تأملات
في سفر المزامير

مواعظ تفسيرية
الدكتور القس منيس عبد النور

الجزء الأول

المزمور الأول
إلى المزمور الثاني والسبعين

هذا الكتاب
انشغلتُ بالوعظ التفسيري من سفر المزامير منذ سنوات طويلة، وبدأته عام 1983، فكنتُ ألقي من منبر الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة عظة تفسيرية لنحو عشرة مزامير كل سنة، سُجِّلت كلها على أشرطة كاسيت، وسُجِّل معظمها على أشرطة فيديو. وقد تلقّاها المؤمنون الذين يعرفون اللغة العربية في مختلف بلاد العالم بقبول طيب، شجَّعني كثيراً. ثم نشرتُ ملخّصاً لمزامير 1-71 في مجلة »أجنحة النسور« القاهرية، وقدَّمتُ الكثير منها في سلسلة أحاديث بالراديو، وبالتلفزيون، من محطات عالمية متنوِّعة.
وطلب مني الشيخ المهندس نبيل اسكندر أن أنشر هذه المواعظ في كتاب، كما طلبت مني دار نشر »نداء الرجاء« بألمانيا أن أنقلها إلى اللغة الإنكليزية، لفائدة قراء هذه اللغة، ولتسهيل ترجمتها منها إلى لغات أخرى.. فكان لا بد من تفريغها من أشرطة التسجيل، وكتابتها على الكمبيوتر. ثم الاستعانة بالمذكرات المختصرة المحتوية على أقسام المزمور، والتي كنت آخذها معي إلى المنبر وقت الوعظ، وبها معلومات قد لا تتَّضح للمستمع أثناء الوعظ (مثل أقسام المزمور)، كما أن بها معلومات لم يسمح الوقت المخصَّص للوعظ بإلقائها.. فأضفتُ ما جاء بها إلى ما كنت أُلقيه أثناء الوعظ. ثم بدأتُ تعديل الأسلوب الوعظي إلى أسلوب كتابي، لأن الأسلوب المقروء يختلف عن الأسلوب المسموع.. وهذه هي الطريقة نفسها التي اتَّبعتُها عندما أعانني الرب على إصدار بعض كتبي، مثل »معجزات المسيح« و»المحبة لا تسقط أبداً« و»ثمر الروح« و»أمثال المسيح« والتي تُرجمت جميعها إلى الإنكليزية.
وقد منحني الرب عوناً من أشخاص عديدين ساعدوني في هذا العمل، ولولا معونتهم ما تمكنتُ من إصدار هذا الكتاب في هذه الصورة. وأود أن أسجل شكري القلبي لهذه المجموعة الرائعة التي عملت معي بكل قلبها، وصرفَت الشهور الطويلة في تفريغ العظات من الأشرطة، وكتابتها بالكمبيوتر، وذلك قبل أن أحوِّلها من أسلوب الوعظ المسموع إلى أسلوب الكتابة المقروء.. ثم قيامهم بمراجعة البروفات، وتقديم التعليقات، وعمل التنسيق الطباعي للمخطوطة لتظهر كما هي بين أيديكم. لهم جميعاً شكري القلبي وتقديري العميق، ولهم أطلب مكافأة السماء.
وصلاتي أن يكون هذا الكتاب سبب بركة لكل قارئ، يرشد حياتنا جميعاً لتكون كلمة الله سراجاً لأرجلنا ونوراً لسبيلنا، وواقعاً مُعاشاً، لخيرنا الروحي، ولخير من نخدمهم.

د. القس منيس عبد النور
القاهرة أغسطس 1996

مقدمة
المزامير تسابيحٌ لله. ونلتقي في سفر الخروج 15 بأول مزمور تسبيح لموسى احتفاءً بالخلاص من عبودية فرعون، فأخذت مريم النبيَّة الدفَّ، وتبعها رجال ونساء بني إسرائيل يرنمون: »رنموا للرب فإنه قد تعظم! الفرس وراكبه طرحهما في البحر« (خر 15 :20، 21). ثم نقرأ ترنيمة النبية دبورة في سفر القضاة 5، وبعدها ترنيمة حنة أم النبي صموئيل (1صم 2). ثم نقرأ رثاء داود للملك شاول (2صم 1). أما القسم الأعظم من المزامير فهو في سفر المزامير (وفي العبرية: تهلّيم، ومعناه: تسبيحة). ويبدأ السفر بتطويب الإنسان الذي باركه الله، وينتهي بالتهليل لتمجيد الله الذي بارك الإنسان. والمزامير أناشيد حمدٍ وسجود وتمجيد لله، كانت تُرتَّل بمصاحبة العزف على الآلات الموسيقية. وهي عامرة بالأمل في صلاح الله ومحبته وحكمته وقدرته وقداسته وأمانته. إنه الإله اللامحدود البار الصالح. ويتحدث المرنِّمون عن الله أكثر من حديثهم عن أنفسهم أو عن البشر، لأنهم يدركون أنه قريبٌ منهم، وأنه إله الخلاص والإنقاذ من الظلم والاضطهاد، وهو معين البائسين والمظلومين والمهمَّشين الذين لا يجدون من يهتم بهم، وهو الفاعل في الطبيعة وفي البشر وفي التاريخ. وهو سامع الصارخين المستغيثين والمحبين المتعبِّدين، ويستجيب دعاءهم. وهو غافر الخطايا ومطهِّر القلوب. وحسناً قال مارتن لوثر: »في المزامير نمعن النظر في قلوب كل القديسين«.
ويسبِّح المرنمون الله لأنه ينقذ الفرد كما ينقذ الأمة، فهو إله الفرد، وإله العائلة، وإله الشعب كله. إنه المخلِّص والمنقذ من الضيق والحرب والجوع والخطية.
كُتّاب المزامير:
أوحى الله بالروح القدس إلى مجموعة من أنبيائه بكتابة المزامير، لا نفرِّق بين أحدٍ منهم. وقد أُطلق على سفر المزامير اسم »مزامير النبي داود« لأننا من دراسة عناوين سفر المزامير نكتشف أنه كتب 73 مزموراً، فسُمِّي السفر باسمه من باب التغليب. ويتَّضح من العهد القديم أن داود كتب مزموري 96 و105 (راجع 1أي 16 :23-26 و1أي 16 :7-22)، ويعزو العهد الجديد إليه أيضاً أنه كتب مزمور 2 (أع 4 :25) ومزمور 95 (عب 4 :7). وكتب آساف 12 مزموراً، وأولاد قورح 10 مزامير، وسليمان مزموري 72 و127، وهيمان مزمور 88، وإيثان مزمور 89، وموسى مزمور 90. وهناك 49 مزموراً لا نعرف من كتبها.
وقد جمع النبي عزرا هذه المزامير بإرشاد الروح القدس في كتاب واحد.
أقسام سفر المزامير:
قسَّم اليهود المزامير إلى خمسة كتب، يتوافق كل كتاب منهـا مع واحـد من أسفـار موسى الخمسة، وينتهي كل كتاب منها بتمجيد ختامي:
الكتاب الأول من مزمور 1-41 وهو يتناسق مع سفر التكوين، الذي يتحدث عن سموّ الإنسان، وعن سقوطه.
والكتاب الثاني من مزمور 42-72 وهو يتناسق مع سفر الخروج، الذي يركِّز على الأمة كمركز للسفر.
والكتاب الثالث من مزمور 73-89 ويتناسق مع سفر اللاويين الذي يتحدث عن المقدس.
والكتاب الرابع من مزمور 90 – 106 ويتناسق مع سفر العدد الذي يتحدث عن الأرض المقدسة.
والكتاب الخامس من مزمور 107-150 ويتناسق مع سفر التثنية الذي ينبِّر على كلمة الله.
مزامير لمناسبات خاصة:
هناك سبعة مزامير توبة، وهي: 6 و32 و38 و51 و102 و130 و143.
وهناك سبعة مزامير لداود الطريد أمام شاول، وهي: 7 و34 و52 و54 و56 و57 و142.
وهناك سبعة مزامير لتسبيح الله الملك، وهي: 93 و95-100.
وهناك ستة مزامير »التهاليل المصرية«، وهي: 113-118.
وهناك 15 مزموراً للمصاعد، وهي: 120-134.
وهناك ستة مزامير تهليل ختامية، وهي: 145-150.
مزامير طلب الانتقام:
نجد في الكثير من المزامير صلوات طلب انتقام، ولعل أهمها مزامير 35 و69 و109 و137. وهي تتفق مع روح شريعة موسى التي نادت أن العين بالعين والسن بالسن (لا 24 :19)، ولكنها تتعارض مع روح تعاليم المسيـح التي تنادي بالغفـران للأعداء والصلاة من أجل المسيئين (مت 5 :43-48). وقد عاش المرنمون في عهد الشريعة الموسوية، فرفعوا صلواتهم لله بضمائر صالحة بغير انفعال ولا تهوُّرٍ عاطفي، لأنهم كرهوا الخطية، وبالتالي كرهوا الخاطئ الذي يرتكبها. وقد طالب المرنم تسليم الخطاة للرب لينفِّذ فيهم عدالتـه (مز 137 :8 و9) فيرى الصدّيقون ويخافون (مز 52 :6). وكان اليهود يقولون إن السماء تفرح بخاطئ واحد يهلك لتستريح الأرض من شرِّه، بينما علَّمنا المسيح أن السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب (لو 15 :7 و10) فتستريح الأرض من شره بتوبته، وليس بهلاكه.ولكن بعض المفسرين يرون أن المرنم كان يتحدث عن السبب والنتيجة، فالخاطئ لا بد أن ينال أجرة خطيته. وعلى هذا فاللعنات نبوّات عمّا سيحلُّ بالخاطئ. فيكون طلب الانتقام صلواتٍ مرفوعةً للإله العادل الذي لا بد ينصف المظلوم ويعاقب الظالم.
عدد المزامير:
عدد المزامير 150 مزموراً كما جاء في التوراة العبرية. وفي منتصف القرن الثاني قبل المسيح تُرجمت المزامير إلى اللغة اليونانية لخدمة اليهود الذين تشتَّتوا في أرجاء العالم المعروف وقتها، وهي الترجمة المعروفة باسم »السبعينية« والتي عنها أخذ القديس إيرونيموس (جيروم) ترجمته إلى اللاتينية، والمعروفة بـ »الفولجاتا«. وقد أدمجت »السبعينية« مزموري 9 و10 في مزمور واحد، كما أدمجت 114 و115 في مزمور واحد. وقسمت كلاًّ من مزموري 116 و147 إلى مزمورين، فبقي عدد المزامير 150 مزموراً.
واحتوت الترجمة السبعينية على مزمور إضافي هو مزمور 151، وله أصل عبري في المخطوطات التي اكتُشفت في الكهف الثاني من كهوف وادي قمران (ونُشرت في 1965-1967). إلا أن النص اليوناني يذكر أن مزمور 151 هو »خارج العدد«. وواضحٌ أن الاختلافات في الترجمة السبعينية عنها في الأصل العبري لا يؤثر على مضمون المزامير، ولكنه يؤثر على »الترقيم« الذي أخذت عنه الفولجاتا وباقي الترجمات التي نُقلت عن الفولجاتا.

عناوين المزامير:
هناك 34 مزموراً بدون عناوين، أما بقية المزامير (وعددها 116 مزموراً) فتحمل عناوين، منها 32 مزموراً تذكر مناسبة كتابة المزمور (هي 3 و7 و18 و30 و34 و51 و52 و54 و56 و57 و59 و60 و63 و90 و92 و102 و120-134 و142).. وهناك 12 مزموراً تذكر اسم اللحن الذي يُرتَّل به المزمور.. وهناك 16 مزموراً تذكر اسم الآلة الموسيقية التي تصاحب ترنيم المزمور.. وهناك مئة مزمور تحمل اسم الكاتب، منها 73 مزموراً لداود (هي 3-9 و11-32 و34-41 و51-65 و68-70 و86 و101 و103 و108-110 و122 و124 و131 و133 و138-145)، و12 مزموراً لآساف (هي 50 و73-83)، و10 مزامير لبني قورح (هي 42 و44-49 و84 و85 و87)، ومزموران لسليمان (هما 72 و127)، ومزمور واحد لكل من هَيْمان الأزراحي (هو مز 88) وأَيْثان الأزراحي (هو مز 89) وموسى (هو مز 90). ويقول المفسرون إن عنونة المزمور بالقول »لداود« لا يعني بالضرورة أن داود هو الكاتب، لأن التعبير »لداود« أو »لسليمان« أو »لإمام المغنين« له ثلاثة معانٍ: أولها أن الكاتب هو داود (وهو الأغلب)، وثانيها: أن المزمور مُهدَى لداود، وثالثها: أنه يختص بحالةٍ مرَّ بها داود.
معاني بعض كلمات وتعبيرات متكررة في المزامير:
سلاه: هذا تعبير موسيقي ورد 71 مرة في 39 مزموراً، لا نعرف معناه بالضبط. ويقول بعض المفسرين إنه يعني تقوية اللحن وتوقيعه بشِدَّة، فيتوقف المرنمون عن الترتيل لتعزف الآلة الموسيقية وحدها. ويقول آخرون إن معناه وقفة موسيقية، فتتوقَّف الآلات الموسيقية والمرتلون، ليتأملوا معنى ما رتَّلوه. ويقول يعقوب (الذي من الرها) إنها تشبه »آمين« بعد الصلاة، ومعناها »استجِب« فيكون معنى »سلاه« »أَعطِ بركتك«. (وردت »سلاه« أيضاً ثلاث مرات في نبوة حبقوق).
لإمام المغنين: وردت في عنوان 55 مزموراً، هي 4-6 و8 و9 و11-14 و18-22 و31 و36 و39-42 و44-47 و49 و51-62 و64-70 و75-77 و80 و81 و84 و85 و88 و109 و139 و140. وهناك تفسيرات كثيرة لهذا العنوان، أقربها إلى الصواب أن قائد فرقة ترنيم الهيكل (إمام المغنّين) كان يقود العابدين في ترنيم هذا المزمور بالهيكل. وقد يكون أن أحد الشعراء أهدى المزمور لإمام المغنين، كما جاء عنوان المزمور الرابع »لإمام المغنّين .. مزمور لداود« لأن داود كتب المزمور وأهداه لإمام المغنين.
على القرار: وردت في عنوان مزموري 6 و12. وهي ترجمة لكلمة عبرية معناها »الثامنة« قال بعض المفسرين إنها آلة موسيقية ذات ثمانية أوتار، وقال البعض إنها تشير إلى خفض الصوت في السلَّم الموسيقى، ولو أن البعض قالوا إن السلم الموسيقي لم يكن معروفاً عند بني إسرائيل.
شجوية: وردت عنواناً للمزمور السابع، وهي غالباً من أصل أكادي، وتعني ترنيمة شجوى وحزن. وفي اللغة العربية: شجاه الأمر شجواً، أحزنه. (وردت أيضاً في صيغة الجمع في حبقوق 3 :1).
الجتيَّة: وردت في عنوان مزامير 8 و81 و84. وقد تكون آلة موسيقية اختُرعت أو استُخدمت في العاصمة الفلسطينية »جت« وعرفها منهم بنو إسرائيل. أو قد يكون اسم لحنٍ تُغنَّى به أغنية قطاف العنب، الذي كان يوافق موعد عيد المظال.
موت الإبن: وردت في عنوان المزمور التاسع. وربما كان اسم لحن حزين وُضع لرثاء ابنٍ مات، استُعير ليُرتَّل به المزمور.
ضرب الأوتار: وردت في مزمور 9 :16. وهي توجيه للموسيقيين، قد يعني تهدئة العزف ليعطي المرنمين فرصة التفكير الهادئ والتأمل في معاني كلمات المزمور.
مذهَّبة: وردت في عنوان مزامير 16 و56-60. وهي تعني »مغطاة برقائق الذَّهب« أي أن كلمات المزمور لامعة ثمينة كالذهب.
على أَيِّلة الصبح: وردت في عنوان مزمور 22. ولا نعرف معناها، والأغلب أنها اسم اللحن الذي يُرتَّل به المزمور.
قصيدة: وردت في عنوان 13 مزموراً هي 32 و42 و44 و45 و52-55 و74 و78 و88 و89 و142. وهي تعني في الأصل العبري »ما يعطي فطنة وحكمة« وترجمتها السبعينية »مزمورُ فَهْمٍ«.
للتذكير: وردت في عنوان مزموري 38 و70. وتعني تذكير المرنم بأحداث مقدسة لا يجب أن ينساها.
على السوسن: وردت في عنوان مزامير 45 و60 و69 و80. والسوسن آلة موسيقية تشبه في شكلها زهـرة السوسـن. وكلمـة »سوسن« قريبـة من كلمـة »ستة« في اللغـة العبرية، وربمـا كانـت آلـة »السوسن« ذات ستة أوتار.
على الجواب: وردت في عنوان مزمور 46. وهو اسم اللحن الذي يُرتَّل به المزمور، ويمكن ترجمته »لحن العذارى«.
على الحمامة البكماء بين الغرباء: وردت في عنوان مزمور 56. ومعناه غير معروف، والأغلب أنه اسم اللحن الذي يُرتَّل به المزمور.
على لا تُهلِك: وردت في عنوان مزامير 57-59 و75. ربما تشير إلى لحنٍ كانت تُرتَّل به صلاة موسى في تثنية 9: 26 »وصلَّيتُ للرب: يا سيد الرب، لا تُهلِك شعبك وميراثك الذي فديته بعظمتك«. ثم استُخدم اللحن لترتيل هذه المزامير الأربعة.
على يدوثون: وردت في عنوان مزموري 62 و77. ويدوثون اسم عبري معناه »حامد أو مُسبِّح« مـن سبط لاوي، وأحـد الموسيقيـين الثلاثة الكبار الذين عيَّنهم الملك داود لقيادة التسبيح في الهيكل (1أي 16 :41-43 و25 :1-3). والأغلب أن يدوثون هو واضع اللحن الذي يُرنَّم به المزمور.
ترنيمة المصاعد: وردت عنواناً لخمسة عشر مزموراً هي مزامير 120-134. كان بنو إسرائيل يرنمونها وهم صاعدون إلى أورشليم للاحتفال بالعيد.
الإنجيل في سفر المزامير:
يحب المسيحيون المزامير كما أحبها اليهود، لأنهم يكتشفون فيها المعاني الروحية والاختبارات الدينية التي يعلنها العهد الجديد، وهم ينتقلون من قراءة الإنجيل إلى قراءة المزامير دون أن يشعروا بأي اختلاف في مستوى الفكر الروحي.
1 – المسيح في المزامير: كان لقب «المسيح» يُطلق على ملوك بني إسرائيل (مز 89 :38 و51) كما كان يشير إلى الابن الأكبر لداود، ملك بني إسرائيل المخلَّص الآتي (مز 2:2). ويصف لقب »المسيح« أيضاً كل من يمسحونه ليتولى منصباً خاصاً، كالأنبياء (مز 105 :15). وهناك نبوّات كثيرة في المزامير عن حياة المسيح، كما قال: »لا بد أن يتمَّ جميع ما هو مكتوب عنّي في ناموس موسى والأنبياء والمزامير« (لو 24 :44)، فقد استشهد بمزمور 8 :3 حين هتف الأولاد له يوم دخوله الانتصاري إلى أورشليم (مت 21 :16)، وعندما كان معلَّقاً على الصليب اتَّجه فكره إلى سفر المزامير، فدعا الآب بأول كلمات مز 22 (مت 26 :46)، واستودع روحه إليه بكلمات مز 31 :5 (لو 23 :46)، وفي عطشه سقوه خلاً كما جاء في مز 69 :21 (يو 19 :29). ويصوِّر مز 22 آلام الصليب. وقد وصفت المزامير المسيح بأنه »ابن الله« الذي يهزم أعداءه (مز 2 و72 و110) ولا بد أن يَهلك كلُّ مقاوميه.. كما تحدثت المزامير عن امتداد ملكوته في كل العالم (مز 47 و67 و96-100 و117). وقد حَوَت مزامير 2 و8 و 16 و22 و40 و45 و69 و72 و89 و102 و109 و110 و118 و132 نبوات واضحة عن حياة المسيح وموته وقيامته.
2 – الأُنس بالله في المزامير: يرى المرنم قداسة الله، فيتعبَّد له (كما في مزامير 95-100) ويشتاق إليه ويعطش للوجود في حضرته (كما في مز 42 و43 و63) ويسبحه (كما في مز 33 و34 و40 و92 و105) ويحب بيته (كما في مز 84 و122)، ويحب كلمته (مز 19 و119)، ويختبر حضوره الدائم معه (مز 23 و91).
3 – الخلاص من الخطية: تركز المزامير على أن الإنسان خطّاء، فيقول المرنم: »إن كنتَ تراقب الآثام يا رب، يا سيد، فمن يقف؟« (مز 130 :3) وهو يرى أن الخطية هي أساساً ضد الله »إليك وحدك أخطأتُ والشرَّ قدام عينيك صنعتُ« (مز 51 :4). وتوضح المزامير أن الأمل الوحيد في الخلاص من الخطية وأجرتها يكمن في الفداء، ولا يمكن للإنسان أن يفدي نفسه، ولا يقدر أخٌ أن يفدي أخاه »الأخ لن يفدي الإنسان فداءً، ولا يعطي اللهَ كفارةً عنه. وكريمة هي فدية نفوسهم، فغلقت إلى الدهر (وفي ترجمة دار المشرق: فدية نفوسهم باهظة، وهي للأبد ناقصة)« (مز 49 :7 و8). أما الفدية المقبولة فهي الذبيحة الدموية كما أوضحت شريعة موسى (مز 51 :19) والتي كانت ترمز إلى المسيح حمل الله، الذي يرفع خطية العالم (يو 1 :29). ويقول المرنم: »لأن عندك المغفرة، لكي يُخاف منك« (مز 130 :4) »طوبى لرجلٍ لا يحسب له الرب خطية« (مز 32 :2). ويجد الإنسان خلاصه من خطاياه بالاعتراف والتوبة (مزمور 32 و51) فيتمتع بفرح الخلاص (مز 51 :12).
4 – الحياة الأبدية في المزامير: لم تكن فكرة الحياة الأبدية واضحة في فكر كُتّاب العهد القديم، فإن المسيح هو الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل (2تي 1 :10). ويبدو من بعض آيات المزامير أن تسبيح الله سينتهي بنهاية حياة المرنم على الأرض، فيقول: »ليس في الموت ذكرك. في الهاوية من يحمدك؟« (مز 6 :5). ولكن لا يوجد إنكار للحياة الأبدية، كما قال المرنم: »جسدي أيضاً يسكن مطمئناً، لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيَّك يرى فساداً« (مز 16 :9 و10). وهو يرى الفرح بوجه الله بعد الموت »أشبع إذا استيقظتُ بشبَهك« (مز 17 :15) ويقول: »برأيك تهديني، وبعدُ إلى مجدٍ تأخذني« (مز 73 :24). ويقول: »إنما الله يفدي نفسي من يد الهاوية، لأنه يأخذني« (مز 49 :15).
* * *
والآن تعالوا نتأمل مزامير الكتابين الأول والثاني (مزامير 1-72) فنسبح الله الذي خلق الإنسان أسمى من كل ما سواه، ولكنه سقط، فأوجد الله له الفداء والخلاص. إننا صاعدون مع أصحاب المزامير إلى مستوى أعلى. فلنطلب أن تكون أقدامنا كالأيائل ويمشّينا على مرتفعاتنا (حب 3: 19).
اَلْمَزْمُورُ الأَوَّلُ
1طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ الأَشْرَارِ، وَفِي طَرِيقِ الْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ، وَفِي مَجْلِسِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ. 2لَكِنْ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ مَسَرَّتُهُ، وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَاراً وَلَيْلاً. 3فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ، وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ.
4لَيْسَ كَذَلِكَ الأَشْرَارُ، لَكِنَّهُمْ كَالْعُصَافَةِ الَّتِي تُذَرِّيهَا الرِّيحُ. 5لِذَلِكَ لاَ تَقُومُ الأَشْرَارُ فِي الدِّينِ، وَلاَ الْخُطَاةُ فِي جَمَاعَةِ الأَبْرَارِ. 6لأَنَّ الرَّبَّ يَعْلَمُ طَرِيقَ الأَبْرَارِ، أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَتَهْلِكُ.
الناس نوعان
يبدأ مز 1 بكلمة «طوبى» ومعناها: يا لسعادة! وهي ما بدأ به المسيح موعظته على الجبل، فطوَّب المساكين بالروح وغيرهم (مت 5: 3-13). والكلمة في صيغة الجمع، وتعني تعدُّد البركات.
ومن تطويب مز 1 والموعظة على الجبل يتّضح أن السعيد هو الذي يستمدّ سعادته من شيء داخل نفسه، هو وجود النعمة في قلبه، فتنعكس على مسلكه الخارجي، وتكوِّن عنده اكتفاءً ذاتياً. فالسعيد حقاً لا يستمد فرحه من الظروف المحيطة به، ولا من خارج نفسه، بل من داخله. فإن كنا نستمد سعادتنا وسلامنا مما هو خارج نفوسنا، فقد نجد ما يسبِّب لنا الفرح والسلام يوماً، ولا نجده بذات الكمية والنوعية في يومٍ تال، وقد يجيء يومٌ لا نجده فيه أبداً. فالذي يتكل على الظروف لتسعده يرتفع تارةً وينخفض أخرى. وتكون انخفاضاته أكثر من ارتفاعاته كمّاً ونوعاً. أما الذي يستمد سعادته مما بداخل نفسه، فهو السعيد حقاً. ونرى في الرسول بولس نموذجاً لهذا، إذ قال: «تعلَّمتُ أن أكون مكتفياً بما أنا فيه. أعرف أن أتَّضع وأعرف أيضاً أن أستفضل. في كل شيء وفي جميع الأشياء قد تدرَّبتُ أن أشبع وأن أجوع، وأن أستفضل وأن أنقُص. أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني» (في 4: 11-13).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الإنسان البار (آيات 1-3)
ثانياً – الإنسان الشرير (آيتا 4، 5)
ثالثاً – سبب النجاح وسبب الفشل (آية 6)

أولاً – الإنسان البار
(آيات 1-3)
هنا ثلاث صور للإنسان البار: صورة سلبية، وأخرى إيجابية، وثالثة وصفيَّة:
1 – صورة سلبية: «طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس» (آية 1). والمشورة هي تقديم النصيحة لتوجيه شخصٍ ليعتنق فكراً معيناً، أو ليؤدي عملاً معيناً. والسعيد هو الذي لم يتّجه في حياته إلى فكر الأشرار، فلم يقف في طريق الخطاة، ونتيجة لذلك لم يجلس في مجلس المستهزئين، لأن فكر الأشرار يقود إلى وقفة، والوقفة تؤدي إلى الجلوس. والتعيس هو الذي يسلك في مشورة الأشرار وفكرهم، فيجد نفسه واقفاً في طريق الخطاة، وينتهي به الأمر إلى الجلوس في مجلس المستهزئين. ثلاث خطوات تؤدي كلٌّ منها إلى الخطوة التالية، وتنتهي بانحدار كامل.
تبدأ الخطية بفكر بسيط، وتنتهي بالانهيار. ويرجع هذا إلى مكر إبليس، فلو جرَّبنا في البداية أن نخطئ خطية كبيرة تجعلنا ننهار انهياراً أخلاقياً كاملاً، فإننا سنرفضها. لكنه بخداعه يعرض علينا مجرد فكرة تبدو صالحة، ويلعب دور الناصح المخْلِص الذي يهتم بمصلحتنا. وقد ظهر مكره هذا في تقديم مشورته لأمّنا حواء في صورة تساؤل يبدو بريئاً، وقدَّم اقتراحاً ونصيحة: »أحقاً قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟.. لن تموتا«! فاستهوت المشورة والفكرة أبوينا الأوَّلين، ووقفا أمام الشجرة الممنوعة وقفة تأمل، فوجدا »الشجرة بهِجَة للعيون وشهية للنظر«. وقادتهما الوقفة إلى الجلوس والأكل من الشجرة الممنوعة (تك 3: 1-7). فإن قبلنا مشورة إبليس يتبلور ما قبلناه إلى وقفة تأمل، وينتهي بنا الأمر إلى اعتناق هذا الفكر وتنفيذه في جلسةٍ مع المستهزئين.
وكما أن السلوك يؤدي إلى الوقوف وينتهي بالجلوس، فيجيء الانحدار تدريجياً، هكذا التعامل مع فكر »الأشرار« يؤدي بنا إلى طريق »الخطاة« الذي ينتهي بمجلس »المستهزئين«. والأشرار هم المتسيِّبون الذين لا تحكمهم القوانين الروحية. قد يستجيبون للروحيات، ولكن عندما لا تتفق مع أهوائهم وراحتهم الجسدية يرفضونها. والشرير هو غير المستقر، الذي لا يبقى على حال واحدة. إنه غير متوافق مع نفسه، لأنه متذبذب متقلقل. سعيد هو الإنسان الذي لا يقف ليتلقّى نصيحةً من الشرير المتسيّب، غير المستقر، الذي ينتقل من فكر لا أخلاقي إلى فكر لا أخلاقي آخر. أما »الخطاة« فهم الذين أخطأوا الهدف، فلم يستطيعوا أن يحققوا قصد الله في حياتهم. وهم أشرُّ حالاً من الأشرار.
أما »المستهزئون« فهم نوع أكثر شراً من الأشرار، وأكثر خطية من الخطاة. إنهم الذين لا يفعلون شيئاً إلا السخرية من الدِّين والمتديّنين. هم الذين يضحكون على الذين يتعبّدون. وقد تكون مكانة المستهزئ عالية، لأنه يجتذب الناس إليه فيلتفُّون حوله ضاحكين. لكنه قريب من أبواب الجحيم، ولا بد يهلك.
هذا هو الوصف السلبي للإنسان البار الذي لم يرتكب أياً من هذه الأخطاء الثلاثة.
2 – صورة إيجابية: »لكن في ناموس الرب مسرَّته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً« (آية 2). هنا نجد تصويراً لعواطف الإنسان السعيد: »في شريعة الرب مسرَّته«. إنه يحب كلام الله. مسرَّته بالشريعة تغنيه عن التلذُّذ بمشورة الأشرار.
ونجد تصويراً لعقليَّته: إنه يلهج في كلمة الله نهاراً وليلاً، فيتأملها بشغف. وكلمة »يلهج« في اللغة العبرية تعني »الاجترار«. فالجَمَل مثلاً يأكل ويزدرد بسرعة، وبعد ذلك يجترّ ما أكله على مهلٍ، مستمتعاً بما سبق وأكله على عَجَل! والمؤمن يلتهم كلمة الله بسرعة، مسروراً بها، ثم يجلس بعد ذلك ليلهج فيها، فيستعيدها في عقله وقلبه ويتأملها. يفكر فيها أكثر ليحلِّل معانيها، ويعمل على تطبيق ما رآه فيها على حياته اليومية. إنه يبذل جهداً عقلياً في أن يعرف معاني هذه الكلمات المقدسة، مثل مؤمني بيرية الذين وُصِفوا بأنهم »أشرف من الذين في تسالونيكي، فقبلوا الكلمة بكل نشاط، فاحصين الكتب كل يوم« (أع 17: 11).
ومسرَّة البار بكلمة الرب تحميه من الجلوس في مجلس المستهزئين، لأنها تغنيه عن مجلسهم. إنه يفتش فيها ليعرف مشيئة الله الصالحة، فتسكن فيه الكلمة بغنى، فيسلك بالتقوى مبتعداً عن الشر. طوبى للذي لم يجلس مع المستهزئين، لا لأنه يُبعِد نفسه بالقوة عنهم، لكن لأنه يشبَع بكلمة الله، فتعطيه الاكتفاء الداخلي.
والمؤمنون لا يهربون من الخطية خوفاً من عقابٍ يحل بهم، لكن لأن الرب يُشبع قلوبهم. إنهم ليسوا محرومين، لكنهم شبعانون. وكلما شبعوا لهجوا في كلمة الله نهاراً وليلاً، فيجدون سعادة نفوسهم: سلباً، بأن يبتعدوا عن الفكر الشرير، الذي يؤدي إلى وقفة مع الخطأ، وينتهي بجلسة مع المستهزئين. وفي الوقت نفسه يفرحون لأنهـم في ناموس الرب يُسرُّون ويلهجون نهاراً وليلاً. »بِمَ يـزكّـي الشــاب طريقـه؟ بحفظـه إيـاه حسـب كلامـك. خبـأتُ كلامـك.. في قلبـي لكيـلا أخطـئ إليـك« (مز 119: 9، 11).
3 – صورة وصفية: نتيجةً للمواقف السلبية مع الخطية، وللموقف الإيجابي مع كلمة الله، يصير المؤمن:
(أ) شجرة مرتوية: »كشجرة مغروسة عند مجاري المياه« (آية 3أ). لم يغرس نفسه، لكن نعمة الله هي التي غرسته. »مباركٌ الرجل الذي يتكل على الرب وكان الرب مُتَّكله، فإنه يكون كشجرة مغروسة على مياهٍ، وعلى نهرٍ تمدُّ أصولها، ولا ترى إذا جاء الحر، ويكون ورقها أخضر، وفي سنة القحط لا تخاف، ولا تكفّ عن الإثمار« (إر 17: 7، 8). وليس المؤمن مغروساً على نهر واحد، لكن على أنهار كثيرة، كلها مياه حية جارية تتجدَّد كل يوم، فيرتوي دائماً من »نهر سواقيه تفرّح مدينة الله« (مز 46: 4).
* يرتوي من نهر الغفران الذي يغسله، فيقول: »اغسِلني فأبيضّ أكثر من الثلج.. قلباً نقياً اخلُق فيّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي« (مز 51: 7، 10).
* ويرتوي من نهر الروح القدس، كما قال المسيح: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ». قَالَ هَذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ» (يوحنا 7: 37-39).
* ويرتوي من نهر مواعيد الله في كل ظرف مؤلم أو مفرح، فيشجعه الله بكلمته الصادقة ووعوده الأمينة، ويسمعه يهمس له: »ثِق. أنا هو. لا تخف«. مواعيد الله تبدد الخوف وتسدد الأعواز وترشد في الحيرة.
* ويرتوي من نهر الأُنس بالله. يتلذذ بإلهه ويفرح بصلاحه ويرتوي بحبه.
(ب) شجرة مثمرة: «تعطي ثمرها في أوانه» (آية 3ب). إنه كشجرة تثمر دوماً في موسمها، وأوراقها دائمة الاخضرار. ولكن لماذا ذكر المرنم الثمر أولاً والورق ثانياً، بينما تورق الشجرة أولاً وتحمل الثمر ثانياً‎؟.. لعله كان يفكر في شخصية كاملة كشخصية المسيح، الذي قيل عنه: »جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلِّم به« (أع 1:1). يفعله أولاً، ويعلّم به ثانياً. وهذا يعني أن ثمر المسيح جاء قبل ورقه، وفِعله قبل قوله »يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب« (لو 24: 19). الفعل أولاً والقول ثانياً.
المؤمن الثابت المغروس عند المياه الجارية يهتم بالثمر أولاً والورق ثانياً. ولا يمكن أن نأتي بثمر دون أن يكون لنا ورق، فالمؤمن فعلاً جميل في داخله وخارجه. جميل في فعله وقوله. جميل في كل شيء، لأن الله »يجمِّل الودعاء بالخلاص« (مز 149: 4).
(ج) شجرة خضراء الورق: «وورقها لا يذبل» (آية 3ج). المؤمن دائم الخضرة، لا تدمِّره برودة الشتاء، ولا يُسقط جليد الحياة أوراقه. إنه »كالنخلة يزهو. كالأرز في لبنان ينمو. مغروسين في بيت الرب، في ديار إلهنا يزهرون. أيضاً يثمرون في الشَّيبة. يكونون دِساماً وخُضراً« (مز 92: 12-14). شعاره: »جعلتُ الرب أمامي في كل حين. لأنه عن يميني فلا أتزعزع.. إن نزل عليَّ جيشٌ لا يخاف قلبي. إن قامت عليَّ حربٌ ففي ذلك أنا مطمئن.. ثابتٌ قلبي يا الله، ثابتٌ قلبي« (مز 16: 8 و27: 3 و57: 7).
وقد تبدو أعمال المؤمـن الحقيقي بسيطـة كورق الشجـر، لكنهـا تسبِّب بركة. أقل ما تفعله أنها تظلـل على المحيطين به في المكان الحار المُحرق. فما أسعد المؤمن الذي تقصده لتتحدث إليه وأنت متعَب، فتخرج من عنده وأنت مستريح، لأنه يقدر أن يقول: »أعطاني السيد الرب لسان المتعلمين لأعرف أن أُغيث المعيي بكلمة« (إش 50: 4). فلنكن كشجرة زاهية لأنها مزروعة عند أنهار مياه جارية، نعطي ثمرنا دائماً في أوانه. لا يقصدنا أحد يطلب منا ثمراً إلا ويجد، فتشبع نفسه بما أعطانا الله من بركته ومن نعمته. وليكن »ورق الشجرة لشفاء الأمم« (رؤ 22: 2). كونوا شفاءً للمحيطين بكم، وظلاً للحيارى والمتعَبين الباحثين عن ملجأ.
(د) إنسان ناجح: »كل ما يصنعه ينجح« (آية 3د). وهذا يلخِّص حياة المؤمن، فالرب يُنجِح طريق الصدِّيق إذ يحوِّل متاعبه وأشواك حياته إلى ورود تسُرّ الناظرين. حتى ما يفشل فيه، يؤدي إلى شيءٍ جميل. أبسط كلمة ينطق بها تَثبُت إلى الأبد، وأصغر أعمال المحبة التي يؤديها تكون لذِكرٍ أبدي، فيبقى ثمره كما يبقى ورقه أيضاً! لا يفقد جماله ولا ثمره، لأن إلهنا في محبته يحوّل أخطاءه إلى دروس يتعلم منها. فعندما يخطئ يسرع إلى أبيه السماوي معترفاً، فيُطمئنه ويُحسِن إليه، ويُخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة (قض 14:14).
هنـاك بركات مختفية داخل تجارب الأبـرار وأحزانهم. قال أيوب: »إذا جرّبني أخرج كالذهب« (أي 23: 10). وكان هذا اختبار يوسف لما باعه إخوته، ولكن الرب كان معه فكان ناجحاً (تك 39: 2). وقد باركه يعقوب أبوه وقال: »يوسف غصن شجرة مثمرة، غصن شجرة مثمرة على عين. مرَّرتْهُ ورَمَتْهُ واضطهدته أرباب السهام، ولكن ثبتَت بمتانةٍ قوسُه« (تك 49: 22-24).

ثانياً – الإنسان الشرير
(آيتا 4، 5)
يقدم لنا المرنم صورة سوداء للإنسان الشرير، ليوضح لنا مقدار بياض صورة الأبرار، لأننا كلما أردنـا أن نبيّـن بيـاض شيء نحيـطه بالسـواد، فيتَّضح بـياضـه أكثـر. صحيـحٌ إن الرب قد ميَّز تقيَّه (مز 4: 3).
1 – الشرير في حياته الحاضرة: »ليس كذلك الأشرار! إنهم كالعصافة التي تذرّيها الريح«
(آية 4) ما أبعد الفرق بين الشجرة الخضراء الحية والقش اليابس الميت! الشجرة غرسها الكرّام، أما العُصافة فميِّتة بلا جذور ولا ثمر ولا قيمة، تطير ولا تبقى، فتذريها الريح إلى حيث لا تعلم وإلى حيث لا تشاء. والشر يحمل الشرير إلى حيث لا يعلم ولا يشاء. عندما يبدأ في ارتكاب المعصية يظن نفسه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، ولكن سرعـان ما يجـد نفسـه عبـداً للخطيــة، يدفــع ثمـن جرمــه! لا يستطيع الشرير أن يتحكم في حاضره ولا مستقبله، مهما ظن أنه صاحب سلطان.
أيها المؤمنون، دعونا نشكر الرب لأنه هو الذي غرَسَنا. كنّا عُصافة فجعلنا بنعمته أشجاراً خضراء. لكن إن كنتَ كالعُصافة التي تذريها الريح، فالرب يوجّه الدعوة إليك الآن ليغرسك عند المياه الجارية، فتصبح شجرة زاهية.
2 – الشرير في حياته الآتية: »لذلك لا تقـوم الأشـرار فـي الديـن ولا الخطاة في جماعة الأبرار« (آية 5). عاقبة الأشرار أنهم لا يستطيعون أن يقوموا على أقدامهم في يوم الدين لأنهم مرتعبون من الله، تصطك ركبهم وترتعب أرجلهم.
وهم لا يقدرون أن ينهضوا أو يقفوا لأنهم طالما سقطوا في الخطية، حتى صارت حياتهم سقوطاً مستمراً، فما عادوا يعرفون كيف يقفون، فينكّسون رؤوسهم خجلاً. وعندما تُفتَح الأسفار وتُعلَن خطاياهم، يظهرون على حقيقتهم، ويسمعون عقوبتهم المخيفة: »اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية« (مت 25: 41).
ولا يقدر الأشرار أن يقفـوا يـوم الديـن أمـام الفحـص الإلهـي. قال المرنم: »إن كنتَ تراقب الآثام يا رب يا سيد، فمن يقف؟« (مز 130: 3). من يقدر أن يقف في المحكمة الإلهية؟ من يجرؤ على الدفاع عن نفسه؟
ثالثاً – سبب النجاح وسبب الفشل
(آية 6)
1 – سبب النجاح: »لأن الرب يعلم طريق الأبرار«. والقول »الرب يعلم« في اللغة العبرية يعني »يعلم بحب«. »أما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة« أي أنها مرقّمة! (مت 10: 30) والمسيح الراعي الصالح يعرف خرافه الخاصة ويدعوها بأسماء (يو 10: 3). يعرف الرب المؤمنين ويعرف طريقهم أيضاً!
اطمئِن أيها المؤمن فأنت لست وحدك. يمكنك أن تقول: »إذا سرتُ في وادي ظل الموت لا أخاف شراً، لأنك أنت معي« (مز 23: 4). ما أجمل أن تدرك أن المسيح يعلم طريقك، لأنه سار فيه قبلك. تألم مجرَّباً فيقدر أن يعين المجرَّبين. نحن ننتمي إليه. نحن شعبه، غنم مرعاه (مز 100: 3).
2 – سبب الفشل: »أما طريق الأشرار فتهلك«. قال الله: »الحائدون عني في التراب يُكتَبون لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية« (إر 17: 13). أرجوك ألاّ تُطمئِن نفسك بوهمٍ كاذب، لأن طريق الأشرار تهلك.
والآن، بعد أن رأينا وصف الوحي الإلهي للأشرار والأبرار، من يحب أن يستمر شريراً بعيداً عن الرب؟ إن الرب يقدم لنا أعظم دعوة للتوبة، وأعظم نداء للخلاص المجاني.
ليت كل شرير يفيق من أمانه الكاذب، ويدرك أن طريقه مهما بدت سعيدةً ستنتهي حتماً بالجحيم، فيحيد عنه الآن. وليت كل بار يتشجَّع، وهو يقول للرب: »أنت يا رب عرفتَني. رأيتني واختبرتَ قلبي من جهتك« (إر 12: 3). طوبى للإنسان البار لأن له الحياة الخالدة في المسيح .. وويل للإنسان الشرير في هذه الحياة، وفي الحياة الأبدية.
اَلْمَزْمُورُ الثَّانِي
1لِمَاذَا ارْتَجَّتِ الأُمَمُ، وَتَفَكَّرَ الشُّعُوبُ فِي الْبَاطِلِ؟ 2قَامَ مُلُوكُ الأَرْضِ وَتَآمَرَ الرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلَى الرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ، قَائِلِينَ: 3«لِنَقْطَعْ قُيُودَهُمَا، وَلْنَطْرَحْ عَنَّا رُبُطَهُمَا».
4اَلسَّاكِنُ فِي السَّمَاوَاتِ يَضْحَكُ. الرَّبُّ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ. 5حِينَئِذٍ يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِمْ بِغَضَبِهِ، وَيَرْجُفُهُمْ بِغَيْظِهِ. 6أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي.
7إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ. قَالَ لِي: «أَنْتَ ابْنِي. أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. 8اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكاً لَكَ. 9تُحَطِّمُهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ. مِثْلَ إِنَاءِ خَزَّافٍ تُكَسِّرُهُمْ».
10فَالآنَ يَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ الأَرْضِ. 11اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. 12قَبِّلُوا الاِبْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ.
الخزف يتآمر
قدم لنا المزمور الأول الإنسان في سموِّه، فقال: »طوبى للذي لم يسلك في مشورة الأشرار. لكن في شريعة الرب مسرَّته«. ويقدم مزمور 2 الإنسان وقد سقط من سموّه الروحي وارتكب الخطية وثار ضد الله، وهي ثورة فاشلة، ضد العقل السليم. لذلك يبد أ المزمور باستفهام استنكاري: »لماذا ارتجَّت الأمم؟«.
وقد قال رسُل المسيح إن داود هو كاتب هذا المزمور، وذلك في صلاتهم (بعد إطلاق بطرس ويوحنا من السجن الذي أُلقيا فيه بعد شفاء المولود أعرج) إذ قالوا: »أيها السيد، أنت هو الإله الصانع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، القائل بفم داود فتاك: لماذا ارتجَّت الأمم، وتفكَّر الشعوب بالباطل؟ قامت ملوك الأرض واجتمع الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه«. ثم فسَّر التلاميذ كلمات المزمور في نور ما حدث، وقالوا: »لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي مسحتَه، هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل، ليفعلوا كل ما سبقَت فعيَّنت يدُك ومشورتُك أن يكون« (أع 4: 24-28).
إذاً، فهذه الثورة التي حدثت لم تكن في حقيقتها ضد الله، بل كانت تنفيذاً لمشيئته الصالحة والمرضيَّة والكاملة. لقد حقَّقوا مقاصده في الفداء. صحيحٌ أن الثائرين في جهلهم ثاروا، لكن ثورتهم حقَّقت مشيئة الله الملك الحقيقي، دون أن يقصدوا!
واستمرَّ التلاميذ في صلاتهم يقولون: »والآن يا رب انظر إلى تهديداتهم، وامنح عبيدك أن يتكلموا بكلامك بكل مجاهرة بمدّ يدك للشفاء، ولتُجْر آياتٌ وعجائب باسم فتاك القدوس يسوع« (أع 4: 29). لم يقولوا »انتقِم لنا منهم«.ولا »أبِدْهم«. بل: »مُدّ يدك لشفائهم«! فتزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وكانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرة (أع 4: 31). ارتجَّت الأمم بالباطل ضد الرب، وتزعزع المكان بالحق بقوة الرب. ارتجاج الأمم باطل، لأنه ضجَّة لا معنى لها. أما اهتزاز المكان فهو نتيجة بركة الرب للذين امتلأوا من الروح القدس، فغفروا لأعدائهم، وصلّوا لأجل مضطهديهم، وكانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرة.
يقدم لنا مزمور 2 أول نبوَّة وردت في المزامير عن عمل المسيح ومجده، والمقاومة التي يلقاها، وانتصاره النهائي. وهي نبوَّة تتكرر باستمرار على صفحات الكتاب المقدس، وقد تحققت في تاريخ الكنيسة، ولكن تحقيقها الكامل والنهائي سيتم عند مجيء المسيح ثانيةً في مجد سماوي عظيم، ليُرهب الذين يقاومون مشيئته ويجعلهم يدفعون ثمن ثورتهم الفاشلة، فيحطمهم بقضيب من حديد ومثل إناء خزاف يكسرهم. فاليوم نرى المسيح ملكاً مرفوضاً من كثيرين، ولكن وقت إعلان انتصاره آتٍ »لأنه لمَن مِن الملائكة قال قط: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك. وأيضاً أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً« و»كذلك المسيح أيضاً لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له أنت ابني. أنا اليوم ولدتك« (عب 1: 5 و5:5).
هذا المزمور ترتيلة من أربعة أعداد، يتكوَّن كل عدد منها من ثلاث آيات، تقول إن الله سينفّذ قصده في ابنه وفي مسيحه، وسيؤسس مملكته. والخطر كل الخطر على من يقاومه. والبركة كل البركة لمن يملِّك هذا الملك القوي المنتصر على قلبه.
سينفّذ الله مقاصده رغم مقاومة بعض البشر الجاهلين، ولو كره الكارهون، فتهتف كل المسكونة: »أنت مستحقٌّ أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنة وخُلقت« (رؤ 4: 11).
ثورة البشر ضد الله ثورة غير منطقية، وفاشلة.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – ثورة الناس ضد الرب (آيات 1-3)
ثانياً – جواب الله الآب على هذه الثورة (آيات 4-6)
ثالثاً – جواب المسيح على هذه الثورة (آيات 7-9)
رابعاً – نداءٌ للتعقُّل (آيات 10-12)

أولاً – ثورة الناس ضد الرب
(آيات 1-3)
يبدأ أول عدد في ترتيلة مزمور 2 بالتساؤل: »لماذا ارتجّت الأمم؟ لماذا قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه، قائلين: لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما؟«. وهذا وصفٌ للكراهية التي تملأ نفوس كثيرين من البشر للمسيح، فيثورون عليه ويعصونه في حماقة، كما فعل هيرودس وهو يحاول أن يقتل المسيح الوليد خوفاً على عرشه ونفوذه (مت 2: 16)، وكما قال قيافا: »خيرٌ لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها« (يو 11: 50)، وكما حنق شيوخ اليهود على تلاميذ المسيح الذين كانوا يعظون بالمسيح المخلِّص، فتشاوروا أن يقتلوهم (أع 5: 33).
لقد اعتقد هؤلاء الجهَلة أن الشريعة الإلهية قيود ورُبط تضايقهم، بينما هي لخيرهم. هل سمعت عن قطارٍ يثور على القضبان لأنها تحدُّ حريته؟ ألا ترى أن الذين يقاومون إرادة الله هم أطفال في التفكير الروحي، لا يعرفون أن القيود لازمة لهم؟
العالم كله في ثورة ضد الرب وضد المسيح. الأمم والشعوب والملوك والرؤساء يرتجّون كالبحر الهائج، يفكرون ويقاومون ويتآمرون، ليقطعوا ما يظنونه »قيود الرب« وليطرحوا ما يعتقدون أنه »رُبط« تحرمهم من السعادة. يتَّفقون على محاربة رئيس السلام، فيثورون ضد الحكم الإلهي! يريدون أن يكونوا أحراراً في ارتكاب ما يشتهون، وهذا التفكير »باطل« عاطل عن الصواب، وبلا نتيجة، فالله هو الخالق وضابط الكل وصاحب السلطان في السماء والأرض.
ثم أن الرب لا بد أن يملك، لأنه الملك وصاحب السلطان، و»يوم مجيئه.. مثل نار الممحِّص (المنقّي)، ومثل أشنان (مادة حمضية تدخل في تصنيع الصابون) القصَّار (مبيِّض الثياب).. فهوذا يأتي اليوم المتَّقد كالتَّنور، وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً، ويحرقهم اليوم الآتي.. فلا يُبقي لهم أصلاً ولا فرعاً« (ملا 3: 2 و4: 1).
عندما سمع الملك هيرودس أن مولوداً ملكياً وُلد في بيت لحم حاول أن يقتله ليحتفظ بالعرش لنفسه ولأولاده من بعده. فهل العرش عرش هيرودس؟ إنه أمانة أوكلها ملك الملوك إليه! وأمر هيرودس بقتل كل طفل عمره سنتان فما دون. ولكن الرب أمر يوسف أن يأخذ الطفل وأمه إلى مصر. وانتهى مُلك هيرودس وسيظل ملكوت الله إلى أبد الآبدين!
تعلَّم نبوخذنصَّر ملك بابل، أعظم حكام زمانه، درساً في سلطان الذي لا يُقاوم، فقال: »أنا نبوخذنصَّر أسبّح وأعظّم وأحمد ملك السماء، الذي كل أعماله حق وطرقه عدل. ومَن يسلك بالكبرياء فهو قادر على أن يُذلّه« (دا 4: 37).
لماذا تفكّر الشعوب في الباطل؟ إنهم جهَّال! فلننحنِ أمام الله الخالق صاحب السلطان، المحب المعتني الذي يستحق السجود والطاعة والعبادة. وإن كان نير المسيح قاسياً على من لا يحب المسيح، فإنه هيِّنٌ وخفيف على من تمتَّع بخلاص المسيح.

ثانياً –جواب الله الآب على هذه الثورة
(آيات 4-6)
يعلن العدد الثاني من ترتيلة مزمور 2 ردَّ الفعل الإلهي على الثورة الفاشلة:
1 – الرب يضحك: »الساكن في السماوات يضحك« (آية 4). الأمم يرتجّون وهو يضحك سخريةً، لأن الخليقة تقاوم خالقها! هل تقول الجبلة لجابلها: ماذا تفعل؟ إنها ثورة باطلة وعاجزة. هي ضوضاء بلا نتيجة. هم كطفلٍ يصرخ ثائراً على والديه، ويهرب منهما بالاختباء تحت سريره! ولكن يد أبيه تطوله، لأنه لا بد من تنفيذ خطة الأب المحب الذي لا يفكر إلا في فائدة ولده ومصلحته. ونلاحظ الهدوء الذي يشعُّ من جلال الله كلي القدرة، والسخرية من الخاطئ الثائر على الإله الذي به يحيا ويتحرك ويوجد!
إلى أين نهرب من الرب؟ نزل يونان إلى جوف السفينة، وهناك امتدَّت يد المحبة الكبيرة لترسل ريحاً، ولتُعِدّ حوتاً يبتلع يونان ويُرجعه إلى حيث يجب أن يكون. ألا نفعل ذلك كثيراً عندما يكلمنا الله برسالة فنتشاغل عنها؟.. وعندما نتصرف بطريقة خاطئة يقول الرب لنا: أنت تدمر حياتك وتبتعد عني.. إلى أين؟ هل تهرب من المشيئة الإلهية؟ حتى متى ترتكب الحماقات؟!
2 – الرب يوبِّخ: »حينئذ يتكلم عليهم بغضبه ويرجفهم بغيظه« (آية 5). لمسهم لمسة الحب، فلم يستجيبوا، فجاء موعد التوبيخ. عندما يجري أولادنا منا نضحك أولاً، ثم نوبخهم لأنهم لم يستجيبوا لنداء الحب، ولم يفهموا مقاصدنا الأبوية لصالحهم.
لا تزال السماء صامتةً رغم تجاديف الثائرين ضد الله، ولا زال الله يعلن أخبار غفرانه وخلاصه. لكن لا بد أن يجيء الوقت الذي يضع الله فيه أعداءه موطئاً لقدميه، ويرجف أعداءه بغيظه في يوم الانتقام والغضب!
3 – الرب يعلن: »أما أنا فقد مسحتُ ملكي على صهيون جبل قدسي« (آية 6). في آية 2 رأينا التآمر ضد مسيح الرب. ولكن الرب يعلن أنه قد مسح مَلِكه بمسحة الروح القدس، ليتحقق ما يريده الله، وهو مُلك مسيحه. وعليهم أن يقبلوا مشيئته لأنها لخيرهم ولأنه يحبهم.
الله يضحك. الله يوبخ. الله يعلن أن مشيئته هي الصالحة المَرْضيَّة الكاملة التي سبق تعيينها. فلتكن مشيئة رب الجنود.
وهذا الإعلان الإلهي يرينا أن المسيح ملك شعبه، يدافع عنهم ويدبِّر أمورهم ويرسم لهم خطة حياتهم، »لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة، قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها« (أف 2: 10). وهو ملكٌ على أعدائه، يُخضِعهم ليحققوا خططه وهم لا يدرون، كما قال بطرس ويوحنا لليهود: »إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إله آبائنا، مجَّد فتاه يسوع، الذي أسلمتموه أنتم، وأنكرتموه.. ورئيس الحياة قتلتموه، الذي أقامه الله من الأموات« (أع 3: 13-16) . لقد أعلن الله أنه مسح مَلِكه على صهيون »الحصن« جبله المقدس، الذي تُقام فيه العبادة لملك السماء والأرض.

ثالثاً – جواب المسيح على هذه الثورة
(آيات 7-9)
»تآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه» فأعلن الآب أنه مسح ملكه، فلن يقاومه أحد. ويجاوب المسيح على ثورة الأمم ضده بأن:
1 – يعلن أزليته: »إني أخبر من جهة قضاء الرب. قال لي: أنت ابني. أنا اليوم ولدتك« (آية 7). يقول الأب البشري لابنه: »اليوم ولدتُك، فأنت ابني«. أما الآب السماوي فيقول للمسيح: »أنت ابني. أنا اليوم ولدتك«. فهو ابنٌ من قبل مولده، ووجوده سابق لميلاده. إنه ابن الله قبل كل الدهور، وولادته من العذراء أعطته الجسد الإنساني. فالمسيح هو المولود غير المخلوق، المساوي للآب في الجوهر. هو الكلمة الأزلي، الواحد مع الآب، لا بداية أيام له، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل (مي 5: 2). ولكن »اليوم ولدتك« وهكذا دخل المسيح إطار الزمن لأنه »لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس« (غل 4:4). المسيح هو ابن الله من الأزل، وفي ملء الزمان جاء وتم!َم العمل الذي كُلّف به، ثم قال للآب: »العمل الذي أعطيتَني لأعمل قد أكملتُه. والآن مجِّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم« (يو 17: 4، 5).
يقول الابن الملك: »أخبركم من جهة الترتيب الإلهي بقضاء الرب. قال لي: أنت ابني. أنا اليوم ولدتك«. وهنا يعلن المسيح حقوقه كالملك الممسوح من الله. في آية 2 رأينا مؤامرة فاشلة »تآمروا«. وفي آية 7 نرى »قضاء الرب« والتدبير الإلهي المقدس.
2 – يعلن مُلكه: يقول إن الآب قال له: »اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك وأقاصي الأرض ملكاً لك« (آية 8). كان الملوك العظماء يعطون المقرَّبين ما يطلبونه »ولو إلى نصف المملكة« (أس 5: 6 ومت 14: 7). فهذا الابن الأزلي الذي دخل إطار الزمن والمكان، يعطيه الآب السماوي المُلك. »تذكر وترجع إلى الرب كل أقاصي الأرض، وتسجد قدامك كل قبائل الأمم« (مز 22: 27). فلا بد أن »تجثو باسم يسوع كل ركبة ممَّن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب« (في 2: 10، 11).
وإعلان المسيح لمُلْكه يعلّمنا أن إلهنا ديمقراطي يسمح بقيام حزب معارضة، ويقبل أن إبليس رئيس هذا العالم، وأتباعه من الأمم والشعوب، يرتجّون ويفكرون ويقومون ويتآمرون ويقولون: »لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما« ومع ذلك فإنه يرزقهم ويمنحهم الحياة ويعطيهم إمكانية الثورة ضده. إنه يُطيل أناته عليهم لعلهم يتوبون، لأنه يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون. ورغم المعارضة الفاشلة فإنه هو الحاكم الأعلى، وصاحب السلطان الكامل.
3 – يعلن تأكيد انتصاره: يقول المسيح للآب: »تحطمهم بقضيب من حديد. مثل إناء خزّاف تُكسِّرهم« (آية 9). قاموا ضده فيحطمهم تحطيماً لا قيام لهم من بعده، فإناء الخزف المكسور لا يمكن إصلاحه، ولا يصلح لشيء، ولا يمكن إعادة تشكيله مرة أخرى. لقد دعا الله البشر دعوة محبة ليرجعوا إليه ويخضعوا له. وكل من يقبل دعوته ينال البركة، وكل مَن يرفضها يتحمّل العواقب، فكل ما لا يتأسس على الصخر ينهار.

رابعاً – نداءٌ للتعقُّل
(آيات 10-12)
بعد أن تساءل النبي داود عن سبب الثورة الفاشلة ضد الله وشرائعه، وبعد أن شرح ردَّ الفعل الإلهي، وردَّ فعل المسيح على هذه الثورة، يدعو كل الأمم والشعوب للتعقٌّل والتأدُّب في حضرة الله، لأنه ملك الملوك ورئيس القضاة، وصاحب السلطان في السماء وعلى الأرض.
1 – يدعوهم للحكمة: »يا أيها الملوك تعقَّلوا. تأدَّبوا يا قضاة الأرض« (آية 10). إنهم ملوك وقضاة لأن الله منحهم هذه الرُّتَب، والله هو الملك والقاضي الأعلى، وله يؤدّون الحساب! إن مخافة الرب هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم، ومخافة الرب هي رأس المعرفة، أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب (أي 28:28 وأم 1: 7). من الحكمة أن نصغي لنتعلَّم، لأن التعليم السماوي يخلِّصنا إن قبلناه، وهو ينصحنا أن نحكّم عقولنا وأن نخضع له بسرور.
وقد يقول قائل: لستُ ملكاً ولا قاضياً. فنجيب أن كل واحد منا رب بيت أو رب عمل. وكلنا مسؤولون نصدر أحكاماً كل يوم: على أولادنا وعلى إخوتنا وعلى زملائنا. فلنطع المسيح ولنتعقَّل ونتأدَّب في مخافة الرب، ولنطلب منه الرحمة والحكمة.
2 – يدعوهم للعبادة: »اعبدوا الرب بخوف واهتفوا برعدة« (آية 11). والعبادة هي خدمة الله، فإن كلمتي »عَبَد« و»عبْد« من أصل واحد. فالذي يعبد هو الذي يخدم. والعبادة هي خدمة نؤديها لله، لا بالكلام ولا باللسان ولكن بالعمل والحق. إنها دعوة أن نخدم بخوف التقوى الممتزج بالطاعة. ويجب أن يمتزج هتاف الفرح بالخوف المقدس، فالخوف بدون فرح هو عذاب، والفرح بدون خوف هو مجرَّد ادِّعاء!
3 – يحذّرهم من الثورة: »قَبِّلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق، لأنه عن قليل يتَّقد غضبه« (آية 12). وللقُبلة في الكتاب المقدس ثلاثة معانٍ:
(أ) قُبلة التسليم: فتقول التوراة إن النبي صموئيل أخذ قنّينة الدهن وصبّ على رأس شاول الملك وقبّله وقال له: »الرب قد مسحك على ميراثه رئيساً« (1صم 10: 1). وهذا ما يجب أن نفعله مع الابن الحبيب، مسيح الرب. نُقبّله فنقبل سلطانه على حياتنا.
(ب) قُبلة العبادة: قال الله لإيليا: »أبقيتُ في إسرائيل سبعة آلاف، كل الرُّكب التي لم تجثُ للبعل، وكل فم لم يقبِّله« (1مل 19: 18). فالتقبيل هنا يعني العبادة. فلننحنِ للمسيح الابن، ولنقُل له مع توما: »ربي وإلهي« (يو 20: 28).
(ج) قُبلة الحب: وقد أمر الرسول بطرس مسيحيي الكنيسة الأولى: »سلّموا بعضكم على بعض بقبلة المحبة« (1بط 5: 14). فلنقبّل الابن بقبلة المحبة، متمّمين الوصية الأولى والعظمى: »تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك« (مر 12: 30).
فلنقدم للمسيح الابن الملك كل التسليم، وكل العبادة والتكريم، وكل المحبة، لأنه وحده يستحق هذا كله. فإن كنا نغتنم هذه الفرصة نتبارك وإن رفضناها نهلك.
4 – يدعوهم للاتكال عليه: »طوبى لجميع المتكلين عليه« (آية 12). والاتكال هو السلوك بناءً على الثقة التي لنا في المسيح، والعمل بحسب ما يقول، لأننا نثق في توجيهاته ووعوده. فليكن اتكالنا على المسيح حقيقياً، فنُخضع مشيئتنا لمشيئته الإلهية.
وفي ختام تأملنا في هذا المزمور أعود بكم إلى أعمال 4: 31 حيث يقول: »لما صلّوا تزعزع المكان«. فلنُطع الأمر السماوي »قبِّلوا الابن« ليتزعزع المكان من حضوره، ولنتبارك لأنه هنا، حاضرٌ في قلوبنا وفي بيوتنا وفي كنيستنا. قدّموا له السجود واهتفوا برعدة التقوى، ليمتلئ المكان بحضوره وسطنا، ولنمتلئ جميعنا بالروح القدس، ثم ننطلق لنخبر بكلمة الرب بمجاهرة.

