَبِرُّهُ أَنْ أَحْفَظَ أَحْكَامَ بِرِّكَ. 107تَذَلَّلْتُ إِلَى الْغَايَةِ. يَا رَبُّ، أَحْيِنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ. 108ارْتَضِ بِمَنْدُوبَاتِ فَمِي يَا رَبُّ، وَأَحْكَامَكَ عَلِّمْنِي. 109نَفْسِي دَائِماً فِي كَفِّي، أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. 110الأَشْرَارُ وَضَعُوا لِي فَخّاً، أَمَّا وَصَايَاكَ فَلَمْ أَضِلَّ عَنْهَا. 111وَرَثْتُ شَهَادَاتِكَ إِلَى الدَّهْرِ، لأَنَّهَا هِيَ بَهْجَةُ قَلْبِي. 112عَطَفْتُ قَلْبِي لأَصْنَعَ فَرَائِضَكَ إِلَى الدَّهْرِ إِلَى النِّهَايَةِ.

س
113الْمُتَقَلِّبِينَ أَبْغَضْتُ، وَشَرِيعَتَكَ أَحْبَبْتُ. 114سِتْرِي وَمِجَنِّي أَنْتَ. كَلاَمَكَ انْتَظَرْتُ. 115انْصَرِفُوا عَنِّي أَيُّهَا الأَشْرَارُ فَأَحْفَظَ وَصَايَا إِلَهِي. 116اعْضُدْنِي حَسَبَ قَوْلِكَ فَأَحْيَا، وَلاَ تُخْزِنِي مِنْ رَجَائِي. 117أَسْنِدْنِي فَأَخْلُصَ وَأُرَاعِيَ فَرَائِضَكَ دَائِماً. 118احْتَقَرْتَ كُلَّ الضَّالِّينَ عَنْ فَرَائِضِكَ، لأَنَّ مَكْرَهُمْ بَاطِلٌ. 119كَزَغَلٍ عَزَلْتَ كُلَّ أَشْرَارِ الأَرْضِ، لِذَلِكَ أَحْبَبْتُ شَهَادَاتِكَ. 120قَدِ اقْشَعَرَّ لَحْمِي مِنْ رُعْبِكَ، وَمِنْ أَحْكَامِكَ جَزِعْتُ.

ع
121 أَجْرَيْتُ حُكْماً وَعَدْلاً. لاَ تُسْلِمْنِي إِلَى ظَالِمِيَّ. 122كُنْ ضَامِنَ عَبْدِكَ لِلْخَيْرِ لِكَيْ لاَ يَظْلِمَنِي الْمُسْتَكْبِرُونَ. 123كَلَّتْ عَيْنَايَ اشْتِيَاقاً إِلَى خَلاَصِكَ، وَإِلَى كَلِمَةِ بِرِّكَ. 124اصْنَعْ مَعَ عَبْدِكَ حَسَبَ رَحْمَتِكَ، وَفَرَائِضَكَ عَلِّمْنِي. 125عَبْدُكَ أَنَا. فَهِّمْنِي، فَأَعْرِفَ شَهَادَاتِكَ. 126إِنَّهُ وَقْتُ عَمَلٍ لِلرَّبِّ. قَدْ نَقَضُوا شَرِيعَتَكَ، 127لأَجْلِ ذَلِكَ أَحْبَبْتُ وَصَايَاكَ أَكْثَرَ مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ، 128لأَجْلِ ذَلِكَ حَسِبْتُ كُلَّ وَصَايَاكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُسْتَقِيمَةً. كُلَّ طَرِيقِ كَذِبٍ أَبْغَضْتُ.
في هذا الجزء نجد:
أولاً – تعب المرنم من أعدائه (آيات 81-96)
ثانياً – انتظار الإنقاذ الإلهي (آيات 97-112)
ثالثاً – المُضطهَد يحب الرب ويخدمه (آيات 113-128)

أولاً – تعب المرنم من أعدائه
(آيات 81-96)
1 – المرنم مضطهَد: (آيات 81-88).
(أ) طال اضطهاده: «تاقت نفسي إلى خلاصك. كلامك انتظرت. كلَّت عيناي من النظر لقولك، فأقول: متى تعزيني؟» (آيتا 81، 82). في شدة متاعب المرنم تاق إلى خلاص إلهه وانتظر الإنقاذ بصبر وشوق. وبسبب شدة انتظار المرنم للخلاص ضعُف وصار بلا قوة. ولكن بالرغم من هذا بقي ثابتاً، يتطلع إلى الله ويطالع كلمته العامرة بالمواعيد الثمينة. ولما لم تتحقق بسرعة سأل: «متى تعزيني؟». والإجابة الإلهية هي أن هناك ميعاداً لكل شيء يجب أن ينتظره، ولا بد أن يجيء الخلاص ولا يتأخر (حب 2: 3). وهو واثق أن منتظري الرب يجددون قوة (إش 40: 31).
(ب) صار كزق في الدخان: «لأني قد صرت كزقٍّ في الدُّخَان، أما فرائضك فلم أنسها» (آية 83). الزق هو القِربة التي يحفظون فيها الخمر. وتحتمل العبارة أحد معنيين: إما أن المرنم يشبِّه نفسه بقربةٍ فارغة من الخمر عُلِّقت في السقف فاسودَّ لونها وجفت وتشققت من الدخان الناتج عن احتراق الأخشاب المستعملة للتدفئة والطهي، ففقدت منظرها وقيمتها، لأنها بلا استعمال.. أو أنه يشبِّه نفسه بالزق الذي وُضع فيه خمر وعُلِّق في الدخان ليصلح طعم الخمر الذي فيه. فيكون المعنى أن الله سمح باضطهاد المرنم ليُصلح من أمره. ومع أنه زق في الدخان إلا أنه لم ينس فرائض الرب، فرأى الخير الناتج من متاعبه، فإن «كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن. وأما أخيراً فيعطى الذين يتدربون به ثمر بر للسلام» (عب 12: 11).
(ج) قِصر عمره: «كم هي أيام عبدك؟ متى تُجري حكماً على مضطهديَّ؟» (آية 84). يقول المرنم إن عمره القصير يجري سراعاً دون أن يرى إنقاذ الله وعقاب الأشرار. «أيام سنينا هي سبعون سنة. وإن كانت مع القوة فثمانون» (مز 90: 10). فإن قضى أغلبها مضطهَداً، فماذا سيبقى له؟ إنه خائف أن ينتهي عمره قبل أن ينجو من مضطهديه، ويسأل الله أن يصدر أحكامه العادلة عليهم حتى يدفعوا ثمن أخطائهم، فهو الديان العادل «المُجري حكماً للمظلومين.. الرب يطلق الأسرى» (مز 146: 7).
(د) شرور مضطهديه: «المتكبرون قد كَرَوْا لي حَفَائِر وذلك ليس حسب شريعتك. كل وصاياك أمانة. زوراً يضطهدونني. أعنّي. لولا قليل لأفنوني من الأرض، أما أنا فلم أترك وصاياك. حسب رحمتك أحيني فأحفظ شهادات فمك» (آية 85-88). المتكبرون هم الذين لا يتواضعون تحت يد الرب القوية، ويقاومون تعاليمه، ويضعون العثرات في طريق الصدِّيقين ويحفرون لهم الحُفر. ولكن المرنم يدرك أن كل وصايا الله أمينة، تقوده إلى طرق آمنة، كما أنها أمانة في عنقه يجب أن يحفظها، ويعرف أن الرب أمين لوعوده، ولا بد أن ينقذ المضطهَدين المظلومين، فيقول: «من المتكبرين احفظ عبدك فلا يتسلطوا عليَّ» (مز 19: 13)، ويقول: «هيأوا شبكة لخطواتي. انحنت نفسي. حفروا قدامي حفرة. وسقطوا في وسطها» (مز 57: 6). وهذا ما حدث مع إرميا الذي قال أعداؤه عنه: «هلم فنفكر على إرميا أفكاراً.. فنضربه باللسان ولكل كلامه لا نصغِ». فصلى: «أصغِ لي يا رب واسمع صوت أخصامي. هل يُجازى عن خير بشر؟ لأنهم حفروا حفرة لنفسي. اذكر وقوفي أمامك لأتكلم عنهم بالخير لأردَّ غضبك عنهم» (إر 18: 18-20). وعندما تدرك رحمة الله المرنم يقول: «أما أنا فعلى رحمتك توكلت. يبتهج قلبي بخلاصك» (مز 13: 5).
2 – المضطهَد متعلِّق بالوصايا: (آيات 89-96).
(أ) لأنها ثابتة: «إلى الأبد يا رب كلمتك مثبَّتة في السماوات. إلى دور فدور أمانتك. أسَّست الأرض فثبَتَت. على أحكامك ثبتَت اليوم، لأن الكل عبيدك» (آيات 89-91). كلمة الله هي رسالة محبته للبشر، وهي ثابتة ثبوت محبة الله، لأنها جاءت من السماوات، وهي عالية مثل السماوات، ويحافظ عليها رب السماوات، ولا يمكن لأحد أن يغيِّر منها شيئاً. قال المسيح: «إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس» (مت 5: 18)، وقال أيضاً: «كلامي لا يزول» (مت 24: 35) وقال الرسول بطرس: «كل جسد كعشب، وكل مجد إنسان كزهر عشب. العشب يبس وزهره سقط، وأما كلمة الرب فتثبت إلى الأبد» (1بط 1: 24، 25). وكل من يرى النجوم ثابتة في السماء، والأرض ثابتة في مدارها يعلم أن قوانين الله الطبيعية ثابتة لا تتغير، ويتأكد أن الله يحفظ كلمته فلا تعبث بها يد بشر كما كان لوحا الوصايا العشر محفوظين في تابوت العهد. ويحفظ الله وعوده لأتقيائه فلا يستطيع عدو أن يؤذيهم لأنهم متمسكون بها.
(ب) لأنها محيية: «لو لم تكن شريعتك لذتي لهلكْتُ حينئذ في مذلتي. إلى الدهر لا أنسى وصاياك لأنك بها أحييتني. لك أنا فخلِّصني لأني طلبت وصاياك. إياي انتظر الأشرار ليهلكوني. بشهاداتك أفطن» (آيات 92-95). اجتمع الأعداء على المؤمن المضطهَد وافتروا عليه كل كذب. وكان يمكن أن يهلكوه لولا أنه تمسك بشريعة الرب وثبت في طمأنينة الوعود الإلهية، فصارت كلمة الله الحية سبب حياة روحية وجسدية له. كان الأشرار يجدون لذَّتهم في شرورهم، ولكنه اختبر اللذة والشبع والسرور في كلمة الله التي طلبها وتمسك بها ولم ينسها، فملأت نفسه بالطمأنينة، وجعلته واثقاً في إلهه يطلب منه الخلاص والإنقاذ بناءً على وعوده الصالحة. «عند كثرة همومي في داخل تعزياتك تلذذ نفسي» (مز 94: 19). عندما يمرض المؤمن أو يصيبه الألم أو يفقد عزيزاً يلجأ إلى الكلمة المعزية، ويقول: «إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معي. عصاك وعكازك هما يعزيانني» (مز 23: 4). وعندما يشعر بالوحدة بالرغم من كثرة الموجودين حوله يجد الرب ملجأ وحصناً، فيقول: «طلبت إلى الرب فاستجاب لي ومن كل مخاوفي أنقذني» (مز 34: 4)، لأنه يثق في وعد المسيح: «ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20). لقد أطاع المرنم وصية الرب: «فتحفظون فرائضي وأحكامي التي إذا فعلها إنسان يحيا. أنا الرب» (لا 18: 5)، ووصية الحكيم: «يا ابني لا تنسَ شريعتي، بل ليحفظ قلبك وصاياي» (أم 3: 1)، فتحقق له الوعد: «لأنه تعلق بي أنجيه. أرفِّعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الضيق أنقذه وأمجده. من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي» (مز 91: 14-16).
(ج) لأنها واسعة: «لكل كمال رأيت حداً، أما وصيتك فواسعة جداً» (آية 96). كل أمجاد الإنسان وغناه وحكمته وقوته محدودة وسريعة الزوال، وكل كمال إنساني ناقص، ولا يوجد شيء في أرضنا وصل حدَّ الكمال، ولكل قرار نتَّخذه حسنات وسيئات. ويقول الوحي: «إنما باطل بنو آدم. كذب بنو البشر. في الموازين هم إلى فوق» (مز 92: 9). أما كلمة الله فمُحكمة لا نقص فيها، وسعت كل ما يخص حياتنا الإيمانية، فقد أعلنت لنا طريق الخلاص بوضوح، وعلَّمتنا كيف تكون لنا صلة شخصية بالله. إنها ترينا شروط الحصول على الغفران وشروط استجابة الصلاة. صدَقَ المرنم: «أحكامك لجَّة عظيمة» (مز 36: 6)، وما أحوجنا إلى وعد الله: «أعلمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك» (مز 32: 8). إن كنت تخاف من الشهادة للمسيح فإن الكلمة تعطيك الإلهام والشجاعة، وإن كنت تخاصم من أساء إليك ترشدك كيف تتصالح معه، وإن كنت مهموماً تفتح لك طريق الفرح، وإن كنت تمر بضائقة مالية تطمئنك أن لك عند إلهك مخرجاً. في كل موقف تجد أن كلمة الله واسعة جداً. وعظيم هو المؤمن الذي يدرس الكلمة، وبائس من يهملها، فالكتاب المقدس يبعدك عن الخطية، والخطية تبعدك عنه.

ثانياً – انتظار الإنقاذ الإلهي
(آيات 97-112)
1 – بأن منحه حكمة التصرُّف: (آيات 97-104).
(أ) حكمة متزايدة: «كم أحببت شريعتك! اليوم كله هي لهجي. وصيتك جعلتني أحكم من أعدائي، لأنها إلى الدهر هي لي. أكثر من معلمي تعقَّلت، لأن شهادتك هي لهجي. أكثر من الشيوخ فطنت لأني حفظت وصاياك» (آيات 97-100). لم يقدر المرنم أن يصف عمق محبته لكلمة الله فقال: كم أحببت! كانت محبته لكلمة الله صدى محبة الرب له وجمال وكمال إعلاناته «أما غاية الوصية فهي المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء» (1تي 1: 5). وقد انتظر المرنم إنقاذ الرب لأنه منحه الحكمة، فصار أحكم وأعقل وأفطن من كل أعدائه مجتمعين. كانوا في الظاهر أقوى منه، لكن الحقيقة هي أنه صار أقوى منهم لأن «شهادات الرب صادقة تصيِّر الجاهل حكيماً» (مز 19: 7). صار المرنم أكثر تعقلاً ممن علموه فنون الحرب بعد أن درس الكلمة، وأصبح أكثر فطنة من الشيوخ الذين علمتهم الحياة وعركتهم، لأن وصايا الله كانت كتابه المدرسي، والرب نفسه هو معلمه، فجاءته الحكمة من مصدر أعلى. قال المسيح: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال» (لو 10: 21). وقال الرسول يعقوب: «إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعيِّر، فسيُعطى له» (يع 1: 5).
(ب) حكمة البُعد عن الشر: «من كل طريق شرٍّ منعت رجليَّ لكي أحفظ كلامك. عن أحكامك لم أمِل لأنك أنت علَّمتني» (آيتا 101، 102). لكي ينقذ الله التقي المضطهَد من مضطهديه جعله يبتعد عن الشر، لأن الشر يضعف القوي، وهو الثغرة التي ينفذ إليه العدو من خلالها. لقد منع المرنم رجليه عن طريق الأشرار، ولم يمِل عن الطريق المستقيم لأن الله علمه: «لا تمل يَمْنَة ولا يَسْرَة. باعد رجلك عن الشر» (أم 4: 27)، فقال: «بكلام شفتيه أنا تحفَّظت من طرق المعتنف» (مز 17: 4). وصلى: «علمني يا رب طريقك، أسلك في حقك» (مز 86: 11).
(ج) حكمة التلذُّذ بالكلمة: «ما أحلى قولك لحنكي أحلى من العسل لفمي، من وصاياك أتفطن، لذلك أبغضت كل طريق كذب» (آيتا 103، 104). لكي ينقذ الله المؤمن المضطهَد منحه معرفة جمال كلمة الرب. إنها الموسيقى السماوية التي تبدو كل موسيقى العالم أمامها نشازاً. ولم يستمع المرنم فقط إلى الكلمة، بل تغذى بها وتلذذ وشبع، فأبغض كل طريق كذب، لأنه «إذا دخلت الحكمة قلبك ولذَّت المعرفة لنفسك فالعقل يحفظك والفهم ينصرك» (أم 2: 10، 11). وأعطته الكلمة قلباً صالحاً فأبغض الكذب لأنه طريق خاطئ، حتى إن ظهر لكثيرين أنه نافع.
2 – بأن نوِّر عليه: (آيات 105-112).
(أ) نور الكلمة: «سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي» (آية 105). ينقذ الرب المرنم بأن يشرق عليه بالنور، ويمنحه مصباحاً (سراجاً)، لأن «الوصية مصباح والشريعة نور» (أم 6: 23)، ويكون عنده طريق (سبيل) تسير فيه قدماه، فيهديه إلى سبل البر من أجل اسمه (مز 23: 3). وبالمصباح يستنير «لأنكم كنتم قبلاً ظلمة وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور» (أف 5: 8). وبهذا يتأكد أنه يسير واثقاً مطمئناً في طريق الرب الذي يرشده. ونحن نضيء السراج ليلاً، والليل وقت المتاعب والاضطهادات «وعندنا الكلمة النبوية، وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم، إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم» (2بط 1: 19). ونحن نستنير بالكلمة المكتوبة، كما نستنير بالكلمة الحي، فقد قال المسيح: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة» (يو 8: 12).
(ب) نور الأمانة: «حلفت فأَبِرُّه: أن أحفظ أحكام برك. تذللت إلى الغاية. يا رب أحيني حسب كلامك» (آيتا 106، 107). عندما يستنير المؤمن بكلمة الله يبر بأقسامه وينفذها ويدافع عن صحتها، ويضع نفسه تحت التزاماتها فيتمم ما تعهد به. «يحلف للضرر ولا يغيِّر» (مز 15: 4) بمعنى أنه ينفذ وعوده حتى لو عاد هذا عليه بالضرر. لقد حلف المرنم وتعهد أن يكون مطيعاً لله، واحتمل في سبيل هذه الطاعة كل اضطهاد وتعب، وهو يطلب من إلهه أن يعينه ليحيا بالأمانة، مهما كانت التكلفة، فيحيا حسب كلمة الرب، مطيعاً للأمر: «اذبح لله حمداً، وأوفِ العليَّ نذورك» (مز 50: 14).
(ج) بالتعبُّد: «ارتضِ بمندوبات فمي يا رب، وأحكامك علمني. نفسي دائماً في كفي، أما شريعتك فلم أنسها. الأشرار وضعوا لي فخاً، أما وصاياك فلم أضلَّ عنها» (آيات 108-110). المندوبات هي ما يزيد عن مطالب الشريعة، وهي ذبائح الصلاة والتسبيح. لقد قام المرنم بما تطلبه الشريعة، ثم قدَّم عبادة غير مفروضة لأنه يحب الله. ولا زال يطلب من الله أن يعضده بروح منتدبة (مز 51: 12) وأن يعلِّمه المزيد من المندوبات ليقدمها بسرور ومحبة. كان اليهود يصلون ثلاث مرات في اليوم، وصلى المرنم ورنم دائماً في المواعيد المحددة، وزاد عليها، اعترافاً بإحسانات الرب، كما قيل: «خذوا معكم كلاماً وارجعوا إلى الرب. قولوا له: ارفع كل إثم، واقبل حسناً فنقدم عجول شفاهنا» (هو 14: 12). «فلنقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه. ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله» (عب 13: 15، 16). ولنردد مع الرسول بولس: «لستُ أحتسب لشيء، ولا نفسي ثمينة عندي، حتى أتمم بفرحٍ سعيي، والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع، لأشهد ببشارة نعمة الله» (أع 20: 24).
ولما كان المرنم عابداً بسرور ومنتدباً كرهه الأشرار ونصبوا له الفخاخ والأشراك. ولم يصبه هذا بأي يأس، بل زاده تمسُّكاً بشريعة إلهه، وهو يهتف: «مبارك الرب الذي لم يسلمنا فريسة لأسنانهم، إذ انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصياد. الفخ انكسر ونحن انفلتنا» (مز 124: 6، 7).
(د) نور الطاعة: «ورثتُ شهاداتك إلى الدهر لأنها هي بهجة قلبي. عَطَفْتُ قلبي لأصنع فرائضك إلى الدهر، إلى النهاية» (آيتا 111، 112). الميراث عزيز على الإنسان لأنه بركة من أبويه. وقد اعتزَّ المرنم بكلمة الله واعتبرها ميراثه الذي ناله بدون أن يتعب فيه، فلم يكن مستعداً أن يفرط فيه أبداً. وفي شرقنا من العار أن يضيع الإنسان ميراثه أو أن يبيعه. لقد كانت كلمة الله بهجة قلب المرنم لأنه أحبَّ قائلها، فحوَّل قلبه وعَطَفَهُ عن كل ما يعطل استمتاعه بها، وظل يفعل هذا إلى المنتهى. لم يسمح لعواطفه أن تقوده إلى اتجاه خاطئ، فتحكَّم عقله في عواطفه ووجَّهها إلى الصواب. لقد أحب ربَّه فأحب أيضاً وصاياه، لأنه يعلم أنه «إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً» (يو 14: 23).

ثالثاً – المضطهَد يحب الرب ويخدمه
(آيات 113-128)
في هذه الآيات يعبِّر المرنم عن احتمائه في ستر القدير الذي أنقذه من الأشرار، ويعِد منقذه بأمرين:
1 – وعد أن يحب الله: (آيات 113-120).
(أ) بأن يبتعد عن الأشرار: «المتقلِّبين أبغضت، وشريعتك أحببت. ستري ومجني أنت، كلامك انتظرت. انصرِفوا عني أيها الأشرار فأحفظ وصايا إلهي» (آيات 113-115). الأشرار متقلبون، ذوو رأيين، و«رجلٌ ذو رأيين هو متقلقل في جميع طرقه» (يع 1: 8) نِصف قلبهم يتعبَّد للرب والنصف الآخر يتعبَّد للعالم. إنهم بحسب وصف النبي إيليا لهم «يعرجون بين الفرقتين» (1مل 18: 21)، وبحسب وصف المسيح لهم »يخدمون سيدين« (مت 6: 24). أما المرنم فيعلن محبته لله وتمسكه بكلمته، فقرر أن يبتعد عن الشر والأشرار، عملاً بالنصيحة «لا تضلوا، فإن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة» (1كو 15: 33). إنه يعلم أن الصحبة الشريرة تقود إلى الشر، و«طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس. لكن في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً» (مز 1: 1-3)، «لأنه أية خلطة للبر والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة؟.. وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟» (2كو 6: 14، 15). وكل من يريد أن يركض حسناً يجب أن يطرح كل ثقل والخطية المحيطة به بسهولة (عب 12: 1).

(ب) بأن يزيد اعتماده على الله: «اعضُدني حسب قولك فأحيا، ولا تُخزِني من رجائي. اسندني فأخلُص وأراعي فرائضك دائماً. احتقرتَ كل الضالين عن فرائضك لأن مكرهم باطل. كزغلٍ عزلت كل أشرار الأرض، لذلك أحببت شهاداتك. قد اقشعرَّ لحمي من رعبك، ومن أحكامك جزعتُ» (آيات 116-120). اعتمد المرنم على الرب الذي أحبَّه، وطلب منه أن يزيد اعتماده عليه، وعبَّر عن هذا بثلاث طلبات: «اعضدني» (آية 116) بمعنى دعِّمني وأيِّدني، لأنه انتظر نعمة الله التي تكفيه. وقال: «لا تخزني» (آية 116) لأنه يرجوه وينتظره، والذين «نظروا إليه استناروا ووجوههم لم تخجل» (مز 34: 5). وقال: «اسندني» (آية 117) أي قف إلى جواري وارفعني حتى أحيا لك و«الرب يقوِّم المنحنين. الرب يحب الصدِّيقين» (مز 146: 18). و«في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 37).. وعبَّر عن رغبته في زيادة الاعتماد على الرب بثلاثة عهود: «أراعي» (آية 117) أي أن يلتفت إلى فرائض الرب ويقول: «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررت» (مز 40: 8). «أحببتُ» (آية 119) فيكون اعتماده على الله حباً ورغبةً «أحبك يا رب يا قوتي.الرب صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي به أحتمي» (مز 18: 1، 2). «اقشعرَّ لحمي.. جزعتُ» (آية 120) فقد انتفض هلعاً وارتعب من غضب الله على الأشرار، لأنه «من يقف أمام الرب الإله القدوس هذا؟» (1صم 6: 20). وهذا الخوف المقدس من علامات التقوى، كما قال حبقوق: «يا رب قد سمعت خبرك فجزعت.. سمعت فارتعدت أحشائي. من الصوت رجفت شفتاي» (حب 3: 2، 16).. وفي زيادة اعتماده على الله علم أن الله يفعل أمرين: «احتقرتَ كل الضالين» (آية 118) فالرب يحتقر الذين يحتقرون شريعته، وسيكون نصيبهم العار والازدراء الأبدي (دا 12: 2). «عزلت كل أشرار الأرض» (آية 119) أي جعلت فاصلاً بين الأشرار والأبرار هنا في الدنيا، وكذلك في الآخرة، كما قال المسيح: «في وقت الحصاد أقول للحصادين: اجمعوا أولاً الزوان واحزموه حزماً ليُحرَق. وأما الحنطة فاجمعوها إلى مخزني» (مت 13: 30).
2 – الوعد بخدمة الله: (آيات 121-128).
وصف المرنم نفسه بلقب «عبدك» ثلاث مرات (آيات 122، 124، 125) وهو يعد أن يكون له خادماً أميناً.
(أ) يخدم بإجراء العدل: «أجريتُ حكماً وعدلاً، لا تُسلِمْني إلى ظالميَّ. كن ضامناً عبدك للخير لكيلا يظلمني المستكبرون. كلَّت عيناي اشتياقاً إلى خلاصك وإلى كلمة برك» (آيات 121-123). خدمة المجتمع هي خدمة لله، ومن يرحم الفقير يقرض الرب (أم 19: 17). والمرنم عبدٌ للرب، يفعل ما يأمر به الرب، ويتمثَّل بإلهه في إجراء العدل وعمل الخير. فإن كان داود هو صاحب هذه الكلمات يكون تقييمه لنفسه صحيحاً، لأن الوحي وصفه بالقول: «وملك داود على جميع إسرائيل، وكان داود يُجري قضاءً وعدلاً لكل شعبه» (2صم 8: 15). ويطالب المرنم أن يعامله الرب بمثل ما عامل هو به الآخرين، فيحكم له بالعدل ولا يسلِّمه لظالميه، ويدعوه أن يكون ضامنه للخير حتى يستمر في عمل الخير، وحتى لا يناله ظلم الظالمين، كما قال المرنم: «اصنع معي آية للخير فيرى ذلك مبغضيَّ فيخزوا، لأنك أنت يا رب أعنتني وعزيتني» (مز 86: 17) وكما قال أيوب «كن ضامني عند نفسك» (أي 17: 3). لقد تعلَّقت عينا المرنم بإله خلاصه، وظل يتطلَّع إليه منتظراً كلمته العادلة المنصفة حتى أُرهقَت عيناه من التطلع وانتظار تحقيق الوعد الإلهي له.
(ب) يخدم بالعمل للرب: «اصنع مع عبدك حسب رحمتك، وفرائضك علِّمني. عبدك أنا. فهِّمني فأعرف شهاداتك. إنه وقت عمل للرب. قد نقضوا شريعتك» (آيات 124-126). إنه «وقت عمل للرب» يدافع الرب فيه عن كلمته ويعمل وسطنا، وهو أيضاً الوقت المناسب ليعمل فيه المرنم للرب لأنه عبده الذي يريد أن يخدمه. ولم يقُل المرنم: «قد نقضوا شريعتك. إنه وقت عمل للرب»، لأنه كان يركز عينيه على الرب أولاً، ثم على انتظاره أن يعمل الرب فيه بعد ذلك ليصلح الفساد الناتج عن نقض الشريعة. لم ينظر أولاً إلى الجانب المظلم من نقض الشريعة، بل نظر أولاً إلى إشراق عمل الله فيه وبواسطته، فأعلن وعده بخدمة الرب بكل تواضع، واعترف ببطء تفكيره، وسأل أن يطيل الله أناته عليه وهو يعلمه الفرائض ويفهِّمه الإعلانات الإلهية، وسأل أن يكون الرب رحيماً معه ليعيش الوصايا ويحياها قبل أن يؤدي خدمته للرب. ولم ير في نفسه استحقاقاً ولا قدرة، لكنه رأى الاحتياج الشديد، فقدَّم نفسه لخدمة الله بكل وداعة. فلنتعلم من المرنم الخدمة، وروح الخدمة، ونحن نسمع الرب يقول لنا: «يا ابني اذهب اليوم اعمل في كرمي» (مت 21: 28).
(ج) يخدم بالحياة التقية: «لأجل ذلك أحببت وصاياك أكثر من الذهب والإبريز. لأجل ذلك حسبتُ كل وصاياك في كل شيء مستقيمة. كل طريق كذبٍ أبغضتُ» (آيتا 127، 128). بينما المرنم يفكر في خدمة الله ويعد أن يقوم بها رأى أن أساس الخدمة الناجحة المثمرة هو الحياة التقية، فيطيع الله طاعة كاملة قبل كل شيء، ويحب كلمته أكثر من محبته للمكسب، لأنها مستقيمة تجعل حياته صدقاً وحقاً بلا كذب ولا نفاق. وهي واجبة الطاعة، فيعمل المرنم بالكلمة ولا يكون سامعاً فقط خادعاً نفسه (يع 1: 22).

الجزء الرابع
الرب إله الانتصار
(آيات 129-176)
ف
129 عَجِيبَةٌ هِيَ شَهَادَاتُكَ، لِذَلِكَ حَفِظَتْهَا نَفْسِي. 130فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ، يُعَقِّلُ الْجُهَّالَ. 131فَغَرْتُ فَمِي وَلَهَثْتُ، لأَنِّي إِلَى وَصَايَاكَ اشْتَقْتُ. 132الْتَفِتْ إِلَيَّ وَارْحَمْنِي كَحَقِّ مُحِبِّي اسْمِكَ. 133ثَبِّتْ خَطَواتِي فِي كَلِمَتِكَ، وَلاَ يَتَسَلَّطْ عَلَيَّ إِثْمٌ. 134افْدِنِي مِنْ ظُلْمِ الإِنْسَانِ، فَأَحْفَظَ وَصَايَاكَ. 135أَضِيءْ بِوَجْهِكَ عَلَى عَبْدِكَ وَعَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. 136جَدَاوِلُ مِيَاهٍ جَرَتْ مِنْ عَيْنَيَّ لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا شَرِيعَتَكَ.

ص
137 بَارٌّ أَنْتَ يَا رَبُّ، وَأَحْكَامُكَ مُسْتَقِيمَةٌ. 138عَدْلاً أَمَرْتَ بِشَهَادَاتِكَ، وَحَقّاً إِلَى الْغَايَةِ. 139أَهْلَكَتْنِي غَيْرَتِي، لأَنَّ أَعْدَائِي نَسُوا كَلاَمَكَ. 140كَلِمَتُكَ مُمَحَّصَةٌ جِدّاً، وَعَبْدُكَ أَحَبَّهَا. 141صَغِيرٌ أَنَا وَحَقِيرٌ، أَمَّا وَصَايَاكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. 142عَدْلُكَ عَدْلٌ إِلَى الدَّهْرِ، وَشَرِيعَتُكَ حَقٌّ. 143ضِيقٌ وَشِدَّةٌ أَصَابَانِي، أَمَّا وَصَايَاكَ فَهِيَ لَذَّاتِي. 144عَادِلَةٌ شَهَادَاتُكَ إِلَى الدَّهْرِ. فَهِّمْنِي فَأَحْيَا.

ق
145 صَرَخْتُ مِنْ كُلِّ قَلْبِي. اسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ. فَرَائِضَكَ أَحْفَظُ. 146دَعَوْتُكَ. خَلِّصْنِي فَأَحْفَظَ شَهَادَاتِكَ. 147تَقَدَّمْتُ فِي الصُّبْحِ وَصَرَخْتُ. كَلاَمَكَ انْتَظَرْتُ. 148تَقَدَّمَتْ عَيْنَايَ الْهُزُعَ لِكَيْ أَلْهَجَ بِأَقْوَالِكَ. 149صَوْتِيَ اسْتَمِعْ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. يَا رَبُّ، حَسَبَ أَحْكَامِكَ أَحْيِنِي. 150اقْتَرَبَ التَّابِعُونَ الرَّذِيلَةَ. عَنْ شَرِيعَتِكَ بَعُدُوا. 151قَرِيبٌ أَنْتَ يَا رَبُّ، وَكُلُّ وَصَايَاكَ حَقٌّ. 152مُنْذُ زَمَانٍ عَرَفْتُ مِنْ شَهَادَاتِكَ أَنَّكَ إِلَى الدَّهْرِ أَسَّسْتَهَا.

ر
153 اُنْظُرْ إِلَى ذُلِّي وَأَنْقِذْنِي، لأَنِّي لَمْ أَنْسَ شَرِيعَتَكَ. 154أَحْسِنْ دَعْوَايَ وَفُكَّنِي. حَسَبَ كَلِمَتِكَ أَحْيِنِي. 155الْخَلاَصُ بَعِيدٌ عَنِ الأَشْرَارِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَمِسُوا فَرَائِضَكَ. 156كَثِيرَةٌ هِيَ مَرَاحِمُكَ يَا رَبُّ. حَسَبَ أَحْكَامِكَ أَحْيِنِي. 157كَثِيرُونَ مُضْطَهِدِيَّ وَمُضَايِقِيَّ، أَمَّا شَهَادَاتُكَ فَلَمْ أَمِلْ عَنْهَا. 158رَأَيْتُ الْغَادِرِينَ وَمَقَتُّ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا كَلِمَتَكَ. 159انْظُرْ أَنِّي أَحْبَبْتُ وَصَايَاكَ. يَا رَبُّ، حَسَبَ رَحْمَتِكَ أَحْيِنِي. 160رَأْسُ كَلاَمِكَ حَقٌّ، وَإِلَى الدَّهْرِ كُلُّ أَحْكَامِ عَدْلِكَ.

ش
161رُؤَسَاءُ اضْطَهَدُونِي بِلاَ سَبَبٍ، وَمِنْ كَلاَمِكَ جَزِعَ قَلْبِي. 162أَبْتَهِجُ أَنَا بِكَلاَمِكَ كَمَنْ وَجَدَ غَنِيمَةً وَافِرَةً. 163أَبْغَضْتُ الْكَذِبَ وَكَرِهْتُهُ، أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَأَحْبَبْتُهَا. 164سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي النَّهَارِ سَبَّحْتُكَ عَلَى أَحْكَامِ عَدْلِكَ. 165سَلاَمَةٌ جَزِيلَةٌ لِمُحِبِّي شَرِيعَتِكَ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَعْثَرَةٌ. 166رَجَوْتُ خَلاَصَكَ يَا رَبُّ، وَوَصَايَاكَ عَمِلْتُ. 167حَفِظَتْ نَفْسِي شَهَادَاتِكَ، وَأُحِبُّهَا جِدّاً. 168حَفِظْتُ وَصَايَاكَ وَشَهَادَاتِكَ، لأَنَّ كُلَّ طُرُقِي أَمَامَكَ.

ت
169 لِيَبْلُغْ صُرَاخِي إِلَيْكَ يَا رَبُّ. حَسَبَ كَلاَمِكَ فَهِّمْنِي. 170لِتَدْخُلْ طِلْبَتِي إِلَى حَضْرَتِكَ. كَكَلِمَتِكَ نَجِّنِي. 171تُنَبِّعُ شَفَتَايَ تَسْبِيحاً إِذَا عَلَّمْتَنِي فَرَائِضَكَ. 172يُغَنِّي لِسَانِي بِأَقْوَالِكَ، لأَنَّ كُلَّ وَصَايَاكَ عَدْلٌ. 173لِتَكُنْ يَدُكَ لِمَعُونَتِي، لأَنَّنِي اخْتَرْتُ وَصَايَاكَ. 174اشْتَقْتُ إِلَى خَلاَصِكَ يَا رَبُّ، وَشَرِيعَتُكَ هِيَ لَذَّتِي. 175لِتَحْيَ نَفْسِي وَتُسَبِّحَكَ، وَأَحْكَامُكَ لِتُعِنِّي. 176ضَلَلْتُ كَشَاةٍ ضَالَّةٍ. اطْلُبْ عَبْدَكَ لأَنِّي لَمْ أَنْسَ وَصَايَاكَ.
في هذا الجزء نجد:
أولاً – المرنم يطلب الحياة المنتصرة (آيات 129-144)
ثانياً – المرنم يحيا الحياة المنتصرة (آيات 145-160)
ثالثاً – ثمرتان للحياة المنتصرة (آيات 161- 176)

أولاً – المرنم يطلب الحياة المنتصرة
(آيات 129-144)
1- لأن الكلمة شجعته على ذلك: (آيات 129-131).
ذكر المرنم ثلاثة أوصاف لكلمة الله التي أعانته ليحيا الحياة المنتصرة:
(أ) هي عجيبة: «عجيبة هي شهاداتك، لذلك حفظتها نفسي» (آية 129). طالع المرنم كتابات الأمم من حوله، ثم طالع توراة موسى، فرأى الفرق الشاسع بين ما قرأ من كتابات بشرية وبين الإعلان الإلهي الذي رآه فائقاً لأن الله مصدره، ولأنه يوضح محبة الله للبشر، ولأن تأثيره عميق وفعال، فإن كلمة الله تخترق أعماق الإنسان وتبكته على خطاياه. فإن تاب تؤكد له خلاصه وتعزيه وتشجعه، وهي كنز ثمين يجب حفظه في القلب، فتنصر المؤمن فلا يخطئ إلى الله (مز 119: 11).
(ب) هي منيرة: «فَتْح كلامك ينير، يعقِّل الجهّال» (آية 130). كان المرنم يفتح كلمة الله يومياً ويدرسها، فاستنارت عيناه ونال نوراً وفهماً، وعرف أن يفرِّق بين الخير والشر، وحدَّد لنفسه المسار السليم في الحياة. وهذا ما حدث مع تلميذي عمواس عندما التقى المسيح بهما، وفتح ذهنهما ليعرفا الكتب، فانفتحت أعينهما وعرفاه «فقال بعضهما لبعض: ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟» (لو 24: 32).
(ج) هي مشبعة: «فغرتُ فمي ولهثتُ لأني إلى وصاياك اشتقتُ» (آية 131). كلمة الله للمؤمن المبتدئ مثل اللبن العقلي العديم الغش (1بط 2: 2)، وهي مثل الغذاء المشبع للمؤمن المتقدِّم في إيمانه، كما قال النبي إرميا: «وُجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي» (إر 15: 16)، وكما اختبر النبي حزقيال عندما قال الرب له: «كُل ما تجده.. ففتحت فمي فأطعمني.. فصار في فمي كالعسل حلاوة» (حز 3: 1-3). وعندما شبع المرنم من كلمة الرب تقوَّى إيمانه واستطاع أن يحيا حياة الانتصار.
2- لأن المرنم يريد ذلك: (آيات 132-138).
كان قلب المرنم مشتاقاً للحياة المنتصرة، وطلب خمسة أمور تنصره على الإثم:
(أ) رحمة الله: «التفِت إليَّ وارحمني كحقِّ محبي اسمك» (آية 132). لا يوجد انتصار للمؤمن إن لم يدركه الله برحمته. وتحل رحمة الله على كل من يحب الاسم الحسن ويدعوه: «اللهم ارحمني أنا الخاطي» (لو 18: 13).
(ب) طاعة الله: «ثبِّت خُطواتي في كلمتك، ولا يتسلط عليَّ إثم» (آية 133). ترك المسيح للمؤمنين مثالاً لكي يتَّبعوا خُطواته (1بط 2: 21)، وأعلن لهم خطوات سلوكهم في كلمته المقدسة. فإن هم سلكوا طريق الكلمة الحي، وكلمته المكتوبة ينتصرون على الإثم الذي يهاجمهم من خارج نفوسهم ومن داخلها. وإن سقط أحدهم وارتكب إثماً فإن كلمة الله تكشف له الخطأ وترشده إلى طريق الانتصار، لأن «مِن قِبَل الرب تتثبت خطوات الإنسان.. إذا سقط لا ينطرح لأن الرب مسند يده» (مز 37: 23، 24).
(ج) الفداء الإلهي: «افدني من ظلم الإنسان فأحفظَ وصاياك» (آية 134). الفداء هو العتق والفك من الأسر والعبودية. وكل خاطئ مستعبَد لخطاياه أو لظلم أخيه الإنسان لا ينتصر إلا بالفداء أو الفكاك الذي يقوم به الوليُّ الأقرب، كما قالت شريعة موسى (را 4: 6). ويعجز الإنسان أن يفدي نفسه لأنه أسير، فلا يفدي المؤمن إلا الله «فادي نفوس عبيده، وكل من اتكل عليه لا يُعاقب» (مز 34: 22)، وفاديهم من ظلم الإنسان فيقولون: «لولا الرب الذي كان لنا عندما قام الناس علينا، إذاً لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا» (مز 124: 2، 3).
(د) الرضا الإلهي: «أضئ بوجهك على عبدك وعلِّمني فرائضك. جداول مياه جرت من عينيَّ لأنهم لم يحفظوا شريعتك» (آيتا 135، 136). طلب المرنم من الرب أن يضيء الظلمة المحيطة به بنور رضاه، كما قال: «أضئ بوجهك على عبدك. خلِّصني برحمتك» (مز 31: 16). وعندما يرضى الرب على المؤمن يعلِّمه من كلمته، فيدرك مقدار عظمة محبة الله للخطاة، وكم هي فائقة المعرفة، فينتصر على كراهيته للظالم الذي يضطهده ويبكى على الخطاة البعيدين كما قال إرميا: «سكبت عيناي ينابيع ماء على سحق بنت شعبي» (مرا 3: 48)، وكما بكى المسيح على أورشليم، وقال لها: «لو علمتِ أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك» (لو 19: 42، 43).
(هـ) العدل الإلهي: «بار أنت يا رب وأحكامك مستقيمة. عدلاً أمرت بشهاداتك وحقاً إلى الغاية» (آيتا 137، 138). بعد أن تألم المرنم وبكى على ضلال الخطاة، طلب أن يسود العدل الإلهي مجتمعه وعالمه، لأن الله بار، وكلمته حق وعدل، وهو يبرر التائب اللاجئ إلى مراحمه. لقد تشجَّع وطلب الانتصار لأن الله لا يمنع التعزية عن البار، بل يعلمه البر والاستقامة. «إن علمتم أنه بار هو فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه» (1يو 2: 29). ويقول المرنم إن الله يريد له الانتصار، وهو يريد أن يسير في طاعة الرب، لأن إرادة الله هي قداستكم (1تس 4: 3).
(3) لأنه غيور ضد الشر: (آيات 139-144).
(أ) غيرته سببت له المتاعب: «أهلكتني غيرتي لأن أعدائي نسوا كلامك. كلمتك ممحَّصة جداً وعبدك أحبها. صغير أنا وحقير، أما وصاياك فلم أنسها» (آية 139-141). عندما رأى المرنم شر الأشرار غار على كلمة الله وعلى تنفيذ وصاياه وتوجَّع قلبه، كما غار المسيح وهو يرى بيت الله يتحوَّل إلى بيت تجارة وإلى مغارة لصوص، فقال: «غيرة بيتك أكلتني» (يو 2: 17). ولقد اعتبر المرنم من نسي كلام الله عدواً له لأنه عدوٌّ لله ومبغضٌ لكلمته، مع أن الكلمة ممحَّصة أي أنها نقية كالذهب المصفى، لا زغل فيها مطلقاً «كلام الرب كلام نقي كفضة مصفاة في بوطة في الأرض ممحوصة سبع مرات» (مز 12: 6). ولأن المرنم حفظ الشريعة، صار صغيراً وحقيراً في أعين الناس، لكن هذا لم يعطله عن طاعة الله، وقد قال المسيح: «إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم. العالم يحب خاصته.. لأنكم لستم من العالم.. لذلك يبغضكم العالم» (يو 15: 18، 19).
(ب) تمسَّك بالكلمة بالرغم من المتاعب: «عدلك عدل إلى الدهر وشريعتك حق. ضيق وشدة أصاباني أما وصاياك فهي لذاتي. عادلة شهاداتك. إلى الدهر فهِّمني فأحيا» (آيات 142-144). عدل الله لا يتغير كما أن الله ليس عنده تغيير ولا ظل دوران، وكلمته باقية إلى الدهر والأبد لأنها شريعة الحق التي لا تتغير. إنها شريعة للسلوك ومرشد للحياة وطريق للسعادة. وقد طلب المرنم بالرغم من كل المتاعب أن يفهم هذه الكلمة أكثر، بالرغم من أن طاعتها سبَّبت له الضيق والشدائد من الأشرار. إنه غيور ضد الخطأ، ولم يكن مستعداً أن يتنازل عن مبادئه ليحوز رضى الأشرار، فكان تمسكه بكلمة الله مصدر متاعب له. ونحن أيضاً يجب أن نطلب الفهم الروحي لكلمة الله، طاعةً للوصية الرسولية: «لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى، وأنتم بكل حكمة معلِّمون ومنذرون بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، بنعمة، مترنمين في قلوبكم للرب» (كو 3: 16).
ثانياً – المرنم يحيا الحياة المنتصرة
(آيات 145-160)
1 – المرنم حفظ الفرائض: (145-152).
(أ) حفظها لأنه صلى: «صرختُ من كل قلبي، استجب لي يا رب. فرائضك أحفظ. دعوتك. خلِّصني فأحفظ شهاداتك» (آيتا 145، 146). حفظ المرنم وصايا الله لأنه كان دائم الاتصال بإلهه في الصلاة. وكانت صلاته دعاء شخص يحب الرب من كل قلبه، ويخاف أن يرتكب معصية تُغضب حبيبه. وكان الدعاء أسلوب حياته فحفظ كلمة الله وعمل بها، وعاشها. إنه يصرخ من كل قلبه متضرعاً أن يسرع ربه إليه بالخلاص، فقد أراد أن يطيع الوصية، وكان قلبه موحَّداً في الطلبة، وكانت كل أشواقه مركزة في الإله الحي. وعندما نجاهد ونصرخ إلى الرب في الصلاة تتم لنا الغلبة، كما صارع يعقوب وقال: «لا أطلقك إن لم تباركني» (تك 32: 26). وينظر الله إلى قلب المصلي وإخلاصه، لا إلى عباراته المنمقة، ولا إلى طول صلاته ولا إلى عددها، فإن «مَن يحوِّل أذنه عن سماع الشريعة فصلاته أيضاً مكرهة» (أم 28: 9). و«إن راعيتُ إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب» (مز 66: 18). فلنعتمد على نعمة الرب ونحن نصلي لننال الحياة المنتصرة.
(ب) حفظها لأنه استمر في الصلاة: «تقدَّمتُ في الصبح وصرخت. كلامك انتظرت. تقدمت عيناي الهُزُع لكي ألهج بأقوالك» (آيتا 147، 148). ربما كان كاتب هذا الجزء من مزمورنا كاهناً عليه مسؤولية في الهيكل، فكان يستيقظ مبكراً ليقوم بخدمته الدينية، وليصرخ طالباً حياة الطاعة والانتصار، وكانت عيناه تسبق أقسام الليل شوقاً للقيام بصلواته. وكان اليهود يقسمون الليل إلى ثلاثة أقسام، الهزيع الأول في أول الليل، والهزيع الثاني وهو الأوسط، والهزيع الثالث ويُسمّى هزيع الصبح. وكان الرومان يقسمون الليل إلى أربعة أقسام وهي مساءً، ونصف الليل، وصياح الديك، وصباحاً. ولم تكن عند المرنم وسيلة إيقاظ مما عندنا اليوم، فكان يوقظه هاتف داخلي هو أقوى من كل ساعة أو منبِّه، فكان يفتدي الوقت ليدرس كلمة الله ويصلي.
(ج) حفظها بالرغم من المقاومة: «اقترب التابعون الرذيلة. عن شريعتك بَعُدوا. قريبٌ أنت يا رب وكل وصاياك حق. منذ زمان عرفتُ من شهاداتك أنك إلى الدهر أسستها» (آيات 150-152). في هذه الآيات قُرب وبُعد. اقترب الأشرار من المرنم ليؤذوه لأنهم بعدوا عن شريعة الرب. فاقترب المرنم من الرب، لأنه قريب. وكل من يبتعد عن الله يقترب من البشر ليؤذيهم، ولكن المؤمن مطمئن لأن «الرب قريب لكل الذين يدعونه، الذين يدعونه بالحق» (مز 145: 18). والتقي مطمئن لوصايا الله لأنها حق، وقد عرف وآمن أن الرب أسس مواعيده على أمانته، وفيها النعم والآمين لمجد الله (2كو 1: 20). وعرف فائدة الشريعة منذ زمن، ولم تبعده كل الصعوبات عن حفظها «لأنه من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدَّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف.. فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة.. تقدر أن تفصلنا عن محبة الله» (رو 8: 35-39).

2 – المرنم يستمر في حفظ الفرائض: (آيات 153-160).
(أ) لا ينساها حتى في الضيق: «انظُر إلى ذلي وأنقذني لأني لم أنسَ شريعتك. أحسِن دعواي وفُكني. حسب كلمتك أحيني. الخلاص بعيد عن الأشرار لأنهم لم يلتمسوا فرائضك» (آيات 153-155). سيظل المرنم يحفظ وصايا الله حتى لو قاومه الأشرار وأذلوه. وهو يعلم أن الله هو المحامي والمدافع عنه، فيقول مع النبي ميخا: «يُقيم دعواي ويُجري حقي. سيُخرجني إلى النور. سأنظر بره» (مي 7: 9). وهو يطلب أن يفكَّه الرب من أسر الخطاة الدائنين بأن يسدَّد ديونه ويطلقه حراً، ويطلب الحياة ذات القيمة التي وعد الله بها من يحبونه، فتكون له حياة ويكون له أفضل (يو 10: 10)، لأنه هو شفيعه. وهو يعلم أن الخلاص بعيد عن الأشرار لأنهم لم يلتمسوا فرائض الله التي التمسها هو، فصار الخلاص قريباً منه.
(ب) يطيعها لأن رحمة الله كثيرة: «كثيرةٌ هي مراحمك يا رب، حسب أحكامك أحيني. كثيرون مضطهديَّ ومضايقيَّ، أما شهاداتك فلم أمل عنها. رأيتُ الغادرين ومقتُّ، لأنهم لم يحفظوا كلمتك. انظُر أنى أحببتُ وصاياك، يا رب حسب رحمتك أحيني. رأس كلامك حق، وإلى الدهر كل أحكام عدلك» (آيات 156-160). في هذه الآيات نجد كثرة مراحم الله الذي يحب المرنم ويحبه المرنم، كما نرى كثرة عدد الأشرار الذين يبغضون المرنم، ويبغض المرنم أفعالهم السيئة، فقال: «كثيرة هي مراحمك» (157) وقال: «كثيرون مضطهديَّ ومضايقيَّ» (158). ومن هذا نرى الرحمة تسبق الاضطهاد، كما أنها تتبع المؤمن، فيقول: «إنما خيرٌ ورحمة يتبعانني كل أيام حياتي» (مز 23: 6). فالرحمة أمامه وخلفه لأنه تمسَّك بوصايا الله وشهاداته، فلم يعُد يخشى الاضطهادات، وسار في طريق الرب ثابتاً وهو يقول: «أرى الرب أمامي في كل حين أنه عن يميني لكي لا أتزعزع» (أع 2: 25).
ونرى في هذه الآيات فعلين يظهران متناقضين، إذ يقول: «مقتُّ الغادرين» (158)، «أحببتُ وصاياك» (159). لكنهما ليسا متناقضين في الحقيقة لأن الذي يحب وصايا الله يكره شرور الغادرين ويحزن على من أحبوا الخطية ولم يحفظوا كلمة الله. لقد مقت قساوة قلوبهم ومقت الخطية بقدر ما أحب وصايا الله التي أحدثت كل التغيير في حياته.
وفي الآيتين 156، 159 يكرر المرنم الطلبة: «أحيني حسب أحكامك» و«حسب رحمتك أحيني» فهو يريد أن يحيا حسب أحكام الرب، ولكنه يعرف ضعفاته وهفواته، فيطلب أن يحيا حسب رحمة الرب. والحياة في الطلبتين عطية إلهية، حسب رحمة الله وحسب مواعيده الصالحة إذ «لم تسقط كلمة واحدة من جميع الكلام الصالح الذي تكلم به الرب» (يش 23: 15).

ثالثاً – ثمرتان للحياة المنتصرة
(آيات 161-176)
1- ثمرة السلام: (آيات 161-168).
(أ) سلام حتى وسط الاضطهاد: «رؤساء اضطهدوني بلا سبب، ومن كلامك جزع قلبي. أبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنيمة وافرة. أبغضتُ الكذب وكرهته، أما شريعتك فأحببتُها. سبع مرات في النهار سبَّحتك على أحكام عدلك» (آيات 161-164). يكره الأشرار الأتقياء ويضطهدونهم، وهو ما ظل المرنم يكرره طيلة هذا المزمور. اضطهده الرؤساء الذين وهبهم الرب السلطة، وأعطاهم الشريعة ليحكموا بالعدل، ولكنهم أساءوا استعمال سلطتهم واضطهدوه بلا سبب. غير أنه بقي في سلام رغم الاضطهاد، لأن الرب وقف معه وقواه، وكأنه يقول له: «لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك، يقول الرب» (إر 1: 8)، فجعل المرنم مواعيد الرب أمامه في كل حين، وأطاع الله أكثر من الناس عملاً بقول المسيح: «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد.. بل.. خافوا من الذي بعد ما يقتل الجسد له سلطان أن يلقي في جهنم» (لو 12: 4، 5). وينشئ الإيمان بالكلمة في قلب التقي جزعاً وخوفاً مقدساً يحفظه من الشر، ويعزيه ويطمئنه وسط ضيقاته. وقد خلق هذا الاطمئنان لكلام الرب في قلب المرنم بهجة مثل الجندي الذي وجد غنيمة، فقال: «جعلتَ سروراً في قلبي أعظم من سرورهم إذ كثرت حنطتهم وخمرهم. بسلامة أضطجع بل أيضاً أنام، لأنك أنت يا رب منفرداً في طمأنينة تسكنني» (مز 4: 7، 8). لقد قال المسيح: «إن أحبني أحد يحفظ كلامي» (يو 14: 23). وقد أحب المرنم شريعة ربه لأنها كاملة ترد النفس، فاختبر النقيضين: حب الكلمة والابتهاج بها، وبغض الكذب لأنه مكرهة الرب، وكان التقليد يفرض على اليهود أن يصلوا ثلاث مرات يومياً، في الصباح والظهر والمساء، أما المرنم فقد سبح الرب على أحكام بره سبع مرات، والسبع هو عدد الكمال.
(ب) سلام محبّي الشريعة: «سلامة جزيلة لمحبي شريعتك، وليس لهم معثرة. رجوتُ خلاصك يا رب، ووصاياك عملتُ. حفظت نفسي شهاداتك، وأُحبها جداً. حفظتُ وصاياك وشهاداتك لأن كل طرقي أمامك» (آيات 165-168). سلام الله جزيل، ليس نتيجة لمعاملة الناس للمؤمن، فإنهم يضعون له العثرات، لكن لأنه أحب كلمة الله وجد فيها طمأنينته وبهجته، فمتَّعه الله بوعد المسيح: «سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا» (يو 14: 27). ويزيد هذا السلام كل تقي نمواً في النعمة فيرجو دوماً خلاص الرب وينتظره. ويربط المرنم بين الرجاء والطاعة. وكلما كان الإيمان حياً زادت الثقة بما يُرجى والإيقان بالأمور التي لا تُرى، وزادت الطاعة انتظاراً لتحقيق الوعد «في طريق أحكامك يا رب انتظرناك» (إش 26: 8).
2- ثمرة الفرح: (آيات 169-176).
(أ) فرح استجابة صلاته: «ليبلُغ صراخي إليك يا رب. حسب كلامك فهِّمني. لتدخل طلبتي إلى حضرتك. ككلمتك نجِّني. تُنبِّع شفتاي تسبيحاً إذا علَّمتَني فرائضك. يغني لساني بأقوالك لأن كل وصاياك عدل» (آيات 169-172). يصرخ المرنم أولاً كطفل خائف يحتمي في أبيه، ثم يهدأ ويطلب أن يفهم أقوال أبيه ووعوده الأمينة. وهو يطلب أن تصل طلبته إلى المسامع الإلهية فتتحقق له الوعود بالنجاة، فيتم القول: «الرب أصغى وسمع، وكُتب أمامه سفر تذكرة للذين اتَّقوا الرب، وللمفكرين في اسمه» (ملا 3: 16). عند هذا «تنبِّع» شفتا المرنم وتفيضان بتسبيحات الشكر لكثرة ما ارتوى مما تعلمه من وصايا الرب، فيصير المرنم مثل أرض غمرتها المياه فارتوت بفيضٍ، وأخذت المياه تنبع منها، فأعطت بعد أن كانت تأخذ.
(ب) فرح نتيجة لطاعته: «لتكن يدك لمعونتي لأنني اخترت وصاياك. اشتقت إلى خلاصك يا رب، وشريعتك هي لذتي. لتحيَ نفسي وتسبحك، وأحكامك لتُعِنّي. ضللتُ كشاة ضالة. اطلب عبدك لأني لم أنس وصاياك» (آيات 173-176). ما أعظم فرح المؤمن المطيع وهو يسمع مدح الرب له. وقد ظهرت طاعة المرنم من أربع عبارات قالها:
(1) »لأني اخترت وصاياك« (آية 173). كان اختيار اتِّباع الوصايا أول أسباب الفرح، فقد نال معونة الرب التي زادته فرحاً وضمنت استمراره فيه. والله لا يجبر أحداً على طاعته «فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون» (يش 24: 15).
(2) »شريعتك هي لذَّتي« (آية 174). تلذَّذ المرنم بكلمة الله فأطاعها، وكان هذا مصدر فرح روحي عميق له. لما كانت شريعة الله لذته حقَّ له أن ينتظر خلاص الرب الموعود به في كلمة الله، والذي قال عنه الرسول بطرس: «ليس بأحد غيره (غير المسيح) الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء، قد أُعطي بين الناس، به ينبغي أن نخلص» (أع 4: 12). وكل الذين وجدوا لذتهم في شريعة الله يحق لهم أن يفرحوا.
(3) »أحكامك لتُعنّي« (آية 175). كانت أحكام الله وأوامره مصدر معونة له ليعيش حياة الطاعة. وعندما ينفذ المؤمن أحكام الله، وتكون وعودها معونته في زمن الضيق، فيختبر الحياة المفرحة ذات المعنى والقيمة، وتطول أيامه على الأرض، لا بعددها بل بنوعيتها. وكل من تعينه أحكام الرب يختبر الحياة الأفضل التي جاءنا المسيح بها، فيقول: «فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ» (غل 2: 20)، ويقول: «عرَّفتني سبُل الحياة، وستملأني سروراً مع وجهك» (أع 2: 28).
(4) »لم أنسَ وصاياك« (آية 176). في كل وقت ذكر المرنم وصايا الرب فزادته تلذُّذاً وفرحاً. ولكن من الغريب أن يختم مزموره بالقول: «ضللتُ كشاةٍ ضالة. اطلُب عبدك لأني لم أنسَ وصاياك» فنتساءل: كيف يقول هذا، وقد قال إنه يحب الرب بكل قلبه، ويتمتع بسلامه وفرحه، ولم ينسَ وصاياه؟.. الحقيقة هي أن كل مؤمن تقي يدرك أنه ضعيفٌ معرَّضٌ للضلال في أي وقت. وما لم يلقِ بنفسه على نعمة الله فسيضل ولا يعرف كيف يرجع. إنه يذكر القول: «فمن يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط» (1كو 10: 12). «كلنا كغنم ضللنا» ونضل، ولكن الرب يقول: «أسأل عن غنمي وأفتقدها كما يفتقد الراعي قطيعه.. هكذا أفتقد غنمي وأخلِّصها.. وأُخرِجها من الشعوب وأجمعها من الأراضي وآتي بها إلى أرضها وأرعاها.. أرعاها في مرعى جيد. أنا أرعى غنمي.. وأطلب الضال، وأستردُّ المطرود، وأَجبِر الكسير، وأعصِب الجريح» (حز 34: 11-16). وبهذا يطمئن المؤمن أن الراعي الصالح لن يتركه، فهو يقول: «خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد» (يو 10: 27-30).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالْعِشْرُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
1 إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِي صَرَخْتُ، فَاسْتَجَابَ لِي. 2يَا رَبُّ، نَجِّ نَفْسِي مِنْ شِفَاهِ الْكَذِبِ، مِنْ لِسَانِ غِشٍّ. 3مَاذَا يُعْطِيكَ، وَمَاذَا يَزِيدُ لَكَ لِسَانُ الْغِشِّ؟ 4سِهَامَ جَبَّارٍ مَسْنُونَةً مَعَ جَمْرِ الرَّتَمِ. 5وَيْلِي لِغُرْبَتِي فِي مَاشِكَ، لِسَكَنِي فِي خِيَامِ قِيدَارَ! 6طَالَ عَلَى نَفْسِي سَكَنُهَا مَعَ مُبْغِضِ السَّلاَمِ. 7أَنَا سَلاَمٌ، وَحِينَمَا أَتَكَلَّمُ فَهُمْ لِلْحَرْبِ.

من الأرض البعيدة
مزمورنا أول خمسة عشر مزموراً (من 120-134) تُسمَّى «مزامير المصاعد» كان بنو إسرائيل يرتلونها في طريق حجِّهم كل سنة إلى أورشليم، عاصمتهم الدينية والسياسية، ليحتفلوا بعيد الفصح، وهو الاحتفال بعبور آبائهم البحر الأحمر ونجاتهم من عبودية فرعون. وسُمِّيت المصاعد بمعنى الارتقاء والارتفاع والصعود إلى جبل الرب حيث هيكله الذي بناه سليمان. وتنقسم هذه المزامير الخمسة عشر إلى مجموعتين، تتكوَّن كل مجموعة منها من سبعة مزامير يتوسطها مزمورٌ لسليمان.. خمسة من كل مجموعة لم يُذكر فيها اسم الكاتب، ومزموران لداود.
وذكر المفسرون خمسة احتمالات لمناسبة كتابتها:
1 – هي أناشيد الراجعين من سبي بابل بقيادة عزرا الكاتب، رنموها في طريق عودتهم وهم يتطلعون إلى الجبل الذي بُني عليه هيكل الله، كما قيل: «عزرا هذا صعد من بابل.. وصعد معه من بني إسرائيل.. في الشهر الأول ابتدأ يصعد من بابل، وفي أول الشهر الخامس جاء إلى أورشليم، حسب يد الله الصالحة عليه» (عز 7: 6-9).
2 – هي مزامير كان يرتلها اللاويون على خمس عشرة درجة سلم في الهيكل الثاني، كانت توصِّل بين دار النساء ودار الرجال. فكانوا يرنمون مزموراً على كل درجة من هذه الدرجات الخمس عشرة.
3 – هي مزامير ذكرى لاستجابة الله لصلاة الملك الصالح حزقيا، فأضاف إلى عمره خمس عشرة سنة، فكُتبت هذه المزامير الخمسة عشر احتفالاً بهذه السنوات الخمس عشرة (إش 38: 5، 8، 20).
4 – هي مزامير كان الحجاج يرتلونها أثناء صعودهم إلى أورشليم ليعيِّدوا ثلاث مرات في السنة، في الأعياد الثلاثة الرئيسية (لا 23) كما قيل: «تكون لكم أغنيةٌ، كليلة تقديس عيدٍ، وفرح قلبٍ كالسائر بالناي ليأتي إلى جبل الرب» (إش 30: 29).
5 – هي معانٍ روحية للارتقاء الروحي، وهي دعوة عامة للمؤمنين في كل العصور لترتفع حياتهم الروحية وتسمو، محقِّقين الوصية الرسولية: «انموا في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح» (2بط 3: 18).
تبدأ مزامير المصاعد بمزمورنا، وهو صرخة متألم يعيش في بلد بعيد عن الهيكل، ويشتاق إلى الوقوف بأعتابه، يطلب فيه من الرب أن يرفع عنه ألم الغربة في الأرض البعيدة، ويرفعه ليعبده ويعيِّد له في هيكله. إنه متضايق من البُعد عن مكان العبادة، ومن سوء معاملة الأشرار. وهو يصعد بتفكيره إلى جذوره الروحية المشتاقة لعبادة إلهه الذي به يحيا ويتحرك ويوجد. ويعبِّر هذا المزمور عن أشواق كل مؤمن للتواجد في حضرة الله وعبادته، ولسان حاله: «يا الله إلهي أنت، إليك أبكِّر. عطشَت إليك نفسي. يشتاق إليك جسدي في أرضٍ ناشفةٍ ويابسة بلا ماء» (مز 63: 1).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الله يستجيب (آية 1)
ثانياً – شكوى من العدو (آيات 2-4)
ثالثاً – شكوى من الغربة (آيات 5-7)

أولاً – الله يستجيب
(آية 1)
«إلى الرب في ضيقي صرختُ، فاستجاب لي» (آية 1). في وقت الضيق تجزع النفس فتصرخ، كطفلٍ خائف يستنجد بأمه، فتطمئنه وتسرع إليه، كما صرخ بطرس لما رأى الريح شديدة وابتدأ يغرق، فصرخ: «يا رب، نجِّني» فمدَّ المسيح يده إليه وأمسك به وأنقذه (مت 14: 30، 31). ويذكر المرنم المعيِّد ضيقاته في بلده البعيدة عن بيت الرب وكيف صلى، فاستجابه الرب وسمع شكواه. وفي نور هذه الاستجابة وما سبقها من اختبارات، طلب معونة جديدة، لأن نفسه ضاقت من أعدائه ومن غربته بعيداً عن بيت الرب. إنه متألم من وشايات الأشرار، يصرخ إلى الرب باتضاع وإيمان. وهو يعلم أن الرب لا بد سيسمعه فتعزى وتشجع، لأنه يقول: «ادعُني في يوم الضيق، أنقذك، فتمجِّدَني» (مز 50: 15)، فيقول: «بصوتي إلى الرب أصرخ، فيجيبني من جبل قُدسه» (مز 3: 4).
في الأرض البعيدة، بين الأشرار لاقى المرنم ضيقاً وسهاماً قاتلة، فاتَّجه إلى بيت الرب، حيث يسمع كلمته فيجد الرُّحب، ويقول: «أتمشَّى في رُحب لأني طلبت وصاياك.. لكل كمال رأيت حداً، أما وصيتك فواسعة جداً» (مز 119: 45، 96). حقاً إن الرب «إله غفور وحنان ورحيم طويل الروح وكثير الرحمة» (نح 9: 17)، يرحِّب بالمرنم في مقدسه، ويستجيب له.

ثانياً – شكوى من العدو
(آيات 2-4)
1 – العدو يهاجم بلسانه: «يا رب، نجِّ نفسي من شفاه الكذب، من لسانِ غشٍّ» (آية 2). ما أكثر الكذب والافتراء في عالمنا. قال المرنم عن الكاذبين: «لأن ليس في أفواههم صِدق. جوفهم هوَّة. حلقهم قبر مفتوح. ألسنتهم صقلوها» (مز 5: 9) «يتكلمون كل واحد مع صاحبه بشفاه ملقة. بقلبٍ فقلبٍ يتكلمون. يقطع الرب جميع الشفاه الملقة واللسان المتكلم بالعظائم، الذين قالوا: بألسنتنا نتجبَّر. شفاهنا معنا. مَن هو سيدٌ علينا؟» (مز 12: 2-4). وقد يبرر الناس كذبهم بالقول إن هناك كذبة بيضاء، أو إنها كذبة صغيرة، ولكن الوصية الرسولية تقول: «اطرحوا عنكم الكذب، وتكلَّموا بالصدق كل واحد مع قريبه، لأننا بعضَنا أعضاءُ البعض» (أف 4: 25). ولسان الغش هو الذي يعوِّج المستقيم «الذي يدنِّس الجسم كله، ويضرِم دائرة الكون، ويُضرَم من جهنم.. هو شر لا يُضبَط، مملوٌّ سماً مميتاً» (يع 3: 6-9).
كانت هذه الشكوى لسان حال المسبيين في أرض الغربة وهم يحسون بالاضطهاد الشديد من الأغلبية التي تعبد الوثن من حولهم، وهم الأقلية يعبدون يهوه الإله الواحد الذي أمرهم أن يقولوا: «الرب إلهنا رب واحد» (مر 12: 29)، كما أن هذه الشكوى يمكن أن تعبِّر عن حال إنسان واحد في مكان معين يعاني من صعوبات معينة. وسواء كانت هذه شكوى فرد أو شكوى جماعة، فهي موضوع اهتمام الرب.
وقد اختبر المسيح ما اختبره المرنم المتألم، فقال للذين رفضوا تعليمه: «لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي. أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتّالاً للناس من البدء، ولم يثبُت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب. وأما أنا فلأني أقول الحق لستم تؤمنون بي» (يو 8: 43-45).
2 – الرب يعاقب لسان الغش: «ماذا يعطيك، وماذا يزيد لك لسان الغش؟ سهامَ جبّارٍ مسنونةً، مع جمر الرَّتَم» (آيتا 3، 4). في هاتين الآيتين يسأل المرنم الشرير: ما هي المجازاة التي تنتظرها من تلطيخ سمعة أخيك بالكلام الكاذب؟ ماذا ستستفيد؟ «ليس شيء خفي لا يُظهَر، ولا صار مكتوماً إلا ليُعلَن» (مر 4: 22). «كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس يعطون عنها حساباً يوم الدين. لأنك بكلامك تتبرَّر وبكلامك تُدان» (مت 12: 36، 37). لا بد أن ترتد إلى الشرير سهام دينونة الله ونار عدالته. «الله قاضٍ عادل، وإلهٌ يسخط في كل يوم. إن لم يرجع (الشرير تائباً) يحدِّد (الرب) سيفه. مدَّ قوسه وهيَّأها، وسدَّد نحوه آلة الموت. يجعل سهامه ملتهبة» (مز 7: 11-13). «الذين صقلوا ألسنتهم كالسيف. فوَّقوا سهمهم كلاماً مُرّاً ليرموا الكامل في المختفَى بغتة. يرمونه ولا يخشون.. فيرميهم الله بسهم. بغتةً كانت ضربتهم. ويُوقِعون ألسنتهم على أنفسهم. يُنغِض الرأسَ كلُّ من ينظر إليهم» (مز 64: 3، 4، 7، 8)
ستصيب سهامُ الرب الجبار كلَّ شرير «مع جمر الرَّتَم». والرَّتم شجر كانوا يحرقون جذوره فيستمر اشتعالها مدة طويلة، ويحترق جيداً وبقوة. وهذا ما يصفه المرنم بقوله: «ليسقط عليهم حجر. ليسقطوا في النار وفي غمرات فلا يقوموا» (مز 140: 10). كل من يهرب من الله يصيب نفسه بجمر الرَّتَم الملتهب الذي يستمر اشتعاله طويلاً، كما حدث لقايين بعدما قتل أخاه هابيل، فهرب من وجه الرب وسكن أرض نود (وهي كلمة عبرية تعني أرض البُعد والتعب).
يتألم المؤمن من شفاه الكذب ولسان الغش. ولكن الرب يُخرج كالنور برَّه، وحقَّه مثل الظهيرة (مز 37: 6). ويعينه على احتمال الكذب الذي لا بد سينكشف ويُعاقب، فالتجربة إلى ساعة، والنصر قادم لا شك فيه.. وكما جاءت قيامة المسيح بعد صليبه، لا بد أن يرتفع المؤمن فوق متاعبه.

ثالثاً – شكوى من الغربة
(آيات 5-7)
1 – هي غُربة في بلاد بعيدة: «ويلي لغُربتي في ماشِكَ، لسكني في خيام قيدار» (آية 5). ماشك هو ابن يافث (تك 10: 2)، ونسله شعب يسكن في ما يُعرَف الآن بغرب إيران وأرمينيا، وربما تكون ماشك هي موسكو الحالية في روسيا. وقيدار ابن إسماعيل الثاني (تك 25: 13) ونسله قبيلة من البدو الرُّحل كانت تسكن في شبه الجزيرة العربية، وكان أفرادها في مشاحنات دائمة بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين جيرانهم (تك 16: 12). وما أبعد ماشك وقيدار عن هيكل الله. والأغلب أن المرنم لا يقصد أنه سكن في ماشك في أقصى الشمال، ولا في قيدار في أقصى الجنوب، إنما هو يعبِّر عن حالةٍ من الاغتراب النفسي، وكأنه موجود في بلاد بعيدة يسكن بين من يضايقونه، وسط مجتمع وثني بعيد عن الله، يعبد الأصنام. وفي هذه البلاد البعيدة لم تكن للمرنم فرصة تقديم الذبائح لله، ولا العبادة في هيكله.
2 – هي غربة طويلة: «طال على نفسي سكنُها مع مبغضِ السلام. أنا سلام، وحينما أتكلم فهُم للحرب» (آيتا 6، 7). استمرت ويلات المرنم لأن الجيران الذين عاش وسطهم كانوا أهل حرب يبغضون السلام، بينما هو سلام، و«طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعَون» (مت 5: 9). وقد وصف المرنم نفسه بأنه صلاة (مز 109: 4)، فلم يكن سهلاً عليه، وهو سلام وصلاة، أن يحيا بين مبغضي السلام ومحبي الحرب. ولكي نتحاشى المرور بالآلام التي جازها المرنم يجب أن نطيع نصيحة الرسول بولس: «لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خِلطة للبر والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟ وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟ وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟ وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان؟ فإنكم أنتم هيكل الله الحي.. لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب، ولا تمسوا نجساً فأقبلكم، وأكون لكم أباً وأنتم تكونون لي بنين وبنات.. فإذ لنا هذه المواعيد لنطهِّر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح مكمِّلين القداسة في خوف الله» (2كو 6: 14-7: 1).
ونقدم نصيحتين لكل مؤمن يقول: «أنا سلام، وحينما أتكلم فهم للحرب».
(أ) ابتعِد جغرافياً: «باعد رجلك عن الشر» (أم 4: 27). لا تجعل بينك وبين الأشرار علاقة مباشرة، ولا تذهب إلى مكان أو تشرع في عمل تعلم أن الله يرفض أن يكون معك فيه.. عندما حدثت مخاصمة بين رعاة مواشي لوط ورعاة مواشي إبراهيم، قال إبراهيم للوط: «لا تكن مخاصمة بيني وبينك، وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أخوان. أليست كل الأرض أمامك؟ اعتزل عني. إن ذهبت شمالاً فأنا يميناً، وإن يميناً فأنا شمالاً» (تك 13: 5-9). لكن إبراهيم لم يبتعد عن لوط بقلبه، فعندما أُخذ لوط مسبياً ذهب إبراهيم وراءه لينقذه (تك 14).
(ب) احتمِل في صبر: المحبة تصبر على كل شيء «لا تجازوا أحداً عن شر بشر، معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس.. إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس. لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكاناً للغضب، لأنه مكتوب: لي النقمة أنا أجازي يقول الرب. فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه.. لا يغلبنَّك الشر، بل أغلب الشر بالخير» (رو 12: 17-21).
إن كنت قد سلَّمت حياتك للرب، ثم ابتعدت وسكنت في أرض بعيدة، فضعُفت حياتك الروحية، وأصبحت تعاني من الغربة والمتاعب في وسط مبغضي السلام، فلتكن هذه المتاعب دافعاً لك للرجوع إلى الرب الذي يرد نفسك ويهديك إلى سبل البر. فهيا نرجع من الأرض البعيدة، من أرض الضعف والفتور الروحي إلى الله، ولنصعد إلى جبل الرب بالترنيم والهتاف.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالْحَادِي وَالْعِشْرُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
1 أَرْفَعُ عَيْنَيَّ إِلَى الْجِبَالِ مِنْ حَيْثُ يَأْتِي عَوْنِي. 2مَعُونَتِي مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ صَانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. 3لاَ يَدَعُ رِجْلَكَ تَزِلُّ. لاَ يَنْعَسُ حَافِظُكَ. 4إِنَّهُ لاَ يَنْعَسُ وَلاَ يَنَامُ حَافِظُ إِسْرَائِيلَ. 5الرَّبُّ حَافِظُكَ. الرَّبُّ ظِلٌّ لَكَ عَنْ يَدِكَ الْيُمْنَى. 6لاَ تَضْرِبُكَ الشَّمْسُ فِي النَّهَارِ، وَلاَ الْقَمَرُ فِي اللَّيْلِ. 7الرَّبُّ يَحْفَظُكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ. يَحْفَظُ نَفْسَكَ. 8الرَّبُّ يَحْفَظُ خُرُوجَكَ وَدُخُولَكَ مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ.