َالْمَزْمُورُ الثَّالِثُ
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ حِينَمَا هَرَبَ مِنْ وَجْهِ أَبْشَالُومَ ابْنِهِ
1يَا رَبُّ، مَا أَكْثَرَ مُضَايِقِيَّ. كَثِيرُونَ قَائِمُونَ عَلَيَّ. 2كَثِيرُونَ يَقُولُونَ لِنَفْسِي: «لَيْسَ لَهُ خَلاَصٌ بِإِلَهِهِ». سِلاَهْ.
3أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَتُرْسٌ لِي. مَجْدِي وَرَافِعُ رَأْسِي. 4بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَصْرُخُ، فَيُجِيبُنِي مِنْ جَبَلِ قُدْسِهِ. سِلاَهْ.
5أَنَا اضْطَجَعْتُ وَنِمْتُ. اسْتَيْقَظْتُ لأَنَّ الرَّبَّ يَعْضُدُنِي. 6لاَ أَخَافُ مِنْ رَبَوَاتِ الشُّعُوبِ الْمُصْطَفِّينَ عَلَيَّ مِنْ حَوْلِي. 7قُمْ يَا رَبُّ. خَلِّصْنِي يَا إِلَهِي. لأَنَّكَ ضَرَبْتَ كُلَّ أَعْدَائِي عَلَى الْفَكِّ. هَشَّمْتَ أَسْنَانَ الأَشْرَارِ. 8لِلرَّبِّ الْخَلاَصُ. عَلَى شَعْبِكَ بَرَكَتُكَ. سِلاَهْ.
رافع رأسي
كتب النبي داود مزموري 3، 4 حين هرب من وجه ابنه أبشالوم، بعد أن حاول أبشالوم القيام بانقلاب ضده. وكان الموقف قاسياً جداً على داود، فهو ملك مرفوض من أغلبية شعبه، وأبٌ مرفوض من ابنه! وانحازت أغلبية الشعب إلى صف أبشالوم، وإن كانت جماعة أمينة قليلة العدد بقيت مع داود، فاضطر أن يهرب من قصره حافي القدمين، لأن الفرصة لم تسنح له أن يستعد للخروج من القصر. في هذا الموقف القاسي وجد داود تعزيته في الرب، فرفع صلاته في هذا المزمور، وهو مزمور صباحي، كتبه بعد ليلة صرفها في خوفٍ بالغ، قال بعدها: »أنا اضطجعتُ ونمت. استيقظتُ لأن الرب يعضدني« (آية 5). ورفع صلاته في المزمور الرابع، وهو مزمور مسائي، كتبه بعد يوم خطير انتهى بالخير، فقال فيه: »بسلامةٍ أضطجع بل أيضاً أنام، لأنك أنت يا رب منفرداً في طمأنينة تُسكّنني« (آية 8).
هرب الملك من قصره ليلاً. ولما أشرق عليه الصباح بخير كتب مزمور 3. وفي نهاية اليوم الأول من هروبه كتب مزمور 4. لقد انقضى يوم قاسٍ استودع داود بعده نفسه بين يدي إلهه. فإن جاءت مشاكلنا في بدء يومنا، نستطيع أن نختم يومنا بين يدي إله محب. وإن جاءت في ليلنا فإننا ندرك أنه »عند المساء يبيت البكاء وفي الصباح ترنُّم« (مز 30: 5) لأن إلهنا معنا. وإذا جاءتنا مشاكل الحياة في بدئها ندرك أننا لا بد سنختم حياتنا بين يدي إله محب. وإذا داهمتنا المتاعب عند نهايتها ندرك أن شمسنا لا بد تغرب بين يدي إله محب.
يملأ المزموران 3، 4 قلوبنا باطمئنان عظيم، لأن إلهنا هو الألف والبداية كما أنه الياء والنهاية. ألِفنا منه وياؤنا إليه. له نرفع ترنيمة الصباح، وإليه نرتل حمد المساء.
رأينا في مزمور 2 ثورة من الخارج على مسيح الرب، ونرى في مزمور 3 داود يواجه ثورة من داخل بيته ومملكته، من ناسٍ لم يكن يتوقع منهم ذلك. ولئن كان الضيق الذي يواجهنا من الذين هم من خارج صعباً، فالذي يواجهنا من القريبين منا أكثر صعوبة. لكن داود (في مزموريه 3، 4) يرينا عناية الله واطمئنان أولاده، سواء جاء الضيق من بعيد أو من قريب. لقد قال في ختام مزمور 2 »طوبى لجميع المتكلين عليه«. وختم مزمور 3 بقوله: »للرب الخلاص«. ويختم مزمور 4 بقوله: »في طمأنينة تسكّنني«.
وردت قصة محاولة انقلاب أبشالوم الفاشلة ضد أبيه داود في 2صموئيل 15-18. رتل داود بعدها هذا المزمور.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – شكوى المرنم (آيتا 1، 2)
ثانياً – ثقة المرنم (آيتا 3، 4)
ثالثاً – طمأنينة المرنم (آيتا 5، 6)
رابعاً – صلاة المرنم (آيتا 7، 8)
أولاً – شكوى المرنم
(آيتا 1، 2)
لداود كل الحق أن يشكو، فإن ابنه انقلب عليه وثار ضده، وعندما مشى حافي القدمين منحني الرأس لم يستطع أن يجد تبريراً لذلك. ربما قال القليلون من أصحابه إنه لم يحسن تربية ولده. أما أعداؤه فلا بد قالوا إن خطايا داود وسوء قدوته ألَّبت ابنه عليه، ولا بد أن إلهه تركه حتى ثار ابنه ضده، ولا بد أن عبادته وتراتيله رياءٌ ونفاق!
وكم من مرة وجدنا أنفسنا في موقف لا نستطيع فيه أن نشكو للناس، لأننا نرى في عيونهم الانتقاد الموجَّه إلينا. لذلك توجَّه داود إلى الله يقول: «سأحكي لك همي لأني أعرف النتيجة المضمونة لهذه الشكوى. يا رب، ما أكثر مضايقيَّ. كثيرون قائمون عليَّ. كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه». ويقول المؤرخ المقدس: «انطلق مع أبشالوم مئتا رجل من أورشليم قد دُعوا وذهبوا ببساطة، ولم يكونوا يعلمون شيئاً» (2صم 15: 11). ألم يكن داود ملكاً عظيماً قدم خدمات لهؤلاء الكبار في مملكته؟ وها هم الآن ينقلبون عليه، بعضهم بمعرفة وبعضهم بجهل. غير أن الخطورة الأكبر كانت من الذين وقفوا ضد داود يقولون له: «ليس لك خلاص بإلهك». وقد حطمت هذه الكلمات نفسية داود فأدخلت الشكوى إلى أعماقه. لو أنهم قالوا هذا «لعقلي» لطردتُ الفكرة، لكن الشكوى بدأت تدخل إلى أعماقي. إنك لم تعُد تقف إلى جواري. هل حقاً يا رب طردتني من محضرك؟
لكن شكراً لله، فقد عرف داود أن يتجه بشكواه إلى من ينصفه، وكان هذا سبب إنقاذه. حتى لو قالوا له إن الله تركه فإنه يلجأ إليه، إذ ليس له سواه. »مَن لي في السماء؟ ومعك لا أريد شيئاً في الأرض« (مز 73: 25).
ويحكي داود شكواه إلى الله، ويسجّلها مزموراً يرتله الأتقياء من بعده، ليخبر بفضل الله الذي لا يخيب من يشكو إليه.

ثانياً – ثقة المرنم
(آيتا 3، 4)
يبدأ المرنم القسم الثاني من هذا المزمور بالاتجاه إلى الله، فيقول: »أما أنت يا رب فترسٌ لي«. والترس قطعة خشب مغطاة بالجلد، يتلقّى الجندي بها السهام الموجهة ضده، فينغرس فيها سنُّ السهم.
وكأن داود يقول: يا رب أُحوّل نظري من المشكلة إليك. الموقف عصيب، ويبدو للناظر أنه لا أمل، فأنا هارب طريد. ولكني أرى ما لا يُرى: أراك أنت، فألتفت لا للأمم ولا لأُمَّتي، لكن إليك أنت وحدك.
ويرى المرنم في إلهه: الترس، والمجد، ورفع الرأس، وسامع الصلاة:
1 – الرب ترس المرنم: »أما أنت يا رب فترسٌ لي« (آية 3أ). الرب ترس الحماية الكاملة. تذكر وقوفه أمام جليات الجبار! مجرد ولد صغير أمام الجبار المتسلح الذي لم يكن يستطيع رغم جبروته أن يحمل كل ما معه من سلاح، فكان يتبعه رجل آخر يحمل له سلاحه. ولم يكن سلاح داود سوى عصا ومقلاع وخمسة أحجار! ولكن الترس لم يستطع أن يحمي الجبار، فسقط أمام داود. ولم يكن داود يملك ترساً خشبياً، لكنه كان يملك الترس الحقيقي »أما أنت يا رب فترس لي«. أنت حمايتي، أنت قلعتي. إليك أتوجه وأحتمي بك.
وردت كلمة »ترس« لأول مرة في الكتاب المقدس في قول الله لإبراهيم خليله: »لا تخف يا أبرام. أنا ترس لك. أجرك كثير جداً« (تك 15: 1). وتذكّر داود موقف الله مع إبراهيم الذي كان قد قاد معركة حربية (كانت الأولى والأخيرة في حياته) لينقذ ابن أخيه لوطاً من الذين أسروه، ونصر الله خليله! وتوقَّع إبراهيم أن الملك كدرلعومر المهزوم والملوك المحيطين به لا بد أن يعودوا ليحاربوه بعد أن أصبحت قوته الحربية تهديداً لهم. ولعل إبراهيم خاف. لقد أنقذ ابن أخيه، ولكن لوطاً لم يشكره (مع أن ملك سدوم وعمورة شكره). ولا طلب لوط أن يعود للعيش مع عمه إبراهيم. كان إبراهيم في موقف ضعف وخوف، فأمَّنه الله من خوفه وقال له: »لا تخف. أنا ترس لك«.ورأى داود أن الله سيتصرف معه بنفس الطريقة، فقال له: »أنت ترسٌ لي«.
2 – الرب مجد المرنم: »أنت مجدي« (آية 3ب). مجده حتى في وحدته. كان قبل محاولة الانقلاب ملكَ البلاد. كان مجده في مملكته وعرشه وجيشه وعائلته. أما الآن فهو مطارَد هارب حافي القدمين يبكي. كل مجده السياسي والأرضي انتهى، والذين أحاطوا به من أصدقائه كانوا يشفقون عليه أكثر مما يحترمونه.
ولكن إن كان مجد داود المنظور قد ضاع، فإن الرب مجدٌ له لا يمكن أن يضيع منه أبداً.
ربما نستمد مجدنا من أسرة مشهورة ننتمي إليها، أو من درجة علمية نعتزّ بها، أو من ذكاء نحسب أنه يمكن أن ينقذنا من كل مأزق، أو من صحة نظن أنها تنفعنا. لكن في لحظة قد يضيع هذا كله، ويبقى الرب وحده لنا إن كان هو مجدنا، وإن كنا قد أقمنا علاقة محبة شخصية بيننا وبينه. إن صاحب المجد الحقيقي هو الذي يقدر أن يقف موقف داود، وقد ضاع منه كل شيء، يقول: »أما أنت يا رب فترسٌ لي«.
3 – الرب رافع رأس المرنم: »رافع رأسي« (آية 3ج). يصف المؤرخ المقدس هروب داود بقوله: »أما داود فصعد في مصعد جبل الزيتون. كان يصعد باكياً ورأسه مغطى ويمشي حافياً، وجميع الشعب الذين معه غطوا كل واحد رأسه، وكانوا يصعدون وهم يبكون« (2صم 15: 30). لقد غطوا رؤوسهم حزناً وخزياً، ولن يرفع رؤوسهم إلا الرب. لئِن أحني العالم رؤوسنا فإن الرب وحده هو الذي يرفعها، إن كنا نتبعه وإن كنا من محبّيه.
4 – الرب سامع صلاة المرنم: »بصوتي إلى الرب أصرخ فيجيبني من جبل قدسه« (آية 4). كان تابوت العهد موجوداً في جبل الرب المقدس، وهو يرمز إلى حلول الرب وسط شعبه. في التابوت حفظوا لوحي الوصايا العشر، وقسطاً من المن، وعصا هارون اليابسة التي أفرخت. وهذه كلها تشير إلى أمانة الرب وهدايته وإرشاده لشعبه.
لقد تعوَّد داود أن يدعو الله ويصلي في وقت الرحب كما في وقت الضيق، وتعوَّد على تلقّي الرد في كل وقت. وها هو يصلي الآن واثقاً أن الله الذي وقف معه دائماً سيقف معه في هذا اليوم العصب.
ثالثاً – طمأنينة المرنم
(آيتا 5، 6)
في الآيتين 5، 6 من المزمور نرى السلام الذي ملأ قلب داود. لقد أعلن ثقته في الله ترسه ومجده ورافع رأسه وسامع صلاته، فاطمأن قلبه.
1 – راحة المطمئن: »أنا اضطجعت ونمت« (آية 5أ). كان يمكن أن يهاجم أحد رجال أبشالوم داود ويقتله وهو نائم. وكان يمكن أن يكون أحد المحيطين به جاسوساً لأبشالوم يقتل داود أثناء نومه. كل هذا محتمَل. ومع هذا فقد نام نوماً هادئاً، لأن الله »يعطي حبيبه نوماً« (مز 127: 2) لا نوم المخدوعين، بل نوم الواثقين في عناية الرب، المطمئنين لعنايته. ولما استيقظ قال: »استيقظتُ لأن الرب يعضدني« (آية 5ب) فيقظته تؤكد أن الله حفظه.
نام بطرس في السجن نوماً عميقاً، رغم أن الملك هيرودس كان سيقتله في اليوم التالي! نام بين عسكريين مربوطاً بسلسلتين. وكان أمام الباب حراس. وجاء ملاك الرب فأضاء نورٌ سماوي غرفة السجن. ولم يستيقظ بطرس! فضرب الملاك جنبه وأيقظه قائلاً: »قُم عاجلاً«. فسقطت السلسلتان من يديه ( أع 12: 6-8). نام بطرس لأنه كان يدرك أن الموت لن يؤذيه بل سيوصِّله إلى مقرِّه الأبدي ليستريح عند أبيه السماوي. الموت لا يُخيف المؤمن لأنه انتقال. يبدأ المؤمن حياته الأبدية هنا والآن، ثم ينتقل ليكون في حياة أبدية مع الرب لا تنتهي أبداً. إنه ينام مطمئناً. لقد أسند رأسه على كتف إلهه فنام مطمئناً تحت جناحي ربه، فاستيقظ في أمان. وسواء كانت يقظته في محضر الرب في المجد، أو بين أحبائه على الأرض، فإنه يقول للرب في الحالتين: »أنا اضطجعت ونمت. استيقظت لأن الرب يعضدني«.
2 – سلام المطمئن: »لا أخاف من ربوات الشعوب المصطفّين عليَّ من حولي« (آية 6). كان سلامه بالرغم من الظروف وليس بسببها. لم يقلِّل داود من حجم مشكلته. كان أعداؤه كثيرين ومتحمسين وحكماء، لكنه رأى نقاط القوة في جانبه. كان عشرات الآلاف مصطفّين حوله، ولكنه مع الله أغلبية. لم يحسب نفسه عظيماً فإنه ليس كذلك، لكنه قدَّر قوة الإله الذي يعبده، وقارن حجم المشكلة التي تواجهه بحجم السلطان الإلهي، فامتلأت نفسه بالطمأنينة.

رابعاً – صلاة المرنم
(آيتا 7، 8)
بعد أن بثَّ داود شكواه، وأعلن ثقته في الرب رافع رأسه، وامتلأت نفسه بالسلام، فعاد يصلي. في مطلع المزمور قال: »يا رب، ما أكثر مضايقيَّ« وهو لحن حزين منكسر. ولكن صلاة نهاية المزمور لحن فرحٍ ظافر، تقول: »للرب الخلاص. على شعبك بركتك«. وبهذه النهاية المنتصرة يتم ختام كل موقف قاسٍ يمرُّ فيه أحباء الله. يبدأون بالدموع وينتهون بالابتهاج.
ونجد في صلاة داود طلبتين:
1 – طلبة لنفسه: »قُم يا رب. خلِّصني يا إلهي« (آية 7أ). في ضيقه دعا الرب ليقوم ويعمل، لأنه حي ويهتم، فناداه ليُعينه. إلى مَن يذهب إلا إليه! إنه رب الجنود، الذي يقود جيوش الملائكة لينقذ داود الضعيف في موقفه المخيف. ماضي الله مع داود يشهد للخلاص العظيم الذي ناله من إلهه، فقال له: »لأنك ضربت كل أعدائي على الفك. هَشَّمت أسنان الأشرار« (آية 7ب). راجع داود اختباراته الماضية، وتذكر كيف أن أسداً هاجم قطيعه، وأخذ شاة، فقتله وأنقذها من فمه. وتذكر هجوم جليات عليه، فقتله وسقط الجبار أمامه (1صم 17: 35، 48-50). وتذكر مطاردة الملك شاول وجيشه له وكل محاولات قتله، ولكنها جميعها باءت بالفشل. مملكة قامت ضد رجل واحد، فقال داود لشاول: »وراء مَن خرج ملك إسرائيل؟ وراء مَن أنت مطارِد؟ وراء كلب ميت! وراء برغوثٍ واحد!«. (1صم 24: 14 و26: 20). ولكن كل المملكة لم تستطع أن تؤذي داود الذي أطلق على نفسه وصف »برغوث واحد« يقفز من مكان لمكان هارباً أمام مطارده. لم يصلِّ داود طالباً الانتقام من عدوّه، لكنه وصف ما فعله الله بالأشرار الذين يقاومون مشيئته الصالحة. لا بد أن يضربهم الرب على عظمة الفك الناطق بالتجاديف، الذي سنَّ أسنانه ليلتهم شعب الرب. يحطم الرب رأس التنين!
2 – طلبة لشعبه: »للرب الخلاص. على شعبك بركتك« (آية 8). إنه واثق أن الرب صاحب الخلاص. صحيحٌ أن داود أرسل أحد مستشاريه المخلصين إلى أبشالوم ليُبطل مشورة أخيتوفل مستشار أبشالوم المشهور بحكمته. وصحيحٌ أنه أرسل كاهنين عظيمين لينقلا إليه أخبار معسكر أبشالوم. لكن هذا وحده لا ينفع داود بشيء، فالخلاص لا يجيء من ذكائه ولا من تدبيره ولا من استحقاقه، مع أنه يجب أن يفكر ويدبر. إنما الخلاص يجيء من الله وحده.
»للرب الخلاص« فهو من أوله إلى آخره بالنعمة. هو عمل الله المرتفع فوق الجميع، صاحب اليد العليا الممتدَّة إلى أسفل لتنتشل الضائعين. نعمته تختار خاصته، وروحه يحييهم، وقوته تحفظهم. »فإذاً ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى، بل لله الذي يرحم« (رو 9: 16).
»على شعبك بركتك«. هنا يطلب داود البركة للشعب السائر معه، والثائر عليه. وهذا يذكرنا بموقف ابن داود الذي طلب البركة والغفران لصالبيه وقال: »يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون« (لو 23: 34).
قام كثيرون ضد داود، ولكنه يقول: يا رب، من فضلك بارك شعبك. هل عملت خيراً لإنسان فردَّه لك شراً؟ لا تندم على الخير الذي فعلتَه ولا تيأس. بارِك الذين يسيئونك، ويسبّبون لك الضيق، لأن للرب الخلاص. »باركوا على الذين يضطهدونكم. باركوا ولا تلعنوا« (رو 12: 14).
تعالوا نرفع للرب ترنيمة كل صباح من كلمات المزمور الثالث. ولنختم يومنا بكلمات المزمور الرابع. ولنتصرَّف في كل مشكلة تواجهنا كما تصرف داود، فنشكو لله لأننا نثق فيه، ثم نعيش في سلام، على صلة عميقة بإله المحبة الذي يُخرجنا من كل مأزق منتصرين.

اَلْمَزْمُورُ الرَّابِعُ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ الأَوْتَارِ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1عِنْدَ دُعَائِيَ اسْتَجِبْ لِي يَا إِلَهَ بِرِّي. فِي الضِّيقِ رَحَّبْتَ لِي. تَرَاءَفْ عَلَيَّ وَاسْمَعْ صَلاَتِي.
2يَا بَنِي الْبَشَرِ حَتَّى مَتَى يَكُونُ مَجْدِي عَاراً! حَتَّى مَتَى تُحِبُّونَ الْبَاطِلَ وَتَبْتَغُونَ الْكَذِبَ! سِلاَهْ. 3فَاعْلَمُوا أَنَّ الرَّبَّ قَدْ مَيَّزَ تَقِيَّهُ. الرَّبُّ يَسْمَعُ عِنْدَ مَا أَدْعُوهُ. 4اِرْتَعِدُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. تَكَلَّمُوا فِي قُلُوبِكُمْ عَلَى مَضَاجِعِكُمْ وَاسْكُتُوا. سِلاَهْ. 5اِذْبَحُوا ذَبَائِحَ الْبِرِّ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى الرَّبِّ.
6كَثِيرُونَ يَقُولُونَ: «مَنْ يُرِينَا خَيْراً؟» ارْفَعْ عَلَيْنَا نُورَ وَجْهِكَ يَا رَبُّ. 7جَعَلْتَ سُرُوراً فِي قَلْبِي أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِهِمْ إِذْ كَثُرَتْ حِنْطَتُهُمْ وَخَمْرُهُمْ. 8بِسَلاَمَةٍ أَضْطَجِعُ بَلْ أَيْضاً أَنَامُ، لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ مُنْفَرِداً فِي طُمَأْنِينَةٍ تُسَكِّنُنِي.
من يُرينا خيراً؟
رنَّم داود المزمورين 3، 4 صباح ومساء يوم حاول أبشالوم القيام بانقلاب فاشل ضده (راجع مقدمة مز 3). مزمور 3 مزمور صباحي، قال فيه: »أنا اضطجعت ونمت. استيقظت لأن الرب يعضدني«. ثم في نهاية اليوم كتب مزمور 4 كمزمور مسائي، ختمه بقوله: »بسلامةٍ اضطجع بل أيضاً أنام، لأنك أنت يا رب منفرداً في طمأنينة تسكنني«.
ويشرح مزمور 4 عمق العلاقة الشخصية بين المؤمن والرب، وهذا هو الإيمان الحقيقي. لقد تعوَّد داود أن يتذكر مراحم الرب السابقة، وعلى أساسها يطلب معونة جديدة. وهو هنا يشارك صموئيل في نصب »أحجار المعونة« والقول: »إلى هنا أعاننا الرب« (1صم 7: 12) واثقاً في الرب أنه أبوه وصديقه وحبيبه، يشعر معه ويتجاوب معه ويُميل أذنه إليه عندما يدعوه، فيقدر أن يواجه الناس بشجاعة، لأنه يحيا حياة الأُنس الدائم بالله.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يخاطب الله (آية 1)
ثانياً – المرنم يخاطب أعداءه (آيات 2-5)
ثالثاً – المرنم يتساءل: أين نجد الخير؟ (آيات 6-8)

أولاً – المرنم يخاطب الله
(آية 1)
»عند دعائي استجب لي يا إله بري. في الضيق رحَّبت لي. تراءف عليّ واسمع صلاتي« (آية 1). كان موقف داود صعباً للغاية. ابنه انقلب عليه وحاول أن يأخذ المُلك منه! ولم يكن للموقف علاج سوى الصلاة وطلب الإنصاف. عندما تواجهنا مشكلة لنبدأ حلّها بأن نخاطب الله عنها. قبل أن تذهب إلى الطبيب أو تقصد المحامي أو تستشير الصديق، اقصد باب الرب، فهذه هي البداية الصحيحة. الصلاة هـي الملجـأ الآمِـن لشعـب الله فـي كل وقت لأن »الرب قريب لكل الذين يدعونه.. بالحق« (مز 145: 18) يقول: »قبلما يدعون أنا أُجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع« (إش 65: 24) فنقول: »في ضيقي دعوتُ الرب وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي وصراخي قدامه دخل أذنيه« (مز 18: 6).
ويطلق داود على الرب ثلاث صفات:
1 – إله البر: »استجب لي يا إله برّي«. والبر هو العدالة، والاستقامة، والموقف السليم مع الله. والله هو إله البر لأنه يعطي الذين يلوذون بحمايته وكفارته وغفرانه براً. الرب برّ المؤمن لأنه يبرره فتظهر براءته، ويضعه في موقف سليم لا يخزى فيه من الله، ولا من نفسه، ولا من الآخرين.
الله يمنح البر، ويضمن استمرار المؤمن فيه، لأنه بعمل الروح القدس يقدّس المبرَّر، ويطهِّره من خطاياه.
والله هو نموذج البر والعدالة والاستقامة والموقف السليم. هو القدوة والمثال، حتى أننا نريد أن نفعل ما يفعل. لقد ترك المسيح لنا مثالاً لكي نتّبع خطواته (1بط 2: 21).
والله قاضٍ بالبر، لأنه الإله البار العادل. لا يظلم أحداً ولا يشاء أن يهلك أحد. وقد دبّر تبريراً كريماً يكفّر عنا ذنوبنا. قال شخصٌ يظن نفسه صالحاً: »إني ألفُّ نفسي في رداء فضائلي« فجاوبه شخص حكيم يعرف كلمة الله: »رداء فضائلنا ثوب مهلهل لأن فضائلنا مختلطة بالشر. لذلك ألفُّ نفسي برداء بر المسيح. ألجأ إليه خاطئاً، عرياناً، تائباً، أطلب رحمته وستره وغفرانه«.. »فإذ قد تبرَّرنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح« (رو 5: 1). »وليس لي بري الذي من الناموس، بل (البر) الذي بإيمان المسيح، البر الذي من الله بالإيمان« (في 3: 9). فعندما نضع ثقتنا في الرب يسترنا برداء برِّه.
هل تعتقد أنك تستطيع أن تستر نفسك أمام الله بما تعمل من صلاح، وبما تؤدي من فضائل؟ إذاً يجب أن تدرك أن أعمال برك كلها بلا فائدة. هذه نقطة البداية. لم يكن ممكناً لداود أن يتعامل مع الله لولا أن رآه إله البر الذي يبرره ويستره.
2 – إله الرحب: »في الضيق رَحَّبت لي«. ضيَّق الأعداء عليه ففتح الله أمامه سُبل السلام والخير. كم كان داود رائعاً قوي الذاكرة! الكارثة التي ألمَّت به من داخل بيته على غير انتظار منه لم تطمس ذاكرته فينسى فضل الله عليه. ليعطنا الله الذاكرة التي لا تنسى حسناته، والمنطق السليم الذي يجعلنا ندرك أنه ولو سمح أن نُجرَّب فهو يقف معنا في وسطها لأن وعده صادق: »أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر« (مـت 28: 20). »لا أهملك ولا أتركك« (عب 13: 5). »عيني عليك« (مز 32: 8). إن أعظم البركات تأتينا ونحن نعبر وادي الدموع، فعندما يضغط علينا العدو، نتطلع إلى الرب فيرحب لنا.
3 – إله الرأفة: »تراءف عليَّ واسمع صلاتي«. لم يلجأ إلى عدالة قضيته، بل إلى رحمة الله. هل أنت في ضيق، وهل يفتري عليك الناس؟ هل أنت في مأزق من أسرتك، أو المجتمع المحيط بك؟ الجأ أولاً إلى إله البر، وإله الرحب، وإله الرأفة، فإنه في الضيق يرحِّب لك، ويرحمك.
بعد أن كلم داود ربَّه في الآية الأولى، استطاع أن يكلم أعداءه في الآيات التالية، فإن الذي يخاطب ربه لا يرتعب أمام أعدائه، والشفاه التي طهَّرتها الصلاة تكلم الأعداء بمجاهرة وبغير خجل. سنكلّم أعداءنا بشجاعة لو أننا كلَّمنا الله أولاً.
ثانياً – المرنم يخاطب أعداءه
(آيات 2-5)
بعد أن صلى داود إلى إلهه، وجَّه نصيحتين إلى أعدائه، بمن فيهم أبشالوم ابنه:
1 – مقاومتكم عديمة الفائدة: »يا بني البشر حتى متى يكون مجدي عاراً؟ حتى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب؟« (آية 2). ونداؤه لهم »يا بني البشر« معناه أنهم إخوته من آدم، وجميعهم مخلوقون من التراب. إنهم بشر محدودون ضعفاء، ولو أنهم أيضاً مخلوقون على صورة الله في البر وقداسة الحق. فهم عشيرته وهو واحد منهم، ولو أن الله أفرزه لنفسه ودعاه لخدمته. وقبِل هو دعوة الله فخصَّص نفسه لله، وهذا مجدٌ له. كما أنه يعلم أنه سيدخل مجده الأبدي بعد أن يكمل خدمته بمشورة الله (أع 13: 36).
كان داود يتساءل: حتى متى يهتزَّ مركزي أمامكم؟ حتى متى ترفضونني هذا الرفض المهين؟ حتى متى تضعون المجد الذي منحه الله لي في التراب؟
قال: »أما أنت يا رب فترسٌ لي. مجدي، ورافع رأسي« (مز 3: 3) وهنا يقول: »حتى متى يكون مجدي عاراً؟« أي: حتى متى يكون »الله« مجدي محل تعييري؟
قال: »كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه« (مز 3: 2) وكأنه يقول: أنا واثق أن إلهي ينقذني ويقف إلى جواري. وهنا يقول: »يا بني البشر، حتى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب؟« لقد افتروا عليه، ولكنهم سيدركون سريعاً أنه لا فائدة من مقاومتهم له.. ويقدم المرنم سببين لعدم فائدة مقاومتهم له:
(أ) الرب يميّز تقيَّه: »فاعلموا أن الرب قد ميَّز تقيَّه« (آية 3أ). لا شك أن أعداءه لو سمعوا كلماته هذه لسخروا منه، وقالوا: هل تعتبر نفسك تقيَّه؟ كيف ميّزك وأنت تهرب من أمام ابنك؟ لقد ضاعت المملكة منك. أنت تقول ما لا يسنده الواقع الحاضر المنظور! لكن داود الممتلئ بالإيمان والرجاء رأى ما لم يرَه أعداؤه. لقد اختاره الله وجعله تقيَّه ومن خاصته، وميَّزته النعمة عندما أخذته من وراء الغنم ونصّبته ملكاً على شعب الله، وهذه حقيقة ثابتة لأنها مؤسسة على صخر التمييز والاختيار الإلهيين!
(ب) الرب يسمع تقيَّه: »الرب يسمع عندما أدعوه« (آية 3ب). ما أعظم مكانة المؤمن في نظر الله. »الرب قد اختار يعقوب لذاته، وإسرائيل لخاصّته«. (مز 135: 4). ويقول الرب: »أنا صانع خاصَّةً« (ملا 3: 17). ويقول المسيح عن كنيسته إنها »جنّةٌ مغلقة« مخصَّصة له وحده (نش 4: 12) ما أعظم مكانة داود، ومكانة كل من يحب الله في عيني الله!
2 – دعوة الأعداء للتوبة: (آيتا 4، 5). نسي تعبه وفكر في خير أعدائه فدعاهم للتوبة قائلاً:
(أ) خافوا الله: »ارتعدوا ولا تخطئوا« (آية 4أ). وكأنه يقول: أرجوكم أن تخافوا مما تفعلون. تهيّبوا. لا تتسرّعوا. دعاهم ليقفوا في خوف من نتائج ما يفعلون، ليتمكنوا من إصلاح الخطأ قبل فوات الفرصة. إنه ينصحهم: خطِّطوا قبل أن تنفّذوا. أثناء تخطيطكم لا تنسوا أن الرب قد ميّز تقيه، ويسمع عندما أدعوه. صحيحٌ إن رأس الحكمة هي مخافة الرب، ولا بد أن كل إنسان سيقدم لله حساباً عما فعل. فلنقف أمامه موقف المرتعد التائب.
(ب) فكروا في موقفكم: »تكلموا في قلوبكم على مضاجعكم واسكتوا« (آية 4ب). دعا كل واحد ليجري حواراً داخلياً بينه وبين نفسه ليسألها: هل ما أفعله صواب؟ أحياناً نجد أنفسنا منساقين مع الجمهور، نفعل ما يفعلون بدون تفكير شخصي متأنٍّ. وداود يريد من أعدائه أن يفكروا في هدوء. بعيداً عن الضجيج ليعيدوا التفكير ويقيّموا مواقفهم ويتوبوا. إن ساعات الليل الهادئة هي أفضل وقت لفحص النفس، عندما يخلو الإنسان لنفسه وضميره وربِّه.
(ج) تعبَّدوا لله: »اذبحوا ذبائح البر« (آية 5أ). بدل أن تذبحوني أنا اذبحوا للرب ذبيحة تجعلكم أبراراً أمامه. قدّموا له ذبيحة مقبولة عنده. أَصلِحوا أموركم مع الله، فتتحقق لكم بركة موسى لسبطي زبولون ويساكر: »إلى الجبل يدعوان القبائل. هناك يذبحان ذبائح البر« (تث 33: 19).
(د) »توكلوا على الرب« (آية 5ب). والتوكل هو السلوك المتناسب مع المعرفة، والتصرف المبني على الثقة بالله. فعندما يقدمون لله ذبائح البر يصبحون أبراراً في عينيه، لأن الذبيحة توجِد سلاماً بينهم وبين الله، وينتج عن ذلك سلام يغمر النفس. وقتها يتوكلون على الله بثقة في غفرانه.
وندرك اليوم أن الذبائح التي طالبت بها شريعة موسى كانت ترمز للمسيح »حمل الله الذي يرفع خطية العالم« (يو 1: 29، 36). فبدون ذبيحة كفارية لا نجاة من أجرة الخطية التي هي موت، وبدون سفك دم لا تحصل مغفـرة (عب 9: 22). لقد جـاء المسيـح مخلّصنـا وقـدم نفسـه فداءً عنـا، فأوجد لنـا السلام مع الله، الذي يمنحنا السلام مع نفوسنا ومع المحيطين بنا.
ثالثاً – المرنم يتساءل: أين نجد الخير؟
(آيات 6-8)
في الجزء الأخير من مزمورنا يجاوب داود على سؤال يسأله كثيرون: »من يرينا خيراً؟«. ولا بد أن أعداءه سيسألونه لو أنهم قبلوا نداءه لهم بالتوبة.
ويقدم إجابتين لهذا السؤال الأساسي والمهم:
1 – ظنَّ أبشالوم أنه يجد الخير عندما يخطف المملكة من أبيه داود، وظن الذين انضموا إليه في انقلابه الفاشل أنهم سيحصلون على مراكز جديدة في الدولة، فيصبحون أصحاب مكانة أفضل. فأين نجد الخير؟ فنجد في غير المؤمن ثلاثة أمور:
(أ) يسأل »من يُرينا؟« لأنه يجهل أو يتجاهل أن الله هو مصدر الخير كله. وما أغناه عن السؤال، فالإجابة معروفة: إن الله هو المصدر الوحيد لكل خير. »بركة الرب هي تُغني، ولا يزيد (الرب) معها تعباً« (أم 10: 22).
(ب) يريد أن »يرى« بعيني جسده، فلا يتمتَّع ببركة: »طوبى للذين آمنوا ولم يروا« (يو 20: 29).
(ج) يظن أن خيره في ما يمتلكه من ماديات »حنطة« وهي نتاج الحقل »وخمر« وهو نتاج الكروم.
2 – أما المؤمن فيعرف أن:
(أ) الرب نفسه هو الخير: كما أنه هو مصدر الخير، فلا يفتش على الخير ويسأل أين يجده، بل يقول: »ارفع علينا نور وجهك يا رب« بمعنى: ارضَ علينا يا رب وابتسم لنا. ورفع نور وجه الله علينا يعني التفاته إلينا وعنايته بنا. فنحن لا نحتاج إلا إلى رضى الرب علينا. قال المسيح: »اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذه كلها تُزاد لكم« (مت 6: 33). وكل من يرفع الرب نور وجهه عليه، يرفع هو عينيه إلى أعلى، لأن نبع حياته من فوق، ومعه لا يحتاج إلى شيء.
(ب) خير الرب أعظم خير: »جعلتَ سروراً في قلبي أعظم من سرورهم إذ كثُرت حنطتهم وخمرهم« (آية 7) لأن أصحاب العلاقة السليمة مع الله يعلمون أنه وحده يشبعهم بشخصه كما يشبعهم بعطاياه، ويعطيهم كل ما يحتاجون إليه، ولا يحرمهم من شيء. إن سيادة المسيح على الحياة أفضل من كل ممتلكات العالم، فالحنطة والخمر ثمار الأرض، أما نور وجه الله فهو ثمار السماء. ولما يبتسم الرب لك يضيء لك عالم الأرض وعالم الأبد.
(ج) السلام الداخلي هو الخير الأسمى: السلام الداخلي يبقى قوياً مهما كانت المتاعب الخارجية فقال: »بسـلامة أضطجـع« (آية 8أ) لأنـه ليس قلقـاً ولا خائفـاً »بـل أيضـاً أنـام، لأنـك أنـت يــا رب منفــرداً في طمأنينة تسكّنني« (آية 8ب). ضاعت ثقته في أبشالوم ابنه الذي خانه، وضاعت في كثيرين من رجال حاشيته الذي تركوه لينضموا لأبشالوم، وبقيت ثقته في الرب وحده. كان الرب منفرداً يحرسه، ووحده يحفظه. قال المسيح ابن داود لتلاميذه: »تتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي« (يو 16: 32).
صار داود كطفل يسند رأسه على صدر أمه ويغط في نوم عميق، لأنه يدرك أن الحب كله يحيط به. فليتنا نصبح مثله، حتى لو كنا منفردين، فإننا مع الله جماعة عظيمة، لأن الأقلية إلى جوار الرب هم الأغلبية، ورحمة الله أفضل من الحياة.

اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ النَّفْخِ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1لِكَلِمَاتِي أَصْغِ يَا رَبُّ. تَأَمَّلْ صُرَاخِي. 2اسْتَمِعْ لِصَوْتِ دُعَائِي يَا مَلِكِي وَإِلَهِي، لأَنِّي إِلَيْكَ أُصَلِّي. 3يَا رَبُّ، بِالْغَدَاةِ تَسْمَعُ صَوْتِي. بِالْغَدَاةِ أُوَجِّهُ صَلاَتِي نَحْوَكَ، وَأَنْتَظِرُ.
4لأَنَّكَ أَنْتَ لَسْتَ إِلَهاً يُسَرُّ بِالشَّرِّ، لاَ يُسَاكِنُكَ الشِّرِّيرُ. 5لاَ يَقِفُ الْمُفْتَخِرُونَ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ. أَبْغَضْتَ كُلَّ فَاعِلِي الإِثْمِ. 6تُهْلِكُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْكَذِبِ. رَجُلُ الدِّمَاءِ وَالْغِشِّ يَكْرَهُهُ الرَّبُّ. 7أَمَّا أَنَا فَبِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ أَدْخُلُ بَيْتَكَ. أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ بِخَوْفِكَ.
8يَا رَبُّ، اهْدِنِي إِلَى بِرِّكَ بِسَبَبِ أَعْدَائِي. سَهِّلْ قُدَّامِي طَرِيقَكَ. 9لأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهِمْ صِدْقٌ. جَوْفُهُمْ هُوَّةٌ. حَلْقُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. أَلْسِنَتُهُمْ صَقَلُوهَا. 10دِنْهُمْ يَا اللهُ. لِيَسْقُطُوا مِنْ مُؤَامَرَاتِهِمْ بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ. طَوِّحْ بِهِمْ لأَنَّهُمْ تَمَرَّدُوا عَلَيْكَ.
11وَيَفْرَحُ جَمِيعُ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ. إِلَى الأَبَدِ يَهْتِفُونَ وَتُظَلِّلُهُمْ. وَيَبْتَهِجُ بِكَ مُحِبُّو اسْمِكَ. 12لأَنَّكَ أَنْتَ تُبَارِكُ الصِّدِّيقَ يَا رَبُّ. كَأَنَّهُ بِتُرْسٍ تُحِيطُهُ بِالرِّضَا.

تحيطه بالرضا
هذا مزمور صباحي، رنَّمه داود بعد ليلة قضاها في خطر، قال بعدها: »يا رب، بالغداة (في الصباح) تسمع صوتي. بالغداة أوجِّه صلاتي نحوك وأنتظر« (آية 3). وهو كمزموري 3، 4 اللذين رنَّمهما في وقتٍ تعرَّض فيه للأخطار من أعداءٍ منافقين. وربما كتب داود هذا المزمور أثناء عمله في بلاط الملك شاول، أو في وقت ثورة ابنه أبشالوم الفاشلة ضده.
يبدأ المزمور بصرخة دعاء إلى الرب، هي صلاة إيمان من قلب يدرك أن الله ترسٌ للمحتمين به، ولا يرضى بشرّ الأشرار، ويجازي الذين يطلبونه، وفي رحمته يقبل مثول المرنّم في محضره المقدس. ويتخلل المزمور إحساسٌ عميق بمدى انتشار الشر والبُعد عن الله، الأمر الذي يعذِّب نفس البار وهو يرى الأفعال الأثيمة. ويطلب المرنم من الله أن يحفظه من غدر أعدائه، وأن يعاقبهم، كبرهان على عدالته السماوية. ووسط ضباب الشر والضيق يشرق الله بنوره على المؤمن، فينشئ الضيق صبراً، والصبر تعزية، والتعزية رجاءً وتشجيعاً للمؤمنين المضطهَدين (رو 5: 4).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – صلاة (آيات 1-3)
ثانياً – الرب يعاقب الأشرار (آيات 4-6)
ثالثاً – الرب يبارك المؤمنين (آيات 7-12)

أولاً – صلاة
(آيات 1-3)
1 – طرق الصلاة: »لكلماتي أصغ يا رب«. ثم يقول: »تأمل صراخي« (آية 1). ثم يقول: »استمِع لصوت دعائي« (آية 2). فهو يكلم الرب، ويصرخ إليه، ويدعوه. فالرب ملجأ المؤمن، وهو العادل المنصِف، وهو الرجاء الأكيد لأنه يسمع ويستجيب. إنه قوة الضعيف، وسلام الخائف، وعزاء المتضايق. ونجد أنفسنا مع المرنم محتاجين إلى الكلام مع الرب، والصراخ إليه والدعاء له:
(أ) نكلّم الرب: »لكلماتي أَصغ يا رب« (آية 1أ). إنه يكلمنا في الكتاب المقدس، وفي الوعظ. ونحن نجاوبه بالصلاة. كأنَّ داود يقول: أنا أصغيتُ لكلماتك فشجعتني، وملأت قلبي بالسلام والتعزية. والآن أدعوك لتسمع كلماتي التي تعبّر عن شكري وأشواق قلبي واحتياجاتي. كم أحبك يا رب. أريد أن ينشأ حوارٌ مستمر بيني وبينك، لأنه ينبغي أن أصلي في كل حين ولا أمَلّ.
(ب) نصرخ للرب: »تأمل صراخي« (آية 1ب). وكأن داود يقول: أنا في ضيق، وأنت أبي ومنقذي وصديقي. من الضيق أخرِج نفسي. إن كان ما أطلبه صالحاً فأعطه لي. وإن كان ناقصاً أكمِله. وإن كان رديئاً ارفُضه. إني كطفلٍ لا يملك قدرة التعبير عن نفسه بالكلام، فيصرخ. وأنا طفل أمام المشكلة، فأدعو أبي. أجِبني في الوقت المعيَّن وامسح دموعي.
(ج) ندعو الرب: »استمع لصوت دعائي« (آية 2أ). كأن داود يقول: أدعوك وأطلب منك، لا تطفُّلاً مني، لكن لأنك قلت: اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم. فأنا أناديك وأدعوك وأقرع بابك يا سيدي. استمع لصوت دعائي.
يحدّث المؤمن الرب دائماً وفي كل الظروف، ويطلب منه أن »يصغي« إليه، بمعنى »يُعِيره اهتمامه«. وهنا صرخة النفس المرة المتألمة، التي تطلب من الرب أن يتأملها، أي يُدخل صراخها في اعتباره، ويفكر فيها لأنها متضايقة. وهنا دعاء الاحتياج. والمحتاج يطالب الرب بالاستماع له، فالرب يعرف صوته ويميّزه، كما يعرف هو صوت أبيه السماوي ويميّزه.
2 – سامع الصلاة: يدعوه »يا ملكي وإلهي«.
(أ) يدعو ملكه: كان داود ملكاً، يحكم شعبه ويقضي له، لكنه يعلم أن الله ملك الملوك وحاكمهم وقاضيهم، فيقدم ولاءه الكامل للملك الأعظم، إله الكون، صاحب السلطان في السماء وعلى الأرض.
(ب) ويدعو إلهه: القادر على كل شيء، السرمدي، صاحب العهود الصادقة والأمينة.
3 – موعد الصلاة: »يا رب بالغداة (في الصباح) تسمع صوتي. بالغداة أوجّه صلاتي (بمعنى أعرض طلبي وأرفع رغباتي) نحوك، وأنتظر« (آية 3).
في الصباح، وفي مطلع كل يوم، يبدأ المرنم يومه مع الله، لأنه لا يستطيع أن يواجه العالم بدون القوة التي يستمدها من إلهه، لذلك يوجّه صلاته نحوه وينتظر. كان داود يرمي سهاماً بقوسه. وفي هذه الآية يُشبِّه نفسه برامي السهم الذي يضع سهمه في قوسه ويشدُّه ثم يطلقه نحو الهدف. ويرفع عينيه إلى حيث ينطلق السهم ليحقق القصد منه. وكأنه يقول: يا رب، صلاتي تندفع نحوك كسهم، وأنا أرفع عينيَّ إليها واثقاً أنها ستصل إليك. ولا بد أنك تستجيب، لذلك أنتظر البركة والاستجابة. إنك موجود وحي وسامع وفعّال، وستعطيني احتياجي.
»أما منتظرو الرب فيجدّدون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يُعيون« (إش 40: 31). أحياناً نواجه مسؤولية عاجلة تحتاج لسرعة الطيران للقيام بها. وأحياناً تزيد مسؤوليات اليوم عن عدد ساعاته فنركض لنؤدّيها. وأحياناً تكفينا سرعة المشي لأداء عمل اليوم. وفي هذه جميعها ننتظر الرب الذي يعطينا القوة الكافية للوفاء بالتزاماتنا. فنقول: »انتظاراً انتظرت الرب، فمال إليّ وسمع صراخي« (مز 40: 1).

ثانياً – الرب يعاقب الأشرار
(آيات 4-6)
1. أوصاف الشرير: »الشرير« هو الذي يعبر الخط الذي رسمه الله لنا، ويتخطى الأوامر الإلهية، ويدخل دائرة الممنوع. ويقدم داود في هذه الآيات (4-6) مجموعة أوصاف للشرير:
(أ‌) »المفتخر أمام عينيك«: غريب أن التراب المخلوق يتكبَّر في محضر الله العظيم الخالق. والله »يقاوم المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة« (يع 4: 6).
(ب‌) »فاعل إثم«: والإثم هو العَوَج، والذي يرتكبه يحب الطريق الأعوج.
(ت‌) »متكلّم بالكذب«: فهو من أبٍ هو إبليس، وإبليس هو الكذاب وأبو الكذاب (يو 8: 44).
(ث‌) »رجل الدماء«: لأنه قتل حياةً أو سُمعة.
(ج‌) »رجل الغش«: لأنه لا يقول الحق.
(ح‌) »الله يكرهه« بمعنى يكره أفعاله، فالرب يكره الشر لكنه يحب الشرير.
2. أوصاف الله: »لأنك لست إلهاً يُسَرُّ بالشر«. فالله صالح وإلى الأبد رحمته. ليس هو قاسياً شريراً مخيفاً كآلهـة الوثنيين، ولا منعزلاً بعيـداً عنا، لكنه قريب منا. يقول عنه الرسـول يعقـوب: »الله غيرمجرَّب بالشرور، ولا يجرِّب أحداً (بالشرور)« (يع 1: 13) لو أن شريراً ذهب إلى السماء ما استطاع أن يجد راحته هناك، لأنه يختلف عن كل الموجودين، ولا يستريح إلى جوّ المكان.
ونحن نتفق تماماً مع داود أن الله يبغض الخطية، ولا يسّر بالشر، لكننا في نور العهد الجديد ندرك أن الله يحب الخاطئ، ويريده أن يتوب. كان اليهود يقولون: »إن السماء تفرح بخاطئ يهلك لتستريح الأرض من شره«. لكن المسيح يقول: »يكون فرحٌ في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة« (لو 15: 7). وهذا يعلّمنا أن الله يحب الخاطئ ليتوّبه، ويحب البعيد ليقرّبه، ويحب الضعيف ليقوّيه، ويحب النجس ليطهّره.
3. عقوبة الشرير:
(أ) »لا يساكنك الشرير« (آية 4). سيظل الشرير بعيداً عن محضر الله وعن دائرة رضاه إلى أن يتوب. لا تلاقي بين شر الشرير وقداسة الله. لا يطيق الشرير أن يساكن الرب، فهو محروم من التمتع بالأُنس به، وهذه أكبر عقوبة له. وسيأتي اليوم الذي فيه يهلك فاعلو الإثم وجميع الكذبة.
(ب) »لا يقف المفتخرون أمام عينيك« (آية 5) لأنهم لا يجرؤون، ولأن الله لا يسمح لهم. قال المرنم مخاطباً الرب: »الأعين المرتفعة تضعها« (مز 18: 27). وقال الله: »مستكبر العين ومنتفخ القلب لا أحتمله« (مز 101: 5). وقال الرسول بطرس: »تسربلوا بالتواضع، لأن الله يقاوم المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة« (1بط 5: 5).
(ج) »تُهلك المتكلمين بالكذب« (آية 6) فالبحيرة المتقدة بالنار والكبريت هي نصيب إبليس وكل من يسيرون معه.
فلنصلّ: »قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدّد في داخلي« (مز 51: 10). أعطني نقاوة القلب لأستطيع أن أساكنك وأتواجد في محضرك وأقول: تشتاق نفسي إلى الرب.

ثالثاً – الرب يبارك المؤمنين
(آيات 7-12)
في هذه الآيات الست يتحدث داود عن موقف المؤمنين من الرب وموقف الرب من المؤمنين، وهذا يشغل النصف الثاني من المزمور. فيقول داود: »أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك«. وكلمة »أما« تعني أنه يوجد اختلاف بين المرنم والأشرار، لا لأنه أفضل منهم، فإننا كلنا كغنمٍ ضللنا، لكن »بكثرة رحمتك« لأن رحمة الله الغنيَّة أدركت المرنم ورضيت عليه، لأنه رجع إلى الله تائباً.
ذكر داود في آيات 4-6 شرور الأشرار، وكأنه يقول: »الله الذي هو غنيّ في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبّنا بها، ونحن أمواتٌ بالخطايا أحيانا مع المسيح« (أف 2: 4، 5). فقد مدَّ الرب يد الحب للشريـر لينتشله من بين الأشرار ولينقـذه من العقـاب، وتداركته الرحمـة الإلهية وفتحت عينيه للخلاص. وما كان ليدرك هذا الخلاص والحياة الجديدة لولا أن الرحمة أدركته.
ويقدم لنا النبي داود في الآيات الست الأخيرة فكرتين رئيسيتين:
1 – موقف المؤمن من الرب: (آيات 7-10)
(أ) موقف العبادة: »أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك. أسجد في هيكل قدسك بخوفك« (آية 7). لن يقف بعيداً، بل سيدخل بيت أبيه مرتمياً في أحضان محبته، معتمداً على الرحمة الكثيرة. كان داود طريداً، بعيداً عن مكان العبادة، مشتاقاً لبيت الرب. لم يكن الهيكل قد بُني بعد، غير أن قلبه كان يتَّجه نحو مكان العبادة، أينما كان، وهو يعلم أنه لا يقدر أن يفعل ذلك إلا إن تداركه الرب برحمته، وأرجعه إلى مكانته. وكان واثقاً أن الله، في مراحمه، سيحقق له أشواق قلبه العابد. وعندما يدخل بيت الله يسجد في الهيكل المقدس بخوف المهابة والاحترام. وخوف الرب رأس الحكمة، وهو التقوى العملية.
ونحن اليوم نتَّجه بقلوبنا إلى السماء بيت الرب، فليس السجود واجباً في جبل معين أو مكان محدد، فقد قال المسيح للمرأة السامرية: »لا في هذا الجبل، ولا في أورشليم تسجدون للآب.. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا« (يو 4: 21، 24). وقد أعطانا المسيح ثقة بالدخول إلى الأقداس بدمه الكريم، فلنتقدَّم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة، ونجد نعمةً عوناً في حينه (عب 10: 19 و4: 16).
(ب) موقف طلب الهداية: »يا رب، اهدني إلى برّك بسبب أعدائي. سهِّل أمامي طريقك« (آية 8). إن كان داود قد كتب هذا المزمور وقت هروبه أمام أبشالوم، فيكون معنى طلبه: يا رب، اجعلني ملكاً عادلاً حتى لا يجد أعدائي فيّ ما يشتكون به عليّ، واجعل طريقك سهلاً أمامي، مهما كانت التكلفة والتضحية. »ادخلوا من الباب الضيق، لأنه واسع الباب ورحبٌ الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك. وكثيرون هم الذين يدخلون منه! ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة. وقليلون هم الذين يجدونه« (مت 7: 13، 14). وكأن الملك داود يطلب الهداية إلى الباب الضيق، ويطلب المعونة الإلهية ليجد الطريق الكرب سهلاً.
ونحن نحتاج إلى هداية الرب اليومية كأطفال يمسكون بيد أبيهم، فتصبح طريق حياتنا مأمونة ومريحة، لأننا نسلك في برِّه هو، ونسير في طريقه، التي هي »الطريق المقدسة.. مَن سلك في الطريق حتى الجهال لا يضل« (إش 35: 8).
(ج) موقف طلب الدينونة للخطاة: »دِنْهم يا الله.. طوِّحْ بهم لأنهم تمرّدوا عليك« (آيتا 9، 10). يُدان الخطاة الذين يصفهم بأنهم الكاذبون، الذين يلتهمون سمعة الآخرين، أصحاب الحلق المفتوح الذي يخرج رائحة عفنة كالقبور، وألسنتهم مصقولة كالسيوف! قال البعض إن المرنم يطالب بالنقمة من الأشرار. فإن كان هذا هو المعنى، فإن المرنم يطبّق شريعة موسى: »عينٌ بعين وسن بسن« (خر 21: 24). وهذا بالطبع يختلف عن روح المسيح الذي يعلِّمنا أن نطلب الغفران للمسيئين إلينا.. وقال البعض إن المرنم يعلن العقوبة التي لا بد ستجيء على الخاطئ بسبب عدالة الله. وفي هذه الحالة يكون المرنم قد أعلن النتائج قبل حدوثها.
2 – موقف الرب من المؤمن:
(أ) الرب يُفرِّح المؤمن: »يفرح جميع المتكلين عليه. إلى الأبد يهتفون لأنك تظللّهم، ويبتهج بك محبّو اسمك« (آية 11). تمتلئ حياة المؤمن بالبهجة الروحية كنتيجة طبيعية لموقفه من الرب، فيقول إنه موضوع فرحه، يفرح به أكثر مما يفرح بكل ما في العالم. »جعلتَ سروراً في قلبي أعظم من سرورهم، إذ كثُرت حنطتهم وخمرهم. بسلامةٍ أضطجع بل أيضاً أنام، لأنك أنت يا رب منفرداً في طمأنينة تسكّنني« (مز 4: 7، 8). يبتهج من نبع البهجة الفائض، بعد أن استراح قلبه في الله، وشبعت نفسه من الغذاء الروحي اليومي.
ويقدم المرنم في هذه الآية صفتين للمؤمنين الفرحين بالرب:
* إنهم »متكلون عليك«. لا يتكلون على بّرهم، بل على رحمة الله وفدائه. ولا يتكلون على ذكائهم أو غناهم أو علاقاتهم الاجتماعية، لكن على العطايا الإلهية. إنهم يثقون ويتصرفون بناءً على ثقتهم، فيعتمدون على الله ويسلّمون أنفسهم لرعايته.
* وهم »محبّو اسمه« الذي يستحق الحب. قائلين: »نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً« (1يو 4: 19). حبنا له صدىً لحبه. دعونا نقُل له مع الرسول بطرس: »يا رب، أنت تعلم أني أحبك« (يو 21: 15).
(ب) الرب يبارك المؤمن: »لأنك أنت تبارك الصدِّيق يا رب« (آية 12). عيَّن الرب شعبه ورثةً للبركة، فيشبعهم بالخير الإلهي الأسمى. والرب يبارك المؤمن بأن يمنحه نعمة بلا حدود وبمجد لا يُنطَق به. بارك الرب إبراهيم وقال له: »أجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظّم اسمك، وتكون بركة. وأبارك مباركيك ولاعنك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض« (تك 12: 2، 3). وبارك المسيح تلاميذه قبل صعوده، ومنحهم بركة الروح القدس (لو 24: 50، 51). ويصف المرنم المؤمن الذي يباركه الرب أنه »صدِّيق«. والصدِّيق هو البار المستقيم، الذي أنعم الله عليه ببرّه.
(ج) الرب يحمي المؤمن: »كأنه بترس تحيطه بالرضا« (آية 12). يحيطه بترس الإيمان الذي به يطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة. فما الذي يؤذينا إن كان الله يحيطنا بمحبته؟ إن الله يجرِّد العدو من سلاحه، ويبطل أفكاره، ثم يسحقه تحت أرجلنا سريعاً.
والترس قطعة من الخشب يغطونها بالجلد، يواجه به الجندي السهام الموجّهة ضده، فينغرس سنّ السهم في الخشبة المغطاة بالجلد. والترس الذي يحمينا هو رضا الله علينا، لأننا في المسيح، ولأننا أعضاء جسده، منتمون إليه، ثابتون فيه. هذه الكلمات تشوّقنا لأن نكون من الصدّيقين الذين تبرّروا بتبريرات المسيح، واحتموا في كفارته. وهي دعوة موجّهة لك لتكون من رعية المسيح، الذي يفرحك ويحميـك بتـرس رضـاه، فتفـرح بـه، وإلى الأبد تهتـف لأنه يظللك، فقد طلـب لأجلك لكيلا يفنى إيمانك (لو 22: 32).