الرب حافظك
هذا ثاني ترانيم المصاعد، كانوا يرنمونه بعد بدء رحلة الحُجاج من مختلف البلاد متَّجهين إلى هيكل الله، ليعيّدوا له. وترمز هذه الرحلة الروحية لكل حياة إيمانية، فمع أن المؤمن يعيش في العالم المتعِب، إلا أنه ليس منه، كما صلى المسيح لأجلنا: «لستُ أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير. ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم. قدِّسهم في حقك. كلامك هو حق» (يو 17: 15-17). لهذا تتَّجه قلوبنا دائماً في رحلة روحية إلى أعلى لنأتنس بالرب في بيته المقدس.
في المزمور المئة والعشرين تطلع المرنم المتألم المتضايق إلى الرحلة الروحية التي سترفعه من ضيقه لأنه يتقرَّب إلى الله، فترك أرض التعب بادئاً حجَّه المقدس إلى أورشليم. لكنه يعلم أنه سيلاقي مخاطر في سفره، لأن الطرق لم تكن آمنة، كما نفهم من مثَل السامري الصالح عن اليهودي المسافر من أورشليم إلى أريحا، الذي طلع عليه اللصوص وسلبوا ماله وجرحوه وتركوه بين حي وميت، فعطف عليه سامري أجنبي عنه في الدين واللغة، وأنقذه (لو 10).
رأى المرنم حاجته إلى الحماية، فرفع عينيه إلى الرب الذي منه يأتيه العون والحفظ وهو يذكر وعد الله لجدِّه الأكبر يعقوب، فقد طمأنه الرب وهو يقوم برحلته من بيت أبيه إلى بيت خاله، وقال له: «أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردُّك إلى هذه الأرض. لأني لا أتركك حتى أفعل ما كلمتُك به» (تك 28: 15).. وما أن رفع المرنم صوته بالترتيل حتى جاءه التشجيع من زملائه المسافرين معه، يؤكدون له أن الله سيحفظه ويحفظهم معه من كل شر.
كان الداخل إلى هيكل أورشليم يجد على يمينه غلافاً معدنياً بداخله ورقة كُتبت عليها آيات من التوراة، منها: «اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك.. اكتُبها على قوائم بيتك» (تث 6: 4-9). «إذا سمعتُم لوصاياي التي أنا أوصيكم بها.. تكثُر أيامك وأيام أولادك على الأرض» (تث 11: 13-21)، ومنها الآية الأخيرة من مزمورنا: «الرب يحفظ خروجك ودخولك من الآن وإلى الدهر» (آية 8).. فكان المؤمن عند دخوله الهيكل يلتفت يميناً ويلمس الغلاف المعدني رمزاً لثقته في الرب الذي يحقق مواعيده لكل من يحب الرب بكل قلبه وبكل نفسه، ويحفظه دائماً في كل تحركاته من خروج ودخول.
في كتاب «سياحة المسيحي» تخيَّل الكاتب يوحنا بنيان أن كل مؤمن يقوم برحلة روحية يخرج فيها من مدينة الهلاك ويتَّجه إلى المدينة السماوية، وهي رحلة تُعرف بدايتها بأنها «ولادة جديدة». وفي أول الطريق قابل السائح «بالوعة يأس» التي كان يمكن أن يغرق فيها لولا تمسُّكه بثقته في ربِّه، فانتصر على اليأس واستمر في رحلته المليئة بالمصاعب التي اضطرت البعض أن يرتدّوا عن طريق الرب، لأنهم لم يركزوا نظرهم على الرب، بل على قدراتهم الذاتية وعلى صعوبات الطريق. ويجرِّب الشيطان كل سائح روحي يسافر نحو المدينة السماوية أن يحوِّل عينيه عن الله مصدر المعونة، فيفقد السلام والاطمئنان.
ما أحوج كل حاج روحي في بداية رحلته أن يرتِّل كلمات هذا المزمور ليتشجَّع، وليشجِّع غيره من المؤمنين، فيثبتون حتى نهايتها، ويتعلمون أن يتكلوا على أمانة الرب وحده.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يطلب العون (آيتا 1، 2)
ثانياً – مرنم آخر يدعو له بالعون (آية 3)
ثالثاً – جوقة المرنمين تؤكد له العون (آيات 4-8)

أولاً – المرنم يطلب العون
(آيتا 1، 2)
«أرفع عينيَّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني. معونتي من عند الرب صانع السماوات والأرض» (آيتا 1، 2). مدينة أورشليم مبنيَّة على سبعة تلال، فرفع المرنم من بعيد عينيه إلى التلال السبعة، وركَّز انتباهه على الجبل الذي بُني عليه الهيكل، وفيه كان الرب يحل بالمجد الدائم، حيث تابوت العهد، وكهنة الله العلي الذين يرفعون لله تراتيل الهتاف. ويؤمن المرنم أن الرب في هيكل قدسه، فلتصمُت كل الأرض في حضرته إجلالاً، ولتمتدَّ يد معونته إلى عبده (حب 2: 20).
وربما طلب المرنم المعونة الإلهية لأنه رأى خطراً يتهدَّده هو شخصياً، أو يهدد الحجاج المسافرين معه إلى الهيكل. وقد يكون أنه رأى خطراً محدقاً بالهيكل من أعداء الرب الذين اشتكى منهم في المزمور السابق، فبدأ يرفع عينيه إلى الجبال، لا لأنه كان ينتظر المعونة من الجبال، بل من خالق الجبال، فقد قال النبي إرميا: «حقاً باطلةٌ هي الآكامُ ثروةُ الجبال. حقاً بالرب إلهنا خلاص إسرائيل» (إر 3: 23). إنه يرفع عينيه من الجبال إلى الهيكل المبني فوق الجبل، حيث بيت صانع السماوات والأرض، ويردِّد: «بصوتي إلى الرب أصرخ، فيجيبني من جبل قُدسه» (مز 3: 4). «الرب يحامي عني. يا رب، رحمتك إلى الأبد. عن أعمال يديك لا تتخلَّ» (مز 138: 8).
إن الله موجود في كل مكان بصورة عامة، ولكنه موجود بصورة خاصة في مكان السجود والعبادة، بين المؤمنين. «المتوكلون على الرب مثل جبل صهيون الذي لا يتزعزع بل يسكن إلى الدهر. أورشليم الجبال حولها، والرب حول شعبه من الآن وإلى الدهر» (مز 125: 1، 2).
في مطلع مزمورنا يعبِّر المرنم عن ثقته ورجائه في الرب، وهو متأكد من حصوله على المعونة من القادر على كل شيء، لأنه خالق كل شيء. وما أعظم الفرق بينه وبين الأصنام «الآلهة التي لم تصنع السماوات والأرض تبيد من الأرض، ومِن تحت هذه السماوات. صانع الأرض بقوَّته، مؤسس المسكونة بحكمته، وبفهمه بسط السماوات» (إر 10: 11، 12).. «فلنتقدَّم بثقة إلى عرش النعمة، لكي ننال رحمة، ونجد نعمةً، عوناً في حينه» (عب 4: 16). ويا لها من محبة سماوية تعطي بسخاء ولا تعيِّر. «أما منتظرو الرب فيجدِّدون قوة. يرفعون أجنحةً كالنسور» (إش 40: 31).

ثانياً – مرنم آخر يدعو له بالعون
(آية 3)
سمع أحد الحجاج دعاء المرنم وهو يطلب المعونة من صانع السماوات والأرض، فتوحَّد معه بقلبه، وضمَّ صوته إلى صوته، وأجابه بدعاء، وبكلمة تشجيع:
1 – دعاء: «لا يدع رِجْلك تزلّ» (آية 2أ). «لا يدع» في اللغة العبرية الأصلية للمزمور وردت في صيغة الأمر، وكأن الحاج يقول: أَطلب من الله ألا يدع رجلك تزل، بل يثبِّتك وأنت تصعد إلى هيكل الرب. أدعوه أن يمنع القلق من أن يسيطر عليك، ويدفع عنك وعنا الخطر ويُعطيك السلام والاطمئنان.
ما أجمل أن نصلي من أجل بعضنا، ونضم أصواتنا إلى أصواتهم الداعية، فقد «ردَّ الرب سبي أيوب لما صلى لأجل أصحابه» (أي 42: 10)، «لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدَّد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه» (2أخ 16: 9) «في كل مكان عينا الرب مراقبتين الطالحين والصالحين» (أم 15: 3) «ليست خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا» (عب 4: 13). فلنشجِّع بعضنا بعضاً، واثقين مطمئنين أنه «طوبى للأمة التي الرب إلهها، الشعب الذي اختاره ميراثاً لنفسه. من السماوات نظر الرب. رأى جميع البشر. من مكان سُكناه تطلَّع إلى جميع سكان الأرض» (مز 33: 12-14).
2 – تشجيع: «لا ينعس حافظك» (آية 2ب). ثم شجع المسافر زميله بأن الله لا يدركه النوم، فهو لا ينعس. لسان حاله يقول: «لأني عالمٌ بمن آمنت، وموقنٌ أنه قادرٌ أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم» (2تي 1: 12).. ولعل المرنم كان يذكر سخرية النبي إيليا من عبّاد الوثن وهم يصلّون لأصنامهم، فقال لهم: «ادعوا بصوتٍ عالٍ لأنه إله! لعله مستغرقٌ أو في خَلوة، أو لعله نائم فيتنبَّه» (1مل 18: 27).

ثالثاً – جوقة المرنمين تؤكد له العون
(آيات 4-8)
بعد أن عبَّر المرنم عن حاجته إلى معونة الرب، وبعد أن ردَّ عليه أحد الحجاج بالدعاء والتشجيع، انضم إليهم جمهور المسافرين وصاروا جوقة ترتيل واحدة.
1 – الرب لا ينام: «إنه لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل» (آية 4). هذا تأكيد لِما قاله الزميل. أحياناً نستنجد بأناسٍ نائمين فلا يغيثوننا، لكن الآب السماوي لا ينعس ولا ينام. فلو أن النوم لم يواتِك في أي ليلة، فلا تتردَّد في أن تدعو إلهك الذي لا ينعس ولا ينام. لن يغضب منك لأنك أزعجته، فإن «لذَّاته مع بني آدم» (أم 8: 31).
لا بدَّ أن أفراد جوقة المرنمين كانوا يذكرون تاريخ شعبهم وآلامهم في مصر عندما كان فرعون يسومهم سوء العذاب، وكيف سمع الرب صراخهم وخلَّصهم بيده القوية، وعالهم أربعين سنة في البرية بالماء من الصخرة، والمن والسلوى. «كان الرب أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق وليلاً في عمود نار ليضيء لهم» (خر 13: 21).
هذا الإله العظيم الذي عمل المعجزة الكبيرة مع بني إسرائيل يريد أن يُجري معك المعجزات. جميع شعور رؤوسنا محصاة (مت 10: 30)، وهو يعرفك باسمك (إش 43: 1)، وقد نقشك على كفَّيه (إش 49: 16). وحتى لو ضللت يعرف أنك ابتعدت، فيفتش عليك حتى يجدك (لو 15: 4).
2 – الرب يظلل: «الرب حافظك. الرب ظل لك عن يدك اليمنى« (آية 5). »الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت.. بخوافيه يظللك، وتحت أجنحته تحتمي» (مز 91: 1، 4). إن الرب «كمخبإٍ من الريح، وستارة من السيل، كسواقي ماءٍ في مكان يابس، كظل صخرةٍ عظيمة في أرض مُعيية» (إش 32: 2).. عندما تبعت راعوث الموآبية حماتها نُعمي قال لها بوعز: «ليكافئ الرب عملك، وليكُن أجرك كاملاً من عند الرب إله إسرائيل الذي جئتِ لكي تحتمي تحت جناحيه» (را 2: 12)، وكافأ الرب راعوث المؤمنة، فصارت جدَّة الملك داود، الذي جاء المسيح (حسب الجسد) من نسله.
ويقول المرنمون إن الرب «ظِلٌّ لك عن يدك اليمنى» فهو أقرب إلى كل حاج من مدينة أورشليم التي يحج إليها. ونحن لا نحتاج أن نسافر إلى مكان معيَّن لنلتقي بالرب، لأنه «عن يدك اليمنى». قال المرنم: «جعلتُ الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع» (مز 16: 8) «لأنه يقوم عن يمين المسكين، ليخلِّصه من القاضين على نفسه» (مز 109: 31).
3 – الرب يحمي: «لا تضربك الشمس في النهار، ولا القمر في الليل» (آية 6). بسبب حرارة الجو كان الحاج يسافر جزءاً من النهار وجزءاً من الليل، ويستريح في الظهيرة، فكان محتاجاً للرعاية ليلاً ونهاراً، وهذا ما يؤكِّده له زملاؤه في هاتين الآيتين. وقد فعله الله مع النبي يونان وهو متعَب في نينوى «فأعدَّ الرب الإله يقطينة فارتفعت فوق يونان لتكون ظلاً على رأسه، ليخلِّصه من غمِّه. ففرح يونان من أجل اليقطينة فرحاً عظيماً» (يون 4: 6). وكان الأقدمون يقولون إن النوم في ضوء القمر يصيب النائم بمتاعب عقلية. ويؤكد المرنمون أن الله لن يسمح لمحبِّيه بضربة شمس في النهار، ولا بضربة قمر بالليل!
4 – الرب يحفظ: «الرب يحفظك من كل شر. يحفظ نفسك» (آية 7). يحفظ الرب أجساد المؤمنين ويحفظ نفوسهم أيضاً من كل شر، فقد استجاب صلاة يعبيص التي قال فيها: «ليتك تباركني، وتوسِّع تخومي، وتكون يدك معي، وتحفظني من الشر حتى لا يتعبُني» فآتاه الله بما سأل (1أخ 4: 10). طلب يعبيص من الرب بركات روحية وبركات جسدية، لأنه كان يدرك أنه يمكن أن يمتلك الكثير من متاع هذا العالم، لكن «متى كان لأحدٍ كثير فليست حياته من أمواله» (لو 12: 15)، و«بركة الرب هي تُغني، ولا يزيد (الله) معها تعباً» (أم 10: 22). لهذا طلب يعبيص من الله أن يحفظه من الشر. حقاً «أكْلَةٌ من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بُغضة.. لقمة يابسة ومعها سلامة خيرٌ من بيت ملآن ذبائح مع خصام» (أم 15: 17 و17: 1).
«وإله السلام نفسه يقدِّسكم بالتمام. ولتُحفَظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح» (1تس 5: 23).
5 – الرب يحمي دائماً: «يحفظ دخولك وخروجك من الآن وإلى الدهر» (آية 8). الدخول والخروج يرمزان إلى بداية أمرٍ ونهايته، على المستويين الشخصي والعام. ويؤكد المرنمون شدَّة الاحتياج لحماية الرب في بداية رحلة الصعود إلى هيكل الرب، كما في رحلة العودة، ليتحقق الوعد: «مباركٌ تكون في دخولك، ومبارك تكون في خروجك» (تث 28: 6). «الذاهب ذهاباً بالبكاء حاملاً مبذر الزرع، مجيئاً يجيء بالترنم حاملاً حُزمه» (مز 126: 6). «الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً يكمِّل إلى يوم يسوع المسيح» (في 1: 6). «مِن قِبل الرب تتثبَّت خطوات الإنسان وفي طريقه يُسر. إذا سقط لا ينطرح لأن الرب مُسندٌ يده» (مز 37: 23، 24). «والقادر أن يحفظكم غير عاثرين، ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الابتهاج، الإله الحكيم الوحيد مخلِّصنا، له المجد والعظمة والقدرة والسلطان، الآن وإلى كل الدهور. آمين» (يه 24، 25).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّانِي وَالْعِشْرُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ. لِدَاوُدَ
1 فَرِحْتُ بِالْقَائِلِينَ لِي: «إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ نَذْهَبُ». 2تَقِفُ أَرْجُلُنَا فِي أَبْوَابِكِ يَا أُورُشَلِيمُ. 3أُورُشَلِيمُ الْمَبْنِيَّةُ كَمَدِينَةٍ مُتَّصِلَةٍ كُلِّهَا، 4حَيْثُ صَعِدَتِ الأَسْبَاطُ، أَسْبَاطُ الرَّبِّ شَهَادَةً لإِسْرَائِيلَ، لِيَحْمَدُوا اسْمَ الرَّبِّ. 5لأَنَّهُ هُنَاكَ اسْتَوَتِ الْكَرَاسِيُّ لِلْقَضَاءِ، كَرَاسِيُّ بَيْتِ دَاوُدَ. 6اسْأَلُوا سَلاَمَةَ أُورُشَلِيمَ. لِيَسْتَرِحْ مُحِبُّوكِ. 7لِيَكُنْ سَلاَمٌ فِي أَبْرَاجِكِ، رَاحَةٌ فِي قُصُورِكِ. 8مِنْ أَجْلِ إِخْوَتِي وَأَصْحَابِي لأَقُولَنَّ: «سَلاَمٌ بِكِ». 9مِنْ أَجْلِ بَيْتِ الرَّبِّ إِلَهِنَا أَلْتَمِسُ لَكِ خَيْراً.

الفرح ببيت الرب
هذا مزمورٌ لداود، كان بنو إسرائيل يرنمونه في حجِّهم السنوي عندما يبلغون أسوار المدينة المقدسة وتقف أرجلهم في أبوابها. لقد تركوا أرض المتاعب التي اشتكى منها المرنم في مزمور 120، وهو يبدأ رحلة المصاعد، واستجاب الله صلاتهم التي رفعوها في مزمور 121، وأعانهم وحفظهم وأوصلهم بسلام. ويقول بعض المفسرين إن داود نظم هذا المزمور بعد نقل تابوت عهد الرب إلى مدينته، وبعد أن وعده الرب أن يحفظ كرسيَّه، وأن يبني له بيتاً، بمعنى أن يعطيه نسلاً يملك على شعبه.
في هذا المزمور يقول المرنم إنه فرح جداً عندما سمع أهله وجيرانه يدعونه لينضمَّ إلى موكب المسافرين للحج إلى هيكل الرب. وعندما بلغ أسوار المدينة المقدسة امتلأ عقله بذكريات الأسباط وتعاملات الرب معهم، فصلى طالباً البركة والأمان للمكان وللعابدين.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الفرح بسلامة الوصول (آيتا 1، 2)
ثانياً – ذكريات مقدسة (آيات 3-5)
ثالثاً – صلاة واثقة (آيات 6-9)

أولاً – الفرح بسلامة الوصول
(آيتا 1، 2)
1 – فرح سماع الدعوة: «فرحت بالقائلين لي» (آية 1أ). كل مؤمن يفرح بسماع الدعوة ليتقرَّب من الرب طاعة للوصية الرسولية: «اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم» (يع 4: 8). ويرسل الرب لنا دعوات مستمرة، أولها دعوة التوبة «توبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب» (أع 3: 19)، وعندما نقع في الخطية نسمع الدعوة «اذكُر من أين سقطت وتُب» (رؤ 2: 5)، وعندما نتعب ونئن نسمع الدعوة «تعالوا إليَّ يا جميع المتعّبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم» (مت 11: 28).
والرب يدعونا بآية من كلمته المقدسة، أو بلمسة محبة من عطائه، أو بتأديب يوقظنا من ضلالنا، أو بكلمة من صديق يدعونا «إلى بيت الرب نذهب». وما أسعد الإنسان الذي يفرح بالدعوة ويقبلها، عالماً أن الذي يُقبِل إلى الله لا يخرجه خارجاً (يو 6: 37)، وهو «يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يُقبِلون» (1تي 2: 4).
في مثَل الابن الضال لم يكن الابن واثقاً من قبول أبيه له، بعد أن عصاه وبذَّر أمواله. ولكن أباه رحَّب به وفرح بعودته. والسماء تفرح بخاطئ واحد يتوب، كما أن الفرح يغمر نفس التائب بتوبته.
وكل من يحب الله يحب بيته، ويفرح بالصلاة فيه، فيبدأ بالقول: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء» ويختم بالقول: «أسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام» (مز 23: 1، 6). ويردد: «أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك. أسجد في هيكل قدسك بخوفك» (مز 5: 7). وعندما نبدأ رحلتنا مع الله سنكتشف أنه «تسير شعوب كثيرة ويقولون: هلمَّ نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب، فيعلِّمنا من طرقه ونسلك في سبُله» (إش 2: 3). لأنه «سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي» (مز 119: 105).
2 – فرح شركة المؤمنين: «إلى بيت الرب نذهب» (آية 1ب). فرح المرنم بالدعوة، وفرح أنه سينضم إلى مجموعة رائعة من محبّي الرب، يتعبَّدون له فتطمئن قلوبهم. كان كالجائع الذي وجد من يدعوه للخبز، وكالعطشان الذي سمع من يدعوه إلى ينبوع ماء مع أصدقاء فرحين. وشركة المؤمنين تُفرح القلب، إذ يشجِّع بعضهم بعضاً.. في كتاب «سياحة المسيحي» ليوحنا بنيان بدأ السائح رحلة السفر إلى المدينة السماوية وحده. أما زوجته فإنها عندما بدأت رحلتها اصطحبت أولادهما معها، وكم كان فرح قلبها بصُحبة كل عائلتها المتوجِّهة معها إلى المدينة السماوية، ولسان حالها يقول: «هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب» (إش 8: 18).
في بيت الرب يجد المتعَب راحة لنفسه، كما قال داود: «واحدةً سألت من الرب.. أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرَّس في هيكله» (مز 27: 4). عندما واجه المرنم آساف مشكلة نجاح الأشرار وتعب الأبرار، وجد الحل في بيت الرب، فقال: «حتى دخلتُ مقادس الله وانتبهت إلى آخِرتهم» (مز 73: 17). وعندما وصلت رسائل ملك بابل إلى الملك حزقيا يسخر فيها منه ومن إلهه، وجد حزقيا راحته في بيت الرب «فأخذ حزقيا الرسائل من يد الرسل وقرأها، ثم صعد إلى بيت الرب ونشرها حزقيا أمام الرب» فأنقذه الرب (إش 37: 14).
3 – فرح العبادة: «تقف أرجلنا في أبوابك يا أورشليم» (آية 2). يعطي العالم فرحاً مؤقتاً لا يستمر، أما فرح الرب فهو قوتنا «لأن يوماً واحداً في ديارك خير من ألف. اخترتُ الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار» (مز 84: 10). ما أجمل أن نقترب من بيت الله ولو كنا «واقفين»، فالوقوف يعني اليقظة والاستعداد للطاعة.

ثانياً – ذكريات مقدسة
(آيات 3-5)
1 – العودة للمجد الأول: «أورشليم المبنيَّة كمدينة متَّصلة كلها» (آية 3). عندما استولى داود على حصن اليبوسيين «أقام داود في الحصن، لذلك دعوه مدينة داود، وبنى المدينة حواليها من القلعة إلى ما حولها» (أخ 11: 7، 8). ولكن البابليين جاءوا وهدموا أسوار أورشليم وخربوا بيوتها ودمَّروا هيكلها، وسبوا المقتدرين والمتعلمين من أهلها. وبعد سبعين سنة ردَّ الرب سبي شعبه، فرجع كثيرون من المسبيين مع عزرا الكاتب وبدأوا يبنون الهيكل. وعادت مجموعة أخرى مع نحميا الوالي وبدأوا يبنون الأسوار متَّصلة ببعضها بغير ثغرة ولا فجوة (نح 2: 17 و7: 4). فأُعيد بناء البيوت المهدَّمة، وأصبحت المدينة متكاملة الأسوار والهيكل والمباني. وكان سكانها يداً واحدة، يتعبَّدون معاً ويبنون معاً، بقلب واحد وروح واحد.
وينطبق التعبير «متَّصلةٌ كلها» على الحياة الروحية، فمع أننا من خلفيات وثقافات وأحوال اقتصادية واجتماعية متنوعة، إلا أننا متساوون أمام الله خالقنا والمعتني بنا وفادينا. وفي الكنيسة ننسى ألقابنا ومن أين أتينا، ونكتفي بأن نُعرف أننا أبناءٌ لأبٍ واحد. وهذا الانتساب يربطنا معاً كعائلة وإخوة بعضنا لبعض، نشبه أحجاراً حية في بناء واحد، نضع أيدينا في أيدي بعضنا لنؤدي رسالة واحدة، كالأغصان في كرمة المسيح. ونتمسَّك بالرجاء أن لنا مسكناً سماوياً يجهِّزه المسيح لنا (يو 14: 1-4)، لأننا سياح مسافرون من مدينة الهلاك إلى المدينة السماوية «جسد واحد، وروح واحد، كما دُعيتُم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد. ربٌّ واحد. إيمان واحد. معمودية واحدة. إلهٌ وآب واحد للكل، الذي على الكل وبالكل وفي كلكم» (أف 4: 4-6).
2 – ذكر المراحم الأولى: «حيث صعدت الأسباط، أسباطُ الرب. شهادةً لإسرائيل ليحمدوا اسم الرب» (آية 4). يذكر المرنم بفرح أن له تراثاً تاريخياً غنياً من العبادة لله والتعييد له، فقد اعتاد الأسباط أن يقوموا برحلة العبادة إلى هيكل الرب ثلاث مرات في السنة، طاعةً للأمر الإلهي، مرتان في الربيع في عيد الفطير وعيد الأسابيع، ومرة ثالثة في الخريف للاحتفال بعيد المظال. «ثلاث مرات في السنة يحضر جميع ذكورك أمام الرب إلهك، في المكان الذي يختاره، في عيد الفطير وعيد الأسابيع وعيد المظال. ولا يحضروا أمام الرب فارغين. كل واحد حسبما تعطي يده، كبركة الرب إلهك التي أعطاك» (تث 16: 16، 17).
وعيد الفطير هو عيد الفصح (بمعنى: عيد العبور) وهو الاحتفال بعبور الملاك المهلك عن بيوت بني إسرائيل فلم يوقع بهم ضرراً، بينما قتل الابن البكر في بيوت المصريين. وسُمي عيد الفطير لأنهم لم يكونوا يأكلون فيه خبزاً مختمراً.. وأما عيد الأسابيع فهو عيد الخمسين ويُسمَّى أيضاً يوم الباكورة، وهو احتفال شكر لأجل الحصاد، وكان التقليد اليهودي يقول إن الشريعة أُعطيت لموسى في اليوم الخمسين بعد خروجهم من مصر.. وعيد المظال يذكرون فيه إقامة بني إسرائيل في مظال أثناء سفرهم في البرية، فكانوا يقيمون المظال في الساحات وعلى السطوح، ويسكنونها سبعة أيام.
وفي كل حج يشهد بنو إسرائيل لفضل الله عليهم، في عبور الملاك المُهلك عنهم، وفي إعطائهم الشريعة، وفي عنايته بهم في سنوات التيه الأربعين.

3 – الشكر على العدالة: «لأن هناك استوت الكراسي للقضاء، كراسيُّ بيت داود» (آية 5). فوَّض الرب الملك ليحكم بين الناس بالعدل، وكان الملك يفوِّض قضاةً من العائلة المالكة ومن أعيان الشعب فيجلسون على كراسي القضاء لينصفوا المسكين ويحاموا عن اليتيم والأرملة. وكان المؤمنون يتوقَّعون أن يُجري الله عدلاً على فم الملك وبواسطة رجاله، فيقولون لله: «لأنك أقمت حقي ودعواي. جلست على الكرسي قاضياً عادلاً» (مز 9: 4)، ويباركهم بأن «يُخرج مثل النور برك وحقك مثل الظهيرة» (مز 37: 6).
ولأن الكراسي استوت للقضاء، فلا يجب أن نأخذ حقوقنا بأيدينا «لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء.. لأنه مكتوب: لي النقمة أنا أجازي يقول الرب» (رو 12: 19).
ولا شك أن عدالة الله الآن بين الناس بالمَلك العادل والقضاة الأمناء رمز للعدالة الأخيرة يوم نقف جميعنا أمام كرسي المسيح، نعطي حساباً عما فعلنا. وهذه إشارة إلى مُلك الرب السعيد «الرب قد ملك، فلتبتهج الأرض» (مز 97: 1).

ثالثاً – صلاة واثقة
(آيات 6-9)
عندما بلغ المرنم أبواب أورشليم امتلأ قلبه بالشكر لله، وبدأ يصلي من أجل المدينة العظيمة، حيث هيكل الرب، المكان الذي فيه تابوت العهد بين الرب وشعبه والذي بدونه لا تكون هناك ذبيحة كفارية.
واليوم ونحن ندرس هذا المزمور نرفع عيوننا لا إلى مدينة مادية في موقع جغرافي، ولكن إلى أورشليم السماوية، كما قال الله: «لأني هأنذا خالقٌ سماوات جديدة وأرضاً جديدة، فلا تُذكر الأولى ولا تخطر على بال. بل افرحوا وابتهجوا إلى الأبد فيما أنا خالق، لأني هاأنذا خالق أورشليم بهجة وشعبها فرحاً. فأبتهج بأورشليم وأفرح بشعبي، ولا يُسمع فيها صوت بكاء ولا صوت صراخ» (إش 65: 17-19). وأورشليمنا السماوية هي كنيسة المسيح الروحية غير المنظورة، التي قال عنها يوحنا الرائي: «وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزيَّنة لرجلها» (رؤ 21: 2).
ويقدِّم الوحي تعريفاً لشعب الله، فيقول: «لأن اليهودي في الظاهر ليس يهودياً. وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان الذي مدحه ليس من الناس، بل من الله» (رو 2: 28، 29). وهذا التعريف يوضح طبيعة ملكوت الله: أن كل الذين قبلوا المسيح فادياً ومخلِّصاً، سواء جاءوا من أصل يهودي أو من أية خلفية أخرى هم شعب الله، لأنه «ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة، بربري سكيثي، عبد حر، بل المسيح الكل وفي الكل» (كو 3: 11). وهؤلاء هم شعب الرب الحقيقي. لقد جاء المسيح «إلى خاصته، وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه» (يو 1: 11، 12). وقد بكى المسيح على المصير السيء لأورشليم الأرضية، وقال لها: «إنكِ لو علمتِ أنتِ أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد أُخفي عن عينيك. فإنه ستأتي أيامٌ ويحيط بكِ أعداؤكِ بمترسة، ويُحدقون بك ويحاصرونك من كل ناحية، ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجراً على حجر، لأنك لم تعرفي زمان افتقادك» (لو 19: 42-44).

وفي نور هذا التفسير الروحي تعالوا نتأمل صلاة المرنم.
1 – طلب سلامة المدينة: «اسألوا سلامة أورشليم. ليسترِحْ محبّوك. ليكُن سلام في أبراجك، راحةٌ في قصورك» (آيتا 6، 7). أورشليم معناها مدينة السلام، والمرنم يطلب أن يكون حالها مشابهاً لاسمها، عندما يصلي المؤمنون لأجلها، فيُقال: «صوت ترنُّمٍ وخلاص في خيام الصدِّيقين. يمين الرب صانعةٌ ببأس» (مز 118: 15). وعندما تُستجاب الصلاة يستريح العابدون الذين جاءوا ليعيِّدوا للرب في أورشليم، وتكون الأبراج المقامة على أسوارها في سلام بلا هجوم من عدو، وتكون قصورها في سلام بسبب الوفرة والنجاح. «دوروا حولها. عُدّوا أبراجها. ضعوا قلوبكم على متارسها. تأملوا قصورها لكي تحدِّثوا بها جيلاً آخر، لأن الله هذا هو إلهنا إلى الدهر والأبد» (مز 48: 12-14).
والدعاء أن يكون السلام في الأبراج، والراحة في القصور يعني الراحة من الهجمات الخارجية ومن الانقسامات الداخلية، كما حدث مع الكنيسة الأولى «كان لها سلام، وكانت تُبنى وتسير في خوف الرب، وبتعزية الروح القدس كانت تتكاثر» (أع 9: 31).
2 – طلب سلامة المؤمنين: «من أجل إخوتي وأصحابي لأقولنَّ: سلام بكِ» (آية 8). يعتبر المؤمن باقي المؤمنين إخوته وأصحابه، كما قال داود للشعب: «اسمعوني يا إخوتي وشعبي» (1أخ 28: 2). وقال المسيح: «من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي» (مت 12: 50). والمؤمنون جميعاً إخوة «لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعيَّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين» (رو 8: 29). وعندما نصلي من أجل الإخوة نصلي من أجل نهضة الكنيسة، وراعي الكنيسة، الذي يسميه المسيح في سفر الرؤيا »ملاك الكنيسة«. وعندما ينهض المؤمنون تنهض الكنيسة. لذلك يقول المرنم إنه من أجل إخوته وأصحابه الذين يصلّون فيها ليقولنَّ: سلام لجماعة المؤمنين. «وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع» (في 4: 7).
3 – طلب سلامة بيت الرب: «من أجل بيت الرب إلهنا ألتمس لك خيراً» (آية 9). كان بيت الرب مبنياً في المدينة المقدسة، فمن أجل سلامة بيت الرب يطلب السلامة للمدينة، لأن الهيكل هو قلب العبادة، وقلب المدينة كلها. وقد وُصف نحميا بأنه «رجلٌ يطلب خيراً لبني إسرائيل» (نح 2: 10). فلنطلب سلامة الكنيسة وكل مدينة تُقام فيها كنيسة، ليتكرر ما حدث في يوم الخمسين إذ «انضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس.. وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلُصون» (أع 2: 41، 47).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
1 إِلَيْكَ رَفَعْتُ عَيْنَيَّ يَا سَاكِناً فِي السَّمَاوَاتِ. 2هُوَذَا كَمَا أَنَّ عُيُونَ الْعَبِيدِ نَحْوَ أَيْدِي سَادَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ عَيْنَيِ الْجَارِيَةِ نَحْوَ يَدِ سَيِّدَتِهَا، هَكَذَا عُيُونُنَا نَحْوَ الرَّبِّ إِلَهِنَا حَتَّى يَتَرَأَّفَ عَلَيْنَا. 3ارْحَمْنَا يَا رَبُّ ارْحَمْنَا، لأَنَّنَا كَثِيراً مَا امْتَلأْنَا هَوَاناً. 4كَثِيراً مَا شَبِعَتْ أَنْفُسُنَا مِنْ هُزْءِ الْمُسْتَرِيحِينَ وَإِهَانَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ.

ترأَّف علينا
افتتح المرنم مزمور 121 بالقول: «أرفع عينيَّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني. معونتي من عند الرب صانع السماوات والأرض» وأمدَّه الله بالمعونة في السفر، ووقف في أبواب أورشليم فامتلأت نفسه هدوءاً وسكينة، وبدأ يرتل مزمورنا: «إليك رفعتُ عينيَّ يا ساكناً في السماوات» لأنه شعر باحتياجه الدائم، فرفع عينيه وثبَّتهما على ساكن السماوات، لأنه الرب الحي الذي يحيا في داخله. كان واثقاً من وجوده وأنه يجازي الذين يطلبونه، فوقف أمام الهيكل كعبدٍ ينتظر تعليمات سيده باتضاع كامل. وهو يعلّمنا احتياجنا الدائم إلى رفع عيوننا إلى الله، لأن العالم حولنا والجسد فينا يشدّان التفاتنا إلى أسفل، ويضعان في طريقنا المتاعب والضيقات. فإذا كنا متعَبين نتجرَّب بأن نحوِّل عيوننا عن الرب، وننظر لمواردنا الذاتية، أو نتوقَّع معونة البشر من حولنا، وننسى أن الرب قال: «ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه وعن الرب يحيد قلبه.. مبارك الرجل الذي يتكل على الرب وكان الرب متكله» (إر 17: 5، 7) فلنجتهد بكل قلوبنا أن تتجه أنظارنا دائماً إلى ساكن السماوات.
يبدأ المزمور بصيغة المفرد «إليك رفعتُ» ولكنه سرعان ما يصبح ترتيلة المؤمنين جميعاً، فيتحوَّل إلى صيغة الجمع «هكذا عيوننا نحو الرب». فلنرتل معهم هذا المزمور لنتشجع ونستمر في رفع النظر إلى الرب «حتى يترأف علينا».
في هذا المزمور نجد:
أولاً – نظرة إلى الأعالي (آيتا 1، 2)
ثانياً – طلب الرحمة (آيتا 3، 4)

أولاً – نظرة إلى الأعالي
(آيتا 1، 2)
1 – نظرة إلى صاحب الجلال: «إليك رفعت عينيَّ يا ساكناً في السماوات» (آية 1). بعد أن تحدَّث المرنم عن الرب في مزمور 121 تحدَّث في مزمورنا إلى الرب. وبعد أن كان ينظر إلى الجبال، رفع عينيه إلى ساكن السماوات، فصار أكثر اقتراباً منه. وارتقت العلاقة بينهما وتعمَّقت، فرأى الرب ملكاً وحاكماً للعالم كله، فهو رب العالمين «الرب في هيكل قدسه. الرب في السماء كرسيُّه. عيناه تنظران. أجفانه تمتحن بني آدم» (مز 11: 4).. وكأن المرنم يقول: «عيناي دائماً إلى الرب، لأنه يُخرِج رجليَّ من الشبكة» (مز 25: 15). «إن إلهنا في السماء، كلما شاء صنع» (مز 115: 3).. رأى النبي إشعياء مجد الرب في هيكله، وسمع السرافيم تهتف له: «قدوس. قدوس. قدوس رب الجنود، مجده ملء كل الأرض» (إش 6: 3) فأدرك أن القدوس ساكن السماء يملأ مجده كل الأرض، وهو الوحيد الذي يستحق أن نرفع عيوننا لأنه الساكن في السماوات والفعّال في الأرض، وطرقه كلها حق، وهو الذي يسرع لمعونتنا بطرقه العجيبة التي لا تخطر لنا على بال، ويقول لنا: «لأنه كما علت السماوات عن الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم» (إش 55: 9).
2 – نظرة إلى صاحب السلطان: «هوذا كما أن عيون العبيد نحو أيدي سادتهم، كما أن عيني الجارية نحو يد سيدتها..» (آية 2أ، ب). في نور رؤية الرب ساكناً في السماوات، صاحب كل السلطان في السماء وعلى الأرض، رأى المرنم نفسه عبداً للرب. والمؤمنون جميعاً عبيد الرب لأنه خلقهم، ولأنه يعولهم، ولأنه اشتراهم بالفداء. وهم يتشرَّفون بالعبودية له، لأن هذه العبودية هي الحرية الكاملة، فهي الانتماء لسيد الأرض كلها، وقد قال أحد القديسين: «أنا محتاجٌ إلى ربوبيتك، ولكنك لست محتاجاً لعبوديتي». ولقب العبد والأَمَة لقب محبَّب لنفوس المؤمنين، أُطلق على موسى مرات كثيرة (تث 34: 5 و1أي 6: 49)، وعلى يشوع (يش 29: 24 وقض 2: 8)، وعلى إيليا (1مل 18: 36)، وعلى دانيال (دا 6: 20)، وعلى بولس (رو 1: 1)، وعلى بطرس (2بط 1: 1)، وعلى يعقوب (يع 1: 1)، وعلى كل من حرَّرهم المسيح (1بط 2: 16). وأطلقه داود على أمه، فقال: «لأني عبدك. أنا عبدك ابن أمتك» (مز 116: 16)، وأطلقته العذراء مريم على نفسها حين قالت للملاك: «هوذا أنا أَمَة الرب» (لو 1: 38).
وتفرِّق التوراة بين العبد المولود في البيت والعبد المشترَى بالمال، فالعبد المولود في البيت أغلى لأنه ينتمي إلى ذلك البيت (تك 14: 14). وما أجمل بيت تيموثاوس الذي قال له الرسول بولس: «أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولاً في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكني موقن أنه فيك أيضاً» (2تي 1: 5).
والمؤمن الحقيقي هو الذي يقول للرب: «أُحبُّ سيدي.. لا أخرج حراً» (خر 21: 5)، وهو الذي يتكلم كلاماً صالحاً عن سيده، وشعاره: «لأن يوماً واحداً في ديارك خيرُ من ألف. اخترتُ الوقوف على العتبة في بيت إلهي (كأنه بواب البيت) على السكن في خيام الأشرار» (مز 84: 10).
تطلَّع المرنم بنظرة واسعة فرأى الله ساكناً في السماوات، وركَّز النظر فرأى يده تُهدي البركات لأنها مُحبَّة سخية، وتَهدي إلى الصلاح لأنها صالحة وأمينة ولا تُضلُّ أحداً. فأدرك أنها يدُ صاحب السلطان الذي يجب أن نطيعه، كما أنها يد المنان الذي يجود علينا. فلنُطِع توجيهات صاحب اليد الكريمة لننال بركاته، ولتنفتح عيوننا وآذاننا إلى تعليماته، ولنقُل له: «ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت» (مر 14: 36). وحينئذ نخلُص وندخل ونخرج ونجد مرعى (يو 10: 9)، ونقول: «ماذا أرد للرب من أجل كل حسناته لي؟ كأسَ الخلاص أتناول، وباسم الرب أدعو» (مز 116: 13).
(أ) يد الرب تَهدي: في كل رحلة حياة المؤمن يمد الرب يده إليه، كما فعل مع شعبه في القديم «فرعاهم حسب كمال قلبه، وبمهارة يديه هداهم» (مز 78: 72)، ونسمعه يقول: «أعلِّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك» (مز 32: 8).
(ب) يد الرب تعطي: فلا نخاف ولا نقلق لأنه يهتم بكل خليقته «كلها إياك تترجى لترزقها قوتها في حينه. تعطيها فتلتقط. تفتح يدك فتشبع خيراً» (مز 104: 27، 28). ويقول المرنم: «كنت فتى وقد شختُ، ولم أرَ صدِّيقاً تُخُلِّي عنه، ولا ذرية له تلتمس خبزاً» (مز 37: 25). قال الرب للنبي إيليا: «أمرتُ الغربان أن تعولك هناك» (1مل 17: 4)، فسخَّر الغربان التي تخطف ليخدموا نبيَّه إيليا.
(ج) يد الرب تحمي: «لأنك أنت تبارك الصديق يا رب. كأنه بترسٍ تحيطه بالرضا» (مز 5: 12). ويطمئن الله شعبه بكلمات داود وهو يقول لجليات: «أنت تأتي إليَّ بسيف وبرمح وبتُرس. وأنا آتي إليك باسم رب الجنود.. لأن الحرب للرب» (1صم 17: 45-47). ويقول عن كل مؤمن: «لأنه تعلَّق بي أنجيه. أرفِّعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الضيق أنقذه وأمجِّده» (مز 91: 14، 15).
(د) يد الرب تصحِّح: هو الأب الحنون الذي يهتم بنقاوة حياة أولاده، ويريدهم طاهرين، فيوصيهم: «لا تشاكلوا (لا تكونوا على شكل) هذا الدهر، بل تغيَّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم، لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المَرْضيَّة الكاملة» (رو 12: 2). وعلينا أن نقاوم الخطية، فإن لم نفعل يؤدبنا ليقوِّمنا، كما قال الوحي: «لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية، وقد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين: يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخُر إذا وبَّخك، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله. إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين، فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟» (عب 12: 4-7). «فتواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه» (1بط 5: 6).
(هـ) يد الرب تكافئ: هي تؤدبنا إن أخطأنا، وتكافئنا إن أحسنّا، كما قيل عن عزرا الكاتب الذي قاد مجموعة كبيرة من بني إسرائيل ليرجعوا إلى أرضهم بعد أن أصدر كورش الفارسي أمره بالرجوع من السبي: «عزرا هذا صعد من بابل، وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل. وأعطاه المَلك كل سؤله، حسب يد الرب إلهه عليه.. لأنه في الشهر الأول ابتدأ يصعد من بابل وفي أول الشهر الخامس جاء إلى أورشليم حسب يد الله الصالحة عليه» (عز 7: 6، 9). ووصف هو هذا بقوله: «وقد بسط عليَّ رحمة أمام الملك ومشيريه، وأمام جميع رؤساء الملك المقتدرين. وأما أنا فقد تشدَّدتُ حسب يد الرب إلهي عليَّ، وجمعت من إسرائيل رؤساء ليصعدوا معي» (عز 7: 28).
3 – نظرة إلى صاحب الرأفة: «هكذا عيوننا نحو الرب إلهنا حتى يترأف علينا» (آية 2ج). ستظل عيون العبيد متعلِّقة بيد السيد حتى يفيض عليها برحمته. كان المصلوبان يجدِّفان على المسيح ويسخران منه، ولكن عيني المصلوب التائب تثبَّتتا على المسيح، فرأى فيه ما لم يرَه فيه الأغلبية، فقد رأى فيه رباً. ووجد عنده ما لم يجده الأغلبية، فقد رآه صاحب ملكوت، فقال له: «اذكرني يا رب متى جئتَ في ملكوتك« فأسبغ عليه عظيم رحمته وجاوبه: »الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 42، 43). ما أعظم رحمة الله على كل خاطئ تائب، والرحمة هي التي تمنع عنا العقاب الذي نستحقه. «ترأف على عبيدك. أشبِعنا بالغداة من رحمتك، فنبتهج ونفرح كل أيامنا» (مز 90: 13).
هناك حرب مستمرة بين الحية ونسل المرأة، وسيظل إبليس يحارب المؤمنين بغير هوادة ولا توقُّف، فلنركز عيوننا على يد الرب حتى ننال رأفته، لأنه وعدنا بالنصرة. «ينتظر الرب ليترأف عليكم، ولذلك يقوم ليرحمكم، لأن الربَّ إلهُ حقٍّ. طوبى لجميع منتظريه» (إش 30: 18).

ثانياً – طلب الرحمة
(آيتا 3، 4)
امتلأت نفس المرنم بالسعادة لأنه صعد إلى جبل الرب، ولكنه كان يعلم أنه لا بد أن يترك هيكل الرب وينزل إلى الوادي ويعود إلى مهام حياته العادية وسط الأشرار، حيث يواجه المتاعب، فطلب من الرب الرحمة.
1 – طلب الرحمة من خطاياه: «ارحمنا يا رب ارحمنا، لأننا كثيراً ما امتلأنا هواناً» (آية 3). وسبب الهوان الأول هو الخطية والبُعد عن الله. ويقف المرنم في موقف طالب الرحمة، كما وقف العشار من بعيد، لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلاً: «اللهمَّ، ارحمني أنا الخاطي» (لو 18: 13). و«إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهِّرنا من كل إثم» (1يو 1: 9) «يعود يرحمنا، يدوس آثامنا، وتُطرَح في أعماق البحر جميع خطاياهم» (مي 7: 19).
2 – طلب الرحمة من الهزء والإهانة: «كثيراً ما شبعت أنفسنا من هزء المستريحين وإهانة المستكبرين» (آية 4). يطلب المرنم الرحمة من المسيئين إليه، الذين يسمّيهم المستريحين والمستكبرين. و«المستريحون» هم الذين يعيشون في رغد ولا يهتمون بالله بل بنفوسهم. ولا تعنيهم متاعب شعب الله ما داموا هم في راحة. وتنحصر كل آمالهم في مواردهم الشخصية ونفوذهم الاجتماعي أو السياسي بسبب ما لديهم من ثروة وأصدقاء وأسرة، وهم يهزأون بالأبرار، ويستهينون بالحياة المقدسة، ويسخرون من الذين يخافون الرب. ويقول عنهم عاموس، نبي العدالة الاجتماعية: «ويل للمستريحين في صهيون، والمطمئنين في جبل السامرة» (عا 6: 1).
أما «المستكبرون» فليسوا كباراً إلا في نظر أنفسهم. قال عنهم المرنم: «المستكبرون استهزأوا بي إلى الغاية. عن شريعتك لم أمِل. تذكرتُ أحكامك منذ الدهر يا رب، فتعزَّيت» (مز 119: 51، 52).
وقد درج «المستريحون والمستكبرون» على الهزء بشعب الرب وإهانتهم. وهذا ما جرى عندما أراد نحميا أن يبني أسوار مدينة الله «لما سمع سنبلط الحوروني، وطوبيا العبد العموني، وجشَم العربي، هزأوا بنا واحتقرونا وقالوا: ما هذا الأمر الذي أنتم عاملون؟ أعلى الملك تتمردون؟.. وكان طوبيا العموني بجانبه فقال: إن ما يبنونه إذا صعد ثعلب فإنه يهدم حجارة حائطهم. اسمع يا إلهنا لأننا قد صرنا احتقاراً» (نح 2: 19 و4: 3، 4). وهذا ما حدث للمسيح، فهو «محتقَر ومخذولٌ من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمستَّر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتدَّ به» (إش 53: 3). وعلى الصليب «كان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم.. وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلَّص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها.. أيضاً كان اللصان اللذان صُلبا معه يعيِّرانه» (مت 27: 39-44). وعندما نلجأ إلى المسيح الذي تجرَّب في كل شيء مثلنا ما عدا الخطية، نجده قادراً أن يعين المجرَّبين.
ونحن نتلو هذا المزمور مع صاحبه، دعونا نثبت النظر على يد الله الهادية المعطية، ولا نحوِّل النظر عنها أبداً. وإن كنا نختبر هواناً فلنرفع عيوننا للرب فننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه (عب 4: 16).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ. لِدَاوُدَ
1 «لَوْلاَ الرَّبُّ الَّذِي كَانَ لَنَا». لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: 2«لَوْلاَ الرَّبُّ الَّذِي كَانَ لَنَا عِنْدَ مَا قَامَ النَّاسُ عَلَيْنَا، 3إِذاً لاَبْتَلَعُونَا أَحْيَاءً عِنْدَ احْتِمَاءِ غَضَبِهِمْ عَلَيْنَا، 4إِذاً لَجَرَفَتْنَا الْمِيَاهُ، لَعَبَرَ السَّيْلُ عَلَى أَنْفُسِنَا، 5إِذاً لَعَبَرَتْ عَلَى أَنْفُسِنَا الْمِيَاهُ الطَّامِيَةُ». 6مُبَارَكٌ الرَّبُّ الَّذِي لَمْ يُسْلِمْنَا فَرِيسَةً لأَسْنَانِهِمْ. 7انْفَلَتَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ الْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِينَ. الْفَخُّ انْكَسَرَ وَنَحْنُ انْفَلَتْنَا. 8عَوْنُنَا بِاسْمِ الرَّبِّ الصَّانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.

»لولا الرب«
هذا خامس مزامير المصاعد التي كان بنو إسرائيل يرتلونها وهم يحجّون إلى الهيكل المبني على جبل، فكان صعودهم جغرافياً وروحياً. ونرتِّلها نحن اليوم لأننا في رحلة صعود روحي، نعلو فيه ونرتفع في علاقتنا بالرب وننمو في النعمة وفي معرفة المسيح. فليكن كل يوم من أيام حياتنا تدرُّجاً في زيادة الطاعة لله، وفي الرفعة في محبتنا له ولإخوتنا البشر، فتتشكَّل حياتنا لتكون على صورة حياة المسيح.
في المزمور السابق حكى المرنم عن اختبار أليم امتلأت فيه نفسه بالهوان وشبعت إهانة من المستكبرين، فطلب رحمة الله من عدوه المتكبر، فآتاه الله بخلاص عظيم. وفي هذا المزمور يعدِّد إحسانات الرب، ويدعو المؤمنين ليشكروا الله ويسبحوه ويعلنوا ثقتهم فيه.
ولا نعرف بالضبط المناسبة التي كُتب فيها مزمورنا، ولعلها مهاجمات سنبلَّط وطوبيّا والعرب والعمونيين والأشدوديين الذين تآمروا معاً ليحاربوا نحميا وجماعته من بُناة الأسوار (نح 4: 7-23).. وصلى نحميا وأصحابه وأقاموا حراساً نهاراً وليلاً. ولما كمل السور سقط الأعداء في أعين أنفسهم وعلموا أن بناء السور كان من عند الرب (نح 6: 16).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – دعوة للشكر (آيتا 1، 2)
ثانياً – إحسانات الرب العديدة (آيات 3-7)
ثالثاً – إعلان الثقة في المستقبل (آية 8)

أولاً – دعوة للشكر
(آيتا 1، 2)
«لولا الرب الذي كان لنا، ليقُل إسرائيل، لولا الرب الذي كان لنا عندما قام الناس علينا» (آيتا 1، 2). مرتان يكرر المرنم: «لولا الرب الذي كان لنا» ليؤكد الحقيقة الأساسية أنه «لا بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحي، قال رب الجنود» (زك 4: 6).. وهذا ما قاله يعقوب أبو الأسباط لخاله وحميه لابان، بعد أن خرج الخال وراء صهره ليهاجمه، فأوقفه الرب، وفي هذا الموقف قال يعقوب: «لولا أن الرب إله إبراهيم وهيبة إسحاق كان معي لكنت الآن قد صرفتني فارغاً. قد نظر الله مشقَّتي وتعب يديَّ، فوبَّخك البارحة» (تك 31: 42). وقال المرنم: «لولا أن الرب مُعيني لسَكَنَتْ نفسي سريعاً أرض السكوت» (مز 94: 17). وهو ما قاله نحميا وهم يهاجمونه وقت بناء السور: «إلهنا يحارب عنا» (نح 4: 20). ولا بد أن المرنم كان يذكر خوف شعبه وأمامهم البحر الأحمر ووراءهم الجيش المصري، وموسى يقول لهم: «الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون» (خر 14: 14). حقاً «إن كان الله معنا، فمن علينا؟» (رو 8: 31).. «ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم. ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتوكل عليه» (مز 34: 7، 8). «على الله توكلت فلا أخاف. ماذا يصنعه بي الإنسان؟» (مز 56: 11).. «الرب لي فلا أخاف. ماذا يصنع بي الإنسان؟» (مز 118: 6).
«لولا الرب الذي كان لنا عندما قام الناس علينا» (آية 2). ما أعظم الفرق بين الذي معنا والذين علينا! معنا الرب سيد الأرض كلها، خالقها وصاحب السلطان فيها، و«إن كان الله معنا فمن علينا؟» (رو 8: 31).. «ملاك الرب حالٌّ حول خائفيه وينجيهم. ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتوكل عليه» (مز 34: 7، 8). أما »الناس« فهم نسل آدم المخلوق من تراب. فماذا يخيفنا إن قام التراب علينا؟ «الاحتماء بالرب خيرٌ من التوكُّل على إنسان. الاحتماء بالرب خيرٌ من التوكل على الرؤساء» (مز 118: 8، 9). «قام الناس علينا» ولكن «الرب نوري وخلاصي، ممَّن أخاف؟ الرب حصن حياتي، ممَّن أرتعب؟.. إن نزل عليَّ جيشٌ لا يخاف قلبي. إن قامت عليَّ حربٌ ففي ذلك أنا مطمئن» (مز 27: 1، 3). نحن تراب كما أنهم تراب، لولا أن الذي وقف إلى جوارنا نحن التراب هو الرب الذي نفخ في التراب فجعل منه نفساً حية. «رب الجنود معنا، ملجأنا إله يعقوب» (مز 46: 7).

ثانياً – إحسانات الرب العديدة
(آيات 3 –7)
1 – النجاة من الابتلاع: «إذاً لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا» (آية 3). حمي غضب الأشرار على شعب الله وأرادوا أن يبتلعوهم أحياء دفعة واحدة كأنهم الهاوية، مثلما حدث لعائلة قورح، الذين «انشقَّت الأرض التي تحتهم، وفتحت فاها وابتلعتهم وبيوتهم وكل من كان لقورح مع كل الأموال. فنزلوا هم وكل ما لهم أحياء إلى الهاوية، وانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة» (عد 16: 31-33). وفي كل جيل حاول الأشرار أن يبتلعوا المؤمنين أحياء ويقضوا عليهم فلا يبقى لهم ذكر. وتكررت محاولاتهم بطول التاريخ، حتى سُمِّيت الكنيسة بحق «كنيسة الشهداء». ومع هذا كان دم الشهداء بذار الكنيسة! وهذا ما فعله نبوخذنصَّر بالشعب الذي صرخ: «أكلني، أفناني نبوخذنصَّر ملك بابل. جعلني إناءً فارغاً. ابتلعني كتنِّين وملأ جوفه من نِعَمي. طوَّحني» (إر 51: 34). ولكن الرب أنقذ شعبه وشجعهم بالقول: «إذا اجتزتَ في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيتَ في النار فلا تُلذع، واللهيب لا يحرقك. لأني أنا الرب إلهك قدوس إسرائيل مخلِّصك» (إش 43: 2، 3). ولهذا قدَّم الحكيم لابنه نصيحة ليُبعده عن مسايرة الأشرار، فقال: «يا ابني، إن تملَّقك الخطاة فلا ترضَ. إن قالوا: هلمَّ معنا نكمن للدم البريء باطلاً، لنبتلعهم أحياء كالهاوية وصحاحاً كالهابطين في الجب.. يا ابني لا تسلك في الطريق معهم. امنع رجلك عن مسالكهم» (أم 1: 10-12، 15).
2 – النجاة من الغرق: «إذاً لجرفتنا المياه، لعبر السيل على أنفسنا. إذاً لعبرت على أنفسنا المياه الطامية» (آيتا 4، 5). عندما تجد عداوة العالم ثغرة فإنها تندفع منها بقوة لتجرف أمامها شعب الله. وأمام فيضانات الاضطهاد لا منقذ ولا ملجأ ولا ملاذ إلا الله. عندما شعر المرنم بالمياه الطامية التي تشبه السيل النازل من جبل يجرف أمامه كل شيء، ولا يستطيع إنسان أن يقف أمامه، صرخ: «خلِّصني يا الله لأن المياه قد دخلَتْ إلى نفسي. غرقْتُ في حمأةٍ عميقة وليس مقر. دخلْتُ إلى أعماق المياه. السيل غمرني.. رفَعَت الأنهار يا رب، رفعت الأنهار صوتها. ترفع الأنهار عجيجها. من أصوات مياه كثيرة، من غمار أمواج البحر، الرب في العُلا أقدر» (مز 69: 1، 2 و93: 3، 4). «عندما يأتي العدو كنهر فنفخة الرب تدفعه» (إش 59: 19).
والمياه الطامية ترمز إلى الأعداء الذين يجيئون بكثرة كأمواج بحر هادرة غاضبة يهاجمون شعب الله. لكنه لن يهملهم ولن يتركهم، فكل من يسمع أقواله ويعمل بها، يشبه رجلاً عاقلاً بنى بيته على الصخر «فنزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبَّت الرياح، ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأنه كان مؤسساً على الصخر» (مت 7: 24). «لكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 37).
3 – النجاة من الافتراس: «مبارك الرب الذي لم يُسْلمنا فريسة لأسنانهم» (آية 6). يشبِّه المرنم الأعداء هنا بالوحوش المفترسة التي تنقضّ على فرائسها وتمزِّقها بأسنانها قبل أن تلتهمها، فلا ينقذ الفريسة إلا الراعي الصالح، الذي يناديه المرنم: «قُم يا رب. خلِّصني يا إلهي. لأنك ضربتَ كل أعدائي على الفك. هشَّمت أسنان الأشرار» (مز 3: 7). «يا ربُّ إلهي عليك توكلتُ. خلِّصني من الذين يطردونني ونجِّني، لئلا يفترس كأسدٍ نفسي، هاشماً إياها ولا منقذ» (مز 7: 1، 2). لقد حاول الأعداء أن يفعلوا الشيء نفسه بالمسيح، فقال المرنم على لسانه بروح النبوَّة قبل صلبه بألف سنة: «لأنه قد أحاطت بي كلاب. جماعةٌ من الأشرار اكتنفتني. ثقبوا يديَّ ورجليَّ. أُحصي كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ. يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون. أما أنت يا رب فلا تبعُد. يا قوتي أسرع إلى نُصرتي. أنقذ من السيف نفسي، من يد الكلب وحيدتي. خلِّصني من فم الأسد، ومن قرون بقر الوحش. استجب لي» (مز 22: 16-21). وقد سُمعت الصلاة، وقام المسيح من الأموات ظافراً منتصراً.
4 – النجاة من الفخ: «انفلتت أنفسُنا مثل العصفور من فخ الصيادين. الفخ انكسر ونحن انفلتنا» (آية 7). يشبِّه المرنم نفسه بعصفور تهدده فخاخ الصيادين. والصيادون يعرفون طبائع الطيور، فهي لا تقدر أن ترى الشبكة حتى تتجنَّبها، وإذا وقعت فيها لا تقدر أن تخلِّص نفسها منها. وما أسعد العصفور الذي له مخلِّص قوي يتدخَّل في الوقت المناسب فيكسر الفخ ويطلق العصفور، وينجي زملاءه العصافير الأخرى فلا يمسكها الفخ لأنه انكسر! وطوبى للنفس التي يسهر الرب عليها، وهي تقول: «عيناي دائماً إلى الرب، لأنه هو يُخرج رجليَّ من الشبكة» (مز 25: 15) وتذكر الوعد: «لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوبأ الخطر» (مز 91: 3).
وما أكثر فخاخ إبليس. قد يكون الفخ تعليماً غريباً، وقد يكون كبرياء المؤمن، أو شهوته المسيطرة عليه، وقد يكون سقوطه في بالوعة اليأس.. وهذه كلها يحطمها الله ويفلتنا منها، فنكون «متحيِّرين لكن غير يائسين، مضطهَدين لكن غير متروكين، مطروحين لكن غير هالكين» (2كو 4: 8، 9).
فلنقدم الشكر لله لأجل النجاة من الابتلاع، ومن الغرق، ومن أسنان الوحوش المفترسة، ومن فخ الصيادين، لأنه يفدي حياتنا من الحفرة (مز 103: 4).

ثالثاً – الثقة في المستقبل
(آية 8)
«عوننا باسم الرب الصانع السماوات والأرض» (آية 8). يعلن المرنم ثقته في المستقبل لأن مصدر معونته ورجائه هو ملك الملوك، الذي بيده قلب الملك كجداول مياه، يُميلها إلى حيث شاء (أم 21: 1)، وهو خالق كل الأشياء بكلمة قدرته، صنع السماوات وما فيها والأرض وما عليها، وسيحفظنا حتى يحين وقت انتقالنا من أرضه إلى سمائه «ويفرح جميع المتكلين عليك. إلى الأبد يهتفون وتظللهم. ويبتهج بك محبّو اسمك. لأنك أنت تبارك الصديق يا رب. كأنه بترسٍ تحيطه بالرضا» (مز 5: 11، 12).
الله هو هو، أمساً واليوم وإلى الأبد. في الماضي أخرج بني إسرائيل من مصر، وكسر فخَّ فرعون، وأغرقه مع جنوده في البحر، فرنَّم موسى وبنو إسرائيل: «الرب قوتي ونشيدي وقد صار خلاصي. هذا إلهي فأمجِّده. إله أبي فأرفِّعه» (خر 15: 2). «اتَّكِلوا على الرب إلى الأبد، لأن في ياه الرب صخرَ الدهور» (إش 26: 4).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
1 اَلْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى الرَّبِّ مِثْلُ جَبَلِ صِهْيَوْنَ الَّذِي لاَ يَتَزَعْزَعُ، بَلْ يَسْكُنُ إِلَى الدَّهْرِ. 2أُورُشَلِيمُ الْجِبَالُ حَوْلَهَا، وَالرَّبُّ حَوْلَ شَعْبِهِ مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ. 3لأَنَّهُ لاَ تَسْتَقِرُّ عَصَا الأَشْرَارِ عَلَى نَصِيبِ الصِّدِّيقِينَ، لِكَيْ لاَ يَمُدَّ الصِّدِّيقُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى الإِثْمِ. 4أَحْسِنْ يَا رَبُّ إِلَى الصَّالِحِينَ، وَإِلَى الْمُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ. 5أَمَّا الْعَادِلُونَ إِلَى طُرُقٍ مُعَوَّجَةٍ فَيُذْهِبُهُمُِ الرَّبُّ مَعَ فَعَلَةِ الإِثْمِ. سَلاَمٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ.

»الرب حول شعبه«
يعلن هذا المزمور أمان المؤمن الدائم بسبب قوة الرب وأمانته اللتين لا تتغيران، مثل الجبل الثابت المقدس الذي بُني عليه الهيكل. ويتكلم المرنم عن ذكريات حلوة يتبادلها المؤمنون بعد أن وصلوا إلى جبل صهيون معاً. والاسم «صهيون» قد يعني «يصون» أو «يحمي». وقد يعني «صهوة» بمعنى قمة جبل أو قلعة. وجبل صهيون، أي جبل الحصن، جبلٌ عالٍ ثابت لا يتعرض للزلازل وليس من السهل أن يغزوه عدو، ظل كما هو منذ كان في يد اليبوسيين حتى استولى عليه داود عام 1003 ق م، وأطلق عليه اسم «مدينة داود» (2صم 5: 7) ونقل إليها تابوت العهد (2صم 6: 12). ثم وسَّع سليمان مدينة أورشليم شمالاً حتى شملت جبل المُرِيّا الذي بنى عليه الهيكل عام 958 ق م (2أخ 1: 3)، وبعدها أُطلق اسم «صهيون» على كل مدينة أورشليم بما فيها الحصن وجبل المريا.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – إعلان الثقة (آيات 1-3)
ثانياً – طلب الواثق (آيتا 4، 5)

أولاً – إعلان الثقة
(آيات 1-3)
1 – ثبات المؤمن: «المتوكِّلون على الرب مثل جبل صهيون الذي لا يتزعزع بل يسكن إلى الدهر» (آية 1). يُضرب المثل بالجبال في الثبوت وعدم التغيُّر، ويُضرب المثَل بجبل صهيون لأن الله أقام هيكله فيه، ويقول الوحي: «إن الرب أسَّس صهيون، وبها يحتمي بائسو شعبه» (إش 14: 32). والمتوكل على الرب هو الذي يضع ثقته فيه عملياً، وليس نظرياً فقط، ويتصرف على أساس هذه الثقة، ويسلك طِبقاً لهذا التعليم، فيُقال عنه: «سعيدٌ هو الرجل الذي يترأف ويُقرِض. يدبِّر أموره بالحق، لأنه لا يتزعزع إلى الدهر. الصِّدِّيق يكون لذِكْرٍ أبدي. لا يخشى من خبر سوء. قلبه ثابت متَّكلاً على الرب. قلبه ممكَّن فلا يخاف» (مز 112: 5-8). والمتوكل على الرب يشبه الطفل الذي يرفعه أبوه على مكان عالٍ ثم يطلب منه أن يقفز، فيقفز إلى حضن أبيه بدون خوف قفزة الإيمان المحسوبة، حتى في الظلام، لأنه يثق أن أباه لن يتركه يسقط، فيخاطر بالقفز، وكأنه يقول مع الرسول بولس في السفينة الموشكة على الغرق: «وصرنا نُحمَل» (أع 27: 15)، فلم تكن الأمواج هي الحاملة، بل رب الأمواج. «ليس مثل الله.. الإله القديم ملجأ، والأذرع الأبدية من تحت» (تث 33: 26، 27).. «ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم» (1بط 7: 5).
يعلم المؤمن أن «الرب قد ملَك. لبس الجلال. لبس الرب القدرة. اتَّزر بها. أيضاً تثبَّتت المسكونة. لا تتزعزع» (مز 93: 1). ويثق في الوعد: «فإن الجبال تزول والآكام تتزعزع. أما إحساني فلا يزول عنكِ، وعهد سلامي لا يتزعزع. قال راحمكِ الرب» (إش 54: 10)، فيرنم: «جعلتُ الربَّ أمامي في كل حين. لأنه عن يميني فلا أتزعزع» (مز 16: 8).
كان مارتن لوثر يحب مزمور 46 الذي ألهمه الشجاعة، فوقف في وجه المقاومة العنيفة والتهديد بالقتل. ولا زال اللحن الذي وضعه ليرنم به مزمور 46 مصدر إلهام للمؤمنين، وهم يرتلون: «الله في وسطها فلن تتزعزع. يعينها الله عند إقبال الصبح» (مز 46: 5) أي في ساعات الظلمة الشديدة قبل الفجر، لأنهم متأكدون أن نور النهار سيهزم الظلمة مهما كانت كثيفة!
2 – حضن المؤمن: «أورشليم الجبال حولها، والرب حول شعبه من الآن وإلى الدهر» (آية 2). حقيقة أن الجبال تحيط بأورشليم هي حقيقة جغرافية لا تنكرها عين. وحقيقة احتضان الله للمؤمن حقيقة روحية ثابتة ستبقى من الآن وإلى الدهر تضمن له الأمان، لأنه يعيش داخل قلعة حصينة. «اسم الرب برج حصين يركض إليه الصدِّيق ويتمنَّع» (أم 18: 10). فالرب يحيط بالمتوكل عليه كالجبل الثابت الذي لا يتزعزع، محققاً وعده الصادق: «أنا، يقول الرب، أكون لها سور نار من حولها، وأكون مجداً في وسطها» (زك 2: 5). وهذا ما اختبره داود فقال: «إن أبي وأمي قد تركاني، والرب يضمُّني» (مز 27: 10).
في كل مرة نتقدم فيها لممارسة فريضة المعمودية، لنضُمَّ للرب شخصاً نال الخلاص، نقرأ نصَّ الإنجيل عن الأمر بالمعمودية، فنجده مسبوقاً بوعدٍ من المسيح، ومتبوعاً بوعدٍ آخر منه. أما الوعد السابق فيقول: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمِذوا جميع الأمم، وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 18). فالمسيح صاحب كل السلطان في السماء ليغفر خطايا الذين يعترفون بها ويعزمون على تركها، ويستجيب الصلاة، ويشفع في المحتمين به، ويرسل ملائكته لخدمتهم. أما سلطانه على الأرض فواضح من أنه لا زال الحي الذي يُجري المعجزات، وينقذ كل من يلوذ به.. أما الوعد الذي يتبع المعمودية فهو: «أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20). وهذان الوعدان يعلِّماننا أن الرب يضمُّ كل معمَّد إلى صدر محبته كل الأيام إلى انقضاء الدهر.
3 – نصرة المؤمن: «لأنه لا تستقر عصا الأشرار على نصيب الصدِّيقين، لكيلا يمدَّ الصدِّيقون أيديهم إلى الإثم» (آية 3). ترمز العصا إلى السلطان والتحكُّم. ولكن بسبب وعود الرب لخائفيه لا يستمر تحكُّم الأشرار في نصيب الصديقين، فيقولون: «كسَّر الرب عصا الأشرار، قضيبَ المتسلِّطين» (إش 14: 5). قد تجيء عصا الشرير على نصيب الصديقين بعض الوقت، وقد يتحكَّم الأشرار في المؤمنين أحياناً، لكن هذا لا بد أن ينتهي، لكيلا يمدَّ الصدِّيقون أيديهم إلى الإثم. فالمؤمنون هم شعب الله، وطالما كانوا في العالم سيكون لهم ضيق. إنهم ليسوا محصَّنين ضد التجارب. وسيجيء الوقت الذي سيحطم فيه الرب عصا الأشرار، فيُقال للمؤمنين: «ويكون في يومٍ يريحكَ الربُّ من تعبك، ومن انزعاجك، ومن العبودية القاسية التي استُعبِدتَ بها.. وتقول: كيف باد الظالم؟» (إش 14: 3، 4).
دعا الإمبراطور تراجان قسيساً أراد أن يسخر منه ومن مسيحه، فسأله: «ماذا يفعل نجاركم الناصري الآن؟» فأجابه: «يُجهِّز نعشاً للإمبراطورية الرومانية». وقد كان! فقد آمنت بالمسيح هيلانة أمُّ قسطنطين، الإمبراطور الروماني المسيحي الأول، ثم عقد قسطنطين المجمع المسكوني المسيحي في نيقية عام 325 م، حضره 318 أسقفاً، كان أحدهم قد فقد عيناً من التعذيب، فقبَّل الإمبراطور مكان العين المقلوعة، وأمر بنسخ خمسين نسخة من الكتاب المقدس على نفقة الدولة الرومانية، وأن تكون المسيحية ديانة الدولة الرسمية.. وهكذا صنع الناصري النعش. وسيأتي اليوم الذي فيه تجثو للمسيح كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض. فلن تستقر عصا الأشرار على نصيب الصديقين.
لم يخشَ المرنم أن تسرق عصا الأشرار ماله، أو تُنهي حياته، بل خاف أن تمتدَّ يد الصديقين إلى الإثم، لأن المسيح يقول لهم: «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها» (مت 10: 28).. لن يستقر سلطان الأشرار على نصيب المؤمنين، وهم يهتفون: «الرب نصيب قسمتي وكأسي. أنت قابض قرعتي. حبالٌ وقعت لي في النُّعماء، فالميراث حسنٌ عندي.. لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر. يسترني بستر خيمته. على صخرة يرفعني» (مز 16: 5، 6 و27: 5).

ثانياً – طلب الواثق
(آيتا 4، 5)
1 – طلب الإحسان للصالحين: «أَحْسِن يا رب إلى الصالحين وإلى المستقيمي القلوب» (آية 4). الإحسان هو العطاء لمن لا يستحق، وهو من طبيعة الرب الصالح الذي يعطي بسخاء ولا يعيِّر (يع 1: 5). ولا يوجد بين البشر من هو صالح كامل الصلاح ولا مستقيم كلي الاستقامة، فليس فيهم من يستحق هذا الإحسان، لأنه ليس من يعمل صلاحاً، والجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله (مز 14: 1-3 ورو 3: 23). والصالحون المستقيمون هنا ليسوا أصحاب الصلاح والاستقامة الكاملَيْن المطلقَيْن، بل أصحاب النيَّة الصالحة المستقيمة التي لا تطلب إلا طاعة الرب، وهم الأمناء المخلِصون للرب بعزم القلب، مثل الرسول بولس الذي قال: «ليس أني قد نلتُ أو صرتُ كاملاً، ولكني أسعى لعلي أدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع» (في 3: 12). والرب في محبته الكثيرة يُحسن إلينا، لا لأننا نستحق، ولكن لأنه «رحيمٌ ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى أُلوف، غافرُ الإثم والمعصية والخطية» (خر 34: 6، 7). قال عنه آساف المرنم: «إنما صالح الله لإسرائيل، لأنقياء القلب» (مز 73: 1). هم البذار «الذي في الأرض الجيدة.. الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيد صالح، ويثمرون بالصبر» (لو 8: 15). وهو ما يصف به نحميا نفسه في صلاته: «اذكُرْ لي يا إلهي للخير كلَّ ما عملتُ لهذا الشعب.. فاذكُرني يا إلهي للخير» (نح 5: 19 و13: 31). وتظهر عظمة إحسانات الرب في:
(أ) الخلاص: «لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله» (أف 2: 8). هذا أعظم إحسان يقدمه الرب لكل من يؤمن ويثق أن دم المسيح يطهره من كل خطية «متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدَّمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار برِّه (عدالته) من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله» (رو 3: 24، 25).
(ب) الغفران: «إنه من إحسانات الرب أننا لم نفنَ، لأن مراحمه لا تزول» (مرا 3: 22). وعندما ندعوه: «اغفر لنا ذنوبنا» نثق أنه يسمع ويستجيب لأنه «يعود يرحمنا، يدوس آثامنا، وتُطرَح في أعماق البحر جميع خطاياهم» (مي 7: 19).

(ج) تحقيق الوعود: ما أكثر وعود الرب التي تحققت ، وأعظمها أن نسل المرأة (المسيح) يسحق رأس الحية (الشيطان) (تك 3: 15)، وهو الوعد الذي تحقق في نصرة المسيح وقيامته من بين الأموات، وهكذا «ابتُلِع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟» (1كو 15: 54، 55). ويحقق الرب الوعود ويبقى أميناً لنا حتى إن كنا نحن غير أمناء له. لا يغيِّر طبيعته (2تي 2: 13). قال يشوع: «لم تسقط كلمة من جميع الكلام الصالح الذي كلَّم به الرب بيت إسرائيل. الكل صار.. وتعلمون بكل قلوبكم وكل أنفسكم أنه لم تسقط كلمة واحدة من جميع الكلام الصالح الذي تكلم به الرب عنكم. الكل صار لكم» (يش 21: 45 و23: 14).. وقال سليمان بعد صلاة تدشين الهيكل: «مباركٌ الرب الذي أعطى راحةً لشعبه إسرائيل حسب كل ما تكلم به، ولم تسقط كلمة واحدة من كل كلامه الصالح الذي تكلم به عن يد موسى عبده» (1مل 8: 56).
(د) الإنعام بالخير: «إحساناتِ الرب أذكر. تسابيحَ الرب. حسب كل ما كافأنا به الرب، والخيرَ العظيم لبيت إسرائيل الذي كافأهم به حسب مراحمه، وحسب كثرة إحساناته» (إش 63: 7). وقال داود وهو يقدم تبرعه لبناء هيكل الرب: «مَن أنا ومن هو شعبي حتى نستطيع أن نتبرع هكذا! لأن منك الجميع، ومن يدك أعطيناك» (1أخ 29: 14). وكل من يدرك إحسانات الرب يدفع عشور دخله للرب، لأن «المعطي المسرور يحبه الله» (2كو 9: 7).
2 – طلب العقاب للآثمين: «أما العادلون إلى طرق مُعوجَّة فيُذهِبهم الرب مع فعلة الإثم» (آية 5). «العادلون» إلى طرق معوجة هم الذين يعدلون وجوههم نحو الشر والعوَج، كما فعل بنو إسرائيل لما قال لهم موسى: «قد أخطأتم إلى الرب إلهكم، وصنعتم لأنفسكم عجلاً مسبوكاً، وزُغتم سريعاً عن الطريق التي أوصاكم بها الرب» (تث 9: 16). وهم مثل ابني صموئيل اللذين «مالا وراء المكسب، وأخذا رشوةً، وعوَّجا القضاء» (1صم 8: 3). وهم مثل شَمْعِيا الذي أخذ رشوة من الأعداء ليعطل نحميا عن بناء سور أورشليم (نح 6: 12، 13)، فإن «حماقة الرجل تعوِّج طريقه» (أم 19: 3) فيضم صوته مع العادلين وجوههم بعيداً عن الله، وهم يقولون له: «ابعُد عنا. وبمعرفة طرقك لا نُسر» (أي 21: 14). فيتركهم الرب لعوجهم وضلالهم فيمضون إلى مصيرهم المخيف مع فاعلي الإثم. لقد اختاروا العوج، وعليهم أن يحتملوا عقاب اختيارهم الأعوج، ويُقال لهم: «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المُعدَّة لإبليس وملائكته» (مت 25: 41).
* * *
ويختم المرنم مزموره بالقول: «سلام على إسرائيل» (آية 5). فمن هم المقصودون بالحصول على السلام؟ يقول الوحي: «لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون، ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعاً أولاد.. ليس أولاد الجسد هم أولاد الله، بل أولاد الموعد يُحسَبون نسلاً» (رو 9: 6-8).. وهذا يعني أن هناك «إسرائيل» المولود من نسل إبراهيم، لكنه لا يؤمن إيمان إبراهيم، فهو إسرائيل الجسدي. وهناك «إسرائيل الله» وهم كل الذين يؤمنون إيمان إبراهيم من كل قبيلة وشعب.. إسرائيل الجسدي لا ينال البركة لأنه رفض المسيح الذي «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله. أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه» (يو 1: 11، 12). «إسرائيل الله» هم الخليقة الجديدة الذين قبلوا المسيح، ويحملون في أجسادهم علامة المسيح، وهم الذين صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات. ويقول الوحي: «لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة. فكل الذين يسلكون بحسب هذا القانون عليهم سلام ورحمة، وعلى إسرائيل الله» (غل 6: 12-16). سلام على إسرائيل الروحي، وهم كل من يؤمنون إيمان خليل الله إبراهيم، ويتبعون الرب بعزم القلب.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
1 عِنْدَمَا رَدَّ الرَّبُّ سَبْيَ صِهْيَوْنَ صِرْنَا مِثْلَ الْحَالِمِينَ. 2حِينَئِذٍ امْتَلأَتْ أَفْوَاهُنَا ضِحْكاً وَأَلْسِنَتُنَا تَرَنُّماً. حِينَئِذٍ قَالُوا بَيْنَ الأُمَمِ: «إِنَّ الرَّبَّ قَدْ عَظَّمَ الْعَمَلَ مَعَ هَؤُلاَءِ». 3عَظَّمَ الرَّبُّ الْعَمَلَ مَعَنَا وَصِرْنَا فَرِحِينَ. 4ارْدُدْ يَا رَبُّ سَبْيَنَا مِثْلَ السَّوَاقِي فِي الْجَنُوبِ. 5الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِالاِبْتِهَاجِ. 6الذَّاهِبُ ذِهَاباً بِالْبُكَاءِ حَامِلاً مِبْذَرَ الزَّرْعِ، مَجِيئاً يَجِيءُ بِالتَّرَنُّمِ حَامِلاً حُزَمَهُ.
ابتهاج بعد دموع
في هذا المزمور يذكر المرنم بدموع سبي بني إسرائيل المؤلم في بابل مدة سبعين سنة بدءاً من عام 586 ق م، كانت كلها تعباً وحزناً وألماً بسبب الاغتراب عن أرض الآباء، وعن هيكل الرب، بعد أن هدمه نبوخذنصَّر ونهب أوانيه وأخذ أفضل أفراد الشعب سبايا. ويذكر المرنم بابتهاج النجاة المعجزية غير المتوقَّعة عندما تدخَّل الله وعفا عنهم وأمر برجوعهم، فأصدر كورش الفارسي تصريحه بعودتهم، فعاد البعض بقيادة زربابل، وآخرون مع عزرا الكاتب، وآخرون مع الوالي نحميا. فكان رجوعهم كأنه حلمٌ، لا يكادون يصدقون حدوثه. ويُطلَق على الرجوع من السبي «الخروج الثاني» باعتباره في مثل عظمة الخروج الأول من مصر. وقد أذهل هذان الخروجان الأمم.
وواجه الراجعون من السبي مصاعب عديدة بعد أن بدأوا إعادة بناء الهيكل وترميم الأسوار المنهدمة، فصلّوا: »اردُد يا رب سبينا« وكأنهم يواجهون سبياً جديداً. وهم يطلبون من الله أن يجعل نهايتهم فرحاً كالحصاد، بالرغم من أن بدءهم مؤلم كمن يتعب وهو يزرع ويسقي وينتظر.
وهناك أوجه شبه بين مزمورنا ومزمور 85 الذي يقول: «رضيتَ يا رب على أرضك.. غفرت إثم شعبك.. رجعتَ عن حموّ غضبك.. أَرجِعنا يا إله خلاصنا وانفِ غضبك عنا. هل إلى الدهر تسخط علينا؟» (آيات 1-5).
وعندما نرنم هذا المزمور نتذكر أن هناك أنواعاً من السبي، يردُّ الرب أجسادنا ونفوسنا منها كلها، وينقذنا من كل آثارها المؤلمة، مادية كانت أو معنوية، جسدية كانت أم روحية. «كثيرةٌ هي بلايا الصدِّيق، ومن جميعها ينجيه الرب» (مز 34: 19). فالسبي لا يعني فقط خروجاً من بلادنا إلى بلاد أخرى، لكنه يعني أيضاً خروجنا من النجاح إلى الفشل، أو من الصحة إلى المرض، أو من القوة الروحية إلى الضعف الروحي. ومنها كلها يردُّنا الرب ويُرجعنا، ليس فقط إلى ما كنا فيه، بل إلى أفضل مما كنا فيه، فنقول: «يردُّ نفسي. يَهديني إلى سبل البر من أجل اسمه» (مز 23: 3).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – معجزة النجاة الماضية (آيات 1-3)
ثانياً – طلب نجاة جديدة (آيات 4-6)

أولاً – معجزة النجاة الماضية
(آيات 1-3)
1 – معجزة فاقت التصوُّر: «عندما ردَّ الرب سبي صهيون صرنا مثل الحالمين» (آية 1). يذكر المرنم النجاة من ضيق السبي ومتاعبه والبُعد عن مكان العبادة. ولكنه يتوقَّف ليتأمل المعجزة السماوية التي ردَّتهم إلى ديارهم، وجعلتهم كالحالمين لفرط عظمة المعجزة.. تُرى هل هو حلمٌ يستيقظون بعده على الحقيقة المُرة أنهم لا يزالون في السبي، أو هل سيقاسون سبياً من نوع جديد؟.. لقد كانوا مثل تلاميذ المسيح عندما ظهر لهم بعد قيامته، فكانوا غير مصدِّقين من الفرح ومتعجبين (لو 24: 41).. وكانوا مثل بطرس المسجون الذي كان ينتظر إعدامه في اليوم التالي، وقد راح في نوم عميق. فجاء ملاك الرب لينقذه، وأضاء أرجاء السجن بنور سماوي، وأيقظه، وطلب منه أن يلبس نعليه ويرتدي ثيابه وفوقها رداءه لأن الجو بارد في الخارج، فخرج يتبع الملاك وهو لا يعلم أن الذي يجري حوله حقيقي، بل يظن أنه يحلم. وجازا أربع نقاط حراسة حتى وصلا إلى باب السجن الرئيسي، ففتحه الملاك، وكان بطرس لا يزال يظن أنه يحلم! فسار معه الملاك زقاقاً واحداً حتى قال بطرس في نفسه: «الآن علمتُ يقيناً أن الرب أرسل ملاكه وأنقذني» (أع 12: 6-11).
وينقذنا الرب من سبيٍ متنوع الأسباب، ويُخرجنا منه ضاحكين:
(أ) النجاة من سبي الخطية: الشعور بالذنب أشد قسوة ومرارة من كل سبي. ولكن الله يردُّ سبي الخاطئ التائب ويخلِّصه من سداد أجرة خطاياه بأن يغفرها له. كما يخلِّصه من نتائج خطاياه، وهي الخوف من الفضيحة وعذاب الضمير وانتظار الدينونة. كما يخلِّصه من سطوة الخطية فينصره على آثامه، ويكمل نقصاته، ويقوي ضعفاته، ويجعله قادراً أن يغفر لنفسه وللآخرين. قال المسيح: «إن ثبتُّم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم.. الحق الحق أقول لكم، إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية، والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد. أما الابن فيبقى إلى الأبد. فإن حرَّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو 8: 30-36). كل البشر عبيد الله لأنه خلقهم، فإن عاشوا في عبودية الخطية لا يبقون في محضره إلى الأبد، بل يُلقى بهم إلى النار المُعدَّة لإبليس وجنوده. أما الابن الذي حرَّره المسيح فيبقى إلى الأبد. وكل من يدعو باسم الرب يخلُص، وكل من يخلُص يجد نفسه كالحالمين، لأنه لا يكاد يصدِّق عظمة الغفران الإلهي.
(ب) النجاة من سبي الضيق: قد يكون الضيق مادياً أو معنوياً، وقد يكون الاثنين معاً، كما حدث مع يونان في جوف الحوت فقال: «دعوتُ من ضيقي الرب فاستجابني. صرختُ من جوف الهاوية فسمعتَ صوتي.. ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي» (يون 2: 2، 6). وقد حدَّث الرسول بولس أهل كورنثوس عن ضيقةٍ أصابته في آسيا فقال: «إننا تثقَّلنا جداً فوق الطاقة، حتى أيسنا من الحياة.. لكي لا نكون متكلين على أنفسنا، بل على الله الذي يقيم من الأموات. الذي نجانا.. وهو ينجي. الذي لنا رجاء فيه أنه سينجي أيضاً فيما بعد» (2كو 1: 8-10). وكل متضايق يائس ثم ينجيه الرب، يكون كالحالمين الذين لا يكادون يصدقون أنهم نجوا.

(ج) النجاة من سبي المرض: بعد أن أوشك أيوب على الموت، وأخذ لنفسه شقفةً ليحتكَّ بها وهو جالسٌ في الرماد «ردَّ الرب سبي أيوب لما صلى لأجل أصحابه، وزاد الرب على كل ما كان لأيوب ضِعفاً» (أي 42: 10). فكان أيوب كالحالمين. ولا شك أن لسان حاله كان يقول: «باركي يا نفسي الرب الذي يغفر جميع ذنوبك، الذي يشفي كل أمراضك، الذي يفدي من الحفرة حياتك، الذي يكللك بالرحمة والرأفة» (مز 103: 3).
(د) النجاة من سبي الاحتياج: «اتَّقوا الرب يا قديسيه، لأنه ليس عَوَزٌ لمتَّقيه. الأشبال احتاجت وجاعت، وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير» (مز 34: 9، 10) .. شكا إبراهيم الخليل إلى الرب وقال: «إنك لم تعطني نسلاً، وهوذا ابن بيتي وارثٌ لي». فقال الرب له: «لا يرثك هذا، بل الذي يخرج من أحشائك هو يرثك» (تك 15: 3، 4). ومضت سنوات قبل أن يحقِّق الله وعده. ثم جاء ثلاثة ملائكة يكلِّمون إبراهيم عن إنجابه ابناً من سارة، فضحكت سارة في باطنها، لأنها وزوجها شيخان.. لكن «هل يستحيل على الرب شيء؟». «وافتقد الرب سارة كما قال، وفعل الرب كما تكلم، فحبلت سارة وولدت لإبراهيم ابناً في شيخوخته» (تك 18: 10-14 و21: 1-4) وسُمِّي المولود «إسحاق» بمعنى ضحك، فقد كان إبراهيم وسارة كالحالمين! وقالت سارة: «قد صنع إليَّ الله ضحكاً. كل من يسمع يضحك لي».
2 – فرح الراجعين: «حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكاً وألسنتنا ترنُّماً» (آية 2أ). عندما أفاق الراجعون من كابوس السبي للحقيقة الرائعة أنهم عائدون، أدركوا أن الرب بالحقيقة ردَّ سبيهم، ففاضت قلوبهم فرحاً عظيماً، فقد كانت الرحمة أعظم مما توقَّعوا، فلم يسعهم إلا أن يضحكوا حتى امتلأت أفواههم ضحكاً، وعبَّرت ألسنتهم عن فرحهم بالترنيم. «صوت ترنُّم وخلاص في خيام الصديقين. يمين الرب صانعةٌ ببأس» (مز 118: 15). لقد انطبق عليهم الوصف: «فتبتهجون بفرحٍ لا يُنطَق به ومجيد، نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس. الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم» (1بط 1: 8-10). حقاً «القلب الفرحان يجعل الوجه طَلِقاً» (أم 15: 13).
3 – دهشة الأمم: «حينئذ قالوا بين الأمم: إن الرب قد عظَّم العمل مع هؤلاء» (آية 2ب). كان صوت الضحك والترنُّم والفرح صادقاً وعالياً، فتساءل الوثنيون من حولهم عن سبب هذا الضحك، فعرفوا وانذهلوا، وأدركوا أن ما جرى مع بني إسرائيل لا يمكن أن يكون إلا من عظيم صُنع الرب. «أعلن الرب خلاصه. لعيون الأمم كشف برَّه» (مز 98: 2).. «قد شمَّر الرب عن ذراع قُدسه أمام عيون كل الأمم، فترى كل أطراف الأرض خلاص إلهنا» (إش 52: 10).
4 – شكر الراجعين: «عظَّم الرب العمل معنا وصرنا فرحين» (آية 3). بكل الشكر اعترف العائدون بعمل الرب العظيم وأذاعوا أخباره. لم يعزوا هذه العودة لصلاح عزرا الكاتب، ولا لمكانة نحميا الوالي، بل لله العظيم، ولسان حالهم يقول: «ترنَّمي أيتها السماوات لأن الرب قد فعل. اهتفي يا أسافل الأرض. أشيدي أيتها الجبال ترنُّماً، الوعرُ وكل شجرة فيه، لأن الرب قد فدى يعقوب، وفي إسرائيل تمجَّد.. ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بالترنم، وعلى رؤوسهم فرح أبدي. ابتهاج وفرح يدركانهم. يهرب الحزن والتنهُّد» (إش 44: 23 و51: 11).
عندما بشَّر الملاك جبرائيل العذراء مريم بأنها وجدت نعمة عند الله، وأنها ستحبل وتلد المسيح مخلِّص العالم، ذهبت إلى أليصابات نسيبتها التي طوَّبتها لأنها آمنت أن يتم ما قاله الرب لها، فرنمت العذراء: «تعظِّم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلِّصي.. لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس.. صنع قوةً بذراعه. شتَّت المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتَّضعين» (لو 1: 46-54).. «افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا» (في 4: 4).

ثانياً – طلب نجاة جديدة
(آية 4-6)
طلب المرنم من الرب نجاةً جديدة، شبَّهها بشيئين: بامتلاء السواقي الجافة بمياه المطر، وبالحصاد المفرح بعد تعب الزرع.
1 – طلَبَ ارتواءً مثل السواقي: «اردُد يا ربُّ سبينا مثل السواقي في الجنوب» (آية 4). الجزء الجنوبي من فلسطين المعروف بصحراء النقب منطقة جافة، تخلو جداولها من المياه أثناء الصيف، وتمتلئ بعد نزول أمطار الخريف.. وكان كالب بن يفنة قد أعطى ابنته عكسة أرض الجنوب الجافة، فقالت له: «أعطني بركة. لأنك أعطيتني أرض الجنوب فأعطني ينابيع ماء»، فأعطاها أبوها الينابيع العليا والينابيع السفلى (قض 1: 15). والمرنم، شأنه شأن «عكسة ابنة كالب» يطلب ينابيع للأرض الجافة، وكأنه يدعو الله: «ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون. يروون من دسم بيتك. من نهر نِعمك تسقيهم، لأن عندك ينبوع الحياة» (مز 36: 7-9). كانت حالة المرنم وحالة شعبه تشبه السواقي في الجنوب وقد جفَّت، فطلب فيض البركة ليروي عطشه ويُنبت زرعه، كما تمتلئ السواقي الجافة بأمطار الخريف المنعشة. أخطأ بنو إسرائيل وارتدّوا عن عبادة الإله الواحد، فقال عنهم: «شعبي عمل شرَّين: تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آباراً آباراً مشقَّقة لا تضبط ماء» (إر 2: 13)، فجفَّت منابع حياتهم الإيمانية، وعاقبهم بالسبي. ونحن نشبههم في احتياجنا إلى ملء سواقينا الروحية بالماء الحي الذي يعطي الحياة، فقد دعانا: «أيها العطاش جميعاً، هلموا إلى المياه.. اطلبوا الرب ما دام يوجد. ادعوه فهو قريب» (إش 55: 1، 6). وقال المسيح: «إن عطش أحد فليُقبل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي» (يو 7: 37، 38). وهذا التغيير من الظمأ إلى الارتواء يتم بامتلائنا من الروح القدس، كما قيل بالنبي يوئيل: «ابتهجوا وافرحوا بالرب إلهكم، لأنه يعطيكم المطر المبكر على حقِّه، ويُنزل عليكم مطراً مبكراً ومتأخراً.. وأعوِّض لكم عن السنين التي أكلها الجراد.. ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر» (يوء 2: 23، 25، 28). وقد تحققت هذه النبوة يوم الخمسين، ويمكن أن تتكرر معنا اليوم.
2 – طلب حصاداً مثل الزارع: »الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج. الذاهب ذهاباً بالبكاء حاملاً مبذر الزرع، مجيئاً يجيء بالترنُّم حاملاً حُزمه» (آيتا 5، 6). قبل نزول الأمطار تكون الأرض سوداء جافة مشقَّقة في انتظار البذور والمطر، فيحمل الفلاح مبذر الزرع ويبذر فيها بذوره بدموع تعب من يبذر ويسقي وينتظر الثمر. وعندما تهطل الأمطار ترتوي الأرض، وتختفي شقوقها، وتنمو البذور. وسرعان ما يجيء وقت الحصاد فيحصد الفلاح بابتهاج ويجمع محصوله وهو يرنم شكراً لله: «كللت السنة بجودك، وآثارك تقطر دسماً» (مز 65: 11).
ويطلب المرنم من الرب أن يحوِّل اختبار دموعه المؤلم إلى فرح وابتهاج وترنم. وقد كان، فبعد الرجوع من السبي كانت الأسوار منهدمة، والهيكل مدمَّراً، فامتلأت نفوسهم بالأحزان. وعندما شرعوا في بناء الهيكل «كثيرون من الكهنة واللاويين ورؤوسِ الآباء، الشيوخِ الذين رأوا البيت الأول، بكوا بصوت عظيم عند تأسيس هذا البيت أمام أعينهم» (عز 3: 12). ولكن الفرح ملأ قلوبهم بعد إكمال البناء «وبنو إسرائيل، الكهنة واللاويون وباقي بني السبي، دشَّنوا بيت الله هذا بفرح.. وعملوا عيد الفطير سبعة أيام بفرح، لأن الرب فرَّحهم» (عز 6: 16، 22).
وحزن الشعب الراجع عندما رأوا الأسوار المنهدمة، فقال لهم نحميا: «أنتم ترون الشر الذي نحن فيه، كيف أن أورشليم خربة وأبوابها قد أُحرقت بالنار. هلم فنبني سور أورشليم ولا نكون بعد عاراً» (نح 2: 17). وملأ الفرح قلوبهم بعد إكمال البناء «وعند تدشين سور أورشليم طلبوا اللاويين من جميع أماكنهم ليأتوا بهم إلى أورشليم لكي يدشنوا بفرح وحمد وغناء بالصنوج والرباب والعيدان.. وذبحوا في ذلك اليوم ذبائح عظيمة وفرحوا، لأن الله أفرحهم فرحاً عظيماً. وفرح الأولاد والنساء أيضاً. وسُمع فرح أورشليم عن بُعد» (نح 12: 27، 43).
وفي حياتنا الروحية توجد أحزان تتلوها أفراح، لأن الرب يردُّنا منها، فنكون مثل السواقي الجافة التي تمتلئ بالمطر، ومثل الزارع الذي يفرح بالحصاد بعد تعب الزرع:
(أ) الفرح الذي يعقب الحزن على الخطية: يعزّي الرب كل من يحزن على خطاياه بأن يمنحه الغفران، فيفرح قلب التائب الذي لا يكتم خطاياه، بل يُقرّ بها ويتركها فيرحمه الله (أم 28: 13)، كما قال المسيح: «طوبى للحزانى لأنهم يتعزون» (مت 5: 4).
ويصلي المؤمن الذي اعترف بخطاياه فنال رحمة الرب، من أجل خاطئ آخر، فيكلم الله طالباً منه أن يتوِّب ذلك الخاطئ. ثم يكلم الخاطئ عن ضرورة التوبة لله، فيجيب الله الصلاة، ويتوب ذلك الخاطئ، لفرح قلب المؤمن الذي دعاه لقبول المسيح، ولفرح قلب الخاطئ التائب بغفران خطاياه. ويقول الرسول بولس: «أنا غرست وأبلوس سقى، لكن الله كان ينمي.. والغارس والساقي هما واحد، ولكن كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه. فإننا نحن عاملان مع الله، وأنتم فلاحة الله، بناء الله» (1كو 3: 6-11). وهذا ما قاله المسيح لتلاميذه بعد ربح المرأة السامرية للتوبة: «الحاصد يأخذ أجرة ويجمع ثمراً للحياة الأبدية لكي يفرح الزارع والحاصد معاً.. أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه. آخرون تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم» (يو 4: 36-38).
(ب) الفرح الذي يعقب انتهاء الألم: في برية الحياة نمُر بضيقات وآلام متنوعة، قد ننحني تحت وطأتها ونحزن ونخاف ولكن «احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة.. طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه» (يع 1: 2، 12) «لأن للحظةٍ غضبَه. حياةٌ في رضاه. عند المساء يبيت البكاء وفي الصباح ترنم» (مز 30: 5).
(ج) الفرح الذي يبدأ بلقاء المسيح: عندما أوشكت خدمة المسيح على نهايتها قال لتلاميذه: «الحق الحق أقول لكم إنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستَحزنون ولكن حزنكم سيتحوَّل إلى فرح.. عندكم الآن حزن، ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحدٌ فرحكم منكم» (يو 16: 20، 22). وحزن التلاميذ لما صُلب المسيح بينما فرح شيوخ اليهود لأنه اختفى من المشهد. أما بعد القيامة فتبدَّل الموقف، وفرح التلاميذ عندما ظهر لهم وقال: «سلام لكم».. والآن ننتظر مجيء المسيح ثانيةً بكل الفرح، وعندما يعود ستسيل دموع الذين ينتظرونه بالفرح.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ. لِسُلَيْمَانَ
1إِنْ لَمْ يَبْنِ الرَّبُّ الْبَيْتَ فَبَاطِلاً يَتْعَبُ الْبَنَّاؤُونَ. إِنْ لَمْ يَحْفَظِ الرَّبُّ الْمَدِينَةَ فَبَاطِلاً يَسْهَرُ الْحَارِسُ. 2بَاطِلٌ هُوَ لَكُمْ أَنْ تُبَكِّرُوا إِلَى الْقِيَامِ، مُؤَخِّرِينَ الْجُلُوسَ، آكِلِينَ خُبْزَ الأَتْعَابِ. لَكِنَّهُ يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْماً. 3هُوَذَا الْبَنُونَ مِيرَاثٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، ثَمَرَةُ الْبَطْنِ أُجْرَةٌ. 4كَسِهَامٍ بِيَدِ جَبَّارٍ هَكَذَا أَبْنَاءُ الشَّبِيبَةِ. 5طُوبَى لِلَّذِي مَلأَ جُعْبَتَهُ مِنْهُمْ. لاَ يَخْزُونَ، بَلْ يُكَلِّمُونَ الأَعْدَاءَ فِي الْبَابِ.

العائلة تتعبَّد – 1
كانت العائلات المعيِّدة في أورشليم ترنم المزمورين 127 و128 ويُطلقون عليهما «مزموري الأسرة»، وهما يعلِّماننا عن صفات العائلة التقية السعيدة. وفي تأملنا فيهما ندعو الله أن يجعل عائلاتنا سعيدة تعبده في فرح، فنقول:«أما أنا وبيتي فنعبد الرب» (يش 24: 15). كان بنو إسرائيل، طاعةً لشريعة موسى، يصعدون إلى الهيكل ليعيِّدوا كعائلات. وقد صعدت العائلة المقدسة: الصبي يسوع لما بلغ الثانية عشرة من عمره، مع أمه العذراء القديسة مريم ويوسف التقي، إلى أورشليم في العيد.
وفي ترتيل هذين المزمورين تذكر كل عائلة فضل الله عليها، وتراجع حالتها الروحية، فيعتذر المسيء لمن أساء إليه، ويغفر المُساء إليه للمسيء، ويجتمع الشمل، وتترابط الأسرة، لأن العائلة التي تتعبَّد معاً تبقى معاً.
ونتعلم من هذين المزمورين أن نقيِّم علاقاتنا العائلية في نور كلمة الله المقدسة، لنتأكد أنها علاقات صحيَّة. ويشبِّه الوحي كلمة الله بمرآة تُرينا وجوهنا، وتُظهر لنا حقيقة حالتنا الروحية كعائلات، وتكشف لنا إن كنا سامعين عاملين بالكلمة، أم سامعين خادعين نفوسنا (يع 1: 22-24). كما أن الكلمة المقدسة ميزان روحي يساعدنا على تقييم حياتنا وتنقيتها من أية شوائب، عملاً بقول الوحي: «بِمَ يزكّي الشاب طريقه؟ بحفظه إياه حسب كلامك» (مز 119: 9)، وهي نور كاشفٌ وموجِّه يلفت انتباهنا إلى نقائصنا لنكملها، لأنه «سراجٌ لرِجلي كلامك، ونورٌ لسبيلي.. فتح كلامك ينير يعقِّل الجهَّال» (مز 119: 105، 130). وهي كالمقياس الذي عندما نقف إلى جواره نعرف ما وصلنا إليه، وكم بلغنا بالنسبة إلى قياس قامة ملء المسيح (أف 4: 13).
وعندما نفكر في عائلاتنا نأخذ في اعتبارنا العائلة الكبيرة التي نشأنا فيها، والعائلة الصغيرة التي نعيش معها، فالعائلة مستمرة وممتدة، نقول عنها بالمعنى الروحي: الله إله أبي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولكنه إلهي أنا أيضاً. وتعتمد سعادة الأسرة على ما يمنحه الله لها من بركات، فهو الذي يبني البيت، وهو الذي يحرس أركانه قائمة ناجحة. والبيت أساس المجتمع، فإذا كانت العائلة سعيدة أصبح المجتمع سليماً، ويحفظ الرب المدينة.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – بدء البيت (آيتا 1، 2)
ثانياً – الأبناء في البيت (آيات 3 – 5)

أولاً – بدء البيت
(آيتا 1، 2)
تتحدث هاتان الآيتان عن عدم جدوى المجهود الإنساني بدون العون الإلهي.
1 – بناء البيت: «إن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون» (آية 1أ). الرب هو الباني الحقيقي لكل بيت، فقد يبني إنسان بيتاً ولا يسكن فيه (تث 28: 30). وطاعة كلمة الرب هي الأساس الذي يُقام عليه البيت السعيد، كما قال المسيح: «كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبِّهه برجل عاقل بنى بيته على الصخر. فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبَّت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأنه كان مؤسَّساً على الصخر» (مت 7: 24، 25). قد يرث الإنسان مالاً أو يربحه فيبني منزلاً، ولكن هذا البناء المادي لا يبني بيتاً دافئاً ولا أسرة تخاف الرب وتحبه لأن «البيت والثروة ميراثٌ من الآباء، أما الزوجة المتعقِّلة فمن عند الرب» (أم 19: 14). وما أكثر من يعيشون في منازل فاخرة من حجر، لكنهم لا يتمتعون فيها بالعيشة البيتية السعيدة. نقرأ في تكوين 11 أن الناس بنوا برج بابل الذي ارتفع بروح التحدي لله، وسرعان ما انتهى أمره. ولكننا في تكوين 12 نقرأ أن الله بنى بيتاً وعائلة لتارح، أبِ إبراهيم الخليل، فعمَّر، ومن نسله وُلد المسيح مخلِّص العالم.
2 – حفظ البيت: «إن لم يحفظ الرب المدينة فباطلاً يسهر الحارس» (آية 1ب). الرب هو الحارس الحقيقي، وبدون حراسته لا يستمر البيت. نقرأ في التوراة أن الملك أخآب ملك إسرائيل اتفق مع الملك يهوشافاط ملك يهوذا على محاربة الأراميين لاسترداد مدينة راموت جلعاد التي احتلَّها الأراميون. ولما علم ملك أرام بالحرب، أمر جنوده بألا يقتلوا إلا الملك أخآب. وحماية لأخآب دخل يهوشافاط المعركة بملابسه الملكية، بينما دخل أخآب متخفياً، فهاجم الأراميون يهوشافاط، فصرخ، فعرفوا أنه ليس أخآب. غير أن جندياً أرامياً رمى سهماً عشوائياً فأصاب أخآب في مقتل. لقد حاول أخآب أن يحمي نفسه ففشل (2أخ 18)!
يبني الرب بيت الزوجين ويرزقهما نسلاً، فيصبح البيت مدينة. وإن لم يحفظ الرب هذه المدينة فلا جدوى من حراسة رب الأسرة لها. ويسلك الوالدون بوسائلهم البشرية طرقاً عديدة ليحفظوا مدينة البيت عامرة، فيعلِّمون أولادهم في أرقى المعاهد، ويوفرون لهم أفضل الاحتياجات المادية من مسكن ومأكل وملبس، ويحتفل أفراد العائلة بالمناسبات السعيدة، ويتبادلون الهدايا، ويقضون الأجازات معاً. ولكنهم يكتشفون أن هذه كلها لم تُسعِد البيت. أما صلاة العائلة معاً وذهابها إلى بيت الرب معاً فهما الوسيلة الفضلى لحفظ سلام العائلات، لأن الوحي يقول: «أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان لخلاص مستعَد أن يُعلَن في الزمان الأخير» (1بط 1: 5).
3 – رخاء البيت: «باطلٌ هو لكم أن تبكروا إلى القيام، مؤخِّرين الجلوس، آكلين خبز الأتعاب. لكنه يعطي حبيبه نوماً» (آية 2). القيام والجلوس يرمزان إلى فترات العمل والراحة. والمقصود أن اختصار ساعات الراحة وإطالة ساعات العمل هما بلا فائدة إلا إن بارك الرب، وهو يرزق الذين يحبونه بغير حساب حتى أثناء نومهم.. كان سليمان، كاتب هذا المزمور، أغنى أهل زمانه وأكثرهم حكمة وذكاءً، وقد فطن إلى حقيقة أن «بركة الرب هي تُغني ولا يزيد (الله) معها تعباً» (أم 10: 22).
سُئل فلاح غني: «لماذا تستيقظ مبكراً وتسهر إلى وقت متأخر؟» فأجاب: «إن أردتَ أن تمتلك العالم فانهض مبكراً لتطلبه ولتفتش عليه. وإذا ملكتَه فاسهر إلى وقتٍ متأخر من الليل لتحافظ على ما ملكته منه!». هذه حكمة العالم التي تجعل الفرد يتعبَّد لصنم المال طوال يومه ويقلق عليه طول ليله، لأنه يظن أنه باجتهاده ويقظته يربح أموالاً تحفظ له سلامه، وتؤمِّن بيته وعائلته. لكن «لا بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحي قال رب الجنود» (زك 4: 6) فالرب يعتني بك أثناء نومك لأنك لا تقدر أن تعتني بنفسك لا في يقظتك ولا في نومك! «هكذا ملكوت الله: كأن إنساناً يلقي البذار على الأرض، وينام ويقوم ليلاً ونهاراً، والبذار يطلع وينمو، وهو لا يعلم كيف» (مر 4: 26، 27)، لأن الرب وحده يعطي الثمر، ويمنح البركة ويهب السلام والاطمئنان للذين يحبونه.
وليس معنى هذا أن نكون كسالى، بل معناه أن نفرِّق بين الطموح والطمع. اجتهد بدون إجهاد، واهتم بدون أن تعول الهم، وأطِع قول المسيح: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء.. أبوكم السماوي يقوتها.. تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، لا تتعب ولا تغزل.. فلا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليومَ شرُّه» (مت 6: 25-34). «فإنه متى كان لأحدٍ كثير، فليست حياته من أمواله» (لو 12: 15).. فلا داعي للقلق، بل لنؤمن ولنثق مطيعين الوصية الرسولية: «ملقين كل همكم عليه، لأنه هو يعتني بكم» (1بط 5: 7) فنتمتع بسلام الله الذي يفوق كل عقل، الذي يحفظ قلوبنا وأفكارنا وعائلاتنا في المسيح يسوع (في 4: 7).

ثانياً – الأبناء في البيت
(آيات 3 – 5)
يمتد البيت بزيادة عدد أفراده. وكثيراً ما يقولون: «تنتهي راحة العروسين بمجيء الطفل الأول، فصرخته الأولى تتبعها باقي صرخاته ليلاً ونهاراً». ولكن المرنم يرى خلاف هذا، بل يرى في البنين أربع بركات:
1 – البنون ميراث: «هوذا البنون ميراثٌ من عند الرب» (آية 3أ). يرى المرنم أن أولاده مِلكٌ للرب، وقد وهبهم له، وعهد بهم إليه ليفرح بهم كعطية منه، لأن منه وبه وله كل الأشياء، وكل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان.. عندما التقى عيسو بأخيه يعقوب بعد عودته من بيت خالهما لابان أبصر النساء والأولاد، فسأل يعقوب: »ما هؤلاء منك؟«. فقال يعقوب: «الأولاد الذين أنعم الله بهم على عبدك» (تك 33: 5).
والرب أعطى المرنم أبناء ليفرح بهم ويربيهم لحساب الرب، حتى يجيء دورهم ليربوا أولادهم: «لأن المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحد.. أُخبر باسمك إخوتي وفي وسط الكنيسة أسبِّحك. وأيضاً: أنا أكون متوكلاً عليه. وأيضاً: ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله» (عب 2: 11-13).
2 – البنون أجرة: «ثمرة البطن أجرة» (آية 3ب). الرب يعطي الأولاد كأجرة أو مكافأة لوالديهم الأتقياء. لم يرَ المرنم أولاده نتاجاً بيولوجياً، ولا غلطة غير مقصودة، بل رأى فيهم أجراً سماوياً وبركة من عند الرب. «قال الرب لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك.. إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظِّم اسمك.. فذهب أبرام كما قال له الرب.. صار كلام الرب إلى أبرام في الرؤيا قائلاً: لا تخف يا أبرام، أنا ترس لك. أجرك كثير جداً.. الذي يخرج من أحشائك هو يرثك» (تك 12: 1، 2، 4 و15: 1-4) أطاع إبراهيم الله وآمن فحُسب إيمانه له براً، وأعطاه الله ابناً في شيخوخته.
3 – البنون سهام: «كسهامٍ بيد جبار هكذا أبناء الشبيبة» (آية 4). يُستخدَم السهم للدفاع عن النفس والعرض والأرض. وأبناء الشبيبة هم الذين وهبهم الله لآباءٍ في عمر الشباب، ميراثاً وأجرة منه، ليدافعوا عن البيت وليصدّوا هجوم العدو. ويُعتبَر الوالدون «جبابرة» كما دعا الله جدعون «جبار بأس» (قض 6: 12) لا لأنه كان جباراً، بل لأنه سيجعل منه جباراً، لأن فضل القوة هو لله لا لجدعون. ونحن مثل جدعون نخاف مما لم نقُم به من قبل، ونرتعب من المجهول. هل سمعت صراخ طفل يذهب إلى المدرسة لأول مرة؟ هل راقبت خوف موظف يتقلَّد مسؤوليات وظيفته لأول مرة؟ هل لاحظت أباً وأماً يتلقيان طفلهما الأول بفرح وبخوف وهما يتساءلان إن كانا سيكونان أبوين صالحين ينجحان في تربيته! ولكن الله يشجعنا بأن أبناء الشبيبة يشبهون السهام بيد جبار! وفي هذه الآية نرى مسؤولية الأبوين، ومسؤولية الأبناء:
(أ) مسؤولية الأبوين: على الجبار أن يتعلم بتواضع ويتدرَّب جيداً قبل أن يرمي سهمه، لأن السهم الذي ينطلق لا يعود، بل يستقل عن يد وإرادة من أطلقه. ما دام السهم في يدك تقدر أن تؤثر فيه وتوجِّهه، ولكن تأثيرك عليه ينتهي بإطلاقه من يدك.. فلنكُن قدوة صالحة لأولادنا، ولنكن معلمين صالحين لهم ما داموا معنا، وسيبقى معهم ما نزرعه فيهم، كما قال الحكيم: «ربِّ الولد في طريقه، فمتى شاخ أيضاً لا يحيد عنه» (أم 22: 6). لا تؤدِّب ابنك وأنت غاضب، بل اضبط نفسك ولا ترتعب وأنت توجِّه السهم. اعتمِد على النعمة التي تسندك. إن كانت حياتك نموذجاً صالحاً، وإن كنت ترفع الصلاة من أجلهم، وبعد هذا تقدم لهم النصيحة ستكون نِعمَ الأب الناجح. لكن لا تنس أبداً أن قدوتك يجب أن تأتي أولاً، وأن صلاتك أقوى تأثيراً من نصائحك!
والجبار الحكيم يحسب حساب سرعة الرياح التي ستواجه السهم المنطلق، فيدرك أن هناك خطايا تحيط بنا وبأولادنا بسهولة (عب 12: 1) ونعمة الله وحدها هي التي تحمينا وتحمي أولادنا منها. لا تنسَ أن أولادك هم عطية الله لك، وأنك مهما كنت «جبار بأس» في عقلك ويدك وثروتك، فإن الرب هو العامل فيك. أنت وأولادك كعصا موسى، لا تشقّون بحراً ولا تصنعون معجزة إلا إذا صرتُم «عصا الله» (خر 4: 20). فلتكن «إنسان الله» (2تي 3: 17) لتصبح جباراً حكيماً تطلق سهاماً تصيب الهدف.
(ب) مسؤولية الأبناء: السهم صغير الحجم لكنه عظيم التأثير، فلا يستهِن أي ولد بقيمته في نظر الله ونظر والديه، فقد قال الله لإرميا: «لا تقُل إني ولد، لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به» (إر 1: 7). وهكذا كل مؤمن، هو في حد ذاته مجرد خمس خبزات وسمكتين، ليس شيئاً، ولكنه في يد المسيح يصبح بركة (يو 6: 9).
والسهم يجب أن يكون مستقيماً، وعلى المؤمن أن يحترس من انحناء جبهته إلا لله ولطاعته ومخافته. «فوق كل تحفُّظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة.. باعِد رِجلك عن الشر.. يا ابني أعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي» (أم 4: 23، 27 و23: 26).
والسهم مصنوع بيد حرفي ماهر هو الرب »الرب هو الله. هو صنعنا، وله نحن شعبُه« (مز 100: 3). وقد أوكل الله للوالدين والمعلِّمين والمرشدين الروحيين أمر مساعدة السهم على الانطلاق. وعلى كل ابنٍ كالسهم أن يذكر فضل الله عليه وفضل والديه ومعلميه ومرشديه الروحيين.
والسهم يجب أن يندفع إلى بعيد. فلتكن لنا الرؤى الروحية عندما ينسكب الروح القدس علينا لنحقق الخطة التي رسمها الله لنا (يوء 2: 28).
والسهم يجب أن يصيب الهدف «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10).
4 – البنون خط دفاع: «طوبى للذي ملأ جعبته منهم لا يخزون، بل يكلمون الأعداء في الباب» (آية 5). يطوِّب المرنم رب البيت الذي ربَّى أولاده مثل السهام، لأنهم لا يخزون بل يدافعون عن والديهم وعائلتهم أمام الشيوخ والقادة من أصدقاء وأعداء. فطوبى للأب الذي ملأ جعبته منهم.. والجُعبة هي الجراب الذي يحفظون فيه السهام. وواضح أن الجعبات ليست متساوية الحجم، فهناك عائلة كبيرة وأخرى صغيرة. فلا تقارن عائلتك بعائلة غيرك، ولا تقارن بين أولادك وبعضهم. وطوبى لمن منحه الله سهاماً تُفرح قلبه مستقبلاً وهي تنطلق من يده الجبارة، بنعمة من الله. فلينظر الآباء لأولادهم بفخر. إن أسرعت بتوجيه اللوم لولدك لتعدِّل مساره، فطوبى لك إن أسرعت أيضاً بتوجيه المدح الذي يستحقه عندما يصيب.
احترق بيت القس وسلي (والد القس جون مؤسس مذهب الميثودست والمرنم تشارلس) وكان له ثمانية أولاد. ولما ناولوه الطفل الثامن من النافذة قال لجيرانه: «شكراً لكم.. الآن تعالوا نركع ونشكر الله، فقد أرجع لي أطفالي الثمانية. فليذهب البيت للحريق! أنا لا زلت غنياً».. هذا أب عرف قيمة أولاده.
هؤلاء الأبناء «لا يخزون، بل يكلمون الأعداء في الباب». كانت المدن القديمة مسوَّرة، ذات أبواب ضخمة، وأمام الباب الرئيسي للمدينة ساحة يجلس فيها شيوخ المدينة للفصل في المنازعات. فإذا وجَّه عدوٌّ شكوى على الآب، يجيء الأبناء الصالحون إلى هذه الساحة ليدافعوا عن والدهم بالكلام، أو بالسلاح. وما أكثر المعارك الكلامية، كما هاجم جليات بني إسرائيل ثمانين مرة في خلال أربعين يوماً، ولعن داود بآلهته (1صم 17: 10، 43). والأبناء الصالحون لا يخجلون من والديهم لكنهم يدافعون عنهم كما دافع داود عن شعبه.
هذه هي الأسرة السعيدة التي أسعد الله بها رب البيت. فلنذكر عائلاتنا بالشكر لله، ولنصلِّ لتنطبق هذه الأوصاف على عائلاتنا اليوم.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
1طُوبَى لِكُلِّ مَنْ يَتَّقِي الرَّبَّ وَيَسْلُكُ فِي طُرُقِهِ 2لأَنَّكَ تَأْكُلُ تَعَبَ يَدَيْكَ. طُوبَاكَ وَخَيْرٌ لَكَ. 3امْرَأَتُكَ مِثْلُ كَرْمَةٍ مُثْمِرَةٍ فِي جَوَانِبِ بَيْتِكَ. بَنُوكَ مِثْلُ غُرُوسِ الزَّيْتُونِ حَوْلَ مَائِدَتِكَ. 4هَكَذَا يُبَارَكُ الرَّجُلُ الْمُتَّقِي الرَّبَّ. 5يُبَارِكُكَ الرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ، وَتُبْصِرُ خَيْرَ أُورُشَلِيمَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ، 6وَتَرَى بَنِي بَنِيكَ. سَلاَمٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ.

العائلة تتعبَّد – 2
صعدت العائلة كلها بصُحبة غيرها من العائلات ليحتفلوا بالعيد وهم يرنمون »مزموري الأسرة« 127 و128 شكراً لله على فضله، وهم يعدِّدون بركات الرب وإحساناته ويذكرون مسؤولياتهم العائلية. لقد اختبروا بركات الرب للأسرة التقية من سعادة وخير يتبعانها كل أيام حياتها على الأرض، وإلى حياتها الأبدية، ففرح قلب رب الأسرة المتقي الرب بالزوجة الفاضلة والأبناء الذين انطلقوا كسهام واستقروا كغروس نامية. ويُسمِّي مارتن لوثر هذا المزمور »مزمور الزواج« لأنه دليل كل عروسين لحياة عائلية سعيدة.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – سعادة المؤمن التقي (آيتا 1، 2)
ثانياً – عائلة المؤمن التقي (آيات 3-6أ)
ثالثاً – مجتمع المؤمن التقي (آية 6ب)

أولاً – سعادة المؤمن التقي
(آيتا 1، 2)
يبدأ المزمور بتطويب الإنسان التقي، وجاءت كلمة «طوبى» هنا بصيغة الجمع، فكأن المرنم يقول: ما أسعد! ما أسعد! ما أسعد التقي! ومع أن كل إنسان يواجه في الحياة الحلو والمر، إلا أن هناك من لا يرون فيها إلا ما يشقيهم ويقولون: «الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعباً» (أي 14: 1). ولكن شكراً لله لأن هناك من يرون فيها سعادة مضاعفة فيطوِّبون أنفسهم، كما يقول المرنم في مزمورنا، فكل من يتقي الرب سعيد لأنه قد صار ابناً لله الحي ووارثاً للمجد الأبدي في المسيح.
1 – سعادة التقوى: «طوبى لكل من يتَّقي الرب» (آية 1أ). التقي هو الذي يخاف الله كما يقول أيوب: «مخافة الرب هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم» (أي 28: 28)، وكما يقول المرنم: «رأس الحكمة مخافة الرب» (مز 111: 10)، وكما يقول الحكيم: «مخافة الرب رأس المعرفة. أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب» (أم 1: 7). وليس خوف التقي من الله خوف الرعب، ولا خوف النفاق والرياء، لأن المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج (1يو 4: 18)، لكنه خوف المحب الذي يخشى أن يؤذي مشاعر من يحبه، فيقول: «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررت» (مز 40: 8). نحن نحب آباءنا الجسديين ونهابهم ونحترمهم، ونمدحهم ونكرمهم طاعة للوصية الإلهية، ولا نحتمل أن يسيء أحدٌ إليهم، ونجتهد أن نُفرح قلوبهم. وهكذا الأمر مع الله، فنحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً (1يو 4: 19)، ونطيعه لأنه يباركنا، ونكرمه لأنه يستحق إكرامنا، ونمجده ونسبحه ونقدم له ثمر شفاهٍ معترفة باسمه (عب 13: 15)، ونطلب وجهه فتكون لنا حياة، لأن حياةً في رضاه (مز 30: 5).
2 – سعادة الطاعة: «طوبى لكل من.. يسلك في طرقه» (آية 1ب). تبدأ السعادة بالتوبة والولادة الثانية، ثم تكبر وتستمر وتنمو بسلوك الطاعة لله والتقدم في طرقه. والسلوك هو السير المتواصل إلى الأمام بدون كلل، حتى لو كان في الطريق صعاب وآلام، فقد قال المسيح: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني، فإن من أراد أن يخلِّص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟» (مت 16: 24-26). ويقول الله: «طوبى للذين يحفظون طرقي» (أم 8: 32). وقد أطلق القدماء على المسيحية اسم «الطريق» (أع 9: 2) لأنها أسلوب فكر وحياة يختلف عما عداه، فهو أسلوب وفكر وحياة المسيح الذي قال: «أنا هو الطريق» (يو 14: 6). هو الطريق الرئيسي الذي تتفرع منه وتلتقي فيه كل طرق الخير والرحمة والمحبة فيكون فينا فكره الخيِّر المضحي (في 2: 5) من نحو الله، ونفوسنا، وعائلاتنا، وجيراننا، وكنيستنا ومجتمعنا. «فليضىء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات» (مت 5: 16).
قبل الحصول على السعادة كان للإنسان طريقه، لأنه «توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت» (أم 14: 12). ولكن بعد التوبة وبداية التقوى الحقيقية يسير الإنسان في طرق الرب الذي «يهديني إلى سُبل البر من أجل اسمه» (مز 23: 3).
3 – سعادة العمل: «لأنك تأكل تعب يديك. طوباك وخير لك» (آية 2). يتمتع السعيد بتعب يديه فتشبع نفسه وقلبه. وكل تقي يجب أن يعمل ليسدد احتياجاته واحتياجات أسرته، لأنه «بالكسل الكثير يهبط السقف، وبتدلّي اليدين يَكِفُ (يتسرَّب) البيت» (جا 10: 18) و«العامل بيد رخوة يفتقر، أما يد المجتهدين فتُغنَى» (أم 10: 4). وقال الرسول بولس: «أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان» (أع 20: 34). وقال: «إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضاً» (2تس 3: 10).
يحترم التقي العمل الذي يقوم به لأن التقوى تقدِّسه. إنه «يتعب عاملاً الصالح بيديه ليكون له أن يعطي من له احتياج» (أف 4: 28). ولا يوجد عمل مخجل أو غير مقدس إلا الخطية، فعمل الزوجة والأم من أجل زوجها وأطفالها مقدس قداسة عمل رجل الدين وهو يؤدي واجباته الدينية. وتحوِّل التقوى العمل الشاق إلى بركة، فيتحقق القول: «بركة الرب هي تُغني، ولا يزيد (الرب) معها تعباً» (أم 10: 22).
ولكن من المؤسف أن هناك من يتعب ولا يتمتع بتعب يديه لأنه مريض، فلا يأكل ما يتعب في الحصول عليه! وأحياناً يتعب الإنسان ولا يحصد لأن عدواً ينهب ما تعب فيه. ولكن طوبى للسالك في طريق الرب، لأنه يزرع ويحصد ما زرعه، ويتعب ويأكل تعب يديه، ويتحقق معه القول الإلهي: «يبنون بيوتاً ويسكنون فيها، ويغرسون كروماً ويأكلون أثمارها. لا يبنون وآخر يسكن، ولا يغرسون وآخر يأكل، لأنه كأيامِ شجرةٍ أيامُ شعبي، ويستعمل مختاريَّ عمل أيديهم. لا يتعبون باطلاً ولا يلدون للرعب، لأنهم نسل مباركي الرب، وذرِّيتهم معهم» (إش 65: 21-23).
قال الحكيم: «هوذا الذي رأيته أنا خيراً، الذي هو حسنٌ: أن يأكل الإنسان ويشرب ويرى خيراً من كل تعبه الذي يتعب فيه تحت الشمس مدة أيام حياته التي أعطاها الله إياها، لأنه نصيبه. أيضاً كل إنسان أعطاه الله غِنى ومالاً وسلطة عليه حتى يأكل منه ويأخذ نصيبه ويفرح بتعبه. فهذا هو عطية الله» (جا 5: 18، 19).

ثانياً – عائلة المؤمن التقي
(آيات 3-6أ)
الرجل رأس البيت، وكل تقي يخاف الله ويحب أسرته من قلب طاهر، يبارك الرب زوجته وأولاده وأحفاده. وفي الجزء الثاني من مزمورنا يتحدث المرنم عن الزوجة الفاضلة، والأولاد المباركين، والزوج الصالح. «طوبى للرجل المتَّقي الرب، المسرور جداً بوصاياه. نسله يكون قوياً في الأرض. جيل المستقيمين يُبَارَك. رَغْدٌ وغِنى في بيته، وبرُّه قائمٌ إلى الأبد» (مز 112: 1-3).
1 – الزوجة كرمة مثمرة: «امرأتك مثل كرمة مثمرة في جوانب بيتك» (آية 3أ). كان للبيت فناء واسع، حوله الغرف. وفي ذلك الفناء غير المسقوف كانوا يزرعون كرمة، ترتفع لتغطي الحوائط باللون الأخضر الجميل المتجدد، وتظلل البيت من الحرارة الشديد، وتمدُّه بالعنب الطازج، وبالزبيب. والزوجة الصالحة مثل الكرمة. إنه «امرأة فاضلة، من يجدها؟ لأن ثمنها يفوق اللآلئ» (أم 31: 10).
(أ) تجمِّل البيت: الزوجة الصالحة كرمة تجمِّل البيت بحضورها، فهي تاج لزوجها، قال الحكيم فيها: «تفتح فمها بالحكمة، وفي لسانها سُنّة المعروف. تراقب طرق أهل بيتها ولا تأكل خبز الكسل. يقوم أولادها ويطوِّبونها، زوجها أيضاً فيمدحها» ثم يقول لها بإعزاز: «بناتٌ كثيرات عملن فضلاً، أما أنت ففقتِ عليهنَّ جميعاً.. الحسن غش والجمال باطل، أما المرأة المتقية الرب فهي تُمدَح» (أم 31: 26-30).
(ب) تظلِّل على البيت: والزوجة الصالحة مثل الكرمة التي تظلل على زوجها وأولاده «بها يثق قلب زوجها فلا يحتاج إلى غنيمة. تصنع له خيراً لا شراً كل أيام حياتها» (أم 31: 11، 12).
(ج) تثمر في البيت: الزوجة الصالحة مثل الكرمة التي تعطي ثمراً يفرح، يأكلونه عنباً أو زبيباً مجففاً. ويظهر ثمرها في المحبة واللطف والتواضع وطول الأناة. وهي تثمر ذرية تُحسِن تنشئتها بالقدوة الصالحة والتقوى فيثمرون أيضاً، وحينئذ تقول: «ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله» (عب 2: 13). وهي تثمر أعمالاً صالحة لأسرتها «تطلب صوفاً وكتاناً وتشتغل بيدين راضيتين.. وتقوم إذ الليل بعد وتعطي أكلاً لأهل بيتها وفريضةً لفتياتها (عملاً لخادماتها).. تمدُّ يديها إلى المِغزل، وتمسك كفاها بالفَلْكة» (أم 31: 13، 15، 19).
2 – الأبناء غروس زيتون: «بنوك مثل غروس (شتلة) الزيتون حول مائدتك» (آية 3ب). والزيتونة دائمة الخضرة ونافعة جداً، قال الرب لشعبه: «دعا الرب اسمك: زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة» (إر 11: 16). فيقول كلٌّ منهم: «أما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله. توكلتُ على رحمة الله إلى الدهر والأبد» (مز 52: 8).
(أ‌) غروس حيَّة: لغروس الزيتون حياة في ذاتها، تبدأ بزرعها، وتزيد بنموِّها. ويفرح الآباء وهم يرون نمو أبنائهم سنة بعد أخرى، فيرقبون هذا النموَّ العقلي والروحي والبدني بفخر وسعادة. وتملأ حيوية الصغار ونشاطهم وحركتهم جوانب البيت بالسعادة ورنّات الضحك.

(ب) غروس واعدة: وغروس الزيتون واعدة بالمحصول الوفير. في بدئها لا تثمر، لكن الثمر آتٍ لا ريب فيه. ويتطلع الأبوان لنضوج أولادهما واستقلالهم ببيوت يعمرونها بالأحفاد الذين يصبحون مصدر بهجة لوالديهم وللجدود «بنون يولدون فيقومون ويخبرون أبناءهم، فيجعلون على الله اعتمادهم، ولا ينسون أعمال الله، بل يحفظون وصاياه» (مز 78: 6، 7) يُقال عنهم: «غرستَهم فأصَّلوا نمواً وأثمروا ثمراً» (إر 12: 2). حقاً «تاج الشيوخ بنو البنين، وفخر البنين آباؤهم» (أم 17: 6).
(ج) غروس تحتاج إلى عناية: الغروس تحتاج إلى عناية لتثبت وتتأصل وتعلو وتثمر. تحتاج لماء يرويها وسياج يحميها من الثعالب واللصوص. وإن تباطأ ثمرها يُنقَب حولها ويوضع زبل. وكم يحتاج أولادنا إلى كلمة تشجيع متى كانوا يستحقونها، فلا يكتفي الآباء بتقريعهم حين يخطئون. وليذكر الآباء أنهم كانوا صغاراً فشجعهم آباؤهم. والله الآب السماوي هو النموذج للآباء جميعاً في المحبة والتشجيع والغفران.
(د) غروس مختلفة: يختلف كل غرس زيتون عن غيره، ولكل واحد من الأولاد شخصيته المستقلة ومواهبه المتميزة. ويجب ألا نقارن الأبناء بإخوتهم ولا بغيرهم من أبناء الآخرين، خصوصاً في مرحلة المراهقة، لأنهم لم يعودوا صغاراً، ولكنهم لم ينضجوا بعد، ومع ذلك تكبر انتظاراتنا منهم، وتكبر انتظاراتهم من أنفسهم. وعندما لا يستطيعون أن يحققوا كل هذه الانتظارات يصيبهم الإحباط ويرتكبون حماقات لا يرغبون في ارتكابها. وقتها يكونون في حاجة لأن نستمع لهم ونحنو عليهم ونصلي من أجلهم ونقدم لهم القدوة والنصيحة، أكثر من التوبيخ واللوم. يجب ألا نعتبر المراهق عدواً لنا، فهو غرس زيتون ينمو ويعطي ثمراً في موعده، فليستمع الآباء للنصيحة: «أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم، بل ربّوهم بتأديب الرب وإنذاره» (أف 6: 4).
(هـ) غروس حول المائدة: وهم غروس زيتون حول المائدة، حيث الشكر والحديث المبهج. فليتنا نفعل ما فعله النبي صموئيل عندما زار بيت يسَّى البيتلحمي، ورفض أن يجلس للطعام حتى يجيء داود الصغير ليشاركهم فيه، فتكتمل بهجة الكبار بوجوده (1صم 16: 11).. ما أسعد البيت الذي يجلس فيه الجميع حول ما أعطاهم الله من طعام، يشكرون ويتمتعون بصُحبة بعضهم البعض، ويحققون القول الحكيم: «لقمة يابسة ومعها سلامة خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام» (أم 17: 1).
3 – الزوج تقي:
(أ) زوج مبارك: «هكذا يُبَارَك الرجل المتَّقي الرب. يباركك الرب من صهيون» (آية 4، 5أ). التقوى هي مخافة الله. وكل من يخاف الله مباركٌ في كل ما يعمله، ويسمع البركة الكهنوتية: «يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلاماً» (عد 6: 24-26). ويُنعِم الله على الزوج المبارك بهذا كله لأنه يُسرُّ بأن يكرمه.
ويقول المرنم إن بركة الرب تجيء من صهيون، حيث هيكل الله وتابوت عهده. والبركة تجيئنا عندما نتعبَّد بالروح والحق في بيت الله.. والاسم «صهيون» قد يعني «يصون» أو «يحمي». وقد يعني «صهوة» بمعنى قمة جبل أو قلعة. وجبل صهيون، أي جبل الحصن، جبلٌ عالٍ ثابت، ليس من السهل أن يغزوه عدو، كان في يد اليبوسيين حتى استولى عليه داود عام 1003 ق م، وأطلق عليه اسم «مدينة داود» (2صم 5: 7) ونقل إليها تابوت العهد (2صم 6: 12). ثم وسَّع سليمان مدينة أورشليم شمالاً حتى شملت جبل المُرِيّا الذي بنى عليه الهيكل عام 958 ق م (2أخ 1: 3)، وبعدها أُطلق اسم «صهيون» على كل مدينة أورشليم بما فيها الحصن وجبل المريا.
(ب) زوج مستقر: «وتبصر خير أورشليم كل أيام حياتك» (آية 5ب). ننال الحياة المستقرة لما نعيش في بلاد مستقرة نبصر خيرها كل أيام حياتنا. لهذا «تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكُّرات لأجل جميع الناس، لأجل الملوك وجميع الذين هم في مَنصِب، لكي نقضي حياةً هادئة في كل تقوى ووقار، لأن هذا حسنٌ ومقبول لدى مخلِّصنا الله، الذي يريد أن جميع الناس يخلُصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون» (1تي 2: 1-4).
والقول: «تبصر خير أورشليم» أُمنية روحية وسياسية معاً، فقد كانت أورشليم عاصمة بني إسرائيل الدينية والسياسية، وكل مواطن مُخْلِصٍ يطلب خير عاصمة بلاده دينياً وسياسياً. وعندما نعيش بالتقوى نطلب الخير الروحي والاقتصادي والسياسي لبلادنا، وهو يجيء من تقوى أفراد المجتمع، مبتدأً من محبي الرب لأن «البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية» (أم 14: 34).
والمؤمن التقي وعائلته المتعبِّدة يسبِّبون صلاح المجتمع كله، فلتكن عائلة المؤمن مثل البذور المنتقاة في أرض جيدة «لكي يكون بنونا مثل الغروس النامية في شبيبتها. بناتنا كأعمدة الزوايا منحوتاتٍ حسب بناء هيكل. أهراؤنا ملآنةٌ تفيض من صِنف فصِنف.. لا اقتحام ولا هجوم ولا شكوى في شوارعنا. طوبى للشعب الذي له هكذا. طوبى للشعب الذي الرب إلهه» (مز 144: 12-15).
(ج) زوج معمِّر: «وترى بني بنيك» (آية 6أ). وهذا يعني الصحة وطول العمر والفرح بالأحفاد كما بارك الرب أيوب وزاد على كل ما كان له ضِعفاً، وعاش بعد أن شُفي من مرضه مئةً وأربعين سنة، ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال «لأنه.. رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر» (أي 2: 3 و42: 10-17).

ثالثاً – مجتمع المؤمن التقي
(آية 6ب)
«سلام على إسرائيل» (آية 6ب). بهذه الكلمات يختم المرنم مزموره كما ختم مزمور 125. فمن هم المقصودون بالحصول على السلام؟ يقول الوحي: «لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون، ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعاً أولاد.. ليس أولاد الجسد هم أولاد الله، بل أولاد الموعد يُحسَبون نسلاً» (رو 9: 6-8).. وهذا يعني أن هناك «إسرائيل» المولود من نسل إبراهيم، لكنه لا يؤمن إيمان إبراهيم، فهو إسرائيل الجسدي. وهناك «إسرائيل الله» وهم كل الذين يؤمنون إيمان إبراهيم من كل قبيلة وشعب.. إسرائيل الجسدي لا ينال البركة لأنه رفض المسيح الذي «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله. أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه» (يو 1: 11، 12). «إسرائيل الله» هم الخليقة الجديدة الذين قبلوا المسيح، ويحملون في أجسادهم علامة المسيح، وهم الذين صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات. ويقول الوحي: «لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة. فكل الذين يسلكون بحسب هذا القانون عليهم سلام ورحمة، وعلى إسرائيل الله» (غل 6: 12-16). سلام على إسرائيل الروحي، وهم كل من يؤمنون إيمان خليل الله إبراهيم، ويتبعون الرب بعزم القلب.
لنطلب من الله أن يسود السلام من رب السلام. سلام على كل تقي. سلام على بيوتنا. سلام على مجتمعنا وبلادنا كما وعدنا المسيح: «سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا» (يو 14: 27).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالتَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
1 «كَثِيراً مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي». لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: 2«كَثِيراً مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي، لَكِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيَّ. 3عَلَى ظَهْرِي حَرَثَ الْحُرَّاثُ. طَوَّلُوا أَتْلاَمَهُمْ». 4الرَّبُّ صِدِّيقٌ. قَطَعَ رُبُطَ الأَشْرَارِ. 5فَلْيَخْزَ وَلْيَرْتَدَّ إِلَى الْوَرَاءِ كُلُّ مُبْغِضِي صِهْيَوْنَ. 6لِيَكُونُوا كَعُشْبِ السُّطُوحِ الَّذِي يَيْبَسُ قَبْلَ أَنْ يُقْلَعَ، 7الَّذِي لاَ يَمْلأُ الْحَاصِدُ كَفَّهُ مِنْهُ، وَلاَ الْمُحَزِّمُ حِضْنَهُ. 8وَلاَ يَقُولُ الْعَابِرُونَ: «بَرَكَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ. بَارَكْنَاكُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ».

»منذ شبابي!«
تذكر الأمم ماضيها عادةً لتفتخر به وبما حققته فيه من انتصارات وإنجازات، فالمصريون مثلاً يفتخرون بالأهرام والآثار العظيمة التي عاشت أكثر من خمسة آلاف سنة، ولا تزال قائمة في مهابة وجلال. وفي مزمورنا يذكر المرنم ماضيه وماضي أمته، لا للفخر الشخصي، بل ليذكر النعمة والمعونة السماوية التي حفظته حياً، وقد امتلأ بنعمة التواضع، كما قيل: «بهذا ليفتخرنَّ المفتخر: بأنه يفهم ويعرفني أني أنا الرب الصانعُ رحمةً وقضاءً وعدلاً في الأرض» (إر 9: 24) وكما قال الرسول بولس: «حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم» (غل 6: 14).
ونتيجةً للتأمل في الماضي نال المرنم شجاعة واجه بها متاعب الحاضر، فرفع صوته يشكر الله ويمجده، ودعا كل الشعب ليرتلوا معه (كما فعل في مزمور 124). ويعطي هذا المزمور كل مؤمن دافعاً للصبر على الضيقات والشدائد، بل وأكثر من هذا، فإننا «نفتخر أيضاً في الضيقات، عالمين أن الضيق ينشئ صبراً، والصبر تزكيةً، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يُخزي» (رو 5: 3-5). وتعلمنا الضيقات أننا بدون الرب لا نقدر أن نعمل شيئاً، ولكننا نستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوينا. فليقُل الضعيف: بطلٌ أنا بالرب.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – متاعب الأتقياء مؤقَّتة (آيات 1-4)
ثانياً – مصير الأشرار محتوم (آيات 5-8)

أولاً – متاعب الأتقياء مؤقَّتة
(آيات 1-4)
1 – متاعب كثيرة: (آيتا 1، 2).
(أ) كثرة المتاعب: «كثيراً ما ضايقوني منذ شبابي.. كثيراً ما ضايقوني منذ شبابي». (آيتا 1، 2أ). يكرر المرنم أن متاعب الأتقياء وآلامهم كثيرة في العالم الحاضر، لأنه وُضع في الشرير (1يو 5: 19). وقد قال المسيح: «في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو 16: 33) . يتذكر المرنم ضيقات مرَّت به وبشعبه منذ شبابهم، فقال الله: «لما كان إسرائيل غلاماً أحببتُه، ومِن مصر دعوتُ ابني» (هو 11: 1). ويبدأ شباب بني إسرائيل بحادثة الخروج عندما قال الله: «إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخِّريهم. إني علمت أوجاعهم. فنزلتُ لأنقذَهم من أيدي المصريين» (خر 3: 7، 8). لقد ساموهم سوء العذاب «فضُرِب مدبرو بني إسرائيل الذين أقامهم عليهم مسخِّرو فرعون، وقيل لهم: لماذا لم تكملوا فريضتكم من صُنع اللِّبْن أمس واليوم، كالأمسِ وأولَ من أمس؟» (خر 5: 14). فقال الرب لموسى: «لذلك قل لبني إسرائيل: أنا الرب. وأنا أُخرجكم من تحت أثقال المصريين وأنقذكم من عبوديتهم، وأخلِّصكم بذراعٍ ممدودة وبأحكام عظيمة، وأتَّخذكم لي شعباً وأكون لكم إلهاً، فتعلمون أني أنا الرب إلهكم الذي يُخرجكم من تحت أثقال المصريين، وأُدخلكم إلى الأرض التي رفعتُ يدي أن أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأعطيكم إياها ميراثاً. أنا الرب. فكلم موسى بني إسرائيل هكذا، ولكن لم يسمعوا لموسى من صِغر النفس ومن العبودية القاسية» (خر 6: 6-9).
لقد قاسى بنو إسرائيل من صغر أنفسهم بداخلهم، كما قاسوا من المسخرين من خارجهم، حتى صارت المعاناة خبزهم اليومي، وهي كمعاناة صاحب مزمور 13 الذي شكا إلى الله من الله، ثم شكا إلى الله من نفسه، وأخيراً شكا من أعدائه.
(ب) خلاص الله: «لكن لم يقدروا عليَّ» (آية 2ب). يواجه الأتقياء المتاعب الكثيرة، ولكن الرب ينصرهم عليها، فلا يقدر الأشرار عليهم. حقاً «كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب.. إن إلى الأبد رحمتَه» (مز 34: 19 و118: 2). ولسان الحال هو القول الرسولي: «كما هو مكتوب: إننا من أجلك نُمات كل النهار. قد حُسبنا مثل غنمٍ للذبح. ولكن في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (مز 44: 22 ورو 8: 36، 37).
تكشف الصعوبات للإنسان ضعفه وعجزه، وتُلجئه إلى صاحب القوة ليحتمي فيه، فالضيق يدفعنا لنحتمي بالله أكثر فنختبر صلاحه الأبوي «لأنه لا تستقرُّ عصا الأشرار على نصيب الصديقين لكيلا يمدَّ الصدّيقون أيديهم إلى الإثم» (مز 125: 3). وتدفعنا الضيقات دفعاً لطلب العناية الإلهية التي تفعل لنا ما نعجز نحن عن فعله لأنفسنا، فإن «لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية، ليكون فضل القوة لله لا منا. مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين. متحيِّرين، لكن غير يائسين. مضطهَدين، لكن غير متروكين. مطروحين لكن غير هالكين حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا» (2كو 4: 7-10). قال داود لجليات: «أنت تأتي إليَّ بسيف وبرمح وبترس. وأنا آتي إليك باسم رب الجنود.. وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلِّص الرب، لأن الحرب للرب» (1صم 17: 45، 47). أُخذ القديس أغناطيوس أسقف أنطاكية إلى مدينة روما ليلقوه إلى الأسود الجائعة في زمن الاضطهاد عام 107م فقال: «أنا حنطة الله، ستطحنني أسنان الأسود لتجعل مني خبز الله النقي» لأنه كان يعلم أن دم الشهداء بذار الكنيسة التي اشتراها المسيح بدمه، وبالرغم من هذا الاضطهاد لن تقوى عليها كل قُوى الشر «كل آلة صُوِّرت ضدك لا تنجح، وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه» (إش 54: 17).
2 – متاعب قاسية: (آيتا 3، 4).
(أ) قسوة المتاعب: «على ظهري حرث الحُرَّاث. طوَّلوا أتلامهم» (آية 3) أتلام جمع تلم وهو ما يشقُّه محراث الفلاح من الأرض. فكم كانت قسوة متاعب المرنم الذي أُلقي أرضاً وضُرب بالسياط وساروا على ظهره حتى صار ظهره مثل الأرض المحروثة. وهي القسوة التي كانوا يعاملون بها أسرى تلك العصور، فقيل عن داود: »أخرج الشعب الذي فيها (في مدينة رَبَّة) ووضعهم تحت مناشير، ونوارج حديد، وفؤوس حديد، وأمرَّهم في أتون الأجُرّ« (2صم 12: 31). وقيل عن هذا التعذيب: «وضعتِ كالأرض ظهرَكِ، وكالزُّقاق للعابرين» (إش 51: 23) فأُلقي بالناس على الأرض ليمرَّ العابرون على ظهورهم!
وكثيراً ما يسمح الرب لرافضي كلمته بمثل هذا العذاب القاسي ليجهِّز قلوبهم لقبول كلمته، كما يحرث المحراث الأرض لتصبح صالحة للبذار، ولتعطي ثمراً جيداً.
(ب) خلاص الله: «الرب صدِّيق. قطع ربُط الأشرار» (آية 4). يصف المرنم الرب بأنه صدِّيق، بمعنى أنه بار وعادل في كل أعماله، وهو يقول: «إلهٌ بارٌّ ومخلِّص. وليس سواي» (إش 45: 21). عندما يخطئ شعبه يسمح لهم بالمتاعب القاسية، لكنه لا يتركهم، كما فعل مع نحميا وصحبه، فقال له نحميا: «وأنت بارٌّ في كل ما أتى علينا لأنك عملت بالحق، ونحن أذنبنا» (نح 9: 33). إنه يسمح بالتأديب، لكنه يعود ويقطع الرُّبط التي تربط الثيران بالمحراث الذي يحرث ظهر المرنم فيتوقف عمل المحراث. إن قوة العدو محدودة مهما كانت قوية، ومصير أعداء الرب معروف مقدماً «ضجيج شعوب كثيرة تضج كضجيج البحر، وهديرِ قبائلَ تهدر كهدير مياهٍ كثيرة، ولكنه ينتهرها فتهرب بعيداً كعُصافة الجبال أمام الريح وكالجُلِّ أمام الزوبعة. في وقت المساء إذا رعب. قبلَ الصبح ليسوا هم. هذا نصيبُ ناهبينا وحظُّ سالبينا» (إش 17: 12-14).