اَلْمَزْمُورُ السَّادِسُ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ الأَوْتَارِ عَلَى الْقَرَارِ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1يَا رَبُّ، لاَ تُوَبِّخْنِي بِغَضَبِكَ، وَلاَ تُؤَدِّبْنِي بِغَيْظِكَ. 2ارْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي ضَعِيفٌ. اشْفِنِي يَا رَبُّ لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ، 3وَنَفْسِي قَدِ ارْتَاعَتْ جِدّاً. وَأَنْتَ يَا رَبُّ فَحَتَّى مَتَى!
4عُدْ يَا رَبُّ. نَجِّ نَفْسِي. خَلِّصْنِي مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكَ. 5لأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَوْتِ ذِكْرُكَ. فِي الْهَاوِيَةِ مَنْ يَحْمَدُكَ؟ 6تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي. أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي. أُذَوِّبُ فِرَاشِي. 7سَاخَتْ مِنَ الْغَمِّ عَيْنِي. شَاخَتْ مِنْ كُلِّ مُضَايِقِيَّ.
8اُبْعُدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي الإِثْمِ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ صَوْتَ بُكَائِي. 9سَمِعَ الرَّبُّ تَضَرُّعِي. الرَّبُّ يَقْبَلُ صَلاَتِي. 10جَمِيعُ أَعْدَائِي يُخْزَوْنَ وَيَرْتَاعُونَ جِدّاً. يَعُودُونَ وَيُخْزَوْنَ بَغْتَةً.
أُعوِّم سريري بدموعي
هناك سبعة مزامير تُسمَّى مزامير التوبة (هي مزامير 6، 32، 38، 51، 102، 130، 143)، لأنها توضِّح الحزن والتذلل وكراهية الخطية، وهي علامة الروح المنكسر الذي يرجع لله تائباً معترفاً بالخطايا. وهذا المزمور هو أوَّلها، أما ثانيها فهو مزمور 32 الذي يبدأ بالقول: «طوبى للذي غُفر إثمه وسُترت خطيته.. أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي». وثالثها مزمور 38 الذي يقول فيه المرنم: «لأن آثامي قد طمَت فوق رأسي، كحملٍ ثقيل أثقل مما أحتمل». ورابعها مزمور 51 المشهور الذي يقول مطلعه: «ارحمني يا الله حسب رحمتك. حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ». وخامسها مزمور 102 الذي يقول فيه المرنم: »لا تحجب وجهك عني في يوم ضيقي. أَمِل إليَّ أذنك في يوم أدعوك. استجب لي سريعاً«. وسادسها مزمور 130 الذي يقول فيه المرنم: »إن كنتَ تراقب الآثام يا رب يا سيد، فمَن يقف؟«. وسابعها مزمور 143 الذي يقول فيه المرنم: »لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرَّر قدامك حي«.
ويمكن تلخيص كل مزمور من مزامير التوبة بالقول: »من يكتم خطاياه لا ينجح، ومن يقرُّ بها ويتركها يُرحم« (أم 28: 13) وبالقول: »إن قُلنا إنه ليس لنا خطية نُضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم« (1يو 1: 8، 9).
يوضح المزمور الاختبار الأول الأساسي الذي يجب أن يختبره كل إنسان قبل أن ينال رضى الرب. إنه اختبار التوبة والرجوع للرب. وقد طلب القديس أغسطينوس في أثناء مرضه الأخير أن يكتبوا له مزامير التوبة السبعة ويضعوها على حائط غرفة نومه في مواجهته ليتمكن من قراءتها كلها. وكان يقول »رأس الحكمة هو أن تعرف نفسك: إنك خاطئ«. فمزمور التوبة يردِّده الخاطئ الذي يتوب، كما يردده المؤمن الذي يطلب من الله أن يغسله كل يوم من خطيته. وقال مارتن لوثر: »سأظل طول حياتي شحّاذاً أستجدي رحمة الله«. وهذا يعني أن كل إنسان يجب أن يردد مزمور التوبة وهو يرجع إلى الرب، كما يجب أن يردده كل من رجع إلى الله، يطلب منه اغتسالاً يومياً.
إننا نعيش في عالم خاطئ، والظروف من حولنا تدفعنا للخطأ، لأن الخطية محيطة بنا بسهولة. كما أن لكل واحد منا نقاط ضعفه الشخصية. فإن كنا لا نرتكب الخطأ بقصدٍ وبسوء نيّة، سنجد الأخطاء من حولنا تتناثر على ثوب خلاصنا الأبيض، فنحتاج إلى اغتسال يومي. هناك التوبة الأولى التي فيها يفتح الإنسان قلبه للرب، ويعلن انتماءه له، فيصير في المسيح خليقة جديدة. ولكن هناك التوبة اليومية المستمرة لنضمن لنفوسنا حياة نقية تُرضى الرب. هناك التطهير الأول عندما يغفر الله لنا ذنوبنا ويكفر عنّا سيئاتنا، ويُنعم علينا بالتبني. وهناك أيضاً الاحتياج اليومي إلى »غسل أرجلنا« فإن »الذي قد اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه، بل هو طاهر كله« (يو 13: 10). لأن سيرنا في برية الحياة يعرّضنا للكثير من الأوساخ، ولذلك نحتاج دائماً كمؤمنين إلى صلاة توبة.)
وفي مزمور التوبة هذا يتحدث داود عن تأديب الرب له بسبب سقوطه، الأمر الذي ألجأه للتوبة. ويقول الإنجيل: »الذي يحبه الرب يؤدِّبه، ويجلد كل ابن يقبله« (عب 12: 6).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الرب يؤدِّب المخطئ (آية 1)
ثانياً – المخطئ يستغيث من التأديب (آيات 2-7)
ثالثاً – الرب يستجيب المستغيث التائب (آيات 8-10)
أولاً – الرب يؤدب المخطئ
(آية 1)
يعترف داود للرب بأنه أخطأ، ويعلن أنه يستحق التوبيخ. لقد ارتكب خطأً كان يجب ألاّ يرتكبه، فيطلب من الرب أن يطيل أناته عليه، ولا يوبّخه وهو في حالة الغضب، ولا يؤدّبه وهو في حالة الغيظ. فقال: »يا رب، لا توبّخني بغضبك، ولا تؤدّبني بغيظك«.
لا شك أن داود كأبٍ وبّخ أولاده وأدّبهم عندما أخطأوا وهو في حالة غضب عليهم وغيظٍ منهم. ولم يعطِ ذلك التأديب الغاضب أفضل النتائج، لأن داود في حالة غضبه لم يكن قادراً على إصلاح الخطأ، بل إنه أثار عناد أولاده أكثر. وأدرك داود أن الله هو المربي الأفضل، فقال له: »يا رب، أنا أستحقّ التوبيخ والتأديب، لكن لا توبّخني بغضبك، ولا تؤدّبني بغيظك. أنت تعرف جبلتي. أنت توبّخني وتؤدبني لا لتسحقني ولا لتدمِّرني، بل لتُصلح من أمري. وتأديبك لي لا يدوم، بل هو وقتي، وعندما تقتضي الضرورة. فأنت تؤدبني لتخلق مني الوعاء الذي ترضى عليه ويَحسُن في عينيك. وكما أن الريح لازم لينقي الحنطة من التبن، هكذا تحتاج نفسي إلى التأديب.. أنا لا أرفض التأديب، لكني أطلب الرحمة فيه.. »أَدِّبني يا رب ولكن بالحق، لا بغضبك لئلا تفنيني« (إر 10: 24). أنت تعمل الخير كله. أنت تُسقِط من حسابك خطاياي، وتطرح في أعماق البحر خطاياي فلا تعود تذكر تعدياتي (مي 7: 19 وعب 8: 12). اعترفتُ لك بها، ورفعتُ قلبي إليك تائباً، وأنت قبلتَ توبتي وغفرت لي وتبدأ معي دوماً من جديد. قال مارتن لوثر: »يتوسَّل المرنم إلى الله أن يكون التوبيخ والتأديب مصحوباً بالرحمة، لا بالغضب. وهذا يعلِّمنا أن عند الله عصوين للتأديب، إحداهما للتأديب بالرحمة والأخرى للتأديب بالغضب«.
هذه الآية الأولى تعلّم الآباء كيف يربّون أولادهم، فلا يعاقبونهم وهم غاضبون. كما أنها تكشف لنا صفة عظيمة في إلهنا، هي أنه يؤدبنا ويقوّمنا في حب حقيقي، ليُصلح من أمرنا، لنكون أواني أكثر صلاحية لتأدية خدمته ولتحقيق مشيئته.
ثانياً – المخطئ يستغيث من التأديب
(آيات 2-7)
يستغيث داود من الغضب الإلهي الذي حلّ به بسبب خطيته، ويذكر أسباب هذه الاستغاثة.
1 – يستغيث لأنه ضعيف: »ارحمني يا رب لأني ضعيف« (آية 2أ). وكأنه يقول: إن كنتَ توقّع عليَّ العقاب الذي أستحقه فسأهلك. إذاً يا رب أنا ألجأ إلى مراحمك على شخصي الضعيف. والأغلب أن الضعيف يلجأ للبكاء، ودموع توبتنا تجعل إلهنا يتعطف علينا برحمته، كما تعطف السامري الصالح على الجريح الضعيف.
ولا يطلب داود أن يرفع عنه الله غضبه فقط، بل يطلب أن يرفع عنه أيضاً سبب ذلك الغضب، الذي هو خطيته الناتجة عن ضعفه. وعندما نعترف بضعفنا وخطايانا تدركنا رحمته دائماً.
2 – يستغيث لأنه انكسر: »اشفني يا رب لأن عظامي قد رجفت، ونفسي قد ارتاعت جداً. وأنت يا رب فحتى متى؟« (آيتا 2ب، 3). يبدو أن التأديب الإلهي مسَّ جسده، فأصابه المرض الذي جعل عظامه ترتجف. وارتكاب الخطية يرجف أعماق الإنسان.. كما أن هذا التأديب جعله يرتعب خوفاً من وقوع المزيد من التأديب عليه، فارتاعت نفسه.. كما أن إحساسه بالذنب جعله يرتعب أكثر لأنه فقد رضا الله عليه، فضاعت منه بهجة خلاصه. وكأن المرنم يقول: »إن كنـتَ تراقـب الآثــام يــا رب، يا سيد، فمن يقف أمامك؟.. نعم أنا أخطأت، ولكني أجيء إليك الآن في حالة انكسار جسدي، وأنت الذي تقبل توبتي«.
يقول المرنم: »حتى متى؟«. فهناك زمان حدده الله لكل من يحمل صليباً. حدد لبني إسرائيل 430 سنة في مصر، وسبعين في بابل، وحدَّد ليوسف نحو 13 سنة في سجن فرعون، وحدَّد لملاك كنيسة سميرنا ضيق عشرة أيام (رؤ 2: 10). ولا بد أن ينتهي ضيق كل من يلجأ إلى الله تائباً.
3 – يستغيث لأن الله مخلِّصه: »عُدْ يا رب. نجِّ نفسي. خلّصني من أجل رحمتك« (آية 4). أحدثت الخطية فجوةً بين المرنم والله، وهو يطلب أن يعود إليه الأُنس بالله، كما قال: »لا تطرحني من قدَّام وجهك، وروحك القدوس لا تنزعه منّي، رُدّ لي بهجة خلاصك« (مز 51: 11، 12).
والمرنم يطلب النجاة من عقوبة الخطية، ومن نتائجها السيئة عليه، لأنه لا مخلّص إلا هو. وكما كان بُعده عن الله سبب بؤسه، يكون رجوعه إلى الله سبب خلاصه. وعندما نعود إلى الله تائبين، يعود الله إلينا منجِّياً.
»خلّصني من أجل رحمتك« ونحن في نور الصليب ندرك معنى هذه الآية بأكثر عمق »لأنه قد ظهرت نعمة الله المخلّصة لجميع الناس.. منتظرين .. مخلّصنا يسوع المسيح، الذي بذل نفسه لأجلنا، لكي يفدينا من كل إثم« (تي 2: 11-14).
4 – يستغيث لأنه يعتقد أن الموتى لا يسبّحون الرب: »لأنه ليس في الموت ذكرك. في الهاوية من يحمدك؟« (آية 5). هذا يعني أن المرنم يعتقد أنه إذا أماته الرب ودُفن فلن يحمده في القبر. أما إن رحمه ومنحه حياة طويلة فسيسبّحه هنا على الأرض دائماً وأبداً. ولما كان المرنم يريد أن يُعلن خلاص الرب، ويحمده ليلاً ونهاراً، فإنه يطلب من الرب أن يطيل حياته.
أو لعل المرنم خاف أن يموت في خطيته فيمضي إلى جحيم أبدي، فطلب من الله أن ينجي نفسه وأن يفتديه ويخلّصه من الجحيم، من أجل رحمته، ليتمكن من تقديم التسبيح لله في الأرض وعندما ينتقل إلى حضرته في السماء.
5 – يستغيث لأنه تائب: »تعبتُ في تنهُّدي. أُعوّم كل ليلة سريري بدموعي. أذوّب فراشي. ساخت من الغم عيني. شاخت من كل مضايقيَّ« (آيتا 6، 7). والقول »ساخت عيني« يعني أنها تآكلت من كثرة البكاء، كما يأكل العثُّ الثياب. فكم تنهَّد المرنم حزيناً على خطيته، وكان يعوّم كل ليلة سريـره بدموعـه في بكاء مر، كما خرج بطرس إلى الخـارج وبكى بكاءً مُراً لأنـه أنكـر المسيـح (لو 22: 62). صحيحٌ إن الخطية لا تستحق الثمن المدفوع فيها، فعلى كل من يخطئ أن يرجع إلى الله تائباً بأسرع ما يستطيع.
وأقدّم ثلاث ملاحظات عن الحزن على الخطية:
(أ) ليس المهم كمية الحزن بل نوعه: قد لا تكون لنا كمية دموع داود الذي عوّم كل ليلة سريره بدموعه. وقد لا تكون لنا رأس مليئة بالماء كما تمنّى النبي إرميا فقال: »يا ليت رأسي ماء وعينيَّ ينبوع دموع فأبكي نهاراً وليلاً« (إر 9: 1). وقد لا نبكي بكاءً مُراً كما فعل بطرس. فليست الكمية هي المطلوبة، بل نوع الحزن الصادق. إن التعبير العميق يكفي.
(ب) ليس المطلوب أن نُظهر حزننا أمام الناس، بل أن يكون حزننا صادقاً. لسنا في حاجة أن نقول للآخرين إننا مخطئون محتاجون لغفران الله، لكن نحتاج أن نكون صادقين، فقد يكون إناءٌ مليئاً بالماء دون أن تنضح منه قطرة، وقد تكون قلوبنا مليئة بالدموع على خطيتنا دون أن تظهر دموعنا للآخرين.
(ج) ليس المطلوب مدة الحزن، بل المطلوب هو إخلاصنا فيه. هناك أسطورة قديمة تقول إنه بعد أن ارتكب داود خطيته المشهورة، أخذ يبكي فسقطت دمعتان من دموعه على الأرض، فنبتت شجرتان: شجرة »الصفصاف المتهدِّل« التي ترمز إلى حزن المؤمن الباكي أمام الله، وشجرة »البَخور« التي ترمز لإيمان التائب ومحبته لله، لأن الذي يغفر له الله الكثير يحب الله كثيراً، لأنه يشعر بفضل محبة الله له.
ثالثاً – الرب يستجيب المستغيث التائب
(آيات 8-10)
في الجزء الأخير من المزمور نرى فكرتين:
1 – عدّل المرنم موقفه من أعدائه: »ابعُدوا عني يا جميع فاعلي الإثم، لأن الرب قد سمع صوت بكائي. سمع الرب تضرُّعي. الرب يقبل صلاتي« (آيتا 8، 9). استجاب الله لتوبة داود فعدّل موقفه مع أعدائه الذين قادوه إلى ارتكاب الخطأ. ولا عجب، فإن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة (1كو 15: 33).
سار المرنم التائب في طريق الخطاة، ولكن بعد توبته وغفران خطاياه ابتعد عنهم وعن طريقهم، فلا شركة للنور مع الظلمة. وبعد أن أصلح موقفه مع الله أصلح الله موقف داود مع أعدائه. فإن كان هناك ما يُبكيك، وإن كنت تطلب من الرب أن يمسح دموعك، فأَصلِح أولاً ما بينك وبين الرب، وعدِّل مواقفك معه، فتتعدَّل مواقفك مع الذين يضرّونك. إن معركتنا ليست أساساً مع البشر من خارجنا، بل مع نفوسنا من داخلنا، فعندما نطرد الخطية من داخلنا بالاعتراف والتوبة، تتعدَّل مواقفنا مع الآخرين.
2 – نجا المرنم من أعدائه: »جميع أعدائي يُخزَون ويرتاعون جداً. يعودون ويُخزَون بغتةً« (آية 10). لقـد تحقـق معه القـول: »إذا أرضت الربَّ طرقُ إنسان جعل أعداءه أيضاً يسالمـونه« (أم 16: 7).
إن أفضل عـلاج للتخلُّـص مـن المعاشرات الرديـة هو أن نبتعـد عنها. »باعِد رِجلـك عن الشر« (أم 4: 27). لا يكفي أن نبكي على خطايانا، بل يجب أن نبتعد عنها وعن مسبِّباتها، فالخطية والنعمة لا يجتمعان.

اَلْمَزْمُورُ السَّابِعُ
شَجَوِيَّةٌ لِدَاوُدَ غَنَّاهَا لِلرَّبِّ بِسَبَبِ كَلاَمِ كُوشَ الْبِنْيَامِينِيِّ
1يَا رَبُّ إِلَهِي، عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. خَلِّصْنِي مِنْ كُلِّ الَّذِينَ يَطْرُدُونَنِي وَنَجِّنِي، 2لِئَلاَّ يَفْتَرِسَ كَأَسَدٍ نَفْسِي هَاشِماً إِيَّاهَا وَلاَ مُنْقِذَ.
3يَا رَبُّ إِلَهِي، إِنْ كُنْتُ قَدْ فَعَلْتُ هَذَا. إِنْ وُجِدَ ظُلْمٌ فِي يَدَيَّ. 4إِنْ كَافَأْتُ مُسَالِمِي شَرّاً، وَسَلَبْتُ مُضَايِقِي بِلاَ سَبَبٍ، 5فَلْيُطَارِدْ عَدُوٌّ نَفْسِي وَلْيُدْرِكْهَا، وَلْيَدُسْ إِلَى الأَرْضِ حَيَاتِي، وَلْيَحُطَّ إِلَى التُّرَابِ مَجْدِي. سِلاَهْ.
6قُمْ يَا رَبُّ بِغَضَبِكَ. ارْتَفِعْ عَلَى سَخَطِ مُضَايِقِيَّ وَانْتَبِهْ لِي. بِالْحَقِّ أَوْصَيْتَ. 7وَمَجْمَعُ الْقَبَائِلِ يُحِيطُ بِكَ، فَعُدْ فَوْقَهَا إِلَى الْعُلَى. 8الرَّبُّ يَدِينُ الشُّعُوبَ. اقْضِ لِي يَا رَبُّ كَحَقِّي، وَمِثْلَ كَمَالِي الَّذِي فِيَّ. 9لِيَنْتَهِ شَرُّ الأَشْرَارِ، وَثَبِّتِ الصِّدِّيقَ. فَإِنَّ فَاحِصَ الْقُلُوبِ وَالْكُلَى اللهُ الْبَارُّ. 10تُرْسِي عِنْدَ اللهِ مُخَلِّصِ مُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ.
11اَللهُ قَاضٍ عَادِلٌ، وَإِلَهٌ يَسْخَطُ فِي كُلِّ يَوْمٍ. 12إِنْ لَمْ يَرْجِعْ يُحَدِّدْ سَيْفَهُ. مَدَّ قَوْسَهُ وَهَيَّأَهَا، 13وَسَدَّدَ نَحْوَهُ آلَةَ الْمَوْتِ. يَجْعَلُ سِهَامَهُ مُلْتَهِبَةً.
14هُوَذَا يَمْخَضُ بِالإِثْمِ. حَمَلَ تَعَباً وَوَلَدَ كَذِباً. 15كَرَا جُبّاً. حَفَرَهُ فَسَقَطَ فِي الْهُوَّةِ الَّتِي صَنَعَ. 16يَرْجِعُ تَعَبُهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَعَلَى هَامَتِهِ يَهْبِطُ ظُلْمُهُ. 17أَحْمَدُ الرَّبَّ حَسَبَ بِرِّهِ، وَأُرَنِّمُ لاِسْمِ الرَّبِّ الْعَلِيِّ.
ترسي عند الله
هناك سبعة مزامير أطلق عليها القديس أغسطينوس اسم »مزامير الطريد« (هي 7، 34، 52، 54، 56، 57، 142) كتبها داود أثناء هروبه من مطاردات الملك شاول له، متنقِّلاً من بلد إلى بلد،ومن كهف إلى كهف، وحتى إلى بلاد الفلسطينيين.
عنوان هذا المزمور »شجوّية لداود غنّاها للرب«. و»شجوية« معناها ترتيلة حزن أو شجوى. وهو نفس عنوان »صلاة لحبقوق النبي على الشجوية« (حب 3: 1). أليس غريباً أن المؤمن »يغني« للرب »شجوية«؟ الحقيقة أن كل متاعب العالم لا يمكن أن تحرم المؤمن من الترنيم، لأن منابع حياته ليست من ظروفه، لكنها من الرب. إن كل آلام الحياة لا تحرم المؤمن مطلقاً من أن يغني ويرتل للرب، لأنه يختبر دائماً أن الله معه وسط الأتون!
رنم داود هذه الشجوية لأن كوش البنياميني وشى به إلى الملك شاول، وقال إن داود يتآمر ليقتل الملك (1صم 22: 8). وبهذه الوشاية الكاذبة زادت ثورة غضب الملك المجنون على داود. ونحن لا نعرف شيئاً عن كوش إلا أنه من سبط بنيامين، وغالباً يكون أحد أقرباء شاول. وبسبب هذه الوشاية خرج الملك بجيشه ليقبض على داود البريء ويقتله، فرفع داود صلاته في هذه الشجوية متنوِّعة الموضوعات، فمن الحديث عن قمة النصرة، إلى الحديث عن الألم المُرّ. وهي نموذج لاختبارات المؤمن المتنوِّعة.
ونجد فرقاً كبيراً بين بداية المزمور السابع ونهايته. ففي مطلعه تبدو عدالة الله غامضة، وفي نهايته نراها فاعلة وقوية. في بدايته يبدو الشرير مفترياً غالباً، وفي نهايته نراه ضعيفاً مهزوماً. في بدايته نرى المؤمن باكياً صارخاً، وفي نهايته نراه هاتفاً منتصراً. وهذا ما يحدث دوماً مع الذين يحبون الله. يبدو لنا أحياناً كأن عدالة الله قد غابت، فانتصر الشرير وانسحق المؤمن. ولكن المؤمن الحقيقي في النهاية ينتصر دائماً، فيحمد الرب على برِّه وعدله، ويرنِّم لاسم الرب العلي، لأن كل آلةٍ صُوِّرت ضده لا تنجح، وهو يحكم على كل لسان يقيم قضيَّةً ضده (إش 54: 17).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – خطورة موقف المرنم (آيتا 1، 2)
ثانياً – المرنم يعلن براءته (آيات 3-5)
ثالثاً – المرنم يطلب النجدة من الله (آيات 6-10)
رابعاً – المرنم يخاطب أعداءه (آيات 11-17)
أولاً – خطورة موقف المرنم
(آيتا 1، 2)
يبدأ المرنم مزموره بالاتجاه إلى الله قائلاً: »يا رب إلهي عليك توكلتُ« (آية 1أ) فيتَّجه إلى سيد حياته، ويناديه: »يا رب«. ويدعوه: »إلهي«. فهناك صلة أُنس شخصية حميمة بينهما. الرب إلهه، وهو الخادم والتابع والمنتمي لهذا الإله. لقد سلّم حياته للرب، واتّخذه سيداً وقائداً له، فأصبح مِلكاً لله، وشعاره: «الإله الذي أنا له، والذي أعبده» (أع 27: 23). ولما كانت هذه العلاقة الشخصية عميقة وواثقة، فإنه يلقي بكل نفسه وبكل همومه على الرب إلهه، ويقول له «عليك توكلت». «مُلقين كل همِّكم عليه، لأنه هو يعتني بكم» (1بط 5: 7). ولهذا يصرخ إليه: »خلّصني« من الوشاية الكاذبة. ويعلن براءته منها. ويوضح داود خطورة موقفه، فيقول: »خلّصني من كل الذين يطردونني، ونجّني لئلا يفترس كأسدٍ نفسي، هاشماً إياها ولا منقذ« (آية 1ب، 2).
1 – أعداؤه كثيرون: كأنهم فرقة كاملة »لجئون« فيقول: »كل الذين يطردونني«. أينما يتوجّه يحيطون به ويهجمون عليه.
2 – عدوُّه جبار خبيث: »يفترس كأسد نفسي هاشماً إياها«. إنه لا يسكت حتى يقتل داود. كان شاول كالأسد في بطشه وشراسته، ولكن عدوَّنا دائماً ليس »أسداً« بل »كالأسد« (1بط 5: 8).
3 – عدوُّه مُميت: »لا منقذ« يبدو أنه لا سبيل للنجاة! فلماذا يعرض على الله حالةً ميئوساً منها بهذا الشكل؟.. لا بد أنه تذكَّر اختباراته الشخصية السابقة، عندما كان يرعى أغنام أبيه، فجاء أسدٌ وأخذ شاةً من القطيع، فخرج وراءه وضربه وأنقذ الشاة منه. ولما قام عليه الأسد أمسكه من ذقنه وضربه وقتله (1صم 17: 34-36). فهل يكون الله مع داود أقل حباً منه مع غنمه؟.. مستحيل! لن يقف الرب ساكتاً وابنه في خطر. ولذلك رأى داود الرجاء رغم الخطر، ورفع صلاة الواثق، وصلاة الإيمان هي ثروة أولاد الله، فالإيمان يؤكد لنا قدرة الله ومحبته، والصلاة توصِّلنا بالعرش الإلهي!
ثانياً – المرنم يعلن براءته
(آيات 3-5)
كان داود بريئاً. فأعلن براءته من اتهام كوش الظالم له بقوله: »يا رب إلهي، إن كنتُ قد فعلتُ هذا. إن وُجد ظلمٌ في يديَّ. إن كافأتُ مسالمي شراً وسلبتُ مضايقي بلا سبب، فليطارد عدوٌّ نفسي وليدركها، وليدُس إلى الأرض حياتي، وليحطَّ إلى التراب مجدي« (آيات 3-5).
أشهد داود السماء على براءته، وأعلن استعداده لقبول العقاب إن كان مخطئاً. إن السماء تعلم أنه لم يؤذِ عدوَّه الذي وقع في يديه مرتين: في برية عين جدي، وفي برية زيف (1صم 24، 26). كان ضمير داود مستريحاً من جهة شاول، يصدق عليه القول: »فخرنا هو شهادة ضميرنا« (2كو 1: 12) و»إن لم تلُمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله« (1يو 3: 21).
لا يستطيع إنسان أن يقول إنه بريء تماماً من كل ذنب، لأنه »إن قلنا إنه ليس لنا خطية نُضِل أنفسنا وليس الحق فينا .. إن قلنا إننا لم نخطئ نجعله كاذباً وكلمته ليست فينا« (1يو 1: 8، 10). لكن داود يعلن براءته من هذه التهمة الواحدة التي وجَّهها كوش ضده. وكأن داود يقول لله: »في هذا الموضوع يا رب أنا لم أخطئ».
وقد جاز أيوب اختباراً مشابهاً عندما اتَّهمه أصحابه أنه لا بد ارتكب خطايا جعلت الرب يوقِّع عليه العقاب، فقال لأصحابه إنه بريء، وإن كل ما حلَّ به ليس بسبب خطاياه. ثم أخذ يذكر مبادئه الأخلاقية التي سار عليها، فقال: »إن كنتُ منعتُ المساكين عن مرادهم، أو أفنيتُ عيني الأرملة، أو أكلـت لقمتـي وحـدي فما أكل منها اليتيم.. فلتسقط عضدي من كتفي، ولتنكسر ذراعي من قصبتها« (أي 31: 16-22).
وحتى لو استطعنا أن نعلن براءتنا أمام الناس فلن نستطيع أن نعلنها أمام الله، لأن مقاييس الله تعلن أنه ليس إنسان صالحاً. على أننا نستطيع أن نعلن براءتنا أمام الله إن احتمينا بكفارة المسيح، فتكون براءتنا نابعة من نعمته وفدائه وفضله وحبه لنا، فنقول: »إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح« (رو 5: 1). ونقول: »لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح« (رو 8: 1).
يمكن أن يعلن الإنسان براءته أمام الله والناس من تهمة واحدة. ويمكن أن يعلن براءته أمام الناس من كل خطإٍ يعرف أنه لم يرتكبه. لكنه لا يقدر أن يعلن براءته أمام الله، الذي لن يتبرر أمامه حيٌّ (مز 143: 2).
ثالثاً – المرنم يطلب النجدة من الله
(آيات 6-10)
بعد أن أعلن داود براءته طلب النجدة من الله:
1 – طلب أن يُقيم الله محكمة علنية: ينصف فيها نبيّه المظلوم، يكون الله فيها القاضي العادل الجالس على عرشه المرتفع ليفحص التُّهمة الزائفة، فقال: »قُم يا رب بغضبك. ارتفع على سخط مضايقيَّ وانتبه لي. بالحق أوصيتَ« (آية 6). يطلب منه أن يقوم مرتفعاً على الظلم والظالمين، لأنه في خوفه من أعدائه خشي من سكوت الرب عنه أو تركه له، فتجاسر عليه وقال له: »انتبه« مع أنه الذي لا تدركه سِنةٌ ولا نوم (مز 121: 4).
2 – طلب أن يشاهد الأمم هذه المحاكمة: ليشهدوا عدالة الله القاضي العادل فوق الجميع: فوق الملك شاول الظالم، وكوش الواشي الكاذب، فقال: »مجمع القبائل يحيط بك، فعُدْ فوقها إلى العُلى« (آية 7). والمعنى: اجمع الأمم من حولك يا رب، واجلس فوقها في الأعالي، لأن قدّيسيك المظلومين سيأتون بشكاواهم إلى محكمتك العليا.
3 – علم أن الله يقضي بالعدل: لأنه يرى كل الظروف والملابسات، فيقول: »الرب يدين الشعوب. اقضِ لي يا رب كحقّي، ومثل كمالي الذي فيَّ« (آية 8).
4 – علم أن عدالة الله ستضع نهاية للشرور: وكل من يشبههما، فيدعو الله: »لينتهِ شر الأشرار« (آية 9أ) إما بتوبة الشرير، فلا يصبح بعد صانع شر، ويتم فيه القول الرسولي: »لا يسرق السارق في ما بعد، بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه، ليكون له أن يعطي من له احتياج« (أف 4: 28). أو ينتهي الشرير بنهاية حياته على الأرض، وبنهايته الأبدية في الجحيم »لأن أجرة الخطية هي موت« (رو 6: 23).
5 – علم أن الله سينقذه: ويعطيه الثبات على الحق والإيمان، لأن الله يعرف الذين هم له، فيقول: »ثبـِّت الصدِّيق، فـإن فـاحص القلوب والكُلى الله البار. ترسي عند الله، مخلّص مستقيمي القلوب« (آيتا 9ب، 10). و»القلوب والكُلى« تعبير عبري معناه أعماق الإنسان وأسراره وأفكاره
وعواطفه ونياته. ويقول داود إن الله يعرف دواخله، وسيثبِّته في الحق والخير، فكل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا (عب 4: 13). إنه يدرك أن ترسه عند الله. والترس قطعة من الخشب مغطاة بالجلد يتلقَّى الجندي عليها سهام الأعداء. فالرب يحمي المؤمن. لقد وجّه كوش سهماً ليؤذي داود، لكن الله لن يترك مستقيمي القلوب، بل لا بد أن يخلّصهم وينقذهم.
ما أسعد مستقيمي القلوب الذين يحامي الله عنهم، ويخيِّب مؤامرات الشرير ضدهم. يقول الوحي لهم: »الضيقات التي تحتملونها بيِّنة على قضاء الله العادل أنكم تُؤهَّلون لملكوت الله الذي لأجله تتألمون أيضاً، إذ هو عادلٌ عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً، وإياكم الذين تتضايقون راحةً معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته، في نار لهيب، معطياً نقمةً للذين لا يعرفون الله ولا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح« (2تس 1: 4-8).
من الدروس الرائعة في محاكمة المسيح ما نتعلمه منه وهو يقف وسط مستنقع من الكراهية والكذب وإنكار الجميل. لكن نقطة واحدة من ذلك المستنقع الفاسد لم تدخل إلى نفسه، فقد ظلّ في وسط محيط الكراهية هذا مليئاً بالحب، وقال: »اغفر لهم يا أبتاه، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون« (لو 23: 34). في وسط هذا الموقف المليء بالعذاب البدني، يعطينا المسيح نموذجاً للصدِّيق الثابت الذي لا يسمح لآلام الحياة أن تعطله عن القيام بخدمته أو أداء رسالته أو تغيير مبدئه!
رابعاً – المرنم يخاطب أعداءه
(آيات 11-17)
1 – يحذّر أعداءه من خطورة موقفهم: »الله قاضٍ عادل، وإلهٌ يسخط في كل يوم« (آية 11). يعلن الله غضبه، ولكنه لا ينفّذ عقابه فوراً ليعطي الشرير فرصة للتوبة. واستمرار حياة الشرير بعد ارتكاب شره إعلانٌ أن الله لا يشاء أن يهلكه، بل يريد له التوبة، فيُقال له: »أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة!« (رو 2: 4). إن الله يسخط كل يوم لكنه لا يهلك، ليمنح الخاطئ فرصة للتوبة.
2 -يدعو أعداءه للتوبة: »إن لم يرجع (الشرير عن شره) يحدّد (الله) سيفه. مدَّ (الله) قوسه وهيّأها، وسدَّد نحوه (نحو الشرير) آلة الموت. يجعل سهامه ملتهبة« (آيتا 12، 13). عقاب الله متنوِّع في أسلوبه، صارم في تنفيذه، ولذلك يدعوهم للتوبة. أليس جميلاً أنه وهو يتألم من المشتكين عليه كذباً يدعوهم للتوبة قبل أن يوجّه الله سهامه وسيفه ضدهم فيهلكهم، وبهذا ينتهي شرُّهم إلى الأبد؟!
3 – يصف أعداءه بوصفين: (آيات 14-16).
ويهدف من هذين الوصفين أن يوضح عدم نفع الشر لمرتكبه، فسرعان ما ينقلب الشرعلى صاحبه ويهلكه.
(أ) يشبِّه الشريرَ بامرأة تتمخَّض لتلد سِقطاً: «هـوذا (الشـرير) يَمخـض بالإثم. حمـل تعبـاً، وولد كذباً« (آية 14). يتمخَّض الشرير بالإثم، ويحمل الفساد، فيلد الكذب. بدايته واستمراره ونهايته باطلة وقبض الريح، ولا منفعة له تحت الشمس. يحلم بأشياء كاذبة لا تنفعه شيئاً. يتعب بغير طائل. صحيح أنه »ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟« (مت 16: 26).
(ب) يشبِّهه بصياد يحفر حفرة: إنه يريد أن يقع فيها الحيوان المطلوب صيده، فيسقط هو فيها! »كرا جُباً (بمعنى: حفر حفرة). حفره، فسقط في الهوّة التي صنع. يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه« (آيتا 15، 16). فالشر يميت الشرير، والخطية تخفض ولا ترفع. فلنحترس من حفر الحُفر للآخرين، ولنحاول أن نرفعهم لننال نحن البركة معهم، فإن الذي يحفر يهبط، والذي يرفع غيره يرتفع.
4 – يعلن لأعدائه أن إلهه العلي سينصره: »أحمد الرب حسب بره، وأرنّم لاسم الرب العلي« (آية 17). فما أكبر الفرق بين بداية المزمور وبين نهايته! انتهت الشجوية، ترنيمة البكاء، بهتاف فرح، فالتسبيح هو شُغل المؤمنين في الأرض وفي الأبدية. قد ترتخي أوتار قيثارة المؤمن من هموم الاضطهاد فتصدر اللحن الحزين، لكنها سرعان ما تعود إلى سابق نشاطها، بفضل نعمة الرب البار العادل المستقيم، العلي المرتفع، الذي يرى وينصف المظلوم من ظالمه!
اَلْمَزْمُورُ الثَّامِنُ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى الْجَتِّيَّةِ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1أَيُّهَا الرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الأَرْضِ، حَيْثُ جَعَلْتَ جَلاَلَكَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ! 2مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ أَسَّسْتَ حَمْداً بِسَبَبِ أَضْدَادِكَ، لِتَسْكِيتِ عَدُوٍّ وَمُنْتَقِمٍ.
3إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، الْقَمَرَ وَالنُّجُومَ الَّتِي كَوَّنْتَهَا، 4فَمَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ، وَابْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ! 5وَتَنْقُصَهُ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، وَبِمَجْدٍ وَبَهَاءٍ تُكَلِّلُهُ. 6تُسَلِّطُهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. جَعَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. 7الْغَنَمَ وَالْبَقَرَ جَمِيعاً، وَبَهَائِمَ الْبَرِّ أَيْضاً، 8وَطُيُورَ السَّمَاءِ، وَسَمَكَ الْبَحْرِ السَّالِكَ فِي سُبُلِ الْمِيَاهِ. 9أَيُّهَا الرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الأَرْضِ!

بمجدٍ تكلّله
هذا مزمور تمجيد وشكر لله، يسبح به المرنم الرب على صلاحه ومحبته للإنسان. يبدأ المزمور بكلمات تتكرر في آخره: »أيها الرب سيدنا، ما أمجد اسمك في كل الأرض!«. وبعد أن يرتل المرنم المزمور يدرك عظمة الله فيعلن مجد اسمه في كل الأرض بطريقة أعمق وأفضل، فيحدِّثنا عن الله المتسربل بالحكمة والجلال. ونحن على مثال ما فعل صاحب المزمور يجب أن نبدأ يومنا بأن نرفع تسبيحة شكر لله، ونختمه بتسبيحة مماثلة. ولو أننا في نهاية اليوم ندرك فضل الله أكثر، لأنه أضاف في يومنا بركاتٍ جديدة تفوق بركات أمسنا. فالله هو الذي خلق الإنسان ويذكره، ويفتقده (بمعنى: يزوره) ويكلّله.
وكانوا يرنمون هذا المزمور »على الجتِّيَّة« وهي آلة موسيقية تشبه القيثارة، كانت تُستعمل في العاصمة الفلسطينية »جت«. وقد ورد ذكر الجتية في عنوان مزموري 81 و84 أيضاً. ويمكن أن تُترجم كلمة »الجتية« بـ »نشيد القطاف« يغنّيه دائسو العنب في المعصرة، أو تعني »نشيد الحَرس الجَتي« (2صم 15: 18). فيكون أن المرنم صاغ الكلمات بوحي الروح القدس، واختار لها لحناً من إبداع الفلسطينيين، مما يعني أن البشر جميعاً يشتركون في تسبيح الرب بطريقة أو بأخرى.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – ما أمجد اسم الله في الطبيعة (آية 1)
ثانياً – ما أمجد اسم الله في الأطفال (آية 2)
ثالثاً – ما أمجد اسم في الإنسان الضعيف (آيتا 3، 4)
رابعاً – ما أمجد الإنسان الله الذي كرّمه الله (آيات 5-8)
خامساً – تمجيد ختامي (آية 9)
أولاً – ما أمجد اسم الله في الطبيعة
(آية 1)
في مطلع المزمور وفي خاتمته يمجّد المرنم الله ويسبحه، لأنه خالق الطبيعة، أرضها وسماءها، لأنها المرايا التي تعكس للبشر بهاء مجد الرب، ولأنها المسرح الذي تدور فوقه أعمال مجده، فيرتل المرنم لله: »أيها الرب سيدنا، ما أمجد اسمك في كل الأرض، حيث جعلت جلالك فوق السماوات« (آية 1).
تتحدَّث الخليقة كلها بعظمة حكمته وقدرته الفائقة، فهو «حاملٌ كل الأشياء بكلمة قدرته» (عب 1: 3). «السماوات تحدِّث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه» (مز 19: 1). »أنت هو الرب وحدك. أنت صنعت السماوات وسماء السماوات وكل جندها، والأرض وكل ما عليها، والبحار وكل ما فيها، وأنت تحييها كلها، وجند السماء لك يسجد« (نح 9: 6). «ما أعظم أعمالك يا رب، كلها بحكمة صنَعْتَ. ملآنةٌ الأرض من غناك. هذا البحر الكبير الواسع الأطراف، هناك دبابـات بلا عدد، صغار حيوان مع كبـار.. كلها إياك تترجى لترزقها قوتها في حينه. تعطيها فتلتقط، تفتح يدك فتشبع خيراً« (مز 104: 24-28). بدون كلام ولا ضوضاء تعلن الطبيعة مجد الله. تعلنه بنعمةٍ وتناسقٍ للجميع. في مطلع كل صباح نرى الشمس تشرق، وفي ختام كل يوم نرى النجوم تتألق في الفضاء. وعندما نتطلع إلى هذه كلها، تمتلئ قلوبنا بروح التعبُّد والشكر والتسبيح فنقول له: «أنت سيِّدُنا». جلالك فوق السماوات يا مَن يسبِّح لك السرافيم: »قدوس. قدوس. قدوس رب الجنود. مجده ملء كل الأرض» (إش 6: 3) فتهتزّ أساسات أعتاب بيت الله من صوت الهتاف.
ثانياً- ما أمجد اسم الله في الأطفال
(آية 2)
«من أفواه الأطفال والرضَّع أسست حمداً». يُعجب الطفل وبندهش من كل جديد، لأن الروتينية لم تصبه بعد بالملل. ونحتاج أن نتعلم من الأطفال أن نندهش من أعمال الله العظيمة، فنتأملها بعيون مفتوحة وقلوب تريد أن تتعلم أكثر. وكل من دخل ملكوت الله يصير مثل الأولاد المنبهرين بعظمة الله، الواثقين من محبته (مت 18: 3).
»من أفواه الأطفال والرضَّع أسست حمداً، بسبب أضدادك (خصومك) لتسكيت عدوٍّ ومنتقم». وقد تحقَّقت هذه الكلمات حرفياً وقت دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم، فيقول الإنجيل: «فلما رأى رؤساء الكهنة والكتبة العجائب التي صنع، والأولاد يصرخون في الهيكل ويقولون: أوصنا لابن داود، غضبوا وقالوا له: أتسمع ما يقول هؤلاء؟ فقال لهم يسوع: نعم. أما قرأتم قط: من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحاً؟« (مت 21: 15، 16). عجز أئمة اليهود عن معرفة المسيح فلم يهتفوا له، ولكن هؤلاء الصغار عرفوه بقلوبهم فهتفوا له: »أوصنا« بمعني: يا رب خلِّصنا (مت 21: 9).
إن قدرة هؤلاء الصغار على التعبير الشفاف الصادق والعفوي يُخرِس ألسنة الأعداء والمنتقمين. أراد لصٌّ أن يسرق شجرة فاكهة، فأخذ ولده معه وقال له: »عندما ترى شخصاً يراني حذِّرني«. وتسلّق الأب الشجرة ليسرق، وسرعان ما دعاه الولد: »بابا، هناك مَن يراك«. ونزل الأب مسرعاً يسأل: »من يراني؟« فأجاب: »الله يراك«. وكانت الكلمات سبباً في توبة الأب.
لما كان »جورج هويتفيلد« الواعظ البريطاني يعظ في بلد في شمال شرق أمريكا في القرن الثامن عشر، فيما يُعرف بولايات »نيو إنجلاند« سلّمت سيدة حياتها للمسيح. وحاولت أن تقود بعض جاراتها للخلاص ولكنها لم تُوفَّق، فوضعت اهتمامها كله في ابنتها التي تبلغ من العمر عشر سنوات. واستجابت الابنة لمحبة الرب. وذات مرة سألت الابنة: »ماما، لماذا لا نكلم أهل بلدنا بهذه الأخبار المفرحة؟« فأجابت الأم: »أنا حاولت كثيراً ويئست«. فقالت الابنة: »سأقوم أنا بهذا العمل«. وخرجت مسرعة ووجدت أول محل تجاري لبائع أحذية، فدخلت وسالت البائع: »هل سمعت الأخبار المفرحة عن المسيح المخلِّص؟« وحدّثته عن الفرح الذي ملأ قلبها والتغيير الذي حدث في منزلها. وتأثر الرجل وصلى وقَبِل الرب. وعلى مدى شهرين قبل خمسون شخصاً في تلك القرية المسيح، لأن فتاة صغيرة بحماستها وحبها للرب قررت أن تفعل شيئاً، مع أن اليأس كان قد أصاب أمها.
مرةً واجه مارتن لوثر مقاومةً شديدة أصابته باليأس. وكان زميله ميلانكثون يتمشّى في البلد فرأى بعض الأولاد مجتمعين يصلّون من أجل الإصلاح الديني، فرجع وعلى وجهه ابتسامة كبيرة وقال للوثر: »لقد نجونا. حتى الأولاد يصلّون من أجلنا«.
إننا نبتهج بأولادنا وبناتنا في مدرسة الأحد، لأن وصول الرسالة إلى قلوبهم يجعل منهم شهوداً أمناء للمسيح، ومن حياتهم وأفواههم يؤسس الله حمداً يُخزي الخطاة الكبار الذين تحجّرت قلوبهم لفرط ما سمعوا، حتى صارت قصة صليب المسيح عندهم مجرد قصة تاريخية، لم تعد تثير فيهم اندهاشاً ولا شكراً.
أما العدو المنتقم الأكبر الذي سيُسكَت آخر الكل فهو إبليس، عندما نسمع مع الرائي: «صوتاً عظيماً قائلاً في السماء: الآن صار خلاص إلهنا وقدرته ومُلكه وسلطان مسيحه، لأنه قد طُرح المشتكي على إخوتنا.. من أجل هذا افرحي أيتها السماوات والساكنون فيها» (رؤ 12: 10- 12).
ثالثاً – ما أمجد اسم الله في الإنسان الضعيف
(آيات 3، 4)
ثم يمجد المرنم الرب لأنه يهتم بالإنسان الضعيف الصغير الضئيل بالمقارنة بالطبيعة العظيمة، فيقول: »إذا أرى سمواتك، عمل أصابعك، القمر والنجوم التي كوّنتها. فمن هو الإنسان حتى تذكره، وابن آدم حتى تفتقده؟« (بمعنى: حتى تزوره، أو تلتفت إليه مُنعماً) (آيتا 3، 4).
ما أقل ما نعرفه عن أعمال الله في الخليقة. وقت كتابة هذه الكلمات قرأت أن فريقاً من الباحثين الأوربيين اكتشفوا مجرَّة جديدة بالكون على بُعد يتراوح بين 13، 17 مليار سنة ضوئية من الأرض، وهي بذلك أبعد مجرَّة معروفة. وأعلنت المنظمة الأوربية للأبحاث الفلكية أن وصول ضوء هذه المجرة إلى تلسكوب المنظمة الموجود في شيلي استغرق 90% من عمر الكون! وعندما يقارن الإنسان نفسه بعظمة الطبيعة يكتشف مقدار ضآلته. عمر الطبيعة ملايين السنين، والإنسان »قليل الأيام وشبعان تعباً« (أي 14: 1). قال موسى كليم الله: »أيام سنينا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة، وأفخرها تعبٌ وبليّة، لأنها تُقرض سريعاً فنطير« (مز 90: 10). والطبيعة قوة جبارة في الزلازل والبراكين، وهدير الشلالات وارتفاع الجبال، بينما الإنسان »كعشبٍ يزول. بالغداة يزهر فيزول. عند المساء يُجزّ فييبس« (مز 90: 5، 6).
قال بلدد الشوحي، صديق أيوب، عن الله: »السلطان والهيبة عنده.. هل من عددٍ لجنوده؟.. هوذا نفس القمر لا يضيء، والكواكب غير نقية في عينيه. فكم بالحري الإنسان الرِّمَّة وابنُ آدم الدود!« (أي 25: 2-5). من هو الإنسان حتى يفتقده الرب سيدنا، صاحب أمجد اسم في كل السماوات والأرض! إنه، وهو خالق هذه كلها، لا يزال يفكر في الإنسان البسيط الذي هو لا شيء. قال أيوب لله: »ما هو الإنسان حتى تعتبره، وحتى تضع عليه قلبك؟« (أي 7: 17). وقال المرنم: »يا رب، أي شيء هو الإنسان حتى تعرفه، أو ابن الإنسان حتى تفتكر به؟« (مز 144: 3).
وقد لا يرى الشرير في كبريائه عظمة الكون وحقارة الإنسان، ولكن المتواضع يدرك هذا »لأنه هكذا قال العلي المرتفع ساكن الأبد، القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأحيي روح المتواضعين ولأحيي قلب المنسحقين« (إش 57: 15). وعندما نتأمل الخبر المفرح أن الرب جاءنا في هيئة إنسان، متجسداً في المسيح، نقول في دهشة وفي شكر: »من هو الإنسان حتى تذكره؟!«.

رابعاً – ما أمجد الإنسان الذي كرَّمه الله
(آيات 5-8)
1 – رفع الله قيمة الإنسان: »تَنْقُصه قليلاً عن الملائكة، وبمجدٍ وبهاءٍ تكلله« (آية 5أ). بعد أن مجّد المرنم الله على الإنسان الضعيف الذي أكرمه، يقدم التمجيد لله لأنه رفع قيمته. والقول »تنقُصه قليلاً« يعني القليل في الزمان، أو القليل في المقام. فالإنسان أقل من الملاك، لأن الملاك لا يموت، بينما الإنسان يموت. ولكن هذا الموت مؤقَّت »فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صــوتـه، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة« (يو 5: 28، 29). والإنسان أقل من الملاك في المقام هنا على الأرض. ولكن ماذا بعد الموت؟ »بمجد وبهاء تكلله« (آية 5ب).
ويقول في العبرانيين 2: 16 إن الله لم يخلّص الملائكة الذين سقطوا، ولكنه دبّر خلاص آدم ونسله، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا.
2 – منح الله الإنسان السلطة: »تسلّطه على أعمال يديك. جعلت كل شيء تحت قدميه: الغنم والبقر جميعاً وبهائم البرّ أيضاً، وطيور السماء، وسمك البحر السالك في سبُل المياه« (آيات 6-8).
خلق الرب آدم »على صورته« (تك 1: 27) فالإنسان على صورة الرحمان، ووضعه في جنة عدن »ليعملها ويحفظها« (تك 2: 15) ومنحه السلطة على الخليقة (تك 1: 28) ليسود على الأرض وعلى كل ما فيها، كوكيلٍ عن الله الخالق. وجعل الله كل الخليقة تحت قدمي الإنسان ليستخدمها. ولم يقصد أبداً أن تسود المخلوقات على آدم. ولكن حين نستعبد أنفسنا للمادة نضيّع البركة التي قصد الله أن يمنحها لنا.
لقد مجّد الله الإنسان بثلاث بركات، نجدها في آيتي 4، 5 »تذكره«.. »تفتقده«.. »تكلله«.
(أ) «تذكره»: بمعنى تفكر فيه. فهل عند الرب اهتمام بالبشر حتى يفكر فيهم؟ من هو الإنسان حتى تذكره وتُدخِله في حساباتك؟ إنك تهتم بكل ما فيه، حتى أنك تحصي شعر رأسه؟
(ب) «تفتقده»: بمعنى تزوره.. تجيء إليه. نعم، زارنا في المسيح »الكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا« (يو 1: 14). كان المسيح يسير في موكب مع تلاميذه تحيطه جموع كثيرة، ورفع عينيه إلى شجـرة جميز فرأى رجلاً خاطئاً قصير القامة قد تسلّق أحد فروعها ليتملّى من رؤيته، فناداه باسمه: »يا زكا، أَسرِع وانزِل، لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك« (لو 19: 5). لقد دعا نفسه إلى بيت زكا، وافتقده. ثم قال عنه بعد ذلك: »اليوم حصل خلاص لهذا البيت« (لو 19: 9). فمَن هو زكا حتى تفتقده؟ ما أمجد اسمك في كل الأرض لأنك تذكر زكا. إنك عمانوئيل، الإله الذي معنا.
وهو الآن يفتقدك أنت ويقرع باب قلبك. ومعظم من يفتحون قلوبهم للمسيح لم يسلِّموا حياتهم له من أول قرع. ولذلك يعاود القرع ويستمر يقرع، كأنه المحتاج، بينما هو الذي يريد أن يعطي ويبارك ويُنعِم. ولا زال المسيح يأتينا ويمدّ يده إلينا، ويوصي ملائكته ليحفظونا في كل طرقنا.
(ج) «تكلله»: إنه يضع على رؤوسنا أكاليل المجد. »بمجد وبهاء تكلله«. لقد »غسَّلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه« (رؤ 1: 5، 6).
»جعلتَ كل شيء تحت قدميه«. هل تريد أن يكون كل شيء تحت قدميك؟ تجد الإجابة في التسبيح الذي يبدأ المزمور وينتهي به »أيها الـرب سيدنا«. عندما يكـون الله سيد حياتك تصبح أنت سيد كل شـيء. أعطِ الرب السلطة على حياتك يعطِك الرب السلطة على مخلوقـاته. أَعطِ المسيح حرية التصرف في حياتك، يعطِك المسيح حرية التصرف في كل شيء.
هل تحيا الحياة المنتصرة؟ هل لك سلطان على نفسك؟ هل تضبط غرائزك؟ »الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات« (غل 5: 24).
وقد اقتبس كاتب العبرانيين الآيات 4-6 من مزمورنا، وقال إنها تشير إلى المسيح: »فإنه لملائكةٍ لم يُخضع العالم العتيد الذي نتكلم عنه. لكن شهد واحدٌ في موضع قائلاً: ما هو الإنسان حتى تذكره، أو ابن الإنسان حتى تفتقده؟ وضعته قليلاً عن الملائكة، بمجدٍ وكرامةٍ كلَّلتَه، وأقمته على أعمال يديك. أخضعت كل شيء تحت قدميه« (عب 2: 5-8).
ومعنى هذه الآيات أنه يبدو للإنسان العادي أن المسيح أقل من الملائكة لأنه أخذ جسداً إنسانياً. ولكن المسيح ارتفع إلى درجة التكليل بالمجد الأعلى لأنه أخذ جسد الإنسان ليخلّص الإنسان، ولما أكمل هذا الخلاص خضعت له كل الأشياء. وهذا ما لم ينله أي ملاك من الملائكة.
لم يخضع الله عالمنا للملائكة، لكنه أعطى السيادة فيه للإنسان، وللمسيح ابن الإنسان، فأسكت المسيح العاصفة، وهدّأ الموج، وأقام الموتى. ويخضع العالم الآتي للمسيح، فهو الشفيع والقاضي، الذي سيعلن في مجيئه الثاني نهاية العالم وبداية الدينونة.
خامساً – تمجيد ختامي
(آية 9)
»أيها الرب سيدنا، ما أمجد اسمك في كل الأرض!«. بدأ المزمور بهذا التمجيد ويُختم به. ويرتل المرنم التمجيد الختامي، الذي افتتح به مزموره، ولكن بفهم جديد. لقد تعلّم أن يمجد الله ويكرمه، فتحتل سيطرة الإنسان على الطبيعة والخليقة المكانة الثانية في أولويات حياته، وتحتل عبادته وتمجيده لله المكانة الأولى، فيقول له: »أيها الرب سيدنا«.
وعندمـا نعترف أن الرب سيدنا نثق أنه المعتني بنا، ويكون إلى اسمه وإلى ذكره شهوة النفس (إش 26: 8) وتكون طاعته مطلبنا الأول، فنمجده ونعبده، وننتظر مجيء مسيحه ثانية من السماء.

اَلْمَزْمُورُ التَّاسِعُ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. عَلَى «مَوْتِ الاِبْنِ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1أَحْمَدُ الرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي. أُحَدِّثُ بِجَمِيعِ عَجَائِبِكَ. 2أَفْرَحُ وَأَبْتَهِجُ بِكَ. أُرَنِّمُ لاِسْمِكَ أَيُّهَا الْعَلِيُّ. 3عِنْدَ رُجُوعِ أَعْدَائِي إِلَى خَلْفٍ يَسْقُطُونَ وَيَهْلِكُونَ مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، 4لأَنَّكَ أَقَمْتَ حَقِّي وَدَعْوَايَ. جَلَسْتَ عَلَى الْكُرْسِيِّ قَاضِياً عَادِلاً. 5انْتَهَرْتَ الأُمَمَ. أَهْلَكْتَ الشِّرِّيرَ. مَحَوْتَ اسْمَهُمْ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. 6اَلْعَدُوُّ تَمَّ خَرَابُهُ إِلَى الأَبَدِ. وَهَدَمْتَ مُدُناً. بَادَ ذِكْرُهُ نَفْسُهُ. 7أَمَّا الرَّبُّ فَإِلَى الدَّهْرِ يَجْلِسُ. ثَبَّتَ لِلْقَضَاءِ كُرْسِيَّهُ، 8وَهُوَ يَقْضِي لِلْمَسْكُونَةِ بِالْعَدْلِ. يَدِينُ الشُّعُوبَ بِالاِسْتِقَامَةِ. 9وَيَكُونُ الرَّبُّ مَلْجَأً لِلْمُنْسَحِقِ، مَلْجَأً فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ. 10وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ الْعَارِفُونَ اسْمَكَ، لأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ.
11رَنِّمُوا لِلرَّبِّ السَّاكِنِ فِي صِهْيَوْنَ. أَخْبِرُوا بَيْنَ الشُّعُوبِ بِأَفْعَالِهِ، 12لأَنَّهُ مُطَالِبٌ بِالدِّمَاءِ. ذَكَرَهُمْ. لَمْ يَنْسَ صُرَاخَ الْمَسَاكِينِ.
13اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ. انْظُرْ مَذَلَّتِي مِنْ مُبْغِضِيَّ، يَا رَافِعِي مِنْ أَبْوَابِ الْمَوْتِ، 14لِكَيْ أُحَدِّثَ بِكُلِّ تَسَابِيحِكَ فِي أَبْوَابِ ابْنَةِ صِهْيَوْنَ مُبْتَهِجاً بِخَلاَصِكَ.
15تَوَرَّطَتِ الأُمَمُ فِي الْحُفْرَةِ الَّتِي عَمِلُوهَا. فِي الشَّبَكَةِ الَّتِي أَخْفُوهَا انْتَشَبَتْ أَرْجُلُهُمْ. 16مَعْرُوفٌ هُوَ الرَّبُّ. قَضَاءً أَمْضَى. الشِّرِّيرُ يَعْلَقُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. (ضَرْبُ الأَوْتَارِ). سِلاَهْ. 17اَلأَشْرَارُ يَرْجِعُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، كُلُّ الأُمَمِ النَّاسِينَ اللهَ. 18لأَنَّهُ لاَ يُنْسَى الْمِسْكِينُ إِلَى الأَبَدِ. رَجَاءُ الْبَائِسِينَ لاَ يَخِيبُ إِلَى الدَّهْرِ. 19قُمْ يَا رَبُّ. لاَ يَعْتَزَّ الإِنْسَانُ. لِتُحَاكَمِ الأُمَمُ قُدَّامَكَ. 20يَا رَبُّ، اجْعَلْ عَلَيْهِمْ رُعْباً، لِيَعْلَمِ الأُمَمُ أَنَّهُمْ بَشَرٌ. سِلاَهْ
أقمت حقي
هذا المزمور ترنيمة انتصار، تبدأ كل آيتين منه بحرف من الأبجدية العبرية. وينقسم إلى قسمين رئيسيين، فيهما كليهما تعبير عن الشكر لله لأنه ينصر المؤمنين على الأشرار والظالمين. لقد راقب المرنم الصراع المستمر في العالم بين الخير والشر، فرأى الأمم الشريرة الوثنية تهاجم أُمته المؤمنة. وفي أمته المؤمنة رأى الظالمين ينتصرون على الأبرياء، فدعا الله لينصر الأبرياء كما نصر أمته على عُبّاد الوثن، ودعاه ليعاقب الظالمين الذين ينكرون قوته وعدالته.
وواضح أن الملك داود هو كاتب المزمور، فهو يتحدث كممثل لأمته، ويعتبر أعداء الأمة أعداءه (آية 3) ويعتبر قضية الأمة قضيته (آية 4). ونحن نسأل: إن كان الملك قد كتب المزمور واحتج على
الظالمين، فلماذا لم يفعل شيئاً ليرفع الظلم عنهم؟ والإجابة: إنه نتيجة لحكم الملك الظالم شاول والذين سبقوه، لم يتمكن داود من التحكم في سلوك نبلاء مملكته، وعجز عن إرساء قواعد العدل. ولما رأى عجزه، لجأ إلى الرب ملك الملوك ليقضي القضاء العادل.
ويقول عنوان المزمور إنه على «موت الابن». وهو غالباً اسم اللحن الذي كانوا يُرتّلون به هذا المزمور، هو لحنٌ غير معروف لنا اليوم.