ثانياً – مصير الأشرار محتوم
(آيتا 5، 6)
1 – الأشرار يخزون ويرتدّون: «فليخزَ وليرتدَّ إلى الوراء كلُّ مبغضي صهيون» (آية 5) فهم يحاربون معركة غير متكافئة. إنهم عُبّاد أصنام يحاربون الحصن الذي بُني عليه هيكل الرب، الذي قال عنه المرنم: «عظيمٌ هو الرب وحميدٌ جداً في مدينة إلهنا، جبل قدسه.. الله في قصورها يُعرف ملجأ. لأنه هوذا الملوك اجتمعوا. مضوا جميعاً. لما رأوا بُهتوا، ارتاعوا، فرّوا. أخذتهم الرَّعدةُ هناك» (مز 48: 1-6). سيرتدّون إلى الوراء طوعاً أو كرهاً، لأنهم يحاربون من هو أقوى منهم، كما قال المسيح لشاول الطرسوسي: «لماذا تضطهدني؟.. صعبٌ عليك أن ترفس مناخس» (أع 9: 5)، والمنخاس قطعة حديدية ينخسون بها ظهر الثور ليسرع في جر المحراث، أو أنه سن المحراث نفسه. فهل يمكن لثورٍ أن يضرب برجله سنَّ المحراث لأنه ثائر ضد الفلاح دون أن يؤذي نفسه؟ برفسه المنخاس يجرح رِجله ولا يؤذي المحراث ولا صاحبه في شيء.
وقد يربح العدو معركة، لكن لا بد أنه يخسر الحرب، لأن النصرة النهائية هي للذي خرج غالباً ولكي يغلب، الذي ندعوه: «اللهم إلى تنجيتي. يا رب، إلى معونتي أسرِع. ليخزَ ويخجلْ طالبو نفسي. ليرتدَّ إلى خلفٍ ويخجل المشتهون لي شراً» (مز 70: 1، 2).
2 – الأشرار يهلكون: «ليكونوا كعشب السطوح الذي ييبس قبل أن يُقلَع. الذي لا يملأ الحاصد كفَّه منه، ولا المُحزِّم حِضنه» (آيتا 6، 7). ينمو نوعٌ من العشب على السطوح الطينية بعد نزول المطر عليها. ولأن هذا العشب ليس له عمق أرض فلا يرتفع ولا يستمر، بل يجف بسرعة قبل أن يُخرج بذوراً أو يعطي ثمراً. ولأن ساقه قصيرة لا يقدر الحاصد أن يملأ كفَّه منه، كما أن الذي يحزم الحزم لا يملأ حضنه منه لأنه قليل. وهكذا الأمر مع الأشرار، فهُم مثل عشب السطوح الذي لا يُفرح قلب حاصد ولا يملأ حضن محزِّم، فالشر يميت الشرير «بالغداة كعشب يزول. بالغداة يُزهر فيزول. عند المساء يُجزُّ فييبس» (مز 90: 6). وقال الله عن أعداء شعبه: «قِصار الأيدي. قد ارتاعوا وخجلوا. صاروا كعُشب الحقل وكالنبات الأخضر، كحشيش السطوح، وكالملفوح قبل نموِّه» (إش 37: 27).
3 – الأشرار لا يُبارَكون: «ولا يقول العابرون: بركة الرب عليكم. باركناكم باسم الرب» (آية 8). كان العابرون يحيّون الحصادين بالقول: «بركة الرب عليكم» فيجيبهم الحصادون: «باركناكم باسم الرب». ولكن العابرين الأشرار لا يحيّون الحصادين الأشرار، لأنهم لا يحبون بعضهم بعضاً، أو لأن حصادهم هزيل، أو لأن أعداءهم ينهبون حصيدهم. و«لا سلام قال الرب للأشرار» (إش 48: 22).
أما المؤمنون فيتمتعون ببركة السلام، كما يقول الوحي: «وإذا ببوعز قد جاء من بيت لحم وقال للحصادين: الرب معكم. فقالوا له: يباركك الرب» (را 2: 4).. «سيقولون بعد هذه الكلمة في أرض يهوذا وفي مدنها عندما أرد سبيهم: يباركك الرب يا مسكنَ البر يا أيها الجبل المقدس.. لأني أرويتُ النفس المعيية وملأت كل نفس ذائبة» (إر 31: 23-25).
هذه دعوة إلهية قوية للتوبة والرجوع إلى الله «اطلبوا الرب ما دام يوجد. ادعوه وهو قريب. ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره، وليتب إلى الرب فيرحمه، وإلى إلهنا لأنه يُكثِر الغفران» (إش 55: 6، 7).
وهي أيضاً دعوة قوية لكل مؤمن أن يتشجَّع ويتشدد بالرب، لا يخاف ولا يرتعب.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّلاَثُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
1 مِنَ الأَعْمَاقِ صَرَخْتُ إِلَيْكَ يَا رَبُّ. 2يَا رَبُّ، اسْمَعْ صَوْتِي. لِتَكُنْ أُذُنَاكَ مُصْغِيَتَيْنِ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي. 3إِنْ كُنْتَ تُرَاقِبُ الآثَامَ يَا رَبُّ يَا سَيِّدُ، فَمَنْ يَقِفُ؟ 4لأَنَّ عِنْدَكَ الْمَغْفِرَةَ. لِكَيْ يُخَافَ مِنْكَ. 5انْتَظَرْتُكَ يَا رَبُّ. انْتَظَرَتْ نَفْسِي، وَبِكَلاَمِهِ رَجَوْتُ. 6نَفْسِي تَنْتَظِرُ الرَّبَّ أَكْثَرَ مِنَ الْمُرَاقِبِينَ الصُّبْحَ. أَكْثَرَ مِنَ الْمُرَاقِبِينَ الصُّبْحَ. 7لِيَرْجُ إِسْرَائِيلُ الرَّبَّ، لأَنَّ عِنْدَ الرَّبِّ الرَّحْمَةَ، وَعِنْدَهُ فِدًى كَثِيرٌ 8وَهُوَ يَفْدِي إِسْرَائِيلَ مِنْ كُلِّ آثَامِهِ.

مزمور توبة
هذا المزمور سادس مزامير التوبة السبعة، وهي مزامير 6 و32 و38 و51 و102 و130 و143. منها أربعة مزامير هي 32، 51 ومزمورنا و143 سمّاها مارتن لوثر «المزامير البولسية» لأنها توضح أن غفران الخطايا نصيبُ كل من يؤمن ويضع ثقته في الفداء الذي دبَّره الله بالمسيح، وهو الفكر الغالب في كتابات الرسول بولس.
رأينا كيف صعد الحُجّاج إلى هيكل أورشليم ومثلوا في حضرة الرب وقالوا: «تقف أرجلنا في أبوابك يا أورشليم» وجعلوا يتذكرون مراحم الله عليهم، وتعبَّدوا معاً كأفراد وكعائلات. وفي هذا الجو المفرح تذكَّر أحد المرنمين خطاياه وعدم استحقاقه أن يمثل في حضرة الرب ويتمتَّع بتقديم العبادة لجلاله، فاحتمى في رحمة الرب عليه، ورتَّل كلمات هذا المزمور. فهو تائب يصرخ إلى الله لأنه يحسُّ بالذنب بعد أن رأى مجد الرب في هيكله. ولا بد أن ذكريات امتلاء الهيكل بالسحاب عندما دشَّنه سليمان ملأت نفسه بالرهبة والتقديس (1مل 8: 11)، كما فعل إشعياء حين سمع الملائكة يهتفون: «قدوس قدوس قدوس» فقال: «ويل لي! إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود» (إش 6: 5).
في هذا المزمور دعا المرنم شعبه للاعتراف والتوبة لينالوا الغفران الإلهي. وعبَّر عن مشاعر النفس البشرية التي تحس بالذنب، فتصرخ وتتضرع، وترجو وتنتظر وتترقب، ثم تثق بالإيمان المتيقن، لأن «الإيمان هو الثقة بما يُرجى، والإيقان بأمور لا تُرى» (عب 11: 1).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم التائب يصرخ (آيات 1-4)
ثانياً – المرنم التائب ينتظر الفداء (آيات 5-8)

أولاً – المرنم التائب يصرخ
(آيات 1-4)
1 – الإحساس بالذنب يجعلنا نصرخ: «من الأعماق صرختُ إليك يا ربُّ. يا ربُّ اسمع صوتي. لتكن أذناك مصغيتين إلى صوت تضرُّعاتي» (آيتا 1، 2). يصرخ المرنمُ «من الأعماق» تعبيراً عن حاجته المُلحَّة وإحساسه بالخطر الشديد، فقد غاص تحت ثِقل خطيته. وعندما يقارن المرنم نفسه بقداسة الله يقول: يا رب، لقد تأملتُ أعماقي في نور كلمتك المقدسة، فكشفتْ نعمتُك ما بداخلها، وأنارني روحك القدوس فوجدت نفسي خاطئاً، ناقصاً، في الموازين إلى فوق، غير مستحق أن أمثل في محضرك المقدس. لذلك أصرخ إليك وأنا أشعر أني في منخفَض سحيق لأن خطاياي أبعدتني عنك، ولكن معرفتي بها ألجأتني إليك.. أنا ألوذ بك من كل مخاوفي «خلِّصني يا الله لأن المياه قد دخلت إلى نفسي. غرقتُ في حمأةٍ عميقة وليس مقرٌّ. دخلتُ إلى أعماق المياه والسيل غمرني. تعبتُ من صراخي» (مز 69: 1-3).
ثم انتقل المرنم من الصراخ إلى الحديث مع الله والتضرُّع إليه. إنه يحس بالذنب، فيصرخ تارة بصوت مرتفع كطفل مذعور حتى يسمعه أبوه ويخلِّصه، ويتضرع تارة أخرى بصوت خاشع، عالماً أن مراحم الرب ستفتقده وتفتش عليه كما يفتش الراعي الصالح على الخروف الضال حتى يجده، وكما امتدت يد مراحمه الإلهية إلى يوسف فأنقذه من البئر، وإلى دانيال فأنقذه من جب الأسود.
إنه يعرف وعد الله لسليمان يوم تدشين الهيكل، وقوله: «إذا تواضع شعبي الذين دُعي اسمي عليهم، وصلّوا وطلبوا وجهي، ورجعوا عن طرقهم الرديئة، فإني أسمع من السماء وأغفر خطيتهم وأبرئ أرضهم. الآن عيناي تكونان مفتوحتين وأذناي مصغيتين إلى صلاة هذا المكان» (2أخ 7: 14، 15).
2 – الإحساس بالذنب يدفع للتوبة: «إن كنتَ تراقب الآثام يا رب يا سيد، فمن يقف؟» (آية 3). يدرك المرنم أنه إن كان الله يحسب عليه خطاياه ولا يمحوها برحمته، فكيف يقف أمام محكمة العدل الإلهية؟ لقد قال عزرا: «ها نحن أمامك في آثامنا، لأنه ليس لنا أن نقف أمامك» (عز 9: 15). والمرنم لا يدَّعي البراءة، بل يعترف بعجزه وإثمه وعدم استحقاقه أمام قداسة الله وعدالته، كما يقول أيوب للرب: «إن أخطأتُ تلاحظني ولا تُبْرِئني من إثمي» (أي 10: 14). هذا هو اليأس الذي يقود إلى الأمل! إنه يأس من يعرف أن «الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد» (رو 3: 12)، ويعرف أن أجرة الخطية موت، ويعرف أن «الأخ لن يفدي الإنسان فداءً، ولا يعطي اللهَ كفارةً عنه. وكريمة هي فدية نفوسهم.. إنما الله يفدي نفسي من يد الهاوية» (مز 49: 7، 8، 15)، فيلقي رجاءه بالتمام على النعمة الإلهية، كما فعل العشار الذي وقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلاً: «اللهم ارحمني أنا الخاطي» فنزل إلى بيته مبرَّراً (لو 18: 9-14). قال مارتن لوثر: «سأظل إلى آخر لحظة من حياتي شحاذاً أستجدي رحمة الله» لأنه «ليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسمٌ آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلُص» (أع 4: 12).

3 – الإحساس بالذنب يدفع لحياة التقوى: «لأن عندك المغفرة لكي يُخاف منك» (آية 4). هذا ليس خوف الرعب من العقاب، ولا خوف اليأس من الغفران، لكنه خوف التقوى بعد أن منح الله التائب غفرانه. إنها مخافة المهابة والاحترام والإجلال للإله القدوس، الذي له وحده القدرة والسلطان على مغفرة الخطايا والذنوب، والقائل: «أنا أنا هو الماحي ذنوبكَ لأجل نفسي، وخطاياكَ لا أذكرها» (إش 43: 25). وغفران الله يجعلنا نحبه ونطيعه ونخدمه، وندعو إخوتنا وجيراننا ليتوبوا ويرجعوا إلى من يمحو كغيم ذنوبنا وكسحابة خطايانا. فلتكن صلاتنا: «قلباً نقياً اخلُق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّد في داخلي. لا تطرحني من قدام وجهك، وروحك القدوس لا تنزعه مني. رُدَّ لي بهجة خلاصك، وبروح منتدبة اعضُدني، فأعلِّم الأثمة طرقك، والخطاةُ إليك يرجعون» (مز 51: 10-13). وهكذا نسير زمان غربتنا بخوف (1بط 1: 17).

ثانياً – المرنم التائب ينتظر الفداء
(آيات 5 –8)
1 – ينتظر الفداء لأن الله وعد به: «انتظرتُك يا رب. انتظرَتْ نفسي، وبكلامه رجوتُ. نفسي تنتظر الرب أكثر من المراقبين الصبح. أكثر من المراقبين الصبح» (آيتا 5، 6). «انتظرتك» في اللغة العبرية تعني مدَّ حبلٍ من جانب إلى آخر، تقف النفس الإنسانية على أحد جانبيه، وعلى الجانب الآخر وعد الله. ويربط حبل الانتظار النفس الإنسانية بالمواعيد الإلهية. إنه الانتظار الواثق للرحمة المعلنة «هوذا عين الرب على خائفيه الرَّاجين رحمته، لينجي من الموت أنفسهم، وليستحييَهم في الجوع. أنفسنا انتظرت الرب. معونتنا وترسنا هو» (مز 33: 18-20). «بكلامه رجوت» فإن كلمة الله ووعوده تتحقق دائماً، لأن الله أمين وصادق، انتظره المرنم انتظار الواثق أن الذي يرجوه آتٍ بلا شك. إنه «أكثر من المراقبين الصبح» المتأكدين من أن الصبح لا بد أن يجيء، مهما بدا الظلام حالكاً والليل طويلاً. لا بد أن النور ينبلج ويطلع النهار وتشرق شمس البر.
وكان المرنم يفكر في كثيرين ممن كانوا ينتظرون الصبح:
* منهم الكهنة، فقد كان كل كاهن يأتي عليه الدور للقيام بخدمة الكهنوت يستيقظ مبكراً قبل انقضاء الليل ليسرع إلى الهيكل ليقدم الذبيحة لفداء الشعب. والمرنم يريد أن يقدم خدمةً لإلهه.
* ومنهم الحراس الذين تنتهي متاعب سهرهم وحراستهم الليلية، فيعطون أجسادهم قسطها من الراحة. والمرنم يطلب راحةً لنفسه.
* ومنهم المسافرون الذين ينتظرون ضوء الصبح ليبدأوا رحلة سفرهم ويصلوا إلى غايتهم ويحققوا أهدافهم. والمرنم مسافر إلى المدينة السماوية يريد بلوغها.
* ومنهم المريض الذي يحس بالوحدة أثناء الليل، وينتظر طلوع النهار ليجد من يؤنس وحدته في مرضه. والمرنم يحس بالوحدة ويحتاج إلى شركة المؤمنين.
* ومنهم البحارة الذين وصلوا إلى الشاطئ ليلاً وينتظرون الصباح ليدخلوا الميناء. والمرنم ينتظر رسو سفينة حياته على شاطئ الأمان والراحة.
* ومنهم الخاطئ الذي يعيش في ظلام، وينتظر إشراق نور نعمة الله على قلبه، والحصول على المغفرة الإلهية.
ونحن نجد أنفسنا في كل هؤلاء المراقبين الصبح، فنحن ننتظر الرب ككهنة له نقترب إليه أكثر ونقرِّب الآخرين إليه. ونحن نشبه الحراس الذين يحتملون مسؤولية، ننتظر مجيء المسيح ثانية لتنتهي نوبة حراستنا ونستريح فيه. ونحن كالمسافرين المتَّجهين إلى المدينة السماوية، ننتظر وصولنا إليها أو مجيء المسيح ثانيةً ليأخذنا إليه. ونحن كالمرضى المتعَبين الذين أرهقتهم الحياة وهم يراقبون طلوع صبح الأمل لينعشهم الرب بشركة المؤمنين. ونحن نشبه البحارة الذين يبحرون، ننتظر الوصول إلى شاطئ الأمان بسلام لنرى المدينة العظيمة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله. ونحن خطاة ننتظر المراحم الإلهية والغفران السماوي أكثر من المراقبين الصبح. واقتراب البركة يجعلنا ننتظرها بشوق يتزايد، لأن «خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. قد تناهى الليل وتقارب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور» (رو 13: 11، 12).
2 – ينتظر الفداء لأن الله رحيم: »ليرجُ إسرائيلُ الرب، لأن عند الرب الرحمة، وعنده فدًى كثير» (آية 7). لم تستطع كل خطايا البشر أن تُنقص مراحم الله وفداءه ولو حبة خردل! وعلى هذا فليس لنا ملجأ من خطايانا إلا إن تغمَّدنا برحمته وفدانا بكفارته. قال الرب: «هل أفرايم ابن عزيز لديَّ أو ولد مُسرٌ؟» (والإجابة الطبيعية هي: لا، لأنه خاطئ) ولكن الله يمضي فيقول: «لأني تكلمتُ به أذكره بعدُ ذِكراً. من أجل ذلك حنَّت أحشائي إليه. رحمةً أرحمه يقول الرب« (إر 31: 20). لم يكن سبط أفرايم مُسراً، بل كان يستحق العقاب، ولكن الله لم ينسَه ولا تركه في خطاياه، بل كان يذكره ويكرر ذِكره، ويحن عليه بكل مشاعره ويريد أن يرحمه. وهذا ما يوضحه القول الرسولي: «وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا.. الله الذي هو غني في الرحمة من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أمواتٌ بالخطايا، أحيانا مع المسيح.. وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات» (أف 2: 1-6).
نعم، عند الرب الرحمة وعنده فدى كثير، مبني على عظمة الفادي، فالمسيح قدم نفسه كفارة عن البشر جميعاً مرة واحدة فوجد للجميع فداءً أبدياً. وهذا أسمى من كل ذبائح شريعة موسى، التي كانوا يقدمونها يومياً، وأسبوعياً، وفي الأعياد، وكانت كلها رمزاً إلى الواحد الوحيد، حمل الله الذي يرفع خطية العالم، الذي «يقدر أن يخلِّص إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حيٌّ في كل حين ليشفع فيهم» (عب 7: 25).
3 – ينتظر الفداء لأن فداء الله كامل: «وهو يفدي إسرائيل من كل آثامه» (آية 8). إسرائيل هنا هو نسل إبراهيم الروحي، الذين يؤمنون إيمان إبراهيم من كل خلفية وجنسية. والفداء المقدَّم من الله فداء كامل لا جزئي ودائم لا مؤقت، لأن كفارة المسيح تتسع لتغطي وتستر كل خطايا البشر في كل العصور «ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية.. ويطهرنا من كل إثم» (1يو 1: 7، 9). لا توجد خطية مهما عظمت لا يكفِّر عنها دم المسيح ويسترها إن جئنا إليه تائبين، فالفداء عمل إلهي، نابع من الحب الإلهي، ومتوافرٌ لنا بسبب التدخُّل الإلهي لصالح الساقطين البعيدين. هناك أمل لكل نفس خاطئة مهما كانت بعيدة حين ترجع خاشعة قائلة: «ارحمني يا الله حسب رحمتك، حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ. اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيتي طهرني.. إليك وحدك أخطأت.. لكي تتبرَّر في أقوالك وتزكو في قضائك» (مز 51: 1-4). فاطلب الفداء الإلهي بثقة.
هذا المزمور يكشف لنفوسنا عمق الألم الذي يسببه الإحساس بالذنب، ويشجعنا أن نصرخ من الأعماق طالبين النجاة، دون أن نبذل أي محاولات بشرية لإنقاذ نفوسنا، فكل محاولاتنا عاجزة وفاشلة. فلنلجأ إلى الرحمة الإلهية متكلين على الغفران الإلهي، المبني على الفدى الكثير، لأن الله يدعونا ويقول: «هلمَّ نتحاجج يقول الرب: إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضّ كالثلج. وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف» (إش 1: 18).
اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالْحَادِي وَالثَّلاَثُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ. لِدَاوُدَ
1 يَا رَبُّ، لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي، وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ، وَلَمْ أَسْلُكْ فِي الْعَظَائِمِ وَلاَ فِي عَجَائِبَ فَوْقِي، 2بَلْ هَدَّأْتُ وَسَكَّتُّ نَفْسِي كَفَطِيمٍ نَحْوَ أُمِّهِ. نَفْسِي نَحْوِي كَفَطِيمٍ. 3لِيَرْجُ إِسْرَائِيلُ الرَّبَّ مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ.

النفس المتواضعة
هذا المزمور تعبير رائع عن الخضوع لله والتسليم الكامل لمشيئته، وهو يشجع المؤمنين ليمتلئوا بالرجاء الحي في إلههم الصالح.. وقد تعلَّم داود صاحب هذا المزمور التواضع أمام الله، ووضع كل طموحاته الأرضية في مكانها الصحيح، وأعطى الأولوية الأولى لعمل مشيئة الله.
وعندما كان الحُجّاج يحتفلون بالعيد في حضرة الله وفي بيته، كانوا يرنمون مزمور التوبة (130) ثم بكل تواضع يرنمون هذا المزمور وهم يذكرون إحسانات الله عليهم، فيشعرون بمزيد من التواضع، كما قال جدُّهم الأكبر أب الأسباط لله: «صغيرٌ أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك، فإني بعصاي عبرتُ هذا الأردن، والآن قد صرت جيشين» (تك 32: 10).
مزمور داود هذا ترنيمة تصف تواضعه الحقيقي والصادق، فمنذ أن مسحه النبي صموئيل ملكاً حلَّ روح الرب عليه، ومع هذا لم يُصبْه مرض الكبرياء. وعندما سأل عن مكافأة الرجل الذي يهزم جليات الجبار غضب أخوه الأكبر أليآب عليه وقال له: «أنا علمت كبرياءك وشر قلبك، لأنك إنما نزلتَ لترى الحرب». ولكنه لم يجاوب أخاه بمثل قساوة كلام أخيه، بل اكتفى بأن قال: «ماذا عملتُ الآن؟ أما هو كلام؟» (1صم 17: 28، 29).. وبعد أن صار داود ملكاً لم يتخلَّ عن تواضعه. فعندما أصعد تابوت الله إلى مدينة داود بفرح كان يرقص بكل قوته أمام الرب، فرأته زوجته ميكال بنت الملك السابق شاول من الكوَّة وهو يطفُر ويرقص أمام الرب، فاحتقرته في قلبها، وعندما التقت به وبَّخته، فأجابها إنه تواضع: «أمام الرب الذي اختارني دون أبيك ودون كل بيته ليقيمني رئيساً على شعب الرب، فلعبتُ أمام الرب. وإني أتصاغر دون ذلك وأكون وضيعاً في عيني نفسي، وأما عند الإماء التي ذكرتِ فأتمجَّد» (2صم 6: 12-22).
لقد تعلم داود التواضع في مدرسة الألم، فوضع كل أمله في الرب وهو مطارَد أمام شاول، ووقف الرب إلى جواره ونجاه، فعرف أنه مديون للرب بحياته وبكل ما له.
قال تشارلس سبرجن عن هذا المزمور إنه من أقصر المزامير في قراءته، ولكنه من أطولها في تعلُّم دروسه وتطبيقها.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – التعبير عن التواضع (آية 1)
ثانياً – التواضع يعلِّم الخضوع (آية 2)
ثالثاً – التواضع يعلِّم الرجاء (آية 3)
أولاً – التعبير عن التواضع
(آية 1)
1 – لم يتكبَّر: «يا رب، لم يرتفع قلبي» يحدِّث داود الرب بكل تواضع ويقول له: «يا رب» لأنه خالقه وسيده وقائده، والملك عليه. لم تدخل الكبرياء إلى قلبه بعد أن صار ملكاً، ومنه تعلَّم ابنه سليمان، فقال: «فوق كل تحفُّظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة.. مكرَهة الرب كل متشامخ القلب» (أم 4: 23 و16: 5). لم يتحدث داود عن تواضعه، ولم يبالغ في تقدير نفسه، ولم يفتخر بتواضعه، ولم يمدح مزاميره، ولم يتعالَ بتقواه. لم يفتخر بماضيه لأنه عطية الله، ولا بحاضره لأن الرب وحده هو عارفه وضامنه، فشهد له الرب: «وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي» (أع 13: 22).
كل مفاخر بنفسه يشبه الفريسي الذي حكى لنا عنه المسيح أنه وقف يصلي في نفسه: «اللهم أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشار».. ولكن داود كان مثل العشار الذي ذهب إلى الهيكل ووقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلاً: «اللهم ارحمني أنا الخاطي». وقال المسيح إن الخاطئ نزل إلى بيته مبرراً دون المتكبِّر، وقال: «لأن كل من يرفع نفسه يتَّضع، ومن يضع نفسه يرتفع» (لو 18: 9-14).
لقد مَلَكَ داود نفسه وتواضع، فرفعه الله، لأن «مالك روحه خيرٌ ممَّن يأخذ مدينة» (أم 16: 32) ولكن حفيده، الملك حزقيا تعلَّم درس التواضع بثمن كبير، إذ يقول الوحي عنه إن: «قلبه ارتفع، فكان غضبٌ عليه وعلى يهوذا وأورشليم. ثم تواضع حزقيا بسبب ارتفاع قلبه هو وسكان أورشليم فلم يأتِ عليهم غضب الرب في أيام حزقيا» (2أخ 32: 25، 26). «لأنه هكذا قال العلي المرتفع، ساكن الأبد، القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأحيي روح المتواضعين، ولأحيي قلب المنسحقين» (إش 57: 15). فلنشكر العلي المرتفع ساكن الأبد الذي يتنازل ويسكن مع المنسحق والمتواضع.
2 – لم يشتهِ: «لم تستعلِ عيناي». ما يتمناه القلب تتطلع إليه العين، وكبرياء القلب تظهر في نظرات العينين، وقد قال المسيح: «سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيِّراً. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً» (مت 6: 22، 23). وما أعظم نصيحة الله لباروخ (سكرتير النبي إرميا): «وأنت، فهل تطلب لنفسك أموراً عظيمة؟ لا تطلب!» (إر 45: 5).. إن كل ما نراه في العالم هو شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة، ليس من الآب، بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد (1يو 2: 16، 17). كانت رغبات قلب داود تحت سيطرة الله، فاستطاع أن يتحكم في عينيه، وقال للرب: «أنت تخلِّص الشعب البائس، والأعين المرتفعة تضعها» (مز 18: 27)، لأن الرب يقول: «مستكبر العين ومنتفخ القلب لا أحتمله» (مز 101: 5).
قال المسيح: «من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً. كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخْدَم بل ليَخْدُم وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين» (مت 20: 26-28)، وحين لاحظ كيف اختار المدعوون للوليمة المتكآت الأولى، قال لهم: «متى دُعيت من أحدٍ إلى عرس فلا تتكئ في المتكأ الأول. لعل أكرم منك يكون قد دُعي منه، فيأتي الذي دعاك وإياه ويقول لك: أعطِ مكاناً لهذا، فحينئذ تبتدئ بخجلٍ تأخذ الموضع الأخير. بل متى دُعيت فاذهب واتكئ في الموضع الأخير، حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك: يا صديق، ارتفع إلى فوق. حينئذ يكون لك مجد أمام المتكئين معك. لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع» (لو 14: 7-11).
3- لم يطمع: «لم أسلك في العظائم ولا في عجائب فوقي». لم يتطلع داود إلى ما هو أكثر مما أعطاه له الرب، ولم يتعجَّل تحقيق الوعد الإلهي له بأن يملك على بني إسرائيل. حين كان الملك شاول يطارده ليقتله كان متأكداً من أن دور الملك شاول قد انتهى، وأن دوره آتٍ. ووقع شاول في يد داود مرتان، كان يمكن فيهما أن يقتله ويتولى المُلك الذي وعده الله به. وقال له أتباعه: «هوذا اليوم الذي قال لك عنه الرب: هأنذا أدفع عدوَّك ليدك فتفعل به ما يحسن في عينيك» ولكنه قال: «حاشا لي من قِبَل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي بمسيح الرب، فأمُدُّ يدي إليه، لأنه مسيح الرب هو» (1صم 24: 6، 7 و26: 11) ، لقد أدرك داود بقلبه الخاضع لمشيئة الله معنى الحكمة القائلة: «تواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه» (1بط 5: 6).
لم يسْعَ داود يوماً ليحصل على مركز لا يخصُّه، كما فعل سابقه الملك شاول الذي قام بدور الكاهن وقدم الذبيحة، فقال له النبي صموئيل: «لأنك رفضت كلام الرب، رفضك الرب من أن تكون ملكاً على إسرائيل» (1صم 15: 26). وما أكثر ما لا نكتفي بما أعطانا الله ونرفع أعيننا إلى ما لم يعطِه لنا. حسناً نأخذ من الرب عظائم يعطيها لنا إنعاماً منه. ولكن إن لم يعطها لنا فلنعلم أنها تناسب غيرنا، و«لا يرتئي (أحدنا) فوق ما ينبغي أن يرتئي، بل يرتئي إلى التعقُّل، كما قسم الله لكل واحدٍ مقداراً من الإيمان» (رو 12: 3). ويقول الرسول بطرس: «يقاوم الله المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة» (أم 3: 34 ويع 4: 6 و1بط 5: 5).

ثانياً – التواضع يعلِّم الخضوع
(آية 2)
لم يرتفع قلب داود، ولم تستعلِ عيناه، فتعلَّم الخضوع:
1 – خضوع التعلُّم: «بل هدَّأت وسكَّتُّ نفسي كفطيمٍ نحو أمه». نجح داود في أن يصل إلى حالة الهدوء والسكون الروحيين بعد أن انتقل روحياً من حالة الرضاعة إلى حالة الفطام. والرضيع يصرخ للطعام، أما الفطيم فهادئ ومكتفٍ، لأنه لم يعُد محتاجاً لطعام الطفل، بل بدأ يأكل طعام البالغين.. والفطام هو أول إحساس الطفل بالحرمان مما يعتبره حقه الطبيعي الذي اعتاد عليه منذ وُلد. وعندما يُفطَم يصرخ، ليس بالضرورة لأنه جائع، بل لأنه يحتجّ على أمه ويرفض موقفها منه. والأم تعرف أنها يجب أن تفطمه لخيره، وهي لن تتركه جائعاً بل ستعطيه الطعام الذي يناسب عمره. وبعد صراخ واحتجاج يعود ليخضع منكسراً، ويهدئ نفسه فيفرح ويشكر لأنه صار أكثر نضوجاً.
رأى داود نفسه أول الأمر كفطيم هائج ثائر، وشعر برغباته العاطفية صاخبة متمردة، وعرف أن هذه الثورة ليست في مصلحته، فقرر أن يهدِّئ نفسه ويسكِّنها. ونجح في إخضاع مشاعره كطفلٍ يعتزُّ بأمه بدون رضاعة، فهي والدته قبل كل شيء، حتى لو حرمته مما يعتبره من حقوقه التي اعتادها.
وتجوز نفس كل مؤمن ذات الاختبار، فتتعلم التواضع والتسليم لله لأنه الخالق والمعتني والفادي، حتى لو بدا للمؤمن أن الله يحرمه من أشياء يشتهيها، لأنه يعلم أن الله لا يحرمه من شيء إلا ليُنضِج إيمانه ويزيد اتكاله عليه. وكلما تدرب المؤمن على قبول الحرمان الذي يريده الله، يتعلم الخضوع، لأنه يستريح بالمعطي وبمحبته أكثر من راحته بالعطية، ويصبح الرب نفسه موضوع التعزية والفرح، لا الأشياء التي يعطيها الرب. وقتها يقدر أن يقول مع حبقوق: «فمع أنه لا يُزهر التين، ولا يكون حملٌ في الكروم. يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعاماً. ينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقر في المذاود، فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي» (حب 3: 17، 18). حقاً «جيدٌ أن ينتظر الإنسان ويتوقَّع بسكوتٍ خلاص الرب» (مرا 3: 26).
2 – خضوع التعقُّل: «نفسي نحوي كفطيم». بعد أن نجح المرنم في تهدئة نفسه وسكَّتها صارت نفسه نحوه كفطيم خاضع، لأنه حكَّم عقله في الموقف، فخضعت عواطفه لعقله بعدما خسر ما كان يحبه، وتبعت إرادتُه المبادئَ السليمة، كما قال الرسول بولس: «كل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء.. أقمع جسدي وأستعبده» (1كو 9: 25، 27). طوبى لمن يتألم فتساعده آلامه على إخضاع عواطفه وفطامها، فينضج ويتعلم الاتزان الروحي، ويدرك أنه يحب الله وهو مستريح، كما يحبه وقت الألم والتجارب، فيتعلم من أيوب الذي شكر الله في نجاحه كما شكره في بلواه، وقال: «عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركاً.. أالخير نقبل من عند الله والشر لا نقبل؟» (أي 1: 21 و2: 10). ويقدر أن يقول مع الرسول بولس: «تعلَّمتُ أن أكون مكتفياً بما أنا فيه. أعرف أن أتَّضع وأعرف أيضاً أن أستفضل. في كل شيء وفي جميع الأشياء قد تدرَّبتُ أن أشبع وأن أجوع، وأن أستفضل وأن أنقص. أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني» (في 4: 11-13).

ثالثاً – التواضع يعلِّم الرجاء
(آية 3)
1 – رجاءٌ في الرب: «ليَرْجُ إسرائيل الرب». بعد أن تواضع المرنم وسكَّن نفسه أمام الرب، صار له الربُّ نفسُه موضوعَ رجاء وتعزية، كما سبق وقال: «لماذا أنت منحنية يا نفسي، ولماذا تئنّين فيَّ؟ ارتجي الله لأني بعد أحمده لأجل خلاص وجهه» (مز 42: 5). وإسرائيل الذي يرجو الرب هو شعبه الذي يحبه في كل مكان، والذي يطيعه، مهما كانت خلفيته أو لغته أو بلده، كما يقول الوحي:»ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون، ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعاً أولاد.. ليس أولاد الجسد هم أولاد الله، بل أولاد الموعد يُحسَبون نسلاً» (رو 9: 6-8).. وهذا يعني أن هناك «إسرائيل» المولود من نسل إبراهيم، لكنه لا يؤمن إيمان إبراهيم، فهو إسرائيل الجسدي. وهناك «إسرائيل الله» وهم كل الذين يؤمنون إيمان إبراهيم من كل قبيلة وشعب.. إسرائيل الجسدي لا ينال البركة لأنه رفض المسيح الذي «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله. أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه» (يو 1: 11، 12). «إسرائيل الله» هم الخليقة الجديدة الذين قبلوا المسيح، ويحملون في أجسادهم علامة المسيح، وهم الذين صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات. ويقول الوحي: «لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة. فكل الذين يسلكون بحسب هذا القانون عليهم سلام ورحمة، وعلى إسرائيل الله» (غل 6: 12-16). سلام على إسرائيل الروحي، وهم كل من يؤمنون إيمان خليل الله إبراهيم، ويتبعون الرب بعزم القلب.
كان مجيء المسيح المخلِّص هو رجاء بني إسرائيل الأعظم، وهم ينتظرون تحقيق النبوَّة: «ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل (بمعنى: الله معنا).. لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام» (إش 7: 14 و9: 6).. وقد تحقَّق هذا الرجاء، وجاء المسيح مولوداً من عذراء.. واليوم عندنا رجاء بمجيء المسيح ثانيةً إلى أرضنا ليدين العالمين بالعدل. كان مجيئه الأول مجيئاً متواضعاً، أما مجيئه ثانيةً فسيكون مجيداً «ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير، فيرسل ملائكته ببوقٍ عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح، من أقصاء السماوات إلى أقصائها» (مت 24: 30، 31).
على أن رجاءنا لا ينحصر في الأمور الآتية، بل هو الآن، وإلى الأبد.. فنقول: «من لي في السماء؟ ومعك لا أريد شيئاً في الأرض.. صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر» (مز 73: 25، 26).
2 – رجاءٌ الآن: «مِن الآنَ». نحن لا نعيش فقط على رجاء الحياة الأبدية، لكننا نعيش الآن حياة الأمل في الله وفي محبته وقوته. وكل من يضع ثقته في الرب لا يعتمد على علمه مهما كان عالماً، ولا على مكانته مهما كان عظيماً، ولا على ثروته مهما كان غنياً، ولا على أسرته مهما كانت مرموقة، فهذه كلها تتغير ولا تدوم. «إنما لله انتظري يا نفسي، لأن مِن قِبَله رجائي.. إنما باطلٌ بنو آدم. كذبٌ بنو البشر. في الموازين هم إلى فوق.. إن زاد الغِنى فلا تضعوا عليه قلباً» (مز 62: 5، 9، 10). قد تضيع منا أشياء أو أحباء لكن يبقى وجه الرب مع الذين يحبونه.
3 – رجاءٌ أبدي: «إلى الدهر». ويستمر هذا الرجاء بالرب معنا دوماً، فننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي، لأنه هو الكائن والذي كان، والذي يأتي. هو الألف والياء، الأول والآخِر، البداية والنهاية. ليرجُ المؤمنون الرب من الآنَ وإلى الدهر.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّانِي وَالثَّلاَثُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
1 اُذْكُرْ يَا رَبُّ دَاوُدَ، كُلَّ ذُلِّهِ. 2كَيْفَ حَلَفَ لِلرَّبِّ، نَذَرَ لِعَزِيزِ يَعْقُوبَ: 3«لاَ أَدْخُلُ خَيْمَةَ بَيْتِي، لاَ أَصْعَدُ عَلَى سَرِيرِ فِرَاشِي، 4لاَ أُعْطِي وَسَناً لِعَيْنَيَّ، وَلاَ نَوْماً لأَجْفَانِي، 5أَوْ أَجِدَ مَقَاماً لِلرَّبِّ، مَسْكَناً لِعَزِيزِ يَعْقُوبَ». 6هُوَذَا قَدْ سَمِعْنَا بِهِ فِي أَفْرَاتَةَ. وَجَدْنَاهُ فِي حُقُولِ الْوَعْرِ. 7لِنَدْخُلْ إِلَى مَسَاكِنِهِ. لِنَسْجُدْ عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ.
8قُمْ يَا رَبُّ إِلَى رَاحَتِكَ، أَنْتَ وَتَابُوتُ عِزِّكَ. 9كَهَنَتُكَ يَلْبِسُونَ الْبِرَّ، وَأَتْقِيَاؤُكَ يَهْتِفُونَ. 10مِنْ أَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِكَ لاَ تَرُدَّ وَجْهَ مَسِيحِكَ. 11أَقْسَمَ الرَّبُّ لِدَاوُدَ بِالْحَقِّ، لاَ يَرْجِعُ عَنْهُ: «مِنْ ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أَجْعَلُ عَلَى كُرْسِيِّكَ. 12إِنْ حَفِظَ بَنُوكَ عَهْدِي وَشَهَادَاتِي الَّتِي أُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا، فَبَنُوهُمْ أَيْضاً إِلَى الأَبَدِ يَجْلِسُونَ عَلَى كُرْسِيِّكَ». 13لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ صِهْيَوْنَ. اشْتَهَاهَا مَسْكَناً لَهُ: 14«هَذِهِ هِيَ رَاحَتِي إِلَى الأَبَدِ. هَهُنَا أَسْكُنُ لأَنِّي اشْتَهَيْتُهَا. 15طَعَامَهَا أُبَارِكُ بَرَكَةً. مَسَاكِينَهَا أُشْبِعُ خُبْزاً. 16كَهَنَتَهَا أُلْبِسُ خَلاَصاً، وَأَتْقِيَاؤُهَا يَهْتِفُونَ هُتَافاً. 17هُنَاكَ أُنْبِتُ قَرْناً لِدَاوُدَ. رَتَّبْتُ سِرَاجاً لِمَسِيحِي. 18أَعْدَاءهُ أُلْبِسُ خِزْياً، وَعَلَيْهِ يُزْهِرُ إِكْلِيلُهُ».

نذر داود وعهد الرب
يتحدث هذا المزمور عن رغبة الملك داود في بناء بيت للرب ليقيم فيه التابوت، الذي يرمز لحضور الرب وسط شعبه. وقد كان التابوت حتى أيامها يتنقَّل من مكان إلى آخر، ففي أثناء سنوات التيه في صحراء سيناء كانوا يحملونه أثناء الترحال، وعندما يعسكرون في مكان وينصبون خيمة الاجتماع، كانوا يضعونه داخلها وسط معسكرات أسباط إسرائيل الاثني عشر. وعندما عبر بنو إسرائيل نهر الأردن ليدخلوا أرض الموعد تقدمهم التابوت، وتركوه في الجلجال، ثم نقلوه منها إلى شيلوه حيث بقي فيها ما بين 300 و400 سنة. وذات مرة أخذوا التابوت ليتقدمهم في حرب وانهزموا، فأخذ أعداؤهم التابوت منهم ووضعوه في بيت إلههم داجون، وهو صنم نصفه الأعلى إنسان ونصفه الأسفل سمكة، فوقع الصنم وانكسر أمام تابوت الرب (1صم 5: 1-7). وعاقب الرب الأعداء بالأمراض، فأعادوا التابوت إلى بيت أبيناداب في قرية يعاريم، فبارك الرب بيت أبيناداب (2صم 6). وعندما علم الملك داود أن البركة حلت ببيت أبيناداب، أصعد تابوت الله إلى «مدينة داود» بفرح. ولم يكن داود مستريحاً لكونه ساكناً في قصر بينما تابوت الرب مقيمٌ في خيمة، فعزم أن يبني هيكلاً يقيم فيه تابوت عهد الرب. ولكن الرب أرسل إليه النبي ناثان ليقول له: «أأنت تبني لي بيتاً لسكناي؟.. أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأثبِّت مملكته. هو يبني بيتاً لاسمي، وأنا أثبت كرسيَّ مملكته إلى الأبد» (2صم 7: 5، 12، 13). ومع أن الله أعفى داود من بناء الهيكل، إلا أنه قرر أن يجهِّز كل ما يستطيعه من مواد لبنائه، فجمع أحجاراً وحديداً وخشباً وفضة وذهباً ليساعد ابنه سليمان في بناء البيت.
كُتب هذا المزمور غالباً بمناسبة انتقال التابوت من بيت أبيناداب في قرية يعاريم إلى مدينة داود، ليذكِّر الشعب برغبة داود ونذره، ومكافأة الرب له.

في هذا المزمور نجد:
أولاً – صلاة الشعب من أجل داود (آيات 1-5)
ثانياً – تعاون الشعب مع داود (آيات 6-10)
ثالثاً – استجابة الرب لصلاة الشعب (آيات 11-18)

أولاً – صلاة الشعب من أجل داود
(آيات 1-5)
1 – يطلبون أن يذكر الرب ذلَّ داود: «اذكر يا رب داود، كل ذلِّه» (آية 1). وهل ينسى الرب أيَّ شيء، وهو الذي قال: «هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك» (إش 49: 15). إن أمام الرب «سفر تذكرة» نُقش فيها ماضينا وحاضرنا، مع احتياجاتنا (ملا 3: 16). وكل مؤمن يشهد لأمانة الرب وصلاحه ومحبته نحو بني البشر. لقد ذكر نوحاً وأوقف الطوفان (تك 8: 1) وذكر إبراهيم وافتقد سارة وأعطاهما ابناً في شيخوختهما كما وعدهما (تك 21: 1)، وردَّ سبي أيوب وزاد على ما كان له ضعفاً (أي 42: 10)، وذكر بني إسرائيل وأخرجهم من مصر بيد ممدودة وذراع رفيعة (خر 3: 7)، وهو يذكر رحمته وأمانته (مز 98: 3)، ويذكر إلى الدهر عهده (مز 105: 8)، ويذكرك ويذكرني بلا انقطاع.
والمعنى الذي قصده الشعب بهذه الطلبة هو أن يذكر الله داود ليكافئه، فقد كان تاريخه مليئاً بالمتاعب، فبعدما هزم جليات الجبار حسده الملك شاول وحقد عليه وأخذ يطارده ليقتله، فذلَّ داود أمام المطاردة المستمرة.. ولا بد أن داود لاقى المتاعب والذل وهو يحارب ليستولي على حصن اليبوسيين الذي سماه «مدينة داود» (2صم 5: 6-9)، وجاء إليه بالتابوت، وهناك بنى ابنه الملك سليمان هيكل الرب.. ولا بد أن داود ذلَّ أمام الرب عندما حاول أن ينقل تابوت عهد الرب بطريقة مخالفة للطريقة التي طلبها الرب، فغضب الله على الشاب عُزَّة وقتله لأنه مدَّ يده بغير احترام إلى تابوت الله (2صم 6). وذُلَّ داود عندما أراد أن يبني بيتاً للرب، فرفض الرب، فقال داود: «هئنذا في مذلتي هيأت لبيت الرب ذهباً.. وفضة.. ونحاساً وحديداً بلا وزن لأنه كثير. وقد هيأت خشباً وحجارة» (1أخ 22: 14).
2 – يطلبون أن يذكر الرب نذر داود: «كيف حلف للرب، نذر لعزيز يعقوب: لا أدخل خيمة بيتي. لا أصعد على سرير فراشي. لا أعطي وَسَناً لعينيَّ ولا نوماً لأجفاني، أو أجد مقاماً للرب، مسكناً لعزيز يعقوب» (آيات 2-5). توضح هذه الآيات إصرار داود أن يوفي نذره في إقامة بيت للرب. لقد نذر لعزيز يعقوب، أي الإله الجبار القوي الذي أحسن إلى يعقوب، فلن يهدأ خاطره ولن تستقر نفسه وقلبه، ولن يستطيع أن يستريح أو ينام قبل أن يحقق بناء »مقام للرب« حسب قوله لموسى: «فيصنعون لي مقدساً لأسكن في وسطهم» (خر 25: 8). ويحلف داود بعزيز يعقوب لأن جدَّه يعقوب سبقه ونذر أن يبني بيتاً لله في بيت إيل وقال: «إن كان الله معي وحفظني.. هذا الحجر الذي أقمتُه عموداً يكون بيت الله، وكل ما تعطيني فإني أعشِّره لك» (تك 28: 20، 22)، ثم «أتى يعقوب إلى بيت إيل.. وبنى مذبحاً ودعا المكان إيل بيت إيل» (تك 35: 6، 7).
ونحن اليوم نعلم أن المسكن الذي يسكن فيه الرب وسط شعبه مسكن روحي، لأنه «هكذا قال الرب: السموات كرسيي، والأرض موطئ قدميَّ. أين البيت الذي تبنون لي، وأين مكان راحتي؟ وكل هذه صنعَتْها يدي، فكانت كل هذه يقول الرب. وإلى هذا أنظر: إلى المسكين، والمنسحق الروح، والمرتعد من كلامي» (إش 66: 1، 2). وقد طوَّب المسيح المسكين بالروح الذي يأتي للرب بيدين خاليتين يطلب المعونة والرحمة، معترفاً بخطاياه، والمرتعد من كلام الرب طاعةً لنصيحة الرسول بولس: «تمِّموا خلاصكم بخوف ورعدة» (في 2: 12). هذا هو القلب الذي يسكن فيه الرب، وهو المقام الحقيقي له «جسدكم هو هيكل الروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من الله» (1كو 19: 6).

ثانياً – تعاون الشعب مع داود
(آيات 6-10)
1 – حماسهم في نقل التابوت: «هوذا قد سمعنا عنه في أفراتة. وجدناه في حقول الوعر» (آية 6). كان نقل التابوت حدثاً قومياً لأن التابوت يرمز لحضور الرب وسط شعبه. وتوضح هذه الآية الغيرة الشديدة التي انتقلت من قلب داود إلى قلب كل شعب الرب، وملأتهم بالرغبة في نقل التابوت إلى مدينة داود. فقد سمعوا أن التابوت في أفراتة، ومعناها: «الوديان الخصيبة، أو حقول الغابات»، وهي المنطقة التي كانت فيها قرية يعاريم ومعناها: «الغابات»، فوجدوه في حقول الوعر في بيت أبيناداب. فذهبوا وأتوا به، لأن من يطلب يجد ومن يقرع يُفتح له.
2 – حماسهم في العبادة: «لندخل إلى مساكنه. لنسجد عند موطئ قدميه» (آية 7). يطلب المرنم من سامعيه أن يأتوا ويتعبَّدوا في «مسكن عزيز يعقوب». لقد تحمَّس بنو إسرائيل بقيادة الملك داود ونقلوا التابوت إلى مدينة داود، وسجدوا عند موطئ قدمي الله شكراً لأنه سمح لهم أن ينقلوا تابوت عهده. وتحدثوا عن «مساكنه» بمعنى الأماكن التي أقام فيها التابوت قبل وصوله إلى مدينة داود، لأنه أقام في الجلجال، ثم نُقل إلى بيت إيل، ومنها إلى شيلوه ثم قرية يعاريم، وأخيراً إلى أورشليم. وكل مكان استقر فيه التابوت اُعتُبر مسكناً له. وحيثما يسكن الرب يعلن عن حضوره، ويصبح المكان هيكلاً له. على أن المسيح هو الإعلان الإلهي الأسمى للبشر، فبعدما كلَّم الله الآباء بالأنبياء قديماً كلَّمنا في المسيح الذي «فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً» (كو 2: 9)، وفي المسيح نرى الله لأنه قال: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو 14: 9). وكل من يقبل خلاص المسيح يدخل المسيح قلبه، كما يطالبنا الأمر الرسولي: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف 3: 17) فيصبح هيكلاً للروح القدس (1كو 6: 19) يرشد الناس إلى طريق الخلاص الذي وصل هو إليه.
3 – فرحهم بالعبادة: فرح الشعب بثلاثة أمور، طلبها الملك سليمان في صلاته وهو يدشِّن الهيكل، فقال: «والآن قُم أيها الرب الإله إلى راحتك أنت وتابوت عزِّك. كهنتك أيها الرب الإله يلبسون الخلاص، وأتقياؤك يبتهجون بالخير. أيها الرب الإله، لا تردَّ وجه مسيحك. اذكر مراحم داود عبدك» (2أخ 6: 41، 42).
(أ) فرحوا بنقل التابوت: «قُم يا رب إلى راحتك أنت وتابوت عزك» (آية 8). وهي الصلاة التي كان موسى والشعب يرفعونها لله في صحراء سيناء عندما كانوا يرتحلون من مكان إلى مكان يتقدمهم تابوت عهد الرب. «وعند ارتحال التابوت كان موسى يقول: قُم يا رب فلتتبدَّد أعداؤك، ويهرب مبغضوك من أمامك«. وعند ما يتوقفون عن السفر كانوا يقولون: »ارجع يا رب إلى رِبوات ألوف إسرائيل» (عد 10: 35، 36). وقال داود: «يقوم الله، يتبدَّد أعداؤه ويهرب مبغضوه من أمام وجهه» (مز 68: 1).
(ب) فرحوا بالكهنة وبالأتقياء: «كهنتك يلبسون البر، وأتقياؤك يهتفون» (آية 9). أعلن المرنم أن الله يُلبس كهنته براً بمعنى أنه يبرِّرهم ليكونوا مقبولين أمامه أهلاً لخدمة الإله البار. إنه يبررهم بأن يكسوهم بره كثوب يستر عريهم، كما ستر عري آدم في الجنة، فيهتفون: «فرحاً أفرح بالرب. تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص. كساني رداء البر» (إش 61: 10). ويفرح المؤمنون جميعاً طاعة للأمر النبوي: «افتحوا الأبواب لتدخل الأمة البارة الحافظة الأمانة» (إش 26: 2)، ويقولون مع أيوب: «لبستُ البرَّ فكساني. كجُبَّة وعمامة كان عدلي» (أي 29: 14).
(ج) فرحوا بالملك: «من أجل داود عبدك لا تردَّ وجه مسيحك» (آية 10). وعد الرب داود وقال له: «يأمن بيتك ومملكتك إلى الأبد أمامك. كرسيُّك يكون ثابتاً إلى الأبد» (2صم 7: 16). ويطالب المرنم الرب أن يحقق مواعيده للملك داود، فلا يرفض له مطلباً يطلبه لخير شعبه «لأنك أنت تبارك الصديق يا رب. كأنه بترس تحيطه بالرضا» (مز 5: 12).

ثالثاً – استجابة الرب لصلاة الشعب
(آيات 11-18)
1 – الاستجابة بخصوص المسيا: «أقسَم الرب لداود بالحق، لا يرجع عنه: من ثمرة بطنك أجعل على كرسيِّك. إن حفظ بنوك عهدي وشهاداتي التي أعلِّمهم إياها، فبنوهم أيضاً إلى الأبد يجلسون على كرسيِّك» (آيتا 11، 12). وعد الرب داود أن يقيم من بنيه من يملكون على شعبه، وثبَّت وعده معه بقسَمٍ لا يرجع عنه، ولا يغيِّره، لأنه هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد. ويقول هذا الوعد: «أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأثبِّت مملكته.. أنا أثبِّت كرسيَّ مملكته إلى الأبد» (2صم 7: 12، 13).. فقال داود للرب: «لقد أعلنتَ لعبدك قائلاً: إني أبني لك بيتاً. لذلك وجد عبدك في قلبه أن يصلي لك هذه الصلاة. والآن يا سيدي الرب، أنت هو الله وكلامك هو حق. وقد كلَّمتَ عبدك بهذا الخير» (2صم 7: 27، 28). وقد أورد أَيْثان الأزراحي هذا الوعد شِعراً بقوله: «قطعتُ عهداً مع مختاري. حلفتُ لداود عبدي.. مرةً حلفتُ بقُدسي أني لا أكذب لداود» (مز 89: 3، 35). ولم يكن كل نسل داود صالحاً، فانقسمت المملكة في أيام رحبعام (حفيد الملك داود) إلى مملكة شمالية عاصمتها السامرة، وتكوَّنت من عشرة أسباط، حكم عليها يربعام بن نباط، ومملكة جنوبية عاصمتها أورشليم، ملك عليها رحبعام. وسقطت المملكتان في السبي لأنهما لم تحفظا عهد الرب. وكان وعد الرب لداود مرتبطاً بتحقيق شرطه الواضح، وهو أن يحفظوا عهده. غير أن وعد الله تحقَّق كاملاً في المسيح ابن داود «الذي لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش» (إش 53: 9)، «وتكون الرياسة على كتفه.. لنمو رياسته.. وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا» (إش 9: 6، 7). وكان أَيْثان الأزراحي قد قال عن ملكوت المسيح: «الذي تثبُت يدي معه. أيضاً ذراعي تشدِّده.. وباسمي ينتصب قرنه.. هو يدعوني: أبي أنت. إلهي وصخرة خلاصي. أنا أيضاً أجعله بكراً أعلى من ملوك الأرض.. وكرسيه مثل أيام السموات» (مز 89: 21، 24، 26، 27، 29).
2 – الاستجابة بخصوص صهيون: «لأن الرب قد اختار صهيون. اشتهاها مسكناً له. هذه هي راحتي إلى الأبد. ههنا أسكن لأني اشتهيتها. طعامها أبارك بركة. مساكينها أُشبع خبزاً» (آيات 13-15). كان بنو إسرائيل يعتقدون أن الله اختار جبل صهيون لبناء الهيكل قبل أن يختار داود ليكون ملكاً على شعبه، فيقول آساف: «اختار سبط يهوذا، جبل صهيون الذي أحبه، وبنى مثل مرتفعاتٍ مقدسه، كالأرض التي أسَّسها إلى الأبد. واختار داود عبده، وأخذه من حظائر الغنم» (مز 78: 68-70). واعتقد بنو إسرائيل أن قول الرب: «هذه هي راحتي إلى الأبد» وإن لم يكن مسجَّلاً بالقول، لكنه مُبرهنٌ بالفعل، فقد اختار الرب جبل المريا مكاناً لبناء الهيكل الذي يسكنه ويستريح له، ويقبل فيه صلوات شعبه وذبائحهم التي يتقرَّبون بها إليه، كما اختار المسيح رسله وقال لهم: «ليس أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم» (يو 15: 16). فيا له من امتياز عظيم أن نصير مختاري الملك الذي دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب، وجعل منا جنساً مختاراً وكهنوتاً ملوكياً، أمةً مقدسة، شعب اقتناء (1بط 2: 9).
ويقول الله عن صهيون: «طعامَها أبارك بركةً. مساكينَها أُشبع خبزاً». حقاً «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات.. طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يُشبَعون» (مت 5: 3، 6). وقال المسيح: «أنا هو خبز الحياة. من يُقبل إليَّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش إلى الأبد» (يو 6: 35). ويقول الرسول بولس: «الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء؟» (رو 8: 32). هو «الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع» (1تي 6: 17).
3 – الاستجابة بخصوص الكهنة: «كهنتها أُلبس خلاصاً. أتقياؤها يهتفون هتافاً» (آية 16). يستجيب الرب طلبة شعبه من أجل الكهنة فيلبسهم أعظم رداء، هو رداء البر وثياب الخلاص التي تستر كل عيب، وتكمل كل نقص وتؤهِّل الكاهن للقيام بخدمة مقبولة.
4 – الاستجابة بخصوص الملك: «هناك أُنبت قرناً لداود. رتَّبتُ سراجاً لمسيحي. أعداءه أُلبس خزياً، وعليه يُزهر إكليله» (آيتا 17، 18). في هاتين الآيتين يعد الرب أن يستجيب دعاء الشعب لأجل الملك بثلاث طرق:
(أ) يعطيه قرناً: القرن رمز القوة، فيعطي الرب داود قوة تنطح أعداءه وتنصره عليهم، كما قال أَيْثان الأزراحي: «لأنك أنت فخر قوتهم، وبرضاك ينتصب قرننا، لأن الرب مجنُّنا» (مز 89: 17، 18).
(ب) يعطيه سراجاً: السراج رمز للنسل والامتداد، فيقول الوحي عن الملك أَبِيام: «لكن لأجل داود أعطاه الرب إلهُه سراجاً في أورشليم، إذ أقام ابنه بعده وثبَّت أورشليم» (1مل 15: 4). أما امتداد مملكة داود الأبدية فهي في المسيح ابن داود، السراج المضيء، الذي قال عن نفسه: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة» (يو 8: 12).
(ج) يعطيه إكليلاً: ويرمز الإكليل إلى تكريس الملك لخدمة الله بخدمة شعبه، وكان الإكليل يُعطى للملك، وللكاهن (خر 29: 6). والإكليل مزهر أي يلمع بالحياة والحق، فيراه المحيطون به. وقد أمر الرب النبي زكريا: «خُذ فضة وذهباً واعمل تيجاناً، وضَعْها على رأس يهوشع بن يهوصادِق الكاهن العظيم.. فهو يبني هيكل الرب، وهو يحمل الجلال، ويتسلط على كرسيه، ويكون كاهناً على كرسيه» (زك 6: 11-13).
لنصلِّ إلى الرب أن يجعلنا متواضعين مثل داود، وأن نكون أمناء لنذورنا وعهودنا لله كما أن الله أمين معنا.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّالِثُ وَالثَّلاَثُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ. لِدَاوُدَ
1 هُوَذَا مَا أَحْسَنَ وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْكُنَ الإِخْوَةُ مَعاً! 2مِثْلُ الدُّهْنِ الطَّيِّبِ عَلَى الرَّأْسِ، النَّازِلِ عَلَى اللِّحْيَةِ، لِحْيَةِ هَارُونَ، النَّازِلِ إِلَى طَرَفِ ثِيَابِهِ. 3مِثْلُ نَدَى حَرْمُونَ النَّازِلِ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ. لأَنَّهُ هُنَاكَ أَمَرَ الرَّبُّ بِالْبَرَكَةِ، حَيَاةٍ إِلَى الأَبَدِ.

وحدانية الروح
هذا مزمور معطَّر كالطيب، رقيقٌ كالندى، ليس فيه طلب ولا شكوى، وهو خالٍ من الإحساس بمشاعر الذنب. إنما هو محطة راحة، لأنه يصف مؤتمراً دينياً عالي الروحانية، وخلوة عميقة بالرب، فرحت فيها القلوب بتحقيق وعده القائل: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20)، فشعر الحاضرون أنهم كانوا على جبل تجلي، وقد تخفَّفوا من هموم العالم، وسعدوا معاً بتوحُّد القلب والفكر والإرادة في الصلاة والترنيم والعبادة، بفضل حضور الروح القدس بينهم وفيهم، فلمسهم وباركهم أفراداً وجماعة.
لقد صعد المؤمنون إلى الحج في الهيكل، وقاموا بكل مراسم الاحتفالات، وأوشكت رحلتهم للتعييد على الانتهاء، لتبدأ رحلة عودتهم إلى البلاد المختلفة التي جاءوا منها، ليواجهوا مرة أخرى مسؤوليات الحياة العادية وصعابها، ويتحملوا ما يكلِّفهم الرب به من خدمة يؤدونها له بعد أن ملأهم نعمة وبركة. لقد تحقق معهم وعد الرب لإبراهيم: «أباركك» وجاء الدور ليسمعوا: «وتكون بركة». فوقف العابدون يرنمون هذا المزمور تعبيراً عن مشاعر سعادتهم بالعبادة، وفرحتهم بتآلف قلوبهم واتحادها حول الإله الواحد الذي يمتلكهم ويسود عليهم. وهم يعلمون أنهم حين ينزلون إلى العالم يخرجون من محضر الله بالجسد ولكنهم يعيشون في حضرته بالروح. ولا بدَّ لهم أن يعيشوا إيمانهم وسط المجتمع الذي يتواجدون فيه، لأنه يحيا فيهم بروحه، فيضيئون كأنوار في العالم يقشعون ظلام إبليس، ويرى الناس أعمالهم الحسنة فيمجدون أباهم الذي في السموات.
في المزمور 132 رأينا توحُّد شعب الرب وحماسهم للعبادة حول تابوت الرب الذي هو رمز حضوره وسط شعبه، وهو توحُّد روحي حول الرب غير المنظور. وفي هذا المزمور أعلنوا محبتهم بعضهم لبعض. واليوم يتوحَّد المؤمنون في حب المسيح، فتتحد قلوبهم معاً، ويساعد أحدهم الآخر ويشجعه ويدافع عنه، بمقدار ما يمنحه الله من نعمة وقوة.
في الوحدة قوة وغلبة وانتصار وتشجيع. «اثنان خير من واحد لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة، لأنه إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه. وويل لمن هو وحده إن وقع، إذ ليس ثانٍ ليقيمه.. إن غلب أحدٌ على الواحد يقف مقابله الاثنان، والخيط المثلوث لا ينقطع سريعاً» (جا 4: 9-12).

في هذا المزمور نجد:
أولاً – جمال الوحدة الروحية (آية 1)
ثانياً – وصف الوحدة الروحية (آيات 2، 3أ)
ثالثاً – بركات الوحدة الروحية (آية 3ب)

أولاً – جمال الوحدة الروحية
(آية 1)
«هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معاً».
1 – »هوذا« أي تأملوا، وراقبوا، وانظروا أمراً نادر الحدوث في عالمنا! إنه الأخوَّة الحقيقية! الإنسان عادة ظلوم لا يرحم أخاه إن ضعُف أخوه أو سقط، أو إن أساء إليه. وإن أخطأ إنسانٌ يسرع بإلقاء اللوم على غيره واتهامه وتوبيخه وإصدار الأحكام الجائرة ضده، مع أننا جميعاً في الموازين إلى فوق، و«الكل زاغوا وفسدوا. ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد» (مز 14: 3).
ولكن هؤلاء العابدين اتحدوا معاً في الوقوف في هيكل الله، فكانت وحدتهم وحدة المكان، واتحدوا معاً وحدة روحية هي وحدة القلوب، فكان المنظر فريداً وغريباً على عالمنا المتصارع المتحارب. وعندما رأى المرنم جمال الوحدة في العبادة راح يتغنَّى بما حدث، ودعا الجميع لينظروا هذا المشهد البديع الفريد، الذي سعى أصحابه لأن يحفظوا وحدانية الروح برباط السلام (أف 4: 3)، فصاروا كأهرامات مصر التي بقيت شامخة خمسة آلاف سنة شاهدة على عظمة الوحدة وقوتها. ولو أن أحجار الأهرامات تفرقت فلن تظل إحدى عجائب الدنيا السبع، بل ستكون مجرد أحجار ضخمة!
2 – »ما أحسن!«: ما أكثر الانسجام والتوافق والصلاح في وجود المؤمنين العابدين معاً! إنه كتوافق وانسجام الآلات الموسيقية المختلفة وهي تعزف لحناً واحداً يطيب له القلب وتفرح به الروح.
3 – »وما أجمل«: ما أكثر البهجة الناتجة عن وجود المؤمنين العابدين معاً، لأنها بهجة سماوية! يكون المبهج أحياناً من الشرير، كما أغوت الحية أبوينا الأوَّلين في جنة عدن «فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهِجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر» (تك 3: 6). لكن المرنم يكلمنا عن الأجمل الأبهج من الأمور المقدسة، التي هي من عند الله الذي يُفرِح العابدين ويفرح بهم، فهو يفرح بالراجعين إليه كما يفرح الراعي الذي يحمل خروفه الضال بعد أن وجده، ليردَّه إلى الحظيرة.. ويبتهج قلب العابدين بالرب، فيقولون: «فرحت بالقائلين لي إلى بيت الرب نذهب» (مز 122: 1). «يبتهج ويفرح بك جميع طالبيك. ليقل محبّو خلاصك: يتعظم الرب» (مز 85: 16).
4 – »أن يسكن«: ليس المقصود السكن أو الإقامة المادية الدائمة، بل السكن الروحي والعاطفي عندما ينفتح المؤمنون على بعضهم فتنشرح قلوبهم أحدهم بالآخر، ويلتحمون معاً في وحدانية الروح التي يحافظون عليها بالمحبة والاشتراك في الخدمة، كما قال الرسول بولس: «أنا غرست وأبلوس سقى لكن الله كان ينمي. إذاً ليس الغارس شيئاً ولا الساقي بل الله الذي ينمي. والغارس والساقي هما واحد، ولكن كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه. فإننا نحن عاملان مع الله وأنتم فلاحة الله. بناء الله» (1كو 3: 6-9). ويشعر المؤمنون بالحماية والترابط في الانتماء للجسد الواحد «لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد.. وجميعنا سُقينا روحاً واحداً» (1كو 12: 13).
5 – »الإخوة معاً«: كلنا إخوة لأننا خليقة الله، ولأننا وُلدنا من أب واحد هو آدم، كما قال الرسول بولس في موعظته في أثينا: «الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه.. وصنع من دمٍ واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض» (أع 17: 24، 26). وقد عبَّر خليل الله إبراهيم عن هذه الوحدة الجسدية عندما حدثت مخاصمة بين رعاة مواشيه ورعاة مواشي لوط، فقال لابن أخيه لوط: «لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أخَوان» (تك 13: 8). كان إبراهيم عم لوط، ولكنه دعاه أخاً له من باب الأخوَّة الجسدية التي هي رابطة الدم.
ولكن هناك رابطة أقوى هي الأخوَّة الروحية، أخوة الولادة الثانية من الروح القدس، التي يقول فيها الوحي: «جسد واحد، وروح واحد، كما دُعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد. رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة، إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم» (أف 4: 4-6). فالمؤمنون إخوة، لهم رب واحد يسود على حياتهم، وهدف واحد يعيشون له، وتعزيات واحدة من الروح القدس تنعشهم وتلهمهم. فما أجمل أن يسكن الإخوة معاً!

ثانياً – وصف الوحدة الروحية
(آية 2، 3أ)
يصف المرنم وحدة المؤمنين المقدسة بوصفين:
1 – مثل الدهن الطيب: «مثل الدهن الطيب على الرأس، النازل على اللحية، لحية هارون، النازل إلى طرف ثيابه» (آية 2).
(أ) دهن يقدِّس: يشبِّه المرنم الوحدة الروحية بين المؤمنين بمسحة التقديس التي تغمر هارون كله. والدهن الطيب على رأس هارون هو دهن المسحة المقدسة الذي أعطى الرب وصفة تركيبه لموسى ليمسح به خيمة الاجتماع، وتابوت الشهادة، وليصبَّه على رأس هارون فينزل على لحيته وأطراف ثيابه، فيغمر جسد هارون كله، فيباركه ويقدسه ويخصصه رئيساً للكهنة لخدمة الرب وتعليم الناس (خر 30: 22-33).
(ب) دهن يبارك: تبارك الوحدة الروحية المتحدين معاً، كما كان الدهن الطيب يبارك هارون وكل الشعب الذي يقوده في العبادة، فقد كان ينزل على حجَري الجزع على صُدرة هارون التي نُقشت عليها أسماء الأسباط الاثني عشر، فيغمر الله كل شعبه مع هارون بالبركة (خر 28: 29). ويصف المرنم الدهن الطيب مرتين بأنه «النازل» لأن الرب هو العالي الذي يُنزل بركته، فهو مصدر البركة المؤكدة. وعندما نحاول أن نرتفع لنصل إلى منبع البركة نجد قامتنا الروحية قاصرة، فنقول إننا عبيد بطالون. لذلك ينعم الله علينا في المسيح بالدهن النازل من عنده، وبالندى النازل من لدنه، لأنه مصدر الخلاص النازل من فوق «وليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو 3: 13) لكي يقيم المسكين من التراب، ويرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الشرفاء (1صم 2: 8).
(ج) دهن يفرِّح: يرمز الدهن للفرح، كما قال المرنم: «أحببتَ البر وأبغضتَ الإثم. من أجل ذلك مسحك الله إلهُك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك» (مز 45: 7)، وهو «دهن فرح عوضاً عن النوح» (إش 61: 3). والوحدة الروحية مفرحة للقلب يقال عنها: «ما أحسن وما أجمل».
ويتمتع المؤمنون بفرح حقيقي ودائم، لأنه ثمر الروح القدس (غل 5: 22) «لأنه هكذا قال الرب: هأنذا أدير عليها سلاماً كنهر.. كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم.. فترون وتفرح قلوبكم وتزهو عظامكم كالعشب» (إش 66: 12-14). كان فرح المعيدين كفرح آبائهم بتكريس هارون رئيساً للكهنة ليقوم بخدمة بيت الرب، وليقف وسيطاً بين الله وشعبه لينالوا رضاه. أما نحن فيعظم فرحنا بالمسيح رئيس كهنتنا الذي قال: «أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل» (يو 10: 10)، ونفرح بتكريس أي خادمٍ لله لأننا نعلم أن الرب سيبارك شعبه من خلال خادمه.
وستفرح قلوبنا بالرب وسط عالم مليء بالضيق والشر والصراع على المادة، لأننا نحتمي بملجإنا الوحيد الذي يبدل أحزاننا فرحاً.
(د) دهن فريد: الوحدة الروحية فريدة، لا نظير لها في عالمنا، مثل دهن المسحة. وقد أمر الرب موسى: «على مقاديره لا تصنعوا مثله. مقدَّسٌ هو، ويكون مقدساً عندكم» (خر 30: 32)، فهو دهن فريد. وهكذا الكنيسة التي اختارها المسيح لنفسه، يُقال لشعبها: «أما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. الذين قبلاً لم تكونوا شعباً، وأما الآن فأنتم شعب الله» (1بط 2: 9، 10).
(هـ) دهن يعطِّر: هذا «الدهن» ذو رائحة عطرة. والمؤمنون الحقيقيون هم رائحة المسيح الذكية، الذين يملأون المكان الذي يوجدون فيه بأذكى الأريج.. «شكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين، ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان. لأننا رائحة المسيح الذكية لله، في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون» (2كو 2: 14، 15).
2 – مثل الندى: «مثل ندى حرمون النازل على جبل صهيون» (آية 3أ). حرمون أعلى الجبال ومنه ينزل الندى إلى جبل صهيون (الذي بُني عليه الهيكل) الأقل منه ارتفاعاً. وينزل الندى والمطر دائماً من الأعلى للأسفل، فتتغطى الجبال وترتوي الوديان وتعطي ثمراً يفرح به قلب الزارع والحاصد معاً. وينتظر شعب الرب هذه البركة النازلة من فوق لتغمره وترويه فيثمر.
وكما يعطي الرب الندى، فتنمو المزروعات وتثمر، وتكثر المراعي ويزداد الخير، هكذا يشبع الرب قلوبنا بشخصه، ويروي ظمأ أرواحنا، ويقول لنا: «لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء.. يرويان الأرض ويجعلانها.. تنبت وتعطي زرعاً للزارع وخبزاً للآكل، هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي. لا ترجع إليَّ فارغة بل تعمل ما سُررت به وتنجح في ما أرسلتُها له. لأنكم بفرحٍ تَخرجون وبسلام تُحضَرون. الجبال والآكام تشيد أمامكم ترنماً، وكل شجر الحقل تصفق بالأيادي» (إش 55: 10-12).

ثالثاً – بركات الوحدة الروحية
(آية 3ب)
«هناك أمر الرب بالبركة: حياةٍ إلى الأبد». يتبارك المعيِّدون بركة أبدية، ويتبارك أولادهم من جيل إلى جيل. لقد بارك الرب إبراهيم، وابنه إسحاق، وحفيده يعقوب، وهو يبارك كل من يؤمن مثل إيمانهم ويطيع مثل طاعتهم، فتمتد البركة امتداداً لأجيال قادمة بغير توقُّف. قال الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: «أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولاً في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكني موقن أنه فيك أيضاً» (2تي 1: 5). ويلتمس المؤمنون بركة علوية لأبنائهم وأحفادهم ليعبدوا الرب ويسيروا في خوفه وحبه، وسط جيل معوج وملتوٍ، فيكونون ملحاً للأرض ونوراً للعالم.
ما أروع الوحدة والتقارب، وما أحوجنا إليها. وما أجمل أن نشعر باتحادنا بالمسيح الكرمة، فنكون أغصاناً ثابتة فيه نأتي بثمر كثير، ونتمتع بتحقيق وعده: «ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالرَّابِعُ وَالثَّلاَثُونَ
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
1 هُوَذَا بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ عَبِيدِ الرَّبِّ، الْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ بِاللَّيَالِي. 2ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ نَحْوَ الْقُدْسِ وَبَارِكُوا الرَّبَّ. 3يُبَارِكُكَ الرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ، الصَّانِعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.

بين المعيِّدين والحرّاس
هذا المزمور هو آخر ترانيم المصاعد الخمسة عشر (120-134)، كان المعيدون يرتلونه في الليلة الأخيرة قبل رحلة العودة، بعد تقديم الذبيحة المسائية، وإغلاق أبواب الهيكل، وبدء نوبة الحراسة الليلية من مغيب الشمس حتى شروقها، والتي كان يتولاها أربعة وعشرون من اللاويين وثلاثة من الكهنة بالإضافة إلى رئيس الحرس. ولم يشأ المعيدون أن يتركوا الهيكل بكل ما فيه من قداسة وفرح بدون مزمور وداع، فرنموا مزمور 134 الذي يبدأ بهتاف الشعب ينادون الحرس: «باركوا الرب يا جميع عبيد الرب.. ارفعوا أيديكم نحو القدس» ويرد الحرس الساهر على المعيِّدين: «يباركك الرب». ويظل الحرس طيلة الليل يذكرون ترنيمة الزائرين الذين طالبوهم بتسبيح الرب وشكره، أثناء محافظتهم على بقاء نار المذبح مشتعلة طول الليل، وهم يغذّون مصابيح الهيكل المضاءة بزيت الزيتون النقي، ويسهرون على سلامة المبنى. وقد يتعرضون للنوم وهم يؤدون خدمتهم بطريقة عادية تلقائية بدون انبهار، لأن عملهم المقدس يصبح روتيناً، يؤدونه يومياً بطريقة أوتوماتيكية بغير تفكير. ولكن العابدين المسافرين نادوهم ليسهروا ويصلّوا، وأبلغوهم آمالهم في قضاء ليلة حيَّة مليئة بالعبادة والشكر لله على الشرف الذي منحه الله لهم في تكليفهم بخدمته دائماً في هيكله المقدس.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الشعب ينادي حراس الهيكل (آيتا 1، 2)
ثانياً – الحراس يباركون الشعب (آية 3)

أولاً – الشعب ينادي حرّاس الهيكل
(آيتا 1، 2)
«هوذا باركوا الرب يا جميع عبيد الرب، الواقفين في بيت الرب بالليالي. ارفعوا أيديكم نحو القدس وباركوا الرب». يدعو الشعب الراجع إلى بلاده حراس الهيكل أن يسهروا ويصلّوا ويشكروا الرب. لقد بارك الكهنة الشعب عندما علَّموهم أثناء العيد عن الرب.. وجاء الوقت ليبارك الكهنة الرب وهم يشعرون بالامتنان له على اختيارهم لخدمته، فيقدمون العبادة الحقيقية له لخيرهم ولخير الشعب الذي يخدمونه، فيقول الجميع: «أما أنا فالاقتراب إلى الله حسنٌ لي» (مز 73: 28).
يبدأ مزمورنا كما بدأ مزمور 133 بكلمة «هوذا» ومعناها: انظروا. انتبهوا. استيقظوا. يقول الشعب للكهنة: جئنا، وها نحن عائدون، أما أنتم فمقيمون، فبكل النشاط والغيرة قوموا بخدمتكم الهامة والمقدسة التي اختاركم الرب للقيام بها، لتكونوا جديرين بشرفها «إذا كنتم.. تفعلون شيئاً فافعلوا كل شيء لمجد الله» (1كو 10: 31).
«باركوا الرب» بمعنى: فكروا فيه، واجعلوه موضوع انشغالكم. قولوا عنه قولاً حسناً. احترموه بتوقير، واقتربوا منه بحب، واعترفوا بفضله عليكم، واشكروه لأنه سمح لكم أن تخدموه. سبحوه واحمدوه، وقولوا لأنفسكم قول داود لنفسه: «باركي يا نفسي الرب وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» (مز 103: 1، 2).
باركوه بأن تحبوه، وتستمروا في حبه. أحبّوه لذاته، وعبِّروا عن محبتكم له، وقولوا للجميع: «نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً» (1يو 4: 19).
باركوه بالطاعة والخضوع لمشيئته وبالقيام بما يكلفكم به بسعادة.
باركوه بالصلاة والتواصل معه في حديث وشركة حبية مستمرة نهاراً وليلاً، فتكون صلاتكم حديث العقل الواعي وحديث العقل الباطن. حدِّثوه مباشرةً بالصلاة، وحدِّثوه بالتسبيح والترنم لعزته الإلهية. «سبِّحوا الرب لأن الترنُّم لإلهنا صالح. لأنه مُلذٌّ. التسبيح لائق» (مز 147: 1).
ويذكر الشعب ثلاثة أسباب تدفع الكهنة حراس الهيكل لأن يباركوا الرب:
1 – هم عبيد الرب: خصَّص الرب سبط لاوي لخدمته، ودعاهم للعمل في الهيكل، ويقول الوحي: «أفرَزَ الرب سبط لاوي ليحملوا تابوت عهد الرب، ولكي يقفوا أمام الرب ليخدموه ويباركوا باسمه إلى هذا اليوم. لأجل ذلك لم يكن للاوي قسمٌ ولا نصيبٌ مع إخوته. الرب هو نصيبه كما كلَّمه الرب إلهك» (تث 10: 8، 9).
والمؤمنون جميعاً عبيد الرب لأنه خلقهم، ولأنه يعولهم، ولأنه اشتراهم بالفداء. وهم يتشرَّفون بالعبودية له، لأن العبودية للرب هي الحرية الكاملة، ولأنها الانتماء لسيد الأرض كلها، وقد قال أحد القديسين: «أنا محتاجٌ إلى ربوبيتك، ولكنك لست محتاجاً لعبوديتي». ولقب العبد والأَمَة لقب محبَّب لنفوس المؤمنين، أُطلق على موسى مرات كثيرة (تث 34: 5 و1أخ 6: 49)، وعلى يشوع (يش 29: 24 وقض 8:2)، وعلى إيليا (1مل 18: 36)، وعلى دانيال (دا 6: 20)، وعلى بولس (رو 1: 1)، وعلى بطرس (2بط 1: 1)، وعلى يعقوب (يع 1: 1)، وعلى كل من حرَّرهم المسيح (1بط 2: 16). وأطلقه داود على أمه، فقال: «لأني عبدك. أنا عبدك ابن أمتك» (مز 116: 16)، وأطلقته العذراء مريم على نفسها حين قالت للملاك: «هوذا أنا أَمَة الرب» (لو 1: 38).
وتفرِّق التوراة بين العبد المولود في البيت والعبد المشترَى بالمال، فالعبد المولود في البيت أغلى لأنه ينتمي إلى ذلك البيت (تك 14: 14). وما أجمل بيت تيموثاوس الذي قال له الرسول بولس: «أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولاً في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكني موقن أنه فيك أيضاً» (2تي 1: 5).
والمؤمن الحقيقي هو الذي يقول للرب: «أُحبُّ سيدي.. لا أخرج حراً» (خر 21: 5)، وهو الذي يتكلم كلاماً صالحاً عن سيده، وشعاره: «لأن يوماً واحداً في ديارك خيرُ من ألف. اخترتُ الوقوف على العتبة في بيت إلهي (كأنه بواب البيت) على السكن في خيام الأشرار» (مز 84: 10).
2 – هم ساهرون في بيت الرب: «واقفون بالليالي» فقد كان عمل بعض الكهنة نهاراً وليلاً. «وكان المغنّون رؤوس آباء اللاويين في المخادع، وهم مُعفَوْن، لأنهم نهاراً وليلاً عليهم العمل» (1أخ 9: 33) وقد عيَّنهم الملك داود «لأجل الوقوف كل صباح لحمد الرب وتسبيحه، وكذلك في المساء» (1أخ 23: 30).
وقد يكون المقصود بالوقوف بالليالي المعنى الحرفي، أو قد يكون المقصود معنوياً من ليالي الظروف القاسية والأيام الصعبة. فعندما يضل الناس عقائدياً أو سلوكياً يسهر خدام الرب في صلوات وتضرعات لحراسة العقيدة وإعلان الحق، مفصِّلين كلمة الحق بالاستقامة (2تي 2: 15)، يكرزون بالكلمة ويعكفون على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب، يوبخون وينتهرون ويعظون بكل أناة وتعليم (2تي 4: 2)، فقد وصفهم الرب بأنهم حُرّاس «لا يسكتون كل النهار وكل الليل على الدوام. يا ذاكري الرب لا تسكتوا ولا تدعوه يسكت» (إش 62: 6).
3 – هم يصلّون للرب: يرفعون أيديهم نحو القدس للصلاة، كما قال داود: «استمِع صوت تضرُّعي إذ أستغيث بك وأرفع يديَّ إلى محراب قدسك» (مز 28: 2)، وطلب الرسول بولس أن يصلي الرجال رافعين أيادي طاهرة من أجل المسؤولين وأصحاب المناصب في بلادهم (1تي 2: 8).
ورفع اليدين للصلاة يعني اتجاه القلب بكامله إلى الرب، لأن اليدين مشغولتان بالعبادة دون غيرها.. ويعني أيضاً الانتباه لصوت الرب والاستجابة لتوجيهاته، فنقول: «تكلم يا رب لأن عبدك سامع» (1صم 3: 9).. ويعني تطلع الأعين الضارعة المترجية إلى مصدر البركة، فنقول: «أرفع عينيَّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني. معونتي من عند الرب صانع السماوات والأرض» (مز 121: 1، 2).. ويعني رفع كل ما في المصلي وتكريسه لله تقدمةً للرب، عملاً بالوصية الرسولية: «قدِّموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية» (رو 12: 1).. ويعني طلب العون الإلهي ومدّهما نحو الله لتلقِّي الاستجابة، كما فعل موسى عندما هاجم العمالقةُ بني إسرائيل في صحراء سيناء، فرفع يده للصلاة طالباً الحماية. وكان إذا رفع يده ينتصر بنو إسرائيل، وإذا خفضها ينتصر العمالقة. «فلما صارت يدا موسى ثقيلتين.. دعم هارون وحور يديه، الواحد من هنا والآخر من هناك. فكانت يداه ثابتتين إلى غروب الشمس». وهكذا انتصروا (خر 17: 8-13).
ويشير الطراز القوطي في بناء الكنائس المرتفعة الأسقف، العالية الأبراج إلى هذا المعنى، حتى يرفع العابدون عيونهم وأفكارهم وقلوبهم نحو الرب بكل ثقة وحماس وتوقُّع قائلين: «هوذا كما أن عيون العبيد نحو أيدي سادتهم، كما أن عيني الجارية نحو يد سيدتها، هكذا عيوننا نحو الرب إلهنا حتى يترأف علينا» (مز 123: 2).

ثانياً – الحراس يباركون الشعب
(آية 3)
يتجاوب الحراس الساهرون مع جمهور المعيدين الراجعين إلى بلادهم، ويبادلونهم التمنيات ببركة الرب، ويقولون: «يباركك الرب من صهيون الصانع السموات والأرض».
1 – البركة من الرب: يبارك المؤمنُ الربَّ بأن يشكره، ويقدم له في كل حين «ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه» (عب 13: 15). والرب يبارك المؤمن بالغفران، فيقول المؤمن: «باركي يا نفسي الرب.. الذي يغفر جميع ذنوبك. الذي يشفي كل أمراضك. الذي يفدي من الحفرة حياتك. الذي يكللك بالرحمة والرأفة. الذي يشبع بالخير عمرك، فيتجدد مثل النسر شبابك» (مز 103: 1-5).. ويباركه بالتغيير الداخلي وينقله «من مجد إلى مجد» (2كو 3: 18)، ويصوغه «إناءً للكرامة، مقدساً، نافعاً للسيد، مستعداً لكل عمل صالح» (2تي 2: 21)، ويجعله سبب بركة للمحيطين به في المجتمع والأسرة والكنيسة.. ويباركه بأن يسدد كل احتياجاته الروحية والمادية والفكرية والعاطفية أكثر جداً مما يطلب أو يفتكر (أف 3: 20)، ويشجعه قائلاً: «إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي. اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً» (يو 16: 24). وهذه البركات «نازلة من عند أبي الأنوار، الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران» (يع 1: 17).
2 – البركة من صهيون: وصهيون الروحية هي الكنيسة، التي فيها يبارك الكهنة الشعب قائلين: «يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلاماً» (عد 6: 24-26). وجاءت هذه البركة في صيغة المفرد، لأن شعب الرب يجتمع كرجل واحد «ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعاً واحد في المسيح» (غل 3: 28)، كما تعني أن البركة هي لكل واحد من الشعب، لأن الرب يعرفه باسمه، ويقول له: «قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك» (إر 1: 5).
وكانت صهيون في التوراة تعني:
(أ) حصن داود: المكان الذي بُني فيه الهيكل، حيث يسكن الله وسط شعبه. وتأتينا البركة عندما ندخل بيت الله نستمع إلى كلمته، وتُستجاب فينا صلاة المسيح: «أيها الآب القدوس، احفظهم في اسمك الذين أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن.. لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير» (يو 17: 11، 15).
(ب) مدينة العهد: لأن فيها تابوت العهد، وقد أدخل الله كل مؤمن في عهد جديد معه مختوم بدم المسيح. وفي كل مرة يتناول فيها من مائدة العشاء الرباني يسمع المسيح يقول له: «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفَك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26: 28).

3 – البركة من الخالق: «يباركك الرب.. الصانع السماوات والأرض» فهو صاحب السلطان فيهما، وهو يمنح بركته لأنه محب وصالح وقادر وسلطانه كامل. وما أعظم السلطان السماوي الذي يغفر الخطايا، ويستجيب الصلاة، ويشفع في المؤمنين، ويرسل ملائكته ليخدموهم، وهو يقول لهم: «أفتح لكم كُوى السماوات وأَفيض عليكم بركة حتى لا توسع» (ملا 3: 10). وسلطانه على الأرض يمتد إلى كل شيء. «قلب الملك في يد الرب كجداول مياه. حيثما شاء يميله» (أم 21: 1). شقَّ البحر الأحمر ليعبر شعبه، وقال لهم عن سنوات التيه: «سرتُ بكم أربعين سنة في البرية، لم تبلَ ثيابكم عليكم، ونعلك لم تبلَ على رجلك.. لكي تعلموا أني أنا الرب إلهكم» (تث 29: 5، 6).
دعونا نرفع صلواتنا من أجل الذين يخدموننا روحياً، ونطلب من الله أن يعطيهم آذاناً صاغية لما يطلبه الشعب الذي يخدمونه منهم. أما رجال الدين فليطلبوا بركة الله صاحب السلطان للشعب الذي يخدمونه ويعظونه بكلمة وحيه الصادق.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالْخَامِسُ وَالثَّلاَثُونَ
1 هَلِّلُويَا! سَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ. سَبِّحُوا يَا عَبِيدَ الرَّبِّ، 2الْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ، فِي دِيَارِ بَيْتِ إِلَهِنَا. 3سَبِّحُوا الرَّبَّ لأَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ. رَنِّمُوا لاِسْمِهِ لأَنَّ ذَاكَ حُلْوٌ. 4لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ يَعْقُوبَ لِذَاتِهِ، وَإِسْرَائِيلَ لِخَاصَّتِهِ. 5لأَنِّي أَنَا قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ الرَّبَّ عَظِيمٌ، وَرَبَّنَا فَوْقَ جَمِيعِ الآلِهَةِ. 6كُلَّ مَا شَاءَ الرَّبُّ صَنَعَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ، فِي الْبِحَارِ وَفِي كُلِّ اللُّجَجِ. 7الْمُصْعِدُ السَّحَابَ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ. الصَّانِعُ بُرُوقاً لِلْمَطَرِ. الْمُخْرِجُ الرِّيحَ مِنْ خَزَائِنِهِ. 8الَّذِي ضَرَبَ أَبْكَارَ مِصْرَ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْبَهَائِمِ. 9أَرْسَلَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ فِي وَسَطِكِ يَا مِصْرُ، عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَى كُلِّ عَبِيدِهِ. 10الَّذِي ضَرَبَ أُمَماً كَثِيرَةً وَقَتَلَ مُلُوكاً أَعِزَّاءَ: 11سِيحُونَ مَلِكَ الأَمُورِيِّينَ، وَعُوجَ مَلِكَ بَاشَانَ، وَكُلَّ مَمَالِكِ كَنْعَانَ، 12وَأَعْطَى أَرْضَهُمْ مِيرَاثاً، مِيرَاثاً لإِسْرَائِيلَ شَعْبِهِ.
13يَا رَبُّ، اسْمُكَ إِلَى الدَّهْرِ. يَا رَبُّ، ذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ، 14لأَنَّ الرَّبَّ يَدِينُ شَعْبَهُ، وَعَلَى عَبِيدِهِ يُشْفِقُ. 15أَصْنَامُ الأُمَمِ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي النَّاسِ. 16لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ. 17لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. كَذَلِكَ لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهَا نَفَسٌ! 18مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا، وَكُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا. 19يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ، بَارِكُوا الرَّبَّ. يَا بَيْتَ هَارُونَ، بَارِكُوا الرَّبَّ. 20يَا بَيْتَ لاَوِي، بَارِكُوا الرَّبَّ. يَا خَائِفِي الرَّبِّ، بَارِكُوا الرَّبَّ. 21مُبَارَكٌ الرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ السَّاكِنُ فِي أُورُشَلِيمَ. هَلِّلُويَا!

يا خائفي الرب، باركوا الرب
هذا المزمور دعوة لتسبيح الرب الذي أعاد شعبه من السبي، فبدأوا يعيدون بناء الهيكل الذي دمره نبوخذنصَّر، إلا أنهم تخاذلوا، فأرسل لهم الرب النبيين حجي وزكريا ليشجعاهم ليكملوا البناء، ففعلوا. وكان الهيكل الثاني متواضعاً جداً بالمقارنة بالهيكل العظيم الذي بناه سليمان، لأن الذين أقاموه كانوا جماعة فقيرة وقليلة. وعندما رأى كبار السن منهم ضآلة هيكلهم الجديد بالمقارنة بالهيكل الأول حزنوا جداً، فشجعهم الرب بقوله إن مجد البيت الأخير سيكون أعظم من مجد البيت الأول، إن كانت عبادتهم فيه بالروح والحق (حجي 2: 9). وبمناسبة إعادة البناء رنم الشعب هذا المزمور. وما أجمل أن نرفع لله تراتيل الشكر، تنشدها قلوبنا وتترنم بها ألسنتنا، فنقول لله: «أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنة وخُلقت» (رؤ 4: 11).
يبدأ مزمورنا من حيث انتهى مزمور 134 آخر مزامير المصاعد، والذي دعا فيه الشعبُ اللاويين ليصلّوا ويباركوا الشعب. ويدعو مزمورنا كل خائفي الرب وبيت هارون وبيت لاوي ليباركوا الرب.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المسبِّحون (آيات 1-4)
ثانياً – تسبيح رب الطبيعة (آيات 5-7)
ثالثاً – تسبيح رب التاريخ (آيات 8-12)
رابعاً – تسبيح رب الأرباب (آيات 13-18)
خامساً – دعوة للتسبيح (آيات 19-21)

أولاً – المسبِّحون
(آيات 1-4)
1 – يسبِّحون لأن التسبيح ضروري: «هللويا، سبحوا اسم الرب» (آية 1أ). «هللويا» كلمة عبرية تعني سبحوا الرب، أو سبحان الله. وكل خلائق الرب تسبح خالقها العظيم الذي منه وبه وله كل الأشياء (رو 11: 36)، والذي يفتح يده فتشبع مخلوقاته خيراً (مز 104: 28)، والذي إلى اسمه وإلى ذكره شهوة النفس (إش 26: 8). الملائكة تشدو له: «قدوس قدوس قدوس رب الجنود، مجده ملء كل الأرض» (إش 6: 3). وكأن المرنم يحثُّ كل الأتقياء ليقولوا: «فاض قلبي بكلام صالح. متكلم أنا بإنشائي للملك. لساني قلم كاتب ماهر» (مز 45: 1)، فترتفع أصوات التسبيح لمن وحده يستحق أن نقدم له ذبيحة الحمد، أي ثمر شفاه معترفة باسمه (عب 13: 15)، ويسبح الجميع اسمه الذي يعلن عن شخصه وكمال أعماله وعظمة صفاته. وهناك أربع صفات عظيمة لله، أولها: «الله محبة»، وثانيتها: القداسة، وثالثتها: الحكمة، ورابعتها: القوة.. الله حب مقدس، وهناك حب بشري لا يؤدي إلى قداسة. والله حب حكيم يختار لنا الأفضل، وهناك حب بشري بغير حكمة. والله حب قادر أن ينفذ أعمال محبته، وكل حب عداه ضعيف مؤقت. فلنسبح اسم الرب المحب القدوس الحكيم القادر.
2 – يسبحون لأنهم عبيده: «سبحوا يا عبيد الرب، الواقفين في بيت الرب، في ديار إلهنا» (آيتا 1ب، 2). الأتقياء عبيد الرب وعابدوه، لأنه خلقهم واشتراهم. صنعهم على صورته كشبهه، ولما ضلوا افتداهم وأعاد خلقهم، كما نرى في مثل الفخاري الذي كان يعمل وعاءً ففسد، فعاد يعمله وعاءً آخر كما حسن في عينيه (إر 18: 4). وقد اشترى الله الأتقياء لا بفضة ولا بذهب «بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح» (1بط 1: 19). فالأتقياء عبيده وملكه بحق الخلق وبحق الشراء. وما أمجد امتياز عبيد الرب. إن لهم حق الاقتراب منه، وتقديم الخدمة له. وهو يكلف عبيده بخدمته، فيقولون: «أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي. جعلت بالسيد الرب ملجإي لأخبر بكل صنائعك» (مز 73: 28). و«طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين. الحق أقول لكم إنه يتمنطق ويتكئهم ويتقدم ويخدمهم» (لو 12: 37).
3 – يسبحون لأنه صالح: «سبحوا الرب لأن الرب صالح» (آية 3أ). «كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق، نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران» (يع 1: 17). وكل من يحب الإله الصالح يحب وصاياه فيخبئها في قلبه لكي لا يخطئ إليه (مز 119: 11). و«الصالح ينال رضىً مِن قِبَل الرب» (أم 12: 2).
4 – يسبحون لأن التسبيح لذيذ: «رنموا لاسمه لأن ذاك حلو» (آية 3ب). قد تعود كلمة «حلو» على اسم الرب، وقد تعود على الترنيم «لأن الترنم لإلهنا صالح. لأنه مُلذ. التسبيح لائق» (مز 147: 1). الرب حلو، ويشهد تاريخنا كما يشهد حاضرنا بأنه حلو ويستحق التسبيح. نسبحه لأنه إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب حافظ العهد والأمانة، ونسبحه لأنه اعتنى بنا وأعاننا كل أيام حياتنا فلم يعوزنا شيء من الخير. نسبحه لأنه طيب «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتوكل عليه» (مز 34: 8). وعندما نرنم لاسمه تنفتح عيوننا أكثر على حلاوته وعلى حلاوة الترنيم له، فيشرق وجهه البهي علينا ويبتسم لنا ابتسامة الرضى، فنطرح عنا كل ثقل، وكل جبل ينخفض، وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرقاً سهلة، ونبصر خلاص الله (لو 3: 5، 6). «مفديو الرب يرجعون ويأتون.. بترنم، وفرح أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم ويهرب الحزن والتنهد» (إش 35: 10). «اهتفوا أيها الصديقون بالرب. بالمستقيمين يليق التسبيح» (مز 33: 1). «حسن هو الحمد للرب والترنُّم لاسمك أيها العلي» (مز 92: 1).
5 – يسبحون لأنه اختارهم: «لأن الرب قد اختار يعقوب لذاته وإسرائيل لخاصته» (آية 4). هذه علاقة خاصة تعتمد على نعمة الرب وحدها، كما قال المسيح: «ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم» (يو 15: 16). ويمنح اختيار النعمة تميُّزاً وتفرُّداً، ليس لصلاح فينا، لكن بسبب المحبة الإلهية التي لا نستحقها، فقد أمر الله موسى أن يقول لبني إسرائيل: «إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب، فإن لي كل الأرض. وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة» (خر 19: 3-6). فقد اختارهم لمسؤولية محددة هي أن ينشروا كلمته، ويكونوا وكلاء الأسرار الإلهية وحافظي العبادة الصحيحة وسط الأمم.. واختارهم «خاصة» وقال لهم: «لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك. إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم، لأنكم أقل من سائر الشعوب. بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسَم الذي أقسم لآبائكم» (تث 7: 6-8). اختار الرب يعقوب المتعقِّب وغيَّر حياته فصار إسرائيل المجاهد مع الله وجاء المسيح من نسله. واختار الرب كل من يؤمن بالمسيح من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة، ليجعلهم ملوكاً وكهنة (رؤ 5: 10، 11)، «ليُظهِر في الدهور الآتية غِنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع. لأنكم بالنعمة مُخلَّصون بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله» (أف 2: 7، 8). لم يأتِ المؤمنون إلى الرب لكنه هو الذي تنازل وجاء إليهم ودعاهم. فالفضل كله يرجع إلى اختيار النعمة الغنية. وقد اختار المؤمنين ليباركهم، فلتمتلئ الأفواه بتسبيحه، ولنكن بركة للمحيطين بنا.

ثانياً – تسبيح رب الطبيعة
(آية 5-7)
1 – الخالق الأعظم: «لأني أنا قد عرفت أن الرب عظيم، وربَّنا فوق جميع الآلهة» (آية 5). «عرفت» بمعنى أن المرنم اختبر وعايش، فلم تتوقف معرفته عند سماع الأذن بل بلغت رؤية العين ويقين القلب. وجاءته المعرفة من الإعلان الإلهي، ومن اختباره الشخصي في حياته اليومية، كما قال الرسول يوحنا: «الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا» (1يو 1: 1). عرف أن الرب عظيم في أعماله وهو فوق كل أصنام الوثنيين، وفوق آلهة المصريين، وفوق داجون الفلسطينيين (1صم 5: 3). له صلى إيليا: «استجبني يا رب استجبني، ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله.. سقطت نار الرب.. فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله. الرب هو الله» (1مل 18: 36-40). هو يسود فوق كل معبودات البشر في الماضي والحاضر والمستقبل.
2 – الخالق القادر: «كل ما شاء الرب صنع، في السموات وفي الأرض، في البحار وفي كل اللجج. المصعد السحاب من أقاصي الأرض، الصانع بروقاً للمطر، المخرج الريح من خزائنه» (آيتا 6، 7). نسبح الله القادر الذي ليس مَن يعطل مقاصده، ولا مَن يحد مِن سلطانه، لأنه يصنع كل ما شاء. نشر السموات بلا أعمدة، وجعل فيها الشمس والقمر والنجوم لتنير الأرض، ولتحكم نظام الفصول من صيف وشتاء. وأوجد الأرض وجعلها تنبت عشباً وبقلاً وشجراً ذا ثمر، وأفاض المياه بالأسماك، وخلق طيراً يطير في الفضاء (تك 1), وهو الذي يُصعد السحاب من مياه البحار، ويعيده مطراً على الأرض تصاحبه أصوات الرعد وأنوار البرق. وكأنه يخزن الريح في مخازن لا نراها، ويخرجها متى شاء. «الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب» (يو 3: 8). هذا هو الإله العظيم «صانع الأرض بقوته، مؤسس المسكونة بحكمته، وبفهمه بسط السموات. إذا أعطى قولاً تكون كثرة مياه في السموات، ويصعد السحاب من أقاصي الأرض. صنع بروقاً للمطر وأخرج الريح من خزائنه» (إر 10: 12، 13). «السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. يوم إلى يوم يذيع كلاماً، وليل إلى ليل يبدي علماً.. في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم» (مز 19: 1-6). وقد دُفع إلى المسيح كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فهدأ العاصفة وأطاعه البحر والرياح (مت 8: 23-27)، والتقى بتلاميذه ماشياً على الماء (مت 14: 22-33).

ثالثاً – تسبيح رب التاريخ
(آيات 8-12)
1 – تاريخه مع مصر: «الذي ضرب أبكار مصر من الناس إلى البهائم. أرسل آيات وعجائب في وسطك يا مصر، على فرعون وعلى كل عبيده» (آيتا 8، 9). يشهد تاريخ الخروج لسلطان الرب وانتصاره لشعبه ضد مصر، أعظم وأقوى مملكة في ذلك الوقت، وأمر الرب موسى أن يقول لفرعون: «هكذا يقول الرب. إسرائيل ابني البكر. فقلت لك أَطلق ابني ليعبدني، فأبيتَ أن تطلقه. ها أنا أقتل ابنك البكر» (خر 4: 22، 23). وضرب الرب أرض مصر بعشر ضربات، آخرها موت الأبكار. وكانت الضربات موجَّهة ضد معبودات المصريين، ليعرفوا أن الرب هو الله وحده. كانوا يعبدون النيل ويقدمون له كل سنة عروساً، فضرب الرب ماء النيل وحوَّله دماً. وكانوا يعبدون العجل أبيس، فأهلك جميع المواشي. كانت عجائب الرب مواجهة بين «يهوه» صانع السماء والأرض وبين الوثن. ولم يكن الرب يريد أن يهلك فرعون، بل أن يوقظه ليعرف من هو الرب. ولما رفض، دفع هو وشعبه ثمناً باهظاً «الرب ضرب كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذي في السجن، وكل بكر بهيمة.. وكان صراخ عظيم في مصر» (خر 12: 29، 30).
2 – تاريخه مع بلاد كثيرة: «الذي ضرب أمماً كثيرة وقتل ملوكاً أعزاء: سيحون ملك الأموريين، وعوج ملك باشان وكل ممالك كنعان. وأعطى أرضهم ميراثاً، ميراثاً لإسرائيل شعبه» (آيات 10-12). يذكر المرنم أسماء أول ملكين قاوما بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر، كما يذكر أمماً كثيرة نصر الرب شعبه عليها وأعطاهم أرضهم ليمتلكوها (عد 21: 21-26 ويش 12: 7-24). «يطرد من أمامك شعوباً أكبر وأعظم منك، ويأتي بك ويعطيك أرضهم نصيباً كما في هذا اليوم» (تث 4: 38).وهزم العبيد الضعفاء الملوك الأقوياء، لأن الحرب للرب، كما هو مكتوب: «لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود» (زك 4: 6). ونتعلم من نصر الرب لشعبه رحمة الرب على خائفيه، وعقابه للأشرار، كما نتعلم أنه يدافع عن شعبه. «ينزل رب الجنود للمحاربة عن جبل صهيون وعن أَكمَتِها. كطيور مُرِفَّة هكذا يحامي رب الجنود عن أورشليم. يحامي فينقذ. يعفو فينجّي» (إش 31: 4، 5). كما نتعلم ثبات الرب وعدم تغيره، لأنه هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد (عب 13: 8). وهذا يقوي إيماننا، ويدفعنا لتسبيح الرب وتمجيده فنهتف: «شكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين» (2كو 2: 14).

رابعاً – تسبيح رب الأرباب
(آيات 13-18)
1 – الرب أزلي أبدي: «يا رب اسمك إلى الدهر. يا رب، ذكرك إلى دور فدور» (آية 13). الرب هو الله، وهو السيد وحده الأزلي الأبدي. اسمه إلى الدهر يبقى ولا يزول ولا يتغير، فهو الألف والياء، الأول والآخِر، العلي المرتفع ساكن الأبد، القدوس اسمه (إش 57: 15). ويدوم ذكره من جيل إلى جيل، لأن معجزاته فائقة وعجائبه كثيرة. شخصه لا يُنسى، ووصاياه لا تنسى، وإنجيله يخبر بعطاياه وشفائه وعظمة قوته. يعبده الأتقياء فيتكلم ويتحاور معهم ويقول: «هلم نتحاجج يقول الرب» (إش 1: 18)، ويميل أذنه ويسمع طلباتهم، ويشعر بآلامهم ويسرع إلى معونتهم. «في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم. بمحبته ورأفته هو فكهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة» (إش 63: 9).
2 – الرب يحب شعبه: «لأن الرب يدين شعبه، وعلى عبيده يشفق» (آية 14). يدين الرب شعبه حين يخطئون فيعاقبهم بنفسه. ولأنه يشفق عليهم، لا يسمح للعدو بإهلاكهم «لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، وكأبٍ بابنٍ يُسر به» (أم 3: 12). لقد كان داود حكيماً عندما أخطأ فعرض الرب عليه ثلاث عقوبات ليختار إحداها: سبع سني جوع، أو الهروب أمام أعدائه ثلاثة أشهر، أم ثلاثة أيام وبإ، فقال داود: «لنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسان» (2صم 24: 10-14).
3 – الوثن لا حياة فيه: «أصنام الأمم فضة وذهب عمل أيدي الناس. لها أفواه ولا تتكلم. لها أعين ولا تبصر. لها آذان ولا تسمع. كذلك ليس في أفواهها نَفَس» (آيات 15-17). كانت هناك أوثان من خشب ومن حجارة ومن ذهب. واليوم عندنا معبودات من نوع آخر، وكلها لا تدوم. فالبعض يعبدون السلطة لتكون بيدهم مقاليد الأمور، والبعض يعبدون العِلم ويتعبدون رهباناً في محرابه، والبعض يعبدون المال بزعم أنه يفعل الكثير.. وينسون أن السلطة هي تفويض من الله، وأن العلم بدون معرفة الرب يدمر، وأن المال بدون مخافة الله يصبح سيداً قاسياً، والذين يبتغونه يضلون عن الإيمان ويطعنون أنفسهم بأوجاع كثيرة (1تي 6: 10). لقد صنع الوثنيون لأنفسهم أصناماً لا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر، ثم عبدوها. وقد يكونون أذكياء جداً في أمور دنياهم، لكنهم أغبياء جداً في أمور دينهم. ويصوِّر النبي إشعياء غباء الوثني في أنه يقطع شجرة يحرق بعض فروعها ليتدفأ ويقول: «قد تدفأت.. رأيت ناراً» ويأخذ بعض أخشابها ليصنع منها صنماً يخر له ويسجد ويصلي ويقول: «نجِّني لأنك أنت إلهي» (إش 44: 12-17).
4 – صانعو الوثن يكونون مثل أوثانهم: «مثلها يكون صانعوها وكل من يتكل عليها» (آية 18). مثل الشيء كمثل صاحبه، وقد قال المسيح عن أمثال هؤلاء: «مبصرين لا يبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون» (مت 13: 13) لا فائدة فيهم ولا رجاء لهم لأنهم وضعوا قلوبهم على ما لا ينفعهم، وتركوا ينبوع الماء الحي ونقروا لأنفسهم آباراً مشققة لا تضبط ماء (إر 2: 13).

خامساً – دعوة للتسبيح
(آيات 19-21)
في الآيات الأخيرة من المزمور يوجِّه المرنم الدعوة لبيت إسرائيل، وبيت هارون، وبيت لاوي، وخائفي الرب أن يباركوا الرب «الساكن في أورشليم».. كان صاحب مزمور 115 قد طلب من إسرائيل وبيت هارون ومتقي الرب أن يتكلوا على الرب (آيات 9-11)، كما طلب صاحب مزمور 118: 2-4 من إسرائيل وبيت هارون ومتقي الرب أن يهتفوا: «إن إلى الأبد رحمته». ويضيف المرنم في مزمورنا «بيت لاوي». فالبركة تجيء من أورشليم حيث مركز عبادة الرب، الذي يرفع له شعبه وخدامه تسابيح الشكر، فيباركهم ويفرح قلوبهم.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّادِسُ وَالثَّلاَثُونَ
1 اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 2احْمَدُوا إِلَهَ الآلِهَةِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 3احْمَدُوا رَبَّ الأَرْبَابِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 4الصَّانِعَ الْعَجَائِبَ الْعِظَامَ وَحْدَهُ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 5الصَّانِعَ السَّمَاوَاتِ بِفَهْمٍ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 6الْبَاسِطَ الأَرْضَ عَلَى الْمِيَاهِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 7الصَّانِعَ أَنْوَاراً عَظِيمَةً، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 8الشَّمْسَ لِحُكْمِ النَّهَارِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 9الْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 10الَّذِي ضَرَبَ مِصْرَ مَعَ أَبْكَارِهَا، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ، 11وَأَخْرَجَ إِسْرَائِيلَ مِنْ وَسَطِهِمْ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ، 12بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ مَمْدُودَةٍ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 13الَّذِي شَقَّ بَحْرَ سُوفٍ إِلَى شُقَقٍ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ، 14وَعَبَّرَ إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِهِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ، 15وَدَفَعَ فِرْعَوْنَ وَقُوَّتَهُ فِي بَحْرِ سُوفٍ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 16الَّذِي سَارَ بِشَعْبِهِ فِي الْبَرِّيَّةِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 17الَّذِي ضَرَبَ مُلُوكاً عُظَمَاءَ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ، 18وَقَتَلَ مُلُوكاً أَعِزَّاءَ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ: 19سِيحُونَ مَلِكَ الأَمُورِيِّينَ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ، 20وَعُوجَ مَلِكَ بَاشَانَ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ، 21وَأَعْطَى أَرْضَهُمْ مِيرَاثاً، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ، 22مِيرَاثاً لإِسْرَائِيلَ عَبْدِهِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 23الَّذِي فِي مَذَلَّتِنَا ذَكَرَنَا، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ، 24وَنَجَّانَا مِنْ أَعْدَائِنَا، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 25الَّذِي يُعْطِي خُبْزاً لِكُلِّ بَشَرٍ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 26احْمَدُوا إِلَهَ السَّمَاوَاتِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ.

ليس لرحمته نهاية‍!
هذا مزمور شكر لله على صلاحه وكثرة مراحمه وقوة عجائبه، يشترك فيه صاحبه مع صاحب مزمور 135 في الدعوة لرفع الحمد للإله الوحيد الحكيم الذي قويت رحمته علي خائفيه. أخطأ بنو إسرائيل وأُخذوا للسبي فظنوا أن رحمة الله عليهم توقفت. ولكنه ردَّ سبيهم فبرهن أن محبته لهم لا تنتهي وأن رحمته عليهم باقية إلى الأبد.
تكرر التعبير «لأن إلى الأبد رحمته» 26 مرة في آيات المزمور الست والعشرين، وهو تكرار التأكيد الذي يذكره المرنم بعد كل ذكرٍ لأعمال محبة الله. «ما أكرم أفكارك يا الله عندي. ما أكثر جملتها. إن أُحصها فهي أكثر من الرمل» (مز 139: 17، 18). وكان بنو إسرائيل يرددون تعبير «لأن الرب صالح. إلى الأبد رحمته» في عبادتهم الجمهورية، وقد ورد هذا التعبير 36 مرة في الكتاب المقدس (26 مرة في مزمورنا، وفي 1أي 16: 34 و2أي 5: 13 و7: 3 وعز 3: 11 ومز 100: 5 و106: 1 و107: 1 و118: 1، 29 وإر 33: 11). كما ورد تعبير «إلى الأبد رحمته» خمس مرات، في 1أي 16: 41 و2أي 7: 6 و20: 21 ومز 118: 3، 4. ومن دراسة هذه الشواهد الكتابية نرى أن ترتيل هذا التعبير جمهورياً كان يوم نقل داود التابوت إلي الخيمة التي خصصها له في حصن داود (1أي 16: 4)، ويوم أكمل سليمان بناء بيت الرب (2أي 5: 13). ويوم انتهى سليمان من صلاة تدشين الهيكل (2أي 7: 3)، ويوم تأسيس الهيكل الثاني (عز 3: 11). وكان الشعب يردُّ بالقول: «إلى الأبد رحمته» علي المرنمين، أو يرد بها اللاويون علي قائد الجوقة. ويجب أن نرددها نحن كلما تأملنا محبة الله التي لا تنتهي، وهو القائل: «محبة أبدية أحببتك، من أجل ذلك أدمت لك الرحمة» (إر 31: 3).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – دعوة للشكر (آيات 1-3)
ثانياً – شكر الله الخالق (آيات 4-9)
ثالثاً – شكر الله المُنقذ (آيات 10-15)
رابعاً – شكر الله المُنعِم (آيات 16-26)

أولاً – دعوة للشكر
(آية 1-3)
1 – شكر الإله الصالح: «احمدوا الرب لأنه صالح، لأن إلي الأبد رحمته» (آية 1). يدعونا المرنم لنقدم الحمد للرب الصالـح، مصدر كل صلاح وصانع كل خير، فنقول له: «أنت يا رب صالح وغفور وكثير الرحمـة لكل الداعين إليك» (مز 86: 5). وهو الرب الذي يطلب الصلاح ويجازي عليه. «مجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح» (رو 2: 10).
2 – شكر إله الآلهة: «احمدوا إله الآلهة، لأن إلي الأبد رحمته» ( آية 2). تعبَّد الوثنيون لآلهة من خشب وحجر ومعادن، والرب هو الذي أوجد الخشب والحجر والمعادن من العدم، فهو إله الآلهة لأنها مخلوقاته. وهي بائدة وهو الأبدي الأزلي. والرب هو الأعلى والأقوى وسلطانه إلى دور فدور. أثناء السبي البابلي أقام الملك داريوسُ دانيــالَ رئيساً لوزرائه، فأخذ رجال المملكة يفتشون عن شكوى ضد دانيال، ولم يجدوا فيه علَّةً إلا من جهة إلهه، فوشوا به إلى الملك، وطرحوه في جب الأسود. فقال الملك لدانيال: إلهــك الحي الذي تعبده دائماً هو ينجيك. وباكراً عند الفجر أُصعد دانيال من الجب ولم يوجد فيه ضرر لأنه آمن بإلهه. ثم كتب الملك داريوس إلى كل الشعوب: «مِن قِبلي صدر أمر بأنه في كل سلطان مملكتي يرتعدون ويخافون قدام إله دانيال، لأنه الإله الحي القيوم إلى الأبد، وملكوته لن يزول وسلطانه إلى المنتهى» (دا 6: 26).
3 – شكر رب الأرباب: «احمدوا رب الأرباب لأن إلى الأبد رحمته» (آية 3). بمعنى أن له السيادة على كل صاحب سلطان، وله يخضع كل سلطان في السماء والأرض. هناك أرباب مثل رب البيت، ورب العمل، أما الرب فهو رب هؤلاء جميعاً. وهناك ملوك ورؤساء وأصحاب سلطان وسيادة، أقامهم الرب، وأوصانا أن نخضع لهم، وأمرهم بالخضوع له، لأنه سيدهم جميعاً «قلب الملك في يد الرب كجداول مياه. حيثما شاء يميله» (أم 21: 1) «لأن فـوق العالي عالياً يلاحظ، والأعلى فوقهما» (جا 5: 8). وهو يقول: «أليس أنا الرب ولا إله غيري؟ إله بار ومخلِّص. ليس سواي. التفتوا إليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني أنا الله وليس آخر.. لي تجثو كل ركبة، يحلف كل لسان» (إش 45: 21-23).

ثانياً – شكر الله الخالق
(آيات 4-9)
1 – الخالق الوحيد: «الصانع العجائب العظام وحده» (آية 4). هو الأزلي صانع الكون العجيب وحده عندما لم يكن هناك سواه. «كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان» (يو 1: 3). وهو وحده الذي صنع عجائب في أرض مصر ليحرر بني إسرائيل المأسورين بيده الرفيعة. ولا زال سلطانه الإلهي فاعلاً دائماً في أرضنا. غزا الإنسان الفضاء وحتى كتابة هذه السطور وصل إلي القمر، ولا يزال يطمح إلى أبعد، لكنه لم يحقق هذا إلا باستخدام القوانين الطبيعية التي وضعها الله! وستظل عصا الله تلتهم عصي البشر، حتى لو تمكنوا بسحرهم أن يحولوها إلى حيات، فإن الرب هو الذي أعطاهم عقولاً يتفوقون بها (خر 7: 8-13). «يا لعمق غنى الله وحكمــته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء! لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً؟.. لأن منه وبه وله كل الأشياء» (رو 11: 33-36). وهو الأبدي الذي لا يزال يصنع معنا المعجزات، وعنده للموت مخارج (مز 68: 20)، فكم يشفي من مرض، وينقذ من عدو، وينصر على خطية ليؤهلنا لشركة ميراث القديسين في النور (كو 1: 12).
2 – الخالق الحكيم: «الصانع السموات بفهم» (آية 5). ما أوضح الحكمة الإلهية وراء الخلق كله. لا شيء يتخطى حدوده. كل شيء منضبط بدقَّة. أعان الله الإنسان ليخترع أشياء كثيرة، ولكن لكل ما يصنعه الإنسان عيوب ونقائص تحتاج إلى تعديل وتبديل وصيانة. أطلق الإنسان أقماراً صناعية في الفضاء ولكنه دوماً يعدِّل مساراتها. لكن «الرب بالحكمة أسس الأرض. أثبت السموات بالفهم. بعلمه انشقَّت اللجج، وتقطر السحـاب ندى» (أم 3: 19، 20). تتضح حكمته لنا عندما نستعمل التليسكوب لنرى الأشياء البعيدة، كما تتضح لنا عندما نستعمل الميكروسكوب لنرى الأشياء الدقيقـة، فتشهد العظائم الكبيرة لحكمته كما تشهد لها دقائقها وتفاصيلها الصغـيرة. وفي حياتنا اليومية نراه يدبر لنا الأمور الكبيرة كما يدبر صغائر الأمور «الإله الحكيم الوحيد مخلصنا، له المجـد والعظمة والقدرة والسلطان الآن وإلى كل الدهور» (يه 25).
3 – الخالق المقتدر: «الباسط الأرض على المياه» (آية 5). «في البدء خلق الله السموات والأرض.. وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه.. وقال الله ليكن جلَدٌ في وسط المياه، وليكن فاصــلاً بين مياه ومياه.. وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة. وكان كذلك» (تك 1: 1، 2، 6، 9) . كانت المياه تغطي كل شيء إلى أن أمر الخالق والآمر الوحيد، فانحسرت المياه وظهرت الأرض، وجعـل للمياه حدوداً لا تتخطاها إلا بأمره. ولما زادت خطايا البشر وامتلأت الأرض ظلماً، أهلكها بالطوفان. أما نوح فوجد نعمة في عيني الرب، فقال له: نهاية كل بشر قد أتت أمامي. اصنع لنفسك فلكاً. وجاء الطوفان فتعاظمت المياه على الأرض مئة وخمسين يوماً. ثم أجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه ثم نشفت عن الأرض (تك 6-8). أهلك الرب سكان الأرض بسبب ظلمهم، ما عدا ثمانية نفوس هم نوح وزوجته، وأولاده الثلاثة وزوجاتهم. ثم «قال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان» (تك 8: 21).
4 – الخالق المنير: «الصانع أنواراً عظيمة.. الشمس لحكم النهار.. القمر والكواكب لحكم الليل» (آيات 7-9). «الله نور وليس فيه ظلمة البتة» (1يو 1: 5) وبنوره نرى نوراً (مز 36: 9). وحين كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجـه الغمر ظلمة «قال الله: ليكن نور فكان نور.. لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل.. فعمل الله النورين العظيمين: النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل» (تك1). هذا هو الإله الحكيم الذي كل ما شاء بحكمة صنع، ولم يترك شيئاً للصدفة. جعل الشمس لحكم النهار لتستيقظ مخلوقاته لأداء ما كلفها به من عمل، وجعل القمر لحكم الليل فيه يعطي حبيبه نوماً (مز 127: 2). «الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها.. لم يترك نفسه بـلا شاهد. وهو يفعل خيراً، يعطينا من السماء أمطاراً وأزمنة مثمرة، ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً» (أع 14: 15، 17). وهو يشرق على كنيسته بنوره فيُرى عليها مجده، ويقول لها: «قومي استنيري لأنه قد جاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك.. فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك» (إش 60: 1-3).

ثالثاً – شكر الله المنقذ
(آيات 10-15)
1 – معجزة الخروج: «الذي ضرب مصر مع أبكارها.. وأخرج إسرائيل من وسطهم.. بيد شديدة وذراع ممدودة» (آيات 10-12). رفع المرنم الحمد للرب المنقذ وذكر وأخبر كم صنع الرب بشعبه ورحمهم من يـد مسخريهم، بأن: ضرب، وأخرج بيد شديدة. أحب الرب شعبه وأراد أن ينقذهم من الذل، كما أظهر حبه لفرعون فأطال أناته عليه، ومنحه عدة فرص للرجوع عن فكره الخاطئ، وأنذره بعجائب عظيمة. ولما أبى وعاند ضرب الرب مصر وأبكارها من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذي في السجن وكل بكر بهيمة (خر 12: 29). ضرب الظالم ليطلق المظلوم حراً. «ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلِّص، ولم تثقل أذنه عن أن تسمع.. فخلصت ذراعه لنفسه، وبرُّه هو عضده» (إش 59: 1، 16).
2 – غرق العدو: «شق بحر سوف إلى شقق.. وعبَّر إسرائيل في وسطه.. ودفع فرعون وقوَّته في بحر سوف» (آيات 13-15). شقَّ البحر، وعبَّر شعبه، وأغرق الظالم. يأمر البحر والرياح فتطيعه، فصار البحر سور ماء عن اليمين وعن اليسار ليعبر شعبه وسط اللجج. وعندما جاء العدو كنهر دفعته نفخة الرب (إش 59: 19). شقَّ الصخر فأخرج ماءً يروي ظمأهم. «بمحبته ورأفته هو فكهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة» (إش 63: 9). ودفع القوي وجيشه في البحر ليعبر الضعيف ويقول: بطل أنا، لأن الرب قوته (يوء 3: 10). ولم يكن شعبه تقياً ولا كاملاً، ولكنه في محبته يقول له:«لا تخف لأني فديتُك. دعوتُك باسمك. أنت لي. إذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيت في النار فلا تُلذع، واللهيب لا يحرقك» (إش 43: 1، 2). وصار لحادثة الخروج العظيمة تذكار سنوي في الاحتفال بالفصح. وفي المسيح لم نعد نحتفل بالفصح، بل بالعشاء الرباني، فنتقدم إلى مائدة الرب وهو يقول لنا: «خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم». ثم نتناول الكأس ونسمعه يقول: «هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا.. لذكري» (1كو 11: 24، 25). نحن نحتفل بالمسيح فصحنا الذي ذُبح لأجلنا (1كو 5: 7)، ونقدم الشكر له لأنه عبر بنا إلى شاطئ الأمان.

رابعاً – شكر الله المُنعِم
(آيات 16-26)
1 – أنعم بالإرشاد: «الذي سار بشعبه في البرية» (آية 16). فهو ملكهم الذي سار أمامهم، وبمهارة يديه هداهم (مز 78: 72). كان يظللهم نهاراً ويرشدهم بعمود سحاب، وكان يضيء لهم ويدفع الوحوش عنهم ويهديهم ليلاً في عمود نار «الرب حافظك.. لا تضربك الشمس في النهار ولا القمر في الليل.. الرب يحفظ خروجك ودخولك» (مز 121: 5، 8). عالهم في البرية أربعين سنة. أطعمهم المن يومياً فلم يجوعوا، ورواهم بماءٍ خرج من الصخر. وقال لهم: «سرت بكم أربعين سنة في البرية، لم تبل ثيابكم عليكم، ونعلك لم تبل على رجلك» (تث 8: 4 و29: 5).
2 – أنعم بالدفاع: «الذي ضرب ملوكاً عظماء.. وقتل ملوكاً أعزاء.. سيحون ملك الأموريين.. وعوج ملك باشان» (آيات 17-20). هيّأ الرب لشعبه في القفر سبيلاً، وتقدمهم من الأمام وسترهم من الخلف، وضرب فرعون العظيم حتى سمح بخروجهم من أسر عبوديته. ثم ضرب ملوكاً عظماء ليقدروا أن يعبروا إلى أرض الميعاد، وقاتل عنهم ملوكاً ذوي بأس، مثل سيحون ملك الأموريين «ضربه إسرائيل بحد السيف، ومَلَك أرضه من أرنون إلى يبوق إلى بني عمون» (عد 21: 24)، ومثل عوج ملك باشان «قال الرب لموسى لا تخف منه لأني قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه» (عد 21: 34).. ولا زال شعب الرب يجتاز برية روحية، تحيط به التجارب، ويواجه معاندين، لكنه يثق في صدق الوعد: «الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون» (خر 14: 14). ويليق بالمؤمنين أن يتبعوا الوصية الرسولية: «البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس» (أف 6: 11).
3 – أنعم بالميراث: «أعطى أرضهم ميراثاً.. ميراثاً لإسرائيل عبده» (آيتا 21، 22). أباد الرب أعداءه الذين يعبدون الأصنام، وأهلك أعداء شعبه وانتزع منهم الأرض التي هو مالكها «للرب الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها» (مز 24: 1)، وأعطاها ميراثاً لشعبه الذي يعبده. وفي لغة الإنجيل ينعم الله على المؤمنين بالتبني، فتفارقهم روح العبودية «والروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله، ووارثون مع المسيح» (رو 8: 16، 17)، «ميراثاً لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل محفوظ في السموات» (1بط 1: 4).
4 – أنعم بالحرية: «الذي في مذلتنا ذكرنا.. ونجانا من أعدائنا» (آيتا 23، 24). يطلب المرنم من شعبه أن يحمدوا الإله الذي لا ينعس ولا ينام، والذي مدَّ يده ونجاهم من ذلهم. يقول: «ذكرنا» وهل الرب ينسى «هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك» (إش 49: 15). وكثيراً ما يعاني المؤمنون من الذل، ولكنهم يدركون معنى القول: «بالإيمان موسى.. أبى أن يُدعى ابن ابنة فرعون، مفضِّلاً بالأحرى أن يُذل مع شعب الله.. حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينتظر المجازاة» (عب 11: 24-26). ولهذا لم ينزعج الشهداء من ذل الاستشهاد، بل انزعج الذين قتلوهم، وصارت دماء الشهداء بذار الكنيسة، التي تنمو مثل عليقة تتوقد بالنار ولم تكن تحترق (خر 3: 2).
على أن الذل الأكبر الذي ينجينا الرب منه هو ذل الخطية، لأن من يعمل الخطية هو عبد لها (يو 8: 34). يذكر الله الخاطئ الهالك ويفتش عليه حتى يجده. هذا ما فعله المسيح مع اللص التائب الذي قال: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك». فأجابه: »اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 42، 43). وكل من يُقبل إليه لا يُخرجه خارجاً (يو 6: 37).
5 – أنعم بالطعام: «الذي يعطي خبزاً لكل بشر.. احمدوا إله السماوات» (آيتا 25، 26). لا ينسى الرب خليقته لأنها صنعة يديه، فيعتني بها ويقوتها ويعطيها خبزاً يُشبعها «أعين الكل إياك تترجى، وأنت تعطيهم طعامهم في حينه. تفتح يدك فتُشبع كل حي رضى» (مز 145: 15، 16). وقد علَّمنا أن نصلي «أبانا الذي في السموات.. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم» (مت 6: 9-13).
على أن الطعام الأسمى الذي ينعم علينا به هو غذاء الروح، فقد قال: «طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يُشبعون»، وقال: »ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء، بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء، لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم.. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد» (يو 6: 32، 33، 51).
«احمدوا إله السماوات، لأن إلى الأبد رحمته».

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّابِعُ وَالثَّلاَثُونَ
1 عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ هُنَاكَ جَلَسْنَا. بَكَيْنَا أَيْضاً عِنْدَ مَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ. 2عَلَى الصَّفْصَافِ فِي وَسَطِهَا عَلَّقْنَا أَعْوَادَنَا. 3لأَنَّهُ هُنَاكَ سَأَلَنَا الَّذِينَ سَبُونَا كَلاَمَ تَرْنِيمَةٍ، وَمُعَذِّبُونَا سَأَلُونَا فَرَحاً: «رَنِّمُوا لَنَا مِنْ تَرْنِيمَاتِ صِهْيَوْنَ».
4كَيْفَ نُرَنِّمُ تَرْنِيمَةَ الرَّبِّ فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ؟ 5إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ تَنْسَى يَمِينِي – لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ! إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي!
7اُذْكُرْ يَا رَبُّ لِبَنِي أَدُومَ يَوْمَ أُورُشَلِيمَ، الْقَائِلِينَ: «هُدُّوا هُدُّوا حَتَّى إِلَى أَسَاسِهَا». 8يَا بِنْتَ بَابِلَ الْمُخْرَبَةَ، طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ الَّذِي جَازَيْتِنَا! 9طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ وَيَضْرِبُ بِهِمُ الصَّخْرَةَ!

البكاء عند أنهار بابل
يروي هذا المزمور حالة الشعب المسبي في بابل نتيجة انحراف مملكة يهوذا عن العبادة الحقيقية، فقد عبد بعض أهلها الوثن، وخلط البعض الآخر عبادة الله بعبادة الوثن. أما الأتقياء فكانوا قِلَّة لم يستمع أحدٌ لنصحهم. وكم أطلق الأنبياء صرخات التحذير، ولكن السامعين لم يهتموا بإصلاح طرقهم، بل سخروا من الوعظ، فسمح الله للملك نبوخذنصر ملك بابل عام 586 ق م أن يسبيهم وأن ينهب محتويات هيكل سليمان ويخربه.. وفي أثناء سنوات السبي ضعفت مملكة بابل وفقدت استقلالها، بينما قويت مملكة فارس. وبعد سبعين سنة في السبي حقَّق الله وعده الذي تنبأ به إرميا بعودة شعبه، فأمر كورش ملك فارس بعودة بني إسرائيل إلى بلادهم، وردَّ لهم ما سلبه نبوخذنصر من محتويات الهيكل، وأمرهم أن يعيدوا بناءه بمساعدة من الإمبراطورية الفارسية، على أن يصلّوا لإلههم أن يبارك حياة كورش ومملكته. ورجع بنو إسرائيل ومعهم الأوامر بإعادة البناء بمواد من مخازن الملك شخصياً، فصُدموا لما رأوا خراب البلاد الشامل، وحالة الفقر السائدة لمن بقوا فيها، ومقاومة الأعداء الذين سكنوا البلاد وتعطيلهم بناء هيكل الرب.
والأغلب أن المرنم كتب هذا المزمور عقب عودته من السبي مباشرة، فكتب فاتحة مزموره عن سنوات السبي الحزينة بصيغة الماضي (آيات 1-3) وختم مزموره بطلب المزيد من الويلات على بابل (آيات 7-9).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – أحزان السبي (آيات 1-3)
ثانياً – ذكريات أورشليم (آيات 4-6)
ثالثاً – عقاب العدو (آيات 7-9)

أولاً – أحزان السبي
(آيات 1-3)
1 – المرنم الذي لم يفرح: «على أنهار بابل هناك جلسنا. بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون» (آية1). كانت أرض كنعان تلالاً يرويها المطر، أما أرض بابل فكانت ترويها أنهار كثيرة، منها دجلة والفرات ونهر خابور (الذي أقام عنده النبي حزقيال- حز 1: 1). عند تلك الأنهار جلس المسبيون بعيداً عن الناس، كما يجلس النائحون (إش 47: 1، 5)، يجترون ذكرياتهم الحزينة، وهم يغتسلون في مياه الأنهار حسب مطالب الشريعة، استعداداً لإقامة فروض عبادتهم، لأنهم كانوا عاجزين عن بناء مجمع يتعبدون فيه (كما حدث في ما بعد في مدينة فيلبي أع 16: 13). وكانت الشقَّة بعيدة بينهم وبين وطنهم حيث كان هيكل سليمان العظيم، الذي طالما رنموا وهم يصعدون إليه: «هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معاً.. لأنه هناك أمر الرب بالبركة» (مز 133).
وأثارت الذكريات الشجون، فجلسوا يتذكرون ويبكون، وهم يقارنون أحوالهم في بابل بأحوالهم في أرض آبائهم وهيكل إلههم، حيث كانت تجري عبادتهم. وفي إحساس قوي بالذنب، وخوف من أن الرب قد رفضهم، انسابت دموع حزنهم مع انسياب مياه النهر، واختلطت دموع توبتهم بالمياه التي كانوا يغتسلون بها للتطهير، وتضرعوا لله طالبين العودة إلى أرض الموعد.. وهذا حال كل من يبتعد عن الرب وبيته، وهو حال كل من عطش فشرب ماءً ملحاً، وجاع فأكل الخرنوب الذي تأكله الخنازير في الكورة البعيدة. ولكن شكراً للإله الصالح الرؤوف الرحيم الذي يقبل توبة الخاطئ الراجع إليه. «فلنتقدَّم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه» (عب 4: 16).
2 – الأعواد التي لم تعزف: »على الصفصاف في وسطها علَّقنا أعوادَنا» (آية 2). كانت أشجار الصفصاف الباكي تنمو بجوار الأنهار. وعندما جلس المسبيون تحتها لم ينتبهوا إلى جمالها، ولا لاحظوا أوراقها الخضراء المدلاة تظللهم، ولا أحسوا بنسمة هواء النهر تخفف من لهيب دموعهم، بل رأوا حبات الندى وكأنها دموع تشاركهم بكاءهم وأحزانهم. وعندما علا صوت بكائهم أهملوا أعوادهم، فعلقوها على الأغصان. وتعليق الأعواد أفضل من تحطيمها كما يفعل الإنسان الذي ييأس فيحطم مصدر فرحه، أو يحطم نفسه، أو أقرب الناس إليه. كما كان تعليقها أفضل من الغناء بمصاحبتها للوثن. وهذا يعني أنهم لم يفقدوا رجاءهم، فقد كانوا «مكتئبين في كل شيء لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين. مضطهدين لكن غير متروكين. مطروحين لكن غير هالكين» (2كو 4: 8، 9). علقوا أعوادهم لأنها ذكرى مجد تسبيح قديم في الهيكل الأول، ولابد أن تكون لهم فرصة استخدامها والغناء عليها من جديد تسبيحاً للرب قائلين: «بمراحم الرب أغني إلى الدهر. لدورٍ فدورٍ أخبر عن حقك بفمي» (مز 89: 1).
3 – الترنيمة التي لم ترتَّل: «لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذِّبونا سألونا فرحاً قائلين: رنِّموا لنا من ترنيمات صهيون» (آية 3). في أرض الهوان والغربة كانت الأحزان تملأ قلب المسبي الغريب فتسيل دموعه، وتمتلك الذكريات الماضية وجدانه، وإذا بالجاني المُسخِّر يسأله أن يستخدم مقدساته ويترنم بتسابيح إلهه ليسليه! لقد كان الطلب قاسياً لأنه من عدو شامت، هازئ بالمقدسات. لم يكتفِ الغزاة بما فعلوه ببني إسرائيل من نهب وسلب وتدمير، وبما أهانوهم وأذلوهم به في الغربة، فأضافوا بطلبهم الجديد هذا ذلاً جديداً.. لعلهم ظنوا أن «يهوه» وثن يشبه آلهتهم، لم تعُد لديه القدرة أن يساعد عابديه. وهم يجهلون أن هذا الإله العظيم قصد بسنوات السبي أن يتوِّب شعبه إلى الأبد عن عبادة الوثن. وهو ما حدث بالفعل بعدما رأى بنو إسرائيل الفساد المرتبط بالعبادة الوثنية، فكرهوا حتى أن يسمعوا عنها، وفطمهم اختبارهم المؤلم في بابل فطاماً نهائياً من عبادة الوثن. ويسمح الرب بأن يسقينا كأساً مراً ليبعدنا عما هو أسوأ، ويبدد مباهجنا الأرضية لكي لا يحرمنا من بركات أبدية.
ثانياً – ذكريات أورشليم
(آيات 4-6)
1 – الترنيم في أورشليم: »كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟» (آية 4). يذكر المرنم جوقة الترنيم العظيمة التي طالما سبحت الرب بمزامير داود في هيكل سليمان، فملأت قلوب العابدين خشوعاً وشكراً لله. فلما طُلب من اليهود أن يرنموا ترنيمة صهيون في الأرض الغريبة استنكروا الطلب أن يرتلوا بعيداً عن أورشليم، لأنهم اعتبروا هذا العمل خيانة لديانتهم وبلدهم، لأن تراتيل الرب كانت مرتبطة عندهم بالمكان المقدس الجليل.
ويقول بعض الناس اليوم: «كيف نرنم؟» لأسباب غير السبب الذي ذكره المرنم، فالبعض لا يرنم لأنه مشغول بالأمور المادية، والبعض الآخر يخجل أن يرنم خارج مكان العبادة. أما التقي فيشترك مع بولس وسيلا في الترنيم والصلاة حتى لو كان في السجن الداخلي (أع 16: 24، 25)، ويقول: «أغني للرب في حياتي. أرنم لإلهي ما دمت موجوداً، فيلذ له نشيدي، وأنا أفرح بالرب» (مز 104: 33، 34). وهذا ما فعله زنوج أمريكا الذين خطفهم تجار العبيد من أفريقيا وباعوهم ليؤدوا أقسى الأعمال وأصعبها، فوجدوا تعزياتهم في الرب، وكتبوا ترانيم روحية عميقة المعاني معروفة باسم «ترانيم الزنوج الروحية» تُرجم بعضها إلى العربية، مثل ترنيمة «نحن نرقى سلم يعقوب». فكانوا في آلامهم يرون السلم المنصوبة في الأرض ورأسها يمس السماء وملائكة الله صاعدة ونازلة عليها (تك 28: 12)، وكأنهم يقولون: «لأننا بالرجاء خلصنا. ولكن الرجاء المنظور ليس رجاءً. لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً؟ ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر» (رو 8: 24، 25). وكما رنم زنوج أمريكا في أقسى الظروف يرنم كل من اختبر خلاص المسيح «أعلى أحد بينكم مشقات؟ فليصلِّ. أمسرورٌ أحد؟ فليرتل» (يع 5: 13) في كل مكان، لأن كل الأرض أرض الرب، وكل مكان نرنم فيه يصبح هيكلاً مقدساً له. ويعيش المؤمن بالمسيح اليوم وسط مجتمع معادٍ مقاوم معاند، فإن طُلب منه أن يرنم ترنيمة الرب سيرنمها دون أن يفقد سلامه الثابت، لأنه مؤسس على الصخر. فرنِّم للرب، وجاوب كل من يسألك عن سبب الرجاء الذي فيك (1بط 3: 15).
2 – أورشليم التي لا تُنسى: «إنْ نسيتُك يا أورشليم تنسى يميني. ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك. إن لم أفضِّل أورشليم على أعظم فرحي» (آيتا 5، 6). لأورشليم مكانة خاصة في قلب بني إسرائيل، لأنها حصن داود ومكان إقامة تابوت العهد، وموضع تقديم الذبائح، فلا يمكن لمؤمن تقي أن ينساها، لأنه لو نسيها ينسى غفران الله ورحمته ومواعيده ومحبته، ولا يرى إلا غضب الله وعقابه. ومعنى قول المرنم هنا أنه إن نسي أورشليم فلتعجز يمينه وليُصِبها الشلل، فلا يستطيع أن يزرع أو يحصد، ويصبح في عوز وفاقة. وليعجز عن حمل العود للعزف والغناء، وليُصِبه الخرس فيتوقَّف عن التسبيح والشدو، فيصيبه الحزن والكمد. ويقول إن هذه الكوارث في يمينه ولسانه ستصيبه إن لم يعطِ أورشليم الأولوية في حياته ويفضِّلها على أعظم أفراحه. ولا بد أنه كان يذكر قول الرب: «لأن شعبي قد نسيني. بخروا للباطل، وقد أعثروهم في طرقهم، في السبل القديمة، ليسلكوا في شُعب، في طريقٍ غير مُسهَّل» (إر 18: 15).
وعندما ينسى المؤمن بيت الرب وتعظيمه، سواء في السلوك أو الكلام يتعرض لآلام جسدية وفكرية وروحية نتيجة الإحساس بالذنب. فكيف ننسى نحن اليوم علية العشاء الرباني، وبستان جثسيماني، وتلَّة الجلجثة، وصليب الفداء والخلاص، والقبر الفارغ، ويوم الخمسين؟ وكل مؤمن تقي لا ينسى ربَّه وعبادته يسمعه يقول: «لأنه تعلق بي أنجيه. أرفِّعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الضيق أنقذه وأمجِّده. من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي» (مز 91: 14-16).

ثالثاً – عقاب العدو
(آيات 7-9)
1 – عقاب الشامتين: «اذكُر يا رب لبني أدوم يوم أورشليم، القائلين: هدوا هدوا حتى إلى أساسها» (آية 7). أدوم هم نسل عيسو أخي يعقوب وأولاد عم بنى إسرائيل، وهم في الوقت نفسه جيرانهم. وبالرغم من القرابة الجسدية والجغرافية كانوا دائماً يظهرون لبني إسرائيل الكراهية البالغة، والشماتة في كل كارثة تحل بهم. وعندما «انهالت حجارة القدس في رأس كل شارع» (مرا 4: 1) حتى بانت أساسات أسوار أورشليم وهيكلها صاح الأدوميون: «هدّوا، هدّوا حتى إلى أساسها» فلا تقوم لها قائمة ثانية. لهذا قال الله لهم: «من أجل ظلمك لأخيك يعقوب يغشاك الخزي وتنقرض إلى الأبد.. فإنه قريب يوم الرب على كل الأمم. كما فعلت يُفعَل بك. عملك يرتد على رأسك» (عوبديا 10، 15).
2 – عقاب المخربين: «يا بنت بابل المُخْرَبة، طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا. طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة» (آيتا 8، 9). يتوقع المرنم خراب بابل جزاءً لها على تخريب أورشليم «لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون» (مت 26: 52). ويطوّب من يفعل بها ذلك فيهلكها ويضرب أولادها بالصخرة، ويضرب الصخرة بأولادها، حتى يدمي قلبها ويبلغ ألمها ذروته. ولا شك أن المرنم كان يعاني من جرح غائر، ويطلب المعاملة بالمثل، ويريد أن يرى بعينيه مجازاة الأشرار. ولا شيء يوجع الإنسان قدر آلامه من أجل أبنائه. ولكننا في عهد النعمة، وبروح الصليب، لا نطلب هلاك العدو، بل نطلب له الغفران والتوبة، لأننا لا نكره الخاطئ وإن كنا نكره فعله الخاطئ. ولا نطلب هلاك الخاطئ، بل نطلب انصرافه عن طرقه الرديئة بالتوبة، فنصلي: «اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا» ونسمع الوصية: «لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء.. لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب. فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه، لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه. لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير» (رو 12: 19-21).

مشكلتان في الأمة اليهودية
1 – مشكلة التمايز، ورفض الآخر: فهم اليهود خطأً أن اختيار الله لهم يعني أنهم الشعب المتميز عن غيره من الشعوب والأعلى فوقهم جميعاً. ولم يدركوا أن الهدف من اختيارهم هو تخصيصهم للكرازة لكل الأمم، كما قال الله لهم: «إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب، فإن لي كل الأرض، وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة» (خر 19: 5، 6). ولكنهم لم يفهموا هدف هذا الاختيار، فتعالوا على سائر الشعوب، واحتفظوا بكلمة الله لأنفسهم، فكانوا (مثلاً) لا يعاملون السامريين (يو 4: 9)، ورفضوا أن يشترك معهم غيرهم من الشعوب في بناء هيكل أورشليم (عز 4: 2)، ولم يكونوا الكارزين للعالم. لقد نسوا وصية «تحب قريبك كنفسك» (لا 19: 18) واستبدلوها بقولة «تحب قريبك، وتبغض عدوك» (مت 5: 43).
2 – مشكلة ارتباط العبادة بمكان واحد: هو هيكل أورشليم الذي تُقدَّم فيه وحده الذبيحة، ولو أنه كانت هناك مجامع كثيرة للتعبُّد فقط. وبعد خراب الهيكل توقف تقديم الذبيحة لأن الهيكل لم يعُد موجوداً. وقد عبَّرت السامرية عن هذه الفكرة عندما سألت المسيح: «آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه». فأجابها: «يا امرأة، صدقيني أنه تأتي ساعة، لا في هذا الجبل، ولا في أورشليم تسجدون للآب.. الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا» (يو 4: 20-24).
ونحن نشكر الله الذي أعلن محبته لنا في القول: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). أحب الجميع بلا تمييز بين شعب وشعب، وأمة ولسان «إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح» (رو 3: 23، 24).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّامِنُ وَالثَّلاَثُونَ
لِدَاوُدَ
1 أَحْمَدُكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِي. قُدَّامَ الآلِهَةِ أُرَنِّمُ لَكَ. 2أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ، وَأَحْمَدُ اسْمَكَ عَلَى رَحْمَتِكَ وَحَقِّكَ، لأَنَّكَ قَدْ عَظَّمْتَ كَلِمَتَكَ عَلَى كُلِّ اسْمِكَ. 3فِي يَوْمَ دَعَوْتُكَ أَجَبْتَنِي. شَجَّعْتَنِي قُوَّةً فِي نَفْسِي.
4يَحْمَدُكَ يَا رَبُّ كُلُّ مُلُوكِ الأَرْضِ إِذَا سَمِعُوا كَلِمَاتِ فَمِكَ، 5وَيُرَنِّمُونَ فِي طُرُقِ الرَّبِّ، لأَنَّ مَجْدَ الرَّبِّ عَظِيمٌ، 6لأَنَّ الرَّبَّ عَالٍ وَيَرَى الْمُتَوَاضِعَ، أَمَّا الْمُتَكَبِّرُ فَيَعْرِفُهُ مِنْ بَعِيدٍ. 7إِنْ سَلَكْتُ فِي وَسَطِ الضِّيقِ تُحْيِنِي. عَلَى غَضَبِ أَعْدَائِي تَمُدُّ يَدَكَ، وَتُخَلِّصُنِي يَمِينُكَ. 8الرَّبُّ يُحَامِي عَنِّي. يَا رَبُّ رَحْمَتُكَ إِلَى الأَبَدِ. عَنْ أَعْمَالِ يَدَيْكَ لاَ تَتَخَلَّ.

شجَّعتني
هذا مزمور شكر وإعلان ثقة في الإله الصالح العادل الذي يُحسن إلى شعبه ويردُّ سبيهم، يتحدث فيه المرنم عن فضل الله عليه أمام كل الشعوب، مؤمناً أنه يستجيب صلاة الفرد والشعب، وأنه أمين لمواعيده، الأمر الذي يجعل ملوك الأرض وشعوبهم يؤمنون بالرب ويحمدونه، لأن مجد الرب عظيم، وهو يحامي عن المظلوم ويخلِّص المتضايق.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يحمد الرب (آيات 1-3)
ثانياً – الملوك يحمدون الرب (آيات 4-6)
ثالثاً – المرنم يرجو الرب (آيتا 7، 8)

أولاً – المرنم يحمد الرب
(آيات 1-3)
في هذه الآيات الثلاث يوجِّه المرنم الحديث إلى الله دون أن يذكر اسم الجلالة، لأنه يرى الله بعين الإيمان، فيرفع له تسابيح الحمد والسجود. وفي هذه الآيات الثلاث يصف نفسه، ويصف إلهه:
1 – صفات المرنم:
(أ) غيور: «أحمدك من كل قلبي» (آية 1أ). في غيرته الروحية من كل قلبه يقدم للرب ذبيحة حمد، هي ثمر شفاه معترفة باسمه وفضله، ويفيض قلبه بالعرفان للحي القدوس صاحب الإحسانات التي لا تُعد والعطايا التي لا تُحصى. وكأنه يقول: «ما أكرم أفكارك يا الله عندي! ما أكثر جملتها! إن أُحصها فهي أكثر من الرمل» (مز 139: 17، 18).
(ب) شجاع: «قدام الآلهة أرنم لك» (آية 1ب). والآلهة هنا هم عظماء الأرض وقضاتها، أصحاب السلطة الذين يحكمون بين الناس. أمام هؤلاء يشدو المرنم ترنيماته بغير خوف، عالماً أنه «إن كان الله معنا فمن علينا؟» (رو 8: 31). وفي شجاعة يتمثل بالمسيح الذي «قال له بيلاطس: أما تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أطلقك؟» فأجاب: «لم يكن لك عليَّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق» (يو 19: 10، 11). إنه يقول: «لم أكتم عدلك في وسط قلبي. تكلمتُ بأمانتك وبخلاصك. لم أُخْفِ رحمتك وحقك عن الجماعة العظيمة» (مز 40: 10). فقد قال المسيح: «كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله. ومن أنكرني قدام الناس يُنكر قدام ملائكة الله» (لو 12: 8، 9).
(ج) متعبِّد: «أسجد في هيكل قدسك» (آية 2أ). تنحني ركبتا الملك داود في حضرة الملك السماوي، وينحني قلبه في هيكل إلهه في خشية ورهبة لصاحب المُلك الدائم، فقد أخذه من وراء الغنم ونصَّبه ملكاً وثبَّت مملكته وأخضع له شعبه، فلم يجد أفضل من هيكل الرب المقدس يسجد فيه لربِّه في أُنسٍ ومحبة، وهو يقول: «ما أحلى مساكنك يا رب الجنود! تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب. قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي» (مز 84: 1، 2) ثم يدعو الجميع: «هلمَّ نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا، لأنه هو إلهنا، ونحن شعب مرعاه وغنم يده» (مز 95: 6، 7).
‎2 – صفات الله:
(أ) الله رحيم: «أحمد اسمك على رحمتك» (آية 2أ). يحمل الاسم كل صفات الشخص. ويعلن اسم الرب عن صفاته وجلاله وسلطانه وقدرته ومحبته الظاهرة في رحمته على الخاطئ الهالك، الذي تنازل المسيح إليه ورفعه من الهاوية وأحسن إليه وغفر له، ولم يعُد يحسب عليه خطاياه، بل أبعد عنه معاصيه كبُعد المشرق من المغرب، فقال: «حسنٌ هو الحمد للرب والترنم لاسمك أيها العلي. أن يُخبَر برحمتك في الغداة وبأمانتك كل ليلة» (مز 92: 1، 2).
(ب) الله عادل: «أحمد اسمك على.. حقك» (آية 2أ). الرب أمين وحق وعادل. عندما ظلم الناس المرنم سمع ربُّه شكواه وأنصفه. وعندما أهمله الآخرون ذكره ربُّه وشجعه. وعندما لم يعطوه حقه كافأه جهاراً، لأنه عمل بالنصيحة القائلة: «سلِّم للرب طريقك واتكل عليه وهو يُجري. ويُخرج مثل النور برك وحقك مثل الظهيرة» (مز 37: 5، 6). «هو الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبله عدل. إله أمانة، لا جور فيه. صدِّيقٌ وعادلٌ هو» (تث 32: 4).
(ج) الله عظيم: «لأنك قد عظَّمت كلمتك على كل اسمك» (آية 2ب). يمكن أن تُترجم هذه الآية «لأنك قد عظَّمت كلمتك. اسمُك فوق كل شيء». ويمكن ترجمتها كما جاءت في ترجمتنا، فيكون معناها «تحقيق وعودك يا رب فاق كل ما سبق أن أعلنته عن نفسك.. أعمالك الخلاصية سمت فوق كل توقُّعاتنا التي انتظرناها ونحن نتأمل الصفات التي أعلنها اسمُك». إن «قدرته الإلهية قد وهبت لنا ما هو للحياة والتقوى، بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة، اللذين بهما (بالمجد والفضيلة) قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة» (2بط 1: 3، 4). «والقادر أن يفعل فوق كل شيء، أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر، بحسب القوة التي تعمل فينا. له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع، إلى جميع أجيال دهر الدهور» (أف 3: 20، 21).
و«كلمة الله الحي» هو المسيح الذي أعلن لنا بر الله وكمالاته، وقد عظُم اسمه فوق كل اسم، فتنحني له كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض.
(د) الله مجيب: «في يوم دعوتك أجبتني. شجعتني قوة في نفسي» (آية 3). اختبر المرنم وذاق صلاح الرب، فكانت لديه خبرة الماضي وثقة الحاضر ورجاء المستقبل. لقد دعا الرب فسمعه وأجابه ولم يخذله، فهو المبادر بالقول: «ادعُني في يوم الضيق أنقذك فتمجدني» (مز 50: 15). «ويكون أني قبلما يدعون أنا أجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع» (إش 65: 24). وقد نظن أحياناً أنه لا يسمعنا، فنناديه: «إلى متى تنساني كل النسيان؟ إلى متى تحجب وجهك عني؟» (مز 13: 1) «إليك يا رب أصرخ. يا صخرتي، لا تتصامم من جهتي» (مز 28: 1). ولكن الرب يصغي ويسمع ويُكتَب أمامه سفر تذكرة للذين اتقوه وفكروا في اسمه (ملا 3: 16). «فإنه ينصفهم سريعاً» (لو 18: 8).
سمع الله المرنم فقال: «شجعتني قوة في نفسي». وهي قوة نفسية مستمدة من استجابة الدعاء، ومن قوة الروح القدس التي تطرد الضعف والتخاذل، فهو روح القوة والمحبة والنصح (2تي 1: 7). إنها القوة المشجعة التي خرجت من المسيح فشفت نازفة الدم (لو 8: 43-48)، وهي القوة التي شجعت بولس عندما صلى ثلاث مرات ليرفع الرب عنه شوكة جسده، فأجابه: «تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تُكمَل» (2كو 12: 9).