ويمكن تقسيم المزمور بالشكل التالي:
الجزء الأول
آيات 1-12 الجزء الثاني
آيات 13 – 20
(1) 1-4 تسبيح (1) 13 و14 صلاة
(2) 5، 6 الله قضى بالعدل على الشرير (2) 15، 16 الله قضى بالعدل على الشرير
(3) 7-10 الله سيقضي بالعدل
وينجي المؤمن (3) 17، 18 الله سيقضي بالعدل
وينجي المؤمن
(4) 11، 12 تسبيح (4) 19، 20 صلاة
الجزء الأول
(آيات 1-12)
أولاً – تسبيح
(آيات 1-4)
في هذه الأعداد نرى أن موضوع التسبيح هو: أنت يا رب »أرنم لاسمك«. كما نرى أن سبب التسبيح هو: »أعمالك«. ونرى أن طبيعة التسبيح هي: »بكل قلبي«.
وسنتأمل وصف التسبيح ونذكر سببه:
يسبّح المرنم الرب فيقول: »أحمد الرب بكل قلبي، أُحدّث بجميع عجائبك. أفرح وأبتهج بك، أرنم لاسمك أيها العلي« ( آيتا 1، 2).
1 – وصف التسبيح:
(أ) تسبيحٌ مُخْلص: »بكل قلبي« (آية 1أ). كما قال: »باركي يا نفسي الرب، وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس« (مز 103: 1). لقد شعر بعظمة الخلاص، ورأى الرب يميِّز تقيَّه، فهتف بشفتيه من كل قلبه.
(ب) تسبيحٌ علني: »أُحدِّث بجميع عجائبك« (آية 1ب). لقد اختبر صلاح الله، فيحمده بكل قلبه ويحدّث المحيطين به بما فعله معه. جميلٌ أن نحدّث ونخبّر في بيتنا ووسط أهلنا كم صنع الرب بنا ورحمنا (مر 5: 19) لأن فرحتنا أكبر مما نقدر أن نخفيها داخلنا. فما أعظم أعمال العناية، والفداء، والتقديس!
(ج) تسبيحٌ فرحان: »أفرح وأبتهج بك« (آية 2أ). كان أعداؤه ينهشونه وهو عاجز عن الدفاع، فأنقذه الرب، ففرح وابتهج بإلهه. دعونا نبتهج لأن الله لا بد سيتدخَّل لينقذنا، والفرج لا بد قادم، فنقول: »هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصاً، فتستقون مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص، وتقولون في ذلك اليوم: احمدوا الرب. ادعوا باسمه. عرِّفوا بين الشعوب بأفعاله« (إش 12: 2-4).
(د) تسبيحٌ شخصي: »أرنِّم لاسمك أيها العليّ« (آية 2ب). فرحة المرنم هي أولاً بالرب، وثانياً بعطايا الرب. فرح بما حصل عليه، وفرح أكثر لأن الرب العلي معه، فهذا يعني أن المعطي سيستمر يعطي وينجي. وبروح التسبيح نتخطى الصعاب التي ينهزم تحتها المكتئبون، لأن فرح الرب يعطي قوة (نح 8: 10).
2 – سبب التسبيح: »عند رجوع أعدائي إلى خلفٍ يسقطون ويهلكون من قدام وجهك، لأنك أقمتَ حقي ودعواي. جلستَ على الكرسي قاضياً عادلاً« (آيتا 3، 4).
(أ) الرب الديان: تقدَّموا للهجوم، لكن الرب أرجعهم إلى خلفٍ، لا بسبب نفوذ المرنم وجيشه وماله ودبلوماسيته وأصحابه، بل بالقوة الإلهية التي تهزم الظالم، وبالمحبة السماوية التي تنجّي التقي. »لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال ربُّ الجنود« (زك 4: 6).
(ب) الرب المحامي: »لأنك أقمتَ حقّي ودعواي« (آية 4أ). يعرف الرب نيَّة الإنسان، ويقيم حقَّه إن كان على حق، ويدافع عن قضيته إن كانت دعواه صحيحة وعادلة. فلنتأكد أننا على حق، ليقيم الرب حقّنا الذي يحاول الظالمون أن يطرحوه أرضاً، فنقول: »لا تشمتي بي يا عدوَّتي. إذا سقطتُ أقوم. إذا جلستُ في الظلمة فالرب نورٌ لي. أحتملُ غضبَ الربِّ لأني أخطأتُ إليه حتى يقيم دعواي ويُجري حقّي. سيُخرجني إلى النور. سأنظر برَّه« (مي 7: 8، 9).
(ج) الرب القاضي: »جلستَ على الكرسي قاضياً عادلاً« (آية 4ب). يدين الرب الأشرار والظالمين الذين يتناسون عدالته، ويظنـون أنهم ناجون من الوقوف أمام كرسيّ عدلـه. إن دينونـة الله هي حسب الحق، ولن يترك أتقياءه ليقعوا تحت رحمة أحكام الظالمين.
ثانياً – الله قضى بالعدل على الشرير
(آيتا 5، 6)
يقول المرنم في هاتين الآيتين: »انتهرتَ الأمم. أهلكتَ الشرير. محوتَ اسمهم إلى الدهر والأبد. العدوُّ تمَّ خرابه إلى الأبد. باد ذكره نفسُه«.
1 – الله ينتهر الأشرار: إنه يوبخهم على وثنيتهم وظلمهم. ومن هذا نرى أن كلمة الله خالقة تمنح الحياة، كما أنها موجِّهة تشير إلى سبُل البر وتصيِّر الجاهل الذي يقبلها حكيماً. وهي أيضاً قاضية تُصدر الأحكام على من يرفضها. ويبدو أن الأشرار الذين وصفهم المرنم هنا لم يسمعوا انتهار الله، ولا اتّقوه، فجاء عليهم عقابه.
2 – الله يُهلك الأشرار غير التائبين: كان الوثنيون أعداء المرنم، وفي القضاء عليهم بالعدل لا يواجه المرنم عدوَّه، لكن إلهه هو الذي يواجههم. هذا ما حدث في الضربات العشر (خروج 7-12) فقد كانت كلها مواجهة بين الإله الحقيقي، خالق السماء والأرض، وبين آلهة فرعون. الله في مواجهة النيل، معبود المصريين، فيتحوَّل ماء النهر إلى دم. الله في مواجهة العجل أبيس، فتموت الثيران. المواجهة هنا تتم بين إلهنا الذي ننتمي إليه وبين معبود العدو. يبيد الله الشرير ويهلكه ويمحو اسمه، فنقول مع المرنم: »العدو تمَّ خرابه«. أما مدينة الله فتثبت.
وأرجو أن نلاحظ أن إبليس لا ييأس ولا يفشل. يخسر معركة ولكنه يعاود الهجوم. هاجم المسيح في البرية، وهزمه المسيح ولكن المهزوم لم ييأس، بل »فارقه إلى حين« (لو 4: 13) ثم عاد ليهاجمه من جديد. وهذا ما يتكرر معنا. إن انتصارنا في معركة لا يعني أن المعارك انتهت. فلنكن يقظين مستعدين لمعركة أخرى.
ثالثاً – الله سيقضي بالعدل وينجي المؤمن
(آيات 7-10)
في هذه الآيات يتحدث المرنم عن الرب، ملجإ المنسحق المتضايق، الموجود دائماً لحماية المظلوم من الظالم. وكل من اختبر أمانة الله وحمايته له في الماضي لا يتشكَّك في حماية الله له في المستقبل. وفي هذه الآيات الأربع وصفين للرب، ووصفين للمؤمنين:
1 – وصفان للرب:
(أ‌) الرب صاحب العدالة الأبدية: »أما الرب فإلى الدهر يجلس. ثبّت للقضاء كرسيّه« (آية 7). قال المرنم لله في آية 4 »أقمتَ حقي .. جلستَ على الكرسي«. قام للقضاء بالعدل، وجلس بعد أن أتمَّه. قام لينجي وجلس بعد أن نجَّى. فهو الذي إلى الدهر يقضي ويجلس بعد أن يقوم بإنقاذ أولاده. مملكته على الكل تسود، فهو الدائم الوجود. واختبارنا لصلاحه معنا في الماضي يملأنا بالثقة في المستقبل.
(ب‌) الرب منصف المظلومين: »يقضي للمسكونة بالعدل. يدين الشعوب بالاستقامة. ويكون الرب ملجأ للمنسحقين، ملجأ في أزمنة الضيق« (آيتا 8، 9). محكمة الله عادلة بلا تحيُّز. وعدالة الله تنبّه الخاطئ ليتوب، كما تطمئن المؤمن المتضايق ليتَّكل على الرب البار العادل، الذي ينقذ المسكين من يد ظالمه.
سحق إبليس المظلومين بالخطية والعصيان. والخطية هي السيد القاسي الذي لا يرحم، و»كل من يفعل الخطية هو عبد للخطية« (يو 8: 34). ويسحق الخطاة إخوتهم من البشر، لأن إبليس ينفّذ ما يريد بواسطة من يتبعونه.
والملجأ من الخطية، ومن الضيق والظلم هو الرب الحصن والقلعة، الذي يحمي من الخطية ومن الهجوم الشرس ومن مكائد الشرير. الرب نفسه هو الملجأ »اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصدّيق ويتمنّع« (أم 18: 10). قال بطرس للمسيح: »يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك« (يو 6: 68).
2 – وصفان للمؤمن:
(أ) يعرف اسم الرب: »يتَّكل عليك العارفون اسمك« (آية 10أ). عرف المؤمن الرب مخلّصاً وفادياً من الإعلانات الإلهية، فآمن بالإعلان الإلهي واتكل عليه واثقاً. عرفه يكفّر عن ذنوبه بدم المسيح حمل الله، الذبح العظيم »الذي أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته. الذي لنا فيه الفداء، بدمه غفران الخطايا« (كو 1: 13، 14). وهذه هي المعرفة الخلاصية. وعرفه معرفة من نوعٍ آخر، هي معرفة عنايته. اختبره في وقت الضيق فعرف أنه القاضي العادل. وأنشأ هذا الاختبار في المؤمن مزيداً من الإيمان، جعله يتكل أكثر على الرب. وهكذا تستمر حياة المؤمن من اختبار إلى اختبار أكبر، ومن إيمان إلى إيمان أقوى. عندها »يتـكل عليك العارفـون اسمـك« ويقولـون: »لأني عالمٌ بمن آمنت« (2تي 1: 12).
(ب) يطلب الرب: »لأنك لم تترك طالبيك« (آية 10ب). »أما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير« (مز 34: 10). »ويفرح بك جميع طالبيك« (مز 40: 16) »الأشرار لا يفهمون الحق، وطالبو الرب يفهمون كل شيء« (أم 28: 5).
يطلب المؤمن الرب لأنه يثق في حبه، وأنه يفتش عليه لأنه سبق أن فتّش عليه حتى وجده. قال المسيح: »الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني. والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه وأُظهر له ذاتي .. إن أحبني أحدٌ يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً« (يو 14: 21، 23).
رابعاً – تسبيح
(آيتا 11، 12)
ويختم الجزء الأول من المزمور بالتسبيح في الآيتين 11، 12. بعد أن فاض قلبه بالشكر يشجع الآخرين على الانضمام إليه في التسبيح. وهو يسبح الرب على أربعة أمور:
1 – لأن الرب يسكن وسط شعبه: »رنموا للرب الساكن في صهيون« (آية 11أ). وصهيون (معناها الحصن) وهي العاصمة السياسية والدينية. وهذا يعني أن أمورنا الدينية والدنيوية تهمُّ إلهنا، وهو ساكن وسط شعبه، يقبل عبادتهم ويسمع صلواتهم ويدبر احتياجاتهم.
2 – لأن المؤمنين يتحاكون بعمله: »أًخبِروا بين الشعوب بأفعاله« (آية 11ب). »بشروا من يومٍ إلى يومٍ بخلاصه. حدِّثوا بين الأمم بمجده، بين جميع الشعوب بعجائبه، لأن الرب عظيم وحميدٌ جداً« (مز 96: 2-4).
3 – لأنه عادل: »لأنه مُطالِبٌ بالدماء« (آية 12أ). فقد سأل قايين يوم قتل هابيل أخاه: »ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخٌ إليّ من الأرض« (تك 4: 10). وستنعقد محكمة العدل الإلهي في يوم القضاء لتنتقم للشهداء من قاتليهم الأشرار.
4 – لأنه لا يهمل أحداً: »ذَكَرَهم. لم ينْسَ صراخ المساكين« (آية 12ب). »هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساك« (إش 49: 15). »أليس عصفوران يُباعان بفلس؟ وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم!.. فلا تخافوا، أنتم أفضل من عصافير كثيرة« (مت 10: 29، 31).
يا طالبي الرب ويا محبّيه، لنشكر الرب ولنسبحه دائماً.
الجزء الثاني
(آيات 13-20)
يشبه الجزء الثاني من المزمور جزءه الأول، غير أن المرنم يستبدل التسبيح والحمد بالصلاة والطلب. والصلاة هي الميناء الذي يلجأ إليه كل من كادت سفينة حياته أن تتحطم من الأمواج، وهي العكاز القوي الذي يستند عليه كل من يوشك أن يتهاوى أو يسقط، وهي أضمن وسيلة للحصول على البركات وعلى استمرارها.
أولاً – صلاة
(آيتا 13، 14)
»ارحمني يا رب. انظر مذلتي من مبغضيّ، يا رافعي من أبواب الموت. لكي أُحدّث بكل تسابيحك في أبواب ابنة صهيون، مبتهجاً بخلاصك« (آيتا 13، 14).
1 – سيظل العدو يهاجم المؤمن: في الجزء الأول سبّح المرنم الرب لأنه نجّاه من أعدائه وأتمَّ له النصر. لكن العدو لا بد سيعود ليهاجمه من جديد، فإبليس وجنوده لا يهدأون ولا يخجلون. لذلك يعاود المؤمن المنتصر الصلاة. لقد لجأ إلى باب الرب عندما هاجم الشرير بابه، فانصرف الشرير مؤقتاً، ولكن المؤمن بقي واقفاً أمام باب الرب طالباً نجاةً جديدة، وعينه تنظر بشكرٍ إلى النجاة السابقة! وسيظل المؤمن يصلي صلاة طلبٍ حتى آخر يوم في حياته، وهو يذكر قول المسيح: »لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً« (يو 15: 5).
2 – سيظل المؤمن يشهد لنعمة الله: فهو يعلم أن أبواب الجحيم لن تقوى عليه (مت 16: 18) بفضل الرب الذي يرفعه من أبواب الموت، فيشهد للرب ويسبّحه في أبواب المدينة، مبتهجاً بخلاصه. رفعه الرب من أبواب الموت ليرفع هو غيرَه إلى أبواب الحياة. والله ينجينا لنخبر بفضائله، فيجد غيرُنا طريقَ النجاة معنا.
3 – هناك مفارقة بين »أبواب الموت« (آية 13) و»أبواب ابنة صهيون« (آية 14). يقول المرنم: »يا رافعي من أبواب الموت« ثم يقف في »أبواب ابنة صهيون«. باب الموت مظلم وحزين، أما باب العبادة فهو باب الحياة والاطمئنان والنجاة والفرح والنور، بفضل نعمة الرب.
نقل الرب المرنم من الظلمة إلى النور ومن الموت إلى الحياة (يو 5: 24 و1يو 3: 14) فأخذ المرنم يحدّث بكل تسابيح الرب. وهذا ما يحدُث مع كل من يرجع إلى الرب تائباً، كما رجع الابن الضال، فقال أبوه عنه: »ابني هذا كان ميّتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجد« (لو 15: 24، 32).
ثانياً – الله قضى بالعدل على الشرير
(آيتا 15، 16)
»تورَّطت الأمم في الحفرة التي عملوها. في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم. معروفٌ هو الرب. قضاءً أمضى. الشرير يَعْلَق بعمل يديه« (آيتا 15، 16).
قضى الشرير على نفسه، وقضى الله عليه. تورَّط في الحفرة التي حفرها، ووقع في الفخ الذي أخفاه. وهكذا تحقق أن الرب »أمضى قضاءً« ونفَّذه، فهو معروف بعدالة أحكامه. أظهر الرب نفسه وأصدر القضاء، وعَلَق الشرير وأُخذ بما ارتكبت يداه.
ويقول المرنم: »معروفٌ هو الرب«. معروف بمحبته وعدله. المحبة لمن يتوب، والعدالة لمن يتمادى في طريق شرّه ويرفض التوبة! وما أجمل ما قال الرسول بولس: »لأعرفه وقوة قيامته، وشركة آلامه متشبِّهاً بموته، لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات. ليس أني قد نلتُ، أو صرتُ كاملاً، ولكني أسعى، لعلي أدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع« (في 3: 10-12).
وهنا نقرأ »ضرب الأوتار. سلاه«. وهذه تعليمات لقائد جوقة الترنيم: فضاربو الأوتار يعزفون بقوة، ثم يسود سكوت (وهذا غالباً معنى كلمة سلاه)، ليجد المرنمون والسامعون فرصة للتفكير في المعاني السامية التي وردت في المزمور، ليعودوا يسمعون من جديد أن الله هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، نجَّى وسينجّي.
ثالثاً – الله سيقضي بالعدل وينجّي المؤمن
(آيتا 17، 18)
الله الذي نجّى ورنمنا له، وتوقَّفنا لنفكر في صلاحه، سينجّي. »الأشرار يرجعون إلى الهاوية، كل الأمم الناسين الله« (آية 17). الأمم أموات لأنهم ينسون الله (راجع آيتي 7، 8). ولكن »لا يُنسى المسكين إلى الأبد. رجاء البائسين لا يخيب إلى الدهر« (آية 18). أنت دائماً في ذاكرة الرب (راجع آيتي 9، 10).

رابعاً – صلاة
(آيتا 19، 20)
في الآيتين الأخيرتين صلاة فيها طلبتان:
1 – أن تنتصر مملكة الله: »قُم يا رب، لا يعتزّ الإنسان. لتُحاكَم الأمم أمامك« (آية 19). يظن الخاطئ أن الله خلق العالم ونسي أمره، فيتصرَّف وكأنه سيد الموقف، ويعتزّ بقوته وسلطانه. وقد يمارس قادة الدول أسلوب القمع والظلم والديكتاتورية وينسون أن فوق العالي عالياً يلاحظ، والأعلى فوقهما (جا 5: 8). والمرنم يطلب من الله أن يضع للظلم حدّاً، وأن ينصر العدل.
2 – أن يتوب الأشرار: »يا رب، اجعل عليهم رعباً ليعلم الأمم أنهم بشر« (آية 20). يرعبهم الله وهم يخطئون، فيدركون قدرة الله عليهم. ربما كان الرعب رعب مرض، أو رعب هزيمة، أو رعب تهديد من قوة أعلى. وإذ يرتعبون يدركون أنهم بشر مخلوقون من التراب وإلى التراب يعودون، فيتوبون ويرجعون إلى الله. ويقول الرب: »إني لا أُسرّ بموت الشرير، بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا. ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئة. فلماذا تموتون؟« (حز 33: 11).
اَلْمَزْمُورُ الْعَاشِرُ
1يَا رَبُّ، لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيداً؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ؟ 2فِي كِبْرِيَاءِ الشِّرِّيرِ يَحْتَرِقُ الْمِسْكِينُ. يُؤْخَذُونَ بِالْمُؤَامَرَةِ الَّتِي فَكَّرُوا بِهَا. 3لأَنَّ الشِّرِّيرَ يَفْتَخِرُ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ، وَالْخَاطِفُ يُجَدِّفُ، يُهِينُ الرَّبَّ. 4الشِّرِّيرُ حَسَبَ تَشَامُخِ أَنْفِهِ يَقُولُ: «لاَ يُطَالِبُ». كُلُّ أَفْكَارِهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ. 5تَثْبُتُ سُبُلُهُ فِي كُلِّ حِينٍ. عَالِيَةٌ أَحْكَامُكَ فَوْقَهُ. كُلُّ أَعْدَائِهِ يَنْفُثُ فِيهِمْ. 6قَالَ فِي قَلْبِهِ: «لاَ أَتَزَعْزَعُ. مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ بِلاَ سُوءٍ». 7فَمُهُ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَغِشّاً وَظُلْماً. تَحْتَ لِسَانِهِ مَشَقَّةٌ وَإِثْمٌ. 8يَجْلِسُ فِي مَكْمَنِ الدِّيَارِ، فِي الْمُخْتَفَيَاتِ يَقْتُلُ الْبَرِيءَ. عَيْنَاهُ تُرَاقِبَانِ الْمِسْكِينَ. 9يَكْمُنُ فِي الْمُخْتَفَى كَأَسَدٍ فِي عِرِّيسِهِ. يَكْمُنُ لِيَخْطُفَ الْمِسْكِينَ. يَخْطُفُ الْمِسْكِينَ بِجَذْبِهِ فِي شَبَكَتِهِ 10فَتَنْسَحِقُ وَتَنْحَنِي وَتَسْقُطُ الْمَسَاكِينُ بِبَرَاثِنِهِ. 11قَالَ فِي قَلْبِهِ: «إِنَّ اللهَ قَدْ نَسِيَ. حَجَبَ وَجْهَهُ. لاَ يَرَى إِلَى الأَبَدِ».
12قُمْ يَا رَبُّ. يَا اللهُ ارْفَعْ يَدَكَ. لاَ تَنْسَ الْمَسَاكِينَ. 13لِمَاذَا أَهَانَ الشِّرِّيرُ اللهَ؟ لِمَاذَا قَالَ فِي قَلْبِهِ: «لاَ تُطَالِبُ»؟ 14قَدْ رَأَيْتَ. لأَنَّكَ تُبْصِرُ الْمَشَقَّةَ وَالْغَمَّ لِتُجَازِيَ بِيَدِكَ. إِلَيْكَ يُسَلِّمُ الْمِسْكِينُ أَمْرَهُ. أَنْتَ صِرْتَ مُعِينَ الْيَتِيمِ. 15اِحْطِمْ ذِرَاعَ الْفَاجِرِ، وَالشِّرِّيرُ تَطْلُبُ شَرَّهُ وَلاَ تَجِدُهُ. 16الرَّبُّ مَلِكٌ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. بَادَتِ الأُمَمُ مِنْ أَرْضِهِ. 17تَأَوُّهَ الْوُدَعَاءِ قَدْ سَمِعْتَ يَا رَبُّ. تُثَبِّتُ قُلُوبَهُمْ. تُمِيلُ أُذْنَكَ 18لِحَقِّ الْيَتِيمِ وَالْمُنْسَحِقِ، لِكَيْ لاَ يَعُودَ أَيْضاً يُرْعِبُهُمْ إِنْسَانٌ مِنَ الأَرْضِ.

يا رب، لماذا تقف بعيداً؟
هذا المزمور بلا عنوان، لا نعرف من كتبه، ولا مناسبة كتابته، فهو ترتيلة كل إنسان متعَب مضطهَد في كل عصر. إنه صرخة نفس تعاني وتسأل الله: لماذا كل هذا الضيق؟ لماذا تترك الشرير يفعل ما يشاء؟ ثم تصرخ طالبة الإنقاذ والخلاص. وقد جاء هذا المزمور في الترجمة السبعينية وفي ترجمة القديس إيرونيموس المعروفة بـ «الفولجاتا» تكملة للمزمور التاسع، ولكن التوراة العبرانية اعتبرته مزموراً مستقلاً.
في هذا المزمور نجد:
أولاً: المضطهد يسأل: لماذا؟ (آيتا 1، 2)
ثانياً: صفات الشرير وأعماله (آيات 3-11)
ثالثاً: المضطهد يصلي (آيات 12-15)

أولاً – المضطهد يسأل: لماذا؟
(آيتا 1، 2)
كثيراً ما يظن المؤمن المتألم أن الله يقف بعيداً وكأنه يختفي، فلم يعُد عوناً في الضيقات. ولا شك أن الصُحبة الإلهية هي أعظم مصدر للفرح، كما أن الشك فيها يزعج النفس. وفي حالة الانزعاج هذه صرخ المرنم: «يا رب، لماذا تقف بعيداً؟ لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟ في كبرياء الشرير يحترق المسكين. يؤخذون بالمؤامرة التي فكروا بها» (آيتا 1، 2).
1 – ليس هذا سؤال حب استطلاع: فالمرنم لا يريد أن يعرف أسرار الإرادة الإلهية، لأنه لا يستطيع أحد أن يدرك كل شيء عنها. قال سليمان الحكيم: «مجد الله إخفاء الأمر، ومجد الملوك فحص الأمر» (أم 25: 2). فالملك الأرضي يريد أن يعرف كل شيء، أما الملك السماوي فإنه لفرط محبته لنا يخفي الأمور عنا حتى لا نضطرب.
2- ليس هذا سؤال تذمُّر: لأنه يثق أن الله هو الملك الذي يحبه، وله قصد صالح في كل ما يفعله أو يسمح بحدوثه. قد يقع الإنسان في مكان خطير بين بحرين، في سفينة تكاد تتفسخ من عنف الأمواج (أع 27: 41). لكن الرب يشجعه بقوله: «لا تخف» فإننا «نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله، الذين هم مدعوون حسب قصده» (رو 8: 28). و«إن كان يجب تُحزنون يسيراً بتجارب متنوعة» (1بط 1: 6). «ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 37). «قولوا للصديق خير» (إش 3: 10).
3- ليس هذا سؤال يائس: فالمرنم يدرك أن الله حي وموجود، ولا بد سيخلص المستنجدين به. صحيحٌ أن الشرير يقول إن الله لا يرى ولا يطالب، لكن المرنم يقول إن عيني الرب مفتوحتان، وإن أذنيه مصغيتان. ولو لم يكن متأكداً من ذلك ما لجأ إلى الله يقول: «لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟».
4- لكن سؤال حائر يحب الرب: لماذا تقف بعيداً عن وقت الاحتياج؟ لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟». وفي حزنه يقول: «في كبرياء الشر يحترق المسكين». ويطلب العدالة الإلهية إذ يُؤخذ الأشرار «بالمؤامرة التي فكروا بها». وهذه نتيجة طبيعية لكل شرير يحفر حفرة لغيره فيسقط فيها.
ثانياً – صفات الشرير وأعماله
(آيات 3- 11)
تصف هذه الآيات شخصية الشرير وأعماله:
1- الشرير يفتخر بخطاياه: «لأن الشرير يفتخر بشهوات نفسه، والخاطف يجدِّف. يُهين الرب. الشرير حسب تشامخ أنفه يقول: لا يطالب. كل أفكاره إنه لا إله» (آيتا 3، 4). يزهو الشرير بأطماعه بدون خجل، ولا يحاول أن يخفيها، ويفتخر بأنه يحصل على كل رغباته، سواء توافقت سبُل الحصول عليه مع المشيئة الإلهية أو تعارضت! وهذا تجديف على الله سبحانه، يصفه النبي بالقول: «لأنهم رذلوا شريعة رب الجنود، واستهانوا بكلام قدوس إسرائيل» (إش 5: 24). الشرير حسب تشامخ أنفه يقول إن الله لا يطالب، وبخياله المريض يظن أنه لا يوجد إله يطالب بدفع أجرة خطيته. ولكن المكان الوحيد الخالي من الحضور الإلهي هو فكر الجاهل الذي يقول «ليس إله» (مز 14: 1). الله موجود يطالب بالدماء، لم ينسَ صراخ المسكين (مزمور 9: 12). ولا بد أن يعاني هذا الشرير بسبب شره وكبريائه.
2- الشرير يثق في قدراته: «تثبُت سبُله في كل حين. عالية أحكامك فوقه. كل أعدائه ينفُث فيهم. قال في قلبه: لا أتزعزع . من دور إلى دور بلا سوء» (آيتا 5، 6). عندما تتحقق مكائد الشرير ومقاصده يفتخر، ولا يخاف الله ولا يهاب إنساناً. ويتساءل النبي عن مثل هذا الشرير الواثق في قدراته: «لماذا تنجح طريق الأشرار؟ اطمأنَّ كل الغادرين غدراً. غرستهم فأصلوا. نموا وأثمروا ثمراً. أنت قريب في فمهم وبعيد عن كُلاهُم (قلوبهم)» (إر 12: 1، 2). ينفث الشرير في كل أعدائه بتجبُّر وكبرياء، كما يتوعَّد الذين يقدمون له النصيحة المخلصة، ويهاجم من يختلفون معه كما كان شاول الطرسوسي ينفث تهدُّداً وقتلاً على تلاميذ الرب (أع 9: 1). ومع أن أحكام الله عالية فوق الشرير إلا أنه لا يراها بسبب عمى قلبه، فيقول: لا أتزعزع. من دور إلى دور بلا سوء. وكأنه ضمن حاضره ومستقبله. إنه يردد قول المؤمن المعتمد على الرب الواثق في نعمته، ولو أنه يقوله واثقاً في قدراته وإمكانياته وموارده من مال وصحة وعائلة وعلم وعلاقات اجتماعية. ولما كان الله لا يعاقب الخاطئ فور ارتكاب خطيته، فإنه يظن أنه ناجٍ بشروره. مع أن الله يطيل أناته عليه ليتوِّبه (رو 2: 4).
3- الشرير يظلم المسكين: (آيات 7-10)
(أ) يظلمه بالكلام ضده: «فمه مملوء لعنة وغشاً وظلماً. تحت لسانه مشقةٌ وإثم» (آية 7). كلام الغش والظلم في فم الشرير كلقمة حلوة يستمتع بها ويتذوقها بتلذُّذ. قال الحكيم وصفاً لمثل هذا الشرير: «فم الأشرار يبلع الإثم» (أم 19: 28). وقال أليفاز التيماني: «الشارب الإثم كالماء» (أي 15: 16). ويقدم الرسول بولس الصورة نفسها في رومية 3: 14.
(ب) يظلمه بالهجوم عليه: «يجلس في مكمن الديار. في المختفيات يقتل البريء. عيناه تراقبان المسكين» (آية 8). عن مثل هذا الشرير يقول النبي: «ويلٌ للمفتكرين بالبُطل، والصانعين الشر على مضاجعهم. في نور الصباح يفعلونه لأنه في قدرة يدهم. فإنهم يشتهون الحقول ويغتصبونها، والبيوت ويأخذونها، ويظلمون الرجل وبيته، والإنسان وميراثه» (ميخا 2: 1-3). ويقدم لنا سليمان الحكيم صورة للشرير قاطع الطريق في أمثال 1: 10-18.
(ج) يظلمه بالكيد له: «يكمن في المختفي كأسدٍ في عريسه (عرينه). يكمن ليخطف المسكين. يخطف المسكين بجذبه في شبكته» (آية 9).
(د) يظلمه بإذلاله: «فتنسحق وتنحني وتسقط المساكين ببراثنه (في قبضته) (آية 10). كل ضحايا الشرير من المساكين الذين لا يجدون من يدافع عنهم. لمثل هؤلاء جاء المسيح ببيانه الرسمي «روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين.. » (لو 4: 18، 19).
4- الشرير يستمر في ضلاله: قال في قلبه: إن الله قد نسى. حجب وجهه، لا يرى إلى الأبد» (آية 11). لقد ارتكب الشر ولم يعاقبه الله فوراً. فظن أن الله يهمل، أو أنه نسي، أو أنه لا يرى. ولكن الله يقول: «أُعاقب.. القائلين في قلوبهم: إن الرب لا يُحسن ولا يُسيء» (صف 1: 12)
ثالثاً – المضطهَد يصلي
(آيات 12-15)
1- في الصلاة طلب: (آية 12)
(أ) يطلب تحرُّك الرب: «قُم يا رب» (آية 12أ). قال الشرير إنه لا يتزعزع (آية 6) وهو لا شك مخطئ. ويطلب المرنم من الرب أن يبرهن له خطأه، بأن يقوم ويرفع يده وينصفه.
(ب) يطلب إنصاف الرب: «يا الله ارفع يدك» (آية 12ب). يظن الشرير إن يدي الرب مغلولتان وأنه لا يطالب بحقوق المظلومين (آية 4). ويطلب المرنم من الرب أن يرفع يده وينصفه، ويقول مع النبي: «استيقظي، استيقظي. البسي قوة يا ذراع الرب. استيقظي كما في أيام القِدَم، كما في الأدوار القديمة» (إش 51: 9).
(ج) يطلب أن يذكره الرب: «لا تنْسَ المساكين» (آية 12ج). قال الشرير إن الرب ينسى وقد حجب وجهه، ولا يرى إلى الأبد (آية 11). ويطلب المرنم من الرب أن يذكره في مراحمه ولا ينساه لأنه مسكين.
2- في الصلاة تساؤل: «لماذا أهان الشرير الله؟ لماذا قال في قلبه (إنك يا رب) لا تطالب؟» (آية 13). لم يوجِّه الشرير إهانة للمرنم، لكنه وجهها للرب. وهو يتساءل مع النبي: «لِمَ تريني إثماً وتبصر جوراً؟» (حب 1: 3).
3- في الصلاة انتظار: قد رأيت، لأنك تبصر المشقَّة والغمَّ لتجازي بيدك. إليك يُسلّم المسكين أمره. أنت صرت معين اليتيم. احطِم ذراع الفاجر، والشرير تطلب شرَّه ولا تجده» (آيتا 14، 15). ينتظر المرنم أن يرى الله متاعبه، مع أن الشرير يقول إن الله لا يرى. لله عينٌ ترى حاجة أولاده، وله يد تنصفهم وتعاقب مضطهديهم. ولا يعتمد انتظار المؤمن على الأشياء المنظورة، بل على صلاح الله الذي لا يعتريه تغيير. وينتظر المرنم أن يفعل الرب أمراً، فيجازي البار حسب بره والشرير حسب شره، ويمد يده الإلهية ويتدخل لصالحه، وهذا الانتظار الواثق يشجع المرنم المسكين على تسليم أمره لصانع الحق والعدل، فالرب معين اليتيم، به «يُرحَم اليتيم» (هو 14: 3). وعندما تحاصر المظالم المؤمن نقول له «قولوا للصديق خير، لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم. ويلٌ للشرير شر، لأن مجازاة يديه تُعمل به» (إش 3: 10، 11)
وينتظر المرنم أن يعاقب الله الشرير حتى يعجز عن إيقاع الأذى بالأبرياء، ويطلب أن يحطم الرب ذراع الفاجر، فيتوقف فجوره. ثم يطلب أن يتوقف شر الشرير فيكون كأنه لم يكن. «تطلب شره (لتعاقبه) فلا تجده».
رابعاً – المضطهد يطمئن
(آيات 16-18)
1- يطمئن لأن الرب صاحب السلطان: «الرب ملك إلى الدهر والأبد. بادت الأمم من أرضه» (آية 16). «لأن الرب يعلم طريق الأبرار، أما طريق الأشرار فتهلك» (مز 1: 6). وقال المسيح: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 28: 18) ثم أصدر تكليفه لتلاميذه أن يتلمذوا جميع الأمم، فتنتهي «أمميَّتهم» وبُعدهم عن الله، وتنفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور،ومن سلطان الشيطان إلى الله حتى ينالوا بالإيمان بالمسيح الفادي المخلص غفران الخطايا ونصيباً مع المقدَّسين (أع 26: 18). أما الذين يرفضون الرجوع فيهلكون في خطاياهم.
لقد أقام الرب الحكام ليقضوا للمظلومين ويعاقبوا الظالمين، ولا بد أن يفعل هو الشيء نفسه، وهو «يعزل ملوكاً وينصب ملوكاً» (دا 2: 21) لأنه وحده صاحب السلطان في الأرض.
2- يطمئن لأن الرب يسمع: «تأوُّه الودعاء قد سمعتَ يا رب. تثبّت» (آية 17أ، ب). إنه لا يسمع صراخ الوديع فقط، لكنه يسمع حتى تأوُّه وأنين قلبه، فهو سامع الصلاة الذي إليه يأتي كل بشر. وهو يُميل أذنه إليه، كما تُميل الأم أذنها إلى طفلها وتنحني عليه بحب وتحنو عليه بعطف، بسبب صغر قامة الصارخ وصغر نفسه. ثم يثبت قلب الخائف في الإيمان بمحبة الرب ويمنحه نعمة الاعتماد عليه، فلا يعود يرتاب في عدالة الله.
3- يطمئن لأن الرب يُنصف: «تُميل أذنك لحق اليتيم والمنسحق، لكي لا يعود أيضاً يرعبهم إنسان من الأرض» (آيتا 17ج و18). وهو اطمئنان يشمل الحاضر والمستقبل، من عند الذي يقول: «ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20). وهو إنصاف من «إنسان من الأرض» مخلوق من تراب، ولا بد يرجع إلى التراب. ويقول الله لجماعة المؤمنين: «أنا أنا هو معزيكم. من أنتِ حتى تخافي من إنسان يموت، ومن ابن الإنسان الذي يُجعل كالعشب؟» (إش 51: 12)
إجابات للسؤال: لماذا؟
في نور العهد الجديد نقدم بعض الإجابات للتساؤل الذي افتتح به المرنم مزمور: «يا رب، لماذا تقف بعيداً؟ لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟».. والإجابة الصحيحة دائماً هي أن الله يُجري كل شيء لخيرنا، حتى أننا نفتخر في الضيقات «عالمين أن الضيق ينشئ صبراً، والصبر تزكية (الامتحان الذي يختبر نوعية المؤمن)، والتزكية رجاء، والرجاء لا يُخزي، لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا» (رو 5: 3-5).
1- يستخدم الله الضيق لخيرنا الروحي: لأنه يجعلنا نتذكر خطايانا وبُعدنا عن طاعة الله، فنفحص أمانتنا معه ومدى عمق علاقتنا به. لقد ألقى الملك نبوخذنصر الفتية الثلاثة في أتون النار، ففك الله قيودهم، فأخذوا يتمشون محلولين منها، ولم تكن للنار قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغير، ورائحة النار لم تأتِ عليهم (دانيال 3: 23، 25، 27). ونحن عندما نمر في ضيقة قد نصرخ: «لماذا تقف بعيدا؟» ولكننا ندرك أن الله لن يتركنا، بل يعمل على ما يقطع القيود التي تربطنا بالخطية، فنلقي اعتمادنا عليه.
2- يستخدم الله الضيق ليخلص النفوس: يجذبها إلى حظيرة محبته. قاسى المسيح من الخطاة ليخلصهم، فقال على الصليب: «إلهي إلهي، لماذا تركتني» (مت 27: 46). ولكن هذه المعاناة تممت الخلاص للبشر. وأنت عندما تتضايق، تدرك أن الله معك في الضيق، وتعرف أن كل الأشياء تعمل معاً للخير لأنك تحب الله، فتعتمد على نعمته، وتكون في سلام، يراه البعيدون عن الله، فيسألونك عن سبب الرجاء الذي فيك، فتجيبهم، وبهذا تربحهم لمن منحك سلامه الذي يفوق كل عقل. وهذا مما حدث مع الفتية الثلاثة في الأتون، فقال الملك: «ليس إلهٌ آخر يستطيع أن ينجي هكذا» (دا 3: 29).
3- يستخدم الله الضيق لمجده: لأن الضيق يخلق منا أشخاصاً أكثر نضوجاً. المؤمن الذي يتألم كأيوب ويثبت في محبته لله، يبرهن على أنه لم يعبد الله لخيرٍ منحه له، بل لأن الله يستحق العبادة والحب، سواء منح أم منع. «الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركاً» (أي 1: 21). «في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 37) ويرى البعيدون عن الله فينا أن محبتنا لله تقبلت منه بالشكر كل ما أعطى، عالمين صدق وعده: «لا أهملك ولا أتركك، حتى أننا نقول واثقين: الرب معين لي فلا أخاف. ماذا يصنع بي إنسان؟» (عب 13: 5، 6).
وما أجمل ما قال جيرمي تيلور: «الله رحيم وحكيم، فلا يسمح بكل هذا الألم أن يقع على القديسين إلا لأن يكون الألم مدرسة للفكر، ومشتلاً للفضيلة، وتدريباً للحكمة، وتمريناً على طول الأناة، وإعداداً لإكليل، وبوابة للمجد».
اَلْمَزْمُورُ الْحَادِي عَشَرَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ
1 عَلَى الرَّبِّ تَوَكَّلْتُ. كَيْفَ تَقُولُونَ لِنَفْسِي: «اهْرُبُوا إِلَى جِبَالِكُمْ كَعُصْفُورٍ»؟ 2لأَنَّهُ هُوَذَا الأَشْرَارُ يَمُدُّونَ الْقَوْسَ. فَوَّقُوا السَّهْمَ فِي الْوَتَرِ لِيَرْمُوا فِي الدُّجَى مُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ. 3إِذَا انْقَلَبَتِ الأَعْمِدَةُ، فَالصِّدِّيقُ مَاذَا يَفْعَلُ؟
4اَلرَّبُّ فِي هَيْكَلِ قُدْسِهِ. الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ. عَيْنَاهُ تَنْظُرَانِ. أَجْفَانُهُ تَمْتَحِنُ بَنِي آدَمَ. 5الرَّبُّ يَمْتَحِنُ الصِّدِّيقَ، أَمَّا الشِّرِّيرُ وَمُحِبُّ الظُّلْمِ فَتُبْغِضُهُ نَفْسُهُ. 6يُمْطِرُ عَلَى الأَشْرَارِ فِخَاخاً نَاراً وَكِبْرِيتاً وَرِيحَ السَّمُومِ نَصِيبَ كَأْسِهِمْ. 7لأَنَّ الرَّبَّ عَادِلٌ وَيُحِبُّ الْعَدْلَ. الْمُسْتَقِيمُ يُبْصِرُ وَجْهَهُ.
إذا انقلبت الأعمدة!
الأغلب أن داود كتب هذا المزمور أثناء محاولات شاول المتعددة ليقتله، مرة برمحه وأخرى بحربته، ثم بتدبير المكائد العديدة للإيقاع به. فنصح الأصدقاء داود أن يهرب إلى المنطقة الجبلية من أرض يهوذا لينجو من الشر الذي يهدده لو بقي حيث كان. لكن داود رفض النصيحة، ولو أنها منطقية ومخلصة، وقال: »على الرب توكلت«. كان يرى له خدمة في وسط شعبه، فهو مسيح الرب الممسوح لأداء خدمة خاصة، فلم يشأ أن ينجي نفسه على حساب قضيته. إنه صاحب رسالة لا يشاء أن يدافع عن نفسه ويهمل الدفاع عن رسالته، فرفض فكرة أصدقائه وقال: »كيف تقولون لنفسي: اهربوا إلى جبالكم كعصفور؟« (آية 1). وختم المزمور بقوله: »المستقيم يبصر وجهه« (آية 7) في الأرض والسماء، في الحياة الحاضرة والآتية.
وقد وقف نحميا موقفاً مشابهاً لموقف داود هذا بعد عودته من أرض السبي، وبدأ يبني أسوار أورشليم، فثار الأعداء ضده وأخذوا يسخرون منه، ولكنه صلى: »الآن يا إلهي شدّد يديَّ« (نح 6: 9). ونصح شمعيا نحميا أن يدخل الهيكل ويغلق أبوابه لأن الأعداء قادمون ليلاً ليقتلوه، فرفض نحميا وقال: »أَرَجُلٌ مثلي يهـرب؟ ومَن مثلي يدخـل الهيكل فيحيا؟ لا أدخـل!« (نح 6: 11) لأنه كان يعلـم أن أعداءه سيدخلون الهيكل ويقتلونه، لو أن الرب أسلمه إلى يدهم. فكيف يحمي سلامته على حساب سلامة رسالته؟ لو أنه فعل فسيُهلك نفسه ويعطل رسالته.
ووقف المسيح نفس الموقف، فقد نصحوه أن يترك مكانه الخطِر إلى مكان أكثر أمناً وقالوا له: »اخرُج واذهب من ههنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك«. فأجاب: »امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أُخرِج شياطين وأشفي اليوم وغداً، وفي اليوم الثالث أُكمَّل. بل ينبغي أن أسير اليوم وغداً وما يليه، لأنه لا يمكن أن يَهلك نبيٌّ خارجاً عن أورشليم« (لو 13: 31-33).
كانت كلمات أصدقاء داود منطقية من وجهة النظر البشرية. غير أن داود رأى بُعداً أعمق مما رآه أصدقاؤه: رأى من لا يُرى. رأى الله من وراء كل هذه المواقف الصعبة، فنبّه أصدقاءه إلى أن الله موجود يحمي أولاده. كان داود متأكداً أن العصفور الصغير ليس وحيداً بلا سند، وكان يسمع الله يقول له: »لأنك قلتَ: أنت يا رب ملجإي، جعلتَ العليَّ مسكنك، لا يلاقيك شر« (مز 91: 9، 10).
يكشف هذا المزمور لنا البطولة الإيمانية وسط جوٍّ من الحيرة الأخلاقية والنصائح البشرية، ويرينا المؤمن الثابت في أداء واجبات دعوته الإلهية، والذي لا يعاند الرؤية السماوية. وصدق الشاعر العربي: »إذا كانت النفوس كباراً، تعبت في مرادها الأجسام«.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – تحذيرات للبطل (آيات 1-3)
ثانياً – ثبوت البطل (آيات 4-6)
ثالثاً – البطل يبصر وجه الله (آية 7)
أولاً – تحذيرات للبطل
(آيات 1-3)
في الآية الأولى نصح الأصحاب داود أن ينفض يده من قضيته بحُجَّة أن النصر مستحيل عليه، وأن الخطر مُحدقٌ به. واقترحوا عليه أن يتوارى عن أرض النضال وأن يضع سلامته قبل مصلحة قضيته، وقالوا له: »اهربوا إلى جبالكم كعصفور« فليس للعصفور الصغير قدرة على مواجهة الصقور، ولا نبال الصياد، فلا ملجأ له إلا الفرار. وبرروا نصيحتهم هذه بسببين:
1. الأشرار على وشك أن يقتلوه: »هوذا الأشرار يمدّون القوس. فوَّقوا السهم في الوتر ليرموا في الدُّجى مستقيمي القلوب« (آية 2). شدّوا القوس، وفي الظلام سدّدوا سهمهم على الوتر ليرموا داود المستقيم القلب. آلات هجومهم جاهزة، وقد احتلّوا مواقعهم ليقتلوه. إنهم يعلمون أن قلبه مستقيم، ولكنهم يريدون أن يرموه بسهمهم في الظلام لأنهم لا يملكون شجاعة المواجهة. والكلمة العبرية المترجمة هنا »دُجى« يمكن أن تُترجم »في القلب«. فهم يريدون أن يرموه في قلبه بسهم ليتأكدوا من هلاكه. لذلك ينصحه أصحابه بالفرار إلى جبال أرض سبط يهوذا. غير أن داود كان يحمل ترس الإيمان الذي به يقدر أن يطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة (أف 6: 16).
2. العدالة غائبة عن البلد: »إذا انقلبت الأعمدة، فالصديق ماذا يفعل؟« (آية 3). حذّر الأصحاب داود من نجاح مكائد الأشرار، لأن أعمدة العدالة في مملكة الملك شاول انقلبت، حتى أنه يريد أن يقتل داود. لم تعد هناك عدالة ولا حق، وكبار الرجال (الأعمدة) الذين كان يمكن أن يعتمد داود عليهم للوقوف في وجه الشر ولحمايته غير موجودين، فلم يبقَ للبار أمان. حتى الأبرار لم يعودوا يساندون قضيتهم. فالنصيحة هي: »لا أمل. توقف عن عمل البر، واهرب«. غير أن داود كان قد وجد إجابة السؤال: ماذا يفعل الصدِّيق؟ لأنه كان يضع ثقته في عدالة السماء التي لا تنهزم، فقرر أن يتحدى الأخطار. لقد واجه جليات الجبار بعصا ومقلاع وخمسة حجارة مُلس (1صم 17: 40) وانتصر. فما الذي يمنع تكرار الانتصار بفضل الرب العظيم؟ هذا ما يجب أن يفعله الصدِّيق.
في مرات كثيرة يقدّم لنا أصدقاؤنا نصائح من قلبٍ مخلص، ولكن بفكرٍ مخطئ. ينصحوننا أن نهجر طريق الطاعة لأنه ضيق وعر، وأن نسير في الطريق الواسع السهل الذي يبدو أنه يتّجه بنا إلى أعلى. عندما أعلن المسيح أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل، وبعد ثلاثة أيام يقوم، أخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره ويقول: لا نريدك أن تموت. لماذا تذهب إلى أورشليم ليقتلوك؟ لماذا تعرّض حياتك للخطر؟.. وفي كلام بطرس منطق، لكنه عكس ما جاء المسيح ليقوم به. فانتهر المسيح بطرس وقال له: »اذهب عني يا شيطان لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس« (مر 8: 33). بالمنطق الإنساني كان بطرس مُحقّاً في حبه وغيرته، لكن هذه الغيرة كانت جسدانية، لم يدرك معها بطرس البُعد الروحي لمجيء المسيح إلى أرضنا.
كثيراً ما نسمع نصيحة مثل نصيحة بطرس للمسيح، ونصيحة أصدقاء داود: »اهرب كعصفور«. وهي نصيحة تركز على الخطر، وعدم فائدة المقاومة، وحماقة التضحية بالذات في سبيل قضية يائسة، ولكنها تنسى المشيئة الإلهية والمسؤولية القيادية. فليحفظنا الله منها ويوقظنا لنوعيَّة تلك النصائح.
ثانياً – ثبوت البطل
(آيات 4-6)
سمع داود نصيحة أصحابه: »اهرب كعصفور«. لكنه كان واقفاً على صخر فقال: »على الرب توكلت«. ثم بدأ يوجّه أنظار أصدقائه إلى أن الذين معه أكثر من الذين عليه (2مل 6: 16). وأن الذي فيهم أعظم من الذي في العالم (1يو 4: 4). وهي حقائق لا بد تغيّر حكمهم.
1 – أعلن لهم حضور الرب: »الرب في هيكل قدسه« (آية 4أ). إنه حي حاضر وسط المؤمنين في هيكله المقدس، يسمع صلاتهم ويقبل عبادتهم ويرفعهم فوق ظروفهم القاسية. إنه يرسل لك عوناً من قدسه (مز 20: 2).
أمر الله كليمه موسى أن ينصب خيمة الاجتماع (مكان العبادة) وسط معسكر أسباط بني إسرائيل، وقال: »لأسكن في وسطهم« (خر 25: 8). ورأى يوحنا سبع منائر ذهبية ترمز للكنائس السبع، والمسيح في وسطها (رؤ 1: 13). وقال المسيح: »حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم« (مت 18: 20). فكيف يقولون لداود: اهرب إلى جبالك كعصفور، بينما الرب في هيكل قدسه؟
يعلّمنا العهد الجديد أن كل مؤمن هو هيكل للرب، والرب هو مركز حياة المؤمن، وحوله يجتمع المؤمنون. ولم يكن هناك وقت ترك الرب فيه جماعته، ولا هيكل قدسه.
2 – أعلن لهم عظمة الرب: »الرب في السماء كرسيُّه« (آية 4ب). الله موجود هنا معي، وموجود في السماء. هو صاحب كل سلطان في السماء وعلى الأرض. إنه الأعلى فوق كل قوة أرضية وشيطانية. هو صاحب العرش.
3 – أعلن لهم معرفة الرب: »عيناه تنظران. أجفانه تمتحن بني آدم« (آية 4ج) فهو يرانا ويعرف كـل شـيء عنـا »لأن عينـي الـرب تجـولان فـي كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه« (2أخ 16: 9). هو الذي لا ينعس ولا ينام (مز 121: 4).. لكن لماذا يقول »أجفانه؟« ألم يكن كافياً أن يقول »عيناه تنظران«؟ وللرد نقول: عندما يريد إنسان أن يتأمل منظراً، فإنه يحدق البصر فيه، وكأنه يشدّ جفنيه ليرى كل الصورة بوضوحٍ وتدقيق. إذاً عينا الرب تنظران، لكن أجفانه أيضاً تؤكد أنه يرى الموقف كله. عيناه كلهيب نار تخترقان أستار الظلام، تراقبان الصالح والطالح، لتنصف صاحب القضية، ولتنصر الحق.
4 – أعلن لهم برّ الرب: »الرب يمتحن الصدّيق، أما الشرير ومحبّ الظلم فتبغضه نفسه. يمطر على الأشرار فخاخاً. ناراً وكبريتاً وريح السَّموم نصيب كأسهم« (آيتا 5، 6). يمتحن الله الصدّيق البار ويعلن نجاحه ويقبله، أما الشرير فيمتحنه ويرفضه. لقد امتحن أهل سدوم وعمورة فلم يجد عشرة أشخاص صالحين، فأمطر عليهما كبريتاً وناراً من السماء (تك 19: 24). وامتحن خليله إبراهيم، فطلب منه أن يقدم ولده وحيده محرقة، فأطاع. وأجاز الله خليله بمرتبة الشرف وقال له: »أباركك مباركةً.. ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض، من أجل أنك سمعت لقولي« (تك 22: 15-18).. »الرب يمتحن الصدّيق« فإن الصعوبات امتحان إلهي، يكشف عمق حياة المؤمن الروحية، فيُخرج مثــل النـور بـرّه وحقّـه مثـل الظهيـرة (مز 37: 6). كمـا قـال أيوب: »إذا جرّبني أخرج كالذهب« (أي 23: 10). أما إبليس فيمتحن الصدّيق ليضيِّع إيمانه ويصيبه باليأس. ولا يسمح الله بامتحان الصدّيق إلا بعد أن يدرّبه ويقوّي عضلاته الروحية. ولا يقدر الأشرار أن يمدّوا أيديهم إليه إلا بمقدار ما يسمح الرب لهم بذلك. »أما الشرير ومحبُّ الظلم فتبغضه نفسه« ويوقفه عند حّده، حتى لا يتمادى فـي إيـذاء المؤمـن، كمـا فعـل مع هامـان الشريـر، فصلبـوه على الخشبـة التي أعـدَّهـا لمُردخـاي (أس 7: 10) فصارت »ريح السَّموم« نصيب هامان، وهي ريح عاصفة خانقة تهبُّ في صحراء شبه الجزيرة العربية تؤذي وتدمِّر. قد يتوقَّف رجل الدين عن عمل الصلاح، وقد يتخلّى الحاكم عن إقامة العدل. ولكن يبقى الله الحاكم العادل الذي يقول عنه المرنم: »على الرب توكلت«.
ثالثاً – البطل يبصر وجه الله
(آية 7)
»لأن الرب عادل ويحب العدل. المستقيم يبصر وجهه« (آية 7). وثق داود في عدل الرب الذي سيدافع عنه، ولن يتركه فريسة لأعدائه، بل لا بد أن يقاومهم ويهاجم شرورهم، ويبيد الظالمين، فيبقى فقط المستقيمون الصديقون الأبرار في محضر الله.
قال المسيح: »طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله« (مت 5: 8). وهي رؤيا روحية يتمتع بها صاحب القلب الذي نفض عنه ظلام الخطية والعصيان، فأشرق الرب عليه بنور وجهه (مز 4: 6) فيقول: »أما أنا فبالبرّ أنظر وجهك. أشبع إذا استيقظت بشبَهك« (مز 17: 15). وقد تساءل المرنم: »يا رب، من ينزل في مسكنك؟ من يسكن في جبل قدسك؟« وأجاب على السؤال الذي أثاره بقوله: »السالك بالكمال، والعامل الحق، والمتكلم بالصِّدق في قلبه« (مز 15: 1، 2).. هذا المستقيم وأمثاله يقولون عنـد مجـيء المسيـح ثانية: »نعلم أنه (المسيح) إذا أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو« (1يو 3: 2). وفـي الآخِـرة يتحقَّـق معـهم القـول: »وهـم سينظـرون وجهـه، واسمـه علـى جباههم« (رؤ 22: 4). إن الله يُسرُّ بالمستقيمين، وقد تصوَّر المسيح فيهم (غل 4: 19).
وأختم تأملات هذا المزمور بفكرتين:
1 – على المستقيمين أن يتوقّعوا المقاومة: لأن أفكارهم ونوعية حياتهم وسلوكهم تختلف مع الأشرار المحيطين بهم. وهذه المقاومة لا تدفعهم للخوف أو اليأس أو الهروب، بل تشجعهم على مقاومة الشر بالخير.
2 – على المستقيمين أن يكونوا نسوراً لا عصافير: نصح الأصدقاء داود أن يهرب كعصفور، لكنه قرر أن يكون نسراً يحلّق ويرتفع فوق الغيوم ليرى شمس البر في إشراقها، ويبصر وجه إلهه ويتمتع بمحضره، فتنتهي المقاومة المؤقَّتة بإشراق النصر الدائم.
دعونا في حبٍ للرب نُخضِع نفوسنا، فنعمل مشيئته، ليحقق قصده فينا فنبصر وجهه. ولنبقَ مجـاهديـن في سبيـل قضيـة ملكوتـه مهما كانـت الصعوبات، مقاومين إبليس راسخين في الإيمان (1بط 5: 9).