ثانياً – الملوك يحمدون الرب
(آيات 4-6)
1 – الملوك يرنمون: «يحمدك يا رب كل ملوك الأرض إذا سمعوا كلمات فمك. يرنمون في طرق الرب لأن مجد الرب عظيم» (آيتا 4، 5). انطلق لسان المرنم يعبِّر عما فاض به قلبه، وأعلن كم صنع الرب به ورحمه، وكأنه يهتف مع إرميا: «لا مثل لك يا رب! عظيم أنت وعظيم اسمك في الجبروت. من لا يخافك يا ملك الشعوب؟ لأنه في جميع حكماء الشعوب وفي ممالكهم ليس مثلك» (إر 10: 6، 7). وسمع ملوك الأرض هتافه، ورأوا مجد الرب العظيم في ما أجراه معه، فآمنوا ورنموا لمجد الرب العظيم، كما آمن الملك داريوس الفارسي الوثني بإله دانيال بعد أن رآه ينجيه من الأسود الجائعة، فقال: «مِن قِبَلي صدر أمرٌ بأنه في كل سلطان مملكتي يرتعدون ويخافون قدام إله دانيال، لأنه هو الإله الحي القيوم إلى الأبد، وملكوته لن يزول وسلطانه إلى المنتهى. هو ينجي وينقذ ويعمل الآيات والعجائب في السموات وفي الأرض. هو الذي نجى دانيال من جب الأسود» (دا 6: 25-27). «الإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله» (رو 10: 17) ولكن «كيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟» (رو 10: 14). وكان داود هو ذلك الكارز، الذي فعل ما فعله إشعياء عندما سمع الرب يسأل: «من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟» فأجاب: «هأنذا أرسلني» (إش 6: 8). وسمع عظماء الأرض فرنموا للإله العظيم المجيد في القدرة والقوة، الذي اختارهم وأقامهم رؤساء لشعوبهم، ليسلكوا في طرقه المستقيمة، وليحكموا بالعدل، فيكافئهم ببركاته وتأييده ونصره، ويثبت ملكهم ويعطيهم أزمنة سلام ورخاء، فيُرى عليهم مجده.
2- الملوك يخضعون: «الرب عالٍ ويرى المتواضع، أما المتكبر فيعرفه من بعيد» (آية 6). الرب عالٍ في قداسته، وقدرته، ومحبته، وعطاياه. وهو عالٍ في مكانته في قلوب عابديه. وهو على علوه يرى الكون ومن فيه، ويعرف خفايا القلوب فيكافئ المتواضع الذي يقبل كلمة الرب ويحفظها في قلبه، ويسلك في نورها، فتصير سراجاً لرجله ونوراً لسبيله (مز 119: 105)، وتكون ناراً تسيِّج حوله لتحميه. إنه يشبه المسيح في تواضعه إذ أخلى نفسه وأخذ صورة عبد، ووُلد في مذود، ووضع نفسه حتى الموت، موت الصليب، فرفعه وأعطاه اسماً فوق كل اسم. ويشبه العذراء مريم في تواضعها وهي تقبل بشارة الملاك لها، وتحفظ كلام الرب متفكرة به في قلبها، قائلة: «هوذا أنا أمة الرب.. تعظِّم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر إلى اتضاع أمته.. لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس» (لو 1: 38 و46-48).
ومع أن الرب عالٍ يحمده كل ملوك الأرض، إلا أننا نجد من يرفض الخضوع له بسبب كبريائه. والرب يعرف المتكبر من بعيد فلا تخفى كبرياؤه، ويقول عنه: «مستكبر العين ومنتفخ القلب لا أحتمله» (مز 101: 5). «كما أنه يستهزئ بالمستهزئين، هكذا يعطي نعمة للمتواضعين» (أم 3: 34). «يقاوم الله المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة» (يع 4: 6). وما أجمل أن نسمع النصيحة الرسولية: «تسربلوا بالتواضع لأن الله يقاوم المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة» (1بط 5: 5) «لأنه هكذا قال العلي المرتفع، ساكن الأبد، القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأحيي روح المتواضعين ولأحيي قلب المنسحقين» (إش 57: 15).

ثالثاً – المرنم يدجو الرب
(آيتا 7، 8)
اختبر المرنم عناية الرب ومعونته في الماضي، واختبر استمرار البركة في حاضره، فامتلأ قلبه بالرجاء واليقين في المستقبل، فأعلن ثقته في العون الآتي من نبع المحبة الذي لا ينضب وفيض الرحمة الذي لا ينتهي.
1- رجاء في الحياة: إن سلكتُ في وسط الضيق تُحيني» (آية 7أ). قال المسيح: «قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، لكن ثقوا. أنا قد غلبتُ العالم» (يو 16: 33). وقال داود: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء.. أيضاً إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معي. عصاك وعكازك هما يعزيانني» (مز 23: 1، 4) ومن هذا يتضح أن المؤمن يثق أنه إن تضايق فضيقه مؤقت لا يستمر. إنه فقط يسلك فيه، ولا بد أن الله سيخرجه منه إلى الرحب والسعة، ويحيي نفسه وآماله، فيرد نفسه ويهديه إلى سبل البر من أجل اسمه (مز 23: 3) فيقول: «أنت الذي أريتنا ضيقات كثيرة ورديئة، فتعود تحيينا، ومن أعماق الأرض تعود فتصعدنا» (مز 71: 20) وينعش الرب المؤمن كما أنعش يوناثان الجائع بشهد العسل فاستنارت عيناه (1صم 14: 27).
2- رجاء في النجاة: «على غضب أعدائي تمدُّ يدك، وتخلِّصني يمينك» (آية 7ب). غضب العدو قاسٍ كنار مشتعلة تدمر، وكهوَّة سحيقة تبتلع. لكن يد الرب الفاعلة تمتد بالخلاص، كما قال موسى لشعبه: «اذكر أنك كنت عبداً في أرض مصر، فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة» (تث 5: 15). حقاً «لولا الرب الذي كان لنا عندما قم الناس علينا، إذاً لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا» (مز 124: 2، 3). وهذه اليد الممتدة ضد العدو هي نفسها اليد المنقذة الحانية التي حررت بني إسرائيل من ذل مسخريهم في مصر، وقادتهم أربعين سنة في القفر حتى أبلغتهم الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً.
3- رجاء في الحماية: «الرب يحامي عني» (آية 8أ). توكل المرنم بكل قلبه على الرب ولم يعتمد على قوته (أم 3: 5) وامتلأت نفسه بالثقة أن حياته آمنة في يد الرب القديرة الحامية التي تدافع عنه، فلم يعُد يخاف حتى لو نزل عليه جيش، ولو قامت عليه حرب (مز 27: 3). إنه مطمئن لأن الرب ألبسه السلاح الكامل، وأعطاه سيف الروح الذي هو كلمة الله، فثبت ضد مكايد إبليس (أف 6: 11). فلم يعُد «يخشى من خوف الليل، ولا من سهم يطير في النهار، ولا من وبإ يسلك في الدجى، ولا من هلاك يفسد في الظهيرة» (مز 91: 5، 6).
4- رجاء في الصُّحبة: «يا رب، رحمتك إلى الأبد. عن أعمال يديك لا تتخلَّ» (آية 8ب). يختم المرنم مزموره بالأمل في صحبة الرب له بلا نهاية، فهو معه كل الأيام إلى انقضاء الدهر (مت 28: 20). وعندما ينتهي هذا الدهر يبدأ الدهر الآتي في الحضرة الربانية. والذي بدأ في المؤمن عملاً صالحاً يكمله إلى يوم يسوع المسيح (في 1: 6). ولا يتخلى الرب عن الذين هم له، لأنهم عمل يديه الواثقون في رحمته الأبدية التي لا تهملهم ولا تتركهم. إن اختبارهم يقول: «كنتُ فتى وقد شخت. ولم أرَ صدّيقاً تُخلّي عنه، ولا ذرية له تلتمس خبزاً» (مز 37: 25).
«يا رب، رحمتك إلى الأبد»

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالتَّاسِعُ وَالثَّلاَثُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ
1 يَا رَبُّ قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. 2أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. 3مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. 4لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا. 5مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ. 6عَجِيبَةٌ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ فَوْقِي. ارْتَفَعَتْ لاَ أَسْتَطِيعُهَا. 7أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ 8إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. 9إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْرِ، 10فَهُنَاكَ أَيْضاً تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ. 11فَقُلْتُ: «إِنَّمَا الظُّلْمَةُ تَغْشَانِي». فَاللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! 12الظُّلْمَةُ أَيْضاً لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَاللَّيْلُ مِثْلَ النَّهَارِ يُضِيءُ. كَالظُّلْمَةِ هَكَذَا النُّورُ.
13لأَنَّكَ أَنْتَ اقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. 14أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَباً. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذَلِكَ يَقِيناً. 15لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي الْخَفَاءِ، وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ الأَرْضِ. 16رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا. 17مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا اللهُ عِنْدِي! مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا! 18إِنْ أُحْصِهَا فَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ الرَّمْلِ. اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكَ. 19لَيْتَكَ تَقْتُلُ الأَشْرَارَ يَا اللهُ. فَيَا رِجَالَ الدِّمَاءِ، ابْعُدُوا عَنِّي. 20الَّذِينَ يُكَلِّمُونَكَ بِالْمَكْرِ نَاطِقِينَ بِالْكَذِبِ هُمْ أَعْدَاؤُكَ. 21أَلاَ أُبْغِضُ مُبْغِضِيكَ يَا رَبُّ، وَأَمْقُتُ مُقَاوِمِيكَ. 22بُغْضاً تَامّاً أَبْغَضْتُهُمْ. صَارُوا لِي أَعْدَاءً. 23اخْتَبِرْنِي يَا اللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. 24وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً.

الكمال الإلهي
في هذا المزمور يسبح المرنم الرب الكلي الكمال، العليم بكل شيء، الحاضر في كل مكان، القدوس المنزَّه عن كل خطأ. وهو لا يعالج هذه المواضيع بطريقة فقهية عقلية، بل بأسلوب شخصي يعلن علاقة المرنم القريبة الحميمة بربِّه، فيقول في بداية المزمور إن الله اختبره وعرفه (آية 1)، ويطالب ربَّه في نهاية المزمور أن يختبره ويعرفه (آيتا 23، 24)، فتنفتح عيناه ليرى أي خطإٍ فيه فيبتعد عنه، لأن «السهوات من يشعر بها. من الخطايا المستترة أبَرئني.. لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مَرْضيَّة أمامك يا رب، صخرتي ووليّي» (مز 19: 12، 14).
والمؤمن الذي يحب الله يحب أن يرى الله بعين الإيمان في كل وقت، كما يحب أن الله يراه دائماً، فهو يدرك أن عين الله عليه مثل عين أم على طفلها. وقد يتجرَّب التقي أن يهرب من أبيه، لكنه سرعان ما يتذكر أن لا حياة له بدون أبيه، وأنه بدون أبيه لا يقدر أن يفعل شيئاً.
ويخاطب هذا المزمور كل إنسان بعيد عن الله ليقول له إنه لا يمكن أن يهرب من مراقبة الله الحاضر في كل مكان، والعارف بكل أمر، وينصحه بالتوبة التي هي القرار الحكيم. كما أن المزمور يخاطب التقي ويشجعه على حياة تقوى أعمق.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الله كامل المعرفة (آيات 1-6)
ثانياً – الله كامل الحضور (آيات 7-12)
ثالثاً – الله كامل الحكمة (آيات 13-18)
رابعاً – الله كامل القداسة (آيات 19-24)

أولاً – الله كامل المعرفة
(آيات 1-6)
1 – يعرف الماضي والحاضر: «يا ربُّ، قد اختبرتَني وعرفتَني» (آية 1). عرف الرب ويعرف كل شيء في حياة المرنم الروحية والنفسية والعاطفية والمادية، فهو القائل: «أنا الرب فاحص القلب، مختبر الكلى، لأعطي كل واحد حسب طرقه، حسب ثمر أعماله» (إر 17: 10). فقال له: «جرَّبتَ قلبي. تعهَّدتَه ليلاً. محَّصْتَني» (مز 17: 3). إنه يعرف الإنسان كله معرفة كاملة. يعرف شخصه وفكره وقوله وعمله معرفةً مسبَّقةً كاملة. وهذه المعرفة تُخجل المتكبِّر بعِلمه، وتحذِّر الخاطئ من التمادي في خطئه، وتجعل التقيَّ يحترس من ارتكاب العصيان. كما أن هذه المعرفة تُدخِل الطمأنينة إلى قلوب أعضاء ملكوت الله لأن ملكهم كامل المعرفة. وهي تطمئن المصلي «لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه» (مت 6: 8).
2 – يعرف السكون والحركة: «أنت عرفت جلوسي وقيامي. فهمتَ فكري من بعيد. مسلكي ومربضي ذَرَّيْتَ، وكلَّ طُرقي عرفتَ» (آيتا 2، 3). يعرف الرب كل سكون المرنم «جلوسي» كما يعرف كل تحرُّكاته «قيامي». وهو في سماواته يعرف كل ما يجول بفكر المرنم وكل ما ينويه. إنه يعرف سَفَره «مسلكي» ومحل إقامته «مربضي» وقد ذرّاه وعرف كل ما فيه كما تذرّي المذراة المحصول فتفصل القمح من التبن. إنه يعرف «كل طرقي» أي كل التحرُّكات.
3 – يعرف الخفيّات: «لأنه ليس كلمةٌ في لساني إلا وأنت يا ربُّ عرفتَها كلَّها. مِن خلفٍ ومِن قدامٍ حاصرتَني، وجعلتَ عليَّ يدَك» (آيتا 4، 5). والكلمة بعد على طرف لسان المرنم يعرفها الرب. إنه يعرف الكلمة التي نُطقت والتي ستُنطَق، ويعرف البواعث على النطق بها والمعاني الكامنة وراءها والقصد منها. إنه قريبٌ من الإنسان، يحاصره من كل جهة مثل أبٍ يثبِّت نظره على صغيره، فيصير الإنسان كمدينة يحاصرها قائد حتى تستسلم له، فيستولي عليها و«يجعل يده عليها». وسيصل التقي إلى قمة السعادة عندما يسلم وجهه لله.
4 – معرفته مذهلة: «عجيبةٌ هذه المعرفةُ فوقي. ارتفعَتْ لا أستطيعُها» (آية 6). ويقف المرنم مذهولاً مندهشاً متعجباً من هذه المعرفة المطلقة. «يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء! لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً؟ أو من سبق فأعطاه فيُكافأ؟ لأنَّ منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى الأبد. آمين» (رو 11: 33-36).

ثانياً – الله كامل الحضور
(آيات 7-12)
1 – حاضر في كل مكان: «أين أذهبُ مِن روحِك، ومِن وجهِك أين أهرب؟ إن صعدتُ إلى السماوات فأنت هناك، وإن فرشتُ في الهاوية فها أنت. إن أخذتُ جناحيِ الصُّبح وسكنتُ في أقاصي البحر فهناك أيضاً تهديني يدُك وتمسكُني يمينُك» (آيات 7-10). روحه القدوس ووجهه ذو الجلال حاضران في كل مكان. إنه ساكن السماء الذي لا يختفي عن عينيه شيء مما على الأرض وما تحت الأرض، ولا يمكن أن يهرب منه إنسان. قال: «إذا اختبأ إنسان في أماكن مستترة، أفما أراه أنا؟ يقول الرب. أما أملأ أنا السماوات والأرض؟ يقول الرب» (إر 23: 24). وقال عن شعبه الخاطئ: «إن نقبوا إلى الهاوية فمِن هناك تأخذهم يدي، وإن صعدوا إلى السماء فمِن هناك أُنزلهم، وإن اختبأوا في رأس الكرمل فمن هناك أفتِّش وآخذهم، وإن اختفوا من أمام عينيّ في قعر البحر فمن هناك آمر الحيّة فتلدغهم» (عا 9: 2، 3).. ويقول المرنم إنه إن أخذ «جناحي الصُّبح» وجرى بسرعة الضوء من الشرق إلى الغرب، فإن يد الله ستكون هناك هاديةً له، فإن الله «يهفُّ على أجنحة الريح» (مز 18: 10) ويرسل شفاءه على أجنحة الشمس (ملا 4: 2). وإن سكن المرنم في «أقاصي البحر» الأبيض المتوسط، في الجزر البعيدة، فإن يمين الله ستطوله هناك وتمسك به.
ويتمتع الأتقياء بوعد المسيح: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20). فيقولون: «فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا» (رو 8: 38، 39).
2 – يرى كل شيء: «فقلتُ: «إنما الظلمة تغشاني». فالليلُ يضيءُ حولي! الظلمة أيضاً لا تظلمُ لديك، والليلُ مثل النهار يضيء. كالظلمةِ هكذا النور!» (آيتا 11، 12). تخترق عينا الله أستار الظلام «وليس خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا» (عب 4: 13). «لأن عينيه على طرق الإنسان، وهو يرى كل خطواته» (أي 34: 21). قال له النبي: «عظيمٌ في المشورة وقادر في العمل، الذي عيناك مفتوحتان على كل طرق بني آدم لتعطي كل واحد حسب طرقه وحسب ثمر أعماله» (إر 32: 19). حقاً «الله نور، وليس فيه ظلمة البتَّة» (1يو 1: 5) وهو ساكن في نور لا يُدنى منه (1تي 6: 16) والمسيح هو النور الحقيقي (يو 1: 9) وهو نور العالم (يو 8: 12)، وحضوره فعال منير تدركه النفس التقية، وتهرب منه النفس الآثمة، فيصدق قول المسيح: «وهذه هي الدينونة: أن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة. لأن كل من يعمل السيّآت يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا تُوبَّخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيُقبل إلى النور لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة» (يو 3: 19-21).

ثالثاً – الله كامل الحكمة
(آيات 13-18)
1 – حكمته في الخَلْق: «لأنك أنت اقتنيت كُلْيتيَّ. نسجتَني في بطن أمي. أحمدُك من أجل أني قد امتزتُ عجَباً. عجيبةٌ هي أعمالُك، ونفسي تعرفُ ذلك يقيناً» (آيتا 13، 14). اقتنى الرب كليتي المرنم بمعنى أنه ملك مشاعره كلها وعرفها . لقد خلقه بحكمة وإبداع جسداً ونفساً وروحاً، و«نسجه» جنيناً في رحم أمه من ألوان وأشكال وأعضاء مختلفة، فعظامه بيضاء ودمه أحمر! وهو يعرف بدء حياته كما يعرف نهايتها ومصيرها الأبدي. قال له أيوب: «يداك كوّنتاني وصنعتاني كلي جميعاً.. اذكُرْ أنك جبلتَني كالطين.. ألم تصبّني كاللبن وخثّرتني كالجبن؟ كسوتني جلداً ولحماً، فنسجتَني بعظامٍ وعصب. منحتني حياةً ورحمة، وحفظَتْ عنايتُك روحي» (أي 10: 8-12). وفي انذهالٍ يتأمل خلْق الله العجيب، الذي لا يعرف كيف خُلق، ولكنه يعرف أن حكمة الله واضحة من وراء الخَلْق.
2 – حكمته في التخطيط: «لم تختفِ عنك عظامي حينما صُنِعْتُ في الخفاء ورُقِمْتُ في أعماقِ الأرض. رأت عيناك أعضائي، وفي سِفرِكَ كلُّها كُتِبَتْ يومَ تصوَّرْتُ، إذ لم يكن واحدٌ منها» (آيتا 15، 16). حين تكوَّنت عظام المرنم كجنين في رحم أمه كان هيكله العظمي معروفاً عند الله. وعندما رُقِم (أي أُبدِع في الرحم المظلم غير المنظور، الشبيه بأعماق الأرض المظلمة المجهولة) كان واضحاً في نظر الله. كان كل ما يجري له مكتوباً في سفر الله الذي يخطط لحياة كل إنسان بحسب قصده الصالح وإرادته المقدسة، فقد سجَّل الله عنده ماضي الإنسان وحاضره ومستقبله، ولا بد أن تتحقق خطته بحسب حكمته السامية وقدرته السرمدية، وهو يتولى تنفيذ هذه الخطة تحت إشرافه المباشر. «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10) وهو يقول للتقي: «قبلما صوَّرتك في البطن عرفتُك، وقبلما خرجتَ من الرحم قدستُك. جعلتك نبياً للشعوب» (إر 1: 5). «أعلِّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك» (مز 32: 8).
3 – حكمته مذهلة: «ما أكرمَ أفكارَك يا الله عندي! ما أكثر جُمْلتَها! إن أُحصِها فهي أكثرُ مِن الرَّمل. استيقظتُ وأنا بعدُ معك» (آيتا 17، 18). يتأمل المرنم حكمة الله الفائقة الواضحة في كل نواحي الحياة التي يعرفها والتي يجهلها، فيراها كثيرة جداً! وهو يهتف في انذهال ودهشة وتعجُّبٍ: «ما أكرمَ أفكارَك يا الله!». إنها موضوع تأمله سروره وشكره، لأنها أفكارٌ كبيرة، ومتجدِّدة، وسامية، وعملية، ونافعة، وكريمة سخية. «ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون» (مز 36: 7). «ما أعظم أعمالك يا رب وأعمق جداً أفكارك» (مز 92: 5). ولما كانت هذه الأفكار الإلهية كريمة وكثيرة صارت آخر ما يفكر فيه المرنم قبل أن ينام، وأول ما يشغل باله عندما يستيقظ، فيصحو وهو لا زال ماثلاً في المحضر الإلهي «إذا ذكرتك على فراشي في السُّهد ألهج بك» (مز 63: 6). «ولكني دائماً معك. أمسكتَ بيدي اليمنى» (مز 73: 23).

رابعاً – الله كامل القداسة
(آيات 19-24)
عندما نتأمل كمال معرفة الله وحضوره الدائم في كل مكان، ونعرف أنه كلي الحكمة، نتساءل: كيف يسمح ببقاء الأشرار يرتكبون شرورهم؟ ونسأل مع حبقوق: «لِمَ تريني (يا رب) إثماً وتبصر (أنت يا رب) جوراً، وقدامي اغتصابٌ وظلم، ويحدُث خصام، وترفع المخاصمة نفسها؟» (حب 1: 3). وهنا يجيء الرد على هذه التساؤلات:
1 – القدوس يعاقب الخاطئ: «ليتك تقتلُ الأشرارَ يا الله. فيا رجالَ الدماءِ ابعُدوا عني. الذين يكلِّمونك بالمكر ناطقين بالكذب هم أعداؤك» (آيتا 19، 20). رأى المرنم الشر متجسِّداً في أولئك الأشرار، فطلب قتلهم ليتوقف الشر، ومن قَبله تساءل أيوب: «لماذا تحيا الأشرار ويشيخون، نعم ويتجبّرون قوةً؟ نسلهم قائمٌ أمامهم معهم، وذرّيتهم في أعينهم. بيوتهم آمنة من الخوف، وليس عليهم عصا الله.. يحملون الدف والعود ويطربون بصوت المزمار. يقضون أيامهم بالخير». ثم قال: «في لحظة يهبطون إلى الهاوية» (أي 21: 7-9، 12، 13).
ويطلب المرنم من الأشرار أن يبتعدوا عنه حتى لا يضطهدوه، وليتفادى الاشتراك في أعمالهم الشريرة فينجو من مصيرهم المحتوم، وكأنه يقول: «انصرفوا عني أيها الأشرار فأحفظ وصايا إلهي» (مز 119: 115). وهو يدعوهم «الأشرار» أي الذين تعدّوا الحدَّ الذي رسمه الله لهم، ويدعوهم «رجال الدماء» لأنهم يسفكون دماء المساكين، ويدعوهم «المتكلّمين بالمكر والناطقين بالكذب» ويدعوهم «أعداء الله». فلا غرابة أن يوقع الله بهم عقابه.
ونحن اليوم لا ندعو الله أن يقتل الأشرار، بل أن يتوِّبهم فيتوقَّفون عن ارتكاب شرورهم، فتفرح السماء بخاطئ واحد يتوب (لو 15: 7). وندعوهم بدعوة المسيح: «إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون» (لو 13: 3، 5).
2 – القدوس يخصِّص المؤمن: «ألا أُبغضُ مبغضيك يا ربُّ، وأمقت مقاوميك. بُغضاً تاماً أبغضتهم. صاروا لي أعداء» (آيتا 21، 22). رأى المرنم في مبغضي الرب ومقاوميه أعداء للرب ومقاومين لملكوته. ولما كان هو مِلكاً للرب وعضواً في ملكوته فقد أعلن انتماءه للرب وخصَّص نفسه للقضايا المقدسة، وأعطى كل اهتمامه لمجد الرب وللتمسُّك بالعهد معه، وجعل شعاره: «المتقلّبين أبغضتُ وشريعتك أحببتُ.. رأيت الغادرين ومقتُّ لأنهم لم يحفظوا كلمتك» (مز 119: 113، 158).
3 – القدوس يطهر المؤمن: «اختبِرني يا الله واعرِفْ قلبي. امتحِنّي واعرفْ أفكاري، وانظُر إن كان فيَّ طريقٌ باطلٌ، واهدِني طريقاً أبدياً» (آيتا 23، 24). يختم المرنم مزموره بطلبة مُخْلصة أن يعلن الرب له أي عصيانٍ كامن في قلبه أو فكره ليهجره، ويسأل الهداية بعيداً عن الطريق الباطل ليسلك الطريق الأبدي، طريق الحياة الأبدية (مز 16: 11) وسبيل البر (مز 23: 3) والسلام (إش 59: 8). إنه يطلب الامتحان الإلهي الذي لا مفرَّ منه، ويسأل الإرشاد عازماً على ألاّ يحيد عنه.
وصلاة طلب التطهير هذه ترغب في التحرُّر من الشر، وهي صلاة شُجاعة مستعدة لتغيير ما يشير الله إليه في العقل الباطن قبل الواعي ويعلن أنه واجب التغيير. والتغيير مكلِّف دوماً. إنه يكلف هجر علاقة دنسة، أو ترك معاشرة رديَّة أو التخلص من كتاب باطل، أو التوبة عن مشاعر سلبية. وثمن هذا الفحص الإلهي هو التوبة عن كل ما يناقض التقوى والإيمان العملي، والتنازل عن الكبرياء، والسعي وراء ما يكلف الله النفس به. إنه الطريق إلى الحياة الفُضلى على أرضنا والحياة الأبدية في محضر الله. إنه طريق من يسمع النصيحة الحكيمة القديمة: «قفوا على الطريق وانظروا، واسألوا عن السُّبل القديمة: أين هو الطريق الصالح؟ وسيروا فيه، فتجدوا راحةً لنفوسكم» (إر 16: 6).
تعالوا نطلب هذا الاختبار الإلهي، ونخضع لكل توجيه سماوي.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالأَرْبَعُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1 أَنْقِذْنِي يَا رَبُّ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ. مِنْ رَجُلِ الظُّلْمِ احْفَظْنِي. 2الَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ بِشُرُورٍ فِي قُلُوبِهِمْ. الْيَوْمَ كُلَّهُ يَجْتَمِعُونَ لِلْقِتَالِ. 3سَنُّوا أَلْسِنَتَهُمْ كَحَيَّةٍ. حُمَةُ الأُفْعُوانِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. سِلاَهْ. 4احْفَظْنِي يَا رَبُّ مِنْ يَدَيِ الشِّرِّيرِ. مِنْ رَجُلِ الظُّلْمِ أَنْقِذْنِي. الَّذِينَ تَفَكَّرُوا فِي تَعْثِيرِ خُطُواتِي. 5أَخْفَى لِي الْمُسْتَكْبِرُونَ فَخّاً وَحِبَالاً. مَدُّوا شَبَكَةً بِجَانِبِ الطَّرِيقِ. وَضَعُوا لِي أَشْرَاكاً. سِلاَهْ.
6قُلْتُ لِلرَّبِّ: «أَنْتَ إِلَهِي. أَصْغِ يَا رَبُّ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي. 7يَا رَبُّ السَّيِّدُ، قُوَّةَ خَلاَصِي، ظَلَّلْتَ رَأْسِي فِي يَوْمِ الْقِتَالِ. 8لاَ تُعْطِ يَا رَبُّ شَهَوَاتِ الشِّرِّيرِ. لاَ تُنَجِّحْ مَقَاصِدَهُ. يَتَرَفَّعُونَ. سِلاَهْ. 9أَمَّا رُؤُوسُ الْمُحِيطِينَ بِي فَشَقَاءُ شِفَاهِهِمْ يُغَطِّيهِمْ. 10لِيَسْقُطْ عَلَيْهِمْ جَمْرٌ. لِيُسْقَطُوا فِي النَّارِ وَفِي غَمَرَاتٍ، فَلاَ يَقُومُوا. 11رَجُلُ لِسَانٍ لاَ يَثْبُتُ فِي الأَرْضِ. رَجُلُ الظُّلْمِ يَصِيدُهُ الشَّرُّ إِلَى هَلاَكِهِ». 12قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الرَّبَّ يُجْرِي حُكْماً لِلْمَسَاكِينِ وَحَقّاً لِلْبَائِسِينَ. 13إِنَّمَا الصِّدِّيقُونَ يَحْمَدُونَ اسْمَكَ. الْمُسْتَقِيمُونَ يَجْلِسُونَ فِي حَضْرَتِكَ.

أنقذني من أهل الشر
يصوِّر هذا المزمور متاعب مؤمن تقي يحيط به الأعداء ويضطهدونه، ويريدون أن يستميلوه إلى طرقهم الرديئة فيتعثَّر في خطواته الثابتة في طريق الرب. وهو يصرخ طالباً حماية الله وعدالته. واستجاب الرب صلاته فختم مزموره بالإعلان عن طمأنينته.
ويعلمنا هذا المزمور أن هناك حرباً مستمرة بين الخير والشر من خارج الإنسان، كما قال المسيح لأعدائه: «أنتم من أبٍ هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتّالاً للناس من البدء، ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب» (يو 8: 44).. كما أن هناك حرباً تدور دائماً داخل الإنسان «لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون. ولكن إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس» (غلا 5: 17، 18).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – مضايقات أهل الشر (آيات 1-5)
ثانياً – طلب الحماية (آيات 6، 7)
ثالثاً – طلب العدالة (آيات 8-11)
رابعاً – طمأنينة المرنم (آيتا 12، 13)

أولاً – مضايقات أهل الشر
(آيات 1-5)
1 – مضايقات مزعجة: «أَنقِذني يا رب من أهل الشر. من رجل الظلم احفظني» (آية 1). تضايق المرنم من إزعاج جماعة يسمّيهم «أهل الشر» يقودهم رجل يسمّيه «رجل الظلم». ومع أنهم لم يقتلوه لكنهم أزعجوه، فصرخ إلى الرب الذي أنقذه من أيدي كل أعدائه ومن يد شاول، فكلم الرب بكلام هذا النشيد وقال: «الرب صخرتي وحصني ومنقذي. إله صخرتي به أحتمي. ترسي وقرن خلاصي. ملجإي ومناصي. مخلّصي. من الظلم تخلصني. أدعو الرب الحميد فأتخلّص من أعدائي.. الذي يخرجني من بين أعدائي، ويرفعني فوق القائمين عليَّ، وينقذني من رجل الظلم» (2صم 22: 1-4، 49).
2 – مضايقات قتالية: «الذين يتفكرون بشرور في قلوبهم. اليوم كله يجتمعون للقتال» (آية 2). تآمر أعداء المرنم عليه واجتمعوا لمقاتلته. ويقول المسيح عن مثل هؤلاء الأشرار المحاربين العازمين على شرهم والمستمرين فيه: «إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم. اذكروا الكلام الذي قلته لكم: ليس عبد أعظم من سيده. إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم، وإن كانوا قد حفظوا كلامي فسيحفظون كلامكم. لكنهم إنما يفعلون بكم هذا كله من أجل اسمي لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني» (يو 15: 18-21).
3 – مضايقات كلامية: «سنوا ألسنتهم كحية. حُمة الأفعوان تحت شفاههم» (آية 3). اقتبس الرسول بولس هذه الآية وكتب: «حنجرتهم قبر مفتوح. بألسنتهم قد مكروا. سمّ الأصلال تحت شفاههم» (رو 3: 13). ووصف المرنمون المضايقات الكلامية بقولهم: «فمه مملوء لعنة وغشاً وظلماً. تحت لسانه مشقَّة وإثم» (مز 10: 7). «لسانك يخترع مفاسد، كموسى مسنونة يعمل بالغش» (مز 52: 2). «أسنانهم أسنّة وسهام، ولسانهم سيفٌ ماضٍ» (مز 57: 4)، «سيوف في شفاههم» (مز 59: 7). «الذين صقلوا ألسنتهم كالسيف. فوّقوا سهمهم كلاما مرّا» (مز 64: 3).
4 – مضايقات معثِّرة: «احفظني يا رب من يدي الشرير. من رجل الظلم أَنقذني. الذين تفكروا في تعثير خطواتي. أخفى لي المستكبرون فخاً وحبالاً. مدوا شبكة بجانب الطريق. وضعوا لي أشراكاً» (آيتا 4، 5). جعل الشرير حياة المرنم على شفا الهلاك، وتابعه خطوة خطوة ليسقطه بكل أنواع المكائد، «طالبو نفسي نصبوا شركاً، والملتمسون لي الشر تكلموا بالمفاسد، واليوم كله يلهجون بالغش» (مز 38: 12). وحفظ الرب المرنم من أن يعثر، فقال: «الأشرار وضعوا لي فخاً، أما وصاياك فلم أضل عنها» (مز 119: 110). وهذا ما فعله أعداء المسيح عندما «ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة» (مت 22: 15)، ولكنهم عجزوا. وهو ما حدث مع المرنم فقال: «دحرتني دحوراً لأسقط، أما الرب فعضدني» (مز 118: 13).

ثانياً – طلب الحماية
(آيتا 6، 7)
1 – الحماية من عند الرب: «قلت للرب: أنت إلهي. أَصغِ يا رب إلى صوت تضرعاتي» (آية 6). ضايق الأعداء المرنم مضايقات مزعجة، وحاولوا أن يدمِّروا سمعته ويقتلوه، فصرخ يطلب الحماية من «الرب» السيد، صاحب السلطان في السماء وعلى الأرض، الذي هو في نفس الوقت إلهه الذي يمكن أن يقول له: «حبيبي لي وأنا له» (نش 2: 16). «الإله الذي أنا له والذي أعبده» (أع 27: 23). وما أجمل أن نعلم أنه عندما يضيع الأمان تبقى الصلاة مصدر تشجيع ورفعة للمؤمن فيقول: «لكلماتي اصغ يا رب. تأمل صراخي. استمع لصوت دعائي يا ملكي وإلهي لأني إليك أصلّي» (مز 5: 1، 2). «احفظني يا الله لأني عليك توكلت. قلت للرب: أنت سيدي. خيري لا شيء غيرك» (مز 16: 1، 2). «أما أنا فعليك توكلت يا رب. قلت: إلهي أنت» (مز 31: 14).
2 – الحماية من عند المخلِّص: «يا ربُّ السيد قوةَ خلاصي، ظللتَ رأسي في يوم القتال» (آية 7). في يوم القتال والمعركة واستخدام السلاح خلَّص الرب التقي الصارخ إليه، وظلل رأسه كما بخوذة، فلم تصبه السهام، ولم تجرحه السيوف. وهو يعلم أن الإله القوي الذي خلَّصه وظلله سيخلِّصه ويظلل على رأسه. ويأمرنا الوحي: «خذوا خوذة الخلاص، وسيف الروح الذي هو كلمة الله» (أف 6: 17). وهذا يعني أننا يجب أن نحتمي بالرب القوي للخلاص، وأن نتمسك بكلمته ونخبئها في قلوبنا، ونلهج فيها نهاراً وليلاً، ونقول: «أما نحن الذين من نهار فلنصحُ لابسين درع الإيمان والمحبة، وخوذة هي رجاء الخلاص» (1تس 5: 8).. ويصيب العدو رؤوسنا بالشكوك في محبة الله لنا، ولكن خوذة رجاء الخلاص تؤكد لنا أن الذين في يد الرب لا يمكن أن يخطفهم أحد منه (يو 10: 28، 29). «ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلّص، ولم تثقل أذنه عن أن تسمع» (إش 59 :1).

ثالثاً – طلب العدالة
(آيات 8-11)
1 – الشرير لا ينجح: «لا تُعْطِ يا رب شهوات الشرير. لا تُنجِّح مقاصده. يترفَّعون» (آية 8). شهوات الشرير شريرة كلها، فهو يشتهي أن يضر المرنم ويقصد أن يدمر علاقته بالله. لذلك يطلب المرنم من العدالة الإلهية أن لا تعطي الشرير شهوته، ولا تنجح مقاصده، لئلا يتكبر وينتفخ ويترفَّع. وقد مرَّ الرسول بولس باختبار مشابه، فقال لأهل كورنثوس: «فإننا لا نريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة ضيقتنا التي أصابتنا في أسيّا أننا تثقَّلنا جداً فوق الطاقة حتى أيسنا من الحياة أيضاً. لكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت لكي لا نكون متكلين على أنفسنا بل على الله الذي يقيم الأموات. الذي نجانا من موت مثل هذا وهو ينجي. الذي لنا رجاء فيه أنه سينجي أيضاً فيما بعد» (2كو 1: 8-10).
2 – الشرير يخزى: «أما رؤوس المحيطين بي فشقاء شفاههم يغطيهم» (آية 9). تكلم الأشرار ضد المرنم التقي، فقال: «سنّوا ألسنتَهم كحيَّةٍ. حُمَةُ الأُفعُوان تحتَ شفاهِهم» (آية 3). وفي انزعاجه من الكلام القاسي طلب من العدالة الإلهية أن تغطي رؤوس هؤلاء الكذبة بالشقاء، جزاء ما قالوه ضده، فيرتد سهمهم إلى صدورهم وينالهم الخزي والخجل. وكأنه يقول: «هوذا يمخَض بالإثم. حمل تعباً وولد كذباً. كرا جبّاً. حفره فسقط في الهوَّة التي صنع. يرجع تعبه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه» (مز 7: 14-16).
3 – الشرير يهلك: «يسقط عليهم جمر. ليسقطوا في النار وفي غمرات فلا يقوموا. رجل لسان لا يثبت في الأرض. رجل الظلم يصيده الشر إلى هلاكه» (آيتا 10، 11). يطلب المرنم من العدالة الإلهية أن توقع العقاب بالأشرار، فإن أجرة الخطية هي موت (رو 6: 23). سيسقط عليهم الجمر والنار كما هلكت سدوم وعمورة (تك 19: 24، 25)، وسيسقطون في غمرات الطوفان كما هلك قوم نوح (تك 7: 11، 12)، وستبتلعهم الأرض كما ابتلعت بني قورح فلا تقوم لهم قائمة (عد 16: 31-33). فلا يمكن أن رجل اللسان الكاذب يثبت في الأرض، لأنها أرض الرب (لا 25: 23) بل يتمُّ فيه القول: «يمطر على الأشرار فخاخاً ناراً وكبريتاً، وريح السَّموم نصيب كأسهم» (مز 11: 6). ولا بد أن رجل الظلم يهلك بظلمه، فيصيده الشر إلى هلاكه، فإن «الشر يتبع الخاطئين، والصدّيقون يُجازَون خيراً» (أم 13: 21).

رابعاً – طمأنينة المرنم
(آيتا 12، 13)
1 – الرب ينصف المسكين: «قد علمتُ أن الرب يُجري حكماً للمساكين وحقاً للبائسين» (آية 12). علم المرنم من اختباراته السابقة أن الله هو القاضي العادل الذي ينصف كل مظلوم، كما سبق وقال: «الرب يدين الشعوب. اقضِ لي يا رب كحقي، ومثل كمالي الذي فيَّ. لينتهِ شر الأشرار وثبِّت الصدّيق. فإن فاحص القلوب والكلى الله البار» (مز 7: 8، 9). «لأنك أقمت حقي ودعواي. جلستَ على الكرسي قاضياً عادلاً» (مز 9: 4). «الآن عرفت أن الرب مخلّص مسيحه. يستجيبه من سماء قدسه، بجبروت خلاص يمينه» (مز 20: 6). «حينئذ ترتد أعدائي إلى الوراء في يوم أدعوك فيه. هذا قد علمتُه لأن الله لي» (مز 56: 9).
2 – المرنم يسبح الرب: «إنما الصديقون يحمدون اسمك. المستقيمون يجلسون في حضرتك» (آية 13). في طمأنينة المرنم للعدالة الإلهية يحمد اسم الرب، ويشعر بحضوره الدائم معه ويجلس دائماً في حضرته. فإن «المستقيم يبصر وجهه» (مز 11: 7)، «أمامك شِبع سرور. في يمينك نِعَمٌ إلى الأبد» (مز 16: 11). «تفرِّحه ابتهاجاً أمامك» (مز 21: 6)، فيقول: «أقمتني أمامك إلى الأبد» (مز 41: 12). «لأن كل من وُلد من الله يغلب العالم. وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم: إيماننا. من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله؟» (1يو 5: 4، 5)،
ولا يمكن أن يجلس في حضرة الرب إلا الصدّيقون المستقيمون، أصحاب الموقف السليم من الله، الذين يقولون: «فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون، ونفتخر على رجاء مجد الله» (رو 5: 1، 2). وفي النهاية يختبرون: «ولا تكون لعنة ما في ما بعد. وعرش الله والحمل يكون فيها، وعبيده يخدمونه. وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم. ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الرب الإله ينير عليهم، وهم سيملكون إلى أبد الآبدين» (رؤ 22: 3-5),

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالْحَادِي وَالأَرْبَعُونَ
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1 يَا رَبُّ، إِلَيْكَ صَرَخْتُ. أَسْرِعْ إِلَيَّ. أَصْغِ إِلَى صَوْتِي عِنْدَ مَا أَصْرُخُ إِلَيْكَ. 2لِتَسْتَقِمْ صَلاَتِي كَالْبَخُورِ قُدَّامَكَ. لِيَكُنْ رَفْعُ يَدَيَّ كَذَبِيحَةٍ مَسَائِيَّةٍ. 3اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِساً لِفَمِي. احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ. 4لاَ تُمِلْ قَلْبِي إِلَى أَمْرٍ رَدِيءٍ لأَتَعَلَّلَ بِعِلَلِ الشَّرِّ مَعَ أُنَاسٍ فَاعِلِي إِثْمٍ، وَلاَ آكُلْ مِنْ نَفَائِسِهِمْ.
5لِيَضْرِبْنِي الصِّدِّيقُ فَرَحْمَةٌ، وَلْيُوَبِّخْنِي فَزَيْتٌ لِلرَّأْسِ. لاَ يَأْبَى رَأْسِي. لأَنَّ صَلاَتِي بَعْدُ فِي مَصَائِبِهِمْ. 6قَدِ انْطَرَحَ قُضَاتُهُمْ مِنْ عَلَى الصَّخْرَةِ، وَسَمِعُوا كَلِمَاتِي لأَنَّهَا لَذِيذَةٌ. 7كَمَنْ يَفْلَحُ وَيَشُقُّ الأَرْضَ تَبَدَّدَتْ عِظَامُنَا عِنْدَ فَمِ الْهَاوِيَةِ. 8لأَنَّهُ إِلَيْكَ يَا سَيِّدُ يَا رَبُّ عَيْنَايَ. بِكَ احْتَمَيْتُ. لاَ تُفْرِغْ نَفْسِي. 9احْفَظْنِي مِنَ الْفَخِّ الَّذِي قَدْ نَصَبُوهُ لِي، وَمِنْ أَشْرَاكِ فَاعِلِي الإِثْمِ. 10لِيَسْقُطِ الأَشْرَارُ فِي شِبَاكِهِمْ حَتَّى أَنْجُوَ أَنَا بِالْكُلِّيَّةِ.

احفظ باب شفتيَّ
رأينا في المزمور السابق صلاة المؤمن الذي يواجه مكايد العدو، وفي مزمورنا نراه يصارع ليحيا الحياة النقية دون أن يضحي بمبادئه بسبب ضغوط الأعداء. لقد رفض الحلول الوسط، ولم يشارك الأشرار شرورهم، وهو يصلي أن يحفظه الله من أن يخطئ بالفكر أو بالقول أو بالعمل، ويطلب أن تكون حياته أمينة لله مهما كثرت الضغوط عليه، سواء كانت من داخل نفسه، من لسان غير منضبط ومن قلب معرَّضٍ لرفض النصيحة، أو من خارج نفسه من قوات شريرة أقوى منه ظاهرة أو خفيَّة.
وقد اعتادت الكنيسة الأولى أن تتلو هذا المزمور في بدء العبادة المسائية لأن الآية الثانية منه تقول: «لتستقم صلاتي كالبخور قدامك. ليكن رفع يديَّ كذبيحة مسائية».
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يصلي لأجل نفسه (آيات 1-5)
ثانياً – المرنم ينصح أعداءه (آيتا 6، 7)
ثالثاً – المرنم يعلن طمأنينته (آيات 8-10)

أولاً – المرنم يصلي لأجل نفسه
(آيات 1-5)
1 – طلب الاستجابة: (آيتا 1، 2).
(أ) أسلوب الطلب: «يا رب إليك صرخت. أَسرع إليَّ. أَصغِ إلى صوتي عندما أصرخ إليك» (آية 1). في خوف من مجاراة الأشرار، وفي رغبة أن يكون نقي القلب يصرخ المرنم طالباً المعونة الإلهية السريعة. وما أجمل أن يسرع الإنسان المجرَّب بطلب النعمة التي تنصره على التجربة التي تواجهه، فيطلب الطهارة عندما تجرِّبه شهوة النجاسة، ويطلب طول الأناة عندما يوشك أن يفقد أعصابه.. إن الحكيم لا ينتظر حتى يسقط في الخطية ليطلب التطهير، بل يطلب المناعة ضد الخطية حالما يجرَّب بها، وقبل الوقوع فيها.
(ب) تشبيهان للطلب: (آية 2).
(1) الصلاة كالبخور:«لتستقم صلاتي كالبخور قدامك» (آية 2أ). استقامة الصلاة هي انتظامها واستمرارها، كما قيل عن العبادة أيام الملك حزقيا: «كانت المحرقات كثيرة بشحم ذبائح السلامة وسكائب المحرقات، فاستقامت خدمة بيت الرب» (2أخ 29: 35). ويطلب المرنم أن تكون استقامة صلاته كالبخور الذي يرتفع إلى أعلى، وله رائحة ذكية «لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يُقرَّب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة.. قال رب الجنود» (ملا 1: 11). وقد قيل: «ولما أخذ (المسيح) السفر خرّت الأربعة الحيونات والأربعة والعشرون شيخاً أمام الحمل، ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوءة بخوراً هي صلوات القديسين.. وجاء ملاك آخر ووقف عند المذبح ومعه مبخرة من ذهب، وأُعطي بخوراً كثيراً لكي يقدمه مع صلوات القديسين جميعهم على مذبح الذهب الذي أمام العرش. فصعد دخان البخور مع صلوات القديسين من يد الملاك أمام الله» (رؤ 5: 8 و8: 3، 4).
(2) الصلاة كذبيحة مسائية: «ليكن رفع يديَّ كذبيحة مسائية» (آية 2ب). أمرت الشريعة بتقديم ذبيحة صباحاً وأخرى مساءً. والصلاة ذبيحة، فقد أمر الرب: «خذوا معكم كلاماً وارجعوا إلى الرب. قولوا له: ارفع كل إثم، واقبل حسناً، فنقدم عجول شفاهنا» (هو 14: 2). والتسبيح ذبيحة كما يقول الوحي: «فلنقدِّم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه» (عب 13: 15). وعمل الخير ذبيحة، كما قيل: «لا تنسوا فعل الخير والتوزيع، لأنه بذبائح مثل هذه يسرّ الله» (عب 13: 16). وفي نهاية يومٍ عمل فيه المرنم خيراً، رفع يديه لله في صلاة وتسبيح، كما تعوَّد، وكأنه يقول: «استمِع صوت تضرُّعي إذ أستغيث بك وأرفع يديَّ إلى محراب قدسك» (مز 28: 2). وهذا ما يجب أن نفعله اليوم، لأن الوحي طلب أن نصلي رافعين أيادي طاهرة من أجل المسؤولين وأصحاب المناصب في بلادنا (1تي 2: 8).
ورفع اليدين للصلاة يعني اتجاه القلب بكامله إلى الرب، لأن اليدين مشغولتان بالعبادة دون غيرها.. ويعني أيضاً الانتباه لصوت الرب والاستجابة لتوجيهاته، فنقول: «تكلم يا رب لأن عبدك سامع» (1صم 3: 9).. ويعني تطلع الأعين الضارعة المترجية إلى مصدر البركة، فنقول: «أرفع عينيَّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني. معونتي من عند الرب صانع السماوات والأرض» (مز 121: 1، 2).. ويعني رفع كل ما في المصلي وتكريسه لله تقدمةً للرب، عملاً بالوصية الرسولية: «قدِّموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية» (رو 12: 1).. ويعني طلب العون الإلهي ومدّهما نحو الله لتلقِّي الاستجابة، كما فعل موسى عندما هاجم العمالقةُ بني إسرائيل في صحراء سيناء، فرفع يده للصلاة طالباً الحماية. وكان إذا رفع يده ينتصر بنو إسرائيل، وإذا خفضها ينتصر العمالقة. «فلما صارت يدا موسى ثقيلتين.. دعم هارون وحور يديه، الواحد من هنا والآخر من هناك. فكانت يداه ثابتتين إلى غروب الشمس». وهكذا انتصروا (خر 17: 8-13).
2 – طلبات المصلي: (آيات 3-5).
(أ) حفظ اللسان: «اجعل يا رب حارساً لفمي. احفظ باب شفتيّ» (آية 3). يطلب المرنم أن يحفظه الرب من التفوُّه باللغة النابية التي ينطق بها أعداؤه المحيطون به، تتميماً للوصية: «صُن لسانك عن الشر وشفتيك عن التكلم بالغش» (مز 34: 13). فيقول: «قلتُ أتحفَّظ لسبيلي من الخطأ بلساني. أحفظ لفمي كمامة فيما الشرير مقابلي» (مز 39: 1). لأن «من يحفظ فمه يحفظ نفسه. ومن يفتح شفتيه فله هلاك» (أم 13: 3)، و«من يحفظ فمه ولسانه يحفظ من الضيقات نفسه» (أم 21: 23). ويقول للرب: «لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك يا رب، صخرتي ووليي» (مز 19: 14). فيجيبه الرب: «لأني حينئذ أحوِّل الشعوب إلى شفة نقية ليدعوا كلهم باسم الرب، ليعبدوه بكتف واحدة.. بقية إسرائيل لا يفعلون إثماً، ولا يتكلمون بالكذب، ولا يوجد في أفواههم لسان غش» (صف 3: 9، 13). فلنسمع تحذير الرسول يعقوب: «لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا. إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذاك رجل كامل، قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً.. فاللسان نار.. به نبارك الله الآب وبه نلعن الناس الذين قد تكوّنوا على شبه الله. من الفم الواحد تخرج بركة ولعنة. لا يصلح يا إخوتي أن تكون هذه الأمور هكذا» (يع 3: 2، 6، 9، 10).. ولا شك أنه «من فضلة القلب يتكلم الفم. الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات» (مت 12: 34، 35).. وهذا ما أسرع المرنم بطلبه.
(ب) نقاوة القلب: «لا تُمِل قلبي إلى أمر رديء لأتعلل بعلل الشر مع أناس فاعلي إثم، ولا آكل من نفائسهم» (آية 4). بعد أن طلب المرنم أن يحفظه الله من خطايا اللسان، طلب أن ينقي قلبه من خطايا الفكر والعمل، ليقدر أن يقول: «بكل قلبي طلبتك. لا تضلني عن وصاياك.. ثبِّت خطواتي في كلمتك ولا يتسلط عليَّ إثم» (مز 119: 10، 133). وهو لا يريد أن يعمل كما يعمل الأشرار فيشاركهم آثامهم ونفائسهم وتمتعاتهم الجسدية «لأنهم يطعمون خبز الشر ويشربون خمر الظلم» (أم 4: 17)، وتقول الوصية: «لا تحسد أهل الشر ولا تشتهِ أن تكون معهم، لأن قلبهم يلهج بالاغتصاب، وشفاههم تتكلم بالمشقة» (أم 24: 1، 2).
(ج) احتمال التوبيخ: «ليضربني الصدّيق فرحمة، وليوبخني فزيت للرأس. لا يأبى رأسي. لأن صلاتي بعد في مصائبهم» (آية 5). أراد الأشرار أن يشاركهم المرنم أفراحهم وولائمهم، ولعل قلبه مال إلى اقتراحاتهم. وسمع أصدقاؤه من المؤمنين فوبَّخوه وحذروه منهم. وقد تألم من توبيخهم لأنه كان مثل ضربٍ على رأسه، ولو أنه كان يدرك أنه «أمينةٌ هي جروح المحب، وغاشة هي قبلات العدو» (أم 27: 6)، فلم يرفض التوبيخ، واعتبر الألم الناشئ عنه رحمة ورائحة ذكية مثل الزيوت العطرية الرائحة، لأن «الدهن والبخور يفرحان القلب، وحلاوة الصَّديق من مشورة النفس» (أم 27: 9). «الأذن السامعة توبيخ الحياة تستقر بين الحكماء. من يرفض التأديب يرذل نفسه، ومن يسمع للتوبيخ يقتني فهماً» (أم 15: 31، 32).. «من يوبخ إنساناً يجد أخيراً نعمة أكثر من المُطري باللسان» (أم 28: 23).
وفي قبول توبيخ الأصدقاء استمر المرنم يصلي حتى لا يشترك في مصائب الأشرار.

ثانياً – المرنم ينصح أعداءه
(آيتا 6، 7)
1 – نصيحة للتوبة: «قد انطرح قضاتهم من على الصخرة، وسمعوا كلماتي لأنها لذيذة» (آية 6). كان رمي إنسان من على صخرة في الأزمنة القديمة وسيلة للإعدام (2أخ 25: 11). ولما كان القضاة والحكام أشراراً، فلا بد أن يلقوا حتفهم بأن يُطرَحوا من على صخرة مرتفعة، فتتناثر أشلاؤهم. ولا يتكبَّر المرنم ولا يتشفّى في هؤلاء القتلى، لكنه يعظ السامعين بكلمات الله اللذيذة، فيحذِّرهم من مصير الخطاة، ويدعوهم للتوبة، ويعلن لهم رحمة الله لكل تائب معترف بخطاياه.
2 – إعلان التوبة: «كمن يَفْلَح ويشق الأرض تبددت عظامنا عند فم الهاوية» (آية 7). الأغلب أن هذه الآية لسان حال سامعي كلمات الله اللذيذة التي تعطي أملاً للتائبين، وتجنِّبهم مصير الخطاة الذين هلكوا إن هم قبلوها وآمنوا بها. لقد تحطمت وتناثرت عظام القادة الأشرار عند مداخل القبور دون أن تجد من يدفنها، وكأن فلاحاً شقَّ الأرض بمحراثه فكسر ما في طريقه من عيدان وأحجار. ويبكي التائبون على نهاية أمواتهم الأشرار، ويسمعون التحذير فيرجعون إلى الله.

ثالثاً – المرنم يعلن طمأنينته
(آيات 8-10)
1 – لأنه رفع عينيه للرب: «لأنه إليك يا سيد يا رب عيناي. بك احتميت. لا تُفرِغ نفسي» (آية 8). في وقت الكارثة العظمى لهلاك القادة الأشرار، وتوبة الذين رأوا مصيرهم الحزين، رفع المرنم عينيه إلى الله في صلاة، ليحتمي به من مصير الأشرار، ويطلب منه أن لا يُفرغ نفسه، أي أن لا يُهدر حياته كما أُهدِرت حياة أعدائه. وكل من يتوب يتحقق معه وعد المسيح: «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. الحق الحق أقول لكم إنه تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون» (يو 5: 24، 25).
2 – لأنه في حماية الرب: «احفظني من الفخ الذي قد نصبوه لي، ومن أشراك فاعلي الإثم» (آية 9). لو أن الشرير الأول هلك، لأقام الشيطان شريراً آخر يحارب المؤمن، فيعيش في معركة دائمة. لقد انتصر في موقعة، ومع هذا فإن العدو الشرير يجهِّز له معركة أخرى. لهذا يقول الوحي: «أخيراً يا إخوتي تقووا في الرب وفي شدة قوته. البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس، فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم، على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات. من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير، وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا» (أف 6: 10-13). والثبوت بعد تتميم كل شيء يعني أن المعركة مستمرة، لذلك ينصحنا الرسول: «اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو. فقاوموه راسخين في الإيمان، عالمين أن نفس هذه الآلام تجرى على إخوتكم الذين في العالم» (1بط 5: 8، 9).

3 – لأن الأشرار يسقطون: «ليسقط الأشرار في شباكهم حتى أنجو أنا بالكلية» (آية 10). لا بد أن يسقط العدو في الحفرة التي حفرها «يرجع تعبه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه.. معروف هو الرب. قضاءً أمضى. الشرير يعلق بعمل يديه» (مز 7: 16، 9: 16). وعندما يُمسَك الشرير في الشِّباك التي نصبها، لا يعود يكيد للمؤمن، فينجو بالكلية. ولا شك أن عقاب الله للخاطئ يؤكد للمؤمن المضطهَد أنه إله العدل والإنقاذ والخلاص.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّانِي وَالأَرْبَعُونَ
قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ لَمَّا كَانَ فِي الْمَغَارَةِ. صَلاَةٌ
1 بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَصْرُخُ. بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَتَضَرَّعُ. 2أَسْكُبُ أَمَامَهُ شَكْوَايَ. بِضِيقِي قُدَّامَهُ أُخْبِرُ. 3عِنْدَ مَا أَعْيَتْ رُوحِي فِيَّ، وَأَنْتَ عَرَفْتَ مَسْلَكِي – فِي الطَّرِيقِ الَّتِي أَسْلُكُ أَخْفُوا لِي فَخّاً. 4اُنْظُرْ إِلَى الْيَمِينِ وَأَبْصِرْ فَلَيْسَ لِي عَارِفٌ. بَادَ عَنِّي الْمَنَاصُ. لَيْسَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ نَفْسِي. 5صَرَخْتُ إِلَيْكَ يَا رَبُّ. قُلْتُ: «أَنْتَ مَلْجَإِي، نَصِيبِي فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ. 6أَصْغِ إِلَى صُرَاخِي لأَنِّي قَدْ تَذَلَّلْتُ جِدّاً. نَجِّنِي مِنْ مُضْطَهِدِيَّ لأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنِّي. 7أَخْرِجْ مِنَ الْحَبْسِ نَفْسِي لِتَحْمِيدِ اسْمِكَ. الصِّدِّيقُونَ يَكْتَنِفُونَنِي لأَنَّكَ تُحْسِنُ إِلَيَّ».

أَخرِجْ من الحبس نفسي
رأينا المرنم في مزمور 140 يواجه مكايد الأعداء، وفي مزمور 141 رأيناه يصارع حتى لا يتنازل عن مبادئه ويضحي بها تحت ضغوط الأعداء، من أجل سلامته. وفي هذا المزمور يشكو من السجن والوحدة والعجز. والأغلب أن داود كتب هذا المزمور أثناء اختبائه في مغارة عدلام ومعه عائلته وأربع مئة رجل صاروا قادة مملكته عندما تولى الحُكم (1صم 22).. أو لعله كتبه أثناء اختبائه في مغارة عين جدي (1صم 24). وفي سجنه ووحدته تعلَّم بالألم والمعاناة ما أراد أن يعلِّمه لنا في مزمورنا، وفي مزمور 57، الذي رنمه لما هرب أمام شاول في المغارة.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يشكو (آيات 1-4)
ثانياً – المرنم ينتظر (آيات 5-7)

أولاً – المرنم يشكو
(آيات 1-4)
1 – أسلوب الشكوى: «بصوتي إلى الرب أصرخ. بصوتي إلى الرب أتضرع. أسكب أمامه شكواي. بضيقي قدامه أخبر» (آيتا 1، 2). يشكو المرنم بصراخ وتضرع وانسكاب أمام الله. لم يكتفِ بالصلاة الهادئة لأن حالته النفسية والاجتماعية كانت في الحضيض. كان مثل بارتيماوس الأعمى الذي لا شفاء له من العمى إلا بقدرة المسيح الشافية، فصرخ: «يا ابن داود ارحمني». انتهره كثيرون ليسكت، ولكن هذا الانتهار لم يوقفه عن الطلب، بل جعله يصرخ أكثر كثيراً: «يا يسوع يا ابن داود، ارحمني» (مر 10: 47، 48).
2 – موضوع الشكوى: (آيتا 3، 4).
(أ) مُتعَب بريء: «عندما أعيت روحي فيَّ، وأنت عرفت مسلكي. في الطريق التي أسلك أخفوا لي فخاً» (آية 3). أعيت روح المرنم من شدة الضيق وأصابه ما يشبه الإغماء، وكاد يفقد حياته، كما حدث مع يونان في جوف الحوت (يون 2: 7). لكنه كان يعلم أن الرب يراقبه ويعرف مسلكه وكيف أنه بريء من الاتهامات التي اتهموه بها. وكان أعداؤه أيضاً يراقبونه ويعرفون الطريق التي يسلكها، فأخفوا فيها الفخاخ التي نصبوها له. وما أكبر الفرق بين معرفة الأعداء المتآمرة المهلكة ومعرفة الله المعتنية المنقذة «لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوبإ الخطر. بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمي» (مز 91: 3، 4).
(ب) مُتعَب وحيد: «انظُر إلى اليمين وأَبصِر، فليس لي عارف. باد عني المناص. ليس من يسأل عن نفسي» (آية 4). طلب المرنم من الرب أن ينظر إلى جانبه الأيمن من حيث يأتي النصير ليقف إلى يمينه ويسانده، ولن يجد الرب أحداً من القادرين على المساعدة، ولا أحداً ممن يعرفون المرنم. وسيجد أنه لم يعُد للمرنم مناص (أي مفر أو ملجأ يهرب إليه). لقد هجره أصحابه ولم يعودوا يسألون عنه، فكان مثل مريض بركة بيت حسدا الذي قضى ثمانٍ وثلاثين سنة ينتظر معونة من قريب أو صديق يلقيه في البِركة متى تحرك الماء، ولكنه لم يجد من يسأل عن نفسه (يو 5). لم يكن هناك من يدرك قدر المرنم، ولا حجم الخطر المحدق به. وما أقسى الشعور بالوحدة! وقد قدَّم المسيح العلاج لمثل هذا الشعور بقوله: «هوذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي» (يو 16: 32). وفي مثل هذا الموقف قال الرسول بولس: «في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي، بل الجميع تركوني. لا يُحسَب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقواني لكي تُتمَّ بي الكرازة ويسمع جميع الأمم فأُنقذت من فم الأسد. وسينقذني الرب من كل عمل رديء ويخلّصني لملكوته السماوي. الذي له المجد إلى دهر الدهور. آمين» (2تي 4: 16-18).

ثانياً – المرنم ينتظر
(آيات 5-7)
1 – الرب هو الملجأ: «صرخت إليك يا رب. قلت: أنت ملجإي» (آية 5أ). كان قد صرخ وتضرع، ولا زال يصرخ وينتظر الرب لأنه الملجأ الوحيد الباقي له. «لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مجرَّب في كل شيء مثلنا بلا خطية. فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه.. فمن ثمَّ يقدر أن يخلّص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم» (عب 4: 15، 16 و7: 25).
2 – الرب هو النصيب: «نصيبي في أرض الأحياء» (آية 5ب). الأحياء هم البشر من حوله، منهم الأتقياء ومنهم الأشرار. ولم يجد له عوناً فيهم، فقد قاومه الأشرار وعجز الأتقياء عن مساعدته، فانتظر الرب نصيبه، وكأنه يقول: «من لي في السماء؟ ومعك لا أريد شيئاً في الأرض. قد فني لحمي وقلبي. صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر» (مز 73: 25، 26). «نصيبي هو الرب قالت نفسي، من أجل ذلك أرجوه. طيب هو الرب للذين يترجونه، للنفس التي تطلبه. جيد أن ينتظر الإنسان ويتوقع بسكوت خلاص الرب» (مرا 3: 24-26). ولما كان المرنم ينتظر الرب نصيبه، فإنه سيحيا ولا يموت، لأنه انتمى إلى الأحياء الذين «انتقلوا من الموت إلى الحياة» بفضل موت المسيح الكفاري عنهم، فقالوا عن المسيح: «الذي فيه أيضاً نِلنا نصيباً، معيَّنين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته» (أف 1: 11).
3 – الرب هو السامع: «أَصغِ إلى صراخي لأني قد تذللت جداً» (آية 6أ). في شدة المحنة والذل استعجل المرنم الرب ليستجيب صلاته وينقذه. لقد تذلل من إهمال أهله، ومن اضطهاد أعدائه، فانتظر عون من لا يذل أحداً. «لكلماتي أَصغ يا رب. تأمل صراخي. استمع لصوت دعائي يا ملكي وإلهي لأني إليك أصلّي. يا رب، بالغداة تسمع صوتي. بالغداة أوجِّه صلاتي نحوك وأنتظر» (مز 5: 1-3). «أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً وهو متمهِّلٌ عليهم؟.. إنه ينصفهم سريعاً» (لو 18: 7، 8).
4 – الرب هو المنجي: «نجِّني من مضطهديَّ لأنهم أشد مني. أَخرِج من الحبس نفسي لتحميد اسمك» (آية 6ب و7أ). كان المرنم سجين محبسه في مغارة عدلام أو مغارة عين جدي، خوفاً من بطش الملك القاسي شاول الذي كان يتابعه ومعه جنوده ليقتله. ولا بد أنه كان مشتاقاً لتقديم العبادة للرب وللترنيم له في خيمة الاجتماع. وكان ينتظر إنقاذ الرب له ليشترك مع محبي الرب في التسبيح والتحميد. وأعطاه الرب سؤله، فتساءل: «ماذا أرد للرب من أجل كل حسناته لي؟». وأجاب: «حللت قيودي. فلك أذبح ذبيحة حمد، وباسم الرب أدعو» (مز 116: 12، 16، 17).
5 – المؤمنون هم الصُّحبة: «الصدّيقون يكتنفونني لأنك تحسِن إليَّ» (آية 7ب). رأى المرنم بالإيمان استجابة الرب قادمة، ورأى الصدّيقين يجتمعون معاً للعبادة ويرفعون أيادي الشكر لله الذي أحسن إليهم، ويرتلون: «أغنّي للرب لأنه أحسن إليّ.. أخبر باسمك إخوتي. في وسط الجماعة أسبحك. يا خائفي الرب سبحوه.. لأنه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين، ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع» (مز 13: 6 و22: 22-24). «قلت للرب: أنت سيدي. خيري لا شيء غيرك. القديسون الذين في الأرض والأفاضل كل مسرّتي بهم» (مز 16: 2، 3).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّالِثُ وَالأَرْبَعُونَ
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1يَا رَبُّ، اسْمَعْ صَلاَتِي وَأَصْغِ إِلَى تَضَرُّعَاتِي. بِأَمَانَتِكَ اسْتَجِبْ لِي بِعَدْلِكَ، 2وَلاَ تَدْخُلْ فِي الْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ، فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ. 3لأَنَّ الْعَدُوَّ قَدِ اضْطَهَدَ نَفْسِي. سَحَقَ إِلَى الأَرْضِ حَيَاتِي. أَجْلَسَنِي فِي الظُّلُمَاتِ مِثْلَ الْمَوْتَى مُنْذُ الدَّهْرِ. 4أَعْيَتْ فِيَّ رُوحِي. تَحَيَّرَ فِي دَاخِلِي قَلْبِي. 5تَذَكَّرْتُ أَيَّامَ الْقِدَمِ. لَهَجْتُ بِكُلِّ أَعْمَالِكَ. بِصَنَائِعِ يَدَيْكَ أَتَأَمَّلُ. 6بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ. نَفْسِي نَحْوَكَ كَأَرْضٍ يَابِسَةٍ. سِلاَهْ.
7أَسْرِعْ أَجِبْنِي يَا رَبُّ. فَنِيَتْ رُوحِي. لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي فَأُشْبِهَ الْهَابِطِينَ فِي الْجُبِّ. 8أَسْمِعْنِي رَحْمَتَكَ فِي الْغَدَاةِ، لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. عَرِّفْنِي الطَّرِيقَ الَّتِي أَسْلُكُ فِيهَا، لأَنِّي إِلَيْكَ رَفَعْتُ نَفْسِي. 9أَنْقِذْنِي مِنْ أَعْدَائِي يَا رَبُّ. إِلَيْكَ الْتَجَأْتُ. 10عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ، لأَنَّكَ أَنْتَ إِلَهِي. رُوحُكَ الصَّالِحُ يَهْدِينِي فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ. 11مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ يَا رَبُّ تُحْيِينِي. بِعَدْلِكَ تُخْرِجُ مِنَ الضِّيقِ نَفْسِي 12وَبِرَحْمَتِكَ تَسْتَأْصِلُ أَعْدَائِي، وَتُبِيدُ كُلَّ مُضَايِقِي نَفْسِي، لأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ.

لا تدخُل في المحاكمة مع عبدك!
وردت في سفر المزامير سبعة مزامير توبة، هي 6 و32 و38 و51 و102 و130 وآخرها مزمورنا. سمّاها مارتن لوثر «المزامير البولسيَّة» لأنها توضح أن غفران الخطايا نصيبُ كل من يؤمن ويضع ثقته في الفداء الذي دبَّره الله بالمسيح، وهو الفكر الغالب في كتابات الرسول بولس. وقد طلب القديس أغسطينوس في مرضه الأخير أن يكتبوا له هذه المزامير ويعلِّقوها على الحائط في مواجهة فراشه ليراها ويقرأها ويتعزى بها.
رأينا في مزمور 140 العدو يضايق المرنم، ورأيناه في مزمور 141 يصارع مع نفسه حتى لا يضحي بمبادئه وهو يعيش تحت ضغوط هائلة، وفي مزمور 142 رأيناه يعبِّر عن عجزه ووحدته. وفي هذا المزمور يقول إن كل البشر خطاة: «لن يتبرر قدامك حي» (آية 2)، وإنهم جميعاً متساوون في أنهم يحتاجون إلى إرشاد الرب (آية 8). وهو يعلم أن الله سيقبل توبته بناءً على أمانة الله وعدله اللذين ظهرا في الماضي (آيتا 1، 5). ويختم المرنم مزموره بأن يطلب من الله البركات التي لا يحقُّ إلا للتائب أن يطلبها.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – صلاة التوبة (آيتا 1، 2)
ثانياً – أحزان الخطية (3-6)
ثالثاً – رجاء التائب (آيات 7-12)

أولاً – صلاة التوبة
(آيتا 1، 2)
1 – أمانة الله وعدله: «يا رب، اسمع صلاتي وأَصغِ إلى تضرعاتي. بأمانتك استجب لي، بعدلك» (آية 1). يرفع المرنم صلاة التوبة معتمداً على أمانة الرب لمواعيده، فقد أعلن أنه غافر الإثم والمعصية والخطية (خر 34: 7). كما يعتمد على عدل الرب في توقيع عقوبة خطاياه على الذبيحة الكفارية، فينجو هو لأن الله لا يتقاضى أجرة الخطية مرتين.. إن الرب «أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم» (1يو 1: 9). «لأنه لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبرِّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدَّمه الله كفّارة بالإيمان بدمه» (رو 3: 22-25). وتضرعات المرنم هنا هي صلاة تائب يقول: «اللهم، ارحمني أنا الخاطي» فينزل إلى بيته مبرراً (لو 18: 13). وهي صرخة خاطئ يقول: «اذكرني يا رب متى جئتَ في ملكوتك» فيُجاب: «الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 42، 43).. ويعتمد قبول الرب لصلاة توبتنا على عمل المسيح الذي «يقدر أن يخلِّص إلى التمام الذين يتقدَّمون به إلى الله، إذ هو حيٌّ في كل حين ليشفع فيهم.. لنتقدَّم بقلب صادق في يقين الإيمان، مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير، ومغتسلة أجسادنا بماء نقي. لنتمسك بإقرار الرجاء راسخاً، لأن الذي وعد هو أمين» (عب 7: 25 و10: 22، 23).
2 – عجز المرنم عن تبرير نفسه: «ولا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي» (آية 2). لو أن الله أدخل المرنم في المحاكمة لهلك، لهذا لجأ إلى الرحمة الإلهية، وطلب من الرب أن لا يقاضيه، لأن «أجرة الخطية هي موت. أما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا» (رو 6: 23). وهو نفس ما قاله أيوب: «كيف يتبرَّر الإنسان عند الله؟ إن شاء أن يحاجَّه لا يجيبه عن واحد من ألف.. لأنه ليس هو إنساناً مثلي فأجاوبه فنأتي جميعاً إلى المحاكمة» (أي 9: 2، 3، 32). وأول عُذرٍ يقدمه المرنم للرب في طلب عدم المحاكمة هو أنه عبد الرب، فقد قال: «لأني أنا عبدك» (آية 12)، وقد اشترى السيدُ العبد، فصار العبد ملكاً لسيده، يعتني به ويدبر أموره.. أما عُذره الثاني فهو أنه لن يتبرر أي إنسان أمام الرب «إن كنتَ تراقب الآثام يا رب يا سيد، فمن يقف؟ لأن عندك المغفرة.. لأن عند الرب الرحمة وعنده فدى كثير» (مز 130: 3، 7). وقال أليفاز التيماني: «من هو الإنسان حتى يزكو أو مولود المرأة حتى يتبرر؟ هوذا قديسوه لا يأتمنهم، والسماوات غير طاهرة بعينيه- فبالحري مكروهٌ وفاسدٌ الإنسان الذي يشرب الإثم كالماء» (أي 15: 14-16).

ثانياً – أحزان الخطية
(آيات 3-6)
1 – للخطية عقاب: «لأن العدو قد اضطهد نفسي. سحق إلى الأرض حياتي. أجلسني في الظلمات مثل الموتى منذ الدهر. أعيت فيَّ روحي. تحيَّر في داخلي قلبي» (آيتا 3، 4). عرف المرنم أن الضيق الذي يجوز فيه لا بد أن يكون ناتجاً عن عصيانه، وذكر الوعظ الذي يخاطبه كابن: «يا ابني لا تحتقر تأديب الرب، ولا تخُر إذا وبَّخك، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله.. فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟» (عب 12: 5-7). لقد أخطأ، فوقع بين يدي عدو جبار لا يرحم، أرهقه واضطهده وأذلَّه وسحقه، وسجنه، وحرمه من التمتع بالحياة، فصار كميتٍ منسيٍّ من الله والناس. وتحيَّر عقله وهو يحاول أن يعرف سبب كل هذا البلاء، وتحيَّر قلبه فتساءل: هل رفضني الرب من أن أكون ابناً له؟
2 – الخطية تضيِّع الشركة مع الله: «تذكرتُ أيام القِدم. لهجتُ بكل أعمالك. بصنائع يديك أتأمل. بسطتُ إليك يديَّ. نفسي نحوك كأرضٍ يابسة» (آيتا 5، 6). «تذكر» المرنم التقي المضطهَد بسبب خطيته أيامه القديمة الجميلة التي كان يأتنس فيها بربِّه في الصلاة والتسبيح والعبادة، وافتقد تلك الشركة الحبِّية التي ضاعت منه لأن الخطية فصلت بينه وبين إلهه. و«لهج» بالمراحم والبركات التي كان الرب يغمره بها، وكرر الحديث عن كل أعمال الله الصالحة السابقة معه. و«تأمل» صنائع يدي الله السابقة معه والتي حملته كل الأيام القديمة وأعانته ونصرته على المصاعب والتحديات. وقارن هذه الروائع بالأرض الجافة التي يقف عليها، وقد خلت من الفرح الروحي، وهجرها الأنس بالله، فطلب العودة إلى الماضي المجيد، وهو يشارك آساف اختباره: «تفكرت في أيام القِدم.. أذكر ترنُّمي في الليل. مع قلبي أناجي وروحي تبحث. هل إلى الدهر يرفض الرب ولا يعود للرضا بعد؟ هل انتهت إلى الأبد رحمته؟.. ألهج بجميع أفعالك وبصنائعك أناجي» (مز 77: 5-8، 12). وبسط المرنم يديه المستجديتين نحو الله، كأنهما يدا طفل يستجير بأمه من الجوع والعطش، يطلب الطمأنينة، ويتضرع: «أسمِعني سروراً وفرحاً فتبتهج عظامٌ سحقتَها.. رُدَّ لي بهجة خلاصك» (مز 51: 8، 12). إنه كالابن الضال في الكورة البعيدة وقد رجع إلى نفسه يقول: «كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعاً! أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي، أخطأت إلى السماء وقدامك، ولستُ مستحقاً بعدُ أن أُدعى لك ابناً. اجعلني كأحد أجراك» فقام وجاء إلى أبيه (لو 15: 17-20)، واعترف بجدب نفسه التي لم تعُد ترتوي من ماء الحياة فتشققت وانقطع منها الثمر، وتوقَّع أن يعطيه الله المطر المبكر والمتأخر ويُشبع في الجدوب نفسه فيصير كجنَّة ريّا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه (إش 58: 8-11).

ثالثاً – رجاء التائب
(آيات 7-12)
1 – الرحمة الإلهية: «أسرع أجبني يا رب. فنيت روحي. لا تحجب وجهك عني فأشبه الهابطين في الجب. أَسمِعني رحمتك في الغداة لأني عليك توكلت» (آية 7، 8أ). سبق أن قال المرنم: «أعيت فيَّ روحي» (آية 4)، وهنا يقول إنها فنيت، ويطلب أن يسرع الرب بالاستجابة فيشرق وجهه عليه علامة الرضا، ويرفعه من الجب الذي أسقطه أعداؤه فيه. «لا تحجب وجهك عني. لا تخيِّب بسخط عبدك. قد كنت عوني، فلا ترفضني ولا تتركني يا إله خلاصي» (مز 27: 9). وهو يطلب إجابة طلبه مع شروق شمس الغداة، فيسمع أخبار مراحم الله في مطلع كل يوم، ويطمئن لتحقيق المواعيد الإلهية، وتنقشع ظلمته. حقاً «عند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح ترنُّم» (مز 30: 5).
2 – المعرفة الخلاصية: «عرِّفني الطريق التي أسلك فيها لأني إليك رفعت نفسي» (آية 8ب). بعد أن طلب الرحمة التي تُخرجه من الجب، طلب من الرب أن يعرِّفه طريقه لأنه رفع نفسه إلى الرب وبسط يديه نحوه. وهو في هذا يدعو مع موسى: «إن كنتُ قد وجدتُ نعمةً في عينيك فعلِّمني طريقك حتى أعرفك، فأجد نعمةً في عينيك» (خر 33: 13). وهو يطلب مع المرنم: «طرقك يا رب عرِّفني. سبُلك علِّمني.. علِّمني يا رب طريقك، أسلك في حقك. وحِّد قلبي لخوف اسمك» (مز 25: 4 و86: 11)، فيجيبه الرب: «أعلِّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك» (مز 32: 8)، كما «عرَّف موسى طرقه وبني إسرائيل أفعاله» (مز 103: 7).
3 – الإنقاذ الإلهي: «أَنقِذني من أعدائي يا رب. إليك التجأت» (آية 9). يجيء الإنقاذ باللجوء إلى الله الذي يخبئ المؤمن من الخطر، فهو يقول: «هلمَّ يا شعبي ادخُل مخادعك وأَغلق أبوابك خلفك. اختبئ نحو لحيظة حتى يعبر الغضب» (إش 26: 20). ويجاوب المؤمن: «لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر. يسترني بستر خيمته، وعلى صخرة يرفعني. والآن يرتفع رأسي على أعدائي حولي، فأذبح في خيمته ذبائح الهتاف. أغني وأرنم للرب» (مز 27: 5، 6). «الرب من البطن دعاني.. في ظل يده خبأني وجعلني سهماً مبرياً. في كنانته أخفاني» (إش 49: 1، 2).
4 – الإرشاد الإلهي: «علِّمني أن أعمل رضاك لأنك أنت إلهي. روحك الصالح يهديني في أرض مستوية» (آية 10). الله رب حياة المرنم وإلهه، وهو منقذه من أعدائه، لهذا يطلب بكل تواضع وشعور بالحاجة أن يعلِّمه إلهه المشيئة الصالحة، فلا يميل قلبه إلى طرق الأشرار المعوجة، بل يقول: «علِّمني يا رب طريقك، واهدني في سبيل مستقيم بسبب أعدائي» (مز 27: 11), وينال حياة جديدة فيهتف: «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررت، وشريعتك في وسط أحشائي» (مز 40: 8). ويطلب المرنم أن يكون الروح الصالح هادياً له كما صلى نحميا: «أنت برحمتك الكثيرة لم تتركهم في البرية، ولم يزُل عنهم عمود السحاب نهاراً لهدايتهم في الطريق، ولا عمود النار ليلاً ليضيء لهم في الطريق التي يسيرون فيها، وأعطيتهم روحك الصالح لتعليمهم، ولم تمنع منَّك عن أفواههم، وأعطيتهم ماءً لعطشهم» (نح 9: 19، 20)، لأن «طريق الصدّيق استقامة. تمهِّد أيها المستقيم سبيل الصدّيق» (إش 26: 7). ويهدي الروح القدس المؤمن في أرض مستوية، أي إلى أرضٍ خالية من الصعوبات والأخطار، فيقول: «رِجْلي واقفة على سهل. في الجماعات أبارك الرب» (مز 26: 12). والروح القدس هو «روح الحكمة والإعلان» (أف 1: 17) وهو المعلِّم. و«كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله» (رو 8: 14).
5 – الحياة الفضلى: «من أجل اسمك يا رب تحييني. بعدلك تُخرج من الضيق نفسي» (آية 11). يطلب المرنم الحياة الفضلى من أجل اسم الرب، لا لشيء صالح فيه. «ليس لنا.. لكن لاسمك أعطِ مجداً» (مز 115: 1). وليست الحياة الفضلى عكس الموت فقط، بل هي أيضاً التحرر من كل ما يعطل الحياة المطوَّبة ويمنع التمتع بها، فهي حياة الفرح والسلام التي لا توجد إلا في الشركة مع الله وطاعة كلمته، لأنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان» (تث 8: 3)، وقد قال الله لبني إسرائيل: «اسمع الفرائض والأحكام التي أنا أعلِّمكم لتعملوها، لتحيوا» (تث 4: 1). وتمتلئ صفحات الوحي بالحديث عن الحياة الحاضرة الفاضلة، وعن الحياة الأبدية في محضر الله في السماء، فيقول المرنم: «قولك أحياني.. لا أنسى وصاياك لأنك بها أحييتني» (مز 119: 50، 93). «وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقيَّ وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو 17: 3). «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). وعندما «يحيا» الإنسان في المسيح ينقذ الله نفسه من كل ضيق في هذا الزمان، ولا يرى ضيقاً في الزمان الآتي.
6 – العدل الإلهي: «وبرحمتك تستأصل أعدائي وتبيد كل مضايقي نفسي، لأني أنا عبدك» (آية 12). وينهي المرنم مزموره بطلب العدالة الإلهية، فإن أعداء ملكوت الله يقاومون الملكوت، ويضطهدون المسيح نفسه (أع 9: 4)، فيكون استئصال الأعداء وإبادة المضايقين رحمة للمرنم الذي هو عبد الله.. وإن كانت الاستجابة الحرفية لهذه الطلبة تتناسب مع شريعة العهد القديم «عين بعين وسن بسن» فإننا في العهد الجديد نصليها بأسلوب روحي، فنقول: يا رب، استأصل أعداء ملكوتك بأن تربحهم لملكوتك، فيكونوا عبيداً لك لا أعداء لشعبك. كان اليهود أيام المسيح يقولون إن السماء تفرح بخاطئ واحد يهلك لتستريح الأرض من شره، ولكن المسيح قال إن السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب (لو 15: 7، 10) وبهذا تستريح الأرض من شره، لا لأنه هلك، بل لأنه تاب عن شروره.. بهذا المعنى الروحي المسيحي نفهم الآية الأخيرة من مزمورنا، ونطبِّقها في معاملاتنا.

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالرَّابِعُ وَالأَرْبَعُونَ
لِدَاوُدَ
1مُبَارَكٌ الرَّبُّ صَخْرَتِي، الَّذِي يُعَلِّمُ يَدَيَّ الْقِتَالَ وَأَصَابِعِي الْحَرْبَ. 2رَحْمَتِي وَمَلْجَإِي، صَرْحِي وَمُنْقِذِي، مِجَنِّي وَالَّذِي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، الْمُخْضِعُ شَعْبِي تَحْتِي. 3يَا رَبُّ، أَيُّ شَيْءٍ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَعْرِفَهُ أَوِ ابْنُ الإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَكِرَ بِهِ؟ 4الإِنْسَانُ أَشْبَهَ نَفْخَةً. أَيَّامُهُ مِثْلُ ظِلٍّ عَابِرٍ. 5يَا رَبُّ طَأْطِئْ سَمَاوَاتِكَ وَانْزِلِ. الْمِسِ الْجِبَالَ فَتُدَخِّنَ. 6أَبْرِقْ بُرُوقاً وَبَدِّدْهُمْ. أَرْسِلْ سِهَامَكَ وَأَزْعِجْهُمْ. 7أَرْسِلْ يَدَكَ مِنَ الْعَلاَءِ. أَنْقِذْنِي وَنَجِّنِي مِنَ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ، مِنْ أَيْدِي الْغُرَبَاءِ، 8الَّذِينَ تَكَلَّمَتْ أَفْوَاهُهُمْ بِالْبَاطِلِ، وَيَمِينُهُمْ يَمِينُ كَذِبٍ. 9يَا اللهُ، أُرَنِّمُ لَكَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً. بِرَبَابٍ ذَاتِ عَشَرَةِ أَوْتَارٍ أُرَنِّمُ لَكَ. 10الْمُعْطِي خَلاَصاً لِلْمُلُوكِ. الْمُنْقِذُ دَاوُدَ عَبْدَهُ مِنَ السَّيْفِ السُّوءِ.
11أَنْقِذْنِي وَنَجِّنِي مِنْ أَيْدِي الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ تَكَلَّمَتْ أَفْوَاهُهُمْ بِالْبَاطِلِ، وَيَمِينُهُمْ يَمِينُ كَذِبٍ. 12لِكَيْ يَكُونَ بَنُونَا مِثْلَ الْغُرُوسِ النَّامِيَةِ فِي شَبِيبَتِهَا. بَنَاتُنَا كَأَعْمِدَةِ الزَّوَايَا مَنْحُوتَاتٍ حَسَبَ بِنَاءِ هَيْكَلٍ. 13أَهْرَاؤُنَا مَلآنَةً تَفِيضُ مِنْ صِنْفٍ فَصِنْفٍ. أَغْنَامُنَا تُنْتِجُ أُلُوفاً، وَرَبَوَاتٍ فِي شَوَارِعِنَا. 14بَقَرُنَا مُحَمَّلَةً. لاَ اقْتِحَامَ وَلاَ هُجُومَ وَلاَ شَكْوَى فِي شَوَارِعِنَا. 15طُوبَى لِلشَّعْبِ الَّذِي لَهُ كَهَذَا. طُوبَى لِلشَّعْبِ الَّذِي الرَّبُّ إِلَهُهُ.

مباركٌ الرب صخرتي
مزمورنا أول سبعة مزامير تسبيحية يُختَتم بها سفر المزامير، فيه يسبح المرنم الرب الذي ينصر شعبه، وهو مذهول من أن الرب العظيم يهتم بالإنسان الذي هو نفخة أو مجرد ظل عابر، ويطلب منه أن ينصره وشعبه على العدو الغريب. ولما كان واثقاً من نصر الرب يشكر بترنيمة جديدة ينظمها ويرتلها برباب ذات عشرة أوتار، ثم يصف نجاح شعبه عائلياً واقتصادياً وأمنياً وروحياً، بفضل نعمة الله.
ومعظم أفكار هذا المزمور مقتبسة من مزامير أخرى هي 8 و18 و39 و104 و133. ويتميَّز هذا المزمور بذكر اسم داود في صُلبه (آية 10)، وليس فقط في عنوانه.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يصف حاضره (آيات 1-11)
ثانياً – المرنم يصف مستقبله (آيات 12-15)

أولاً – المرنم يصف حاضره
(آيات 1-11)
1 – انتماؤه لإله قوي: «مبارك الرب صخرتي، الذي يعلِّم يديَّ القتال وأصابعي الحرب. رحمتي وملجإي، صَرحي ومنقذي، مجني، والذي عليه توكلت. المخضع شعبي تحتي» (آيتا 1، 2). وفي هاتين الآيتين نجد ثمانية أوصاف لقوة الله التي أعانت المرنم، فرفع ترنيم شكره للرب:
(أ) صخرتي: «مبارك الرب صخرتي». يبارك المرنم الله الذي باركه، كما قيل: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح» (أف 1: 3). ويبارك المرنم ربَّه لأنه صخرته، الثابت الذي لا يتغير، القوي الذي يمكن الاعتماد الكامل عليه، وهو موضع الحماية والراحة «كظل صخرة عظيمة في أرض معيية» (إش 32: 2).
(ب) معلِّمي: «الذي يعلِّم يديَّ القتال وأصابعي الحرب». عندما كان داود راعياً للغنم قتل أسداً ودباً أخذا شاة ودباً من قطيعه، ثم قتل جليات الذي عيَّر جيش الرب (1صم 17)، فقال: «يعلِّم يديَّ القتال فتُحنَى بذراعيَّ قوسٌ من نحاس» (مز 18: 34)، ذلك أن التقي يخوض حرباً روحية دائمة، في داخله ومن خارجه. فالجسد فيه يشتهي ضد الروح، وإبليس خصمه كأسد زائر يريد أن يبتلعه، فلا بد أن يتعلَّم المؤمن من الرب كيف يحيا حياة الانتصار، فيسلك حسب الروح، ويقاوم إبليس فيهرب منه. «من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير» (أف 6: 13). والله يعلِّم المؤمن ويقول له: «أعلِّمك، وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك» (مز 32: 8).
(ج) رحمتي: رحمة الله هي محبته القوية الثابتة التي لا تتغير، ويحتاجها كل إنسان في كل زمان ومكان. ويخصص المؤمن هذه الرحمة الإلهية لنفسه، فيقول «رحمتي». والمسيح هو الرحمة، لأنه يحمل خطايا كل من يقبله رباً ومخلِّصاً. «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاءٍ حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات» (1بط 1: 3).
(د) ملجإي: الذي يهرب إليه وقت الخطر فيجد الحماية الكاملة، ويقول: «لأنك كنتَ ملجأً لي. برج قوة من وجه العدو. لأسكننَّ في مسكنك إلى الدهور. أحتمي بستر جناحيك» (مز 61: 3، 4).
(هـ) صَرحي: والصرح هو البرج الحصين المرتفع، الذي يجد فيه المحارب أو المُدافع أو المحاصَر كل ما يحتاجه من ماء وطعام وسلاح. والصَّرح يُقام عادةً على صخرة مرتفعة، فيكون قادراً على الصمود. ومع أن الرب صرحٌ عالٍ إلا أنه لا يترفَّع على التقي، بل يتنازل إليه وينقذه ويحميه.
(و) منقذي: الرب هو الصخر الكامل صنيعه (تث 32: 4)، الذي لا بد يعلِّم تقيَّه كيف يدافع عن نفسه، ويكون له الملجأ والصرح الذي ينقذه عندما يحتمي به. «هو ينجي وينقذ ويعمل الآيات والعجائب في السماوات وفي الأرض. هو الذي نجى دانيال من يد الأسود» (دا 6: 27).
(ز) مجنّي: «مجنّي الذي عليه توكلت. المخضع شعبي تحتي». والمجن هو الترس الكبير، وهو قطعة من الخشب مغطاة بالجلد، يتلقّى عليها المحارب سهام العدو فلا تصيبه. «عندما يأتي العدو كنهر فنفخة الرب تدفعه» (إش 59: 19). ويتوكل المحارب على المجن لأنه يحميه من ضربة السهم، فلا يجرحه ولا يخترق جسده. بل إن السهم ينغرس في المجن فيمسك المجن به، فيأخذ المحارب السهم ويردُّه على العدو، فيصير ما قُصد به شراً مصدر خير ودفاع وحماية، يُخضع العدو ويوقع به الهزيمة.
(ح) نصيري: «المخضع شعبي تحتي». كانت هناك محاولة انقلاب من أبشالوم على أبيه داود، وقف فيها بعض أصدقاء داود مع أبشالوم، ولكن الرب نجى داود فخضع شعبه له (2صم 15-19). «إذا أرضت الربَّ طرقُ إنسان جعل أعداءه أيضاً يسالمونه» (أم 16: 7).
2 – انذهاله من الحب الإلهي: «يا رب، أيُّ شيء هو الإنسان حتى تفتكر به! الإنسان أشبه نفخة. أيامه مثل ظل عابر» (آيتا 3، 4). يعبِّر المرنم في هاتين الآيتين عن اندهاشه من اهتمام الرب به، ويذكر وصفين للإنسان:
(أ) الإنسان نفخة: وهذا ما دعا به آدم ابنه الثاني هابيل، ومعناه نفخة أو بخار. «لأنه ما هي حياتكم؟ إنها بخار، يظهر قليلاً ثم يضمحل» (يع 4: 14). يؤذيه الشرير، ويُضعفه المرض. «هوذا جعلتَ أيامي أشباراً. عُمري كلا شيء قدامك. إنما نفخة كل إنسان قد جُعل.. إنما كل إنسان نفخة» (مز 39: 5، 11).
(ب) الإنسان ظل: ويتعجب المرنم من اهتمام الله بالإنسان، مع أنه مجرد ظل لا يستمر، ولا يبقى مكانه، ولما ينتهي لا يترك وراءه أثراً، ويبدو أنه شيء ولكنه ليس شيئاً، ويتوقف وجوده على ما هو خارجٌ عنه من ضوءٍ منير وجامدٍ مُعتم. «فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده!» (مز 8: 4).
3 – انتماؤه لإله ينصره: «يا رب، طأطئ سماواتك وانزل. المِس الجبال فتدخِّن. أَبرِق بروقاً وبددهم. أَرسِل سهامك وأَزعِجهم. أَرسِل يدك من العَلاء. أَنقِذني ونجِّني من المياه الكثيرة، من أيدي الغرباء الذين تكلَّمَت أفواههم بالباطل، ويمينهم يمين كذب» (آيات 5-8). لا يمكن للنفخة أو الظل أن يدافعا عن نفسيهما، فلا بديل عن وجود مدافع أعلى يحمي ويصون. هذا المدافع هو الرب وحده، كما حدث عندما تابع فرعون بني إسرائيل، فكان البحر أمامهم والعدو وراءهم، وليس لهم نجاة منظورة، فقال لهم موسى: «لا تخافوا. قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم.. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون» (خر 14: 13، 14). وقد كان.
(أ) الرب الذي ينصر: كما حدث في الخروج. هو الذي أَرعب العدو ووضعه في حجمه الطبيعي الحقيقي، ونصر عبيده بمجده الإلهي إذ طأطأ عمود السحاب، وسخر الريح، وأمر البحر أن ينجي الأتقياء ويهلك الظالمين. وبقوة إلهية أبرق فبددهم. «أرسل سهامه فشتَّتهم وبروقاً كثيرة فأزعجهم، فظهرت أعماق المياه، وانكشفت أسس المسكونة» (مز 18: 14، 15).
(ب) العدو الذي انهزم: جاء الأعداء كنهر جارف، فقال الله لتقيِّه: «إذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك» (إش 43: 2). والأعداء غرباء على الإيمان، قال المسيح عنهم: «تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمةً لله، وسيفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا الآب، ولا عرفوني» (يو 16: 2، 3). والأيدي اليمنى للأعداء كاذبة. وتُرفع اليد اليمنى للصلاة، وصلاة العدو كاذبة. وتُرفع للقسَم، وأَيمان العدو ووعوده مخادعة. وقال المسيح لمثل هؤلاء الأعداء: «أنتم من أبٍ هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتّالاً للناس من البدء، ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب» (يو 8: 44).
4 – ثقته في النصر الإلهي: «يا الله أرنم لك ترنيمة جديدة. برباب ذات عشرة أوتار أرنم لك. المعطي خلاصاً للملوك، المنقذ داود عبده من السيف السوء. أَنقِذني ونجِّني من سيف الغرباء الذين تكلمت أفواههم بالباطل، ويمينهم يمين كذب» (آيات 9-11).
(أ) ثقة يعبِّر عنها بالترنيم: كان المرنم واثقاً من النصر، فجهَّز الشعر واللحن، والآلة الموسيقية ذات الأوتار العشرة. لم يكن يسلك بالعيان بل بإيمان، وهو من يرى من لا يُرى، فرأى النصر قادماً لا محالة. «أمسرورٌ أحد؟ فليرتل» (يع 5: 13).
(ب) ثقة نتيجة التعاملات الماضية: رجع المرنم بذاكرته إلى الماضي، فرأى أن الله أنقذ داود من سيف السوء، أي من ويلات الحروب، وأنقذ غيره من قادة شعبه، فاطمأنت نفسه لأن «الإله القديم ملجأ» (تث 33: 27).
(ج) ثقة لأن العدو مهزوم: وكان المرنم واثقاً من هزيمة العدو لأنه شرير، فيده اليمنى المرفوعة في صلاة هي صلاة رياء ونفاق لأنها اليد التي ترفع السيف لتقتل البريء. كما أن يده المرفوعة للقسّم تحلف كذباً. فلا بد أن يحل به العقاب. «كل آلة صُوِّرت ضدك لا تنجح، وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه. هذا هو ميراث عبيد الرب، وبرُّهم من عندي، يقول الرب» (إش 54: 17).

ثانياً – المرنم يصف مستقبله
(آيات 12-15)
كان الرب قد وعد شعبه بالبركة إن هو سمع صوت الرب إلهه وأطاعه، فقال: «مباركاً تكون في المدينة، ومباركاً تكون في الحقل، ومباركةً تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك وثمرة بهائمك، نتاج بقرك وإناث غنمك. مباركةً تكون سلَّتك ومعجنك» (تث 28: 3-5). وفي هذه الآيات الأربع نرى تحقيق أربع بركات:
1 – المستقبل العائلي: (آية 12).
(أ) البنون: «لكي يكون بنونا مثل الغروس النامية في شبيبتها» (آية 12أ). كنتيجة لبركات الرب وعنايته القوية بالإنسان الضعيف يصبح الأبناء في زمن شبابهم مثل الغروس النامية، الأمر الذي وصفه المرنم في مزامير المصاعد بقوله: «هوذا البنون ميراث من عند الرب. ثمرة البطن أجرة. كسهام بيد جبار هكذا أبناء الشبيبة.. بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك» (مز 127: 3، 4 و128: 3). فالبنون ثروة حقيقية، وهم غروس يجب أن تتعمَّق جذورهم في الأرض الجيدة والبيئة المناسبة، وهم واعدون بمستقبل مبارك، ينمون ويزهرون ويثمرون، لأنهم يرتوون بالماء الحي «فمن رائحة الماء تُفرِخ وتُنبت فروعاً كالغرس» (أي 14: 9).
(ب) البنات: «بناتنا كأعمدة الزوايا منحوتات حسب بناء هيكل» (آية 12ب). في هذه الحالة السعيدة تكون البنات منحوتات كأعمدة الزوايا التي تربط سقف البيت معاً، فيكنَّ سبب ارتباط وتوحُّد ووفاق وتناغم، لم يتعب الوالدون في تربيتهن. ولا شك أن المرنم كان يفكر في الأعمدة القوية الثابتة الجميلة بفخامتها وضخامتها، فرأى بناته جميلات في ملابسهن الزاهية وزينتهن الذهبية وقد اكتنزت أجسادهن بالطعام الوفير والصحة. ولعل المرنم كان يذكر القول: «شاول ألبسكنَّ قرمزاً بالتنعُّم، وجعل حليَّ الذهب على ملابسكنَّ» (2صم 1: 24).. وإن كان المرنم يفكر في الصحة الجسدية فهذا حسن، وإن فكر في الذكاء العقلي فهذا أحسن. ولكن إن فكر في التقدم الروحي فهذا هو الأحسن، فبنات اليوم هنَّ أمهات الغد، و«امرأة فاضلة من يجدها؟ لأن ثمنها يفوق اللآلئ. بها يثق قلب زوجها فلا يحتاج إلى غنيمة» (أم 31: 10، 11).
2 – المستقبل الاقتصادي: «أهراؤنا ملآنة تفيض من صنف فصنف. أغنامنا تنتج ألوفاً وربوات في شوارعنا» (آية 13). عندما ينصر الرب شعبه تفيض الأجران بالقمح والشعير وكل أصناف الحبوب، وتلد الأغنام في الشوارع، فتزيد الثروة الحيوانية. ويتغنى المرنم هنا بمثل ما جاء في مزمور نهاية السنة الزراعية: «كللتَ السنة بجودك، وآثارك تقطر دسماً. تقطر مراعي البرية، وتتنطَّق الآكام بالبهجة. اكتست المروج غنماً، والأودية تتعطف بُرّاً. تهتف وأيضاً تغني» (مز 65: 11-13).
3 – المستقبل الأمني: «بقرنا محمَّلة. لا اقتحام ولا هجوم ولا شكوى في شوارعنا» (آية 14). يصف المرنم المستقبل المجيد للشعب الذي يحميه الرب بأنه آمن، تحمل أبقاره أحمالاً كبيرة من الحقل إلى المخازن دون أن يهاجمه الغزاة، ولا يقتحم أحدٌ أحداً ولا يهاجم أحد أحداً، ولا يشكو أحد من أحد، فإن الجميع آمنون مُكتفون، يجلس كل واحد تحت كرمته وتحت تينته في طمأنينة كاملة، كما حدث أثناء مُلك سليمان (1مل 4: 25)، فتتحقق المواعيد الإلهية: «الرب يعطي عزّاً لشعبه. الربُّ يبارك شعبَه بالسلام» (مز 29: 11). «الذي يجعل تخومك سلاماً ويشبعك من شحم الحنطة» (مز 147: 14). «وأنا يقول الرب أكون لها سور نار من حولها، وأكون مجداً في وسطها» (زك 2: 5). «لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه» (2أي 16: 9).
4 – المستقبل الروحي: «طوبى للشعب الذي له كهذا. طوبى للشعب الذي الربُّ إلهه» (آية 15). ويرى المرنم مستقبلاً روحياً رائعاً لشعبه في ظل سيادة الرب الملك. «طوبى للأمة التي الرب إلهها، الشعب الذي اختاره ميراثاً لنفسه» (مز 33: 12).
بدأ سفر المزامير بالتطويب (مز 1: 1)، وبدأ المسيح موعظته على الجبل به (مت 5: 3). ما أسعد من يعيش مع الرب وقد سلَّم زمام القيادة له، فينطبق عليه وصف تطويبات الموعظة على الجبل. لقد بدأ المسيح خدمته في الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر 1: 15). فلنفتح قلوبنا لتتلقَّى أخبار الإنجيل المفرحة، ولتكن قلوبنا أرضاً جيدة تقبل بذار كلمة الله وتفهمها وتأتي بثمر (مت 13: 23).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالْخَامِسُ وَالأَرْبَعُونَ
تَسْبِيحَةٌ لِدَاوُدَ
1أَرْفَعُكَ يَا إِلَهِي الْمَلِكَ، وَأُبَارِكُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. 2فِي كُلِّ يَوْمٍ أُبَارِكُكَ، وَأُسَبِّحُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. 3عَظِيمٌ هُوَ الرَّبُّ وَحَمِيدٌ جِدّاً، وَلَيْسَ لِعَظَمَتِهِ اسْتِقْصَاءٌ. 4دَوْرٌ إِلَى دَوْرٍ يُسَبِّحُ أَعْمَالَكَ، وَبِجَبَرُوتِكَ يُخْبِرُونَ. 5بِجَلاَلِ مَجْدِ حَمْدِكَ وَأُمُورِ عَجَائِبِكَ أَلْهَجُ. 6بِقُوَّةِ مَخَاوِفِكَ يَنْطِقُونَ، وَبِعَظَمَتِكَ أُحَدِّثُ. 7ذِكْرَ كَثْرَةِ صَلاَحِكَ يُبْدُونَ، وَبِعَدْلِكَ يُرَنِّمُونَ.
8اَلرَّبُّ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ. 9الرَّبُّ صَالِحٌ لِلْكُلِّ، وَمَرَاحِمُهُ عَلَى كُلِّ أَعْمَالِهِ. 10يَحْمَدُكَ يَا رَبُّ كُلُّ أَعْمَالِكَ، وَيُبَارِكُكَ أَتْقِيَاؤُكَ. 11بِمَجْدِ مُلْكِكَ يَنْطِقُونَ، وَبِجَبَرُوتِكَ يَتَكَلَّمُونَ، 12لِيُعَرِّفُوا بَنِي آدَمَ قُدْرَتَكَ، وَمَجْدَ جَلاَلِ مُلْكِكَ. 13مُلْكُكَ مُلْكُ كُلِّ الدُّهُورِ، وَسُلْطَانُكَ فِي كُلِّ دَوْرٍ فَدَوْرٍ.
14اَلرَّبُّ عَاضِدٌ كُلَّ السَّاقِطِينَ، وَمُقَوِّمٌ كُلَّ الْمُنْحَنِينَ. 15أَعْيُنُ الْكُلِّ إِيَّاكَ تَتَرَجَّى، وَأَنْتَ تُعْطِيهِمْ طَعَامَهُمْ فِي حِينِهِ. 16تَفْتَحُ يَدَكَ فَتُشْبِعُ كُلَّ حَيٍّ رِضىً. 17الرَّبُّ بَارٌّ فِي كُلِّ طُرُقِهِ، وَرَحِيمٌ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ. 18الرَّبُّ قَرِيبٌ لِكُلِّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ، الَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِالْحَقِّ. 19يَعْمَلُ رِضَى خَائِفِيهِ وَيَسْمَعُ تَضَرُّعَهُمْ، فَيُخَلِّصُهُمْ. 20يَحْفَظُ الرَّبُّ كُلَّ مُحِبِّيهِ، وَيُهْلِكُ جَمِيعَ الأَشْرَارِ. 21بِتَسْبِيحِ الرَّبِّ يَنْطِقُ فَمِي، وَلْيُبَارِكْ كُلُّ بَشَرٍ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ.

أسبِّح اسمك إلى الدهر والأبد
مزمورنا ثاني المزامير التسبيحية السبعة التي يُختَتم بها سفر المزامير، وهو الترنيمة الجديدة التي ورد ذكرها في مز 144: 9 «يا الله أرنم لك ترنيمة جديدة. برباب ذات عشرة أوتار أرنم لك». وكأن قلب صاحب هذا المزمور قد امتلأ بالتسبيح الختامي للصلاة الربانية: «لأن لك الملك والقوة والمجد». فهو يسبِّح الملك الأبدي خالق كل البشر، الذي يسبحه الجميع ويمجدونه، لأنه الكريم الذي يحب كل خلائقه ويعطيها كل احتياجها. وكان اليهود يرنمون هذا المزمور ثلاث مرات يومياً، مرتان أثناء العبادة الصباحية ومرة ثالثة أثناء العبادة المسائية، كما كانت الكنيسة الأولي تتلوه في منتصف النهار، قبل تناول طعام الغداء. وكانت الآيتان 15 و16 منه جزءاً أساسياً من صلاة الشكر على الطعام «أعين الكل إياك تترجي، وأنت تعطيهم طعامهم في حينه. تفتح يدك فتُشبع كل حي رضى». وكان القديس يوحنا فم الذهب يتلو هذا المزمور أثناء التناول من مائدة العشاء الرباني، لأنها غذاء الروح.
في مزمور 142 سكب داود شكواه، وفي مزمور 143 رفع صلاة توبة، وفي مزمور 144 طلب أن يعلِّمه الرب محاربة العدو وأن يهبه النصر فيرتل ترنيمة جديدة. ثم يجيء مزمورنا بالفرح والتمجيد على الإنصاف من الشكوى، والغفران للذنب، والنصرة على العدو.
ومزمورنا أبجدي، بمعنى أن كل آية منه تبدأ بأحد حروف الأبجدية العبرية، ولو أنه لا يحوي آية تبدأ بحرف النون. (مزمورا 25 و34 أبجديان، لم ترد فيهما آية تبدأ بحرف الواو). وقد لاحظ بعض المفسرين أن المزامير التي تحوي آيات تبدأ بكل الحروف الأبجدية تتحدث عن الأبرار الذين أكملوا جهادهم ووصلوا إلى الكنيسة المنتصرة في السماء. أما المزامير التي تنقصها آية تبدأ بأحد حروف الأبجدية فهي تتحدث عن أبرار على الأرض، أعضاء في الكنيسة المجاهدة، لا يزالون يجاهدون في خدمة الله وتمجيده.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – تسبيح الله العظيم (آيات 1-7)
ثانياً – تسبيح الله الرحيم (آيات 8-10)
ثالثاً – تسبيح الله الملك (آيات 11-13)
رابعاً – تسبيح الله المُحسِن (آيات 14-21)

أولاً – تسبيح الله العظيم
(آيات 1-7)
1 – عظيم في مُلكه: «أرفعك يا إلهي الملك» (آية 1أ). يملك الله على كل العالم لأنه خالق الجميع، ولأنه يعتني بالجميع، ولأنه افتدى كل الخطاة بكفارة المسيح. دعاه داود بالقول: «استمع لصوت دعائي يا ملكي وإلهي، لأني إليك أصلي» (مز 5: 2). «رأوا طرقك يا الله، طرق إلهي وملكي في القدس» (مز 68: 24).
2 – عظيم في أبديته: «وأبارك اسمك إلى الدهر والأبد. في كل يوم أباركك، وأسبح اسمك إلى الدهر والأبد» (آية 1ب، 2). هو الموجود كل يوم، والموجود إلى الدهر والأبد. «هو الإله الحي القيوم إلى الأبد، وملكوته لن يزول، وسلطانه إلى المنتهى» (دا 6: 26). لهذا «يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن بأنه موجود، وأنه يجازي الذين يطلبونه» (عب 11: 6). لن ينتهي تسبيح المرنم له أثناء حياته على الأرض، وسيستمر يسبح له في السماء.
3 – عظيم في صلاحه: «عظيم هو الرب وحميد جداً، وليس لعظمته استقصاء» (آية 3). الرب صالح وإلى الأبد رحمته، فلا يوجد من يستحق الحمد سواه، وليس لعظمة صلاحه حدود. إنها تفوق الوصف. «عظيم هو الرب وحميد جداً في مدينة إلهنا» (مز 48: 1). قال عنه أليفاز: «الفاعل عظائم لا تُفحَص وعجائب لا تُعدّ» (أي 5: 9). بعد أن تحدَّث الرسول بولس عن عمل الله الفدائي، وعن أمانته لوعوده بالرغم من عدم أمانة الشعب، قال: «يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء» (رو11: 33).
4 – عظيم في معجزاته: «دور إلى دور يسبح أعمالك، وبجبروتك يخبرون. بجلال مجد حمدك وأمور عجائبك ألهج. بقوة مخاوفك ينطقون، وبعظمتك أحدِّث. ذِكر كثرة صلاحك يُبدون، وبعدلك يرنمون» (آيات 4-7). يُجري الرب معجزات للشعب ككل، ويجري معجزات للأفراد، ولذلك «يخبرون وينطقون ويُبدون ويرنمون» كشعب، كما أن المرنم كفردٍ يقول «ألهج وأحدِّث». تسبِّح الأجيال المتتابعة من جماعة وأفراد الرب على أعماله المعجزية التي يجريها، وسبق فأجراها مع آبائهم، وهم يثقون أنه سيجريها مع أولادهم. عندما كان بنو إسرائيل يحتفلون بعيد الفصح كان الأولاد يسألون آباءهم: «ما هذه الخدمة لكم؟» فيجيبونهم: «هي ذبيحة فصح للرب الذي عبر عن بيوت بني إسرائيل في مصر، لما ضرب المصريين وخلَّص بيوتنا» (خر 12: 26، 27). وقال موسى في نشيده: «اذكر أيام القِدم، وتأملوا سني دور فدور. اسأل أباك فيخبرك، وشيوخك فيقولوا لك» (تث 32: 7). ويقول المؤمن: «اللهمَّ قد علَّمتني منذ صباي، وإلى الآن أخبر بعجائبك» (مز 71: 17).. وقال الرسول بولس: «كان لنا في أنفسنا حكم الموت لكي لا نكون متكلين على أنفسنا، بل على الله الذي يقيم الأموات، الذي نجانا من موت مثل هذا، وهو ينجي. الذي لنا رجاء فيه أنه سينجي أيضاً فيما بعد» (2كو 1: 9، 10).

ثانياً – تسبيح الله الرحيم
(آيات 8-10)
1 – رحمته فاعلة: »الرب حنان ورحيم، طويل الروح وكثير الرحمة. الرب صالح للكل، ومراحمه على كل أعماله» (آيتا 8، 9). أعلن الله أنه حنان ورحيم (خر 34: 6) وكرر الأتقياء هذا الإعلان في كل عصر، فذكره المرنم في مز 86: 15 و103: 8، وردَّده الوالي نحميا في صلاته (نح 9: 16، 17)، والنبي يوئيل (2: 13) والنبي يونان (4: 2). وليست رحمة الله مجرد مشاعر من جانبه، لكنها أفعال واقعية ملموسة. إنها ترحم الخاطئ بالخلاص، وترحم المجروح بالعزاء، وترحم الحائر بالإرشاد. قال عنها النبي ناحوم: «صالح هو الرب. حصنٌ في يوم الضيق، وهو يعرف المتوكلين عليه» (نا 1: 7). وتظهر رحمته في جلالها الكامل في الفداء، فيقول الوحي: «الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. متبرِّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدَّمه الله كفارة» (رو 3: 23-25). ويقول: «وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا.. الله الذي هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح. بالنعمة أنتم مخلَّصون» (أف 2: 1، 4، 5).
2 – رحمته مشكورة: «يحمدك يا رب كل أعمالك ويباركك أتقياؤك» (آية 10). تخضع الطبيعة لقوانين الله خالقها، وتشهد لعظمته بحجمها الهائل. أما الأتقياء فيشعرون بعظمة رحمته التي لا يستحقونها، فيباركونه. لقد انبهرت عقولهم من رحمته فيمجدونه، وانبهرت بها قلوبهم فيحبونه، وانبهرت بها إرادتهم فيطيعونه، ويهتفون: «أما أنا فعلى رحمتك توكلت. يبتهج قلبي بخلاصك. أغني للرب لأنه أحسن إليَّ» (مز 13: 5، 6).

ثالثاً – تسبيح الله الملك
(آيات 11-13)
1 – صاحب المُلك المجيد: «بمجد مُلكك ينطقون، وبجبروتك يتكلمون» (آية 11). مُلكه مجيد وقوته عظيمة، يتحدث به الأتقياء. تكلم به نوح وعائلته بينما الطوفان يهلك الخطاة، ونطق به لوط بينما تحرق النيران سدوم وعمورة. وهذا الجبروت في خدمة محبة الله، فهو الملك المحب الذي يقول: «كنت أجذبهم بحبال البشر، بربُط المحبة. وكنت لهم كمن يرفع النير عن أعناقهم، ومددتُ إليه مطعماً إياه» (هو 11: 4). وفي مُلكه وسلطانه أعطى كل من يقبلون المسيح رباً وفادياً نعمة البنوية له (يو 1: 12)، وفي النهاية يقول للتقي: «نعِمّا أيها العبد الصالح والأمين. كنتَ أميناً في القليل فأقيمك على الكثير. ادخل إلى فرح سيدك» (مت 25: 21).
2– صاحب المُلك المُعلَن: «ليعرِّفوا بني آدم قدرتك ومجد جلال مُلكك» (آية 12). عندما ينذهل المؤمنون من مجد مُلك الله يخبرون البشر من حولهم بما فعله الله لهم. وكلما ذكرنا صُنع الفداء العجيب ننفذ وصية المسيح لنا بخصوص التناول من العشاء الرباني: «فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (1كو 11: 26)، وننفذ وصيته للمجنون الذي شُفي: «اذهب إلى بيتك وإلى أهلك وأَخبرهم كم صنع الرب بك ورحمك» (مر 5: 19).
3 – صاحب المُلك الأبدي: «مُلكك مُلك كل الدهور، وسلطانك في كل دور فدور» (آية 13). هذا مُلك الأزلي الأبدي، الذي قال عنه نبوخذنصر ملك بابل: «الآيات والعجائب التي صنعها معي الله العلي حسُن عندي أن أُخبر بها. آياته ما أعظمها، وعجائبه ما أقواها. ملكوته ملكوت أبدي، وسلطانه إلى دور فدور» (دا 4: 2، 3).

رابعاً – تسبيح الله المحسِن
(آيات 14-21)
1 – يسند الساقط: «الرب عاضدٌ كل الساقطين» (آية 14أ). يسقط الإنسان تحت ثقل الخطية التي تقيِّده بسلاسل لا يفكه منها إلا الرب عاضد الساقطين، كما يسقط تحت وطأة الحزن فلا يرفعه إلا معزّي الحزانى ومريح التعابى «لأن سواعد الأشرار تنكسر، وعاضد الصدّيقين الرب.. من قِبل الرب تتثبَّت خطوات الإنسان، وفي طريقة يُسرُّ. إذا سقط لا ينطرح لأن الرب مُسندٌ يده» (مز 37: 17، 24). لهذا يدعوه المرنم: «اعضُدني حسب قولك فأحيا، ولا تُخْزني من رجائي» (مز 119: 116).
2 – يقيم المنحني: «ومقوِّمٌ كل المنحنين» (آية 14ب). ينحني الإنسان تحت ثقل الديون، أو بسبب الأمل الضائع، أو بسبب عجزه عن مواجهة المواقف. وعندما يصرخ إلى الرب يزيل الحِمل من على كتفه، ويعطيه قوة للاحتمال، كما شفى المسيح المرأة المنحنية التي لم تكن تقدر أن تنتصب، فطرد منها روح الضعف، فاستقامت ومجدت الله (لو 13: 10-17)، وكما قال لبولس بخصوص شوكة جسده التي تضرَّع للرب بسببها: «تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تُكمَل» (2كو 12: 9).
3 – يطعم الجميع: «أعين الكل إياك تترجّى، وأنت تعطيهم طعامهم في حينه. تفتح يدك فتُشبع كل حيٍّ رضى» (آيتا 15، 16). «يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين.. لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء. إنها لا تزرع ولا تحصد، ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟» (مت 5: 45، 6: 25-27). لذلك قال المرنم: «كلها إياك تترجى لترزقها قوتها في حينه. تعطيها فتلتقط. تفتح يدك فتشبع خيراً» (مز 104: 27، 28). وتترجاه عيون الأتقياء ليشبعهم بالمسيح الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد (يو 6: 51).
4 – يصنع البر: «الرب بار في كل طرقه، ورحيم في كل أعماله» (آية 17). الرب بار عادل، وهو رحيم أيضاً. ولا تتصالح عدالته مع رحمته إلا في صليب المسيح، الذي فيه ينال العدل بكل جلاله حقَّه، لأن المسيح احتمل في جسده ونفسه عقوبة الخطية. وفي الصليب تظهر الرحمة بكل قوتها وجمالها، كما قال المرنم: «الرحمة والحق التقيا. البر والسلام تلاثما» (مز 85: 10). «أي أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم.. لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطيةً لأجلنا، لنصير نحن برَّ الله فيه» (2كو 5: 19، 21). «وهو مجروحٌ لأجل معاصينا، مسحوقٌ لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحُبُره (بجَلدته) شُفينا» (إش 53: 5).
5 – يستجيب الصلاة: «الرب قريب لكل الذين يدعونه، الذين يدعونه بالحق. يعمل رضى خائفيه، ويسمع تضرعهم فيخلِّصهم» (آيتا 18، 19). الرب قريب قُرب المحب من حبيبه، فيسرع بالمعونة إليه وينصفه سريعاً (لو 18: 8). ولا شيء يفصل الرب عن المحتاجين إلى رحمته، فهو قريب منهم، يُميل أذنه ويصغي إليهم وينجيهم (مز 40: 1)، ويشجعنا الوحي بالقول: «اطلبوا الرب ما دام يوجد. ادعوه وهو قريب» (إش 55: 6). وكل من يدعوه بالحق من قلب مُخلص يجده السامع المجيب، لأنه يدعو بقلب مؤمن واثق، يحب الله ويخضع له. «شهوة الصدّيقين تُمنَح» (أم 10: 24). «لأنه أي شعب هو عظيم له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا في كل أدعيتنا له؟» (تث 4: 7). «قريب أنت يا رب، وكل وصاياك حق» (مز 119: 151).
6 – يصنع العدل: «يحفظ الرب كل محبّيه، ويهلك جميع الأشرار» (آية 20). هذا الملك يحسِن للبار فيحفظه من شر الأشرار، ومن غواية تجارب إبليس، ومن اتِّخاذ القرار الخاطئ. وفي عدالته يُهلك الشرير بشره، فعندما يحفر حفرة يسقط فيها، وعندما يدحرج حجراً يرجع عليه (أم 26: 27). وهذا ما اختبره المرنم، فقال: «هيّأوا شبكة لخطواتي. انحنت نفسي. حفروا قدامي حفرة. سقطوا في وسطها» (مز 57: 6). لهذا شجَّع المسيح تلاميذه بالقول: «تكونون مُبغَضين من الجميع من أجل اسمي، ولكنَّ شعرةً من رؤوسكم لا تهلك. بصبركم اقتنوا أنفسكم» (لو 21: 17، 18). «لا ينعس حافظك.. الرب ظل لك عن يدك اليمنى» (مز 121: 3، 5).
7 – يستحق التسبيح: «بتسبيح الرب ينطق فمي، وليبارك كل بشرٍ اسمه القدوس إلى الدهر والأبد» (آية 21). بدأ المرنم مزموره بأن رفع إلهه الملك العظيم الرحيم المحسن، وختمه بأن سبح له بالفم المعترف بالفضل، ثم أعلن أن كل البشر الذين تمتعوا بعطائه المقدَّس وببرِّه المقدِّس يشاركونه التسبيح للاسم القدوس في هذا الدهر، وفي الدهر الآتي، ويهتفون جميعاً: «باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» (مز 103: 2).
«بجلال مجد حمدك وأمور عجائبك ألهج».

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّادِسُ وَالأَرْبَعُونَ

1هَلِّلُويَا! سَبِّحِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. 2أُسَبِّحُ الرَّبَّ فِي حَيَاتِي، وَأُرَنِّمُ لإِلَهِي مَا دُمْتُ مَوْجُوداً. 3لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى الرُّؤَسَاءِ وَلاَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَيْثُ لاَ خَلاَصَ عِنْدَهُ. 4تَخْرُجُ رُوحُهُ فَيَعُودُ إِلَى تُرَابِهِ. فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَفْسِهِ تَهْلِكُ أَفْكَارُهُ.
5 طُوبَى لِمَنْ إِلَهُ يَعْقُوبَ مُعِينُهُ، وَرَجَاؤُهُ عَلَى الرَّبِّ إِلَهِهِ، 6الصَّانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، الْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا. الْحَافِظِ الأَمَانَةَ إِلَى الأَبَدِ. 7الْمُجْرِي حُكْماً لِلْمَظْلُومِينَ، الْمُعْطِي خُبْزاً لِلْجِيَاعِ. الرَّبُّ يُطْلِقُ الأَسْرَى. 8الرَّبُّ يَفْتَحُ أَعْيُنَ الْعُمْيِ. الرَّبُّ يُقَوِّمُ الْمُنْحَنِينَ. الرَّبُّ يُحِبُّ الصِّدِّيقِينَ. 9الرَّبُّ يَحْفَظُ الْغُرَبَاءَ. يَعْضُدُ الْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ. أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَيُعَوِّجُهُ. 10يَمْلِكُ الرَّبُّ إِلَى الأَبَدِ، إِلَهُكِ يَا صِهْيَوْنُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. هَلِّلُويَا!

تسبيح المعين الوحيد
يسبِّح المرنم في هذا المزمور الرب المخلِّص والمنقذ الوحيد، ويحذِّر سامعيه من الاعتماد على أي مخلوق. وقد يقدم المخلوق معونته في أول الأمر، لكنها لا تستمر لأنه قابل للموت، أما الرب فهو الحي إلى الأبد. ومزمورنا هو أول خمسة مزامير تُعرَف بمزامير الهللويا (146-150) لأنها كلها تبدأ بالكلمة «هللويا» وتنتهي بها (مزمور 147 يبدأ بالقول «سبحوا الرب» وهي نفسها كلمة هللويا)، كان اليهود يرتلونها في العبادة الصباحية. ويقول التقليد اليهودي إن النبيين حجي وزكريا اشتركا في جمع مزامير الهللويا الخمسة، وتضيف الترجمة السبعينية إلى بداية كل مزمور منها القول «لحجي وزكريا». ومزمورنا دعوة قوية لحمد الخالق لا المخلوق، فهو متَّكل جميع البشر، والمصدر الوحيد لكل خير وبركة، وهو يُجري الحق والعدل لكل أتقيائه، ويغفر الذنوب بقوة محبته، ويشبع الجياع من كنز غناه.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – تسبيح الرب (آيتا1، 2)
ثانياً – عجز البشر (آيتا 3، 4)
ثالثاً – كفاية الرب (آيات 5-10)

أولاً – تسبيح الرب
(آيتا 1، 2)
يبدأ مزمورنا وينتهي بكلمة «هللويا» وهي كلمة عبرية معناها «سبحوا يهوه» أو «سبحان الله» ويُقصد بها تمجيد الرب، واشتُقَّت منها الأفعال في معظم لغات الأرض، وهي تُرنَّم كترنيمة قائمة بذاتها في ألحان موسيقية مشهورة مثل «كورس هللويا» للموسيقار هاندل. وقد دخلت لغتنا العربية كما دخلتها كلمة «آمين» العبرية أيضاً، ومعناها «ثابت» أو «راسخ» أو «صادق» أو «أمين». وعندما نختم بها الصلاة نقصد أن نقول: «ليكن هذا الأمر» أو «استجب».
1 – ضرورة التسبيح: «هللويا. سبحي يا نفسي الرب» (آية 1). دعا المرنم إلى تسبيح الرب عامة، بادئاً بنفسه، فيقول لها بصيغة الأمر: «سبحي يا نفسي». وكأنه يقول: سبِّحيه أيتها النفس الواثقة بالرب، والتي اختبرت صلاحه، وعاشت بفضل عونه وإحساناته. «باركي يا نفسي الرب وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» (مز 103: 1، 2). سبحي يا أعماقي، ويا سريرتي المستورة عن الناس والمكشوفة أمام خالقك، اشهدي لحقِّه وجلاله ومحبته لك، وخبِّري كم صنع بك ورحمك. رنمي للرب وافرحي به. حدِّثيه في أُنسٍ ومحبة فإنه يسمعك ويتلذذ بك. اجعلي الآخرين يرون فرحك بالرب ويعلمون سبب الرجاء الذي فيك والذي يمكن أن يكون فيهم أيضاً.
2 – دوام التسبيح: «أسبح الرب في حياتي، وأرنم لإلهي مادمت موجوداً» (آية 2). لم يكن تسبيح المرنم من شفتيه فقط، بل كانت حياته كلها تسبيحة للرب. ويشهد لهذا التسبيح تفكيره وسلوكه. وقد عزم أنه مادامت فيه نسمة حياة فلن يكف أو يمل من التسبيح والشكر. والمؤمن يسبح الرب حتى وهو يجوز المصاعب «لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً» (2كو 4: 17). وهو يسبح الذي خلقه وحمله كل الأيام الماضية، والذي سيظل يحمله إلى الشيخوخة وإلى الشيبة (إش 46: 4). ولما كانت حياة المؤمن أبدية في المسيح، فإن تسبيحه يبدأ هنا على الأرض ولا يتوقف أبداً في السماء، حيث عبيده يسبحونه بقيثارات الله (رؤ 15: 2).

ثانياً – عجز البشر
(آيتا 3، 4)
1 – نصيحة أمينة: «لا تتكلوا علي الرؤساء ولا على ابن آدم، حيث لا خلاص عنده» (آية 3). ينهانا المرنم عن الاتكال على أصحاب النفوذ من الرؤساء، بالرغم من أنهم قد يفوقوننا قوة أو مركزاً، فنلجأ إليهم ليساعدونا ونحن نعتقد أن سلطتهم ستُنهي مشاكلنا، وننسى أنهم تحت التجارب والآلام مثلنا، وأن عندهم احتياجات يبحثون عمَّن يسددها، ومشاكل يحتاجون إلى من يحلها. ومن همومهم القاتلة كيفية الاحتفاظ بسلطانهم، مع أنه لو دام لغيرهم ما انتهى إليهم. أما الأغنياء فيخافون على ضياع مالهم، ويقلقون على استثماره، ومهمومون بجمع المزيد منه، ويشكّون في المتعاملين معهم لئلا يخدعوهم. ومع هذا فالاعتماد على البشر وارد دوماً، حتى أن ربشاقى قائد جيش سنحاريب ملك أشور عيَّر حزقيا ملك يهوذا بقوله: «ما هو هذا الاتكال الذي اتكلته؟..إنك قد اتكلت على عكاز هذه القصبة المرضوضة، على مصر التي إذا توكأ أحد عليها دخلت في كفِّه وثقبتها. هكذا فرعون ملك مصر لجميع المتوكلين عليه» (إش 36: 4، 6). ونُجرَّب أحياناً بأن نعتمد على نفوذنا الشخصي أو مركزنا الاجتماعي أو المالي، وفي لحظة يضيع ما نعتمد عليه! فلنستمع إلى قول الحكيم: «توكَّل على الرب بكل قلبك، وعلى فهمك لا تعتمد» (أم 3: 5). وهذا لا يعني الامتناع كلية عن طرق أبواب إخوة لنا ننشد معونتهم فالأخ للشدة يولد (أم 17: 17). ولكن لنكن أولاً ناظرين إلى فوق، من حيث يأتي عوننا، فإن «معونتي من عند الرب، صانع السماوات والأرض» (مز 121: 2).
2 – مبررات النصيحة: «ولا على ابن آدم، حيث لا خلاص عنده. تخرج روحه فيعود إلى ترابه. في ذلك اليوم تهلك أفكاره» (آيتا 3ب، 4). يبرهن المرنم على صدق نصيحته بأربعة أمور:
(أ) البشر ضعفاء: لأنهم أبناء آدم، وكلمة «آدم» من الكلمة العبرية «أدماه» ومعناها الأرض، فقد «جبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حية» (تك 2: 7). فرؤساء اليوم هم تراب الغد يدوسهم الإنسان والحيوان!
(ب) البشر لا ينجّون أحداً: «لا خلاص عنده» الإنسان لا يستطيع أن يخلص نفسه إن لم تأته معونة من أعلى، ولا يقدر أن يفدي نفسه من عقوبة الخطية. وإن كان عاجزاً عن إنقاذ نفسه، فكيف ينقذ غيره!
(ج) البشر مائتون: «تخرج روحه فيعود إلى ترابه» (آية 4أ). الإنسان تراب تذريه الريح. ومهما علا يوماً وملأ الجو فإن مصيره النهائي هو القبر. بعرق وجهه يأكل خبزاً حتى يعود إلى الأرض التي أُخذ منها. «لأنك تراب، وإلى ترابٍ تعود» (تك 3: 19). فكيف نتكل على العدم غير الموجود؟!
(د) تدبيرات البشر وقتية: «في ذلك اليوم نفسه تهلك أفكاره» (آية 4ب). يظن الإنسان أنه باقٍ إلى الأبد، فيحلم ويخطط ويطمح. ولكن ما هي حياتنا؟ إنها بخار يظهر قليلا ثم يضمحل (يع 4: 14). كان يجب أن يقول: «إن شاء الرب وعشنا نفعل هذا أو ذاك» (يع 4: 15). والإنسان الحكيم هو الذي يصلي قائلاً: «عرِّفني يا رب نهايتي، ومقدار أيامي كم هي، فأعلم كيف أنا زائل. هوذا جعلت أيامي أشباراً، وعمري كلا شيء قدامك. إنما نفخة كل إنسان قد جُعل. إنما كخيال يتمشّى الإنسان» (مز 39: 4-6). فكيف نتكل على زائل مثلنا؟ «هكذا قال الرب: ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه، وعن الرب يحيد قلبه. مبارك الرجل الذي يتكل على الرب، وكان الرب متكله» (إر 17: 5، 7).

ثالثاً – كفاية الرب
(آيات 5-10)
1 – تطويب الواثق في الرب: «طوبى لمن إله يعقوب معينه، ورجاؤه على الرب إلهه» (آية 5). هناك سعادة وفرح ورجاء لمن تجيء معونته من عند الرب، الذي غيَّر يعقوب المتعقب لأخيه عيسو وجعل منه »إسرائيل« الذي يجاهد مع الله، فقال: «صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك» (تك 32: 10). من كان الرب معينه له فيض بركة ونبع سلام لا ينضب، به يتقوى ويحتمي ولا يخزى، لأن الرب صالح وأمين وأمانته إلى الأبد. حتى إن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً، لن يقدر أن ينكر نفسه (2تي 2: 13). «طوبى للرجل الذي جعل الرب متكله، ولم يلتفت إلى الغطاريس والمنحرفين إلى الكذب» (مز 40: 4)، فيقول: «بك يا رب احتميت فلا أخزى إلى الدهر.. لأنك أنت رجائي يا سيدي الرب، متكلي منذ صباي» (مز 71: 1، 5).
2 – أسباب الثقة في الرب: (آيات 6-10).
(أ) الرب هو الخالق: «الصانع السماوات والأرض، البحرَ وكل ما فيها» (آية 6أ). في الرب كفاية المؤمن لأنه القوي خالق السماوات والأرض، وصاحب السلطان فيها كلها. سلطانه على السماوات وكل ما فيها من شمس وقمر ونجوم وكواكب، وهو موجد الأرض وما عليها والمسكونة والساكنين فيها، «قلب الملك في يد الرب كجداول مياه، حيثما شاء يُميله» (أم 21: 1). فنقول له: «أنت هو الرب وحدك. أنت صنعت السماوات وسماء السماوات وكل جندها، والأرض وما عليها، والبحار وكل ما فيها، وأنت تحييها كلها، وجند السماء لك يسجد» (نح 9: 6).
(ب) الرب أمين: «الحافظ الأمانة إلى الأبد» (آية 6ب). في الرب كفاية المؤمن لأنه أمين لوعوده، كما قال يشوع: «لم تسقط كلمة من جميع الكلام الصالح الذي كلَّم الرب به بيت إسرائيل. بل الكل صار» (يش 21: 45)، وقال سليمان الحكيم: «مباركٌ الرب الذي أعطى راحةً لشعبه إسرائيل حسب كل ما تكلم به، ولم تسقط كلمة واحدة من كل كلامه الصالح الذي تكلم به عن يد موسى عبده» (1مل 8: 56).
(ج) الرب عطوف: (آيات 7-9).
في الرب كفاية المؤمن لأنه عطوف على الجميع، وقد قال المسيح: «روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمى بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة» (لو 4: 18، 19). ويذكر المرنم ثمانية أنواع من الناس الذين يعطف الرب عليهم:
(1) المظلوم: «المُجري حُكماً للمظلومين» (آية 7أ). الإنسان ظلوم لأخيه الإنسان لكن «الرب يُجري العدل والقضاء لجميع المظلومين» (مز 103: 6) فإن ظُلمت سلِّمه شكواك، وانتظره واصبر له، فإنه يقيم دعواك ويُخرج مثل النور برك وحقك مثل الظهيرة (مز 37: 6).
(2) الجائع: «المعطي خبزاً للجياع» (آية 7ب). أطعم بني إسرائيل في البرية أربعين سنة بالمن، وعندما طلبوا اللحم أعطاهم السلوى «لأنه يشبع نفساً مشتهية، وملأ نفساً جائعة خبزاً» (مز 107: 9). وقد علَّمنا المسيح أن نطلب منه خبزنا كفافنا (مت 6: 11)، وهو القادر أن يفعل فوق كل شيء، أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر (أف 3: 20). وهو يشبع جوعنا الروحي بنفسه، فقد قال المسيح: «أنا هو خبز الحياة. من يُقبِل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً» (يو 6: 35).
(3) الأسير: «الرب يطلق الأسرى» (آية 7ج). الرب يفك القيود ويطلق الأسير إلى الحرية. كان بطرس مسجوناً يحرسه ستة عشر جندياً، وصلَّت الكنيسة من أجله، فأرسل الرب ملاكه وأيقظه وأسقط السلاسل من يديه ورجليه وفتح له باب السجن وأطلقه حراً (أع 12). وعندما كان بولس وسيلا سجينين في فيلبي «حدثت بغتة زلزلة عظيمة حتى تزعزعت أساسات السجن، فانفتحت في الحال الأبواب كلها، وانفكت قيود الجميع» (أع 16: 26).. على أن إطلاق الأسرى الأخطر والأهم هو تحرير أسرى الخطية الذين قيدهم إبليس، فيخلصهم الرب ويمنحهم حياة جديدة كما فعل المسيح مع السامرية (يو 4) ومع المرأة الخاطئة (يو 8) وزكا العشار (لو 19).. وهو يحرر من الخوف واليأس والفشل والمرارة والحقد والعادات السيئة «الرب فادي نفوس عبيده، وكل من اتكل عليه لا يُعاقب» (مز 34: 22).
(4) الأعمى: «الرب يفتح أعين العمي» (آية 8أ). يفتح أعين الجسد كما شفى المسيح المولود أعمى (يو9) والأعميين اللذين صرخا إليه فأعطاهما بحسب إيمانهما (مت 9). وهو يشفي من عمى البصيرة الذي هو أخطر من عمى البصر، وقد قال المسيح: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة» (يو 8: 12).
(5) المنحني: «الرب يقوِّم المنحنين» (آية 8ب). شفى المسيح المرأة المنحنية التي لم تكن تقدر أن تنتصب البتة بعد أن ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة «ووضع عليها يديه، ففي الحال استقامت ومجدت الله» (لو 13: 13). وهو يقوِّم كل من أثقلته الهموم فانحنى تحتها، لأنه القائل: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (مت 11: 28).
(6) الصدِّيق: «الرب يحب الصدّيقين» (آية 8ج). الصديق هو البار، أي صاحب الموقف السليم من الله، وليس أحد باراً في ذاته، ولكنه يتبرر بالإيمان بالمسيح، «فإذْ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون» (رو 5: 1، 2). والرب يحب الصديقين لأنهم لم يحاولوا تبرير نفوسهم، بل لجأوا إلى رحمته صارخين: «اللهم ارحمني أنا الخاطي» فصاروا مبرَّرين (لو 18: 13، 14). «أما خلاص الصديقين فمن قِبَل الرب، حصنهم في زمان الضيق» (مز 37: 39).
(7) الغريب: «الرب يحفظ الغرباء» (آية 9أ). يحفظ الرب الغريب المسافر العابر، غير المستقر، اللاجئ الذي ليس له حق إقامة، لأنهم بلا معين. يهتم الرب بالطبقات المهمَّشة في المجتمع، لأنه خالقهم وأبوهم. وهو يقول لكل من يهتم بهم: «بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم» (مت 25: 40). وليست الغربة مجرد اغتراب جسدي عن الوطن أو ابتعاد عن الأهل، فهناك اغتراب نفسي وإحساس بالوحدة حتى لو كان الشخص يعيش بين أهله. وهناك وحدة واغتراب في المرض، فنصرخ للرب: «التفِتْ إليَّ وارحمني لأني وحد ومسكين أنا» (مز 25: 16) فيسمعنا ويرد سبينا ويحفظ نفوسنا ويهدينا إلى سبل البر من أجل اسمه.

(8) اليتيم والأرملة: «الرب يعضد اليتيم والأرملة» (آية 9ب). يساند الرب من لا سند له. «غنّوا لله. رنموا لاسمه.. أبو اليتامى وقاضي الأرامل الله في مسكن قدسه» (مز 68: 4، 5). أسند الرب الأرملة وابنها اليتيم بعد أن أعطت النبي إيليا أولوية في الكعكة التي خبزتها، حتى أن «كوار الدقيق لم يفرغ وكوز الزيت لم ينقص حسب قول الرب الذي تكلم به عن يد إيليا» (1مل 17: 16). وتحنن المسيح على أرملة نايين وأقام وحيدها من الموت (لو 7: 12-15).
(د) الرب يعاقب الشرير: «أما طريق الأشرار فيعوِّجه» (آية 9ج). في الرب كفاية المؤمن لأنه يعاقب الشرير، ويخرج من عوجه بركة للمؤمن. «مكرهة الرب طريق الشرير» (أم 15: 9) لأنها طريق الحيدان عن الرب، وليست طريق الوصية المستقيمة، والحائدون عن الرب في التراب يُكتَبون (إر 17: 13). ويرد الرب الشر على رأس الشرير، كما قال للملك أخآب الذي قتل نابوت اليزرعيلي واغتصب كرمه: «في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت تلحس الكلاب دمك أنت أيضاً» (1مل 21: 19). يعوِّج الرب طريق الشرير ليحمي المؤمن منه، فيخرج من الآكل أكل ومن الجافي حلاوة (قض 14: 14)، كما قال يوسف لإخوته: «أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به خيراً.. ليحيي شعباً كثيراً» (تك 50: 20).
(هـ) الرب هو الملك: «يملك الرب إلى الأبد. إلهك يا صهيون إلى دور فدور. هللويا» (آية 10). في الرب كفاية المؤمن لأنه ملك الملوك ورب الأرباب، وليس لملكه نهاية. كل ملوك الأرض يبيدون ويموتون، ولكن الرب حي إلى الأبد، يسبحه المؤمن لأنه ملك حياته المتربع على عرش قلبه يستحق شكره وتكريمه وحمده، يعظم اسمه ويعلن حقه ويعرِّف بصلاحه ويخبر الجميع بجوده. الرب هو السيد منذ الأزل وإلى الأبد، وهو ليس محدوداً بمكان، وليس إله شعب دون شعب، وهو يقول: «وُجدت من الذين لم يطلبوني، وصرت ظاهراً للذين لم يسألوا عني» (رو 10: 20 مقتبسة من إش 65: 1) وهو يقول: «من يغلب فسأجعله عموداً في هيكل إلهي، ولا يعود يخرج إلى خارج، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند إلهي واسمي الجديد» (رؤ 3: 12).
هللويا! سبحوه. باركوه. مجدوه، يبارككم ويحرسكم ويضيء بوجهه عليكم ويرحمكم، ويرفع وجهه عليكم ويمنحكم سلاماً (عدد 6: 24-26).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّابِعُ وَالأَرْبَعُونَ
1سَبِّحُوا الرَّبَّ، لأَنَّ التَّرَنُّمَ لإِلَهِنَا صَالِحٌ. لأَنَّهُ مُلِذٌّ. التَّسْبِيحُ لاَئِقٌ. 2الرَّبُّ يَبْنِي أُورُشَلِيمَ. يَجْمَعُ مَنْفِيِّي إِسْرَائِيلَ. 3يَشْفِي الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، وَيَجْبُرُ كَسْرَهُمْ. 4يُحْصِي عَدَدَ الْكَوَاكِبِ. يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ. 5عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا وَعَظِيمُ الْقُوَّةِ. لِفَهْمِهِ لاَ إِحْصَاءَ. 6الرَّبُّ يَرْفَعُ الْوُدَعَاءَ، وَيَضَعُ الأَشْرَارَ إِلَى الأَرْضِ.
7أَجِيبُوا الرَّبَّ بِحَمْدٍ. رَنِّمُوا لإِلَهِنَا بِعُودٍ. 8الْكَاسِي السَّمَاوَاتِ سَحَاباً، الْمُهَيِّئِ لِلأَرْضِ مَطَراً، الْمُنْبِتِ الْجِبَالَ عُشْباً، 9الْمُعْطِي لِلْبَهَائِمِ طَعَامَهَا، لِفِرَاخِ الْغِرْبَانِ الَّتِي تَصْرُخُ. 10لاَ يُسَرُّ بِقُوَّةِ الْخَيْلِ. لاَ يَرْضَى بِسَاقَيِ الرَّجُلِ. 11يَرْضَى الرَّبُّ بِأَتْقِيَائِه،ِ بِالرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ.
12سَبِّحِي يَا أُورُشَلِيمُ الرَّبَّ. سَبِّحِي إِلَهَكِ يَا صِهْيَوْنُ. 13لأَنَّهُ قَدْ شَدَّدَ عَوَارِضَ أَبْوَابِكِ. بَارَكَ أَبْنَاءَكِ دَاخِلَكِ. 14الَّذِي يَجْعَلُ تُخُومَكِ سَلاَماً، وَيُشْبِعُكِ مِنْ شَحْمِ الْحِنْطَةِ. 15يُرْسِلُ كَلِمَتَهُ فِي الأَرْضِ. سَرِيعاً جِدّاً يُجْرِي قَوْلَهُ. 16الَّذِي يُعْطِي الثَّلْجَ كَالصُّوفِ، وَيُذَرِّي الصَّقِيعَ كَالرَّمَادِ. 17يُلْقِي جَمْدَهُ كَفُتَاتٍ. قُدَّامَ بَرْدِهِ مَنْ يَقِفُ؟ 18يُرْسِلُ كَلِمَتَهُ فَيُذِيبُهَا. يَهُبُّ بِرِيحِهِ فَتَسِيلُ الْمِيَاهُ. 19يُخْبِرُ يَعْقُوبَ بِكَلِمَتِهِ، وَإِسْرَائِيلَ بِفَرَائِضِهِ وَأَحْكَامِهِ. 20لَمْ يَصْنَعْ هَكَذَا بِإِحْدَى الأُمَمِ، وَأَحْكَامُهُ لَمْ يَعْرِفُوهَا. هَلِّلُويَا!

التسبيح مُلذٌّ ولائق
هذا مزمور تسبيح لله لا نعرف بالضبط زمن كتابته، فربما يكون قد كُتب أثناء العودة من السبي، وفيه يقدم الشعب الشكر لله الذي جمع شعبه من بلاد السبي وأعادهم إلي أرضهم تحقيقاً لنبوَّة إرميا: «ها أيامٌ تأتي يقول الرب وأرد سبي شعبي إسرائيل ويهوذا، يقول الرب، وأُرجعهم إلى الأرض التي أعطيت آباءهم إياها فيمتلكونها» (إر 30: 3)، وربما كُتب بمناسبة إعادة بناء أسوار أورشليم بقيادة نحميا، كما يقول الوحي: «وعند تدشين سور أورشليم طلبوا اللاويين من جميع أماكنهم ليأتوا بهم إلى أورشليم لكي يدشنوا بفرحٍ وحمد وغناءٍ بالصنوج والرباب والعيدان» (نح 12: 27). وأياً كانت مناسبة كتابة المزمور، فهو دعوة مفتوحة لكل شعب الرب ليسبحوا الرب ويتغنوا بمراحمه وإحساناته، فتسبيحه لائق وواجب في كل وقت وكل ظرف، لأنه صالح ومحبته لا تتوقَّف أبداً ولا تتغير، فنهتف: «أغني للرب في حياتي. أرنم لإلهي ما دمت موجوداً، فيلذُّ له نشيدي، وأنا أفرح بالرب» (مز 104: 33، 34).
في هذا المزمور ثلاثة أقسام رئيسية، يبدأ كل قسم منها بدعوة للتسبيح، يعقبها توضيح أسباب هذا التسبيح وموضوعه، ليذكر المؤمن جود الرب الدائم وذراعه الممدودة ويمينه القوية، فإن «الرب ملجأٌ لشعبه» (يوء 3: 16) و«الإله القديم ملجأ، والأذرع الأبدية من تحت» (تث 33: 27).