اَلْمَزْمُورُ الثَّانِي عَشَرَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى «الْقَرَارِ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1خَلِّصْ يَا رَبُّ لأَنَّهُ قَدِ انْقَرَضَ التَّقِيُّ، لأَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الأُمَنَاءُ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. 2يَتَكَلَّمُونَ بِالْكَذِبِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ صَاحِبِهِ، بِشِفَاهٍ مَلِقَةٍ بِقَلْبٍ فَقَلْبٍ يَتَكَلَّمُونَ. 3يَقْطَعُ الرَّبُّ جَمِيعَ الشِّفَاهِ الْمَلِقَةِ وَاللِّسَانَ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعَظَائِمِ، 4الَّذِينَ قَالُوا: «بِأَلْسِنَتِنَا نَتَجَبَّرُ. شِفَاهُنَا مَعَنَا. مَنْ هُوَ سَيِّدٌ عَلَيْنَا؟».
5«مِنِ اغْتِصَابِ الْمَسَاكِينِ، مِنْ صَرْخَةِ الْبَائِسِينَ، الآنَ أَقُومُ يَقُولُ الرَّبُّ. «أَجْعَلُ فِي وُسْعٍ الَّذِي يُنْفُثُ فِيهِ».
6كَلاَمُ الرَّبِّ كَلاَمٌ نَقِيٌّ كَفِضَّةٍ مُصَفَّاةٍ فِي بُوطَةٍ فِي الأَرْضِ مَمْحُوصَةٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ. 7أَنْتَ يَا رَبُّ تَحْفَظُهُمْ. تَحْرُسُهُمْ مِنْ هَذَا الْجِيلِ إِلَى الدَّهْرِ. 8الأَشْرَارُ يَتَمَشُّونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الأَرْذَالِ بَيْنَ النَّاسِ.
هل انقرض التقي؟
كتب داود هذا المزمور في وقت شعر فيه أنه وحيد في تعبّده لله، فقال: »قد انقرض التقي. قد انقطع الأمناء من بني البشر«. وقد شاركه النبي إيليا المشاعر نفسها عندما قال: »غِرتُ غيرةً للرب إله الجنود، لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف. فبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها« (1مل 19: 10).
كانت البلاد في ذلك الوقت قد امتلأت بالفساد الخُلقي، فأخذ داود يهاجم نفاق عصره. كان داود ملك البلاد، وكان يمكن أن يفتخر بالتقدم الحضاري في مملكته، فقد كان عصره عصراً ذهبياً في الآداب والفنون. وكانت المملكة متقدمة في الشعر والموسيقى، بدليل هذه المزامير التي كُتب معظمها أثناء حكمه، وكانت جوقة ترنيم الهيكل بقيادة »إمام المغنين« تستخدم مختلف الآلات الموسيقية، فتُطرب العابدين وتُلهمهم. وشهدت البلاد نهضة معمارية، فقد بنى داود قصره من خشب الأرز، وجهّز الكثير من مواد البناء ليعاون ابنه سليمان في بناء هيكل أورشليم. وكانت التجارة ناجحة ومربحة بين مملكة داود والممالك المجاورة. وكان التسليح جيداً ومتقدماً بعد فترة الضعف العسكري أيام حكم القضاة وحكم الملك شاول.
رأى داود مملكة أُقيمت فيها القصور، وجرت العربات في شوارعها، وكثر الذهب في أيدي مواطنيها. ولكن هذا كله لم يجعله ينسى نقطة الضعف الخطيرة، وهي أن البلاد كانت تعاني من نقص أخلاقي خطير، فقد انقرض التقي، وانقطع الأمناء من بني البشر.
لما ذهب الرسول بولس إلى أثينا كنا نتوقع أن تُلفت نظره مباحثات الفلاسفة، والشعر والفنون والمتاحف والقصور. ولكن مؤرخ سفر الأعمال سجَّل لنا ما حظي بالاهتمام الأول عند بولس، فقال: »بينما بولس ينتظرهما (سيلا وتيموثاوس) في أثينا احتدّت روحه فيه إذ رأى المدينة مملوءة أصناماً. فكان يكلم في المجمع اليهود المتعبدين، والذين يصادفونه في السوق كل يوم« (أع 17: 16، 17).
صحيحٌ أن »البر يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية« (أم 14: 34).
قلنا إن عصر داود كان متقدماً. ولكل تقدم اقتصادي ثلاث مراحل متتابعة:
1 – في المرحلة الأولى تنجح الدولة اقتصادياً، ويجد المواطن حاجاته المادية بسهولة، وتنتشر المعارف والتقنية بسبب كثرة السفر والتجارة، ويتلاقى الفكر الإنساني ويتبادل المنفعة.
2 – في المرحلة الثانية يحدث ازدهار، وتولد فنون ومخترعات جديدة تجعل حياة الناس أكثر راحة، ويظهر أنهم يصبحون أكثر سعادة.
3 – في المرحلة الثالثة تصل مجموعة قليلة من الناس إلى الغِنى الفاحش بينما تكون الأغلبية في فقر شديد، فترى ظالمين كثيرين ومظلومين أكثر، فيتذمّر أهل الطبقات السفلى، وتُمتَهن المبادئ. وهنا يبدأ التدمير الاقتصادي بسبب الدمار الأخلاقي، ويعود المجتمع يفتش عن نجاحه المادي من جديد.
ويبدو أن داود رأى شعبه يبلغ المرحلة الثالثة، فكتب هذا المزمور يوبخ شرور عصره وزمانه.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – صلاة (آيات 1-4)
ثانياً – استجابة (آيات 5-8)
أولاً – صلاة
(آيات 1-4)
وفي صلاة داود، التي تستغرق نصف مزموره، يطلب العون الإلهي (آيتا 1، 2) ثم يطلب معاقبة الأشرار (آيتا 3، 4).
1 – يطلب الإنقاذ الإلهي: »خلِّص يا رب«. ويذكر أمرين يطلب الخلاص منهما:
(أ) نقص الأمانة: »قد انقرض التقي.. الأمناء من بني البشر« (آية 1). وهذا أمر يدفعنا للصلاة لأن غيـاب التقـوى وانقـراض الأمانة يضر الصالح كما يضر الشريـر. »فأطلب أول كـل شـيء أن تُقام طلبـات وصلـوات.. لأجـل الملـوك.. لكي نقضـي حياة مطمـئنة هادئـة في كـل تقـوى ووقـار« (1تي 2: 1، 2).
(ب) انتشار الكذب: »يتكلمون بالكذب كل واحد مع صاحبه. بشفـاه ملِقـة، بقلبٍ فقلب يتكلمون (أي أنهم منافقون)« (آية 2). »بقلب فقلب« تعبير عبري معناه أن لكل واحدٍ منهم قلبين، يواجهون الشخص الواقف أمامهم بقلب، وما أن يتركوه حتى يكون لهم نحوه قلب آخر. إنهم مخادعون، يقولون كلامين متناقضين! يتظاهرون بما لا يبطنون. هناك القاسي الذي »بلا قلب« ولكن صاحب القلبين أخطر لأنه يعطيك من طرف اللسان حلاوة ثم يطعنك. إنه مثل يهوذا الإسخريوطي الذي خان سيده!
2 – يطلب معاقبة الأشرار: »يقطع الرب جميع الشفاه الملقة، واللسان المتكلم بالعظائم. الذين قالوا: بألسنتنا نتجبَّر. شفاهنا معنا. من هو سيد علينا؟« (آيتا 3، 4). يطلب أن يقطع الرب أعضاء الكلام فيهم. وطلب معاقبة الأشرار قد يكون إعلاناً نبوياً بنهاية أولئك الكذبة المنافقين، أو أنه طلب من الله أن يبيدهم عملاً بالمبدأ الذي آمن به المرنم، وهو »العين بالعين« (خر 21: 24). لقد حسب هؤلاء الأشرار أن نجاحهم جاء نتيجة ذكائهم ومجهودهم ونفوذهم، فقالوا: »بألسنتنا نتجبَّر. شفاهنا معنا. من هو سيد علينا؟« يعني أن مصائر غيرنا تتوقف على كلمة نقولها. »شفاهنا معنا« فندافع عن تصرفاتنا لنبرهن صلاحها، فنكسب قضايانا بالتزوير، ونتحايل على القانون ونفسره لمصلحتنا ونتلاعب به، ولا سيّد علينا سوى أنفسنا.
لقد نسوا أن الله هو خالق أجسادهم، وأنه المالك الحقيقي لها. وقد ننسى اليوم أننا لسنا مِلك أنفسنا لأن المسيح اشترانا. فلنسمع القول: »قد اشتُريتُم بثمن. فمجِّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله« (1كو 6: 20).
ثانياً – استجابة
(آيات 5-8)
لكل صلاة استجابة. لقد طلب المرنم العون من الله، وطلب مجازاة الأشرار، فاستجاب الرب سامع الصلاة، ولا بد أن ينصف مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً (لو 18: 7) لأنه القاضي العادل. وعدالته فيها الرحمة للمظلوم، ووجهها الآخر عقاب للظالم.
وفي الاستجابة نجد أمرين: وعداً بالعون (آيتا 5، 6) وتحقيقاً للوعد (آيتا 7، 8).
1 – وعدٌ بالعون: ويقدم المرنم وعدين لله، وعد فوري مباشر من الله (آية 5) ووعدٌ كتابي سطَّره الوحي (آية 6):
(أ) وعد فوري: »من اغتصاب المساكين، من صرخة البائسين الآن أقوم، يقول الرب. أجعل في وُسعٍ الذي يُنفَث فيه« (آية 5).
ما أكثر الظلم في الأرض، وما أقسى الإنسان على أخيه الإنسان! لقد قسا فرعون على بني إسرائيل فصرخوا طالبين النجاة، وسمع الله صراخهم ودعا موسى وقال له: »إني قد رأيت مذلّة شعبي الذي في مصر، وسمعت صراخهم من أجل مسخّريهم. إني علمت أوجاعهم.. صراخ بني إسرائيل قد أتى إليّ، ورأيت أيضاً الضيقة التي يضايقهم بها المصريون. فالآن هلمَّ فأرسلك إلى فرعون وتُخرج شعبي بني إسرائيل من مصر« (خر 3: 7-10). وحقّق الرب وعده لهم وأنقذهم.
وفي زمن النبي عاموس كان الظلم الاجتماعي على أشُدّه، فأرسل الله النبي عاموس ينادي بالعدالة الاجتماعية، فوصف الظالمين بقوله: »باعوا البار بالفضة، والبائس لأجل نعلين.. يصدّون سبيل البائسين.. يتمدَّدون على ثياب مرهونة بجانب كل مذبح، ويشربون خمر المغرَّمين في بيت آلهتهم« (عا 2: 6-8). كان الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً بسبب الطمع والجشع. فصرخ المعذّبون في الأرض، وسمع الله صراخهم فأرسل النبي عاموس ليشجعهم ويعدهم بالإنقاذ. وقد كان.
ولكثرة الظلم يُخيّل للمظلوم أن الله نسيه، فيقول الرب له: »الآن أقوم. أجعل في وُسعٍ الذي يُنفَث فيه«. والذي ينفث هو الظالم، الذي يفعل مثل ما كان شاول الطرسوسي يفعله بالمسيحيين، فإنه كان ينفث تهدّداً وقتلاً على تلاميذ الرب (أع 9: 1). وسيعطي الرب المظلومين الصارخين إليه وسعاً ورحباً، فلا يبقون في ضيقهم. »ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق« (إش 9: 1).
إن أحلك أوقات الليل ظلمة هي التي تسبق الفجر، وعند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح ترنُّم. لا بد أن القيامة تتبع الصليب، وبعد ظهر الجمعة يجيء صباح الأحد.
(ب) وعد كتابي: يعتمد المظلوم على وعد الله الصادق دائماً، فإن »كلام الرب كلام نقي، كفضة مصفّاةٍ في بوطةٍ في الأرض، ممحوصةٍ سبع مرات« (آية 6). والبوطة هي الفرن الذي يصهر فيه الصائغ الفضة والذهب، لينقّيهما من الزغل. فكلام الله لا زغل فيه أبداً. والفضة نقية تصفَّت وتكررت سبع مرات (والسبعة عدد الكمال). فوعود الله صادقة كل الصدق، سبع مرات! وما أبعد الفرق بين وعود البشر التي لا يوفونها إما لأنهم لا يريدون أو لأنهم لا يقدرون، وبين مواعيد الله الأمينة الصادقة! قال يشوع لبني إسرائيل: »تعلمون بكل قلوبكم وكل أنفسكم أنه لم تسقط كلمة واحدة من جميـع الكـلام الصالـح الـذي تكلـم بـه الـرب عنكـم. الكـل صار لكم. لـم تسقـط منـه كلمة واحـدة« (يش 23: 14). وقال سليمان الحكيم: »مبارك الرب الذي أعطى راحةً لشعبه إسرائيل حسب كل ما تكلم به. ولم تسقط كلمة واحدة من كل كلامه الصالح الذي تكلم به عن يد موسى عبده« (1مل 8: 56).. ما أصدق كلام الكتاب المقدس! إنه كلمة الله الصادقة، الخالية من الخطأ والخلط والتحريف والنسخ. إن كانت شريعة مادي وفارس لا تُنسَخ (دا 6: 8) فهل تُنسَخ كلمة الله؟ إن كلام الله مجرّب كل التجريب، جرّبه الخاطئ الذي تاب، فمنحه الله الغفران والتبرير والسلام. وجرّبه المتضايق الصارخ، فنال النجاة والراحة. في كل ضيقنـا يتضايـق، وملاك حضـرته يخلّصنا (إش 63: 9). ويمكنك أن تعتمـد على الله وتطمئن، وتقول: »على الرب توكلت«.
2 – تحقيق الوعد بالعون: »أنت يا رب تحفظهم. تحرسهم من هذا الجيل إلى الدهر. الأشرار يتمشّون من كل ناحية عند ارتفاع الأرذال بين الناس« (آيتا 7، 8). وعد الله أنه سيقوم ويوسّع للمظلوم المتضايق، والمرنم يقول له: أنت يا رب تحفظ المظلومين الصارخين إليك. كان دانيال في وسط الأسود، وسأله الملك: »يا دانيال، عبد الله الحي، هل إلهك الذي تعبده دائماً قدر على أن ينجّيك من الأسود؟« فأجاب: »أيها الملك عِش إلى الأبد! إلهي أرسل ملاكه وسدّ أفواه الأسود فلم تضرّني لأني وُجدت بريئاً قدامه وقدامك أيضاً أيها الملك. لم أفعل ذنباً« (دا 6: 20-22).
لكل جيل مميزاته وخصائصه، سيحرس الرب شعبه من »هذا الجيل« الفاسد الظالم. ومهما كانت خصائص الذين تعيش بينهم، فإن الله يعدك بالحراسة والحفظ. كان داود يصف عصراً سادت فيه الرذيلة والأرذال، وكان الأشرار فيه يتمشّون بخيلاء ظانين أن المُلك مُلكهم والأرض أرضهم. ولكن الله وعد كل الأتقياء والأمناء بالحراسة. ومهما كانت سمة العصر الذي تحيا فيه، فالله الأزلي الأبدي يؤكد لك العون والخلاص. لقد أسس كنيسته ووعدها أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها (مت 16: 18)، ويقول لأعضائها: »أنتم الذين بقوة الله محروسون« (1بط 1: 5).
النصرة النهائية هي لمن يحبون الرب، فأحب الرب بكل قلبك يسود السلام والاطمئنان حياتك.
اَلْمَزْمُورُ الثَّالِثُ عَشَرَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَنْسَانِي كُلَّ النِّسْيَانِ! إِلَى مَتَى تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي! 2إِلَى مَتَى أَجْعَلُ هُمُوماً فِي نَفْسِي وَحُزْناً فِي قَلْبِي كُلَّ يَوْمٍ! إِلَى مَتَى يَرْتَفِعُ عَدُوِّي عَلَيَّ! 3انْظُرْ وَاسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ إِلَهِي. أَنِرْ عَيْنَيَّ لِئَلاَّ أَنَامَ نَوْمَ الْمَوْتِ، 4لِئَلاَّ يَقُولَ عَدُوِّي: «قَدْ قَوِيتُ عَلَيْهِ». لِئَلاَّ يَهْتِفَ مُضَايِقِيَّ بِأَنِّي تَزَعْزَعْتُ.
5أَمَّا أَنَا فَعَلَى رَحْمَتِكَ تَوَكَّلْتُ. يَبْتَهِجُ قَلْبِي بِخَلاَصِكَ. 6أُغَنِّي لِلرَّبِّ لأَنَّهُ أَحْسَنَ إِلَيَّ.

إلى متى تنساني؟
لا ندري متى كتب داود هذا المزمور. أغلب الظن أنه كتبه لما كان شاول يطارده ليقتله. وهناك مناسبات كثيرة في حياة داود يمكن أن يكون هذا المزمور وصفاً لها. عندما كان يعزف على عوده لشاول، أشرع شاول الرمح مرتين نحوه ليقتله (1صم 18: 1). وداود يتساءل: صنعتُ خيراً، فلماذا ألقى شراً؟ لماذا يريد أن يقتلني مع أني أحاول أن أعالجه بعَزْفي؟
ولما لم ينفع العنف، استخدم شاول الحيلة، وعرض على داود أن يزوّجه من ابنته، على أن يكون المهر قتل مئة من الأعداء. وكان شاول يرجو أن يقتله الأعداء قبل أن يقتل هو مئة منهم. ولكن داود قتل مائتين ولم يصبه سوء (1صم 18: 27). وحاول شاول أن يقتل داود في بيت الزوجية الجديد، ولكن ميكال كانت أكثر حباً لزوجها منها لطاعة أوامر أبيها، فهرَّبت داود (1صم 19: 16). فأخذ شاول يطارده، حتى وقع شاول فـي يـده، فعفـا داود عنـه، وعاتبه قائلاً: »وراء من خرج ملك إسرائيل؟ وراء من أنت مُطارد؟ وراء كلـب ميت! وراء برغوث واحد؟« (1صم 24: 14).
ولا بد أن داود تعب من كل هذه المطاردات، فكتب مزموره هذا، يشكو إلى الله من الله، ويشكو إلى الله من نفسه، ويشكو إلى الله من أعدائه!
في هذا المزمور نجد:
أولاً – شكوى (آيتا 1، 2)
ثانياً – صلاة (آيتا 3، 4)
ثالثاً – فرح (آيتا 5، 6)
أولاً – شكوى
(آيتا 1، 2)
في ضيق داود ومرارة نفسه اشتكى إلى الله وكرر أربع مرات قوله »إلى متى؟«. »إلى متى يا رب تنساني كل النسيان؟ إلى متى تحجب وجهك عني؟ إلى متى أجعل هموماً في نفسي وحزناً في قلبي كل يوم؟ إلى متى يرتفع عدوّي عليَّ؟« (آيتا 1، 2).
وأول ما يخطر ببال المؤمن في الضيق أن يتّجه إلى الله.
1 – يشكو من الله إلى الله: »إلى متى يا رب تنساني كل النسيان؟« (آية 1أ). عندما يفكر داود بعقله تفكيراً منطقياً يعرف أن الله لم ينسه أبداً. وكأنه يقول: أعلم أنك لا تنسى، لكن يبدو لي أنك نسيت! كان قد قال: »ارحمني يا رب لأني ضعيف. اشفِني يا رب لأن عظامي قد رجفت، ونفسي قد ارتاعت جداً. وأنت يا رب فحتى متى؟« (مز 6: 2، 3). وقال أيضاً: »أقول لله صخرتي: لماذا نسيتني؟ لماذا أذهب حزيناً من مضايقة العدو؟« (مز 42: 9). وكرر النبي إرميا نفس الشكوى: »لماذا تنسانا إلى الأبد، تتركنا طول الأيام؟« (مرا 5: 20). وقال حبقوق: »حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تُخَلِّص؟« (حب 1: 2). هذه صرخة متألمٍ يعاتب الله لأنه يحب الله. ويستمع الله إلى مثل هذه الشكوى بتفهُّم وعطف، فيقول: »قالت صهيون: قد تركني الرب، وسيدي نسيني«. ويجيب: »هل تنسى المرأة رضيعها، فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساك. هوذا على كفيَّ نقشتُك. أسوارك أمامي دائماً« (إش 49: 14-16).
وفي الشكوى من الله يسأل داود: »إلى متى تحجب وجهك عني؟« (آية 1ب). عندما يضيء وجه الله على المؤمن بابتسامة حبه، تشرق الدنيا له. ولكن عندما تعبس الدنيا في وجه المؤمن يُخيَّل إليه أن الله قد حجب وجهه عنه، فيصرخ: »حجبتَ وجهك فصرتُ مرتاعاً« (مز 30: 7). والوجه المحتجب لا يعني الوجه الغافل أو الرافض، لكنه يعني أن المؤمن يحس بالقلق والرعب. ليس العيب في الله، بل في مشاعر المؤمن! ولذلك يسأل كثيرون: »مَن يُرينا خيراً؟ ارفع علينا نور وجهك يا رب«
(مز 4: 6). »ليتحنَّن الله علينا وليباركنا. ليُنِر بوجهه علينا« (مز 67: 1).
2 – يشكو نفسه لله: »إلى متى أجعل هموماً في نفسي وحزناً في قلبي كل يوم؟« (آية 2أ). إنه حزين بسبب ضعفه وقلقه وهمومه، وكأنه يقول: إلى متى أظل أعول الهم؟ إلى متى يهدّني القلق ويرعبني؟ نفسي عاجزة عن أن تنتصر على الموقف الذي أنا فيه. كل ترتيباتي فشلت، فإلى متى أُعيد تنظيم خططي؟ إلى متى أحاول ولا أوفَّق؟
عنـدما يفقـد المؤمن ثقته في محبة إلهه، وتضيع منه ثقته في نفسه تضيع منه »بهجة خلاصه« (مز 51: 12) ولكنه لا يفقد خلاصه. وبسبب الخطية يعيش في ظلمة روحية، وتضيع منه رؤية وجه الله المحب المطمئِن. ولا يمكن أن يعود إلى الشركة مع الله إلا إن تاب واستعاد علاقته المفقودة بالرب.
3 – يشكو العدو لله: »إلى متى يرتفع عدوّي عليّ؟« (آية 2ب). زار صموئيل النبي بيت يسى البيتلحمي، والد داود، وطلب استدعاء داود من وراء الغنم، ومسحه ملكاً بناءً على توجيه الرب. فكيف يصير مطروداً؟ ومتى تتحقّق مواعيد الرب له؟
تشبه حالة داود المنظر الذي تصفه رؤيا يوحنا: »ولما فتح (الحمل) الختم الخامس رأيتُ تحت المذبح نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم، وصرخوا بصوت عظيم قائلين: حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض؟ فأُعطوا كل واحد ثياباً بيضاً، وقيل لهم أن يستريحوا زماناً يسيراً أيضاً حتى يَكمَل العبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتلوا مثلهم« (رؤ 6: 9-11).
ثانياً – صلاة
(آيتا 3، 4)
تساءل داود أربع مرات »إلى متى؟«. ثم رفع لله صلاة فيها أربع طلبات تتعلّق بالشكاوى الأربع. وهو يوجّه طلباته قائلاً: »يا رب إلهي« فهناك انتماءٌ لله، وهناك تمسُّكٌ بإله الموعد الذي لا تسقط كلمة من كلامه الصالح.
1 – طلب نظرةً: »انظُر« (آية 3أ). وهي طلبةٌ تعالج شكواه »إلى متى يا رب تنساني كل النسيان؟«. والحقيقة أن الله لم ينسَه أبداً، لكن الظروف القاسية جعلته يظن هذا الظن الخاطئ. ونظرة الرب إلى المؤمن بعين الرضا لا بد تنقذ المؤمن من المشكلة النفسية التي تعرَّض لها.
2 – طلب استجابةً: »استجِب لي يا رب إلهي« (آية 3ب). وهي طلبةٌ تعالج شكواه »إلى متى تحجب وجهك عني؟«. لم يحجب الله وجهه أبداً عن المؤمن، ولا أدار له ظهره. لكن الدموع في العيون هي التي تحجب جمال الوجه الذي لا يغيب أبداً. »لك قال قلبي: قلتَ اطلبوا وجهي. وجهك يا رب أطلب« (مز 27: 8). فالمرنم لا يطالب بالاستجابة لأنه متطفّل، بل لأن الله قال: »اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم« (مت 7: 7). وقال المسيح لتلاميذه: »إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي. اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً« (يو 16: 24).
3 – طلب استنارةً: »أَنِر عينيَّ لئلا أنام نوم الموت« (آية 3ج). وهي طلبة تعالج شكواه »إلى متى أجعل هموماً في نفسي وحزناً في قلبي كل يوم!«. يطلب المرنم من الرب أن يُزيل ظلمة اليأس من عينيه المريضتين اللتين لا تريان رحمة الله بالكفاية.وقد كان هذا اختبار عزرا الكاتب، الذي وصف هذه الاستنارة بقوله: »كلحيظةٍ كانت رأفةٌ من لدن الرب إلهنا ليُبقي لنا نجاة، ويعطينا وتداً في مكان قدسه. لينير إلهنا أعيننا، ويعطينا حياة قليلة في عبوديَّتنا، لأننا عبيدٌ نحن، وفي عبوديتنا لم يتركنا إلهنا، بل بسط علينا رحمة أمام ملوك فارس، ليعطينا حياة« (عز 9: 8، 9). الرب سيُقيمنا. الرب سيُنوّر عيوننا ويعطينا حياةً في نور وجهه.
4 – طلب عدم شماتةٍ: »لئلا يقول عدوِّي: قد قويتُ عليه. لئلا يهتف مضايقيَّ بأني تزعزعتُ« (آية 4). وهي طلبةٌ تعالج شكواه »إلى متى يرتفع عدوّي عليَّ؟«. هناك عدو يحاول أن يرتفع على المؤمن ويقوَى عليه، ولكن الرب لا يسمح بهذا، لأن فشل المؤمن يجلب العار على اسم إلهه، ويجعل العدو يقول: »ليس له خلاص بإلهه« (مز 3: 2). ثم إن هناك وحدة بين المؤمن والرب، يشبّهها المسيح بعلاقة الغصن بالكرمة (يو 15: 5). الذي يؤذي الغصن يؤذي الكرمة، والذين يضطهدون المؤمنين يقاومون مشيئة الرب الذي يحب المؤمنين. ويجيء المجد للمؤمن لما يمجّد إلهه، ولما يتمجّد الله فيه.
ثالثاً – فرح
(آيتا 5، 6)
لا ندري كم من الوقت مضى بين الشكوى والصلاة المرفوعتين إلى الله في مطلع هذا المزمور وبين الفرح الذي عبّر عنه المرنم في نهايته. لكننا نعلم أن الله عيّن لكل شيء تحت السماوات وقتاً (جا 3: 1). وهو يتأنى أحياناً (من وجهة نظرنا) ولكن استجابته سريعة (من وجهة نظره). وقد شرح المسيح هذه الفكرة في قوله: »أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً، وهو متمهّلٌ عليهم؟ (من وجهة نظرهم). أقول لكم: إنه ينصفهم سريعاً. (من جهة التوقيت الإلهي). ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعلّـه يجـد الإيمان علـى الأرض؟ (بمعنـى: هل يجـد مَـن ينتظرون توقيته السماوي)« (لو 18: 7، 8).. يتوقّع الإيمان دائماً استجابة الصلاة. وعندما تُستجاب يتقوى الإيمان. فنطلب فتُسجاب. فيتقوى إيماننا أكثر، فنعود نطلب بثقة أكبر وقلوبنا تطفر فرحاً. وهكذا نتقدم من مجد إلى مجد ونختبر كل يوم صلاح الله، فنقول: »أما أنا فعلى رحمتك توكلت. يبتهج قلبي بخلاصك. أغنّي للرب لأنه أحسن إليَّ« (آيتا 5، 6).
يربي البشر أولادهم ليستقلوا عنهم ويقفوا على أقدامهم، لكن الرب يربي أولاده ليعتمدوا عليه أكثر وباستمرار، فلا يستقلون عنه أبداً، لذلك قال المرنم: »أما أنا فعلى رحمتك توكلت« فيجدد ثقته في الرب، فيضيء له طريقه، فيقول: »لأنني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم« (2تي 1: 12).
عندما تتعب من نفسك، وعندما تظن أن الله قد نسيك، وعندما ترى الأعداء يحيطون بك ويغلبونك على أمرك، فلا تيأس، لأن الله المحب سيسمع صوتك، ويرى دموعك، وينصرك على متاعبك، فلهذا جاء المسيح إلى أرضنا. ويقول الإعلان الرسمي عن خدمة المسيح: »روح السيد الرب عليَّ، لأن الرب مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق. لأنادي بسنةٍ مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا. لأعزّي كل النائحين. لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد، ودهن فرحٍ عوضاً عن النوح، ورداء تسبيح عوضـاً عـن الروح اليائسـة« (إش 61: 1-3).
اَلْمَزْمُورُ الرَّابِعُ عَشَرَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ
1قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلَهٌ». فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً. 2اَلرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ اللهِ؟ 3الْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعاً فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ.
4أَلَمْ يَعْلَمْ كُلُّ فَاعِلِي الإِثْمِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ شَعْبِي كَمَا يَأْكُلُونَ الْخُبْزَ، وَالرَّبَّ لَمْ يَدْعُوا؟ 5هُنَاكَ خَافُوا خَوْفاً لأَنَّ اللهَ فِي الْجِيلِ الْبَارِّ. 6رَأْيَ الْمِسْكِينِ نَاقَضْتُمْ لأَنَّ الرَّبَّ مَلْجَأُهُ. 7لَيْتَ مِنْ صِهْيَوْنَ خَلاَصَ إِسْرَائِيلَ. عِنْدَ رَدِّ الرَّبِّ سَبْيَ شَعْبِهِ يَهْتِفُ يَعْقُوبُ وَيَفْرَحُ إِسْرَائِيلُ.
الكل زاغوا
المزموران 14، 53 متشابهان تماماً، ما عدا فرق بسيط في 14: 5، 6 حيث يقول: »هناك خافوا خوفاً في الجيل البار. رأْيَ المسكين ناقضتم، لأن الرب ملجأه« بينما يقول 53: 5 »هناك خافوا خوفاً ولم يكن خوف، لأن الله قد بدّد عظام محاصرك. أخزيتهم لأن الله قد رفضهم«. ولعل سبب هذا التغيير يعود إلى رغبة المرنم في مز 53 أن يشير إلى الرعب الذي وقع على ملك أرام (وهي سوريا) حيث لم يكن داعٍ للخوف (2مل 7: 6، 7) أو إلى هزيمة الملك الأشوري سنحاريب هزيمة غير منتظرة، وموت 185 ألف جندي من جنوده في ليلة واحدة (2مل 19: 35، 36). كما أن هناك فرقاً آخر، فمزمور 14 يستعمل اسم الجلالة »يهوه« (المترجمة: الرب) بينما يستعمل مز 53 اسم الجلالة »إلوهيم« (المترجمة: الله).
والمزموران تبشيريان، يتحدثان أولاً عن جهالة الخاطئ في ابتعاده عن الله. ويشرحان خطورة الحياة التي تتجاهل الرب، فالخاطئ جاهل لا يحسن التصرُّف. ومصيره سيء. ثم ينتقل المرنم ليتحدث عن الضمير الذي نوّمه الخاطئ الجاهل، مع أن الرب يحاول أن يوقظه. ثم يختم المرنم المزمورين بحديث عن خلاص المؤمن وهتافه وفرحه. إنه يقدم لنا دعوةً للتوبة والإنقاذ والخلاص، فيقول للبعيد عن الله: أنت لا تعرف مقدار ما تخسر، ولا مقدار الخطر الذي يهـددك. لا فائدة في الخطية. إنها مهلكـة، ويختـم دعوتـه بالقـول إن الخاطئ يخلُص عندما يسكن الرب قلبـه، فيحـرره مـن خطاياه ويـردّ سبيـه، فيهتف ويفرح بخلاصه وحريته. وهذه الدعوة الواضحة تجعل النفس البعيدة تشتاق أن تعود إلى الرب تائبة. فلماذا نحيا في الخطية، بينما العيشة مع الرب هي السعادة الحقيقية؟
في هذين المزمورين نجد:
مزمور 14 مزمور 53
أولاً – جهالة الخاطىء (آيات 1-3) (آيات 1-3)
ثانياً – ضميرالخاطىء (آيات 4-6) (آيتا 4، 5)
ثالثاً – سعادة المؤمن (آية 7) (آية 6)

أولاً – جهالة الخاطئ
(آيات 14: 1-3 و53: 1-3)
1 – تبدأ جهالة الخاطئ بفكرة خاطئة: »قال الجاهل في قلبه: ليس إله« (آية 1أ). وهو يقول هذا بسلوكه »في قلبه« فيحيا مخالفاً شريعة الله، أو يقوله بسلوكه وفمه معلناً إلحاده. وينكر بعض الفلاسفة وجود الله‎، ويحاولون إثبات ذلك وإقناع الناس به، مع أن كلمة »فلسفة« تعني »حب الحكمة« في اللغة اليونانية. والمرنم لا يرى عندهم إلا الجهالة، فالخاطئ الذي ينكر وجود الله بفعله أو قوله هو جاهل، يقول إنه يحب الحكمة، وهو في واقع الأمر بعيد عنها، لأن »رأس الحكمة مخافة الرب«
(مز 111: 10) و»مخافة الرب رأس المعرفة« (أم 1: 7). وكما أن إنكار وجود النار لا يمنع احتراق من يدخلها، هكذا الشك في وجود الله لا يمنع وقوع دينونته العادلة على من يرفض خلاصه.. ونحن نشكر الله من أجل فلاسفة كثيرين يؤمنون بالله، ويبرهنون ذلك بأساليب منطقية. والجاهل وحده هو الذي ينكر وجود الله، لأن وجود الله حولنا واضح نراه في خليقته، وواضح في معاملاته اليومية معنا. وفوق الكل نراه في سر التقوى »الله ظهر في الجسد« (1تي 3: 16). فمجيء المسيح إلى عالمنا، أكبر برهان على أن الله موجود.
والكلمة العبرية »جاهل« هي »نابال« التي أُطلقت على رجل جاهل ضيّع حياته بسبب حماقته، فقيل عنه: »نابال اسمه والحماقة عنده«. أنكر نابال أن داود موجود، وأنكر معرفته به وقال: »من هو داود، ومن هو ابن يسى؟« مع أن داود هو الذي أنقذ شعبه من تهديد جليات الوثني! كما كان نابال يعرف داود جيداً، لأن داود ورجاله كانوا يحرسون قطعان نابال. ولكن الجاهل قال: »أآخذ خبزي.. وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم؟«‎ (1صم 25: 10، 11).. أليس هذا ما يفعله الجاهل الذي ينكر وجود الله، مع أن الله هو الذي منحه الحياة، وهو الذي يعتني به، وهو الذي سيأخذ حياته منه؟!
2 – تزيد جهالة الخاطئ بتصرُّفاته الخاطئة: »فسدوا ورجسوا بأعمالهم. ليس من يعمل صلاحاً« (آية 1ب). خلق الله الإنسان بريئاً، ولكن عصيانه لله أفسد طبيعته الأصلية، وأفسد أعماله اليومية، ودمَّر علاقاته الاجتماعية. نعم فسد البشر، فارتكبوا ما لا يجب، ولم يعملوا ما يجب. وقد وُصفت الحالة قبل الطوفان بالقول: »رأى الرب أن شرَّ الإنسان قد كثُر في الأرض، وأن كل تصوُّر أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. وفسدت الأرض (ساكنوها) أمام الله وامتلأت الأرض ظلماً. ورأى الله الأرض فإذا.. كل بشرٍ قد أفسد طريقه على الأرض« (تك 6: 5، 11، 12).
والرجس هو العمل القبيح والقذارة، والشناعة، والنجاسة. وهي كلمة تشير إلى الأصنام وعبادة الأوثان. لقد خلق الله الإنسان على صورته ليعبده، ولكن الإنسان ضل إلى الوثنية وكل ما يرتبط بها من رجس.
وينكر الجاهل أحياناً وجود الله لأنه ارتكب خطأً يؤرق ضميره، وهو لا يريد أن يصطلح مع الله بالطريقة السليمة، فيتهرَّب بقوله إن الله غير موجود، وينسى أو يتناسى أن الله جهَّز له طريق الفداء والخلاص بكفارة المسيح المصلوب.
3 – خطورة جهالة الخاطئ: »الرب من السماء أشرف على بني البشر، لينظر: هل من فاهمٍ طالب الله؟« (آية 2). يطيل الله أناته على الخاطئ ليتوب، ولكنه في جهالته يظن أن الله لا يحسن ولا يسيء (صف 1: 12)، أو أنه غير موجود على الإطلاق. ولكن »من السماوات نظر الرب. رأى جميع بني البشر. من مكان سُكناه تطلّع إلى جميع سكان الأرض. المصوّر قلوبهم جميعاً، المنتبه إلى كل أعمالهم« (مز 33: 13-15). وفي تعبيرات «إنسانية» تصف التوراة الله أنه »نزل ليرى« أحوال بابل وسدوم (تك 11: 5 و18: 21).
ويشرف الله على »بني البشر« من كل جنسية، لأنه خالقهم جميعاً، وقد أعطى كل شعب نوراً أخلاقياً في الطبيعة وفي الضمير. »لم يترك نفسه بلا شاهد، وهو يفعل خيراً: يعطينا من السماء أمطاراً وأزمنة مثمرة، ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً« (أع 14: 17) »إذ معرفة الله ظاهرة فيهم، لأن الله أظهرها لهم، لأن منذ خَلْق العالم تُرى أمورُه غيرُ المنظورة وقدرتُه السرمدية ولاهوتُه مُدركةً بالمصنوعات، حتى أنهم بلا عذرٍ« (رو 1: 19، 20).
»الرب من السماء أشرف لينظر« لأنه يحب الإنسان ويقول: »لذّاتي مع بني آدم« (أم 8: 31).
إنه الراعي الصالح الذي يفتش عن الواحد الضال إلى أن يجده، مهما كلفه هذا التفتيش. إنه لا يريد هلاك الخاطئ بل توبته. وهو ينتظر من البشر أن يتصرّفوا بقدر ما عندهم من نور. يفتش الله في كل أمة ليرى هل من »فاهم« لنفسه وضعفه وخطيته وواجبه ومصيره، وهل من »فاهم« محبة الله وتفتيشه عن الخاطئ ليفديه. وكـل مـن ينكــر وجـود الله ينـكـر »إلـوهيم« إله العـهد، ضـابط العـالم كـله، وينكر حق الله، لأن الخطية ثورة ضد الله وضد شرائعه. ولذلك يعتـرف داود: »إليك وحـدك أخطأت، والشر قـدام عينيـك صنعت« (مز 51: 4).
4 – عمومية جهالة البشر: »الكل قد زاغوا معاً، فسدوا. ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد« (آية 3). الإنسان فاسد بطبيعته، وفاسد بعمله. منذ سقوط أبوينا الأوَّلين في جنة عدن ونحن نرى الإنسان يقتل أخاه، لا بسبب الجوع أو الاحتياج، ولا بسبب أزمة المساكن، لكن لأنه شرير بطبيعته. وفساد الجنس البشري فساد مطلق، فالإنسان بولادته الطبيعية لا يقدر أن يُرضي الله، لا بالعمل ولا بالنيّة. أساس الشجرة فاسد فهي تعطي ثمراً فاسداً. ينبوع الماء أصلاً مر ويعطي ماءً مراً. ومع أن الله يرعى البشر حتى يقولوا: »لا يعوزني شيء« إلا أنهم يضلون ويحتاجون إلى من يرد نفوسهم إلى سبُل البر، لا لخير فيهم، إنما »من أجل اسمه« (مز 23: 1، 3).
وقد اقتبس الرسول بولس هذه الآيات في أصحاح 3 من رسالته إلى رومية ليُبرهن فساد البشر جميعاً، وكيف أنهم واقعون تحت حكم الهلاك الأبدي، ثم ليعلن أن الله دبَّر النجاة بواسطة المسيح لهؤلاء الجهّال الذين أضّروا بأنفسهم »إذ الجميع أخطأوا.. متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدّمه الله كفارة« (رو 3: 23، 24). »كلنا كغنم ضللنا. مِلنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه (المسيح) إثم جميعنا« (إش 53: 6).
ثانياً – ضمير الخاطئ
(آيات 14: 4-6 و53: 4، 5)
1 – ضمير نائم: »ألم يعلم كل فاعلي الإثم الذين يأكلون شعبي كما يأكلون الخبز، والرب لم يدعوا؟« (آية 4). هذه خطية الضمير النائم الذي يعلم أصحابه أن الله هو القاضي العادل، الذي لا بد أن يقتصّ من الظالم، ومع ذلك يفعلون الإثم ويأكلون المؤمنين الذين يخافون الله، وكأنهم يأكلون الخبز، دون أن يتأسّفوا أو تتحرك ضمائرهم (انظر ميخا 3: 3). جهلوا أو تناسوا وتجاهلوا! لم يوفِّقوا بين تصرّفهم ومعرفتهم! ألم يعلموا؟ في جهل فعلوا الإثم، وفي جهل أكلوا شعب الرب كأمر طبيعي واجب، ولم يكلموا الرب ولا دعوه في حياتهم!
غريب أمرهم، نتعجب منهم كما تعجب المسيح من عدم إيمان أهل الناصرة به، فتركهم وصار يطوف القرى المحيطة يعلّم (مر 6: 6).
»والرب لم يدعوا«. تصرّفوا دون أن يطلبوا عون الرب وبركته على ما يفعلون، ولا استشاروه في ما سيقومون به. ولو أنهم دعوه لهداهم إلى سبُل البر. وهكذا جانب الصواب تصرفهم.
أعمال فاعلي الإثم ضد العقل والمنطق الذي يعلّم أن أجرة الخطية هي موت. وهي ضد التاريخ والاختبار الذي ينادي بأن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً. وليس فعل الإثم غلطة طفل، لكنها جريمة شخصٍ ناضجٍ يقول لله: »ابعُد عنا وبمعرفة طرقك لا نُسَر« (أي 21: 14 و22: 17).
2 – ضمير يوجد ما يوقظه: »هناك خافوا خوفاً لأن الله في الجيل البار« (آية 5). يـرى فـاعلو الإثم دائماً العقـاب الذي يحـلّ بهــم، والحمـايـة التي يمنـحهـا الله للمؤمنيـن، لأن اللـه دوماً يميِّـز تقيَّـه (مز 4: 3). »هناك« حيث أكلوا شعبه. »هناك« حيث ظنوا أنهم »يأكلون الخبز«. »هناك« حيث تناسوا الرب، جاءهم الخوف الرهيب الذي أفزعهم، وهم يرون الله يبادر بحماية »الجيل البار«. وكلما قارن الخاطئ رعبه وقلقه بالسلام الذي يعيش فيه المؤمن يخاف أكثر، لأنه يرى النتيجة ولا يرى السبب، ويرى العون دون أن يرى المعين، ويرى يداً تكتب على الحائط ولا يرى صاحبها!.. عندما ماتت سارة زوجة خليل الله إبراهيم، جاء إلى الحثيين وقال: »أنا غريب ونزيل عندكم. أعطوني مُلكَ قبر معكم لأدفن ميتي«. فأجابوه: »أنت رئيسٌ من الله بيننا« (تك 23: 4-6) لأنهم رأوا ولمسوا أن الله معه.. وجاء أبيمالك ملك جرار وفيكول رئيس جيشه إلى إسحق ليعقدا صلحاً معه، بالرغم من أنهما قاوماه وطرداه من جرار، وقالا له: »رأينا أن الرب كان معك، فقُلنا: ليكن بيننا حلفٌ بيننا وبينك ونقطع معك عهداً« (تك 26: 28).
والله دائماً يوقظ ضمير الخاطئ بأن يُريه حُسن التعامل السماوي مع الأتقياء، وذلك لهدفين: أن يشجع الأتقياء، وأن يتوِّب الخطاة، فهو الله محبة.. ويقول مزمور 14: 6 »رأْي المسكين ناقضتم لأن الرب ملجأه«. وهذه كلمات توقظ ضمير الأثيم الذي يناقض رأى التقي المسكين بالروح. ويبرهن الرب صواب رأي التقي لأنه مبنيّ على ما أعلنه في شريعته. وهذا البرهان السماوي يجعل الأثيم يراجع نفسه وأفكاره وآراءه، ويرجع عن طريق إثمه، فيحيا.
ويقول مزمور 53: 5 »هناك خافوا خوفاً ولم يكن خوف، لأن الله قد بدّد عظام مُحاصِرك«. كان العدو قوياً متأكداً من النصر، وكان الأتقياء قلّة قليلة، فقلَبَ الرب الموازين البشرية، وأعلن العدالة الإلهية، فأهلك المحاصِرين، ونجّى المحاصَرين!
ثالثاً – سعادة المؤمن
(آية 14: 7 و53: 6)
»ليت من صهيون خلاص إسرائيل. عند رّد الرب سبيّ شعبه يهتف يعقوب ويفرح إسرائيل«. صهيون هو الجبل الذي أُقيم عليه الهيكل، فالخلاص يكون في عبادة الرب واتِّباعه. يقول »ليت« لأن كثيرين من البشر لا يخلصون لأنهم لا يتعبَّدون! ومن صهيون جاء خلاص المسيح وتحققت النبوة: »ويأتي الفادي إلى صهيون، وإلى التائبين عن المعصية« (إش 59: 20). وفي الآية الأخيرة من مزموره يذكر المرنم أمرين يفعلهما الله لشعبه: إنه يخلّصهم، ويردّ سبيهم.
1 – الله يخلّص شعبه: »ليت من صهيون خلاص إسرائيل« (آية 7أ). صهيون هي مكان وجود تابوت العهد الذي يرمز إلى أمرين على الأقل:
(أ) الله موجود وسط شعبه: كانت خيمة الاجتماع، وتابوت العهد بها، في وسط معسكر بني إسرائيل. وكانت كل الأسباط ترى تابوت العهد في الوسط. فإن أردت خلاصاً لبيتك، فليكن الرب وسط البيت. وإن أردت خلاصاً من مشكلة فليكن الرب سيد حياتك ومالك الزمام كله.
(ب) الله أمين في العهد لشعبه: دخل الله في عهد معنا قبل أن ندخل نحن في عهد معه. وهـو عهـد مختـومٌ بالـدم. وقد أدخلنا المسيح في عهد جديد يسمّيه »العهد الجديد بدمي الذي يُسفَك عنكم« (لو 22: 20). فدعونا ندخل في هذا العهد مع الله. وعندما يرى الذين حولنا أننا دخلنا مع الرب في هذا العهد بأمانة، وأن الله موجود في قلبنا وفي وسطنا، يتوبون، لأنهم يرون مقدار الخسارة التي تحل بهم نتيجة بُعدهم عن الله. ويتحقّق معنا القول: »لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات« (مت 5: 16). وكلمة »الحسنة« في الأصل اليوناني معناها: حسنة جذابة.
2 – الله يردّ سبي شعبه: »عند ردِّ الرب سبي شعبه يهتف يعقوب ويفرح إسرائيل« (آية 7ب). ردُّ السبي معناه إعادة النجاح الذي ضاع، كما قيل: »ردَّ الرب سبي أيوب« (أي 42: 10) فدعونا نطلب من الله أن يرد إلينا ما ضيَّعناه بضعفنا. إن كنت تعيش مع الرب حياة فرح وسلام، ولكنهما ضاعا منك بسبب القلق أو نقص الصلاة أو نقص الأمانة لله، فصلّ: »رُدَّ لي بهجة خلاصك« (مز 51: 12). فيحقق الرب لك قوله: »وأردُّ سبي شعبي إسرائيل، فيبنون مدناً خربة ويسكنون ويغرسون كروماً ويشربون خمرها، ويصنعون جنات ويأكلون أثمارها، وأغرسهم في أرضهم، ولن يُقلعوا بعدُ مِن أرضهم التي أعطيتُهم« (عا 9: 14، 15).
ليت الرب يرد لنا قوَّتنا الروحية، ومحبتنا الأولى، لنقف على أقدامنا قريبين منه، نحبه من كل القلب والنفس والفكر. عندها يظهر أن الله في الجيل البار، فنهتف ونفرح لأن خلاصنا هو مِن عند إلهنا.
اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ عَشَرَ
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1يَا رَبُّ، مَنْ يَنْزِلُ فِي مَسْكَنِكَ؟ مَنْ يَسْكُنُ فِي جَبَلِ قُدْسِكَ؟ 2السَّالِكُ بِالْكَمَالِ، وَالْعَامِلُ الْحَقَّ، وَالْمُتَكَلِّمُ بِالصِّدْقِ فِي قَلْبِهِ، 3الَّذِي لاَ يَشِي بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَصْنَعُ شَرّاً بِصَاحِبِهِ، وَلاَ يَحْمِلُ تَعْيِيراً عَلَى قَرِيبِهِ. 4وَالرَّذِيلُ مُحْتَقَرٌ فِي عَيْنَيْهِ، وَيُكْرِمُ خَائِفِي الرَّبِّ. يَحْلِفُ لِلضَّرَرِ وَلاَ يُغَيِّرُ. 5فِضَّتُهُ لاَ يُعْطِيهَا بِالرِّبَا، وَلاَ يَأْخُذُ الرَّشْوَةَ عَلَى الْبَرِيءِ. الَّذِي يَصْنَعُ هَذَا لاَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ.
من ينزل في مسكنك؟
كتب داود هذا المزمور في نفس المناسبة التي كُتب فيها مزمور 24 وهي نقل تابوت العهد إلى الخيمة التي جهّزها داود له على جبل صهيون (2صم 6: 17) فتقدَّس الجبل وسُمِّي »جبل قدس الله«. ولا بد أن نتساءل: ما هي صفات الناس الذين سيسكن الله وسطهم؟
قال الله: »إني أنا الرب إلهكم فتتقدّسون وتكونون قديسين، لأني أنا قدوس« (لا 11: 44). إذاً قداسة الحياة هي شرط الإقامة في جبل الله، وهي تتَّضح في الحياة السلوكية والعملية. »قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب: إلا أن تصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعاً مع إلهك« (مي 6: 8). وهذا أحد المزامير التي تتنبأ بصعود المسيح، إذ دخل بعد صعوده إلى مجده الأزلي، بعد أن أكمل العمل الذي تجسّد ليقوم به، وقال: »العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. والآن مجِّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم« (يو 17: 4، 5)
في هذا المزمور نجد:
أولاً – سؤال (آية 1)
ثانياً – إجابة السؤال (آيات 2-5أ، ب)
ثالثاً – خاتمة المزمور (آية 5ج)
أولاً – سؤال
(آية 1)
»يا رب من ينزل في مسكنك؟ من يسكن في جبل قدسك؟«. و»نزول« الإنسان في مكان ما يعني أنه ينزل ضيفاً لبعض الوقت. أما »السكن« فله صفة الدوام، لأنه إقامة صاحب البيت. ويبدأ الإنسان حياته الروحية بأن ينزل ضيفاً في مسكن الرب، ولكنه يحب الرب بكل قلبه، فيطلب أن يقيم دائماً. ولكن هل يقدر إنسان أن ينزل في مسكن الله القدوس وهو خاطئ؟ ألم يصرخ إشعياء حين رأى الرب في هيكله: »ويل لي، إني هلكت!« (إش 6: 5)؟ ألم يطلب بطرس من المسيح أن يخرج من سفينته بعد أن رأى جلال عمله لأنه رجل خاطئ؟ (لو 5: 8).
والإجابة: إنه يقدر إن كان الله يُنعِم عليه بالتبني، فيصبح من أهل بيت الله ومسكناً لله (يو 1: 12 وأف 2: 19، 22). وهذا ما قاله إشعياء: »ارتعَبَ في صهيون الخطاةُ. أخذت الرَّعدة المنافقين. مَن مِنّا يسكن في نار آكلة؟ مَن مِنّا يسكن في وقائد أبدية؟ السالك بالحق، والمتكلم بالاستقامة، الراذِل مكسب المظالِم، النافض يديه من قبض الرشوة، الذي يسدُّ أذنيه عن سمع الدماء، ويغمض عينيه عن النظر إلى الشر. هو في الأعالي يسكن. حصون الصخور ملجأه. يُعطَى خبزُه، ومياهه مأمونة. الملك ببهائه تنظر عينك« (إش 33: 14-17).
وكل الذين قبلوا المسيح مخلّصاً، وذاقوا ونظروا ما أطيب الرب (مز 34: 8) واختبروا حلاوة النزول في مسكنه يطلبون الإقامة في جبل قدسه، ليتعمّقوا أكثر في التعرُّف عليه، لأن كل يوم يمضي من حياتنا يحبّبنا في الرب أكثر، فندخل إلى العمق لنتمتع أكثر بالعيشة معه، ونقول: »أسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام« (مز 23: 6). والسـؤال »مـن يسكـن؟« يجعلنـا نتشوَّق أن نسكـن عند الرب، وأن نكـون ممَّن يحبّون أن يَمْثلوا في محضره دائماً.
الشخص الذي يبدأ ضيفاً عند الله، ويتقدم روحياً، يسكن في حضرة الله، فيقدر أن يقول مع إيليا: »حيٌّ هـو الـرب الذي وقفـتُ أمامـه« ثم يقـول: »حي هـو الرب الذي أنا واقف أمامه« باستمرار (1مل 17: 1 و18: 15). ويُذكّرنا استمرار الوقوف في محضر الرب بحنّة النبيّة التي ظلت أربعاً وثمانين سنة عابدة في الهيكل ليلاً ونهاراً بصلوات وأصوام (لو 2: 37).
والذي ينزل ثم يسكن في جبل قدس الرب يتمتع بوعد المسيح: »الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبّني، والذي يحبّني يحبّه أبي، وأنا أحبه، وأُظهر له ذاتي.. إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً« (يو 14: 21، 23).والذي يقيم ويسكن عند الرب ينعم بالرعاية، لأن رب البيت محبٌّ وغني وكريم، عنده يقول الضيف: »الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء.. ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقيَّ« (مز 23: 1، 5). وعنده يتمتع بالحماية لأن »الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت« (مز 91: 1). وعنده يتمتع برداء البر وثوب الخلاص، إذ يحضر وليمة الملك السماوي (إش 61: 10 ومت 22: 11).
ثانياً – إجابة السؤال
(آيات 2-5ب)
يقدّم المرنم ثمانية أوصاف لمن يسكن في جبل الله المقدس، مارسها صاحبها بانتظام حتى صارت منهجه اليومي. ويسجّلها المرنم كأفعال، هي ثمر عمل الروح القدس داخل ساكن بيت الرب:
1 – السلوك الصالح: »السالك بالكمال« (آية 2أ). السلوك أهم من الكلام، لأنه يعلن الإيمان بالعمل الصالح، وهذا هو الإيمان العامل، بخلاف إيمان الكلام الميت الخالي من العمل. وكلمة »الكمال« تصف الذبيحة التي لا عيب فيها. وفي حالة إطلاق هذا الوصف على الإنسان تعني أنه أمين وبلا لوم. وهي تصف التعبُّد المقبول لله والتصرُّف المخلص الشريف مع الناس. والكامل هو التام، كامل الاستدارة، ليس فيه »فعص«. وهذا ما طلبه الله من إبراهيم: »سر أمامي وكن كاملاً« (تك 17: 1). وطلبه من شعبه: »تكون كاملاً لدى الرب إلهك« (تث 18: 13). وهو طلب المسيح: »كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل« (مت 5: 48).
وليس المقصود هنا الكمال المطلق، فإن هذا هو كمال الرب وحده. لكنه كمال القصد والنية، إذ ينوي المؤمن بكل قلبه أن يعيش للرب ويسلك بالحق.
2 – السلوك بالحق: »العامل الحق« (آية 2ب). والحق هو الصدق، والبر، والعدل. والإنسان العامل بالحق هو الصادق مع نفسه، الذي يدرك ضعفه وخطاياه، ويأتي فوراً إلى الله صارخاً: »اللهم ارحمني أنا الخاطئ« (لو 18: 13) وبهذا يأخذ نفسه العطشانة إلى الله لترتوي، ويقود نفسه المحطمة إلى حيـث تجـد الشفـاء الإلهي، مصلّيـاً: »قلباً نقياً اخلق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّد في داخلي« (مز 51: 10).
وعندما نحب نفوسنا نخلّصها بأن نأخذها إلى دم المسيح الذي يطهرنا من كل خطية، فنقدر أن نحب غيرنا، لأن الوصية تقول: »تحب قريبك كنفسك« (مر 12: 31).. والعامل بالحق هو الذي يمارس إيمانه الكنسي في الشارع، ويسلك بالحق داخل بيت الرب وخارجه، لأن »من يفعل البر فهو بار كما أن ذاك بار« (1يو 3: 7).
3 – الكلام بالصدق: »المتكـلم بالصـدق فـي قلبـه« (آية 2ج). و»مـن فضـلة القلب يتكلم الفم« (مت 12: 34). هو صادق القلب، فيخرج الصدق على لسانه. والعبارة المشهورة من المسيح هي: »الحق الحق أقول لك« (يو 3: 3)، كما قال: »أنا هو الحق« (يو 14: 6)، ولذلك يطلب منا أن نتكلم بالحق والصدق في قلوبنا. وقال: »تعرفون الحق والحق يحرركم« (يو 8: 32) وعندما يحررنا المسيح من حياتنا القديمة يغيّرها ويعطينا حياة جديدة، فيكون الصدق في قلوبنا، وتنطق به ألسنتنا. وما أكثر الكذب من حولنا. هناك الكلمات ذات المعنى المزدوج، وهناك الكذب الأبيض، وهناك نصف الحق، وهناك النفاق. وإبليس هو الكذاب وأبو الكذاب (يو 8: 44).
قال أحد المؤمنين: عندما تتكلم اسأل نفسك ثلاثة أسئلة: هل ما أقوله حق؟.. وإن كان حقاً فهل من اللازم أن أقوله؟.. وإن كان صحيحاً ولازماً، فكيف أقدّمه بطريقة رقيقة تفيد الآخرين؟

4 – صاحب اللسان الحلو (آية 3): ويتضح ذلك من ثلاثة أمور:
(أ) »لا يشي بلسانه«: (آية 3أ). والوشاية هي نقل خبر للضرر والإيقاع بالناس، وإشعال نار الخصام، لذلك قال الله: »لا تسْعَ في الوشاية بين شعبك« (لا 19: 16). ويصف آساف الواشي بقوله: »أطلقتَ فمك بالشر، ولسانك يخترع غشاً. تجلس تتكلم على أخيك. لابن أمك تضع معثرة«
(مز 50: 19، 20). والذي يسكن في جبل الله هو صاحب اللسان الحلو الذي لا ينطق بالشر على أحد، ولا يوقع ضرراً بأن ينقل للناس أخباراً كاذبة، أو لا ضرورة لروايتها، لأن »المحبة تستر كل الذنوب« (أم 10: 12).
(ب) »لا يصنع شراً بصاحبه«: (آية 3ب). هناك شرور كثيرة تنشأ عن سوء استخدام اللسان: »اللسان عضو صغير ويفتخر متعظماً. هوذا نار قليلة، أي وقود تحرق! فاللسان نار، عالم الإثم. هكذا جُعل في أعضائنا اللسان الذي يدنّس الجسم كله، ويضرِم دائرة الكون، ويُضرَم من جهنم.. من الفم الواحد تخرج بركة ولعنة« (يع 3: 5، 6، 10).
(ج) »لا يحمل تعييراً على قريبه«: (آية 3ج). والتعيير هو السخرية من شخص لضعفٍ فيه، وهو مؤلم جداً فوق ما يستطيع القريب أن يحتمل. قال فيه المرنم: »العار قد كسر قلبي فمرضتُ. انتظرتُ رقَّة فلم تكن، ومعزّين فلم أجد« (مز 69: 20). حسناً قيل إن الذي يعيِّر قريبه يحمل شيطاناً في لسانه، والذي يضحك للسخرية يحمل شيطاناً في أذنه!
5 – لا يصادق الرذيل: »الرذيل محتقر في عينيه« (آية 4أ). فالذي يسكن الجبل المقدس لا يصادق الذي يحب الرذيلة ويرتكبها مهما كان وضع ذلك الرذيل الاجتماعي عظيماً، ولا يجعله نموذجاً وقدوة له، ولا يغمض عينيه عن الخطأ الذي يصدر عنه.
وساكن الجبل المقدس لا يحتقر الرذيل ذاته، لكنه يحتقر الرذيلة فيه، لأن الله يحب الخاطئ مع أنه يكره الخطية. فإذا احتقر التقي رذالة الرذيل يتمم القول النبوي: »لا يُدعى اللئيم بعد كريماً، ولا الماكر يُقال له نبيل« (إش 32: 5) لأن كل واحد سينال اللقب الذي يستحقه.
6 – يحترم الأتقياء: »يكرم خائفي الرب« (آية 4ب). »لأن الكريم بالكرائم يتآمر، وهو بالكرائم يقوم« (إش 32: 8). وساكن الجبل المقدس الذي يحتقر الرذيل يكرم خائفي الرب، لأن الرب جعلهم أواني للكرامة (رو 9: 21، 23). وقال: »أُكرم الذيـن يكرمونني، والذين يحتقرونني يصغرون« (1صم 2: 30). وهـو يكرمـهم لأنهم ينتمـون إلى نفس العائلـة الروحيـة، ولأنهـم مثلـه »أهـل بيـت اللـه« (أف 2: 19). وهو يطيع الوصية: »مقدّمين بعضكم بعضاً في الكرامة« (رو 12: 10). ويحقّق قول المسيح: »إن كان أحدٌ يخدمني يكرمه الآب« (يو 12: 26). فليحافظ كل مؤمن على كرامة إخوته، وليكن شعارنا: »القديسون الذين في الأرض والأفاضل، كل مسرتي بهم« (مز 16: 3).
7 – صادق الوعود: »يحلف للضرر ولا يغيِّر« (آية 4ج). فهو ينفّذ وعوده ونذوره إذا وعد ونذر، حتى لـو كان هذا يؤذيـه، لأنـه أميـن لكلمتـه ووعوده، فقد نطق بهما أمام الرب، والتزم بتنفيذهما. وقد أمر الله شعبه ألاّ ينكثوا بالوعود (لا 5: 4 و27: 10) والمرنم يطيع هذا الأمر.
وساكن الجبل المقدس يتمثَّل بالله كابنٍ حبيب له (أف 5: 1). ولما كان إلهنا دوماً يحقّق وعوده لنا، فعلينا أن نلتزم بأمانة الكلمة، فما أكثر ما نعِد وننذر في بدء كل سنة جديدة، أو عندما نحتفل بعيد ميلادنا، أو عندما نمرّ بمأزق، أو بعد حضور مؤتمر أو نهضة روحية. فلنكن أمناء لوعودنا حتى لو كلّفتنا الكثير، لنكون مستحقين أن نسكن في جبل قدسه. ومثالنا في ذلك هو المسيح الذي قال عند دخوله إلى العالم: »ذبيحة وقرباناً لم تُرِد، ولكن هيّأت لي جسداً. بمحرقات وذبائح للخطية لم تُسرَّ، ثم قلتُ: هئنذا أجيء. في درج الكتاب مكتوب عني، لأفعل مشيئتك يا ألله« (عب 10: 5-7). لقد وعد وأوفى بالرغم من التضحية الباهظة التي احتملها لأجلنا.
8 – يستخدم المال بطريقة صالحة (آية 5): ويتضح ذلك من أمرين:
(ا) »فضته لا يعطيها بالربا«: (آية 5أ). والربا المنهي عنه هو الذي يُحدِث الضرر، وهذا ما اتفق نحميا مع الشعب عليه (نح 5: 1-13). وكانت شريعة موسى تسمح بإعطاء سُلفة للأجنبي بفوائد، أما اليهودي فيجب أن يعطي أخاه اليهودي بغير فوائد، فقالت: »لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يُقرَض بربا. للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا، لكي يباركك الرب إلهك« (تث 23: 19). وواضح أن الشريعة اليهودية تأمر بالرحمة بين اليهود فقط، وليس للأمم، بينما تعلّم المسيحية بأخوية كل البشر، فقد خلق الله من دمٍ واحد كل أمة من الناس على كل وجه الأرض (أع 17: 26) وعلّمنا أن نصلي: »أبانا الذي في السماوات« (مت 6: 9).
ومنع الربا والفوائد الفاحشة سببه أن المدين يكون أضعف من الدائن، فالمدين يستدين ليسدَّ احتياجاً، لذلك يجب مساعدته. أما في وقتنا الحاضر فإن الضعيف هو الذي يودع فضته في البنوك لتستثمرها له، لأنه يعجز عن استثمارها بنفسه. فالمدين في هذه الحالة (الذي هو البنك) هو القوي، والدائن (المودع) هو الضعيف. فلا ظلم ولا ضرر أن يدفع البنك القوي فوائد للدائن الضعيف!
ويصوّر العهد الجديد الاستثمار بصورة تختلف عن تصوير شريعة موسى. فروى المسيح مثَل صاحب المال الذي أعطى عبيده وزنات ليشتغلوا بها. ولما لم يشتغل أحدهم قال صاحب المال له: »كان ينبغي أن تضع فضتي عند الصيارفة (البنوك). فعند مجيئي كنتُ آخذ الذي لي مع ربا (فوائد)« (مت 25: 27). لأن الصيارفة يستثمرون المال ويشاركون المودع في الفوائد، وليس في المنفعة المتبادلة خطأ. ويعلّمنا المسيح أن الاستثمار واجب، ولكن الفائدة المجحفة والاستغلال مرفوضان.
(ب) »لا يأخذ الرشوة على البريء«: (آية 5ب). الرشوة تعوّج القضاء. عندما يدفع إنسان رشوة ليأخذ ما ليس من حقه يرتكب جريمة، لأنه يكون لصاً يأخذ ما ليس له. أما الذي يأخذ الرشوة فهو لص دائماً، لأنه يساعد لصاً آخر ليأخذ ما ليس من حقه، والمعطي في هذه الحالة يعطي ما لا يمتلكه. أما المجتمعات التي تفشّى فيها الفساد، حيث لا يستطيع صاحب الحق أن يحصل على حقه إلا إذا دفع رشوة، فإن معطي الرشوة لا يرى ذلك خطية، بل يعتبر الرشوة »نفقات عمل«. ولكننا نعتبره ضعيف إيمان، لأنه لم يصبر وينتظر الرب ليعطيه حقَّه. أما آخذ الرشوة فهو لص، لأنه تقاضى الرشوة مقابل إعطاء الناس حقوقهم المشروعة.
وهناك من يرفضون أن يدفعوا رشوة، لأنهم يدركون أن الله سيعطيهم حقهم، فينتظرون الرب. هؤلاء أقوياء إيمان، ولا بد أن يكرم الله إيمانهم ويقول لهم ما قاله للأعميين: »حسب إيمانكما ليكن لكما« (مت 9: 29).
هذه الأوصاف الثمانية تصوّر لنا شخصية كاملة، صاحبة إيمان عامل بالمحبة، تقوم بكل المطلوب في أصغر الأمور وأكبرها على السواء، وبأمانة، لأن محبة الله قد انسكبت في القلب (رو 5: 5).

ثالثاً – خاتمة المزمور
(آية 5ج)
»الذي يصنع هذا، لا يتزعزع إلى الدهر«. فالذي يتَّصف بهذه الصفات يتواجد في محضر الله، تحت ظل الحماية الإلهية التي تضمن له النجاح، فيقول: »جعلتُ الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع« (مز 16: 8).
ويواجهنا سؤال: كيف يمكن أن نمارس هذه الصفات في حياة كل يوم؟ والإجابة: نمارسها عندما نحصل على برِّ المسيح فنطمئن أننا ثابتون في الرب، فيسيطر الروح القدس علينا ويعطينا ثمره، وهو: »محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفّف« (غل 5: 22، 23). ويحاول البعض أن يُجْروا إصلاحات في حياتهم ويجمّلوها، لكن الإصلاح لا ينفع شيئاً. التغيير هو اللازم، فإن ترقيع الثوب القديم بقماش جديد لا يستمر (مر 2: 21). الحاجة هي إلى ثوب جديد. ويتم ذلك التجديد في حياتنا بقوة الروح القدس، لأنه »إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً« (2كو 5: 17). فاطلب التغيير من الله.
ويواجهنا سؤال آخر: ألا يبدو من هذا المزمور أن العمل هو وسيلة الخلاص؟ والإجابة: إن صاحب المزمور يتحدث عن الساكن في جبل الرب المقدس، وقد أدّى كل مطالب شريعة موسى من ذبائح. فهو يعلم أنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة، وأنه بالكفارة وحدها استطاع أن يدخل مسكن الرب. فالبداية بالفداء، ويجيء العمل الصالح ثمراً للفداء بالدم. ولا بد لمن ينال التبرير بالفداء أن يُظهِر ثمر ذلك بحياة التقوى، فإننا نتبرر أمام الله بالإيمان بما عمله المسيح عنا على الصليب، كما تبرر إبراهيم الخليل (تك 15: 6). ونحن نتبرر أمام الناس بالعمل الصالح، كما تبرر إبراهيم أيضاً (تك 22 ويع 2: 21-23). العمل الصالح يتبع الإيمان، فيكون إيماننا عاملاً بالمحبة.
أما الذين يرفضون الفداء بالدم، ويفتخرون بأعمالهم الصالحة كوسيلة لخلاص نفوسهم، فلا يمـكن أن يُرضوا الله، لأنهم يستبعدون الطريق الذي رسمه لنا للخلاص »لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه.. متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح« (رو 3: 20، 24).

اَلْمَزْمُورُ السَّادِسُ عَشَرَ
مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ
1اِحْفَظْنِي يَا اللهُ لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. 2قُلْتُ لِلرَّبِّ: «أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لاَ شَيْءَ غَيْرُكَ. 3الْقِدِّيسُونَ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ وَالأَفَاضِلُ كُلُّ مَسَرَّتِي بِهِمْ». 4تَكْثُرُ أَوْجَاعُهُمُ الَّذِينَ أَسْرَعُوا وَرَاءَ آخَرَ. لاَ أَسْكُبُ سَكَائِبَهُمْ مِنْ دَمٍ، وَلاَ أَذْكُرُ أَسْمَاءهُمْ بِشَفَتَيَّ. 5الرَّبُّ نَصِيبُ قِسْمَتِي وَكَأْسِي. أَنْتَ قَابِضُ قُرْعَتِي. 6حِبَالٌ وَقَعَتْ لِي فِي النُّعَمَاءِ فَالْمِيرَاثُ حَسَنٌ عِنْدِي.
7أُبَارِكُ الرَّبَّ الَّذِي نَصَحَنِي، وَأَيْضاً بِاللَّيْلِ تُنْذِرُنِي كُلْيَتَايَ. 8جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ. لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ. 9لِذَلِكَ فَرِحَ قَلْبِي وَابْتَهَجَتْ رُوحِي. جَسَدِي أَيْضاً يَسْكُنُ مُطْمَئِنّاً. 10لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَاداً. 11تُعَرِّفُنِي سَبِيلَ الْحَيَاةِ. أَمَامَكَ شِبَعُ سُرُورٍ. فِي يَمِينِكَ نِعَمٌ إِلَى الأَبَدِ.
أمامك شبع سرور
هذا المزمور مذهَّبة لداود، بمعنى أن محتويات المزمور من ذهب. وتحمل خمسة مزامير أخرى (56-60) نفس هذا العنوان. وهو مزمور فرح، عامر بالإيمان والرجاء والأمل. فيه تطلُّع مفرِّح إلى الله، نتيجة الشركة معه. وكتب داود هذا المزمور غالباً عندما كان شاول يطارده، ووقع شاول في يده فغفر داود له. ووعد شاول أن يمتنع عن مطاردة داود، لكنه نكث وعده، وعاد يطارده من جديد. ووقع في يد داود مرة ثانية، فغفر له ثانيةً وكلّمه، فعرف شاول صوته، وقال: »أهذا هو صوتك يا ابني داود؟« فقال داود: »إنه صوتي يا سيدي الملك.. لماذا يسعى سيدي وراء عبده، لأني ماذا عملتُ، وأي شر بيدي؟.. إن كان الرب قد أهاجك ضدي فليشتَمَّ تقدمةً (بمعنى: يرضى عن داود). وإن كان بنو الناس فليكونوا ملعونين أمام الرب (لماذا؟) لأنهم قد طردوني اليوم من الانضمام إلى نصيب الرب قائلين: اذهب اعبُد آلهةً أخرى« (1صم 26:17-19). بسبب المطاردة حُرم داود من العبادة، ولكن الله عوَّضه فقال: »الرب نصيب قسمتي وكأسي. أنت قابض قرعتي. حبالٌ وقعت لي في النُّعماء، فالميراث حسن عندي« (مز 16:5 و6).هذا المزمور نبوّة عن المسيح المقام، اقتبس الرسول بطرس منه الآية 8 في أعمال 2: 25 وقال: »لأن داود يقول فيه: كنتُ أرى الرب أمامي في كل حين، أنه عن يميني لكي لا أتزعزع«. كما اقتبس منه الرسول بولس آية 10 في أعمال 13: 35-39 وقال: »لن تدع قدوسك يرى فساداً. لأن داود بعدما خدم جيله بمشورة الله رقد وانضَّم إلى آبائه، ورأى فساداً. وأما الذي أقامه الله فلم يرَ فساداً. فليكن معلوماً عندكم أيها الرجال الإخوة، أنه بهذا (بالمسيح المقام) يُنادى لكم بغفران الخطايا، وبهذا يتبرر كل مَن يؤمن«.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – علاقة المرنم بالله (آيتا 1، 2)
ثانياً – علاقة المرنم بالناس، من أبرار وأشرار (آيتا 3، 4)
ثالثاً – المرنم وحياته على الأرض (آيات 5-8)
رابعاً – المرنم وحياته في الأبدية (آيتا 9، 10)
خامساً – بركة المرنم الثلاثية (آية 11)
أولاً – علاقة المرنم بالله
(آيتا 1، 2)
يبدأ المرنم مزموره بالحديث عن علاقته بالرب، ويدعوه ليحفظه، لا من خطر محدَّد، بل من كل خطر يمكن أن يحل به، سواء شعر به قادماً عليه أم لم يشعر. إنه يدرك ضعفه وحجم الخطورة المحدقة به من الملك شاول، ولذلك يلقي اتكاله على الله، ويوضح علاقته الخاصة بالرب.
1 – الله محل الاعتماد: »احفظني يا الله لأني عليك توكلت« (آية 1). والاتكال يعني أن يعتمد الإنسان مطمئناً على من يضع ثقته فيه، كما يستسلم المريض لمشرط الجراح، أو يعطي إنسان توكيلاً عاماً لمحامٍ، لثقته في الاثنين. صلى المسيح من أجل المؤمنين: »أيها الآب القدوس، احفظهم في اسمك الذين أعطيتني« (يو 17: 11) والمؤمن يدرك أن »اسم الرب برج (قلعة) حصين، يركض إليه الصديق ويتمنَّع« (أم 18: 10). الله وحده برج الخلاص والنجاة، يدعوه المؤمن: »ميِّز مراحمك يا مخلّص المتَّكلين عليك بيمينك من المقاومين« (مز 17: 7).
2 – الله هو السيّد: »قلت للرب: أنت سيدي« (آية 2أ) وقال: »أعطِ عبدك قوتك وخلّص ابن أمتك« (مز 86: 16) وقال أيضاً: »يا رب إني عبدك، ابن أمتك« (مز 116: 16). ينتمي داود للرب ويُدعى اسم الله عليه. هو عبد بمحض اختياره، يقول: »أُحبّ سيدي.. لا أخرج حراً« (خر 21: 5). لأنه عندما يستعبد نفسه لله يصبح حراً وآمناً ومطمئناً.. والله هو سيدنا لأنه خلقنا، وهو مالكنا بحكم أنه اشترانا لنفسه بدم المسيح. ومعرفتنا بهاتين الحقيقتين المباركتين تجعلنا نعترف بسيادته على حياتنا لأننا خليقة يديه، ولأننا مفديون بدمه.
3 – الله مصدر الخير: »خيري لا شيء غيرك« (آية 2ب). فالله نفسه هو خير المرنم، كما أنه يمنح المرنم كل خير. كل ما يتمناه المرنم من خير موجود في الله ومعه. فيقول له: »من لي في السماء؟ ومعك لا أريد شيئاً في الأرض« (مز 73: 25). لقد صارت ثقة داود بالرب أسلوب فكر وطريقة حياة كل يوم. يتّجه قلبه إلى الله دائماً في وقت الخطر كما في وقت الأمان، كما تتّجه البوصلة للقطب الشمالي، وكما ينجذب الحديد للمغناطيس. يتجه لله وقت التجربة كما في وقت السلامـة، ووقـت الخـوف كما في وقـت السـلام. صار الله قِبلتـه الدائمة، يقول له: »أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررت« (مز 40: 8).
ثانياً – علاقة المرنم بالناس، من أبرارٍ وأشرار
(آيتا 3، 4)
1 – علاقة المرنم بالأبرار: »القديسون الذين في الأرض والأفاضل كل مسرتي بهم« (آية 3) يتّجه المرنم من الله في سمائه إلى المؤمنين في أرض الله، فيقول: »كل مسرَّتي بهم«. هي علاقة سرور بمن يحبون الرب كما يحبه هو. وهي علاقة وحدانية في الروح (أف 4: 3). فإن »كل من يحب الوالد يحــب المـولـود منـه أيضـاً. بهــذا نعـرف أننـا نحـب أولاد الله إذا أحببنـا الله وحفظنـا وصـايـاه« (1يو 5: 1، 2).
ويطلق المرنم على الأبرار لقبين: »قديسين« و»أفاضل«.
(أ) »القديسون«: لأن الله دعاهم ليكونوا له مملكة كهنة وأمة مقدسة (خر 19: 6). »قديسون« بمعنى الطاهرون الذين يعيشون »نظير القدوس الذي دعاهم من العالم« فصاروا قديسين في كل سيرة (1بط 1: 15). ورآهم »قديسين« بمعنى المفرَزون لله، المخصَّصون له، الذين أوقفوا نفوسهم على حبه. ورآهم »قديسين« بمعنى أنهم مختلفون عن غيرهم، لأن الروح القدس فيهم يعطيهم نوعية حياة غير التي في العالم. »بهذا أولاد الله ظاهرون، وأولاد إبليس« (1يو 3: 10). الذي فيهم أعظم من الـذي في العالم (1يو 4: 4). ورآهـم »قديسيـن« بمعنـى مرتفعون، كما رأى إشعياء العرش الإلهي (إش 6: 1-3) فمستواهم الروحي أعلى من مستوى المحيطين بهم. وتجيء القداسة من عمل المسيح على الصليب لتطهير القلوب »نحن مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح« (عب 10: 10)، ونتيجة لقبول هـذا العمـل لأجلنا فقـد »اختـارنا فيه قبـل تأسيس العـالم لنكـون قديسيـن وبـلا لوم قـدامـه فـي المـحبة« (أف 1: 4).
ومـع ذلك فقد رآهم »في الأرض« كما صلى المسيح لأجلهم: »لستُ أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظـهم مـن الشريــر« (يو 17: 15) فإنهـم يجـب أن يكـونـوا ملـح الأرض ونـور العــالم (مت 5: 13، 14) لكي يكونوا بلا لوم وبسطاء في وسط جيلٍ معوَّج وملتوٍ، يضيئون بينهم كأنوار في العالم، متمسّكين بكلمة الحياة (في 2: 15، 16). فبالرغم من وجودهم وسط أوحال العالم استطاعوا أن يحتفظوا بلقب »القديسين«. ونحن اليوم نقدر أن نحيا حياة القداسة في عالم مليء بالشر، لو أن الروح القدس ملك تصرفاتنا، ولو أننا قلنا للرب: »أنت سيدي. خيري لا شيء غيرك«.
(ب) »الأفاضل«: وهم النبلاء ذوو السمعة الحسنة، الذين يتحقّق فيهم قول المسيح: »فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات« (مت 5: 16).
لم يقُل المرنم إن مسرته بالأغنياء ولا بالأقوياء، بل بالذين انتموا للرب فسكن قلوبهم، وأعطاهم اسماً صالحاً، لأنه رأى أنهم الأفاضل. وهناك جاذبية خاصة يضعها الروح القدس في قلوب المؤمنين من نحو بعضهم البعض لأن المسيح ساكن فيهم، وهو سيد حياتهم، فينجذبون لبعضهم بربُط المحبة. ولو أن مؤمنين كثيرين لا يقدِّرون بعضهم بعضاً كما يجب، كما أن بعض الطوائف المسيحية تقلل من قيمة غيرها. لكن كل المؤمنين قديسون وأفاضل بسبب مركزهم في المسيح. وهكذا يجب أن نراهم لأن الله يراهم كذلك.
2 – علاقة المرنم بالأشرار: »تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر. لا أسكب سكائبهم من دم، ولا أذكر أسماءهم بشفتيَّ« (آية 4). يتكلم عن ضلال الأشرار وعقاب الرب لهم، ثم يعلن مقاطعته لعبادتهم.
(أ) ضلال الأشرار وعقابهم: »تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر« الذين يوصفون بالقول: »أما شعبي فقد بَدَلَ مجده بما لا ينفع.. لأن شعبي عمل شرّين: تركوني أنا ينبوع المياه الحية، لينقروا لأنفسهم آباراً آباراً مشقَّقة لا تضبط ماءً« (إر 2: 11، 13). اجتذبتهم مباهج العالم واختطفتهم أوثانه فأسرعوا وراء الضلال، في انحدار خطير يبدد سلامهم الروحي ومصيرهم الأبدي. وبهذا الضلال الروحي ظلموا أنفسهم، فكثرت أوجاعهم. ويصوّر الابن الضال في الكورة البعيدة (لو 15: 11-32) هذه الأوجاع الكثيرة. أولها الحرمان من الحضور الأبوي، ثم الحرمان من البركة الإلهية، ثم الضياع في الأوهام والشرور وخداع الأصحاب المستغلّين. والنهاية الحزينة هي الموت الأبدي.
(ب) مقاطعة المرنم لعبادتهم: »لا أسكب سكائبهم من دم، ولا أذكر أسماءهم بشفتيَّ«. ربما يقصد المرنم أنه لا يشترك معهم في عبادتهم الوثنية، فهم يسكبون الدماء على ذبائحهم وهو لا يفعل ذلك. أو ربما يقصد أنهم يقدمون ذبائح لأوثانهم بأيدٍ ملطخة بالدماء، وقد قال الله بفم النبي إشعياء عن أصحاب التقدمات المرفوضة: »من يذبح ثوراً فهو قاتل إنسان. من يذبح شاةً فهو ناحر كلب. من يُصعد تقدمة يُصعد دم خنزير. من أحرق لباناً فهو مباركٌ وثناً« (إش 66: 3).
أما قوله: »لا أذكر أسماءهم بشفتيَّ« فيعني أنه لا يذكر حتى أسماء أصنامهم. كان داود قد قضى وقتاً هارباً من الملك شاول في البلاد التي تعبد الوثن، ولا بد أنهم دعوه ليطلب من أوثانهم أن تنقذه، معتقدين أنه كان محتاجاً لمساعدتهم. لكنه رفض حتى أن يتلفَّظ باسم وثنهم! ويبدو هذا الكلام سهلاً عندما تكون الظروف حسنة، لكنه يحتاج إلى ولاءٍ ومحبة قويين للرب عندما تكون الظروف سيئة. ولقد كان ولاء داود لله كاملاً ومطلقاً.
ثالثاً – المرنم وحياته على الأرض
(آيات 5-8)
في هذه الآيات الأربع يقول داود إن الرب مُنْيته وحظه ونصيبه، وفي يديه مصيره (آية 5)، وهو الذي يختار ويقسم له، فما أجمل ميراثه! (آية 6). والرب ناصحه الذي يرشده (آية 7)، كما أنه يثبّته فلا يتزعزع (آية 8).
1 – الرب نصيبه: »الرب نصيب قسمتي، وكأسي« (آية 5أ). و»القسمة، والكأس« هما نصيب الإنسان من الطعام والشراب والمسكن. والله يشبع كل احتياجات المؤمن. وهذا ما حدث مع اللاويين، فقد قال الرب لهارون: »لا تنال نصيباً في أرضهم ولا يكون لك قسم في وسطهم« (لماذا) »أنا قسمك ونصيبك في وسط بني إسرائيل« (عدد 18: 20). »لذلك لم يكن للاوي قسمٌ ولا نصيب مع إخوته. الرب هو نصيبه« (تث 10: 9). يقول المرنم: »عطشَت نفسي إلى الله، إلى الإله الحي. متى أجيء وأتراءى قدام الله!« (مز 42: 2) فقد قال المسيح: »أنا هو خبز الحياة. من يُقبِل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً« (يو 6: 35). لذلك يقول المرنم إن الرب »نصيب قسمتي وكأسي« أرتوي منك. أنت حظي في الحياة. أنت تعيّن لي ما أختبره. قد يكون الكأس مراً وقد يكون حلواً. قال عن الحلو: »كأسي ريّا« أي كأسي امتلأ وفاض بالخير (مز 23: 5). أما الكأس المرّ فقال عنها المسيح: »يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت« (مت 26: 39).
يرى المؤمن أن الرب نصيبه وكأسه فيفرح، لكن ما أكثر من لا يكتفون بما قسمه الله لهم من أنصبة، ويرفضون الكأس التي قدَّمها لهم الرب، فيطلبون أنصبة وكؤوساً أخرى، وهم لا يعلمون أنهم بذلك يظلمون أنفسهم، ولا يُحسِنون الاختيار.
ثم يقول المرنم عن الرب: »قابض قرعتي« (آية 5ب). فالرب يختار نصيب المؤمن ويعطيه له، فلا يسلبه أحدٌ منه. عندما تُلقَى القرعة يختار الرب للمؤمن. يختار له الوظيفة، وشريك الحياة، والظروف الصعبة لينضُج، كما يختار له الظروف السهلة ليشكر ويسبح. في يدي الرب مصير المؤمن، فلا يعيش حياة الصدفة. كل ما يمرّ بنا وكل ما نمرّ به هو بالترتيب الإلهي المسبَّق، وبحسب الحكمة الإلهية العظيمة.
2 – الرب يختار له: »حبالٌ وقعت لي في النُّعماء، فالميراث حسنٌ عندي« (آية 6). كانوا يقسمون الأرض بين الورثة بحبْل القياس. فوقعت حبال ميراث المرنم »في النُّعماء« أي في الأرض المبهجة الخصبة، وفي الأوقات السعيدة. وجاءت الآية في ترجمة حديثة »ما أحلى ما قسمْتَ لي! ما أجمل ميراثي!«. والذين يختبرون الله يدركون أنه دوماً يختار لهم المكان المناسب والتوقيت المناسب. أحياناً نتذمر لأن الله أعطانا مكاناً لا نريده، أو أنه أعطاه لنا في غير موعده. لكن بعد وقتٍ، عندما نتأمل المعاملة الإلهية نكتشف أنه أعطانا أفضل شيء في أحسن موعد.
3 – الرب ينصحه: »أبارك الرب الذي نصحني« (آية 7أ). يقدم المرنم الشكر لله لأنه دائماً ينصحه ليختار الرب ويتبعه في ثقة ومحبة وطاعة. والمسيح هو »المشير« (إش 9: 6) الذي يقدم أعظم نصيحة. » كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله« (رو 8: 14). ويقول الله: »أعلّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك« (مز 32: 8). قال النبي إرميا: »عرفتُ يا رب أنه ليس للإنسان طريقه. ليس لإنسانٍ يمشي أن يهدي خطواته« (إر 10: 23) فما أحوجنا إلى الإرشاد الإلهي! وما أحوجنا إلى طاعة الإرشاد والسلوك فيه.
ويحدث أن الرب يقدم لنا نصيحة فنهملها، فيوبّخنا وتلومنا قلوبنا. ويصف المرنم هذا بقوله: »وأيضاً بالليل تنذرني كليتاي« (آية 7ب). كان القدماء يعتبرون القلوب والكُلى مركز العواطف. والتعبير »تنذرني كليتاي« يعني أن ضميري يؤنّبني. فإذا نصح الرب ولم ينتصح المؤمن، ينبّهه أثناء الليل إلى الخطأ ويوبّخه عليه ويبكّته بعمل الروح القدس فيه! وكلما أصغى المؤمن للرب نال حكمة روحية وفطنة داخلية، وتحقق معه الوعد: »لا يختبئ معلّموك بعد، بل تكون عيناك تريان معلّميك، وأذناك تسمعان كلمة خلفك قائلة: هذه هي الطريق. اسلكوا فيها حينما تميلون إلى اليمين وحينما تميلون إلى اليسار« (إش 30: 20، 21).
4 – الرب يثبِّته: »جعلتُ الرب أمامي في كل حين. لأنه عن يميني فلا أتزعزع« (آية 8). بعد كل هذه البركات، هل تظنون أن المرنم يجعل شيئاً أو شخصاً أمامه غير الرب؟ إن الرب »أمامه« يقوده ويهديه. هو النموذج والمثل. والرب »عن يمينه« يضعه في موضع الحماية. والراعي الصالح يحفظ خرافه ويبذل نفسه في سبيل حراستها. له نقول: »يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك. ونحن قد آمنا« (يو 6: 68، 69).
رابعاً – المرنم وحياته في الأبدية
(آيتا 9، 10)
يتكلم المرنم عن مستقبله الأبدي بكل رجاء وأمل.
1 – موضوع الأمل: »لذلك فرح قلبي وابتهجت روحي. جسدي أيضاً يسكن مطمئناً« (آية 9). امتلأت حياته هنا بحضور الله، فتمتلئ حياته به في الآخرة. وفي هذه الآية يتطلّع المرنم إلى ميراثه الأبدي بسرور وثقة. قلبه فرح، وروحه ابتهجت، وجسده سيودع التراب ويسكن مطمئناً في انتظار القيامة المجيدة.
يخاف كثيرون من الموت، ولكن المؤمن الذي ثبت في الرب يقول مع داود: »جسدي أيضاً يسكن مطمئناً« فالموت بالنسبة له ليس النهاية، لكنه بداية حياة جديدة. قال المسيح: »أنا أمضي لأُعدَّ لكم مكاناً. وإن مضيتُ وأعددتُ لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إلىَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً« (يو 14: 2، 3). الآن نحن مستوطنون في الجسد ومتغرّبون عن الرب، وسيجيء الوقت الذي فيه نتغرّب عن الجسد ونستوطن عند الرب (2كو 5: 6، 8). قال سمعان الشيخ: »الآن تُطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك« (لو 2: 29، 30). لا يخاف المؤمن على جسده من التراب لأنه هيكل الروح القدس. وعند مجيء المسيح ثانيةً سيغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء (في 3: 21).
2 – سبب الأمل: »لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيّك يرى فساداً« (آية 10). لم يترك الله جسد المسيح في القبر لأنه قام في اليوم الثالث من بين الأموات، وهو في محبته يسمح للمؤمن أن يقول نفس الكلمات عن آخِرته، فما تحقق للمسيح هو سبب وأساس ما سيتحقق للمؤمن. لقد أنار المسيح لنا الحياة وأنار الخلود بواسطة الإنجيل (2تي 1: 10) وقال المسيح: »إني أنا حي فأنتم ستَحيون« (يو 14: 19). حاضر المؤمن رائع، ولكن مستقبله أروع، وغد المؤمن أفضل من يومه، ومستقبله أفضل من حاضره، لأنه يبني رجاءه على قيامة المسيح ابن داود، التي هي عربون قيامتنا وضمانها.
وكلمات داود في هذا المزمور نبوّة عن قيامة المسيح، لأن داود بعد ما خدم جيله بمشورة الله مات ودُفن، ورأى جسده فساداً. وأما المسيح فقد أقامه الله، ولم يرَ فساداً، وعندما يعود إلى أرضنا يُضرب بالبوق، فيُقام الأموات عديمي فساد (أع 2: 25 و13: 35-38 و1كو 15: 52).
خامساً – بركة المرنم الثلاثية
(آية 11)
كل من يثبت في الرب، ويجعله أمامه في كل حين، يقف الرب عن يمينه فلا يتزعزع، عندها يتحقق معه قول داود: »تعرّفني سبيل الحياة. أمامك شبع سرور. في يمينك نِعم إلى الأبد« (آية 11). وتذكر هذه الآية ثلاث بركات للمؤمن، أولها بركة تغطي ماضيه. وثانيها حاضره، وثالثها بركة لمستقبله:

1 – »سبيل الحياة«: بأن يقوده إلى حياة أُنس عميق بالله، وهي وحدها الجديرة بأن تُسمّى »حياة« لأنها هي التي جاء المسيح ليهبها لمحبّيه »أتيتُ لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل« (يو 10: 10). فإن حافظ »التعليم هو في طريق الحياة« (أم 10: 17). و»سبيل الحياة« هنا لا يعني السبيل الذي يؤدي للحياة، ولكن السبيل الذي نحيا ونسلك فيه، وهو سبيل البر »في سبيل البر حياة، وفي طريق مسلكه لا موت« (أم 12: 28).
2 – »شِبع سرور«: تجعل الخطية الإنسان يهرب من محضر الله، فيقول: »سمعتُ صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت« (تك 3: 10). يمتزج الحزن بالفرح في حياة البشر، ولكن الرب يحوِّل حزن المؤمن إلى فرح. والذي عرف سبيل الحياة مع الله يشبع فرحاً لأن قلبه التقي يقدر أن يستوعب ذلك الفرح. إنه يشبع بفرح الغفران والتقديس ومعرفة الله والثقة والسلام والطمأنينة. »ومفديّو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنُّم، وفرحٌ أبدي على رؤوسهم. ابتهاجٌ وفرحٌ يدركانهم، ويهرب الحزن والتنهُّد« (إش 35: 10).
3 – »نِعمٌ إلى الأبد«: تمتدُّ يمين الرب القوية بالعطاء والسلام. ونِعمهُ أبدية: نعمة التبنّي والغفران والحياة الأبدية. وهذه كلها تبدأ هنا، ولا تنتهي أبداً. صحيحٌ أن هناك نِعماً لا تبقى إلى الأبد. سيأتي يوم يتوقف فيه الجسد عن الأكل، وعن الامتلاك المادي. والرب يعطي أحباءه النعم في هذا الدهر، والنعم في الدهر الآتي.
ما أجمل نهاية هذا المزمور وهو يعلن لنا انتصار المسيح، الذي هو انتصارنا ما دمنا ثابتين فيه. »الله الذي هو غني في الرحمة.. ونحن أمواتٌ بالخطايا أحيانا مع المسيح.. وأقامنا معه، وأجلسنا في السماويات في المسيح يسوع« (أف 2: 4-6).
أيها المؤمنون، أهنئكم لأن الرب يعرّفكم سبيل الحياة. حاضركم رائع.. أمامكم شبع سرور.. مستقبلكم أروع: نِعَم إلى الأبد!
اَلْمَزْمُورُ السَّابِعُ عَشَرَ
صَلاَةٌ لِدَاوُدَ
1اِسْمَعْ يَا رَبُّ لِلْحَقِّ. أُنْصُتْ إِلَى صُرَاخِي. أَصْغِ إِلَى صَلاَتِي مِنْ شَفَتَيْنِ بِلاَ غِشٍّ. 2مِنْ قُدَّامِكَ يَخْرُجُ قَضَائِي. عَيْنَاكَ تَنْظُرَانِ الْمُسْتَقِيمَاتِ. 3جَرَّبْتَ قَلْبِي. تَعَهَّدْتَهُ لَيْلاً. مَحَّصْتَنِي. لاَ تَجِدُ فِيَّ ذُمُوماً. لاَ يَتَعَدَّى فَمِي. 4مِنْ جِهَةِ أَعْمَالِ النَّاسِ فَبِكَلاَمِ شَفَتَيْكَ أَنَا تَحَفَّظْتُ مِنْ طُرُقِ الْمُعْتَنِفِ. 5تَمَسَّكَتْ خَطَواتِي بِآثَارِكَ، فَمَا زَلَّتْ قَدَمَايَ.
6أَنَا دَعَوْتُكَ لأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي يَا اللهُ. أَمِلْ أُذُنَيْكَ إِلَيَّ. اسْمَعْ كَلاَمِي. 7مَيِّزْ مَرَاحِمَكَ يَا مُخَلِّصَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ بِيَمِينِكَ مِنَ الْمُقَاوِمِينَ. 8احْفَظْنِي مِثْلَ حَدَقَةِ الْعَيْنِ. بِظِلِّ جَنَاحَيْكَ اسْتُرْنِي 9مِنْ وَجْهِ الأَشْرَارِ الَّذِينَ يُخْرِبُونَنِي، أَعْدَائِي بِالنَّفْسِ الَّذِينَ يَكْتَنِفُونَنِي. 10قَلْبَهُمُ السَّمِينَ قَدْ أَغْلَقُوا. بِأَفْوَاهِهِمْ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالْكِبْرِيَاءِ. 11فِي خَطَواتِنَا الآنَ قَدْ أَحَاطُوا بِنَا. نَصَبُوا أَعْيُنَهُمْ لِيُزْلِقُونَا إِلَى الأَرْضِ. 12مَثَلُهُ مَثَلُ الأَسَدِ الْقَرِمِ إِلَى الاِفْتِرَاسِ، وَكَالشِّبْلِ الْكَامِنِ فِي عِرِّيسِهِ.
13قُمْ يَا رَبُّ. تَقَدَّمْهُ. اصْرَعْهُ. نَجِّ نَفْسِي مِنَ الشِّرِّيرِ بِسَيْفِكَ. 14مِنَ النَّاسِ بِيَدِكَ يَا رَبُّ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا. نَصِيبُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ. بِذَخَائِرِكَ تَمْلأُ بُطُونَهُمْ. يَشْبَعُونَ أَوْلاَداً وَيَتْرُكُونَ فُضَالَتَهُمْ لأَطْفَالِهِمْ. 15أَمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ.

عيناك تنظران المستقيمات
هذا واحد من خمسة مزامير تحمل عنوان »صلاة« ثلاثة منها لداود، هي 17، 86، 142. وواحد لموسى هو مزمور 90. ومزمورٌ »لمسكين إذا أعيا« هو 102. ومن نِعم الله علينا أنه يجعل الصعوبات بركة لنا، لأنها تجعلنا نركع صارخين طالبين عونه. لقد أحاط العدو بداود وأصحابه كالأسـد القـَرِم المتلهِّـف للافتراس (آية 12) فصرخوا إلى الله: »في خطواتنا الآن قد أحاطوا بنا« (آية 11). ولعل مناسبة كتابة المزمور مطاردة شاول لداود إلى برية معون.. وكان داود يفرّ من أمام شاول، وكان شاول ورجاله يحيطون بداود ورجاله ليأخذوهم (1صم 23:25-27).
ومن نِعم الله علينا أن المزامير بركة لنا، لأنها تعلّمنـا أن نصلي قائليـن: »لك قال قلبي: قلتَ اطلبوا وجهي. وجهك يا رب أطلب« (مز 27: 8). ويصبح شعار حياتنا دائماً »أما أنا فصلاة«
(مز 109: 4). ونطيع أمر المسيح: »ينبغي أن يُصلّى في كل حين ولا يُملّ« (لو 18: 1).
فلنطلب من الرب أن تكون الآية الأولى من هذا المزمور شعارنا: »أصغِ إلى صلاتي من شفتين بلا غش« وأن تكون آيته الأخيرة اختبارنا اليومي: »أما أنا فبالبرّ أنظر وجهك. أشبع إذا استيقظت بشَبَهك«. فنشبع به وبأفضاله في برية هذه الحياة.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يطلب العون بسبب براءته (آيات 1-5)
ثانياً – المرنم يطلب العون بسبب شر أعدائه (آيات 6-14)
ثالثاً – المرنم يعلن فرحه بالرب (آية 15)
أولاً – المرنم يطلب العون بسبب براءته
(آيات 1-5)
1 – الرب يسمع للحق: »اسمع يا رب للحق. أَنصِت إلى صراخي. أصغِ إلى صلاتي من شفتين بلا غشّ« (آية 1). يُسمِع المرنم صوته الضعيف إلى الإله القوي في ثلاث كلمات: اسمع، أنصِت. أصغِ. وهو لا يشاء أن تضيع طلباته وسط ضوضاء ظالميه، وهو لا يريد إلا أن يصل صوته إلى قاضيه العادل. فالصلاة »سكب النفس« (1صم 1: 15) وهي »سكب القلب« (مز 62: 8). في هذه الطلبة لا يبني داود دعاءه على برّه الذاتي، ولا على براءته المطلقة من كل شر، فإن مزمور 51 يرينا كيف أسرع معترفاً بخطئه لما عرف به، بسبب حساسية ضميره. ولكنه في الحالة التي يكتب فيها مزموره هذا تحدث عن موقف معيّن كان فيه بلا ذنب، فقد طارده العدو المفتري وهو البريء، فصرخ يطلب النجدة والإنقاذ بدعوى أنه في هذا الموقف بالذات بريء. لم تكن كل حياته بلا خطأ، لكنه هنا كان يمكن أن يقول: »إن راعيتُ إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب. لكن قد سمع الله. أصغى إلى صوت صلاتي. مباركٌ الله الذي لم يُبعِد صلاتي ولا رحمته عني« (مز 66: 18-20).. كانت شكوى داود سليمة، لأنه كان على حق. كان يمكن أن يقول: »اقضِ لي يا رب كحقي، ومثل كمالي الذي فيَّ« (مز 7: 8). وهو يعلم أنه يخاطب القاضي العادل بالقول: »جلستَ على الكرسي قاضياً عادلاً« (مز 9: 4).
يصلي المرنم كطفل يصرخ مستنجداً بأبيه. وصلاة البريء لا تستحق القبول في ذاتها، ولكنها تلقَى القبول لأنها موجَّهةٌ إلى الآب المحب والقاضي العادل.
2 – الرب يبرّر: »مِن قدامـك يخـرج قضـائي. عينـاك تنظـران المستقيمات« (آية 2أ). بهذا يوضح داود أساس موقفه السليم ووقوفه في جانب الحق، فالله هو الذي يوقفه موقف الأبرار. وهناك كلمتان عبريتان للبر في العهد القديم، إحداهما تصف البر أمام الناس، والثانية تصف البر في نظر الله. جاءت الأولـى وصفاً لأيوب في القول: »كان هذا الرجل كاملاً ومستقيماً (باراً) يتَّقي الله ويحيد عن الشر« (أي 1:1). فقد رأى الناس صلاح أيوب واستقامته وعدالته وبره. أما البر أمام الله فيوصف صاحبه بالقول: »يحمل بركة من عند الرب وبِرّاً من إله خلاصه« (مز 24: 5). ويقول الرب عن هذا البر: »قريبٌ بري. قد برز خلاصي. وذراعاي يقضيان للشعوب« (إش 51: 5).
قال داود لله: »عيناك تنظران المستقيمات« (آية 2ب) بمعنى الأفعال المستقيمة والناس المستقيمين. ومن هو الإنسان المستقيم إلا الذي يحتمي في كفارة المسيح فيراه الله مقبولاً؟ وكلمة »كفارة« تعني تغطية وستر. قال عنها »طوبى للذي غُفر إثمه وسُترت خطيته. طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطية ولا في روحه غش« (مز 32: 1، 2). »إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. متبرّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح« (رو 3: 23، 24). فلنعترف بخطايانا ولنلجأ إلى بر المسيح، لأنه »إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم« (1يو 1: 9). وعندها يمكن أن نقول لله: »عيناك تنظران المستقيمات« معتمدين على بر المسيح.
3 – الرب يمتحن: »جـرَّبـت قلبـي. تعهَّدته ليلاً. محَّصتني. لا تجد فيَّ ذموماً. لا يتعدَّى فمي« (آية 3). عندما أوى المرنم إلى فراشه دارت الأفكار في رأسه، وراجع ما حدث معه خلال اليوم، فرفع وجهه لله في شكر، لأنه حفظه من الشر حتى لا يُتعِبه. لقد فحَصَ الله قلب نبيّه »فإن فاحص القلوب والكلـى الله البار.. لأنك جرَّبـتنا يـا الله. محَصـتنا كمحص الفضة.. بالليل تنذرني كليتاي« (مز 7: 9 و66: 10 و16: 7). وكانت نتيجة الفحص سلامة موقف المرنم في كلامه وعمله. وكأن داود يقول لله: »يا رب، أنت تعلم كل شيء. أنت تعرف أني أحبك« (يو 21: 17). »إن لم تلُمنا قلوبنا، فلنا ثقة من نحو الله« (1يو 3: 21). وفحص الله كلمات نبيِّه فوجد أن فمه لا يتعدَّى، مثل الذين »في أفواههم لم يوجد غش، لأنهم بلا عيب قدَّام (أمام) عرش الله« (رؤ 14: 5).
4 – الرب يحمي: »من جهة أعمال الناس، فبكلام شفتيك أنا تحفَّظت من طرق المعتنف (العنيف). تمسَّكَتْ خطواتي بآثارك فما زلَّت قدماي« (آيتا 4، 5). قارن المرنم نفسه بغيره فوجد أنه أطاع الرب ورفض طرق المعتنفين الذين يعاملون الآخرين بقسوة ويؤذون ويدمِّرون، ويقطعون الطريق ويسفكون الدماء (حز 18: 10). لم يتَّخذ منهم أصدقاء ولا اقتدى بتصرفاتهم، فإن طرقهم عكس طريق الحياة. لقد تبع فكر الحكيم في الأمثال: »باعِد رجلك عن الشر« (أم 4: 27) ونفَّذ النصيحة: »امتنعوا عن كل شِبه شر« (1تس 5: 22). وعندما وقف في محضر الرب، وتطهَّر بكلمته قال: »تمسَّكت خطواتي بآثارك فما زلَّت قدماي«. فإن كنا نريد عون الرب فلنراقب خطواتنا، فإن ما يزعج المؤمن ليس ما يهاجمه من الخارج، بل انحرافه من الداخل. بكلام الرب يحفظ المرنم نفسه من الشر فلا يخطئ (مز 119: 11) لأن كلمة الله هي »سيف الروح« (أف 6: 17) ومـن يتمسـك بهـا يُقـال لـه: »كتبتُ إليكـم أيهـا الأحـداث لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير« (1يو 2: 4).

ثانياً – المرنم يطلب العون بسبب شر أعدائه
(آيات 6-14)
1 – الرب هو المنقذ الوحيد: »أنا دعوتك لأنك تستجيب لي يا الله. أَمِل أذنيك إليّ. اسمع كلامي. ميّز مراحمك يا مخلّص المتكلين عليك بيمينك من المقاومين. احفظني مثل حدقة العين. بظل جناحيك استرني« (آيات 6-8). جميل أن نلجأ إلى الله لأننا اختبرنا أمانته وصلاحه ومحبته، وعندما طلبناه استجابنا. »في يوم دعوتك أجبتني. شجعتني قوة في نفسي« (مز 138: 3). وهذا الإله المستجيب يستجيب دوماً لأنه لا يتغير، ولأن احتياجاتنا دائمة، لذلك نقول: »أًمِل أذنيك إليَّ. اسمع كلامي‎«. وجميل أن نكون من أسرة مؤمنة، ونفتخر أننا النسل الروحي لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فهذا يعني أن لنا تراثاً عميقاً في استجابة الصلاة. فإذا لم يكن لنا التراث الروحي في أسرتنا، فيمكننا بنعمة الله أن نبدأ هذا التراث في عائلتنا اليوم. قُل له: »وابدأن فيَّ أنا«.
ثم يقول المرنم: »ميّز مراحمك يا مخلّص المتكلين عليك بيمينك من المقاومين« (آية 7) فهو يطلب تدخُّل الرحمة الإلهية تدخُّلاً خاصاً متميزاً لأن احتياجه عظيم، والقوة الإلهية أعظم. إنها اليمين المقتدرة الحكيمة المختبرة القوية القريبة دائماً. »ميِّز مراحمك« للعقل فينجو من الجهل، وللقلب فتنتعش ثقته، وللفكر فتتبدَّد مخاوفه. ولا بد أن يميِّز الله مراحمه بأن يظهرها ساعة الاحتياج إليها، فهو مخلِّص المتَّكلين عليه في الماضي والحاضر والمستقبل.
وجميل أن نلاحظ في هذه الصلاة تركيزها على المحبة الإلهية قبل التركيز على شر الأعداء. ولو تبعنا هذا الاتجاه السليم نتعلم أن لا نركز صلاتنا على المشكلة، بل نُبعد أفكارنا عن الصعوبة، وننظر إلى رئيس إيماننا ومكمِّله، وهو يعالج مشاكلنا بمحبته وقوته.
ثم يقول المرنم: »احفظني مثل حدقة العين« (آية 8أ). عندما نطلب طلباً كبيراً نطلبه من شخص نثق فيه كثيراً، ونثق أن يُعزّنا كثيراً. وكلما أدركت أن لك مكانة كبيرة عند الرب رفّعت طلبك إلى فوق. ويطلب المرنم أن يعتبره الله مثل »حدقة العين« وهي الأرقّ والأغلى، فيعاملونها بكل العناية والحرص. ولا شك أن داود كان يتذكر كلمات موسى للشعب وهو يشرح لهم اختبارات البرية في صحـراء سينـاء القاحلة مـدة أربعيـن سنـة، فقـال لهـم: »أحاط بـه ولاحظـه وصانـه كحدقـة عينـه« (تث 32: 10). صحيح أن »من يمسُّكم يمس حدقة عينه« (زك 2: 8).
ويعبّر المرنم عن ثقته في محبة الله له فيقول: »بظل جناحيك استُرني« (آية 8ب). وهو تعبير جميل عن عناية الأم بصغارها، كما تفعل الدجاجة (مت 23: 37). »ما أكرم رحمتك يا الله! فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون« (مز 36: 7). »لأنه بك احتمت نفسي، وبظل جناحيك أحتمي إلى أن تعبر المصائب« (مز 57: 1) »لأنك كنت عوناً لي، وبظل جناحيك أبتهج« (مز 63: 7).
2 – أعداء المرنم أردياء قساة: (آيات 9-12).
إنهـم »يخربون« ويدمرون الجسـد، وهم »يكتنفون« ويحيطـون بنفس المرنـم ليحيـا في رعب. وهم غليظو القلب بلا رحمة »قلبهم السمين قد أغلقوا«. وكلامهم يوضح كبرياءهم. وهم يتابعونه حيث يذهب، ويراقبونه عن قُرب ليُسقِطوه أرضاً. إنهم مثل الأسد القرِم المتلهّف للافتراس. وكالشبل الرابض الكامن في عريسه (عرينه) حيث يختبئ. إنهم يرتكبون ما يرتكبه رئيسهم »لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو« (1بط 5: 8). وهم لا يهاجمون المرنم وحده، بل كل جماعة الرب، لذلك يقول المرنم »يخربونني« (آية 9) و»ليزلقونا« (آية 11).
ولما كان المرنم متأكداً من أن الرب هو منقذه الوحيد، وواثقاً من عنايته به، ومن حمايته له، يتّجه إليه بكل قلبه، صارخاً إليه من خطورة الأعداء المحيطين به، والذين يريدون أن يفترسوه، وقد خلت قلوبهم من الرحمة وامتلأت بالشر.
3 – أعداء المرنم ينكرون فضل الله: »قُم يا رب. تقدَّمه. اصرعهُ. نجِّ نفسي من الشرير بسيفك. من الناس (الذين صنعتهم) بيدك يا رب، من أهل الدنيا (ومنحتهم) نصيبهم في حياتهم. بذخائرك (بخيرك) تملأ بطونهم« (آيتا 13، 14). »قُم يا رب« لتواجه العدو. و»تقدمّه« ليرى أن الله هو القوي والأعلى. و»اصرعه« كما يصرع الأسد الفريسة. و»نجِّ نفسي من الشرير بسيفك« الذي هو كلمتك، فإنك تقول فيكون وتأمر فيصير، وكلمتك تنجي المرنم من القلق والخوف والخطر. في مرات كثيرة يظن الشرير أنه متقدم وأنه يملك زمام الموقف. ألم يكن شاول يقود جيشاً ضد شخص واحد هو داود؟ لكن الرب هو الذي يتقدّم المؤمن، فإن ظن الشرير أنه شيء فسرعان ما سيكتشف أنه ليس شيئاً.
»بذخائرك (بخيرك) تملأ بطونهم« ومع ذلك فقد ابتعدوا عن الحق، وامتلأت نفوسهم بمحبة العالم. إنهم في الكورة البعيدة عن الله، يبذِّرون ما أعطاه لهم بعيش مسرف، ولا يريدون أن يعيشوا معه، ويرفضون الرجوع إليه تائبين. يأكلون خيراته وينكرون سلطانه! »القائلين لله: ابعُد عنا. وماذا يفعل القدير لهم، وهو قد ملأ بيوتهم خيراً؟« (أي 22: 17، 18). قال المسيح: »فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين. ويمطر على الأبرار والظالمين« (مت 5: 45). ويقول الرسول بولس: »أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته. غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة؟« (رو 2: 4).
ثالثاً – المرنم يعلن فرحه بالرب
(آية 15)
كان المرنم واثقاً من محبة الله له، فيعلن فرحه به هنا على الأرض، وفي الأبدية:
1 – يعلن فرحه بالرب هنا على الأرض: »أما أنا فبالبر أنظر وجهك« (آية 15أ). ما أعظم الفرق بين من يحب الرب ومن يبتعد عنه، فالخطية تحجب وجه الله عنا. لكن عندما يبررنا المسيح ننظر وجهه، وتتحقق فينا كلمته: »طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله« (مت 5: 8). لأنه »إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون، ونفتخر على رجاء مجد الله« (رو 5: 1، 2).
وما أبعد الفرق بين مصير المؤمن المضطهَد ومصير الشرير المضطهِد، فالمؤمن ينال نصيبه من عند الرب، وفي حضرته الكريمة في البيت الأبدي. أما الشرير فخيراته في حياته الأرضية فقط، أما نهايته فهلاك أبدي. ويقارن المرنم بين تطلعاته الروحية وتطلعات أعدائه، دون أن يشكو من نجاحهم الدنيوي، لأنه يرى أن أعظم الخير هو أن ينظر وجه الله، وينتظر رضاه، لأن البر الذي ناله من الله يعطيه الانتماء إليه، بينما الخطية تفصله عنه. تمتع موسى بالله فقال الله عنه: »فماً إلى فم وعياناً أتكلم معه، لا بالألغاز. وشِبه الرب يعاين« (عدد 12: 8).
2 – يعلن فرحه بالرب في الأبدية: »أشبع إذا استيقظت بشبهك« (آية 15ب). كأن المصائب التي عبرت به ليلٌ طويل، أفاق منه ليشبع بشبَه الرب، بمعنى تجديد العلاقة به، فيقول: »استيقظت وأنا بعد معك« (مز 139: 8). إن وجوده في محضر الله اختبار حي، وهو حقيقة لا وهم. وسيجيء يومٌ ينتقل فيه من هذه الحياة الدنيا إلى الأبدية السعيدة، فيُدفَن جسده في القبر بانتظار مجيء المسيح ثانية إلى أرضنا ليقيم الأموات. وهذا الانتقال يُسمى »نوماً« يستيقظ المؤمن بعده إلى وجود مضيء في حضرة الرب، فيقول: »أشبع إذا استيقظتُ بشبهك«.
ونحن اليوم نقرأ كلمات المرنم في نور العهد الجديد، فنرى تحقيقها في قول الرسول: »لأن فيه (إنجيل المسيح) مُعلَنٌ برُّ الله بإيمانٍ، لإيمانٍ. كما هو مكتوب: أما البار فبالإيمان يحيا« (رو 1: 17). فالإنجيل هو إعلان طريق الخلاص. كما أنها تحققت في تجسّد المسيح المخلّص، حتى أن كل من يراه يرى الآب (يو 14: 9). وستتحقَّق هذه الكلمات بالكامل عند مجيء المسيح ثانية، »نعلم أنه إذا أُظهر نكـون مثلـه، لأننـا سنراه كمـا هـو« (1يو 3: 2). »وهـم سينظـرون وجهـه، واسمـه على جباههم« (رؤ 22: 4). نعم سيجيء المسيح، وعندها »يغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء« (في 3: 21).
ماذا تريد أن تكون؟ هل »بذخائر تملأ بطنك« فتكون الحياة الدنيا أقصى مُناك؟ أم بالبر تنظر وجهه، فتشبع إذا استيقظتَ بشبهه؟.. اختر الحياة فتحيا.
اَلْمَزْمُورُ الثَّامِنُ عَشَرَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِعَبْدِ الرَّبِّ دَاوُدَ الَّذِي كَلَّمَ الرَّبَّ بِكَلاَمِ هَذَا النَّشِيدِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَنْقَذَهُ فِيهِ الرَّبُّ مِنْ أَيْدِي كُلِّ أَعْدَائِهِ وَمِنْ يَدِ شَاوُلَ. فَقَالَ:
1أُحِبُّكَ يَا رَبُّ يَا قُوَّتِي. 2الرَّبُّ صَخْرَتِي وَحِصْنِي وَمُنْقِذِي، إِلَهِي صَخْرَتِي بِهِ أَحْتَمِي، تُرْسِي وَقَرْنُ خَلاَصِي وَمَلْجَإِي. 3أَدْعُو الرَّبَّ الْحَمِيدَ فَأَتَخَلَّصُ مِنْ أَعْدَائِي. 4اِكْتَنَفَتْنِي حِبَالُ الْمَوْتِ، وَسُيُولُ الْهَلاَكِ أَفْزَعَتْنِي. 5حِبَالُ الْهَاوِيَةِ حَاقَتْ بِي. أَشْرَاكُ الْمَوْتِ انْتَشَبَتْ بِي. 6فِي ضِيقِي دَعَوْتُ الرَّبَّ، وَإِلَى إِلَهِي صَرَخْتُ، فَسَمِعَ مِنْ هَيْكَلِهِ صَوْتِي، وَصُرَاخِي قُدَّامَهُ دَخَلَ أُذُنَيْهِ، 7فَارْتَجَّتِ الأَرْضُ وَارْتَعَشَتْ أُسُسُ الْجِبَالِ. ارْتَعَدَتْ وَارْتَجَّتْ لأَنَّهُ غَضِبَ. 8صَعِدَ دُخَانٌ مِنْ أَنْفِهِ، وَنَارٌ مِنْ فَمِهِ أَكَلَتْ. جَمْرٌ اشْتَعَلَتْ مِنْهُ. 9طَأْطَأَ السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ، وَضَبَابٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ. 10رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ وَطَارَ، وَهَفَّ عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيَاحِ. 11جَعَلَ الظُّلْمَةَ سِتْرَهُ. حَوْلَهُ مَظَلَّتَهُ ضَبَابَ الْمِيَاهِ وَظَلاَمَ الْغَمَامِ. 12مِنَ الشُّعَاعِ قُدَّامَهُ عَبَرَتْ سُحُبُهُ، بَرَدٌ وَجَمْرُ نَارٍ. 13أَرْعَدَ الرَّبُّ مِنَ السَّمَاوَاتِ، وَالْعَلِيُّ أَعْطَى صَوْتَهُ بَرَداً وَجَمْرَ نَارٍ. 14أَرْسَلَ سِهَامَهُ فَشَتَّتَهُمْ، وَبُرُوقاً كَثِيرَةً فَأَزْعَجَهُمْ، 15فَظَهَرَتْ أَعْمَاقُ الْمِيَاهِ، وَانْكَشَفَتْ أُسُسُ الْمَسْكُونَةِ مِنْ زَجْرِكَ يَا رَبُّ، مِنْ نَسَمَةِ رِيحِ أَنْفِكَ. 16أَرْسَلَ مِنَ الْعُلَى فَأَخَذَنِي. نَشَلَنِي مِنْ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ. 17أَنْقَذَنِي مِنْ عَدُوِّي الْقَوِيِّ، وَمِنْ مُبْغِضِيَّ لأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنِّي. 18أَصَابُونِي فِي يَوْمِ بَلِيَّتِي، وَكَانَ الرَّبُّ سَنَدِي. 19أَخْرَجَنِي إِلَى الرُّحْبِ. خَلَّصَنِي لأَنَّهُ سُرَّ بِي. 20يُكَافِئُنِي الرَّبُّ حَسَبَ بِرِّي. حَسَبَ طَهَارَةِ يَدَيَّ يَرُدُّ لِي، 21لأَنِّي حَفِظْتُ طُرُقَ الرَّبِّ، وَلَمْ أَعْصِ إِلَهِي. 22لأَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ أَمَامِي وَفَرَائِضَهُ لَمْ أُبْعِدْهَا عَنْ نَفْسِي. 23وَأَكُونُ كَامِلاً مَعَهُ، وَأَتَحَفَّظُ مِنْ إِثْمِي. 24فَيَرُدُّ الرَّبُّ لِي كَبِرِّي وَكَطَهَارَةِ يَدَيَّ أَمَامَ عَيْنَيْهِ.
25مَعَ الرَّحِيمِ تَكُونُ رَحِيماً. مَعَ الرَّجُلِ الْكَامِلِ تَكُونُ كَامِلاً. 26مَعَ الطَّاهِرِ تَكُونُ طَاهِراً. وَمَعَ الأَعْوَجِ تَكُونُ مُلْتَوِياً. 27لأَنَّكَ أَنْتَ تُخَلِّصُ الشَّعْبَ الْبَائِسَ، وَالأَعْيُنُ الْمُرْتَفِعَةُ تَضَعُهَا. 28لأَنَّكَ أَنْتَ تُضِيءُ سِرَاجِي. الرَّبُّ إِلَهِي يُنِيرُ ظُلْمَتِي. 29لأَنِّي بِكَ اقْتَحَمْتُ جَيْشاً، وَبِإِلَهِي تَسَوَّرْتُ أَسْوَاراً. 30اَللهُ طَرِيقُهُ كَامِلٌ. قَوْلُ الرَّبِّ نَقِيٌّ. تُرْسٌ هُوَ لِجَمِيعِ الْمُحْتَمِينَ بِهِ. 31لأَنَّهُ مَنْ هُوَ إِلَهٌ غَيْرُ الرَّبِّ! وَمَنْ هُوَ صَخْرَةٌ سِوَى إِلَهِنَا! 32الإِلَهُ الَّذِي يُمَنْطِقُنِي بِالْقُوَّةِ، وَيُصَيِّرُ طَرِيقِي كَامِلاً. 33الَّذِي يَجْعَلُ رِجْلَيَّ كَالإِيَّلِ، وَعَلَى مُرْتَفِعَاتِي يُقِيمُنِي. 34الَّذِي يُعَلِّمُ يَدَيَّ الْقِتَالَ، فَتُحْنَى بِذِرَاعَيَّ قَوْسٌ مِنْ نُحَاسٍ. 35وَتَجْعَلُ لِي تُرْسَ خَلاَصِكَ، وَيَمِينُكَ تَعْضُدُنِي، وَلُطْفُكَ يُعَظِّمُنِي. 36تُوَسِّعُ خُطُوَاتِي تَحْتِي فَلَمْ تَتَقَلْقَلْ عَقِبَايَ. 37أَتْبَعُ أَعْدَائِي فَأُدْرِكُهُمْ، وَلاَ أَرْجِعُ حَتَّى أُفْنِيَهُمْ. 38أَسْحَقُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ الْقِيَامَ، يَسْقُطُونَ تَحْتَ رِجْلَيَّ. 39تُمَنْطِقُنِي بِقُوَّةٍ لِلْقِتَالِ. تَصْرَعُ تَحْتِي الْقَائِمِينَ عَلَيَّ، 40وَتُعْطِينِي أَقْفِيَةَ أَعْدَائِي، وَمُبْغِضِيَّ أُفْنِيهِمْ. 41يَصْرُخُونَ وَلاَ مُخَلِّصَ، إِلَى الرَّبِّ فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ. 42فَأَسْحَقُهُمْ كَالْغُبَارِ قُدَّامَ الرِّيحِ. مِثْلَ طِينِ الأَسْوَاقِ أَطْرَحُهُمْ. 43تُنْقِذُنِي مِنْ مُخَاصَمَاتِ الشَّعْبِ. تَجْعَلُنِي رَأْساً لِلأُمَمِ. شَعْبٌ لَمْ أَعْرِفْهُ يَتَعَبَّدُ لِي. 44مِنْ سَمَاعِ الأُذُنِ يَسْمَعُونَ لِي. بَنُو الْغُرَبَاءِ يَتَذَلَّلُونَ لِي. 45بَنُو الْغُرَبَاءِ يَبْلُونَ وَيَزْحَفُونَ مِنْ حُصُونِهِمْ. 46حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، وَمُبَارَكٌ صَخْرَتِي، وَمُرْتَفِعٌ إِلَهُ خَلاَصِي، 47اَلإِلَهُ الْمُنْتَقِمُ لِي، وَالَّذِي يُخْضِعُ الشُّعُوبَ تَحْتِي، 48مُنَجِّيَّ مِنْ أَعْدَائِي، رَافِعِي أَيْضاً فَوْقَ الْقَائِمِينَ عَلَيَّ. مِنَ الرَّجُلِ الظَّالِمِ تُنْقِذُنِي. 49لِذَلِكَ أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ فِي الأُمَمِ، وَأُرَنِّمُ لاِسْمِكَ. 50بُرْجُ خَلاَصٍ لِمَلِكِهِ، وَالصَّانِعُ رَحْمَةً لِمَسِيحِهِ، لِدَاوُدَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ.
أحبك يا رب
كتب داود هذا المزمور بعد أن انتهت متاعبه مع شاول الذي كان يطارده، وبعد أن استراح من أعدائه الذين كانوا يهاجمونه باستمرار، فتولى المملكة في أورشليم. وأرسل الله النبي ناثان ليقول له: »أنا أخذتك من المربض من وراء الغنم لتكون رئيساً على شعبي إسرائيل، وكنتُ معك حيثما توجَّهتَ، وقرضتُ جميع أعدائك من أمامك، وعملت لك اسماً عظيماً كاسم العظماء الذين في الأرض.. والرب يخبرك أن الرب يصنع لك بيتاً« (2صم 7: 8-11). وتأمل داود ماضي حياته، ورأى إنعام الله عليه في كل خطوة خطاها، ففاض قلبه بالشكر للإله المحب الأمين الذين رفعه إلى منصب المُلك، ونصره على أعدائه في الداخل والخارج، فكتب هذا المزمور أولاً ليرتله مع عائلته، كما نقرأه في 2صم 22. ثم نقّحه ليُرتَّل في العبادة الجمهورية كما نجده في مزمورنا. ومع أن داود يشكر الله الذي نصّبه ملكاً، إلا أنه يدعو نفسه في أول المزمور »عبد الرب« ولا يقول إنه الملك، فقد حسب عبوديته للرب امتيازاً أكبر من المُلك. وهو نفس اللقب العزيز الذي حصل موسى عليه (يش 2: 1، 13، 15). ولم يكتب داود مزموره ليفتخر بما أعطاه الله له، ولكن ليعترف بفضل الله عليه. وهكذا يجب أن نفعل. هذا المزمور »مسياوي« بمعنى أنه نبوَّة عن السيد المسيح الذي جاء أرضنا فواجه المتاعب ولكنـه انتصر عليها، وانتشرت مملكته في العالم. وقد اقتبس كاتب رسالة العبرانيين الآية الثانية من مزمورنا على أنها من كلمات المسيح وهو يقول: »أنا أكون متوكلاً عليه. وأيضاً: ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله« (عب 2: 13). واقتبس الرسول بولس الآية 49 من مزمورنا في رومية 15: 9 »أما الأمم فمجَّدوا الله من أجل الرحمة كما هو مكتوب: من أجل ذلك سأحمدك في الأمم، وأرتل لاسمك«. وهذا ما حدث للأمم في عهد المسيح.
وترمز نصرة الملك داود لنصرة المسيا »ابن داود«. وهوذا أعظم من داود ههنا! كما أن نصرة المسيح هي نصرة كل واحد من الذين يحبونه وينتمون إليه، كما تقول الآية الأخيرة من المزمور: »برجُ خلاصٍ لملكه، والصانع رحمةً لمسيحه، لداود ونسله إلى الأبد«.

في هذا المزمور نجد:
القسم الأول – احتفال بالنجاة المعجزية (آيات 1-24)
القسم الثاني – احتفال بالنصرة الحربية (آيات 25-50)
القسم الأول
احتفال بالنجاة المعجزية
(آيات 1-24)
وفي هذه الآيات نرى المرنم:
1 – يعلن محبته للرب (آيات 1-3)
2 – ينجو نجاةً معجزية (آيات 4-19)
3 – ويتعهَّد بتكريس نفسه للرب (آيات 20-24)
أولاً – المرنم يعلن محبته للرب
(آيات 1-3)
1 – الرب موضوع حب المرنم: »أحبك يا رب يا قوتي« (آية 1). هذه مشاعر طفل يعلنها لأبيه بغاية الرقّة، فالله هو حبه الأول والأقوى والأعـظم. وهو بـهذا يعلن طاعته وللوصية الأولى والعظمى (مت 22: 36). ويجـب أن نرد صدى حبه بحب صادق، فنحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً (1يو 4: 19). عندما تولى داود المُلْك لا بد أنه ذكر عوامل كثيرة ساعدته ليصل إلى العرش، منها محبة الأصدقاء (كيوناثان) الذين عاونوه والذين أحبَّهم، ومنها حرصه على سلامته الشخصية تطبيقاً للوصية: »أحب قريبك كنفسك« (مت 19: 19). ومنها محبته للطبيعة والعالم التي ألهمته كتابة المزامير فرفعت روحه المعنوية. لكنه هنا يبدأ بالأولويات السليمة، فإن الله هو الذي يستحق أول الحب وأعظم الود. وكل حبٍ في القلب لكل مخلوق هو نتيجة حب ذلك القلب لله، فالذي يحب الوالد يحب المولود منه أيضاً (1يو 5: 1). والمؤمن الصادق هو الذي يحب الله أكثر مما يحب عطايا الله. وهو الذي ينشد قول الرسول بولس: »من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدَّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟.. ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا. فإني متيقِّنٌ أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبَلة، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا« (رو 8: 35-39).
سأل المسيح تلميذه بطرس: »يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر من هؤلاء؟ قال له: نعم يا رب. أنت تعلم أني أحبك« (يو 21: 15). ولم يكن هذا الحب في إمكان بطرس ولا أحدٍ غير بطرس لولا أن الرب كان »قوته«. فقد منح الرب تلاميذه يوم الخمسين قوة الروح القدس، فأحبوا الرب بقوةٍ من الرب، لأنهم بدونه لا يقدرون أن يفعلوا شيئاً (أع 1: 8). فالله هو قوة حياتنا وإنجازنا ونصرتنا، بل هو حياتنا ذاتها، وبغيره لا حياة لنا.
2 – الدافع على الحب: (آيتا 2 و3). كمال صفات الله تدفعنا لنحبه، وقد ذكر المرنم في آية 2 سبع صفات، هي عدد الكمال!
(أ) »صخرتي«: تذكر داود الصخور والكهوف التي كان يحتمي فيها عندما كان شاول يطارده، فلم يقدر أن ينال منه شيئاً (1صم 23: 25-28). وهو وصفٌ أورده موسى في نشيده (تث 32: 4، 18، 30، 31، 37). والرب صخرة المؤمن للاختباء والاحتماء، وهو صخرته الذي لا يتغيَّر.
(ب) »حصني«: والحصن هو القلعة (1صم 22: 4 و24: 2). وقلعة المؤمن هي اسم الرب، البرج الحصين الذي يركض إليه الصدّيق ويتمنَّع (أم 18: 10). ونحن نحتمي في الرب لما نثبت فيه ويثبت هو فينا.
(ج) »منقذي«: وهذا إعلان لثقة أكبر في محبة الرب، فقد يقف المحارب على صخرة ومع ذلك يصيبه سهمٌ قاتل. وربما يكون داخل حصن ولكن الحصن ينهار، أو قد يحتله الأعداء. لكن داود يقول إن الرب هو المنقذ. »إن قامت عليّ حربٌ ففي ذلك أنا مطمئن« (مز 27: 3).
(د) »إلهي«: ليس فيه تغيير ولا ظل دوران (يع 1: 17). خالق السماء والأرض، ومع ذلك فإنه في حبه يتنازل ويسمح للمؤمن أن يقول إنه إلهي أنا: »حبيبي لي وأنا له« (نش 2: 16).
(هـ) »ترسي«: والترس هو قطعة خشب مغطاة بالجلد، من خلفها سَيْر، يمسكه الجندي بيده اليسرى ليحمي نفسه من الحجارة ومن السهام ومن قطع الفحم المشتعلة التي تُلقى عليه، فيتلقّاها بالترس. والرب هو ترسنا الذي يحمينا من كل ما يلقيه العدو علينا، سواء كان العدو إنساناً أو حيواناً أو شيطاناً.
(و) »قرن خلاصي«: ويرمز القرن للقوة التي لا تُقـاوم، وكان يُستخـدم للهجـوم وللدفـاع. والرب هو »القرن« الذي يحمي المؤمن، ويبعد عنه الأذى، ويمنحه النصر.
(ز) »ملجإي«: والملجأ هو الحصن القائم فوق الجبل، محاطاً بأسوار عالية يصعب على العدو الوصول إليه أو تسلُّق أسواره. وربما يشير إلى المدينة الملجأ التي كان القاتل سهواً يهرب إليها فيلقى الحماية ما دام مقيماً بها.
3 – نتيجة هذا الحب: »أدعو الرب الحميد فأتخلَّص من أعدائي« (آية 3). يضع المرنم ثقته في الرب حاضراً ومستقبلاً، فإن الله نفسه هو المنقذ، يدعوه المرنم ويصلي له بثقة المحب، طالباً الخلاص الدائم من أعدائه. فأينما وحيثما جاء العدو كأسدٍ مهاجم، ينقذ الله عبده، بسبب العلاقة الشخصية الحميمة بينهما. لذلك يدعو المرنم الرب لينقذه من العدو الشرير، ومن اليوم الشرير. فإذا سنحت الفرصة للعدو أن يهاجم المرنم في يوم شرير، فإن العناية الإلهية المتوافرة دائماً تسرع بالخلاص وتمنح الأمان.