في هذا المزمور نجد:
أولاً – شكر على ردّ السبي (آيات 1-6)
ثانياً – شكر على العناية الإلهية (آيات 7-11)
ثالثاً – شكر على السلام (آيات 12-20)

أولاً – شكر على ردّ السبي
(آيات 1-6)
1 – دعوة للتسبيح: «سبحوا الرب لأن الترنُّم لإلهنا صالح، لأنه مُلذّ. التسبيح لائق» (آية 1). هذه دعوة وهي في الوقت نفسه أمر.
(أ) التسبيح صالح: «سبِّحوا.. لأن الترنم لإلهنا صالح». ارفعوا أصوات الحمد ليسمع الرب الصالح أصواتكم، و«ليس أحدٌ صالحاً إلا واحد وهو الله» (مت 19: 17)، والتسبيح يُسرُّه. وإن كانت الخليقة كلها تسبح ربَّ الكون فجديرٌ بنا أن نشترك معها في تمجيده، وهو القائل: «ذابح الحمد يمجدني، والمقوِّم طريقه أُريه خلاص الله» (مز 50: 23). والتسبيح صالح للرب الصالح لجميع الذين يطلبون وجهه، فهو مصدر كل صلاح، وعندما نرنم له تصبح قلوبنا وأفكارنا صالحة، ونبتهج ونتقوى ونتشجع، ويزول عنا اليأس والخوف، ونهزم إبليس ونقوى على أعدائنا. والترنم لإلهنا صالح لمن يسمعون تسبيحنا، لأنه يدعوهم ليشتركوا معنا في أفراح التسبيح، عملاً بالوصية الرسولية: «أمسرور أحد؟ فليرتِّل» (يع 5: 13). والتسبيح أفضل استخدام للغة الكلام، وأمتع اجتماع يتناغم فيه الإخوة معاً فرحاً بالأب الواحد الذي يشتركون في الإنشاد له.
(ب) التسبيح مُلذ: «لأنه مُلذّ» (آية 1ب). ملذ للرب وملذ للمرنم، فهو ينعش العقل والقلب «سبحوا الرب لأن الرب صالح. رنموا لاسمه لأن ذاك حلو» (مز 135: 3).
(ج) التسبيح لائق: «التسبيح لائق» (آية 1ج). لائق بالرب لأنه صاحب الفضل علينا، فنحن به نحيا ونتحرك ونوجد، وبدونه لا نقدر أن نفعل شيئاً. وهو لائق بالجلال الإلهي، ولائق بنا لنردَّ له شيئاً من حسناته، فكل شيء عندنا هو من عنده. فلنقدم «في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه» (عب 13: 15). والتسبيح لائق لأنه تعبير عن محبتا لمن أحبنا فضلاً وبذل نفسه عنا ليردَّ سبي نفوسنا من أرض الضلال ويعيدنا إلى حظيرته فيباركنا، ويوسِّع لنا من بعد ضيق، ويقرِّبنا إليه من بَعد بُعد، ويشفينا من بعد مرض، ويُشبعنا من بعد جوع، ويُلبسنا ثياب البر من بعد عري الخطية.
2 – الدافع على التسبيح: (آيات 2-6).
(أ) الله يبني ويجمع: «الرب يبني أورشليم، يجمع منفيّي إسرائيل» (آية 2). عندما عصى بنو إسرائيل الرب سمح بسبيهم إلى بابل، فحُرموا من عبادته في هيكله المقدس. وعندما انتهت سنوات السبي السبعون أعادهم إلى بلادهم فأعادوا بناء أسوار أورشليم المهدَّمة، فامتلأت أفواههم ضحكاً وألسنتهم ترنماً للرب الصالح الذي جمعهم من بعد شتات، وسبَّحوه لأنه يبني ما أخربه العدو، ولا يترك مدينته، ولا يتخلى عن أتقيائه، ويعين الضعيف ويقيم الساقط. فتحققت لهم نبوَّة إشعياء: «مفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بالترنم، وعلى رؤوسهم فرح أبدي. ابتهاج وفرح يدركانهم. يهرب الحزن والتنهد» (إش 51: 11). ولا زال الرب يبني المؤمنين هياكل للروح القدس بعد أن هدمتهم الخطية وأبعدتهم عن الله «فإنكم أنتم هيكل الله الحي كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وسأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً» (2كو 6: 16).
(ب) الله يعزي: «يشفي المنكسري القلوب ويجبر كسرهم» (آية 3). كم حزن بنو إسرائيل في السبي وهم يذكرون مدينتهم ومقدساتهم التي دنسها الوثنيون ودمروها، وحزنوا على خطاياهم التي أوقعتهم أسرى شعب وثني لا يعرف الله، فصارت آثامهم فاصلةً بينهم وبين إلههم ومكان عبادته. وقد عبَّر الوالي نحميا عن هذا في قوله: «بكيتُ ونُحْتُ أياماً، وصُمْت وصلَّيت أمام إله السماء. وقلت للملك.. كيف لا يكمد وجهي والمدينة بيت مقابر آبائي خراب وأبوابها قد أكلتها النار؟» (نح 1: 4 و2: 3). ولكن الرب عزّاهم وشفى قلوبهم الكسيرة برحمته.. واليوم يعزينا الرب، فقد جاء المسيح إلى أرضنا ليشفي منكسري القلوب (لو 4: 18) من ارتكاب خطية، أو خيانة عزيز، أو فقد قريب، أو ضياع أمل، فتنحني النفس تحت هذا الحمل الثقيل وتصرخ إلى الرب، فيسمع، ويعصب ويجبر ويغفر ويشفي ويفدي من حفرة اليأس ويكلل بالرحمة والرأفة (مز 103). فما أمجد أن نذكر أن لنا رجاءً في المسيح الذي تألم مجرَّباً ويقدر أن يُعين المجرَّبين (عب 2: 18).
(ج) الله يعرف: «يُحصي عدد الكواكب. يدعو كلها بأسماء. عظيم هو ربنا وعظيم القوة. لفهمه لا إحصاء» (آيتا 4، 5). قال الله لخليله إبراهيم: «انظر إلى السماء وعُدَّ النجوم إن استطعت أن تعدَّها» (تك 15: 5). وهو يقول للبشر: «ارفعوا عيونكم وانظروا: من خلق هذه؟ من الذي يُخرج بعددٍ جُندها، يدعو كلها بأسماء؟ لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يُفقَد أحد.. أما عرفت، أم لم تسمع؟ إله الدهر الرب، خالق أطراف الأرض، لا يكل ولا يعيا. ليس عن فهمه فحص» (إش 40: 26، 28). فلنسبِّح خالق الكون الذي يعرف عدد النجوم التي خلقها، ويميِّزها بأسماء، ولا يسقط كوكبٌ منها بدون أمره، فإنه خلق كل الأشياء، وهى بإرادته كائنة. لقد أوجدت كلمة قدرته الكون كله من لا شيء، وتحفظه إلى الدهر. «كل ما شاء الرب صنع في السماوات وفي الأرض، في البحار وفي اللجج» (مز 135: 6). وهو الذي أوجدنا، ويرعانا. حتى شعور رؤوسنا جميعها محصاة، ولا تسقط واحدة منها دون إذنه (متى 10: 30). إنه يعرفنا بأسمائنا (يو 10: 3)، ويشعر معنا، ويتضايق لضيقنا، وملاك حضرته يخلِّصنا (إش 63: 9) ويقول لنا: «لا تخف لأني فديتك. دعوتك باسمك، أنت لي» (إش 43: 1).
(د) الله يحكم بالعدل: «الرب يرفع الودعاء، ويضع الأشرار إلى الأرض» (آية 6). عندما أخطأ بنو إسرائيل عاقبهم الله بالعدل، وأسلمهم لأعدائهم. وفي السبي انكسرت قلوبهم على خطاياهم، فكان العادل الرحيم الذي حقَّق وعده لسليمان: «إذا تواضع شعبي الذين دُعي اسمي عليهم، وصلّوا وطلبوا وجهي، ورجعوا عن طرقهم الرديئة، فإنني أسمع من السماء، وأغفر خطيتهم، وأبرئ أرضهم» (2أي 7: 14). رفع الله وجه نحميا الوديع المتواضع الذي اعترف بخطايا بني إسرائيل، وخطايا بيت أبيه، وخطاياه هو (نح 1: 6) ووضع الأشرار الذين عطلوا بناء بيت الرب إلى الأرض. حقاً إن الرب «يحب الحق، ولا يتخلى عن أتقيائه. إلى الأبد يُحفَظون. أما نسل الأشرار فينقطع. الصدِّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد» (مز 37: 28، 29). «معروفٌ هو الرب. قضاءً أمضى. الشرير يَعْلَق بعمل يديه. الأشرار يرجعون إلى الهاوية، كل الناسين الله» (مز 9: 16، 17). أما الودعاء فطوبى لهم لأنهم يرثون الأرض (مت 5: 5).

ثانياً – شكر على العناية الإلهية
(آيات 7-11)
1 – دعوة للتسبيح: «أجيبوا الرب بحمد. رنِّموا لإلهنا بعود» (آية 7). يكرر المرنم الدعوة لشعبه ليجيبوا على إحسانات الرب بالحمد والترنيم، بأصواتهم وآلاتهم الموسيقية. لقد ردَّ سبي الشعب الذي أخطأ فيجب أن يتجاوب شعبه معه بحمده والترنيم له. عندما أخطأ آدم وعصى الرب اختبأ من الرب، ففتَّش الرب عليه لأنه يريد أن يستر عريه. كان يجب أن يذهب آدم المخطئ إلى الرب معترفاً بذنبه طالباً غفرانه، ولما لم يفعل ناداه الله ليستره. ولا زال الرب يفتش عن كل ضال حتى يجده. «الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم» (2كو 5: 19). فلنجِب على صلاح الرب بالحمد من القلب واللسان، وليعلُ صوتنا مع آلات العزف قائلين: «قوَّتي وترنُّمي الرب، وقد صار لي خلاصاً» (مز 118: 14).
2 – الدافع على التسبيح: (آيات 8-11).
(أ) شكر على الثروة الزراعية: «الكاسي السموات سحاباً، المهيئِ للأرض مطراً، المنبتِ الجبال عشباً» (آية 8). يجب أن يحمد الشعب الرب لأنه لم يخلقهم ويتركهم للظروف، بل اعتنى بهم ودبَّر كل احتياجاتهم، وهيَّأ كل ما يجعل الزرع والأعشاب تنمو. حتى الجبال التي لا يسكنها أحد نالت نصيبها من عناية الرب كما تناله الوديان. «الساقي الجبال من علاليه. من ثمر أعمالك تشبع الأرض. المنبت عشباً للبهائم وخضرة لخدمة الإنسان، لإخراج خبز من الأرض» (مز 104: 13، 14).
(ب) شكر على الثروة الحيوانية: «المعطي البهائم طعامها، لفراخ الغربان التي تصرخ» (آية 9). نقدم الشكر للرب الذي يعتني بكل خليقته من ضعيف وقوي، فالبهائم ذات أحجام كبيرة وأجساد قوية، والإنسان يستخدمها في مساعدته، لكن الرب يعطيها طعامها لأنها تعجز عن تدبير قوتها بنفسها. أما صغار الغربان العاجزة عن العناية بنفسها فتجد أيضاً الرعاية الإلهية. وقد سأل الله أيوب: «من يهيئ للغراب صيده إذ تنعب فراخه إلى الله وتتردد لعدم القوت؟» (أي 38: 41). قال المسيح: «تأملوا الغربان. إنها لا تزرع ولا تحصد، وليس لها مخدع ولا مخزن. والله يُقيتها. كم أنتم بالحري أفضل من الطيور!» (لو 12: 24). فلنشكر الرب الذي لا ينسى أحداً.
(ج) شكر على الرضى الإلهي: «لا يُسرُّ بقوَّة الخيل. لا يرضى بساقي الرجل. يرضى الرب بأتقيائه، بالراجين رحمته» (آيتا 10، 11). يتحدث المرنم عن أسلحة الحرب في أيامه، فيذكر قوة الخيل وقدرة الرجال على سرعة الجري في الكر والفر، ويقول إن بني إسرائيل الذين لم يقدروا أن يصمدوا في الحرب أمام جحافل مملكة بابل، عادوا إلى أرضهم، بسبب رضا الرب عليهم. ولم تقُم عودتهم على قوتهم الحربية، بل على تقواهم وانتظارهم لرحمته، فالرب يكرم أتقياءه الذين يخشونه ويخضعون له بخوف المحبة وطاعتها. قال المرنم: «لن يخلُص الملك بكثرة الجيش. الجبار لا يُنقَذ بعِظم القوة. باطلٌ هو الفرس لأجل الخلاص، وبشدَّة قوته لا ينجي. هوذا عين الرب على خائفيه الراجين رحمته» (مز 33: 16-18).

ثالثاً – شكر على السلام
(آيات 12-20)
1 – دعوة للتسبيح: «سبحي يا أورشليم الرب. سبحي إلهك يا صهيون» (آية 12). لا يتوقف المرنم عن دعوة شعبه وتشجيعهم ليسبحوا ربهم الذي اختارهم ليكونوا دُعاة الحق والخير في العالم، فقد اختار أورشليم وحصن صهيون مكاناً لإقامة هيكل سليمان. ويشجع المرنم شعبه ليفرحوا ويعلنوا عن فرحهم بالامتياز والاختيار الإلهيين. ومن يجب أن يسبح الرب كشعب الرب الذي دُعي عليه اسمه، والذي ردَّ سبيه بنعمته! فلنسبح هذا الإله العظيم، الذي نحن له والذي نعبده وننتمي إليه، قائلين مع المرنم: «من لي في السماء؟ ومعك لا أريد شيئاً في الأرض» (مز 73: 25).
2 – الدافع على التسبيح: (آيات 13-20).
(أ) عناية الله: (آيتا 13، 14).
(1) تمنح الحماية: «لأنه قد شدَّد عوارض أبوابك، وبارك أبناءك داخلك» (آية 13). العوارض هي العتب الأعلى الذي يثبت فيه الباب لكي يدور فينفتح وينغلق بسهولة (انظر نح 3: 3، 6، 13-15). وقد شدَّد الله عوارض الأبواب العليا لكي لا تسقط، ولتنفتح لأهل البيت الداخلين بسلام، ولتنغلق في وجه الأعداء فيحمي الله شعبه، فيكونون «كطيور مُرفَّة. هكذا يحامي رب الجنود عن أورشليم. يحامي فينقذ. يعفو فينجي» (إش 31: 5). لقد حمى الله أبكار شعبه الموجودين داخل بيوتهم من الملاك المهلك، بينما هلك أبكار المصريين، لأن بني إسرائيل أطاعوا التوجيه الإلهي القائل: «يأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا.. ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربةٌ الهلاك حين أضرب أرض مصر» (خر 12: 7، 13). والرب دائماً يحمي عوارض أبواب شعبه «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18) لأن الذي فيها أقوى من الذي في العالم (1يو 4: 4). فما أجمل الوعد القائل: «على أسوارك يا أورشليم أقمت حراساً لا يسكتون كل النهار وكل الليل» (إش 62: 6).
(2) تمنح الطمأنينة: «الذي يجعل تخومك سلاماً، ويشبعك من شحم الحنطة» (آية 14). عناية الله بشعبه تجعل حدودهم آمنة، فلا يهاجمهم مُعتدٍ أثيم، بل يجعل أعداءهم يسالمونهم، ويقول لهم: «ويسكن شعبي في مسكن السلام، وفي مساكن مطمئنة وفي محلات أمينة» (إش 32: 18). وحيث يسود السلام تسود البركة، ويفيض الرب على شعبه بشبع من دسم الحنطة بحسب جوده «لأنه قبل هذه الأيام لم تكن للإنسان أجرة.. ولا سلامٌ لمن خرج أو دخل.. أما الآن.. زَرْع السلام. الكَرْم يعطي ثمره، والأرض تعطي غلَّتها، والسماوات تعطي نداها، وأُملِّك بقية هذا الشعب هذه كلها» (زك 8: 10-12).
(ب) سلطان الله: (آيات 15-20).
(1) سلطان كلمته: «يرسل كلمته في الأرض. سريعاً جداً يُجري قوله» (آية 15). يدعو المرنم شعبه ليسبِّحوا الرب صاحب السلطان، الذي يقول «كن فيكون» وهو الذي يأمر فيصير «قال الله: ليكن نور فكان نور» (تك 1: 3). وكلمته تُجري مقاصده الصالحة. لم تسقط كلمة واحدة من كل كلامه الصالح (1مل 8: 56). في القديم صارت كلمة الرب إلى شعبه بالأنبياء، ولكنه كلَّمنا في ابنه «الكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيدٍ من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً» (يو 1: 14). تنازل «الكلمة» وهو المرتفع، واتضع وهو العالي، وافتقر وهو الغني لكي نستغني بفقره. كان الأنبياء يؤيدون رسائلهم بالقول: «هكذا قال الرب». أما المسيح فكان يقول: «الحق الحق أقول لكم» لأنه الكلمة والمتكلم، والرسالة والرسول، والنبي وموضوع النبوات، الذي دُفع إليه كل سلطان في السماء وعلى الأرض. قال للميت: «أيها الشاب لك أقول قم. فجلس الميت وابتدأ يتكلم» (لو 7: 14، 15) «انتهر الريح وقال للبحر: اسكت. ابكم. فسكتت الريح وصار هدوء عظيم.. وقالوا.. من هو هذا؟ فإن الريح أيضاً والبحر يطيعانه» (مر 4: 39، 41). ولا زالت كلمته تعمل في القلوب، لأن «كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً، متأهِّباً لكل عمل صالح» (2تي 3: 16، 17).
(2) سلطان قدرته: «الذي يعطي الثلج كالصوف، ويذرّي الصقيع كالرماد. يلقي جَمْدَه كفُتات. قدام بَرْده من يقف؟ يرسل كلمته فيذيبها. يهبُّ بريحه فتسيل المياه» (آيات 16-18). يدعو المرنم شعبه ليسبحوا الرب شكراً على قدرته الظاهرة في سلطانه على الطبيعة. في الشتاء يعطي الثلج الأبيض كالصوف، ويذري الصقيع رمادي اللون، ويُنزل الجليد كفتات الخبز، فيرتجف الإنسان من شدة البرد. وسرعان ما يجيء الربيع فتذوب هذه كلها، وتهب الرياح الدافئة فتذوب الثلوج. هناك مناطق حارة تهطل فيها الأمطار، وهناك مناطق قطبية تغطيها الثلوج، وتنبت في هذه وتلك أنواع مختلفة من النباتات. في هذه المناطق تعيش أنواع من البشر والحيوان والطير، دبر الله لكل منها الظروف والطعام التي تلائمها وتعينها على البقاء. ويشبِّه المرنم الثلج بالصوف لأنهما يشتركان في اللون الأبيض، ولأن الرب صانعهما كليهما، ولأنهما لازمان للحفاظ على الحياة. ويصف المرنم الحالات التي نرى فيها الماء، فهو ثلج وجَمْدٌ وصقيع، يذوب ليصبح ماءً يروي الأرض، فتنمو النباتات، ويأكل الإنسان والطير والحيوان، ويشربون.
(3) سلطان شريعته: «يخبر يعقوب بكلمته، وإسرائيل بفرائضه وأحكامه» (آية 19). أحب الرب بني إسرائيل، وباركهم بشريعته، ووعظهم بأنبيائه، وعرَّفهم بأحكامه وطرقه، فقال لهم موسى: «احفظوا واعملوا. لأن ذلك حكمتكم وفطنتكم أمام أعين الشعوب.. لأنه أي شعب عظيم له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا؟.. وأي شعب عظيم له فرائض وأحكام عادلة مثل كل هذه الشريعة؟» (تث 4: 6-8). أعطى الرب كلمته لبني إسرائيل، وكلمنا في المسيح «الكلمة الحي» وهو يعطي الحياة الأبدية لكل من يقبل المسيح الفادي والمخلِّص في كل قبيلة وشعب وأمة ولسان.
(4) سلطان حريته: «لم يصنع هكذا بإحدى الأمم، وأحكامه لم يعرفوها. هللويا» (آية 20). اختار الله بني إسرائيل ليعطيهم شريعته مكتوبة على لوحي حجر أعطاهما لموسى كليمه، ليكونوا «مملكة كهنة وأمة مقدسة» (خر 19: 6). ولكنهم احتفظوا بشريعة الرب لأنفسهم، ولم يعلِّموها للوثنيين من حولهم، بل إنهم كسروها وعصوا. لقد دعاهم ليكونوا نوراً للعالم وملحاً للأرض، واختارهم ليخبروا الأمم بحقِّه، كما قال لإبراهيم: «أباركك.. وتكون بركة» (تك 12: 2). لكنهم احتفظوا بالبركة لأنفسهم، فأخذها منهم وأعطاها لكل من يقبل فداء المسيح، وقال الوحي عن المسيح: «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه» (يو 1: 11، 12). فصار هؤلاء المؤمنون الأمة التي تعرف الشريعة، فتهتف مع صاحب المزمور «هللويا!». فسبحان الله الذي فتح باب الإيمان لكل من يقبله!

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالثَّامِنُ وَالأَرْبَعُونَ
1هَلِّلُويَا! سَبِّحُوا الرَّبَّ مِنَ السَّمَاوَاتِ. سَبِّحُوهُ فِي الأَعَالِي. 2سَبِّحُوهُ يَا جَمِيعَ مَلاَئِكَتِهِ. سَبِّحُوهُ يَا كُلَّ جُنُودِهِ. 3سَبِّحِيهِ يَا أَيَّتُهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. سَبِّحِيهِ يَا جَمِيعَ كَوَاكِبِ النُّورِ. 4سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ، وَيَا أَيَّتُهَا الْمِيَاهُ الَّتِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ. 5لِتُسَبِّحِ اسْمَ الرَّبِّ، لأَنَّهُ أَمَرَ فَخُلِقَتْ، 6وَثَبَّتَهَا إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. وَضَعَ لَهَا حَدّاً فَلَنْ تَتَعَدَّاهُ.
7سَبِّحِي الرَّبَّ مِنَ الأَرْضِ يَا أَيَّتُهَا التَّنَانِينُ، وَكُلَّ اللُّجَجِ، 8النَّارُ، وَالْبَرَدُ، الثَّلْجُ، وَالضَّبَابُ، الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الصَّانِعَةُ كَلِمَتَهُ، 9الْجِبَالُ وَكُلُّ الآكَامِ، الشَّجَرُ الْمُثْمِرُ وَكُلُّ الأَرْزِ، 10الْوُحُوشُ وَكُلُّ الْبَهَائِمِ، الدَّبَّابَاتُ وَالطُّيُورُ ذَوَاتُ الأَجْنِحَةِ، 11مُلُوكُ الأَرْضِ وَكُلُّ الشُّعُوبِ، الرُّؤَسَاءُ وَكُلُّ قُضَاةِ الأَرْضِ، 12الأَحْدَاثُ وَالْعَذَارَى، أَيْضاً الشُّيُوخُ مَعَ الْفِتْيَانِ، 13لِيُسَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ، لأَنَّهُ قَدْ تَعَالَى اسْمُهُ وَحْدَهُ. مَجْدُهُ فَوْقَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ. 14وَيَنْصِبُ قَرْناً لِشَعْبِهِ، فَخْراً لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ، لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الشَّعْبِ الْقَرِيبِ إِلَيْهِ. هَلِّلُويَا!

سبِّحوه في الأعالي
يبدأ هذا المزمور وينتهي بكلمة «هللويا» وهي كلمة عبرية معناها «سبحوا الرب» أو سبحان الله! فالمزمور ترنيمة شكر لله الذي ينصر شعبه، ويردّهم من سبيهم، ويقرِّبهم إليه، كما تقول الآية الأخيرة منه: «ينصب قرناً لشعبه، فخراً لجميع أتقيائه، لبني إسرائيل، الشعب القريب إليه. هللويا». ولعل هذا المزمور كُتب استجابةً لقول اللاويين لبني إسرائيل: «قوموا باركوا الرب إلهكم من الأزل إلى الأبد، وليتبارك اسم جلالك المتعالي على كل بركة وتسبيح. أنت هو الرب وحدك. أنت صنعت السماوات وسماء السماوات وكل جندها، والأرض وكل ما عليها، والبحار وكل ما فيها. وأنت تحييها كلها، وجُند السماء لك يسجد» (نح 9: 5، 6).
في هذا المزمور يدعو المرنم السماء وما فيها لتسبح الرب، فتستجيب الأرض لتسبيح السماء وتسبح معها. تبدأ السماء وتردُّ الأرض، فترنم الخليقة كلها معلنةً صلاح الرب الذي يستحق التمجيد والتسبيح، وتشترك كجوقة موسيقية متكاملة، ترفع ألحان الحمد للرب صخر الدهور الذي يُنعم على الكل. ونكاد نرى صاحب المزمور يطفر فرحاً كما فعل داود وجميع بني إسرائيل حين أصعد تابوت الرب بالهتاف وبصوت البوق «وكان داود يرقص بكل قوته أمام الرب» (2صم 6: 14). فلنقُل مع المرنم: «فأنا أيضاً أحمدك بربابٍ، حقَّك يا إلهي. أرنم لك بالعود يا قدوس إسرائيل. تبتهج شفتاي إذ أرنم لك، ونفسي التي فديتَها» (مز 71: 22، 23).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – السماء وما فيها تسبِّح الرب (آيات 1-6)
ثانياً – الأرض وما فيها تسبِّح الرب (آيات 7-14)

أولاً – السماء وما فيها تسبح الرب
(آيات 1-6)
كان معظم الناس في زمن المرنم يعبدون الملائكة والشمس والقمر والنجوم، وهي معبودات باطلة. ويدعو المرنم هذه المعبودات الوثنية أن تبادر بإعلان عبادتها لله المعبود الوحيد، لأنه خالقها، حتى يخجل الذين يعبدونها، ويسجدون لخالقهم وخالق معبوداتهم. والمرنم يدعوهم بدعوة الله لهم: «أَخبِروا. قدِّموا ليتشاوروا معاً. مَن أعلمَ بهذه منذ القديم؟ أخبر بها منذ زمان؟ أليس أنا الرب ولا إله غيري؟ إلهٌ بار ومخلِّص. ليس سواي» (إش 45: 21). ومن الغريب أننا لا نزال نسمع عن أناسٍ يأتون من بلاد بعيدة لزيارة الأهرامات وأبي الهول والمعابد المصرية القديمة ويقيمون عندها طقوساً دينية لعبادة الشمس، كما لا تزال بعض القبائل البدائية الوثنية تعبد المخلوق دون الخالق. ويحمِّلنا هذا المزمور مسؤولية دعوة هؤلاء لعبادة الرب الخالق، فنذهب إلى العالم أجمع ونكرز بالإنجيل للخليقة كلها (مر 16: 15) «لأنه مكتوب: أنا حي يقول الرب، إنه لي ستجثو كل ركبة، وكل لسان سيحمد الله» (رو 14: 11، مقتبسة من إش 45: 23). ولقد رأى يوحنا اللاهوتي الحيوانات الأربعة، التي تمثِّل الخليقة غير الناطقة «لا تزال نهاراً وليلاً قائلةً: قدوس قدوس قدوس الرب الإله القادر على كل شيء، الذي كان والكائن والذي يأتي» (رؤ 4: 8).
1 – دعوة للتسبيح: «هللويا. سبِّحوا الرب من السماوات. سبحوه في الأعالي» (آية 1). قال بِلدد الشوحي، صديق أيوب: «هل مِن عددٍ لجنوده؟ وعلى مَن لا يشرق نوره؟» (أي 25: 3). وفي تهليل يدعو صاحب مزمورنا الخليقة الموجودة في السماوات أن تسبِّح الرب من عليائها من أجل الرفعة التي منحها وميَّزها بها. ويدعو سائر البشر ليشتركوا معه في تسبيح خالقهم، فتصعد أصواتهم إليه رائحةً عطرة. والتسبيح يفرح قلب الله لأنه يُسمعه صوت خليقته وعمل يديه، وهم يهتفون: «أيها الرب سيدنا، ما أمجد اسمك في كل الأرض، حيث جعلت جلالك فوق السماوات!» (مز 8: 1).
2 – المدعوون للتسبيح: (آيات 2-4).
(أ) الملائكة وجنوده: «سبِّحوه يا جميع ملائكته. سبِّحوه يا كل جنوده» (آية 2). وكان هذا نداء داود: «باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه. باركوا الرب يا جميع جنوده، خدامَه العاملين مرضاته» (مز 103: 20، 21). وهذا ما رآهم إشعياء يفعلونه، فقال: «رأيت السيد جالساً على كرسي عالٍ ومرتفع، وأذياله تملأ الهيكل. السرافيم واقفون فوقه.. وهذا نادى ذاك وقال: قدوس قدوس قدوس رب الجنود. مجده ملء كل الأرض» (إش 6: 1-3). وهذا ما فعلوه عندما وُلد المسيح، فظهر جمهورٌ من الجند السماوي مسبِّحين الله وقائلين: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة» (لو 2: 13، 14). وقال يوحنا الرائي: «وسمعتُ صوت ملائكة كثيرين حول العرش.. قائلين بصوت عظيم: مستحق هو الحمل المذبوح أن يأخذ القدرة والغِنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة. وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، وما على البحر، كل ما فيها قائلة: للجالس على العرش وللحمل البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين» (رؤ 5: 11-13). فهُم يسبحون سيد السماء والأرض، وهم جنوده، والأرواح التي يرسلها ليخدموا الذين سيرثون الخلاص (عب 1: 14).
(ب) الشمس والقمر والكواكب: «سبحيه يا أيتها الشمس والقمر. سبحيه يا جميع كواكب النور» (آية 3). الله نور وليس فيه ظلمة البتة (1يو 1: 5). ويدعو المرنم كل المخلوقات النورانية أن ترفع التسبيح لمصدر بهائها ولمعانها، والفاعل فيها لتضيء الكون، فقد «عمل الله النورين العظيمين: النور الأكبر لحُكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل. وجعلها الله في جَلد السماء لتنير على الأرض» (تك 1: 16، 17). وهي تدور في فلكها تعلن دائماً مجد الصانع العظيم المحب لخليقته. «السماوات تحدِّث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه. يومٌ إلى يومٍ يذيع كلاماً، وليل إلى ليل يبدي علماً» (مز 19: 1، 2). واليوم نسبح الرب الذي لم يتركنا في ظلام العالم وعتامة الخطية، بل أرسل لنا المسيح يقول: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة» (يو 8: 12). فلنسلك كأولاد نور (أف 5: 8) وليضئ نور أعمالنا الحسنة أمام الناس فيمجدوا أبانا الذي في السماوات ويشتركوا معنا في تقديم السبح له (مت 5: 16).
(ج) سماء السماوات والمياه: «سبحيه يا سماء السماوات، ويا أيتها المياه التي فوق السماوات» (آية4). سماء السماوات هي السماوات العُلى، وقد قال موسى: «هوذا للرب إلهك السماوات، وسماء السماوات، والأرض وكل ما فيها» (تث 10: 14). وقد صعد الرسول بولس إلى السماء الثالثة (2كو 12: 2) وقالت الكتابات اليهودية المتأخرة إن السماوات سبعٌ. والمرنم يدعو السماوات العُلى أن تسبح خالقها، وتشاركها مياه السحب التي يقول عنها سفر التكوين: «قال الله: ليكن جَلَدٌ في وسط المياه. وليكن فاصلاً بين مياهٍ ومياه. فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد. وكان كذلك. وقال الله: لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة، وكان كذلك» (تك 1: 6-9). وهذه المياه تحت أمر الرب الذي في سنة ست مئة من حياة نوح فجَّر كل ينابيع الغمر العظيم «وانفتحت طاقات السماء، وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة.. ثم ذكر الله نوحاً.. فهدأت المياه. وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء، فامتنع المطر من السماء» (تك 7: 11، 12 و8: 1، 2).
3 – موضوع التسبيح: (آيتا 5، 6).
(أ) أمر فخُلقت: «لتسبح اسم الرب لأنه أمر فخُلقَت» (آية 5). يقول المرنم إن السبب الجوهري لقيام هذه المخلوقات بتسبيح الخالق هو أنه أوجدها بأمرٍ منه. ولو لم يكن الرب قد أمر ما وُجدت. وتحس الطبيعة كلها بهذا الشرف فتسبح الرب وتعلن مجده وعظمة صنع يديه. ونحن اليوم نسبحه لأنه خلقنا خليقة جسدية بالميلاد الجسدي، ومنّا من يسبحونه أكثر لأنهم صاروا خليقة جديدة روحية بالميلاد الثاني من فوق. فإن لم تكن قد نلت الميلاد الثاني، فلتسمع قول المسيح: «إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح» (يو 3: 5، 6). لقد خلقنا الرب على صورته، ولكننا أفسدنا هذه الصورة الأولى بخطايانا، وهو يُعيد خلقنا إن رجعنا إليه تائبين، فنقدر أن نقول: «نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10).
(ب) ثبَّتها: «وثبَّتها إلى الدهر والأبد» (آية 6أ). أعمال الرب تسبحه لأنه خلقها ويثبِّتها، فهو ضابط الكل، وفيه يقوم الكل (كو 1: 17)، وكلها كائنةٌ بقدرته وإرادته، وثابتة تشهد لصلاحه. «كلمة الرب مستقيمة، وكل صُنعه بالأمانة.. امتلأت الأرض من رحمة الرب. بكلمة الرب صُنعت السماوات وبنسَمة فمه كل جنودها» (مز 33: 4-6).
(ج) وضع لها حدّاً: «وضع لها حداً فلن تتعدّاه» (آية 6ب). تسبح الخليقة الله لأنه جعل لها قوانين وحدوداً لا تتخطاها ولا تتعداها، فإن الرب هو «الجاعل الشمس للإضاءة نهاراً، وفرائض القمرِ والنجوم للإضاءة ليلاً. الزاجر البحر حين تعجُّ أمواجه» (إر 31: 35)، وهو الذي جعل عهده مع النهار والليل، فرائض السماوات والأرض (إر 33: 25).
وما فعله الرب بالطبيعة يفعله معنا، فقد خلقنا، وأعاد خلقنا، لأنه «إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً» (2كو 5: 17). ووضع لنا قوانين وشرائع لا يجب أن نتعداها لنحيا في رضاه وتطول حياتنا على الأرض، ليس بالضرورة بعدد السنين، بل بعمق الحياة وكمالها كما قال المسيح: «أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل» (يو 10: 10). فلنثبت في المسيح الذي قال: «اثبتوا فيَّ وأنا فيكم. كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضاً إن لم تثبتوا فيَّ» (يو 15: 4).

ثانياً – الأرض وما فيها تسبح الرب
(آيات 7-14)
1 – المدعوون للتسبيح: (آيات 7-12).
(أ) البحار وسكانها: «سبِّحي الرب من الأرض يا أيتها التنانين، وكل اللجج» (آية 7). يدعو التنانين والزحافات الضخمة بأنواعها، صاحبة الأحجام والقوات الضخمة لتسبِّح الرب الذي خلقها، عندما «قال الله: لتفِض المياه زحافات ذات أنفس حية.. فخلق التنانين العظام، وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها» (تك 1: 20، 21). لتسبحه لأنه يعتني بها ويطعمها رغم ضخامة كمية الطعام الذي تلتهمه. ويطلب المرنم من اللجج، مكان سكن تلك التنانين أن تنضمَّ إلى ساكنيها في تسبيح الرب، لأنه جعل من الماء لججاً تحيا فيها الكائنات الضخمة كما تحيا فيها الصغيرة الحجم، وتبحر فيها القوية العنيفة مع الضعيفة الوديعة. وجعل تلك اللجج تحمل السفن الضخمة كما تحمل قوارب النزهة الرقيقة.
(ب) قُوى الطبيعة: «النار والبَرَد، الثلج والضباب، الريح العاصفة الصانعة كلمته» (آية 8). يدعو المرنم ما ندعوه قُوى الطبيعة لتسبح الرب، وهي في الحقيقة قُوى الرب الظاهرة للعيان أو الخفية عن الرؤية، ولكن فعاليتها محسوسة، فإن «الريح تهبُّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب» (يو 3: 8). رأى المرنم في العاصفة أضواء البرق، مختلطة بأصوات الرعد، فيهطل البرَد تارة، والثلج تارة أخرى، ويتكوَّن الضباب. وفي هذه كلها يعلن الرب عن قدرته، ويسدِّد بهذه الظواهر الطبيعية احتياجات خليقته «لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك بل يرويان الأرض ويجعلانها تلد وتُنبت وتعطي زرعاً للزارع وخبزاً للآكل، هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي لا ترجع إليَّ فارغة، بل تعمل ما سُررت به، وتنجح في ما أرسلتُها له» (إش 55: 10، 11).
(ج) المرتفعات والنباتات: «الجبال وكل الآكام، الشجر المثمر وكل الأرز» (آية 9). يطلب المرنم من الجبال والتلال أن تتَّضع أمام الرب العالي وتعظم اسمه وتشيد بترنمه. ويدعو الأشجار المثمرة، وأشجار الأرز العالية الدائمة الخُضرة ذات الرائحة العطرية أن تشارك الجبال في ترنيمها، وتنحني للسيد صاحب الفضل والسلطان. «الجبال والآكام تشيد أمامكم ترنماً، وكل شجر الحقل تصفِّق بالأيادي» (إش 55: 12). ويتعلم المؤمنون من الجبال المرتفعة ومن النباتات أن يدركوا ارتفاعهم بالرب فوق العالم وآلامه، فيتواضعون تحت يد الله القوية ليرفعهم في حينه (1بط 5: 6) ويكونون «كشجرة مغروسة عند مجاري المياه، التي تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل» (مز 1: 3).
(د) الحيوانات العجماء: «الوحوش وكل البهائم، الدبابات والطيور ذوات الأجنحة» (آية 10). يدعو المرنم الوحوش التي تفترس لتحصل على طعامها، وكل البهائم التي تبحث عن قوتها، وكل ما يدب على الأرض كبُر أو صغُر، وطيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن والرب يقوتها، يدعو هذه كلها لتسبح الرب الذي يستحق أن يسمع منها أصوات الحمد والتسبيح، لأن مراحمه جديدة عليها كل صباح.
(هـ) كل البشر: «ملوك الأرض وكل الشعوب، الرؤساء وكل قضاة الأرض. الأحداث والعذارى، أيضاً الشيوخ مع الفتيان» (آيتا 11، 12). تنتهي الدعوة للتسبيح بأن يدعو المرنم الإنسان تاج الخليقة ليسبح الرب، فيدعو كل البشر من كل مركز اجتماعي ورسمي، من كل جنس وعمر ليرتلوا لله. يبدأ بدعوة أصحاب السلطان من ملوك ورؤساء وقضاة، كلَّفهم الرب بحكم الشعوب بالعدل، ووضعهم في أعلى المناصب الرئاسية والقيادية، وأعطاهم الحكمة لعمل مشيئته الصالحة. ثم يتَّجه بحديثه إلى الشعوب كلها ليرفعوا التسبيح لله، فتلهج ألسنتهم بترانيم الشكر والتسبيح للرب الصالح الذي يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون (1تي 2: 4).
وبعد أن دعا المرنم الشعوب عامة للتسبيح، اختصَّ بندائه فئات عُمْرية، منها البراعم الصغيرة في بداية الطريق من شبان وصبايا، فترتفع عيونهم لتنظر إلى جمال الرب، وتتطلع إلى غدٍ مشرق. ومنها الشيوخ بكل حكمتهم ووقارهم، والفتيان بكل قوتهم وحماسهم ليؤكدوا أن الرب هو الله، وأن كل ما عداه باطل وقبض الريح.
2 – موضوع التسبيح: (آيتا 13، 14).
(أ) يسبحون الاسم المجيد: «ليسبحوا اسم الرب، لأنه قد تعالى اسمه وحده. مجده فوق الأرض والسماوات» (آية 13). اسم الرب دلالة على شخصيته، وإعلان عن صفاته وقدراته ومراحمه. «جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه» (حب 3: 3). «احمدوا الرب. ادعوا باسمه. عرِّفوا بين الشعوب بأفعاله. ذكِّروا بأن اسمه قد تعالى. رنموا للرب لأنه قد صنع مفتخراً. ليكن هذا معروفاً في كل الأرض» (إش 12: 4، 5). وليس اسم آخر قد أُعطي تحت السماء بين الناس به ينبغي أن نخلُص (أع 4: 12). صنع رحمة وأجرى عدلاً، فامتلأ الكون من مجده، وهو المستحق وحده أن يأخذ المجد والكرامة والتسبيح.
(ب) يسبحونه لأنه نصر شعبه: «ينصب قرناً لشعبه، فخراً لجميع أتقيائه» (آية 14أ). يرمز القرن إلى القوة الغالبة، وعندما ينصب الله لشعبه قرناً يمنحهم النصرة والعزَّة والكرامة، فيفتخر جميع أتقيائه وخائفيه بالواهب الناصر «كما هو مكتوب: من افتخر فليفتخر بالرب» (1كو 1: 31، مقتبسة من إر 9: 23، 24). «لأنك قلت: أنت يا رب ملجإي، جعلت العليَّ مسكنك، لا يلاقيك شر ولا تدنو ضربة من خيمتك. لأنه تعلَّق بي أنجيه، أرفِّعه لأنه عرف اسمي» (مز 91: 9، 10، 14). «الرب إنما التصق بآبائك ليحبهم، فاختار من بعدهم نسلهم الذي هو أنتم فوق جميع الشعوب.. هو فخرك وهو إلهك الذي صنع معك تلك العظائم والمخاوف التي أبصرتها عيناك» (تث 10: 15، 21).
(ج) يسبحونه لأنه قرَّبهم إليه: «لبني إسرائيل الشعب القريب إليه. هللويا» (آية 14ب). اختار الله بني إسرائيل وقرَّبهم إليه، لا لأنهم أكثر الشعوب، فهم أقل من سائر الشعوب، بل اختارهم من محبته لهم (تث 7:7). والقُرب من الله يعني المصالحة معه، فإن الخطية تفصل بيننا وبينه ولكنه يصالحنا لنفسه بيسوع المسيح، أي إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم (2كو 5: 18، 19). كما أن القرب منه يعني شركة الأُنس به والحب له فنقول: «أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو 1: 3). «فلستم إذاً بعد غرباء ونُزلاً، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله» (أف 2: 19). والقرب منه يجعلنا نريد أن نتشبَّه به طاعة للوصية الرسولية: «كونوا متمثِّلين بالله كأولاد أحباء، واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا، قرباناً وذبيحة لله، رائحة طيبة» (أف 5: 1، 2). والقُرب منه يجعلنا في رعايته وعنايته، كما يعني أننا سنكون معه إلى الأبد، كما قال المرنم: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء.. وأسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام» (مز 23: 1، 6).
ويختم المرنم مزموره بقوله «هللويا» سبحوا الله! سبحان الله!

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالتَّاسِعُ وَالأَرْبَعُونَ
1هَلِّلُويَا! غَنُّوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً، تَسْبِيحَتَهُ فِي جَمَاعَةِ الأَتْقِيَاءِ. 2لِيَفْرَحْ إِسْرَائِيلُ بِخَالِقِهِ. لِيَبْتَهِجْ بَنُو صِهْيَوْنَ بِمَلِكِهِمْ. 3لِيُسَبِّحُوا اسْمَهُ بِرَقْصٍ. بِدُفٍّ وَعُودٍ لِيُرَنِّمُوا لَهُ. 4لأَنَّ الرَّبَّ رَاضٍ عَنْ شَعْبِهِ. يُجَمِّلُ الْوُدَعَاءَ بِالْخَلاَصِ. 5لِيَبْتَهِجِ الأَتْقِيَاءُ بِمَجْدٍ. لِيُرَنِّمُوا عَلَى مَضَاجِعِهِمْ. 6تَنْوِيهَاتُ اللهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَسَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ فِي يَدِهِمْ، 7لِيَصْنَعُوا نَقْمَةً فِي الأُمَمِ، وَتَأْدِيبَاتٍ فِي الشُّعُوبِ. 8لأَسْرِ مُلُوكِهِمْ بِقُيُودٍ، وَشُرَفَائِهِمْ بِكُبُولٍ مِنْ حَدِيدٍ، 9لِيُجْرُوا بِهِمُِ الْحُكْمَ الْمَكْتُوبَ. كَرَامَةٌ هَذَا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ. هَلِّلُويَا!

يجمِّل الودعاء بالخلاص
يبدأ هذا المزمور وينتهي بكلمة «هللويا» أي سبحوا الرب، أو سبحان الله، وفيه يدعو المرنم شعب الله ليسبحوا الرب، لأنه اختارهم لنفسه من كل قبيلة وشعب وأمة ولسان، ليحمدوه ويرفعوا اسمه ويهللوا بتمجيده، ويصنعوا مشيئته ويحققوا مقاصده. إنهم خاصته الذين أحبهم وخلَّصهم وكلَّفهم أن يحملوا أخباره السارة وحقه إلى كل الشعوب. وهم مدعوون لتسبيحه على حاضرهم المؤمَّن عنده، وعلى مستقبلهم المضمون بيده. ويحذِّر المزمور الشعوب المعادية لعبادة الله بسوء العقاب «لأن الأمَّة والمملكة التي لا تخدمك تبيد» (إش 60: 12).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – تسبيح لأجل الحاضر (آيات 1-4)
ثانياً – تسبيح لأجل المستقبل (آيات 5-9)

أولاً – تسبيح لأجل الحاضر
(آيات 1-4)
1 – صفات المسبِّحين: (آيتا 1، 2).
(أ) نالوا بركة جديدةً: «هللويا، غنوا للرب ترنيمة جديدة» (آية 1أ). منح الله المؤمنين بركات متنوعة، وفي كل يوم تتجدد مراحمه عليهم، لأن أمانته كثيرة (مرا 3: 23، 24). وكلما ينال المؤمن بركة جديدة يرتل ترنيمة جديدة شكراً على الفضل الجديد. إن معاملات الرب مع المؤمنين عجيبة ومتنوعة وسخية وبلا حدود، وهو يستحق منهم شكراً جديداً كل يوم. لقد منحهم حياة جديدة بعد أن أشرفوا على موت محقق، وأنقذهم من مخاطر مؤكدة ومن تجارب أكبر من قدرتهم على احتمالها، وأمدَّهم باحتياجاتهم اليومية. وهو لا يزال يجود على شعبه ليعلن لهم فضله وصلاحه وغناه بطرق ملموسة واضحة، فينعشهم ويجدد قواهم، لأنهم تعلموا شيئاً جديداً ودخلوا معه عمقاً جديداً، فيهتفون: «رنموا للرب يا أتقياءه واحمدوا ذكر قُدسه.. عند المساء يبيت البكاء وفي الصباح ترنُّم»« (مز 30: 4، 5). «اهتفوا أيها الصديقون بالرب. بالمستقيمين يليق التسبيح. احمدوا الرب بالعود. بربابة ذات عشرة أوتار رنموا له أغنية جديدة. أحسِنوا العزف بهتاف» (مز 33: 1-3). «رنموا للرب ترنيمة جديدة. رنمي للرب يا كل الأرض. رنموا للرب. باركوا اسمه. بشِّروا من يوم إلى يوم بخلاصه» (مز 96: 1، 2). وفي التسبيح يعلن المؤمنون محبتهم للرب، واعترافهم بإحسانه، وتمجيدهم لشخصه لأنه أحبهم أولاً.
(ب) هم أتقياء «تسبيحه في جماعة الأتقياء» (آية 1ب). يعلو صوت التسبيح وسط جماعة الأتقياء، الذين يخافون الله، بعد أن بلغوا رأس المعرفة. والأتقياء هم الأمناء في أداء واجباتهم للرب، وهم المسرورون جداً بوصاياه التي تصيِّر الجاهل حكيماً، الذين يُقال عنهم: «طوبى للرجل المتقي الرب المسرور جداً بوصاياه» (مز 112: 1).. وهم يتَّقون الرب ويخافونه ليس رعباً من العقاب، ولا طاعة لأوامر سيدٍ قاس، ولكنهم يخشونه خشية الحرص على مرضاة من يحبون ويهابونه مهابة الحب والاحترام. والأتقياء هم الذين يرتلون ترنيمة جديدة تتجدد كل يوم. ومن يسبح الرب كما يسبحه الأتقياء؟! ومن يعلن فضله كما يعلنه مختاروه؟! إنهم يعلنون عن فضله بألسنتهم وبسلوكهم.
(ج) هم فرحانونً: «ليفرح إسرائيل بخالقه. ليبتهج بنو صهيون بملكهم» (آية 2). يدعو المرنم محبي الرب ليرتلوا للرب ترتيل الفرح لسببين:
(1) لأنه الخالق: هم فرحانون بربِّهم الصانع الماهر والفخاري العظيم، الذي يصنع من الأتقياء أواني للكرامة نافعة لخدمته، مستعدة لكل عمل صالح (2تي 2: 21). «إذاً إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً» (2كو 5: 17). فهو يستحق أن نذبح له ذبيحة الحمد، أي ثمر شفاه معترفة باسمه (عب 13: 15). «هلمَّ نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا. لأنه هو إلهنا ونحن شعب مرعاه، وغنم يده» (مز 95: 6، 7).
(2) لأنه الملك: وهم فرحانون بربهم الملك الذي يشرِّع لهم، وشريعته كاملة ترد النفس وتهديها إلى سبل البر والاستقامة، وتضمن الوصول إلى الأبدية السعيدة. وتتحدى شريعة الملك حرية المتسيِّبين، لكنها تضمن للمطيعين الأمان وبلوغ الهدف، فالشريعة مثل القضبان اللازمة لسلامة سير القطار.. وهو الملك الذي يخطط لشعبه، فيقول له التقي: «عرفتُ يا رب أنه ليس للإنسان طريقه. ليس لإنسان يمشي أن يهدي خطواته» (إر 10: 23). فيجيبه: «أعلِّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك» (مز 32: 8). والملك يهتم بحاضر شعبه ومستقبلهم، فيضع الخطط لكفايتهم المادية والعاطفية والاجتماعية، ويدبر لهم احتياجاتهم فلا يعوزهم شيء.. وهو الملك الذي يدافع عن شعبه، حتى قال موسى لشعبه وهو يرى البحر الأحمر أمامه، وجيش فرعون وراءه: «الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون» (خر 14: 14). وقال المسيح: «خرافي تسمع صوتي، وأنا أدعوها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحدٌ من يدي» (يو 10: 27، 28). فيقول المؤمن: «إن نزل عليَّ جيشٌ لا يخاف قلبي. إن قامت عليَّ حربٌ ففي ذلك أنا مطمئن» (مز 27: 3).. وهو الملك الذي يقضي لشعبه، «الله هو القاضي. هذا يضعه وهذا يرفعه» (مز 75: 7). عيناه تريان كل شيء، وهو يعرف خفيات القلوب، فيُحسِن إلى كل من يفعل مشيئته ويجازيه علانية، ويعاقب الظالم وينقذ المظلوم من يده، فيقول الذي أُنصف: «تبتهج شفتاي إذ أرنم لك، ونفسي التي فديتها، ولساني أيضاً اليوم كله يلهج ببرك» (مز 71: 23، 24).

2 – التعبير عن التسبيح: «ليسبحوا اسمه برقصٍ. بدفٍّ وعودٍ ليرنموا له» (آية 3). نحن نعبِّر لله عن تسبيحنا بالأسلوب الذي ينبع من حضارتنا. وفي زمن المرنم كان الناس يعبِّرون عن شكرهم لله بالرقص، وكانوا يستخدمون الآلات الموسيقية التي يعرفونها من دف وعود. وهذا ما فعلته مريم أخت هارون وقت الخروج من مصر، فيقول الوحي: «أخذت مريم النبية أخت هارون الدف بيدها، وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص. وأجابتهم مريم: رنموا للرب فإنه قد تعظم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر» (خر 15: 20، 21). لقد عبَّرت مريم والنساء معها بالكلمات والموسيقى والرقص، بالشفاه وبالأجساد، بالقلب والفكر عن فرحهن وتعظيمهن للرب الذي أنقذ شعبه. وقد ينتقد بعضنا اليوم استخدام الرقص والدف والعود للتعبير عن محبتنا للرب، كما انتقدت ميكال بنت الملك شاول زوجها داود، فيقول الوحي: «داود وكل بيت إسرائيل يلعبون أمام الرب بكل أنواع الآلات من خشب السرو، بالعيدان وبالرباب وبالدفوف وبالجنوك وبالصنوج.. خرجت ميكال.. وقالت: ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم، حيث تكشَّف اليوم في أعين إماء عبيده كما يتكشف أحد السفهاء» (2صم 6: 5، 20).. ولكن المرنم في مزمورنا يعبِّر للرب عن شكره وتسبيحه بالأسلوب الذي كان يناسب مجتمعه.
3 – دوافع التسبيح: (آية 4).
(أ) رضى الرب: «لأن الرب راضٍ عن شعبه» (آية 4 أ). أعظم ما يرجوه إنسان من ربه أن يرضى عنه، فيقول: «جعلتَ سروراً في قلبي أعظم من سرورهم إذ كثرت حنطتهم وخمرهم. بسلامة أضطجع، بل أيضاً أنام، لأنك أنت يا رب منفرداً في طمأنينة تسكنني» (مز 4: 7، 8). ولا يرضى الرب عنا لصلاحٍ فينا، ولكن لأجل محبته الكثيرة «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). وكل من يحتمي في كفارة المسيح ينال رضى الرب، لأن الرب لا يعود يرى خطايا الخاطئ التائب، بل يرى عمل المسيح الكفاري الذي ستره، فيحسب له بر المسيح. لهذا ندعو الله: اغفر لنا ذنوبنا، وكفِّر عنا خطايانا.
(ب) جمال الحياة: «يُجمِّل الودعاء بالخلاص» (آية 4ب). أفسد العصيان الصورة الجميلة البريئة والطبيعة النقية التي خلق الله الإنسان الأول عليها. فقد «خلق الله الإنسان على صورته» (تك 1: 27) ولكن الجميع زاغوا وفسدوا، وصار الإنسان ظلوماً كفاراً. وعندما ينظر الله من سمائه ليرى هل من فاهم طالب الله، يجد أن الجميع فسدوا، فينادي بكل الحب: «التفتوا إليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني أنا الله وليس آخر» (إش 45: 22)، ويقدِّم الخلاص المجاني للبشر جميعاً. وطوبى للمساكين بالروح الذين يدركون حاجتهم المُلحَّة إلى رحمة الله، فيصرخون: «اللهمَّ ارحمني أنا الخاطي» (لو 18: 13). ويصلّون مع داود: «قلباً نقياً اخلُق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّد في داخلي» (مز 51: 10). ويجمِّل الله الخاطئ التائب بأن يُلبِسه ثياب الخلاص ويكسوه برداء البر (إش 61: 10). هذا هو لباس التقوى الذي يواري السيئات، وهو رداء تسبيح من عند الله عِوضاً عن الروح اليائسة (إش 61: 3). وكل من يرتدي ثياب الخلاص تتغير صورته في نظر نفسه وفي أعين الآخرين، لأن الله الذي يغفر لنا يقدِّسنا كل يوم. ويذكر الوحي أنواعاً من الخطايا، يقول بعدها للمؤمنين: «وهكذا كان أناسٌ منكم. لكن اغتسلتُم، بل تقدَّستُم، بل تبرَّرتُم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا» (1كو 6: 11).
يدير الله أعظم معهد تجميل. إنه يجمِّل الشفتين بالكلام الصالح، والأذنين بالاستماع للكلام الصالح، واليدين بالعمل الصالح، والرِّجلين بالذهاب إلى المكان الصالح. وما أسعد الوديع المتواضع القابل للتعلُّم الذي يجمِّله الله بالخلاص من خطاياه.

ثانياً – تسبيح لأجل المستقبل
(آيات 5-9)
1 – صفات المسبِّحين: (آيتا 5، 6).
(أ) ممجَّدون: «ليبتهج الأتقياء بمجد» (آية 5أ). الأتقياء في مجد لأنهم ثابتون في الرب، فرحانون به، تتفرَّس عيونهم في جماله، وهم يستمدون سلوكهم من شريعته، وينتظرون المجد الذي يكللهم الله به، فيقولون بعد حياة جهاد طاهرة: «جاهدتُ الجهاد الحسن. أكملت السعي. حفظت الإيمان. وأخيراً قد وُضع لي إكليل البر، الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل. وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً» (2تي 4: 7، 8). وكل تقي يهاب الله ويخاف من أن يعصى حبيبه، ينال نصيب استفانوس، الشهيد المسيحي الأول، فقد »شخَصَ إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد الله، ويسوع قائماً عن يمين الله« (أع 7: 55). ما أعظم المجد الذي يعيشه التقي على الأرض محفوظاً في يدي الله. وما أعظم المجد الذي ينتظره بعد الوفاة، كما قال المسيح للص التائب: «اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 43).
(ب) مستريحون: «ليرنموا على مضاجعهم« (آية 5ب). عند حلول الليل يهجع التقي في مضجعه فيخلو إلى نفسه، يذكر فضل الله عليه، ويقول: «بشفتي الابتهاج يسبحك فمي إذا ذكرتُك على فراشي. في السُّهد ألهج بك، لأنك كنت عوناً لي، وبظل جناحيك أبتهج» (مز 63: 5-7). ثم يحاسب نفسه ويقيِّم ما فعله خلال يومه. فإن أحسن يشكر الله صاحب الفضل الذي ساعده ليعمل الحسن. وإن أساء يعلن توبته إلى الرب في صلاة خاشعة، فيؤكد الله له الغفران، فيرتاح قلبه ويتهلل لسانه في مضجعه. وحتى عندما يضطجع المؤمن مريضاً فإنه يرنم، لأن «الرب يعضده على فراش الضعف. مهَّدت مضجَعه كله في مرضه» (مز 41: 3)، ولأنه يعلم أن الرب شافيه (خر 15: 26).
(ج) مُخبرون: «تنويهات الله في أفواههم» (آية 6أ). ينوِّهون دائماً بفضل الله ويعظِّمونه كلما تحدَّثوا، ويلهجون بمحبته، فتنطق ألسنتهم بكثرة مراحمه، ويعلنون للجميع معاملات عنايته، ويخبرون بصنيعه معهم. في ناموس الرب مسرتهم، في شريعته يلهجون نهاراً وليلاً (مز 1: 2). فلنشهد للرب ونلهج بذكره على الدوام، فيهرب منا كل خوف، ويرتفع عنا كل اضطهاد، ويأتينا كل عون وفرح ونصرة.
(د) متسلِّحون: «وسيف ذو حدَّين في يدهم« (آية 6ب). لا يتحدث المرنم عن سيف أو رمح معدني من أسلحة الحرب، بل عن كلمة الرب التي هي سيف الروح (أف 6: 17)، وهي قوية فعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وتخترق إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، وتميِّز أفكار القلب ونياته (عب 4: 12). ويفهم التقي أن سلاحه روحي، حسب القول الرسولي: «أسلحة محاربتنا ليست جسدية، بل قادرة على هدم حصون» (2كو 10: 4). وموقف المسيحي من أسلحة الحرب المادية القاتلة هو موقف سيده المسيح، فعندما جاء يهوذا الإسخريوطي ومعه «جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب.. وإذا واحد من الذين مع يسوع مدَّ يده واستلَّ سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فقال له يسوع: رُدَّ سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون» (مت 26: 47-54).
2 – نتيجة التسبيح: (آيات 7-9).
كل كلمة تسبيح، وكل لهج باسم الرب، يحمل إنذاراً للخطاة أن يتوبوا، ونداءً للبعيدين أن يرجعوا.
(أ) إدانة الشعوب: «ليصنعوا نقمة في الأمم، وتأديبات في الشعوب» (آية 7). النور يؤذي العين المريضة، وتسبيحات المؤمنين وفرحهم نور يضيء الطريق للذين يحبون الله، ولكنه يؤذي عيون الأشرار لأنه يفضح خطاياهم، فيهاجمون أهل النور. قال المسيح: «إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم» (يو 15: 18، 19). ونقمة المؤمنين في الأمم ليست نتيجة كراهية، ولا هي تأديباتٌ بسلاح مدمر وجيوش قاتلة، فإن الوصية الرسولية تقول: «باركوا على الذين يضطهدونكم. باركوا ولا تلعنوا. لا تجازوا أحداً عن شر بشر. إن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه» (رو 12: 14، 17، 20). لكن تأديب الشعوب يكون بإعلان رسالة المحبة والخلاص، فتكون الرسالة بركةً لمن يقبلها، ولعنة لمن يرفضها.
(ب) سبي الملوك: «لأَسْر ملوكهم بقيود، وشرفائهم بكبولٍ من حديد» (آية 8). المؤمنون الذين يسبحون الله يأسرون الملوك، فإن الله عيَّن الملوك والشرفاء ليطيعوه ويقيموا قضاءه. وإن لم يفعلوا يؤدبهم ويوقع بهم الهزيمة. وكانت العادة في الحروب أن الجيش الغالب يأخذ الملك المهزوم مقيداً أسيراً مذلولاً، كما يسوق نبلاءه مكبَّلين بقيود حديدية. والمرنم هنا يعلن انتصار ملكوت الله على ملكوت الظلمة، وتقييد رئيسه إبليس بالقيود، وتكبيل جنوده الشياطين بالكبول. وفي هذا القول رؤية مستقبلية، لأن ملكوت المسيا سيهزم إبليس، فقد قال المسيح: «رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء» (لو 10: 18)، وقال الرسول يهوذا إن »الملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم، بل تركوا مسكنهم، حفظهم (الرب) إلى دينونة اليوم العظيم بقيودٍ أبدية تحت الظلام« (يه 6). ولذلك ينصح المرنم الملوك العصاة بالقول: «فالآن يا أيها الملوك تعقَّلوا. تأدَّبوا يا قضاة الأرض. اعبدوا الرب بخوف، واهتفوا برعدة. قبِّلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق، لأنه عن قليل يتَّقد غضبه. طوبى لجميع المتكلين عليه» (مز 2: 10-12).
(ج) إجراء الحكم الإلهي: «ليُجْروا بهم الحكم المكتوب» (آية 9أ). كتب الله حُكماً يقول: «أجرة الخطية هي موت» (رو 6: 23) و«النفس التي تخطئ هي تموت» (حز 18: 20). و«ويلٌ للذين يقضون أقضية البُطل، وللكتبة الذين يسجِّلون جوراً» (إش 10: 1). ويقول الله: «ها قد كُتب أمامي. لا أسكت بل أجازي. أجازي في حضنهم» (إش 65: 6). وقال أيوب: «لأنك كتبتَ عليَّ أموراً مُرَّة، وورَّثتني آثام صِباي» (أي 13: 26). ولا بد أن ينفذ الله الحكم المكتوب، وهو يكلِّف الأتقياء بتنفيذه، كما قال الوحي: «ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم؟» (1كو 6: 2).
(د) كرامة الأتقياء: «كرامةٌ هذا لجميع أتقيائه» (آية 9ب). ينهزم الأشرار وينتصر المؤمنون، كرامة لجميع الأتقياء، فإن الرب يكرم الذين يكرمونه، والذين يحتقرونه يصغرون (1صم 2: 30). فلنسبح الرب ونعلن حقه في كل الأرض، لأن تسبيحنا يقود بعض الناس للتوبة، ولكنه يحكم على الأشرار بالهلاك. إن ترنيمنا شهادة للإله البار، وتهليلنا إعلان عن بركة وسعادة وسلام كل من يتبعه في ثقة ومحبة وطاعة، فنسمع قوله: «تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المُعدَّ لكم منذ تأسيس العالم» (مت 25: 34) ولكنه في الوقت نفسه إعلان القضاء على الأشرار الذين يسمعون الحكم الإلهي المخيف: «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المُعدَّة لإبليس وملائكته.. فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي، والأبرار إلى حياة أبدية» (مت 25: 41، 46).

اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالْخَمْسُونَ
1هَلِّلُويَا! سَبِّحُوا اللهَ فِي قُدْسِهِ. سَبِّحُوهُ فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ. 2سَبِّحُوهُ عَلَى قُوَّاتِهِ. سَبِّحُوهُ حَسَبَ كَثْرَةِ عَظَمَتِهِ. 3سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّورِ. سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ. 4سَبِّحُوهُ بِدُفٍّ وَرَقْصٍ. سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ. 5سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيتِ. سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ الْهُتَافِ. كُلُّ نَسَمَةٍ فَلْتُسَبِّحِ الرَّبَّ. هَلِّلُويَا!

كل نسمة فلتسبح الرب
هذا المزمور خاتمة سفر المزامير، كما أنه آخر مزامير التهليل الخمسة (146-150)، وهو قمة التسبيح والتمجيد لله. ولا بد أن كل دموع المؤمن التقي وأنينه وحزنه على خطاياه، وضيقه من أعدائه، وخوفه من ضعفاته ينتهي بتسبيحة شكر لله، لأنه «عند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح ترنُّم» (مز 30: 5). في هذا المزمور يدعو المرنم كل نسمة أن تسبح الرب لأنه مُعطي الحياة لكل الكائنات بنسمة فمه. ويدعو كل قُوى السماء والأرض، وكل خليقة ظاهرة وغير مرئية لتفرح وتشترك في احتفال دائم بالرب الأزلي الأبدي.
ويستحث المرنم البشر ليعزفوا بكل آلة موسيقية متوافرة لديهم، عندهم وعند غيرهم من الشعوب، ليرتفع النغم الجميل بالثناء والحمد لله. وكل ثناء يعلو على صوت الثناء والحمد لله يعني أننا قد أعطينا المجد لغيره، ونكون قد ارتكبنا خيانةً ضده، وإننا قد أشركنا معه أحداً في عبادته، مع أن الوصية الرسولية تقول: «أيها الأولاد، احفظوا أنفسكم من الأصنام» (1يو 5: 21). وكل من لا يسبِّح الرب يسلبه حقه الواجب عليه. فعلى كل نسمة أن تسبح الرب.
المزموران الأول والأخير من مزامير التهليل الخمسة (146-150) يبدآن وينتهيان بكلمة «هللويا» لكنهما يختلفان في الفحوى، فالأول يطوِّب التقي الذي يلهج في ناموس الرب ويوضح الواجبات الروحية المطلوبة من التقي، والمزمور الأخير يدعونا لنملأ حياتنا بالتسبيح بغير ملل. وهناك ارتباط كبير بين اللهج في ناموس الرب نهاراً وليلاً وتسبيح الرب، لأن صاحب القلب الممتلئ بكلمة الله يفيض لسانه تسبيحاً للرب.
في هذا المزمور تتكرر دعوة التسبيح ثلاث عشرة مرة، وهي دعوة لكل الأتقياء أن يسبحوا الرب لأنه أنعم عليهم بالتبني. فلنعلن عن محبتنا له وشكر قلوبنا على هذا الإنعام الإلهي الذي لا نستحقه لولا دم الحمل الكريم الذي فدانا بذبح عظيم.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – تسبيح الرب (آيتا 1، 2)
ثانياً – آلات التسبيح للرب (آيات 3-5)
ثالثاً – المسبِّحون للرب (آية6)

أولاً – تسبيح الرب
(آيتا 1، 2)
1 – مكان تسبيح الرب: «هللويا. سبحوا الله في قُدسه. سبحوه في فَلَك قوته» (آية1). «هللويا» نداء لعبيد الرب القدوس ليرفعوا آيات التسبيح ويشيدوا ترنماً وهتافاً لكلي القداسة، ونبع النقاء والمحبة. وهم «في قدسه» يجب أن يطيعوا الوصية الرسولية: «نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة، لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأني أنا قدوس» (1بط 1: 15، 16 مقتبسة من لا 11: 44). وقُدس الرب هو كل مكان يتعبَّد فيه الأتقياء للرب.
(أ) قُدس الرب هو بيت العبادة: الرب حاضر في كل مكان، لكنه حاضرٌ بصورة خاصة في بيته، كما يقول المسيح: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20). وينصحنا المرنم: «هاتوا تقدمةً وادخلوا دياره. اسجدوا للرب في زينة مقدسة» (مز 96: 8، 9) لأنه «ببيتك تليق القداسة يا رب» (مز 93: 5). فليكن تسبيحنا في بيته، مكان تقديسه وعبادته، حيث نصلي كما علَّمنا المسيح: «ليتقدس اسمك». وقد لا يكون مكان عبادة الله كنيسة، بل قد يكون سجناً، فعندما سُجن بولس وسيلا في فيلبي أخذا يصليان ويرتلان ويسبحان الله بصوت مرتفع حتى سمعهما المسجونون. وحدثت زلزلة عظيمة زعزعت أساسات السجن، فانفتحت الأبواب وانفكَّت قيود الجميع (أع 16: 25، 26).
(ب) قُدس الرب هو مكان اختلاء المؤمن بالرب: كل مكان يركع فيه المؤمن ليصلي هو قُدسٌ للرب، وقد أمرنا المسيح: «متى صلَّيتَ فادخل إلى مخدعك وأَغلِق بابك، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية» (مت 6: 6). وما أجمل أن تمتزج صلوات المؤمن مع تسبيحه للرب، فيشكر ويطلب، ويحمد ويتضرع.
(ج) قدس الرب هو سماؤه: قال المرنم: «سبحوه في فَلَك قوته» والفلك هو الجَلَد (تك 1: 7). «الرب في هيكل قدسه. الرب في السماء كرسيُّه» (مز 11: 4). هناك سماء الطيور، وسماء النجوم، والسماء العليا، حيث تسبح له الملائكة، وقد سمعهم النبي إشعياء يرتلون: «قدوس قدوس قدوس رب الجنود. مجده ملء كل الأرض» (إش 6: 1-3). وفي السماء يرتل قديسوه الذين غسلوا ثيابهم وبيضوها بدم الحمل: «الخلاص لإلهنا الجالس على العرش، وللحمل» (رؤ 7: 10).
والتسبيح في فلك قوة الله يجعلنا نتأمل قوة الله وقداسته. القوة بدون قداسة تظلم وتدمر، والقداسة بدون قوة لا تستطيع أن تنفذ. والرب بقوة قداسته لا يعسر عليه أمر، وكل عطية صالحة هي من عنده. فلنسبح هذا الإله العظيم القدوس القادر على كل شيء في كل مكان نتعبَّد له فيه.
2 – سبب تسبيح الرب: «سبحوه على قوّاته. سبحوه حسب كثرة عظمته» (آية 2). يسبح المؤمنون الرب لأنهم يُجري معهم الآيات والمعجزات بحسب كثرة عظمته. وقواته ظاهرة في الخلق، فقد أوجد الموجود من العدم، بمجرد كلمة منه. وهو يجدِّد قلب الخاطئ بميلادٍ جديد من فوق، ويجعل من الفاسد قديساً «ليُظهِر في الدهور الآتية غِنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع» (أف 2: 7). و«إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً» (2كو 5: 17).. وتظهر قوته العظيمة في عنايته بخليقته التي يرزقها كلها. ويسأل الله أيوب: «أتصطاد للَّبوة فريسة؟ أم تُشبِع نفس الأشبال؟» (أي 38: 39)، وقال المرنم: «كلها إياك تترجَّى لترزقها قوتها في حينه. تعطيها فتلتقط. تفتح يدك فتشبع خيراً» (مز 104: 27، 28). وقال المسيح: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء. إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟» (مت 6: 25، 26).
على أن أعظم أعمال الله هو محبته الفدائية، فقد أحبَّ أبوينا الأوَّلين، وقبل أن يخلقهما هيَّأ لهما جنة ليعيشا فيها ويتمتعا بثمارها. ولكن محبته لهما ظهرت أكثر بعد أن عصيا، فسترهما بجلد ذبيحة، وكان هذا الستر رمزاً للستر الذي دبَّره المسيح لنا بفدائه وكفارته، فقال الرسول بولس: «متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدَّمه الله كفّارةً، بالإيمان بدمه، لإظهار برِّه، من أجل الصفح عن الخطايا السالفة، بإمهال الله. لإظهار برِّه في الزمان الحاضر ، ليكون باراً، ويبرر من هو من الإيمان بيسوع» (رو 3: 24-26).

ثانياً – آلات التسبيح للرب
(آيات 3-5)
يدعو المرنم المؤمنين ليستخدموا كل الآلات الموسيقية المتوافرة عندهم وعند غيرهم من الشعوب في رفع ألحان التسبيح للرب القدوس. فالصور هو القرن أو البوق، استخدمه الإيطوريون. واستخدم الأركاديون المزمار، وهو يشبه الأرغول أو الأرغن. واستخدم الكريتيون العود، والمصريون الدف أو الطبلة الصغيرة، واستخدم العرب الصنوج أو الصاجات. ويريد المرنم أن يكون التسبيح مبهجاً، وأن لا يدَّخر المؤمنون وسعاً في الحصول على آلات العزف المفرحة.
1 – الصور: «سبحوه بصوت الصور» (آية 3أ). والصور هو قرن الثور أو الخروف، وعند النفخ فيه يُصدر صوتاً عالياً واضحاً يسمعه الجميع.
(أ) أعلن صوت الصور نزول الوحي: عندما أعطى الله شريعته لشعبه صاحبها صوت الصور (خر 19: 16). وعندما أعلن الرب رسالة خاصة على يد الرسول يوحنا للكنائس السبع، كان صوت البوق يسبقها، فقال يوحنا: «كنت في الروح في يوم الرب. وسمعت ورائي صوتاً عظيماً كصوت بوق قائلاً: أنا هو الألف والياء. الأول والآخِر. والذي تراه اكتُب في كتاب وأَرسِل إلى السبع الكنائس.. بعد هذا نظرت وإذا بابٌ مفتوح في السماء، والصوت الأول الذي سمعته كبوق يتكلم معي قائلاً: اصعد إلى هنا فأريك ما لا بد أن يصير بعد هذا» (رؤ 1: 10، 11 و4: 1). والمقصود أن صوت الله دائماً واضح مسموع لا تخطئه الأذن. و«من له أذنان للسمع فليسمع» (مت 13: 9).
(ب) أعلن صوت الصور بدء الأعياد: كان بنو إسرائيل ينفخون في الأبواق كلما أقبل أحد الأعياد، كما قيل: «انفخوا في رأس الشهر بالبوق، عند الهلال، ليوم عيدنا» (مز 81: 3)، وكانوا يعلنون به بدء سنة اليوبيل، السنة التي يتحرر الناس فيها من الديون، وتعود الأرض المرهونة إلى أصحابها (لا 25: 9، 10). وقد أشار المسيح إلى سنة اليوبيل الحقيقية التي بدأت بمجيئه (لو 4: 19)، لأنه «إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو 8: 36).

(ج) صوت البوق يعلن قدوم يوم الكفارة: كان بنو إسرائيل يعلنون بدء يوم الكفارة العظيم بالنفخ في البوق، وهو يوم الصوم الوحيد عندهم، وفيه يدخل رئيس الكهنة أولاً إلى قدس الأقداس بدمٍ عن نفسه. ثم يخرج ليعود بدمٍ آخر ليكفر عن خطايا الشعب (لا 16: 34 و25: 9). وهو رمز لعمل المسيح الكفاري على الصليب، فإن المسيح رئيس كهنتنا دخل إلى الأقداس بدم نفسه (لا بدمٍ عن نفسه) مرة واحدة، فوجد لنا فداءً أبدياً (عب 9: 12).
(د) صوت البوق يعلن التعبئة للحرب: كان بنو إسرائيل ينفخون في الصور للتحذير والتعبئة للحرب (إر 4: 5). ونحن اليوم في حرب روحية مع إبليس وجنوده، فلنضرب دوماً بالبوق ليستعد الأتقياء كما أمر المسيح: «اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة» (مت 26: 41). وكما أمرتنا الوصية الرسولية: «اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسدٍ زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو. فقاوموه راسخين في الإيمان» (1بط 5: 8، 9).
(هـ) صوت البوق يعلن مجيء المسيح ثانيةً: «لأن الرب نفسه سوف ينزل من السماء بهتافٍ، بصوت رئيس ملائكةٍ، وبوق الله. والأموات في المسيح سيقومون أولاً، ثم نحن الأحياء الباقين سنُخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب» (1تس 4: 16، 17 راجع 1كو 15: 52).
2 – رباب وعود: «سبحوه بربابٍ وعود» (آية 3ب). وهما آلتان وتريتان، وللربابة عشرة أوتار وأحياناً اثنا عشر وتراً. واليوم توجد آلات وترية أخرى كالبيانو والكمان. وبالعزف على الآلات الوترية تصدر موسيقى حلوة تجذب القلوب، وتشد الانتباه بما يصاحبها من كلمات وتسبيحات لله. فلتصاحب هذه الآلات تسبيح الأتقياء ليتلذذ المرنمون والسامعون، ويمجدوا الله.
3 – الدف والرقص: «سبحوه بدف ورقص» (آية 4أ). الدف هو الطبلة الصغيرة تعزف عليها اليدان في إيقاعات مختلفة تترجم مشاعر الفرح بالرب. وفي الرقص يشارك الجسد والقدمان بالحركة، حسب الإيقاع، انطلاقاً وابتهاجاً. وقد كان الدف والرقص يصاحبان تسبيحات الفرح بعبور البحر الأحمر عندما «أخذت مريم النبية أخت هارون الدف بيدها. وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص» (خر 15: 20).
4 – أوتار ومزمار: «سبحوه بأوتار ومزمار» (آية 4ب). يمتزج العزف أحياناً بآلة وترية مع آلة نفخ، وكان أول من استخدم هذا الامتزاج «يوبال» الذي كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار (تك 4: 21).
5 – صنوج التصويت والهتاف: «سبحوه بصنوج التصويت. سبحوه بصنوج الهتاف» (آية 5). الصنوج هي الصاجات، الصغيرة منها للتصويت، والكبيرة للهتاف. وهي من صفائح نحاسية مقعرة أو مجوفة تُضرَب إحداها بالأخرى فتُحدث موسيقى تزيد فرح الشعب بعبادة الرب.
وواضحٌ من كلمات المزمور أننا يجب أن نستخدم كل آلة موسيقية متوافرة، وكل ما يستُحدث لتسبيح الرب، مع ترنيم شفاهنا وحركات أيدينا وأقدامنا، لأنه «حيث روح الرب هناك حرية» (2كو 3: 17)، وقد «كان جميع بني إسرائيل يُصعِدون تابوت عهد الرب بهتاف، وبصوت الأصوار والأبواق والصنوج، يصوِّتون بالرباب والعيدان.. والملك داود يرقص» (1أخ 15: 28، 29).

ثالثاً – المسبِّحون للرب
(آية 6)
«كل نسمة فلتسبح الرب. هللويا» (آية 6). هذه الآية هي نهاية سفر المزامير الذي يدعو كل من نال نسمة حياة أن يسبح خالقه، فتتحد الخليقة كلها في إعلان التمجيد والحب لمن وهبها الحياة والنعمة، ويقولون: «أسبِّح الرب في حياتي. أرنم لإلهي مادمت موجوداً» (مز 146: 2). ومع كل نسمة هواء تدخل صدورنا لتجدد حياتنا يتجدد شكرنا لله ووعودنا له بأن نطيعه، ونخضع له، ونتكل عليه بكل قلوبنا. فلنسبحه بإيمان واثق أنه العظيم المنتصر وأن لنا به وفيه النصرة و«يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 37)، ونقول له: «تعرِّفني سبل الحياة. أمامك شبع سرور. في يمينك نِعم إلى الأبد» (مز 16: 11) «أما أنا فبالبر أنظر وجهك. أشبع إذا استيقظت بشبهك» (مز 17: 15).
هللويا! افرحوا بالرب كل حين، لأن فرح الرب هو قوتكم. «حسنٌ هو الحمد للرب والترنم لاسمك أيها العلي. أن يُخبَر برحمتك في الغداة وأمانتك كل ليلة، على ذات عشرة أوتار وعلى الرباب على عزف العود. لأنك فرَّحتني يا رب بصنائعك. بأعمال يديك أبتهج. ما أعظم أعمالك يا رب وأعمق جداً أفكارك» (مز 92: 1-5).