ثانياً – نجاة المرنم المعجزية
(آيات 4-19)
1 – الخطورة التي نجا منها: (آيتا 4، 5). نجا المرنم من خطر شديد، يصفه بأربع صور: كأن مشنقةً كانت منصوبةً له، فلا مفرَّ من الموت. وكان كغريقٍ في مياه هادرة لا يملك أن ينجو منها. وكان كأسيرٍ وقع في شبكة. وكان كمن أُمسك في فخ. فيقول: »اكتنفتني حبال الموت، وسيول الهلاك أفزعتني« (آية 4). أراد شاول أن يهلكه. لكن الله أنقذه من موت محقق. وكان في خطر أن يُدفن: »حبال الهاوية حاقت بي. أشراك الموت انتشبت بي« (آية 5) وكأن حبلاً يشدُّه إلى المقبرة. لكن الله أنقذه. وكلما اشتدَّت الأخطار التي نتعرَّض لها يشتد خلاص الله لنا ويزداد وضوحاً.
2 – الصلاة وسيلة النجاة: »في ضيقي دعوت الرب، وإلى إلهي صرخت. فسمع من هيكله صوتي، وصراخي قدامه دخل أذنيه« (آية 6). كانت صلواته دائمة ومستمرة حتى سمعها الله في هيكله السماوي (لم يكن هيكل سليمان قد بُني بعد). أحياناً كان يصلي بصوت هادئ »يدعو«. وأحياناً كان يرى الخطر »فيصرخ«. وفي الحالتين لم يتضايق الرب منه، بل سمعه وأنقذه. وسواء دعونا الرب بالأنين والهمس، أو صرخنا، فإنه يسمعنا. فالصلاة هي الباب الأعلى المفتوح في السماء، حيث يسكن »إلهي« سامع الصلاة الذي إليه يأتي كل بشر، وخصوصاً أولاده المؤمنون.
3 – وصف النجاة: (آيات 7-19).
(أ) هي بقوة المعين السماوي: »فارتجّت الأرض وارتعشت أسس الجبال. ارتعدت وارتجت لأنه غضب. صعد دخانٌ من أنفه ونارٌ من فمه أكلت. جمر اشتعلت منه. طأطأ السموات ونزل، وضباب تحت رجليه« (آيات 7-9). هذه الصورة الوصفية ترينا أن الله تدخل بطريقة قوية للغاية. لقد تحـركـت الأشيــاء الراسـخة، فمـن فرط قـوة الله يتـزعزع البـيت (أع 4: 31) وتنفتح أبواب السجن (أع 16: 26) وترتجف القلوب القاسية (أع 16: 29). الذي ثبَّت الأرض يُرعب الأرض ويهزُّها، دون أن يهتزَّ لأولاده جفن! وإذ يعلن الله غضبه على مَن يضطهدون شعبه يكون كأن ناراً تخرج من فمه لتهلكهم، وكأن دخان النار صعد من أنفه، لأن من يمسُّهم يمس حدقة عينه! (زك 2: 8) ويتنازل الله لينقذ المؤمن: »طأطأ السماوات ونزل«. وما أعظم تنازله لنا في المسيح، ومع ذلك فإن كثيرين لا يدركونه لأن »النور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه« (يو 1: 5)! وأما الذين ينير الروح القدس بصائرهم فيرون كيف أن »كل وطاءٍ يرتفع، وكل جبل وأكمة ينخفض، ويصير المعوجُّ مستقيماً والعراقيب سهلاً« (إش 40: 4) لأن الله هو »المتكلم بالبر، العظيم للخلاص« (إش 63: 1).
(ب) هي نجاة سريعة: »ركب على كروب وطار، وهفَّ على أجنحة الرياح« (آية 10). والكروب هو الملاك الخادم والحارس ذو الجناحين الذي حرس طريق شجرة الحياة (تك 3: 24) وصنع موسى على شكله كروبَيْن وقفا على غطاء تابوت العهد (خر 25: 17-22) للتعبير عن حلول مجد الرب. ورأى النبي حزقيال »كروبيم« (جمع كروب) في محضر الله (حز 10: 1-3). وفي هذه الصورة الشعرية البليغة نرى سرعة الإنقاذ الإلهي وقوته، فالنجاة تسرع »طائرة« تهف على أجنحة الريح، كما جاءت لموسى في السفط (خر 2: 5) وكما جاءت لبطـرس المسـجون والـذي كانـت الكنيسة تصلي من أجله، فأرسل الله ملاكه وفتح أبواب السجن وفك قيوده وقاده ليخرجه إلى الرحب
(أع 12). والرب بطيء الغضب لكنه سريع الرحمة، لا يشاء أن يهلك أناس، بل أن يتوب الجميع.
(ج) هي نجاة بطريقة سرّيّة: »جعل الظلمة ستره، حوله مظلته ضباب المياه وظلام الغمام« (آية 11). كان الجنود يحرسون القبر المختوم بكل حرص، وقد أفادهم رؤساؤهم أن تلاميذ المسيح سيأتون ليسرقوا جسده من قبره. وقام المسيح دون أن يروه، ولا رأوا الملائكة التي جاءت لتحتفي بالقيامة (مت 28). وكان 16 جندياً يحرسون بطرس في السجن، ولم يستطيعوا أن يروا الملاك الذي جاء وأنقذه (أع 12). فللرب طرقه السرِّية لإنقاذ المؤمنين، لا تراها إلا عين الإيمان وحدها، لأنها تميز تعاملات الله التي لا تتضح للعدو. وقد قيل إن الله إلهٌ »مُحتجب« (إش 45: 15) وذلك عن عين العدو! فإن »مجد الله إخفاء الأمر، ومجد الملوك فحص الأمر« (أم 25: 2).
(د) هي نجاة واضحة: »من الشعاع قدامه عبرت سحبه، بَرَدٌ وجمر نار« (آية 12). هذه صورة البرق الذي يصاحب الرعد، فيعلن الصوت والضوء معاً عظمة القوة الإلهية، كما حدث يوم ضرب الله المصريين بضربة البرد (خر 9: 23، 24). لقد جاءت المعونة سراً، ولكن نتيجتها كانت واضحة لكل ذي عينين. وهذا ما حدث مع داود، فقد أراد شاول أن يقتله، ولكن النتيجة النهائية كانت أن شاول قتل نفسه وانتحر، وجلس داود على العرش بعد أن بايعه كل الشعب.
(هـ) هي نجاة تعلن قدرة الله: (آيات 13-18).
وتظهر هذه القدرة في أربعة أمور:
(1) صوت الله: »أرعد الرب من السماوات، والعليُّ أعطى صوته بَرَداً وجمر نار« (آية 13). وجد داود موضوع شكره في ما يرعب الأعداء، لأن معونته في الله العلي ساكن السماء، القدوس اسمه. ففي دينونة الله للشرير عزاء المؤمن. ومن الغريب أن الله يستخدم النقيضين: البَرَد، وجمر النار، فهو سيد الطبيعة!
(2) سلاح الله: »أرسل سهامه فشتَّتهم، وبروقاً كثيرة فأزعجهم« (آية 14). طارت البروق كالسهام القوية فتشتَّت العدو مرتعباً بغير انتظام. »الشمس والقمر وقفا في بروجهما لنور سهامك الطائرة، للمعان برق مجدك« (حب 3: 11).
(3) قوة الله: »فظهرت أعماق المياه، وانكشفت أسس المسكونة من زجرك يا رب، من نسمة ريح أنفك« (آية 15). تراجعت مياه البحر الأحمر، ومياه نهر الأردن، فظهرت الأرض! »بريح أنفك تراكمت المياه. انتصبت المياه الجارية كرابية. تجمدت اللجج في قلب البحر« (خر 15: 8). كان المصريون يملكون أحدث تكنولوجيا عالم ذلك الوقت، وكان بنو إسرائيل جماعة من المستضعفين الذين لا حماية لهم، وتدخَّلت العناية السماوية لتشق البحر، لأن الله يحمي جماعة المؤمنين.
(4) إنقاذ الله: »أرسل من العُلى فأخذني. نشلني من مياه كثيرة. أنقذني من عدوي القوي ومن مبغضيّ لأنهم أقوى مني. أصابوني في يوم بليتي. وكان الرب سندي« (آيات 16-18). والسند هو العكاز الذي يستند عليه المتعَب والضعيف الذي لا يقوى على الوقوف طويلاً.
(و) اكتمال معونته: »أخرجني إلى الرُّحب. خلّصني لأنه سُرَّ بي« (آية 19). النعمة المجانية هي أساس كل تعاملات الله مع شعبه. لا يترك الرب المؤمن حتى يمتِّعه بالخلاص الكامل. هذا اختبار المؤمنين في كل عصر. اختبره يوسف لما خرج من السجن إلى القصر، واختبره داود لما خرج من مغارة عدلام إلى العرش، واختبره بطرس لما دعاه المسيح ليصيد الناس ويترك صيد السمك! ينقذ الله منتظريه ومحبّيه من ضيق خطاياهم وعذاب ضميرهم بالغفران، كما ينقذهم من كل خطر يهدد أجسادهم. ويتمُّ خلاصهم بفعل يدٍ مُحبّةٍ، تمتدُّ إليهم من أعلى. يخلّصهم لأنه سُرَّ بهم، فإن لذّاته مع بني آدم (أم 8: 31). وهذا الإنعام يدفعهم للتسليم الكامل له، وهذا ما تعهّد المرنم أن يقوم به كما سنرى في آيات 20-24.
ثالثاً – المرنم يتعهد بتكريس نفسه للرب
(آيات 20-24)
بدأ المرنم عهد تكريسه (آية 20) وختمه بإعلان براءته من اتهامات شاول له (آية 24). كان داود جندياً صالحاً لشاول، وزوج الابنة الأمين، والتابع المخلص، والمسامح الكريم، فعندما وقع شاول في يده مرتين لم يؤذه، وقال: »حاشا لي من قِبَل الرب أن أمدَّ يدي إلى مسيح الرب« (1صم 24 و26). كان داود بريئاً أمام الناس، لكنه لم يكن بريئاً براءة مطلقة أمام الله، ففي عيني الله ليس أحدٌ صالحاً إلا واحد وهو الله. ولكن داود في هذا الموقف يقول: »يكافئني الرب حسب برّي. حسب طهارة يديَّ يردّ لي.. فيردُّ الرب لي كبرّي، وكطهارة يديَّ أمام عينيه« (آيتا 20، 24).
وشهادة داود لنفسه عن برِّه صادقة، وهي لا تجيء اعتماداً على أعماله الصالحة، ولا تنكر الاعتماد الكامل على نعمـة الله، لكنها شهادة لتلك النعمـة التي تغيِّر الحيـاة. والـذي لم يختبر نعمـة الله المخلِّصة لا يقدر أن يبرر نفسه أمام الناس.
فمن أين يجيء البر؟ الإجابة في قول بولس: »ليس لي برّي الذي من الناموس، بل الذي بإيمان المسيح، البر الذي من الله بالإيمان« (في 3: 9). »إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضاً بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان يسوع، لا بأعمال الناموس. لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما« (غل 2: 16). »متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح« (رو 3: 24). إذاً سيكافئ الرب المرنم بحسب البر الذي أعطاه له، فإن الله الذي صنع منه إناءً للكرامة لا بد أن يكرمه (2تي 2: 21).
وبين الآيتين 20، 24 ثلاث آيات تتحدث عن ثلاثة عهود تعهد بها المرنم لله:
1 – عهد طاعة: »لأني حفظت طرق الرب، ولم أعصَ إلهي« (آية 21). قال المسيح: »إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي« (يو 14: 15) وذلك بفضل قوة الروح القدس الساكن في المؤمنين. »حفظت« و»لم أعصِ« أمران يسيران معاً، فالطاعة مصحوبة بالحرص وعدم العصيان. والمؤمن الـذي يحـب الـرب يحفظ طرق الرب ويطيعه، ولا تكون وصايا الرب ثقيلة عليه بسبب محبته له (1يو 5: 3). »لأن محبة المسيح تحصرنا، إذ نحن نحسب هذا: أنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع، فالجميع إذاً ماتوا« (2كو 5: 14).
2 – عهد درس كلمة الله: »لأن جميع أحكامه أمامي، وفرائضه لم أُبعدها عن نفسي« (آية 22). وضـع المرنم كلمـة اللـه نصـب عينيـه، ونفَّـذ قـول الحكيـم: »اربطـها علـى قلبـك دائماً وقلّـد بهـا عنقـك« (أم 6: 21). »اربطها على أصابعك. اكتبها على لوح قلبك« (أم 7: 3). كان شعاره: »لا أخزى إذا نظرتُ إلى كل وصاياك.. خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطئ إليك« (مز 119: 6، 11) فاستطاع أن يقول: »جعلت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع« (مز 16: 8).
3 – عهد نقاوة القلب: »وأكون كاملاً معه. وأتحفَّظ من إثمي« (آية 23). والإثم هو العَوَج، وقد عزم داود أن يكون كاملاً، فشهد الله له: »وجدتُ داود بن يسى رجلاً حسب قلبي، الذي سيصنع كل مشيئتي« (أع 13: 22). لقد تخلَّص من الخطية المحيطة به بسهولة، فردَّ الرب له بحسب برِّه، وطهارة يديه، وأخذه من رعاية الغنم إلى رعاية شعبه.
القسم الثاني
إحتفال بالنصرة الحربية
(آيات 25-50)
في هذا القسم من المزمور نجد:
أولاً – قانون الله الأخلاقي (آيتا 25، 26)
ثانياً – النصرة كلها من عند الرب (آيات 27-36)
ثالثاً – هزيمة العدو الكاملة (آيات 37-42)
رابعاً – سلامة المملكة في الداخل والخارج (آيات 43-45)
خامساً – شكر وتسبيح (آيات 46-50)
أولاً – قانون الله الأخلاقي
(آيتا 25، 26)
يوضح المرنم قانوناً أخلاقياً هو أن الله يكون رحيماً كاملاً طاهراً مع الإنسان الرحيم الكامل الطاهر. أما مع الأعوج فإن الله يكون ملتوياً! فإن اتجاه الإنسان يحدّد اتجاه الله من نحوه. ولا بد من وجود صفات صالحة في الإنسان قبل أن يعلن الله له رحمته وكماله وقداسته. والمعنى واضح، فما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً (غل 6: 7). وقال المسيح: »كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم« (مت 7: 12). فرحمة الله على الرحيم و»طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون« (مت 5: 7). سيوزن كل إنسان بميزان الله، ويُكال له بنفس المكيال الذي كال به، ويترك الله الأعوج الذي لا يريد أن يتوب لعوجه حتى يدمر نفسه بنفسه، كما قال: »إن سلكتم معي بالخلاف، فإني أنا أسلك معكم بالخلاف، وأضربكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم« (لا 26: 23، 24)، وكما قال أليفاز: »الآخذ الحكماء بحيلتهم، فتتهوَّر مشورة الماكرين« (أي 5: 13). وكما قال الحكيم: »لعنة الرب في بيت الشرير، لكنه يبارك مسكن الصدّيقين. كما أنه يستهزئ بالمستهزئين، هكذا يعطي نعمة للمتواضعين« (أم 3: 33، 34). وقال الرسول: »كما لم يستحسنوا أن يُبقوا الله في معرفتهم، أسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوض، ليفعلوا ما لا يليق« (رو 1: 28). وحاشا الله أن يكون ملتوياً، ولكنه يعاقب الأعوج بأن يسلّمه إلى يد من هو أكثر منه عوجاً، كما وقع يعقوب الأعوج، الذي خدع أباه وأخاه، في يد خاله لابان الذي خدعه، ثم في يد أولاده الذين باعوا ابنه يوسف عبداً!
ولا شك أن داود يذكر إكرام الله له ولسائر الأمناء في الأرض، كما يذكر مصير شاول المؤلم
(1صم 31: 1-7) وأبشالوم (2صم 18: 6-9) وأخيتوفل (2صم 17: 23). وفي هـذه جميعهـا كان الله رحيماً مع الرحيم، وسقى الأعوج من الكأس التي طالما سقى الأعوج منها الناس!
ثانياً – النصرة كلها من عند الرب
(آيات 27-36)
بعد أن أعلن داود قانون الله الأخلاقي، قال إن اختباره الشخصي يبرهن فعالية هذا القانون، فالله العلي هو المتسلّط في مملكة الناس، وهو يعطيها لمن يشاء (دا 4: 32). وقد شاء أن يعطيها لداود عبده.
1 – اختبار داود: (آيات 27-30).
(أ) يخلّـص الله المتـواضعين: »لأنك أنـت تخلّـص الشعـب البـائس، والأعين المرتفعة تضعها« (آية 27). والبائسون هم الذين تعلموا التواضع في مدرسة الألم والاضطهاد، كما قال الله: »أُبقي في وسطك شعباً بائساً ومسكيناً، فيتوكلون على اسم الرب« (صف 3: 12). أما أصحاب العيون المرتفعة فهم المتكبّرون الذين يبغضهم الرب (أم 6: 17) والذين قال عنهم النبي: »توضع عينا تشامخ الإنسان، وتُخفَض رفعة الناس، ويسمو الرب وحده في ذلك اليوم، فإن لرب الجنود يوماً على كل متعظّم وعالٍ، وعلى كل مرتفعٍ فيوضع« (إش2: 11، 12).
(ب) يضيء الرب حياة المتواضعين: »لأنـك أنــت تضـيء سـراجي. الرب إلهي ينير ظلمتي« (آية 28). ولما كان داود متواضعاً، فقد أضاء الله سراجه، فلم تطفئه الريح العاتية، وأنار ظلمته بمعنى أنه أدام له الرحمة، ومنحه الحياة الناجحة، فإن »نور الصدّيقين يُفرّح، وسراج الأشرار ينطفئ« (أم 13: 9). »النور حلوٌ. وخيرٌ للعينين أن تنظرا الشمس« (جا 11: 7). والمسيح هو نور المتواضعين الذين يستضيئون به، فقد قال: »أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة« (يو 8: 12). ولا غرابة فإن »فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس« (يو 1: 4). ولذلك دُعي داود »سراج إسرائيل« (2صم 22: 17). وحضور الرب مع المؤمن يفيض على حياته نوراً، فيقول للرب: »بنورك نرى نوراً« (مز 36: 9).
(ج) ينصر الله المتواضعين: يقول المتواضع: »لأني بك اقتحمت جيشاً، وبإلهي تسوَّرتُ أسواراً« (آية 29). ولعل داود يشير إلى احتلاله حصن صهيون من اليبوسيين (2صم 5: 6-10). فبفضل خلاص الله (آية 27) نور الحياة الموهوب له من الله (آية 28) اقتحم داود جيوش أعدائه وانتصر، واعتلى أسوار مدنهم الحصينة. وهذا ما جرى يوم هاجم غُزاة صقلغ وهزمهم (1صم 30) وهو ما جرى يوم نصره الله ليتسور أسوار حصن صهيون، ويطلق عليه اسم »مدينة داود« (2صم 5).
(د) مواعيد الله للمتواضعين: »الله طريقه كاملٌ. قول الرب نقي. ترسٌ هو لجميع المحتمين به« (آية 30). فبعد سنوات طويلة من اختبار الرب قال موسى في نشيده الأخير: »هو الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبله عدل. إله أمانة لا جور فيه. صدّيقٌ وعادلٌ هو« (تث 32: 4). وهو صاحب الوعود الأمينة »ناموس الرب كامل يردّ النفس. شهادات الرب صادقة تصيّر الجاهل حكيماً. وصايا الرب مستقيمة تفرّح القلب« (مز 19: 7، 8). وقال الحكيم: »كل كلمة من الله نقية. ترسٌ هو للمحتمين به« (أم 30: 5).
2 – انتصار داود: (آيات 31-36).
في هذه الآيات يقول داود إن هناك صفاتٍ حربية لازمة للملك الذي كان يقود شعبه عادةً في ميادين المعارك، وهذه كلها منحة من الله لعبده داود. لقد حفظ الله داود صحيحاً معافى، ومنحه تدريب استعمال المقلاع والسيف والرمح وهو يدافع عن أغنامه، وعلّمه كيف ينتظر إلهه في كل موقف صعب. وكانت هذه كلها اختبارات ومهارات أسندته وهو يرتفع من رعاية الغنم إلى رعاية شعب الله.
(أ) الله هو الإله الوحيد: »لأنه مَن هو إلهٌ غير الرب! ومَن هو صخرةٌ سوى إلهنا!« (آية 31). ما أكثر أوثان الأمم، ولكنْ واحدٌ وحيد هو الإله الحقيقي، خالق السماء والأرض، الذي قال عنه موسى في نشيده، مقارناً إياه بسائر الأوثان: »لأنه ليس كصخرنا صخرهم، ولو كان أعداؤنا القضاة (حاكمين)« (تث 32: 31). لقد غرق جيش فرعون في البحر، ونجا البائسون، مع أن فرعون كان الحاكم القوي.
(ب) الله هو المنعم الوحيد: (آيات 32-36).
(1) يزيل العقبات من طريق المؤمن: »الإلـه الـذي يمنـطقني بالقـوة، ويصيّـر طـريقي كاملاً« (آية 32). يقوّي عبده، ويسند وسطه بمنطقة الحق (أف 6: 14) ويهيئ له الطريق بأن يرفع المعاثر والصعاب من أمامه إلى أن يكمل له النصر. طريق الله كامل (آية 30) ويجعل طريق عبده كاملاً، وهو القائل: »كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل« (مت 5: 48). وما أبعد الفرق بين الكمال الإلهي، والكمال الإنساني، فكمال الإنسان هو كمال النيّة، أما كمال الله فهو الكمال المطلق.
(2) يقوّي قدمي المؤمن: »الذي يجعل رجليّ كالإيّل، وعلى مرتفعاتي يقيمني« (آية 33) ليكون كالغزلان السريعة، يتمكن من الكرّ والفرّ دون أن تنزلق قدماه. أعطاه أن يقف في مكان أعلى من كل أعدائه، فتحققت له بركة موسى: »يتذلل لك أعداؤك، وأنت تطأ مرتفعاتهم« (تث 33: 29) ، واختبر أن »الرب السيد قوتي، ويجعل قدميّ كالأيائل، ويمشّيني على مرتفعاتي« (حب 3: 19).
(3) يقوي يدي المؤمن: »الذي يعلّم يديّ القتال، فتُحنى بذراعيَّ قوسٌ من نحاس« (آية 34).
(4) ينقذ المؤمن: »وتجعل لي ترس خلاصك، ويمينك تعضدني، ولطفك يعظّمني« (آية 35). وترس الخلاص هو ترس الثقة بالرب. وتذكر هذه الآية ثلاثة أشياء ينقذ الله بها داود في حروبه: الخلاص، والمعونة، والعظمة. فالخلاص بحماية ترس الله، والمعونة بإسناد الله، والتعظيم بلطف الله وإحسانه. سيتمكن داود بفضل الله أن يجري بسرعة كبيرة للهجوم والدفاع، وستكون له قوة ثني المعادن، ولكنه لا زال محتاجاً لمن يدافع عنه: إلى الرب ترسه، ومسنده، ومعظّمه، ليشتـرك مع جدّه الأكبـر يعقـوب ويقول: »صغيـر أنا عـن جميع ألطافـك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك«
(تك 32: 10).
(5) يوسِّع للمؤمن: »توسّع خطواتي تحتي، فلم تتقلقل عقباي« (آية 36). يمنح الله عبده مسافة واسعة تسمح له بحرية الحركة، وقوة كافية ليتقدم بخطوات ثابتة، فيتحقق معه القول: »إذا سرت فلا تضيق خطواتك، وإذا سعيتَ فلا تعثُر« (أم 4: 12). وما أعظم بركة الحرية والانطلاق، دون أن تنزلق أقدامنا.
ثالثاً – هزيمة العدو الكاملة
(آيات 37-42)
هزم المرنم أعداءه بفضل القوة التي منحها الله له، والتي أوضحها (في الآيات 31-36). لقد أسرع وراء أعدائه حتى أدركهم، وبعزيمة قوية لم يرجع إلا بعد فنائهم (آية 37) فسحقهم سحقاً لا قيام لهم من بعده، ساقطين تحت رجليه (آية 38). واستمر الله يمدّه بالقوة حتى صرع الأعداء تحته (آية 39) فأدار الأحياء منهم ظهورهم له مولّين الأدبار (آية 40). وتحقَّق معه وعد الله لموسى: »يجعل الرب أعداءك القائمين عليك منهزمين أمامك. في طريق واحدة يخرجون عليك، وفي سبع طرق يهربون أمامك« (تث 28: 7).
النصرة هي للرب، فشكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين (2كو 2: 14).
وصرخ الأعداء المهزومون ومرارة الهزيمة في أفواههم، يطلبون معونة أصحابهم، ثم معونة أوثانهم، وفي يأس طلبوا معونة الرب، ولكنه لم يسمع لهم (آيتا 41، 42). فتحقق المبدأ الأخلاقي الذي أعلنه المرنم في الآيتين 25، 26. الصلاة سلاح فعّال يلجأ إليه الجميع عند وقوعهم في الخطر، كما لجأ البحارة في سفينة يونان المتَّجهة إلى ترشيش، وهو سامع الصلاة الذي إليه يأتي كل بشر، يستجيب صلاة الخاطئ وهو يتوب قائلاً: »اللهم ارحمني أنا الخاطئ«. ويعطيه من فيض غناه ليعرف أنه يحبه ولا يشاء أن يهلكه. ولكنه في محبته يحذِّر الخطاة بالقول: »أعطوا الرب إلهكم مجداً قبل أن يجعـل ظلامـاً، وقبلمـا تعثـر أرجلكـم على جبـال العتمـة فتنتظـرون نـوراً فيجعـله.. ظـلامـاً دامساً« (إر 13: 16).
ونحن اليوم، في نور تعاليم المسيح، نصلي من أجل أعدائنا ليغيّر الله قلوبهم واتجاهاتهم، ونطلب لهم بركة التوبة، ونقول ما قاله رجلٌ تقي: »أنا أقتل أعدائي بأن أجعل منهم أصدقاء لي«. وفي الوقت نفسه ندرك أن الجهاد الوحيد المفروض علينا هو مجاهدة النفس التي تشتهي ضد الروح، فنصلب الجسد مع الأهواء والشهوات (غل 5: 24). ونجاهد ضد العالم الحاضر الشرير، فلا نحب العالم ولا الأشياء التي في العالم، الذي تختلف معاييره ومفاهيمه عن المفاهيم الإلهية، ويكون شعارنا: »حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم« (غل 6: 14). ونجاهد ضد مكايد إبليس »لئلا يطمع فينا الشيطان لأننا لا نجهل أفكاره« (2كو 2: 11). قال الرسـول بـولس: »أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تُفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح« (2كو 11: 3). فلنجتهد أن تكـون أذهاننا تحت سيطرة الروح الـقدس، و»إلـه السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً. نعمة ربنا يسوع المسيح معكم« (رو 16: 20).

رابعاً – تأسيس المملكة في الداخل والخارج
(آيات 43-45)
لاقى داود مقاومة من الداخل والخارج، وأنقذه الرب من كليهما. قال عن مقاومة الداخل: »تنقذني مـن مـخاصمـات الشعـب« (آية 43أ)، وقـال عـن مقاومـة الخـارج: »شعـبٌ لـم أعـرفـه يتعبد لي« (آية 43ب).
وقد واجه داود مقاومة الداخل في بدء حكمه، لما كان »بيت شاول« يحتل مكاناً في الحكم (2صم 3: 1). كما واجهها في محاولة الانقلاب الفاشل الذي قام به أبشالوم (2صم 15). ومن هذه جميعها نجّاه الرب. أما مقاومة الخارج فكانت من الشعوب المحيطة به والتي هزمها كلها (2صم 8). وتحقق معه القول: »ولما رأى جميع الملوك عبيد هدر عزر، أنهم انكسروا أمام إسرائيل، صالحوا إسرائيل واستُعبدوا لهم، وخاف أرام أن ينجدوا بني عمون بعد« (2صم 10: 19). ومن هذه جميعها نجّاه الرب، ورفعه رئيساً لشعبه.
خامساً – شكر وتسبيح
(آيات 46-50)
بدأ داود المزمور بإعلان محبته للرب، ووصفه بسبع صفات هي كمال الصفات. وفي كل آيات المزمور سبّح الرب الذي أقامه ملكاً، ومنحه نصرة كاملة في الداخل والخارج. وفي الآيات الخمس الأخيرة يكرر الشكر من جديد في تسبيح ختامي، يذكر فيه سبع صفات عظيمة لله.
1 – »حيٌّ هو الرب«: (آية 46). وهذا بالمفارقة بالأوثان الميتة. لقد اختبر داود صلاح الرب سيد الأرض كلها، وتمَّ معه ما سبق أن قاله يشوع: »بهذا تعلمون أن الله الحي في وسطكم، وطَرْداً يطرد من أمامكم الكنعانيين..« (يش 3: 10). الله حيٌّ في ذاته ويمنح الحياة لمن يؤمنون به ويثبتون فيه.
2 – »مبارك صخرتي«: (آية 46). يستحق الإله الذي لا تغيير فيه أن أباركه وأحمده.
3 – »مرتفع إله خلاصي«: (آية 46). فوق كل علو مرتفع ضده وضد مشيئته وضد شعبه. وقد ارتفع المسيح إلى يمين الله، وأخذ اسماً فوق كل اسم. وعندما نجثو له في تسليم وطاعة يرفعنا من سقوط الخطية ويثبت أقدامنا على صخر.
4 – »الإله المنتقم لي«: (آية 47). لم ينتقم داود لنفسه، بل ترك النقمة للرب (رو 12: 19). هذا ما فعله مع شاول (1صم 24: 12) ، ومع نابال (1صم 25: 29)، ومع مقاوميه بعد أن منحه الله المُلك (2صم 4: 8).
5 – »الذي يُخضع الشعوب تحتي«: (آية 47). لا يقولها بكبرياء، بل ليعطي المجد لمن فعل ذلك بواسطة عبده داود.
6 – »مُنجّيَّ من أعدائي«: (آية 48). »الذي نجّانا من موت مثل هذا، وهو ينجّي. الذي لنا رجاءٌ فيه أنه سينجي أيضاً فيما بعد« (2كو 1: 10).
7 – »رافعي أيضاً فوق القائمين عليَّ، مِن الرَّجل الظالم تنقذني«: (آية 48). الإله الرفيع رفع عبده وأنقذه.
من أجل هذه الأسباب كلها قرّر داود أن يرنم ترنيمة شكره بين شعبه وبين الأمم (آية 49) التي اقتبسها الرسول بولس في رو 15: 9 مرنماً للإله الذي هو »برجُ خلاصٍ لملكه« (آية 50). الذي رتل له: »لأنك كنت ملجأ لي، برج قوة من وجه العدو« (مز 61: 3). وهو يشكر الرب الذي يُديم رحمته له ولنسله إلى الأبد.
وقد تحققت هذه النبوة بتمامها في المسيح »لنموِّ رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى ممـلكتـه، ليثبتـها ويعضـدها بالـحق والبـر، مـن الآن إلـى الأبـد.‎ غيـرة رب الجـنود تصنــع هذا« (إش 9: 7). هو »الصانع رحمة لمسيحه، لداود ونسله إلى الأبد« ليس في »أنساله« بل في نسله الواحد، المسيح (غل 3: 16).
ولهذا المسيح العظيم نخضع ونخشع قائلين مع توما: »ربي وإلهي« (يو 20: 28).
اَلْمَزْمُورُ التَّاسِعُ عَشَرَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. 2يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَماً، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً. 3لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ. لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ. 4فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ. جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَناً فِيهَا، 5وَهِيَ مِثْلُ الْعَرُوسِ الْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ. يَبْتَهِجُ مِثْلَ الْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي الطَّرِيقِ. 6مِنْ أَقْصَى السَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا، وَمَدَارُهَا إِلَى أَقَاصِيهَا، وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا.
7نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيماً. 8وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ. أَمْرُ الرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ. 9خَوْفُ الرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى الأَبَدِ. أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا. 10أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ. 11أَيْضاً عَبْدُكَ يُحَذَّرُ بِهَا، وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ. 12اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا! مِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي. 13أَيْضاً مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ احْفَظْ عَبْدَكَ فَلاَ يَتَسَلَّطُوا عَلَيَّ. حِينَئِذٍ أَكُونُ كَامِلاً، وَأَتَبَرَّأُ مِنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ. 14لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي.
الله يعلن عن ذاته
يؤكد لنا هذا المزمور أن الله دائم الإعلان عن نفسه، ودائم الاتصال بالبشر. لم يكن صامتاً أبداً، لأنه يحب البشر ويتواصل معهم ويكلمهم، فأعلن عن ذاته لهم في الطبيعة: في جمالها ودقّتها ونظامها. وكلَّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، وسجّل لنا كلماته في الوحي المقدس، في التوراة والمزامير والإنجيل. وهو يكلم البشر عن ذاته في الأتقياء الصالحين، الذين يرى الناس أعمالهم الحسنة فيمجدون أباهم الذي في السماوات. وبفضل إعلان الله عن ذاته في الطبيعة وفي كلمته استعد العالم لمجيء المسيح »الكلمة الحي« والإعلان الكامل. ويمكننا اليوم أن نرى الله في الطبيعة، وفي الكلمة المقدسة، وفي سيرة المؤمنين، ولو أننا نراه بالوضوح الكامل في شخص المسيح كلمة الله، الذي قال: »الذي رآني فقد رأى الآب« (يو 14: 9).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الله يعلن عن ذاته في الطبيعة (آيات 1-6)
ثانياً – الله يعلن عن ذاته في كلمته المقدسة (آيات 7-11)
ثالثاً – الله يعلن عن ذاته في المؤمنين (آيات 12-14)
أولاً – الله يعلن عن ذاته في الطبيعة
(آيات 1-6)
يقول المرنم إن الكون كله يتحدث بمجد الله ويخبر بعمل يديه، فالكون معبد ضخم، به وعاظ كثيرون ينادون بكمال الخالق. ولعل أعظم الوعاظ فيه كوكب الشمس. ويقول لنا هؤلاء الوعاظ الشيء الكثير عن عظمة الله وعن محبته. وفي الآيات الست الأولى من هذا المزمور نرى:
1 – موضوع حديث الطبيعة: (آية 1). الطبيعة تمجد الرب وتخبرنا عنه.
(أ) تتحدث عن مجد الله: ومجده هو إعلان حضوره بالقوة والبهاء. وهو مجد خاص بجلال ذاته، فيراه الإنسان المخلوق من التراب فيتَّقيه.
(ب) تتحدث عن قوة الله: »هوذا الذي صنع الجبال، وخلق الريح، وأخبر الإنسان ما هو فكره.. يهوه إله الجنود اسمه.. الذي صنع الثريا والجبار، ويحوّل ظل الموت (الظلام الدامس) صبحاً ويظلم النهار كالليل، الذي يدعو مياه البحر ويصبّها على وجه الأرض، يهوه اسمه« (عا 4: 13 و5: 8). وهذه القوة الخالقة هي القوة الضابطة للكل، فهي تحفظ الكواكب في مداراتها، وتضمن استمرارية الخلق، فكل الأشياء بإرادته كائنة وخُلقت (رؤ 4: 11).
(ج) تتحدث عن حكمة الله: فالكون يسير بدقة عجيبة وبانتظام يعجز أي مخلوق عن أن يقوم به. »بكلـمـة الـرب صُنعـت السمـاوات، وبنَسَمـة فمـه كـل جنـودهـا.. لأنـه قال فكان، هو أمر فصار« (مز 33: 6، 9). »ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا: من خلق هذه؟ من الذي يُخرِج بعدد جندها، يدعو كلها بأسماء. لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يُفقَد أحدٌ« (إش 40: 26).
(د) تتحدث عن أمانة الله: فستظل الأرض تنبت عشباً وبقلاً يبزر بزراً، وشجراً ذا ثمر يعمل ثمراً كجنسه. وسيظل النوران العظيمان يحكمان النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين (تك 1). ويعطي الإله الأمين بركاته الكاملة للناس كل يوم، يوماً بعد يوم.
2 – أوصاف حديث الطبيعة: (آيات 2-6).
(أ) حديث مستمر: (آية 2). إنه من يوم إلى يوم ومن ليل إلى ليل، كجوقة ترنيم يتواصل صوتها في تسبيح مستمر »يذيع كلاماً« يدعونا للعمل نهاراً، فنستيقظ لنذهب إلى أعمالنا لنرى يد الرب معنا في كل ما نعمل. »وليل إلى ليل يبدي علماً« يدعونا للراحة عندما نأوي إلى فراشنا ويحفظنا في ظلام الليل، ويعطينا فرصة التأمل في أحداث يومنا لنراجع مواقفنا ونعدّل مسار حياتنا، ولنشكره على أفضاله، ولنعيد تجديد عهودنا في الحياة معه وفي طاعته، ونسلم نفوسنا له ليبدأ معنا يوماً جديداً. فالليل دعوة للراحة والتأمل والاستعداد لما سيأتي علينا. وكلمة »يُبدي« تحمل معنى الحديث الفائض في صمت وطلاقة.
(ب) حديث هادئ: (آية 3). »لا قول ولا كلام، لا يُسمع صوتهم« حقاً ما أبلغ الصمت! إنه اللغة التي تفهمها كل الكائنات في كل الكون!
(ج) حديث شامل: (آية 4). »في كل الأرض خرج منطقهم، وإلى أقصى المسكونة كلماتهم«. ويقول الرسول بولس: »الإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله. لكنني أقول: ألعلّهم لم يسمعوا؟ بلى! إلى جميع الأرض خرج صوتهم، وإلى أقاصي المسكونة أقوالهم« (رو 10: 17، 18).
(د) حديث واضح: (آيات 4-6). ويختار المرنم كوكب الشمس باعتبارها الشاهد الأعظم لمجد الله، ويصوّرها كملك بطل، صنع الله له حجلةً، أي خيمة أو غرفة مزيَّنة في السماء، يخرج منها بكامل بهائه كعريس رائع القوة والأناقة والسعادة، وقد ابتهج للسباق في مداره، فيحس به كل البشر، وهو يبعث في أرجاء الأرض الضوء والدفء. وعندما ينظر البشر إلى الشمس يدركون عظمة الذي خلقها، وجمال الذي أوجدها بكل حكمته وقوته وأمانته، إذ لا يختفي شيء من حرِّها.
لكن البشر يحتاجون إلى إعلان أكبر وأَوْفَى. لئن كان إعلان الطبيعة كافياً للإنسان قبل السقوط، فإنه ليس كافياً للخاطئ الذي يحتاج إلى المصالحة مع الله، ولذلك عَبَد الإنسان الساقط الضال الشمس والقمر والنجوم. فالخطية تفصل بين الإنسان والله، والإنسان يحتاج إلى من يرشده إلى طريق التصالح مع الله، ولذلك يعلن الله طريق الخلاص لنا عندما يكلمنا في كلمته الموحى بها منه، كما يكلمنا اليوم في المسيح كلمة الله الحي، الذي هو »شمس البر« (ملا 4: 2). »والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً.. ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة« (يو 1: 14، 16).
ثانياً – الله يعلن ذاته في كلمته المقدسة
(آيات 7-11)
حدَّثت الطبيعة الإنسان عن عظمة الرب، لكنه ضل وعبد مخلوقات الله، وهو لا يدري كيف يرجع، فأعطاه الله كلمته ليردّه إلى الحق. وفي هذه الآيات الخمس نرى:
1 – أوصاف كلمة الله:
(أ) كاملة: »ناموس الرب كامل يردّ النفس« (آية 7أ). والناموس هو الشريعة أو القانون. وهو يقصد به شريعة موسى، وكل شريعة إلهية تدوَّنت في التوراة. وتردُّ الشريعة النفس بطريقتين: بأن تعلن للإنسان نقصه، ثم بأن تشير له إلى طريق الخلاص. عندما يقارن الإنسان حالته بانتظارات الشريعة الكاملة منه يجد أنه ناقص كما أنه أعوج، يحتاج لمن يصلحه. الشريعة تكشف لنا تقصيرنا وضعفنا وعجزنا عن بلوغ ما يريده الله منا، وهذا يلجئنا إلى المراحم الأبدية المتمثِّلة في الكفارة، فتتحقق معنا الكلمة الرسولية »إذاً قد كان الناموس مؤدّبَنا إلى المسيح، لكي نتبرر بالإيمان«
(غل 3: 24). ولا يكتفي بر المسيح بإصلاح نفوسنا، لكنه يردُّنا إلى المقام الذي سقطنا منه بسبب الخطية، ويضعنا على أول السير في سبل القداسة.
(ب) صادقة: »شهادات الرب صادقة تصيّر الجاهل حكيماً« (آية 7ب). يسمّيها »شهادة« لأنها تشهد للحق الإلهي الموحى به، وبهذا المعنى يُسمَّى الإنجيل شهادة (1يو 5: 9). وهي شهادة صادقة لا تخدعنا أبداً، ولا تقدم لنا معلومة ناقصة. عندما تجيئنا رسالة من إنسان يجب أن نمتحنها، طاعة للوصية الرسولية: »امتحنوا كل شيء« (1تس 5: 21). أما الرسالة التي تجيئنا من الروح القدس على صفحة الكتاب المقدس فلا تحتاج إلى امتحان، لأن شهادات الرب صادقة وأمينة دوماً. وعندما يتواضع الإنسان ويقبل كلمة الله بوداعة تقدر الكلمة أن تخلِّصه من حماقته (يع 1: 21). كل المواعيد الواردة في هذه الكلمة صادقة وأمينة.
(ج) مستقيمة: »وصايا الرب مستقيمة تفرّح القلب« (آية 8أ). الكلمة كاملة تردُّ الضال، وصادقة تمنحه الحكمة، وتفرح قلب من يقبلها. هي مستقيمة لا التواء فيها أبداً، وهي لا تحابي أحداً، ولا تتغير بتغيُّر الأحوال. عندما نقرأ الكتاب المقدس لا نرى أبداً أمراً يلغي أمراً سبقه أو أمراً سيجيء بعده. إن فكر الله واضح، والكلام الذي يجيء من الله مستقيم كاستقامة الله، لأنه من وحيه، ويقود من يؤمن به إلى حياة الاستقامة.
(د) طاهرة: »أمر الرب طاهر ينير العينين« (آية 8ب) هي طاهرة طهارة من أعطاها. وهي تشوّقنا إلى الحياة الطاهرة وترينا الطريق إليها، لأنها توحي لنا بكل فكر طاهر »لأن الوصية مصباح والشريعة نور، وتوبيخات الأدب طريق الحياة« (أم 6: 23). إنها اللبن العقلي عديم الغش الذي ننمو بـه (1بط 2: 2). وهي تنير العينين إلى كل ما هو حق وجليل وعادل وطاهر ومُسِر وصيته حسن (في 4: 8).
(هـ) ثابتة: »خوف الرب نقي، ثابت إلى الأبد« (آية 9أ). يطلق المرنم على كلمة الله »خوف الرب« لأن كلمة الله تجعل قارئها وسامعها يخاف الله ويتّقيه. وهي باقية لأن الله يحافظ عليها. لقد أعطى إعلانه السماوي لينقذ البشر من خطاياهم. ولا بد أن يحافظ على هذا الإعلان ليثبت ويبقى. قال المسيح: »إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل« (مت 5: 18). ومواعيد الله ثابتة إلى الأبد »لم تسقط كلمة واحدة من جميع الكلام الصالح الذي تكلم الرب به عنكم« (يش 21: 45 و23: 14). لذلك يجب أن تكون كلمة الله دستورنا والمرشدة لنا في كل وقت.
(و) عادلة: »أحكام الرب حق عادلة كلها« (آية 9ب). ويسميها أحكام لأنها أقوال الـرب الفاصلـة.وهي حق باستمرار لأنها عادلة. عندما تقول كلمة الله للإنسان: أنت خاطئ، فهو خاطئ فعلاً. وعندما تقول له إن الله ينتظر أن نكون أبراراً، فهذا ما ينتظره الله منا فعلاً. وعندما ترينا أن هذا النقص الموجود فينا لن يستره إلا صليب المسيح ودمه، فهذا قول صادق تماماً.
2 – عمل كلمة الله:
(أ) ترد النفس: »ناموس الرب كامل يرد النفس« (آية 7أ). أليس غريباً أن الذي يرى عظمة الرب في الطبيعة يضل عنه، وأن من ينال حياته وتنفُّسه وطعامه اليومي من عنده يضل عنه؟ »الكل قد زاغوا معاً. فسدوا« (مز 14: 3). لكن الرب في محبته أعطى الإنسان ناموسه الكامل ليرده إلى الصواب، وليعيد إليه الحياة الفضلى بعد أن دمرته الخطية، فيقول: »يا رب إله الجنود، ارجِعنا. أنر بوجهك فنخلص« (مز 80: 19).
(ب) تحكّم الجهّال: »شهادات الرب صادقة تصيّر الجاهل حكيماً« (آية 7ب). والجاهل هو من يفتح عقله وقلبه للخطأ والصواب معاً. لم يغلق قلبه في وجه التعليم الإلهي ولكنه لا يملك القدرة على تطبيق المبادئ السليمة. لمثل هؤلاء »فتح كلامك ينير، يعقّل الجهّال« (مز 119: 130). وهذا ما حدث مع تيموثاوس، الذي كان منذ طفولته يعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكّمه للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع (2تي 3: 15).
ليعطنا الرب الحكمة الروحية لخلاص نفوسنا ويردّنا إليه، ويصيّرنا حكماء، فنتابع حياة التوبة معه، بدون أن نضل كما سبق أن ضللنا. ولتهدنا كلمته القادرة أن تحكّمنا للخلاص بالتوبة والرجوع إليه، وبالحياة التقية النقية التي خلصت من أدران الخطية التي كانت تشوّهها.
(ج) تفرِّح: »وصايا الرب مستقيمة تفرّح القلب« (آية 8أ). من يتبعها يفرح لأنه يصبح من أهل بيت الله، بعد أن يُنعم الله عليه بالتبنّي، وتفرح السماء بخاطئ واحد يتوب، ويصبح التائب أكثر المبتهجين، لأنه نال غفران خطاياه، وأدرك أن الله قبِلَه.
(د) تنير: »أمر الرب طاهر ينير العينين« (آية 8ب). فإنه »سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي« (مز 119: 105). وقال المسيح: »أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة« (يو 8: 12).
3 – أهمية كلمة الله: »أشهى من الذهب والإبريز الكثير، وأحلى من العسل وقطر الشهاد. أيضاً عبدك يُحذَّر بها، وفي حفظها ثواب عظيم« (آيتا 10، 11).
(أ) أهميتها عقلياً: نجري وراءها لأنها »أشهى من الذهب والإبريز الكثير«. والإبريز هو الذهب النقي. إن لنا بُعداً روحياً، فإن كان الذهب النقي موضع اهتمامنا لأننا به نحصل على احتياجاتنا المادية، فإن كلمة الله تجتذب تفكيرنا لأنها تشبع البُعد الروحي فينا.
(ب) أهميتها عاطفياً: هي »أحلى من العسل وقطر الشهاد«. والشهاد هو الشمع الذي يكوّن فيه النحل العسل. فالإنسان الذي أدرك عقلياً أنه يحتاج للكلمة الإلهية يدرك بقلبه جمالها ولذتها للنفس، كما قال النبي إرميا: »وُجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفـرح ولبهجة قلبي، لأني دُعيت باسمك يا رب إله الجنود« (إر 15: 16).
(ج) أهميتها عملياً: »عبدك يُحذَّر بها، وفي حفظها ثواب عظيم«. ثوابها هنا على الأرض لأنها تُبعدنا عن الخطية، فنحيا حياة الطهارة. وثوابها أنها تُسمعنا صوت المسيح: »تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المعدَّ لكم منذ تأسيس العالم« (مت 25: 34).

ثالثاً – الله يعلن ذاته في المؤمنين
(آيات 12-14)
قال فيلسوفٌ حكيم: »أرى من فوقي السماء بنجومها، وفي داخلي أسمع صوت الضمير يشرح لي القانون الأخلاقي، فتمتلئ نفسي بتوقير يتزايد للخالق العظيم«. ولهذا يقول المرنم: »السهوات من يشعر بها! من الخطايا المستترة أبرئني. أيضاً من المتكبرين احفظ عبدك فلا يتسلطوا عليَّ. حينئذ أكون كاملاً وأتبرأ من ذنب عظيم« (آيتا 12، 13). وهذا ما أمرنا المسيح به: »فليضئ نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات« (مت 5: 16). وعلى كل مؤمن حقيقي أن يكون البشارة الخامسة المقروءة والمسموعة من جميع الناس.
ويطلب المرنم أن يحفظه الرب من ثلاثة أنواع من الخطايا، ويطلب المعونة ليفعل ما يرضيه:
1 – ثلاث خطايا يطلب أن يحفظه الله منها:
(أ) الخطايا التي لا يشعر بها: »السهوات من يشعر بها!« (آية 12أ) وهي الخطايا التي يرتكبها دون أن يعرفها. وقد يعرفها الآخرون ويشعرون بها ولكنه هو لا يشعر بها. وقد نصّت شريعة موسى على تقديم ذبيحة خطية »إذا أخطأت نفسٌ سهواً في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها، وعملت واحدة منها« (لا 4: 2). ويطلب المرنم من الله أن يُشعره بهذه السهوات ليتوب عنها.
قال الرسول بولس: »لستُ أشعر بشيء في ذاتي، لكني لستُ بذلك مبرَّراً. ولكن الذي يحكم فيَّ هو الرب« (1كو 4: 4). فلم يكن الرسول يشعر بتقصير في القيام بواجباته في خدمة الله، ولم يكن ضميره يبكته، لكن عدم شعوره بالخيانة ليس دليلاً على أمانته، فقد يكون في خدمته تقصير لا يعرفه. وهو يطلب من الرب أن يفحص قلبه ليُشعره بما لا يعرفه من عيوبه.
(ب) الـخطايـا الـتي شعـر هو بهـا، ولكـن غيره لا يشعـر بهـا: »مـن الخطـايا المستترة أبرئني« (آية 12ب). هي خطية يعرفها مرتكبها، لكن المحيطين به لا يرونها. إنها حالة النفاق، عندما يرسم المجتمع لإنسان صورة براقة تختلف عن واقع صورته الأصلية. ومن هذه الخطايا الكبرياء، والغضب المكبوت الذي لا يعبّر عنه صاحبه بكلمات مسموعة، والتخيلات الدنسة التي لا يصوغها صاحبها في كلمات، والحسد والغيرة اللذين ينهشان داخله. في أواخر أيام حياة القديس أغسطينوس كتب قائمة بالتعهدات التي لم يفِ بها. وكل شخص أمين مع نفسه يصلي لله طالباً الشفاء من هذه الخطايا المستترة. إنها مرض قاتل في الداخل، لا يشفيه إلا العلاج الإلهي.
(ج) الخطايا المتسلطة عليه والتي يعرفها: »أيضاً من المتكبرين احفظ عبدك فلا يتسلطوا عليَّ« (آية 13أ). و»المتكبرون« نوعان: الأشرار الذين يُجبرون المؤمن ليخطئ، أو الشر الذي يسيطر على الإنسان فلا يقدر أن ينجو منه ولا أن ينتصر عليه. الشرير والشر هما المتكبران المتجبران على الإنسان، اللذان يُسقطانه ليفعل ما لا يريد أن يفعله، وليعجز عن القيام بما يريد أن يقوم به. ويطلب المرنم من الرب أن يحفظه من »المتكبرين« لأن شريعة موسى لم تكن تقبل كفارة عن خطية المتكبِّر الذي يتحدَّى إرادة الله.
2 – يطلب المرنم أن يعينه الله ليفعل ما يرضيه: »لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضيَّة أمامك يا رب، صخرتي ووليّي« (آية 14). والمرنم يعتبر صلاته، سواء كانت في سرّه أو علانية، كذبيحة يقدمها الله: »لتستقِم صلاتي كالبخور قدامك. ليكن رفع يديَّ كذبيحة مسائية« (مز 141: 2). وقد أمر النبـي هـوشع الشعب أن يصلّوا قائلين: »قولوا له: ارفع كل إثمٍ واقبل حسناً، فنقدم عجول شفاهنا« (هو 14: 2). في هذه الصلاة يطلب المرنم رضى الرب عن أقواله أولاً ثم عن أفكاره ثانياً، لأن البشر من حوله يسمعون ما يقوله، ويحكمون عليه وعلى نعمة الله التي فيه من كلامه، »لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان« (مت 12: 37). أما فكر قلبه فهو بينه وبين الرب. ولما كان الله يعلن عن ذاته في تصرفات المؤمنين، يطلب المرنم رضى الرب على المسموع الظاهر، ولو أنه نتاج المختفي في الباطن، فمن فضلة القلب يتكلم الفم (مت 12: 34). لذلك قال الله: »أحوِّل الشعوب إلى شفة نقية ليدعوا كلهم باسم الرب، ليعبدوه بكتف واحدة.. بقية إسرائيل لا يفعلون إثماً، لا يتكلمون بالكذب، ولا يوجد في أفواههم لسان غش« (صف 3: 9، 13).
عندما طلب الله من الملك سليمان أن يطلب ما يريد، جاءت طلبته تعبيراً عن فكر قلبه، لأن سليمان كان يفكر في الخدمة المنتظرة منه. وعندما طلب النبي أليشع نصيب اثنين من روح إيليا كان يرى المسؤولية التي سيُكلَّف بها. فإذا عُرض علينا أن نطلب ما نريد، فهل نقول: »لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضيةً أمامك يا رب، صخرتي ووليي«؟
وفي هذه الطلبة يصف المرنم الله بصفتين:
(1) »صخرتي« الذي أتكل عليه فينصرني ويرفعني، فلا أغوص في وحل الخطية.
(2) »وليّي« أي ولي أمري، والمشرف عليَّ، وصاحب السلطان على حياتي، والذي ينصرني فأنتصر على متاعبي وخطاياي.
إنه شرفٌ عظيم أن يشترك الإنسان مع الطبيعة ومع الشريعة في تقديم شهادة واضحة لله وسط المجتمع الذي يعيش فيه. فهل لك مثل هذه الشهادة اللامعة لله؟ وهل من يرى عملك يمجد أباك الذي في السماوات؟
اَلْمَزْمُورُ الْعِشْرُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1لِيَسْتَجِبْ لَكَ الرَّبُّ فِي يَوْمِ الضِّيقِ. لِيَرْفَعْكَ اسْمُ إِلَهِ يَعْقُوبَ. 2لِيُرْسِلْ لَكَ عَوْناً مِنْ قُدْسِهِ، وَمِنْ صِهْيَوْنَ لِيَعْضُدْكَ. 3لِيَذْكُرْ كُلَّ تَقْدِمَاتِكَ، وَيَسْتَسْمِنْ مُحْرَقَاتِكَ. سِلاَهْ. 4لِيُعْطِكَ حَسَبَ قَلْبِكَ، وَيُتَمِّمْ كُلَّ رَأْيِكَ. 5نَتَرَنَّمُ بِخَلاَصِكَ، وَبِاسْمِ إِلَهِنَا نَرْفَعُ رَايَتَنَا. لِيُكَمِّلِ الرَّبُّ كُلَّ سُؤْلِكَ.
6اَلآنَ عَرَفْتُ أَنَّ الرَّبَّ مُخَلِّصُ مَسِيحِهِ. يَسْتَجِيبُهُ مِنْ سَمَاءِ قُدْسِهِ بِجَبَرُوتِ خَلاَصِ يَمِينِهِ. 7هَؤُلاَءِ بِالْمَرْكَبَاتِ وَهَؤُلاَءِ بِالْخَيْلِ – أَمَّا نَحْنُ فَاسْمَ الرَّبِّ إِلَهِنَا نَذْكُرُ. 8هُمْ جَثُوا وَسَقَطُوا، أَمَّا نَحْنُ فَقُمْنَا وَانْتَصَبْنَا. 9يَا رَبُّ خَلِّصْ. لِيَسْتَجِبْ لَنَا الْمَلِكُ فِي يَوْمِ دُعَائِنَا.

دعاءٌ للملك بالنصر
المزمور العشرون دعاءٌ ترفعه الأمة كلها إلى الله، مُصليةً من أجل الملك، تطلب من الله أن ينصره وأن يستجيب صلاته. وهو مرتبط بمزمور 21 الذي يرفع فيه الملك صلاة شكر لأجل الأمة. ويتركز الفكر في المزمورين على الملك وانتصاره على الأعداء، باعتباره ممثّل الله وممثل الشعب.
كان الملك قبل الدخول في حرب يقدم الذبائح لله ويسلّم أمره له. وكان الشعب أثناء تقديمها يرنم مزمور 20 تعبيراً عن إيمانهم القوي بالرب. أما مزمور 21 فكانوا يرنمونه بعد نهاية الحرب، ليشكروا الرب الذي أعطى النصر، وليعبّروا عن ثقتهم في أنه سيظل ينصرهم في كل موقعة قادمة.
ويمكننا أن نصلي كلمات هذا المزمور من أجل ملكوت الله، قائلين: »ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض«. فكما أن ملائكة السماء دوماً مستعدون أن ينفذوا أوامرك بدون اعتذارٍ ولا إبطاء، فلتحقِّق الأرض كلها رغباتك بغير تردد.
ويمكننا أن نصلي كلمات هذا المزمور كعائلة ترفع رب الأسرة أمام عرش النعمة، كما يمكننا أن نصليه ككنيسة من أجل الراعي، ويمكننا أن نصليه كعاملين في هيئة نطلب أن يبارك الرب رئيس العمل، ويمكننـا أن نصليه من أجل رئيس البلاد لنقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار (1تي 2:2). فالمزمور صلاة من أجل كل مسؤول في موقع مسؤوليته. ولو أننا صلينا من أجل كل المسؤولين سيستجيبنا الرب من هيكل قدسه ويعطي بركة عظيمة للمصلّين ولمن يصلّون لأجلهم، كما قـال المسيـح لتـلاميذه: »إلـى الآن لم تطلبـوا شيئاً باسمـي. اطلبــوا تأخـذوا ليــكـون فـرحكم كاملاً« (يو 16: 24).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الشعب كله يصلى لأجل الملك (آيات 1-5)
ثانياً – قائد الترنيم يؤكد استجابة الصلاة (آيات 6-8)
ثالثاً – صلاة ختامية من الشعب كله (آية 9)
أولاً – الشعب كله يصلي لأجل الملك
(آيات 1-5)
يرفع الشعب لله خمس طلبات من أجل الملك:
1 – طلب الرفعة وقت الضيق: »ليسـتجـب لك الـرب فـي يوم الضيق. ليرفعك اسم إله يعقوب« (آية 1). يدعو كل الشعب معاً بفكر واحد وصوت واحد في ترنيمة متجانسة متوافقة طالبين الاستجابة. ومن هذا نتعلم أن الصلاة إجراءٌ وقائي. فلا يجب أن ننتظر حتى تأتي الضيقة لنصلي، بل نصلي من قبل أن يجيء الضيق ليجنِّبنا الله المكاره! فصلاة اليوم تبارك الغد. صحيحٌ أن الله يشجعنا أن نطلبه في يوم الضيق (مز 50: 15). ولكن هذا لا يعني أننا نطلبه وقت الضيق فقط.
ويصلي كثيرون كردود أفعال لما يواجههم من تحديات الحياة، لكن سعيد هو الإنسان الذي يصلي يومياً وباستمرار، جاعلاً شعاره »أما أنا فصلاة« (مز 109: 4). واثقاً من قول المسيح: »بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً« (يو 15: 5)، فيستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويه (في 4: 13). مرَّ المسيح مخلّصنا بوقت حزن، فجعله وقت صلاة، وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عـرقه كقطـرات دم نـازلة على الأرض، وظهـر له ملاك من السماء يقويه، وانتصر فتمَّم خلاصنا (لو 22: 43، 44).
ويطلـب الشعـب أن يـرفع »إلـهُ يعقوب« ملكَهم فوق الصعاب والأعداء، فلا يصدم رجله بحجر (مز 91: 12) ويقولون إن الذي يرفع هو »اسم إله يعقوب«. والاسم يدل على كل صفات الشخص. فالله هو الإله الفعّال في التاريخ، الذي قال عنه يعقوب: »استجاب لي في يوم ضيقتي، وكان معي في الطريق الذي ذهبتُ فيه« (تك 35: 3). ولا بد أن الله سيفعل الشيء نفسه للملك الذاهب للحرب. ولا يزال اسم الرب هو البرج الحصين الذي يركض إليه الصدّيق ويتمنَّع (أم 18: 10).
و»إله يعقوب« هو إله العهد الذي وعد يعقوب بالنجاة والبركة (تك 28: 12-15) ولا بد أنه يحقق وعوده لنسل يعقوب.
عندما ارتفع إيليا إلى السماء، تساءل تلميذه أليشع: »أين هو الرب إله إيليا؟« ثم ضرب أليشع الماء فانفلق إلى هنا وهناك، فعبر (2مل 2: 14) بعد أن فتح الرب أمامه طريقاً لا يقدر أحدٌ أن يغلقه. فما أسعد من يستعين بإله آبائه، كما قال بولس لتيموثاوس: »أتذكَّر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولاً في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكني موقنٌ أنه فيك أيضاً« (2تي 1: 5).
2 – طلب العون والتعضيد من مكان العبادة: »ليرسل لك عوناً من قدسه، ومن صهيون ليعضدك« (آية 2). وكأنهم يقولون للملك: أيها القائد، لقد مثلتَ في بيت الله عابداً. ركعتَ أمامه، وانتظرت بركته، فلا بد أن تجيئك البركة من مقادسه.
عنـدمـا نذهب إلى بيت الرب نجد البركة، فنقول: »فرحتُ بالقائلين لي: إلى بيت الرب نذهب«
(مز 122: 1). ونعمل بالوصية الرسولية »غير تاركين اجتماعنا.. بل واعظين بعضنا بعضاً، وبالأكثر على قدر ما ترون ترون اليوم يقرُب« (عب 10: 25).
3 – طلب قبول العبادة: »ليذكر كل تقدماتك ويستسمن محرقاتك« (آية 3). بمعنى أن الملك الذي رفع صلواته لله في بيت الله، قدّم أيضاً أفضل ما عنده من أغنام سمينة وصحيحة كقرابين وتقدمات لله. وعلى المذبح أحرق كل الشحم، أفضل أجزاء الذبيحة. وهم يدعون الله أن يقبل قرابين الملك، التي قصد بها أن يتقرب إلى الله (هدف القربان القُرب من الله). فلينظر الرب إلى الملك وقربانه بعين الرضا، لأنه نفذ الوصية الإلهية التي تقول: »ثلاث مرات في السنة يحضر جميع ذكورك أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره، في عيد الفطير، وعيد الأسابيع، وعيد المظال. ولا يحضروا أمام الرب فارغين. كل واحد حسبما تعطي يده كبركة الرب إلهك التي أعطاك« (تث 16:16، 17).
ونحن اليوم نحتمي في كفارة الذبيحة العظمى، ذبيحة المسيح حمل الله الذي يرفع خطية العالم. وهو المحرقة الذي احترق ليفدينا، وهو يقول: »أنا عطشان« (يو 19: 28). »إلهي إلهي لماذا تركتني؟« (مت 27: 46) لأنه يريد أن يكمل خلاصنا. وعندما أكمله قال: »قد أُكمل« (يو 19: 30) 4 – طلب النجاح: »ليعطك الرب حسب قلبك، ويتمم كل رأيك« (آية 4). قال المسيح: »إن سألتم (طلبتم) شيئاً باسمي فإني أفعله« (يو 14:14). »وهذه الثقة التي لنا عنده: أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا« (1يو 5: 14). ليعطك حسب قلبك لأن رغبات قلبك تشبه رغبات قلبه، ولأن رأيك متَّفق مع رأيه. قال القديس أغسطينوس: »عندما تفعل مشيئة الله كأنها مشيئتك، يفعل الله مشيئتك كأنها مشيئته« فإن »شهوة الصدّيقين تُمنح« (أم 10: 24).
فلنراجع آراءنا وأحلامنا ورؤانا بالنسبة لحياتنا الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والروحية، ونسأل إن كانت متوافقة مع مشيئة الله، عالمين أن هذا التوافق هو ضمان الاستجابة.
5 – طلب الفرح: »نترنم بخلاصك وباسم إلهنا نرفـع رايتنـا. ليكمّل الـرب كـل سؤلـك« (آية 5). الخلاص الذي نترنّم به هو الفداء الكامل الذي أكمله المسيح على الصليب. لذلك نصلي أن يرفع الله راية صليب محبته، ليدرك المؤمنون أكثر وأكثر معنى الحب الإلهي، فيجددون عهودهم مع الله باستمرار، لأن محبة المسيح تحصرهم (2كو 5: 14). فيحبونه لأنه هو أحبهم أولاً (1يو 4: 19).
وكان بنو إسرائيل يقصدون بالخلاص أولاً وقبل كل شيء الخلاص من العدو المحارب، فأنقذهم الله من الخطر، واستجاب طلباتهم الخمس من أجل ملكهم، فرفعوا آيات الشكر لسامع الصلاة. وكم نحتاج أن نتعلم الشكر! كثيراً ما ننجح، ونفرح بنجاحنا بدرجة تنسينا الأستاذ الذي علّمنا، أو تنسينا والدينا الذين تعبوا معنا. كثيراً ما نسينا أن نشكر ونحن صغار، وكثيراً ما نستمر صغاراً في روحانياتنا عندما نفرح بالعطية وننسى معطيها، ونحتفل بالانتصار وننسى الناصر!
»ليكمل الرب كل سؤلك (أيها الملك)«. بمعنى: لتتحقق الطلبات الخمس التي طلبناها لك منه، فتستمر تنتظر خلاص الرب قائلاً: »انتظاراً انتظرت الرب فمال إليّ وسمع صراخي« (مز 40: 1).
ثانياً – قائد الترنيم يؤكد استجابة الصلاة
(آيات 6-8)
قدم الملك ذبائحه للرب، ورفع كل الشعب طلباتهم الخمس إلى الله من أجل ملكهم. وكان إيمانهم ينتظر الاستجابة الأكيدة، فالإيمان يرى ما لا يراه الناس. فقام قائد جوقة الترنيم يرتل، مؤكداً للشعب كله أن الله سمع لهم:
1 – تأتي الاستجابة من عند الله القادر: قال القائد: »الآن عرفتُ أن الله مخلّص مسيحه. يستجيبه من سماء قدسه، بجبروت خلاص يمينه« (آية 6). هذا ترنيمٌ منفرد من قائد جوقة الترنيم، أو من أحد الكهنة، يؤكد فيه للشعب أن الله استجاب صلاتهم. والمقصود بلقب »مسيح« هنا الملك الممسوح بالدهن المقدس لتخصيصه وتكريسه للقيام بخدمة معيّنة كلّفه الله بها (2كو 1: 21). وقد أوصت شريعة موسى بمسح أشخاص وأماكن وأوانٍ (خر 40: 9 وعد 7: 1، 10) وكانوا يمسحون الكهنة (خر 28: 41) والأنبياء (1أخ 16: 22) والملوك (2صم 19: 10). فعندما يقول المرنم إن »الرب مخلّص مسيحه« يقصد أن الرب يخلّص كل إنسان يكلّفه بالقيام بخدمة معينة، فإنه لم يتجند أحدٌ بنفقة نفسه (1كو 9: 7).
ولم أرَ طيلة حياتي خادماً مكرَّساً لله لم يحسن الرب إليه إحساناً كاملاً. ولست أقصد الواعظ فقط، بل كل من يؤدي لله خدمةً مهما كانت بسيطة، مثل تقديم كأس ماء بارد لنفس عطشانة (مت 10: 42) أو تنظيف الكنيسة. فلا يمكن أن يكون الله مديوناً لإنسان. وأدعوكم أن تؤدّوا لله خدمة من قلوبكم، مهما كانت بسيطة، وسترون كيف يعطيكم بركة حقيقية، وكيف »يستجيبكم من سماء قدسه« بخلاصٍ شامـل »بجبروت خلاص يمينه«. فخلاص الله خلاص جبار من الخطية. »إن كانت خطاياكم كالقرمـز تبيَضُّ كالثلج، إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف« (إش 1: 18). وخلاصه خلاص جبار من مكايد الأعداء مهما كانت خبيثة. فلا بد أن يرتدوا ويسقطوا، ولا بد أن ينجو المؤمن.
2 – هناك مصدران للقوة: »هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكر« (آية 7). ذكر القائد مصدرين للقوة: أحدهما استعان به العدو، والثاني استعان به شعب الرب. اعتمد العـدو على مـركباتـه وخيلـه لأنه يـراهم، كمـا فعـل فـرعـون (خر 14) وكمـا فعـل سنحـاريـب ملك آشور (2مـل 19: 23). أما شعب الرب فاعتمدوا على الرب، وهم يذكرونه دائماً لأنه الأمل الوحيد الذي لا يخزى منتظروه، حتى لو لم تره عيون أجسادهم (إش 49: 23). وهذا ما قاله داود لجليات: »أنت تأتي إليّ بسيفٍ وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيّرتهم« (1صم 17: 45). وهو ما أوصى الله به شعبه على فم موسى: »عندما تقربون من الحرب يتقدم الكاهن ويخاطب الشعب ويقول لهم: اسمع يا إسرائيل، أنتم قربتم اليوم من الحرب على أعدائكم. لا تضعف قلوبكم. لا تخافوا ولا ترتعدوا، ولا ترهبوا وجوههم، لأن الرب إلهكم سائر معكم لكي يحارب عنكم أعداءكم ليخلّصكم« (تث 20: 2-4). وقد يكون أعداء الرب في موقف المنتصر بينما شعبه منهزمين، لكن هذا لن يستمر، فلا بد من انتصار الرب وكل من ينتمون إليه.
3 – هناك نتيجتان مختلفتان للاستناد على القوتين المختلفتين: »هم جثوا وسقطوا، أما نحن فقمنا وانتصبنا« (آية 8). يبدو أن وجوه المؤمنين سقطت من العدو، أو ربما سقطوا فعلاً أمام العدو، فأنقذهم الرب، فقاموا بعد سقوط، وانتصبوا بعد انحناء. لا بد أن ترفع جماعة الرب رأسها قائلة: »أما أنت يا رب فترسٌ لي. مجدي ورافع رأسي« (مز 3:3).
قد ينجح الخاطئ في البداية، لكن النصرة النهائية هي للرب ولشعبه. نعم، هناك صليب، لكن لا بد من قيامة وارتفاع، فلا يمكن أن يكون الصليب هو النهاية.
ثالثاً – صلاة ختامية من الشعب كله
(آية 9)
صلى الشعب للملك السماوي من أجل ملكهم الأرضي، وجاءهم التأكيد أن الملك السماوي أصغى وسمع، فعادوا يرتلون من جديد: »يا ربُّ خلِّص. ليستجِبْ لنا الملك في يوم دعائنا« (آية 9). لقد رفعوا لله طلبات لأجل الملك، وهم يعلمون أن الملك الحقيقي هو الرب.
حسناً صلّينا من أجل رب الأسرة، لكن يجب أن ندرك أن رب أسرتنا الأعظم هو أبونا السماوي. وحسناً رفعنا طلبنا من أجل راعي كنيستنا، لكن لنضع نصب أعيننا أن راعي رعاتنا العظيم هو الرب يسوع المسيح. وحسناً دعَوْنا ليبارك الرب صاحب العمل، لكننا نعلم أن رئيس عملنا الذي نخدمه هو الله، ومنه ننال الجزاء.
»ليستجب لنا الملك في يوم دعائنا« فيبارك قائدنا ويبارك عملنا.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1يَا رَبُّ، بِقُوَّتِكَ يَفْرَحُ الْمَلِكُ، وَبِخَلاَصِكَ كَيْفَ لاَ يَبْتَهِجُ جِدّاً! 2شَهْوَةَ قَلْبِهِ أَعْطَيْتَهُ، وَمُلْتَمَسَ شَفَتَيْهِ لَمْ تَمْنَعْهُ. سِلاَهْ. 3لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُهُ بِبَرَكَاتِ خَيْرٍ. وَضَعْتَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجاً مِنْ إِبْرِيزٍ. 4حَيَاةً سَأَلَكَ فَأَعْطَيْتَهُ. طُولَ الأَيَّامِ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. 5عَظِيمٌ مَجْدُهُ بِخَلاَصِكَ. جَلاَلاً وَبَهَاءً تَضَعُ عَلَيْهِ. 6لأَنَّكَ جَعَلْتَهُ بَرَكَاتٍ إِلَى الأَبَدِ. تُفَرِّحُهُ ابْتِهَاجاً أَمَامَكَ. 7لأَنَّ الْمَلِكَ يَتَوَكَّلُ عَلَى الرَّبِّ، وَبِنِعْمَةِ الْعَلِيِّ لاَ يَتَزَعْزَعُ.
8تُصِيبُ يَدُكَ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ. يَمِينُكَ تُصِيبُ كُلَّ مُبْغِضِيكَ. 9تَجْعَلُهُمْ مِثْلَ تَنُّورِ نَارٍ فِي زَمَانِ حُضُورِكَ. الرَّبُّ بِسَخَطِهِ يَبْتَلِعُهُمْ وَتَأْكُلُهُمُ النَّارُ. 10تُبِيدُ ثَمَرَهُمْ مِنَ الأَرْضِ وَذُرِّيَّتَهُمْ مِنْ بَيْنِ بَنِي آدَمَ. 11لأَنَّهُمْ نَصَبُوا عَلَيْكَ شَرّاً. تَفَكَّرُوا بِمَكِيدَةٍ. لَمْ يَسْتَطِيعُوهَا. 12لأَنَّكَ تَجْعَلُهُمْ يَتَوَلُّونَ. تُفَوِّقُ السِّهَامَ عَلَى أَوْتَارِكَ تِلْقَاءَ وُجُوهِهِمْ. 13ارْتَفِعْ يَا رَبُّ بِقُوَّتِكَ. نُرَنِّمُ وَنُنَغِّمُ بِجَبَرُوتِكَ.
شكر على النصر
في مزمور 20 سمعنا المؤمنين يصلّون من أجل القائد لينصره الرب. وفي هذا المزمور نسمع تأكيداً أن الله سمع واستجاب. حقاً »اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم« (مت 7:7). في مزمور 20 سألوا، وفي مزمور 21 يشكرون الله الذي استجاب لهم وأعطاهم، ويعلنون ثقتهم أنه سيعطيهم، فهو إذاً مزمور الكنيسة المجاهدة وقد سمع الله صلاتها من أجل راعيها، كما أنه يمكن أنه يمكن أن يكون مزموراً نبوياً ترتله الكنيسة المنتصرة وهي تعلن نهاية الجهاد المكلل بالغلبة. وهو مزمور العائلة المسيحية تسمع رب الأسرة يرتل ترتيل الشكر، وهو مزمور العمّال يسمعون صاحب العمل يشكر الله الذي استجاب دعاء رجاله لأجل مؤسستهم.
هذا المزمور نبوة عن المسيح ابن داود، وقد أوضح الترجوم اليهودي (وهو ترجمات تفسيرية قديمة لأجزاء من العهد القديم باللغة الأرامية) آيتي 1، 7 من مزمورنا بالقول »الملك المسيا«. ويقول الرسول بولس: »لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه« (1كو 15: 25).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الفرح بالانتصار (آيات 1-7)
ثانياً – هزيمة العدو الدائمة (آيات 8-12)
ثالثاً – الاحتفال بالنصر الدائم (آية 13)
أولاً – الفرح بالانتصار
(آيات 1-7)
1 – جاء الفرح نتيجة معجزة: »يا رب، بقوتك يفرح الملك، وبخلاصك كيف لا يبتهج جداً؟« (آية 1). لم ينتصر القائد الذي صلوا لأجله بقوةٍ من عنده »بالمركبات والخيل« (مز 20: 7) بل »بقوتك« و»بخلاصك« يا رب. إن افتخارنا البشري يرخي أوتار أعوادنا، فتصدر عنها الألحان الحزينة. ولكن قوته وخلاصه يشدان أوتار أعوادنا فنغني بفرح ترانيم الخلاص بمعجزة النصر، لأنه »لا بالقوة ولا بالقدرة، بل بروحي قال رب الجنود« (زك 4: 6) »لأن به تفرح قلوبنا، لأننا على اسمه القدوس اتكلنا» (مز 33: 21) »فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لتحل عليّ قوة المسيح« (2كو 12: 9).
2 – جاء الفرح نتيجة الصلاة المستجابة: »شهوة قلبه أعطيته، وملتمس شفتيه لم تمنعه«
(آية 2). »أعطيته – لم تمنعه«. وكلمة »شهوة« تعني الرغبة العميقة المتأصّلة الغريزية، لا الرغبة الطارئة. وهي في الأصل العبري تعني الميراث، فهي ليست مجرد أمل، لكنها أمر أكيد كالميراث. وليست استجابة الصلاة مجرد أملٍ عابر شُدّت إليه عينا المصلي، بل هي حقيقة صادقة لا شك فيها، كما قال المسيح: »شهوةً اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم« (لو 22: 15). فأكله وكما قال الحكيم: »شهوة الصديقين تُمنح« (أم 10: 24). وقد حقق الله الشهوة المقدسة واستجاب الالتماس.
وتجئ كلمة »سلاه« في نهاية الآية الثانية، كأنها تريد أن توقفنا لحظة عن الترتيل لنتأمل في استجابة الصلاة، لنتشجع فنصلي أكثر (يو 16: 24).
3 – جاء الفرح نتيجةً لعناية الله: »لأنك تتقدمه ببركات خير. وضعتَ على رأسه تاجاً من إبريز« (آية 3). كأن الله ذهب ليلاقي الملك ليباركه بكل خيرات النجاح، فتحقق معه القول: »بركة خير تأتي عليهم« (أم 24: 25). يحصل بعض الناس على بركات ولكنهم يسيئون استعمالها، لكن من عند الرب تخرج بركات الخير للذين يسلكون في الخير. العادة في فلسطين أن يتقدم الراعي خرافه التي تتبعه، وقد قال المسيح إن خرافه تسمع صوته، وأنه يعرفها فتتبعه (يو 10: 3-5). فالرب يحمل بركات الخير للمؤمنين ويتقدمهم بها، وهم يتبعونه في فرح بعنايته الفائقة.
ثم وضع الرب على رأس الملك تاجاً من ذهب اعترافاً بتجديد مُلكه على شعبه الذي يصلي لأجله. ويضع الرب على رؤوس المؤمنين الأمناء الذين يخدمونه أكاليل البر (2تي 4: 8) وأكاليـل الحيـاة (يـع 1: 12 ورؤ 2: 10) وأكاليل المجد (1بط 5: 4). وهي أكاليل من ذهب (رؤ 4:4). فهل يستحق أحدٌ من المؤمنين هذا كله؟ لقد حمل المسيح على رأسه إكليل الشوك ليعطينا إكليل الذهب، واحتمل العار والهوان ليعطينا المجد والشرف. فلنشكر إلهنا الصالح بكل الفرح!
4 – جاء الفرح نتيجة منح الملك الحياة الأبدية: »حياةً سألك فأعطيته. طول الأيام إلى الدهر والأبد« (آية 4). وهذا يعني أن الله أطال سني حياة الملك في الأيام، وعمَّق نوعيتها، إذ منحه الحياة الناجحة المثمرة. وأكثر من هذا أنه منحه »طول الأيام إلى الأبد«. ويمنحنا الله الحياة الأبدية، التي تستمر »إلى الدهر والأبد« عندما يدخل المسيح قلوبنا، فتصبح حياته حياتنا. »وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته« (يو 17: 3 – قارن يو 3: 14-16). وقتها نتمتع هنا ببدء الحياة الأبدية التي لا تنتهي أبداً، لأن الأبدي الذي حلّ فينا يجعل الفاني أبدياً، ويمنحه صفة الدوام!
نال الملك حزقيا خمس عشرة سنة زيادة على سني حياته (إش 38: 5) لكنه مات. ونال لعازر سنوات لا ندري عددها بعد أن أقامه المسيح من القبر (يو 11: 43)، لكنه عاد ومات. واضحٌ أن حياة الجسد تفنى، لكن هناك الحياة الأبدية التي لا نهاية لها، والتي يجب أن تتأكد أنها نصيبك، عندما يسكن المسيح قلبك.
5 – جاء الفرح نتيجة حصول الملك على الجلال والبهاء: »عظيم مجده بخلاصك. جلالاً وبهاءً تضع عليه« (آية 5). والمجد والجلال والبهاء صفات الله سبحانه، وقد أضفى منها على الملك المنتصر ما رفع رأسه. ونحن اليوم ندرك أن مجدنا وجلالنا وبهاءنا هو في ثمر الروح القدس، من محبة وفرح وسلام، وطول أناة ولطف وصلاح، وإيمان ووداعة وتعفف. وعندما يدخل المسيح قلوبنا يعطينا حياةً أبدية، فيبدأ الروح القدس يثمر فينا، وهذا هو البهاء. فتظهر فينا »المحبة« فيعرف الجميع أننا تلاميذ المسيح (يو 13: 35). ويظهر فينا فرح الرب ويكون قوتنا (نح 8: 10). ويظهر فينا السلام حتى لو فقدنا أعز ما لدينا (2مل 4: 26).. وهكذا.
أيها المؤمن، يا من دخل المسيح قلبك، إن لم تكن متمتعاً بثمر الروح أرجوك أن تراجع حياتك الروحية، لأن هذه البركات جميعاً هي نصيبك ومن حقك، لأن المجد والجلال والبهاء هو نصيب كل من كُتب اسمه في سفر الحياة (رؤ 3: 5).
6 – جاء الفرح نتيجة لأن الملك صار بركةً لشعبه: »لأنك جعلته بركات إلى الأبد« (آية 6أ). قال الرب لإبراهيم: »اذهب من أرضك.. فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك، وأعظّم اسمك، وتكون بركة« (تك 12: 1، 2). وكل من يتبع الرب بثقة ومحبة وطاعة يمنحه الرب بركات، كما يجعله مصدر بركات للمحيطين به. قد يشجّع واعظٌ مستمعيه المتألمين، لكن الحياة تعود فتصدمهـ، فيعودون إلى متاعبهم. أما البركة الوحيدة التي تستمر إلى الأبد فهي بركة الخلاص بربنا يسوع المسيح: الخلاص من خطايا الماضي بالغفران، والخلاص من خطايـا الحاضر بالتقـديس، وتكميـل الخلاص في المستقبـل بالدخول إلى أمجاد السماء، وهذا هو كمال الفرح والابتهاج أمام الرب.
و»تفرحه ابتهاجاً أمامك« (آية 6ب). وهذا تعبيرٌ مأخوذ من إنعاش الجِمال بالغناء (ويُسمَّى في العربية: حُداء)، فتسير في الصحاري القاحلة تحمل أثقالها بيُسرٍ. ويُبهج الرب الملك ليتحمّل مسؤوليات الدولة إذ يُسمعه ترتيل وترانيم وصلوات شعبه من أجله.
7 – جاء هذا الفرح ليستمر: »لأن الملك يتوكل على الرب، وبنعمة العلي لا يتزعزع«.
(آية 7). الاتكال هو الاعتماد على صدق خبرٍ سمعناه، والتصرف بمقتضى هذا الاعتماد وفي نوره. لقد عرف الملك أن الله سامع الصلاة، واختبر الاستجابة العظيمة، فتعلّم أن يتكل عليه، فلم يعد يتقلقل أو يشكّ. قال الرسول يعقوب: »رجلٌ ذو رأيين هو متقلقلٌ في جميع طرقه« (يع 1: 8). أما المتوكل على الرب وعلى نعمته فإنه ثابت. يعطي العالم فرحاً لا يستمر، وقد تنتهي حلاوته بالمرارة وضحكه بالبكاء. لكن عندما يعطي الرب الفرح الحقيقي فهذا يستمر إلى الأبد، لأن صاحبه يتوكل على الرب.
ثانياً – هزيمة العدو الدائمة
(آيات 8-12)
نصر الله شعبه على العدو الذي جاء غازياً، فانهزم، كما لا بد أن ينهزم كل أعداء الرب، وعلى رأسهم »إبليس خصمكم« الذي يبدو »كأسدٍ زائر« (1بط 5: 8) مع أنه في الواقع عدو مهزوم قال عنه المسيح: »رأيتُ الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء« (لو 10: 18). أما الأسد الذي خرج غالباً ولكي يغلب (رؤ 5:5 و6: 2) فهو فقط الذي رفعه الله وأعطاه اسماً فوق كل اسم (في 2: 9)، وأبواب الجحيم لن تقوى على مملكته، وكل آلة صُوِّرت ضدها لا تنجح (إش 54: 17).
الله دوماً هو المنتصر، ولكنه إله ديمقراطي، يسمح بوجود معارضين له، فيترك للشيطان حرية العمل، وهو يعلم أن النصرة الأخيرة النهائية هي دائماً للحق. فإن كان العدو يمرح، ويصرخ بأعلى صوت، ويظن أنه يشوشر على الحق بالباطل، فإن جماعة المؤمنين الهادئة التي تصلي تدرك أن الصوت المنخفض الخفيف (1مل 19: 12) آتٍ لا شك فيه، ليشجع ويبني ويبارك، ويهزم العدو.
وفي هذه الآيات نجد الحقائق الخمس التالية:
1 – ستستمر هزيمة الأعداء لأنهم مكشوفون: »تصيب يدُك جميع أعدائك. يمينك تصيب كلّ مبغضيك« (آية 8). لا شيء يخفى عن الرب »وليست خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا« (عب 4: 13). إن ظن العدو أنه يحصّن نفسه ليخبئ مؤامراته عن الرب فهو جاهل واهم، وهزيمته لا شك فيها!
2 – ستستمر هزيمة الأعداء لأنهم لا بد مهزومون: »تجعلهم مثل تنّور نار في زمان حضورك. الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار« (آية 9). يهلك الرب الأعداء كوقود في تنور »فهوذا يأتي اليوم المتّقد كالتنور، وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً، ويحرقهم اليوم الآتي، يقول رب الجنود، فلا يُبقى لهم أصلاً ولا فرعاً« (ملا 4: 1).
3 – ستستمر هزيمة الأعداء لأنهم لا يُنجِبون مثلهم: »تبيد ثمرهم من الأرض، وذريتهم من بين بني آدم« (آية 10). ثمرة البطن هي النسل (تك 30: 2 ومز 127: 3). ولن ينجب الأشرار أشراراً مثلهم، إما لأن الله سيهلك نسلهم، أو لأن النسل لن يحبوا أن يسيروا في طرق آبائهم الأشرار. والله قادر على الأمرين! لئن ظن الأعداء أن عددهم كبير، فليست النصرة في كثرة العدد، لأن الرب سيبيد ذريتهم، ولن يستطيعوا أن يدربّوا أو يجنّدوا أشراراً آخرين على شاكلتهم.
4 – ستستمر هزيمة الأعداء لأنهم دوماً عاجزون: »لأنهم نصبوا عليك شراً. تفكروا بمكيدة. لم يستطيعوها« (آية 11). »نصبوا« بمعنى أنهم تعبوا ورتّبوا ودبّروا، ولكنهم لن يستطيعوا. لم يكن هيرودس الكبير يظن أن الطفل يسوع سينجو من مكيدته وهو يقتل كل أطفال بيت لحم. ولكن مكيدته لم تفلح. ولم يكن هيرودس الآخر يظن أن أربعة أرابع (16 جندياً) من العسكر سيعجزون عن حراسة بطرس في السجن، ولم يكن يظن أن أبواب السجن ستنفتح. لكن الله في محبته وقوته خلص بطرس من الشر الذي نصبوه عليه.
5 – ستستمر هزيمة الأعداء لأنهم دوماً يهربون: »لأنك تجعلهم يتولّون. تُفوّق السهام على أوتارك تلقاء وجوههم« (آية 12). »يتولون« بمعنى أن هجوم الله عليهم يجعلهم يعطون القفا ويهربون. فإذا استداروا ليهاجموا شعب الرب من جديد، فالسهم جاهز ليصيبهم ويردّهم على أعقابهم. وقد تبدو هذه الكلمات مُغرقة في التفاؤل، ولكن منذ متى لا يجب أن يكون أولاد الله متفائلين؟ إنهم متفائلون بطبعهم لأنهم يتبعون المخلّص المنتصر الذي ينصر الذين هم له، فيعظم انتصارهم بمن أحبهم (رو 8: 37).
ثالثاً – الاحتفال بالنصر الدائم
(آية 13)
هذه الآية هي كلمات الترنيمة الأخيرة للشعب كله، وقد امتلأت قلوبهم بالثقة أن الرب يُظهر قوته فيقولون: »ارتفع يا رب بقوتك. نرنم وننغّم بجبروتك« (آية 13). يرتفع الرب بقوة نفسه، فلن يقدر المؤمنون أن يرفعوه! فمن نحن لنمجد الله؟ إن الله يمجد ذاته ويمجدنا معه. لكننا يجب أن نسير سيراً يمجد الله وأن نسلك سلوكاً يرضيه.
في حفل اليوبيل الماسي للملكة فيكتوريا، كتب الشاعر رُدريارد كبلينج يقول: »لئلا ننسى في حفل اليوبيل أن العزة والقدرة هما لله وحده، فليصمت البشر وليتذللوا أمام العلي«. فدعونا الآن نصمت ونسكّن قلوبنا أمام الله، ليحقق لنا وعود هذا المزمور، مزمور الانتصار.
اَلْمَزْمُورُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى «أَيِّلَةِ الصُّبْحِ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1إِلَهِي! إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي بَعِيداً عَنْ خَلاَصِي، عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟ 2إِلَهِي فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ، فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوءَ لِي. 3وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ. 4عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا، اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ. 5إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجُوا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزُوا. 6أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ. 7كُلُّ الَّذِينَ يَرُونَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ: 8«اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ. لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ». 9لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنّاً عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي. 10عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إِلَهِي. 11لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ، لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ.
12أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي. 13فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ. 14كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ، قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي. 15يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي. 16لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. 17أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ. 18يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ.
19أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي، أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي. 20أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي، مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي. 21خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ، وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي.
22أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ. 23يَا خَائِفِي الرَّبِّ، سَبِّحُوهُ. مَجِّدُوهُ يَا مَعْشَرَ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، وَاخْشُوهُ يَا زَرْعَ إِسْرَائِيلَ جَمِيعاً. 24لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يَرْذُلْ مَسْكَنَةَ الْمِسْكِينِ، وَلَمْ يَحْجِبْ وَجْهَهُ عَنْهُ، بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ اسْتَمَعَ. 25مِنْ قِبَلِكَ تَسْبِيحِي فِي الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ. أُوفِي بِنُذُورِي قُدَّامَ خَائِفِيهِ. 26يَأْكُلُ الْوُدَعَاءُ وَيَشْبَعُونَ. يُسَبِّحُ الرَّبَّ طَالِبُوهُ. تَحْيَا قُلُوبُكُمْ إِلَى الأَبَدِ. 27تَذْكُرُ وَتَرْجِعُ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ، وَتَسْجُدُ قُدَّامَكَ كُلُّ قَبَائِلِ الأُمَمِ، 28لأَنَّ لِلرَّبِّ الْمُلْكَ وَهُوَ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الأُمَمِ. 29أَكَلَ وَسَجَدَ كُلُّ سَمِينِي الأَرْضِ. قُدَّامَهُ يَجْثُو كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى التُّرَابِ، وَمَنْ لَمْ يُحْيِ نَفْسَهُ. 30الذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ. يُخَبَّرُ عَنِ الرَّبِّ الْجِيلُ الآتِي. 31يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرِّهِ شَعْباً سَيُولَدُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ.
نبوَّات عن الصليب والقيامة
كتب داود هذا المزمور قبل صلب المسيح بألف سنة، وشرح فيه بروح النبوَّة آلام الصليب وأمجاد القيامة. عنوان المزمور »لإمام المغنين على أيلة الصبح« بمعنى أن الوقت الذي يُرتل فيه هذا المزمور كان دوماً قبل شروق الشمس. وهو يصوّر لنا ألم الصليب الذي تحمّله فادينا من أجلنا إلى أن انبلج صباح القيامة بنوره العظيم. وهذا المزمور نبوَّة عن المسيح، ولا يعبر أبداً عن حالة داود، فلم يحدث أبداً لداود أنه كان:
1 – »محتقر الشعب« (آية 6): ففي أسوأ الحالات التي طارده فيها الملك شاول، كان محبوباً من كل الشعب، يغنون له: »ضرب شاول ألوفه، وداود عشرات ألوفه« (1صم 18: 7). أما المسيح فيصفه النبي إشعياء في حالة آلامه بالقول: »محتقرٌ فلم نعتدّ به« (إش 53: 3).
2 – »لأنه لا معين« (آية 11): فلم يكن داود أبداً بلا معين، لأن الرب كان عونه دائماً. أما المسيح فقال هذه الكلمات على الصليب، لأنه كان وقت الصليب يمثّل الخطاة، فحجب الله وجهه عنه.
3 – »ثقبوا يديَّ ورجليَّ« (آية 16): وهذا لم يحدث أبداً لداود، بل جرى للمسيح المصلوب.
4 – »أُحصي كل عظامي« (آية 17): ولم يكن داود أبداً في وضع المعلَّق الذي تعرى من ثيابه فظهرت عظام جسده بارزة، حتى يمكن أن يحصيها كل من يريد إحصاءها.
5 – »يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون« (آية 18): وهذا لم يحدث أبداً لداود، بل فعله العسكر مع ثياب المسيح.
إذاً المزمور نبوة توراتية من وحي الروح القدس عما سيحدث للمسيح. تقول الآية 22 منه »أُخبر باسمك إخوتي. في وسط الجماعة أُسبِّحك«. وقال الرسول بولس إنها من كلمات المسيح
(عـب 2: 12). وتقول الآية الأولى في المزمور: »إلهي إلهي، لماذا تركتني؟« وهذه أول كلمات المسيح على الصليب، لأنه شعر أن الآب حجب وجهه عنه وتركه ليدفع أجرة خطايانا بديلاً عنّا لأنه ناب عن الأشرار. وبعد أن قدم التضحية والذبيحة وأوجد الكفارة والفداء والخلاص قال: »قد فعلت«. (آية 31) وترجمتها في اليونانية »قد أُكمل«.
وقبل الصليب بألف سنة وصف هذا المزمور بروح النبوة، وبوحي الروح القدس، أحلك ساعات حياة المسيح على أرضنا، وذكر كلماته على الصليب. وقد أشار البشيـرون إلى هـذا المزمـور باعتباره نبوة عن الصليب (مت 27: 35-46 ويو 19: 24، 28، 30).
تحكي آيات 1-21 آلام المسيح. فعندما وُلد حاول هيرودس أن يقتله. ثم جرّبه إبليس في البرية ليُبعده عن الصليب. بعدها قاومه الرؤساء وصلبوه.. ولم تنجح مقاصدهم من صلبه، لأنه قام في اليوم الثالث من بين الأموات. لقد شُبِّه لليهود أنهم قتلوه وأنهوا رسالته، لكن آمالهم الشريرة خابت، لأن الله رفعه إليه »فتذكر وترجع إلى الرب كل أقاصي الأرض، وتسجد قدامك كل قبائل الأمم« (آية 27).
لم يكن الصليب نهاية المسيح، ولا كان الألم نهاية مزمور 22 لأن المزمور في جزئه الأخير (آيات 22-31) يهتف بانتصار المسيح. ولا يمكن أن نذكر صليب المسيح وآلامه الفدائية دون أن نذكر قيامته قيامة عزيز مقتدر، فنقول مع الرسول بولس: »أُسلم من أجل خطايانا، وأُقيم لأجل تبريرنا« (رو 4: 25).
ومن الأمور الواضحة في هذا المزمور، والتي تبرهن أنه يتحدث عن المسيح المصلوب المُقام، أمران:
1 – يخلو المزمور من أي اعتراف بالخطية. والمسيح هو الوحيد المعصوم.
2 – يخلو المزمور من لعن العدو، الأمر الذي نراه في كل المزامير التي تعالج العلاقة بالعدو. والمسيح هو الذي لم يلعن مقاوميه، بل طلب لهم الغفران وهم يصلبونه، وعلّم أتباعه أن يحبّوا أعداءهم.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – نبوّات عن آلام المسيح (آيات 1-21)
ثانياً – نبوّات عن نصرة المسيح (آيات 22-31)
أولاً – نبوّات عن آلام المسيح
(آيات 1-21)
1 – صلاة المسيح المتألم: (آيات 1-5).
في هذه الآيات نرى أمرين:
(أ) تعبيراً عن الألم النفسي: »إلهي! إلهي، لماذا تركتني بعيداً عن خلاصي عن كلام زفيري؟ إلهي، في النهار أدعو فلا تستجيب. في الليل أدعو فلا هدوَّ لي« (آيتا 1 و2). هذه صرخة حيرة ودهشة، إذ يتصارع الإيمان والألم داخل الصارخ، فالإيمان يتمسك بالله »إلهي« ويتساءل الألم: »لماذا تركتني؟«. هذه صرخة متألم، يمسك إلهه بكلتا يديه ويقول له: »إلهي إلهي«. يقولها وهو في الجسد، نائباً وبديلاً عنا لأنه فادينا ووليُّ أمرنا الأقرب إلينا. كل آلام الصليب المبرحة، وسخرية الناس الرهيبة، والآلام النفسية التي تفوق كل الآلام البدنية، لم تفصله عن الله الذي يستوفي منه أجرة خطية العالم، فهو »حمل الله الذي يرفع خطية العالم« (يو 1: 29). لم يفعل المسيح ما يدعو أن يتركه الله، لكن بسبب خطايانا حجب الله وجهـه عنـه، كما هو مكتوب: »أما الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن«
(إش 53: 10). الذي لم يعرف خطية جُعل خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه (2كو 5: 21).
جعل الألم العظيم كلام المسيح زفيراً: »لماذا تركتني بعيداً عن خلاصي عن كلام زفيري؟« وكأنه أسد يزأر من الألم! »إلهي، في النهار أدعو فلا تستجيب لي. في الليل أدعو فلا هدوَّ لي«. كان واثقاً تماماً أن الله معه، ولكن ما باله لا يستجيب له ولا يمنحه الخلاص والسلام؟
(ب) توجُّهاً للإله القدوس الأمين: »وأنت القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل. عليك اتكل آباؤنا. اتكلوا فنجّيتهم. إليك صرخوا فنجوا. عليك اتكلوا فلم يخزوا« (آيات 3-5). يثق المرنم في الرب، لأنه القدوس، الذي يختلف عن البشر الناقصين، كما أنه الكامل في النقاوة والعدالة والأمانة.. ولذلك يسبِّحه شعبه حتى في وسط شدة آلامهم وضيقة نفوسهم، فتتصاعد تسبيحاتهم كسحابة بخور عطر نحو عرشه العظيم. وفي آيتي 4، 5 يعترف المرنم أن الله خلّص شعبه المتكل عليه، ونجّاهم. فلماذا لا يحدث الأمر نفسه الآن؟.. إنها صلاة واثق متروك، يصرخ إلى الإله الأمين صاحب المعجزات القديمة.
2 – تواضع المسيح المتألم: (آيات 6-8).
(أ) اعتبروه على غير حقيقته: »أما أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشر، ومحتقر الشعب« (آية 6). هو الإنسان الكامل، ولكنه رضي أن يعتبروه دودة محتقرة يحسب الذي يراها أنه يقدر أن يهلكها بقدمه، وهي عاجزة عن رد الأذى! وهو نفس الوصف الذي نقرأه عن المسيح في نبوة إشعياء 41: 14. ومكتوب عنه أيضاً »محتقرٌ ومخذول من الناس« (إش 53: 3) حتى أن الشعب طلب من بيلاطس أن يطلق لهم باراباس القاتل ويصلب المسيح. لم ينظروا إليه كإنسان، بل أهانوه وطعنوه كأنه »دودة« وحمّلوه صليبه حتى سقط تحته.
(ب) تعرَّض للسخرية: »كل الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاه ويُنغضون الرأس (احتقاراً وكراهية وإعلاناً لرفضهم له) قائلين: اتكل على الرب فلينجِّه. لينقذه لأنه سُرَّ به« (آيتا 7، 8). وقد تحققت هذه النبوة بحذافيرها عند الصليب، فإن الكهنة والشعب، واليهود والوثنيين، والمدنيين والجنود، والشرفاء واللصوص سخروا منه قائلين: »خلَّص آخرين، أما نفسه فما يقدر أن يخلّصها.. قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده« (مت 27: 42، 43) وهم لا يعلمون أنه لم يخلّص نفسه لأنه يريد أن يخلّصنا.
وإذ نقرأ هذه الآيات نتساءل: هل نتعجب من قسوة الإنسان؟ أو نتعجب من محبة الفادي وهو يصلي لأجل صالبيه: »يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون؟« (لو 23: 34). فما أقسى الإنسان، وما أعظم محبة الله!
3 – ثقة المسيح المتألم: (آيات 9-11).
»لأنك أنت جذبتني من البطن. جعلتني مطمئناً على ثديي أمي. عليك أُلقيتُ من الرحـم. مـن بطن أمي أنت إلهي. لا تتباعد عني لأن الضيق قريب. لأنه لا معين«.
قال أعداؤه: »اتكل على الرب فلينجّه« وصَدَقوا في ما قالوا، فحوّل كلماتهم إلى صلاة. لقد برهنت كل حياته الماضية أنه حبيب الله. وهذا ما أعلنه الملاك للعذراء مريم: »الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله«. وهو ما أعلنه الملاك للرعاة: »أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب« (لو 1: 35 و2: 10، 11).
ثم يحوّل سؤاله في الآية الأولى »لماذا تركتني؟« إلى طلبة »لا تتباعد عني لأن الضيق قريب. لأنه لا معين« وهي طلبة يعود فيكررها في آية 19.
ومن الثقة التي تعلنها آيات 9-11 نتعلم أن الإيمان يجد سلاحه في كل مكان، مهما كانت المعركة قاسية! لذلك يقول إشعياء بروح النبوة بلسان المسيح: »دُستُ المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد« (إش 63: 3).
4 – آلام المسيح من قسوة المحيطين به: (آيات 12-18) وفي هذه الآيات يصف المرنم أعداءه القُساة، ثم يذكر ما فعلوه به. (أ) أوصافهم:
(1) ثيران كثيرة قوية: »أحاطت بي ثيران كثيرة. أقوياء باشان اكتنفتني. من قرون بقر الوحش استجٍب لي« (آيتا 12، 21ب). إنهم كالثيران الكثيرة القوية التي ترعى في مراعي باشان النضيرة، وهي من أفضل المراعي التي يربّون عليها أسمن الثيران وأقواها. وهم متوحشون كبقر الوحش ذي القرون القوية. فأعداء المسيح المحيطون به أقوياء يهاجمونه.
(2) أسود: »فغروا عليّ أفواههم كأسد مفترس مزمجر.. خلِّصني من فم الأسد« (آيتا 13، 21أ).
(3) كلاب: »لأنه قد أحاطت بي كلاب.. أنقِذ من يد الكلب وحيدتي« (آيتا 16أ، 20ب). ووحيدته هي حياته.
(4) أشرار: »جماعة من الأشرار اكتنفتني« (آية 16ب). حاول بيلاطس أن ينقذه منهم، لكنهم صرخوا: »اصلبه! اصلبه!«.
(ب) ما فعلوه به:
(1) أوصلوه إلى نهايته: »كالماء انسكبْتُ. انفصلت كل عظامي. صار قلبي كالشمع، قد ذاب في وسط أمعائي« (آية 14). وهو وصف لمن شُدَّ جسده معلقاً على صليب حتى تمزق. إنه كالماء الذي إذا انسكب لا يعود له وجود في مكانه.
(2) أصابوه بالعطش القاتل: »يبسَت مثـل شقفـة قوتي، ولصـق لسانـي بحنكـي. وإلـى تـراب المـوت تضعني« (آية 15). أصاب الجفاف جسده فقال: »أنا عطشان« (يو 19: 28).
(3) ثقبوا يديه ورجليه: »ثقبوا يديَّ ورجليَّ« (آية 16). وهذا ما جرى للمسيح بالفعل على الصليب.
(4) أحصوا عظامه: »أُحصي كل عظامي« (آية 17). وهذا يمكن في حالة شدّ جسد المصلوب فتظهر عظامه واضحة. لقد تعرى آدم الأول بسبب الخطية، وتعرى آدم الثاني ليستر ما عرّانا به أبونا الأول آدم. ولقد سترنا المسيح ببره.
(5) شمتوا به: »ينظرون ويتفرسون فيَّ« (آية 17). بشماتة وسخرية.
(6) أخذوا ثيابه: »يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون« (آية 18). ينتظرون موته ليأخذوا ثيابه ويقتسموها بينهم، مقترعين عليها. وهو ما تحقق حرفياً عند الصليب (مت 27: 35 ولو 23: 34 ويو 19: 23، 24).
5 – طِلبة المسيح المتألم: (آيات 19-21).
بعد أن وصف داود بروح النبوَّة قسوة أعداء المسيح وآلامه منهم، حوّل نظره إلى الله، وقال: »أما أنت يا رب فلا تبعُد. يا قوتي أسرِع إلى نصرتي« (آية 19). ففي شدة ضعفه يدعو الرب.
ثانياً – نبوّات عن نصرة المسيح
(آيات 22-31)
يقدم لنا القسم الثاني من المزمور نبوات عن انتصار المسيح، فلا يجب أبداً أن ننظر إلى يوم الجمعة، يوم صلب المسيح، دون أن ننظر في الوقت نفسه إلى فجر يوم الأحد، وقت قيامته، فالمسيح الذي صُلب ومات ودُفن قام منتصراً، وهو الوحيد الذي خلا قبره من جسده، ولم يعد جسده للقبر أبداً، ولن يعود، لأنه الحي الذي لا يقدر القبر أن يحتويه، بعد أن قدّم نفسه فدية عنا، وقام ظافراً هازماً الموت. خلا قبره من ساكنه، لأن ساكنه قام قيامة عزيز مقتدر! لقد أيقن صاحب المزمور أن صلواته قد استُجيبت، فأخذ يهتف هتاف الظافر.
وفي هذا القسم نرى دعوة عامة للتسبيح (آيات 22-26) ثم نرى أن التسبيح يبارك الجميع بمن فيهم الجيل القادم (آيات 27-31).
1 – دعوة عامة للتسبيح: (آيات 22-26).
(أ) يبدأ المرنم نفسه بالتسبيح: »أُخبر باسمك إخوتي، في وسط الجماعة أسبّحك« (آية 22). والمقصود بـ »اسم الله« هنا كل ما أعلن الله لنا ذاته به. والخبر الذي يذيعه المرنم هنا هو صليب المسيح وقيامته، مما يعلن لنا محبة الله وقداسته وقوته وحكمته وبره وفداءه. وفي هذه الآية يدعو المسيح المؤمنين إخوته. ويقول كاتب العبرانيين »لأن المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحد، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة« ثم يقتبس آية 22 من مزمورنا ويوضح أن قائلها هو المسيح (عب 2: 11، 12). ويتم هذا التسبيح وسط الجماعة كلها، وأمام الكل، اعترافاً بالفضل وإعلاناً لعظيم عمل الله. »بشّرت ببـرٍ في جماعـة عظيمـة. هوذا شفتاي لـم أمنعهما. لم أكتـم عدلك في وسـط قلبي. تكلمتُ بأمانتك وخلاصك. لم أُخفِ رحمتك وحقك عن الجماعة العظيمة« (مز 40: 9، 10).
(ب) كلمات التسبيح: »يا خائفي الرب سبحوه. مجّدوه يا معشر ذرية يعقوب، واخشوه يا زرع إسرائيل جميعاً، لأنه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين، ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع« (آيتا 23، 24). وهذه دعوة إلى كل مؤمن إيمان إبراهيم، وكل مختار اختيار يعقوب، بغضّ النظر عن جنسيته وطائفته، ليسبحوا الله الذي عظّم مسيحه، فرفعه إليه، وقال عنه: »من تعب نفسه يرى ويشبع، وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها. لذلك أقسم له بين الأعزاء، ومع العظماء يقسم غنيمة، من أجل أنه سكب للموت نفسه وأُحصي مع أثمة، وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين« (إش 53: 11، 12).
ينقلنا المرنم في هاتين الآيتين إلى جو جديد يجعلنا نسبح الله ونشكره على يوم الصلب، وهذا ما فعله المسيح بعد أن رسم لتلاميذه سر العشاء الرباني، الذي يذكّرهم بموته، وبعدها سبَّح مع التلاميذ، واتجهوا إلى جبل الزيتون حيث أُلقي القبض عليه (مت 26: 30).
(ج) وهو تسبيح عام: »من قِبلك تسبيحي في الجماعة العظيمة« (آية 25أ). لقد ملأ الرب قلب المرنم بالسرور والفرح، فانطلق لسانه يهتف. تسبيحه من قِبَل الرب بسبب ما فعله الرب معه. فما أعظم هذا الانتصار الذي يجب أن يملك مشاعرنا الآن، فنسبح الله في الجماعة العظيمة، جماعة المؤمنين ومن سيصبحون مؤمنين، ونقول لهم: المسيح قام، بالحقيقة قام!
(د) وهو تسبيح مقترنٌ بوفاء النذور: »أوفي بنذوري قدام خائفيه« (آية 25ب). وفى المسيح بما وعد به، وبذل للموت نفسه، وقال عند دخوله إلى العالم: »ذبيحة وقرباناً لم تُرِد، ولكن هيَّأت لي جسداً. بمحرقات وذبائح للخطية لم تُسرّ. ثم قلتُ: هئنذا أجيء. في درج الكتاب مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله« (عب 10: 5-7).
(هـ) وهـو تسبيح مشبِع: »يأكل الودعاء ويشبعون. يسبّح الرب طالبوه. تحيا قلوبكم إلى الأبد« (آية 26). هذه وليمة تُشبع المساكين بالروح، الجياع والعطاش إلى البر. كانوا يموتون جوعاً فأشبعهم الرب من مائدته، تجاه مضايقيهم!.. هذه دعوة للشبع إن قبلنا دعوة الله الكريمة: »أيها العطاش جميعاً هلموا إلى المياه.. استمعوا لي استماعاً وكُلوا الطيّب ولتتلذّذ بالدسم أنفسكم« (إش 55: 1، 2). وكانت شريعة موسى قد رسمت »ذبيحة السلامة« للمؤمن الذي يشعر بفضل الله عليه، فتبارك نفسه الرب. وكان عليه أن يحرق جزءاً من »ذبيحة السلامة« ويأكل منها هو ومن معه أمام الرب في يوم تقديمها. إنها وليمة شكر (لا 7: 29-34). قال المسيح: »أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم« (يو 6: 51).
والآن دعونا نأتي إليه فنجد الشِّبع الحقيقي، لأن من يقبل دعوة المسيح يتشرّف بدخوله إلى قلبه. فيدخل المسيح القلب ويشبع الحياة (رؤ 3: 20).
2 – التسبيح يبارك الجميع: (آيات 27-31).
(أ) سجود الأمم للرب: تتَّسع دائرة رؤية المرنم من »معشر ذرية يعقوب« (آية 23) إلى العالم كله، فيرى الكل يسبّح الرب ويتعبّد له، فيقول: »تذكر وترجع إلى الرب كل أقاصي الأرض، وتسجد قدامك كل قبائل الأمم« (آية 27). وهذه أول البركات، فالرسالة هي للجميع. كل أقاصي الأرض »تذكر – ترجع – تسجد«. »تذكر« نتيجة تبكيت الروح القدس، فيقولون مع الابن الضال: »أقوم وأذهب إلى أبي«. »ترجع« بالتوبة تاركة كل إله غير الرب. »تسجد« فتقدم العبادة والطاعة. واليوم، في كل ركن من أركان العالم يُكرز بخبر الإنجيل المفرح، ويُعلَن صليب المسيح وقيامته، فيرجع الملايين إليه تائبين. فلنقدم نفوسنا له ساجدين بالخضوع.
(ب) سبب سجود الأمم للرب: »لأن للرب المُلك، وهو المتسلط على الأمم« (آية 28). أجرى المسيح المعجزات، ولا زال يجريها، فأظهر سلطانه على الطبيعة والمرض والأرواح الشريرة والموت، وقال: »دُفع إليَّ كل سلطان في السمــاء وعلـى الأرض. فاذهبــوا وتلمــذوا جميع الأمم« (مت 28: 18، 19). فيهتف له المفديون قائلين: »مستحق هو الحمل المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة« (رؤ 5: 12).
(ج) ثلاثة أنواع من الساجدين للرب:
(1) الظالمون: »أكل وسجد كل سميني الأرض« (آية 29أ). عندما يتوب الذين يسمنون لأنهم يسطون على ثروات المساكين ويأكلونها، يطعمهم الرب من مائدته، فيشبعون، ويسجدون.
(2) المظلومون: »قدامه يجثو كل من ينحدر إلى التراب، ومن لم يُحْيِ نفسه« (آية 29ب). المنحدرون إلى التراب هم المضطهَدون العاجزون عن الدفاع عن أنفسهم، الذين عندما ينصفهم الرب يسجدون له شكراً. وهم الذين لا يستطيعون أن يُحيوا نفوسهم لأنهم أموات بالخطية، ولكن عندما ينالون حياة روحية يسجدون تهليلاً. وهم كل البشر، فلا يوجد من يقدر أن يحفظ نفسه حياً، فقد وُضع للناس أن يموتوا. ولكن المسيح وعدهم بالحياة الأبدية، ولذلك يسجدون لله وحمداً.
(3) الجيل القادم: »الذرية تتعبّد له. يُخبَّر عن الرب الجيل الآتي. يأتون ويخبرون ببره شعباً سيولد بأنه قد فعل« (آيتا 30، 31). فالجيل الحاضر الذي عرف النعمة الإلهية يخبر الجيل الآتي. وهذه مسؤولية علينا من نحو الجيل القادم. فعلى الذين أخذوا مشعل النور والإنجيل من الجيل الذي سبقهم أن يسلموه إلى الجيل القادم أكثر اشتعالاً ولمعاناً. وهذا هو أمل العالم اليوم وغداً.
(د) سبب تسبيح المرنم: »قد فعل« (آية 31). وهي نفسها الكلمة الأخيرة التي قالها المسيح على الصليب »قد أُكمل«. لقد تمَّ الخلاص، هللوا رنموا لربنا يسوع.
والآن دعونا نتذكر آلام المسيح، وانتصاره من أجلنا. ولنأت إليه لنشبع من وليمته السماوية التي يدعونا إليها، فيقول كل واحد منا: »أخبر باسمك إخوتي. في وسط الكنيسة أسبحك«.
اَلْمَزْمُورُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. 2فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي. 3يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ. 4أَيْضاً إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرّاً، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي. 5تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ. مَسَحْتَ بِالدُّهْنِ رَأْسِي. كَأْسِي رَيَّا. 6إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مَدَى الأَيَّامِ.
مزمور الراعي
ملأ هذا المزمور عالمنا بفرح غامر، هو فرح الثقة بالرب الذي يرعى شعبه. وهو فرح الطمأنينة بأمانة الرب مع من يتبعونه في ثقة ومحبة وطاعة، ففي اتِّباع الرب الراعي لا احتياج ولا خوف، لأنه يسدِّد كل الأعواز المادية والروحية والفكرية والنفسية والعاطفية، اليوم وكل يوم، فهو »القادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداُ مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تعمل فينا« (أف 3: 20).
كُتب هذا المزمور في صيغة المفرد، فالمرنم يتكلم عن نفسه، وعن علاقته بإلهه »الرب راعيَّ«. إنه مزمور شخصي، فكل حَمَل في القطيع يمكن أن يخصص لنفسه ما يفعله الراعي الصالح مع القطيع كله.
كم من مؤمن متألم وجد راحته في كلمات هذا المزمور، وكم من فقير طاب خاطره به، وكم من مريض دهنه ببلسان تعزيته، وكم من مؤمن مضى إلى راحته الأبدية بسلام وهو يرتِّل آياته! لقد حطم قيود الألوف، كما حطم الملاك سلاسل بطرس السجين!
قال القديس أغسطينوس إن مزمور 119 يشبه الشجرة الكبيرة الوارفة الظل، بينما مزمور 23 يشبه الوردة الجميلة المتفتِّحة التي تملأ الجو المحيط بها عطراً وشذى. ودعا مارتن لوثر هذا المزمور »البلبل المغرد في الليل«. كل كلمة من كلمات مزمور 23 كاللؤلؤة الثمينة المضيئة التي تملأ كل ما حولها بالنور والضياء.
أغلب الظن أن داود كتب هذا المزمور بعد أن انتصر على أعدائه، وأرسى قواعـد مملكته، وتمتع بالراحة والاطمئنان، لأن هذا المزمور يحمل لغة الاختبار العميق الذي لا يمكن أن يسجله لنا إلا شيخٌ جليل تعمَّق في معرفة الرب سنوات طويلة، واختبر صلاحه معه في أوقات الانتصار والفرح كما في أوقات الهزيمة والحزن، فأدرك بنفسه جود الرب وصلاحه. ولا بد أن داود كان يسترجع ذكرياته الجميلة وهو يرعى قطيعه بين جداول المياه المنسابة وسط المراعي الخضراء.
والذي يقرأ مزموري 22، 24 يكتشف معنى رائعاً، فمزمور 22 يصف جبل الجلجثة، ومزمور 24 يصف جبل المجد. يبدأ مزمور 22 بالكلمات التي نطق بها المسيح على الصليب: »إلهي إلهي، لماذا تركتني؟« وينتهي بالقول: »قد فعل« أو »قد أُكمل« فمزمور 22 هو مزمور الصليب!
أما مزمور 24 فيصوّر لنا الملك المنتصر يدخل مملكته »ارتفعن أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد. من هو هذا ملك المجد؟ رب الجنود هو ملك المجد«. إنه مزمور مجيء مملكة المجد!
وبين المزمورين نرى مزمور 23 مزمور الوادي الأخضر بمياه الراحة، حيث يقود الراعي الصالح قطيعه الذي سُرَّ أن يعطيه الملكوت!
في هذا المزمور نجد:
أولاً – صورة الراعي الصالح (آيات 1-4)
ثانياً – صورة المضيف الكريم (آيات 5، 6)
أولاً – صورة الراعي
(آيات 1-4)
هو الراعي الذي يدبر كل احتياجات شعبه فيعطي المأكل والمشرب، ويرد الضال، ويهدي الحائر، ويحمي الخائف، ويشجع المتعب. والأغنام غالية على الراعي لأنه اشتراها بثمن كبير، فهي خاصته التي يعتز بها.
1 – علاقة الراعي بقطيعه علاقة شخصية: »الرب راعيَّ« (آية 1أ). الرب هو الراعي، أما نحن فغنم مرعاه، والغنم معروفة بضعفها وغبائها. تعرف أن تضل، لكنها لا تعرف طريق العودة، كما أنها عاجزة عن حماية نفسها! والراعي هو كل شيء لها. إنه المدبّر والحامي، والقائد.
وفي كل ثقة يقول داود: »الرب راعيَّ« (آية 1). لم يقل »أرجو أن يكون راعيَّ«. ولا قال »أحياناً هو راعيَّ«. ولكنه قال: »الرب راعـيَّ« فعلاً ويقينـاً ودومـاً. »فإني متيقِّـن أنـه لا مـوت ولا حياة.. ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبــة الله التـي فـي المسيـــح يسوع ربنا« (رو 8: 38، 39) »لأني عالـم بمــن آمنـت، وموقــنٌ أنه قـادر أن يحفـظ وديعتي إلى ذلك اليوم« (2تي 1: 12). وما أجمل هذه الثقة! لا خوف من أن الراعي يرفضنا، لأنه يحبنا. المؤمن في يد راعيه فعلاً ودوماً »لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية« (يو 3: 16).
قال المسيح: »أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف.. وأعرف خاصتي وخاصتي تعرفني كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب.. خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني، أنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي« (يو 10: 11، 14، 27، 28). ولا يحقُّ لإنسان أن يقول إنه من خراف المسيح إلا إن كان قد صار خليقة جديدة في المسيح وأخذ منه طبيعةً جديدة. وكل من لم ينالوا الطبيعة الجديدة يصفهم الكتاب المقدس بأنهم »جداء« و»ذئاب«.
والقول »الرب راعيَّ« يرينا الاختبار العميق والثقة الكاملة للمرنم. »راعيَّ« لي، وأنا له. صحيح أنه يرعى القطيع كله، لكن المرنم يشعر أن الراعي مخصَّص له وحده، وكأنه يقول: أنا أشعر بعنايتك ورعايتك لي يا رب، وكأنه لا يوجد على الأرض محتاجٌ لرعايتك سواي! ألم يقل الراعي الصالح: »لأجلهم أقدّس أنا ذاتي« بمعنى أخصص ذاتي (يو 17: 19). إذاً فهو لي. نعم! حبيبي لي!
هناك صلة شخصية بين الرب الراعي والمؤمن التابع، فليس الرب عنا بعيداً. إنه المحبة المتنازل إلينا، وليس المتعالي علينا. ويقول المؤمن »الرب راعيَّ« لأن الله المحب يسكن قلبه. قال عنه يعقوب أبو الأسباط: »الله الذي رعاني منذ وجودي إلى هذا اليوم« (تك 48: 15).
»الرب راعيَّ«. إنه لي. كان لي بالأمس، وهو لي اليوم، وسيظل يرعاني كل الأيام إلى انقضاء الدهر! إنه كلي المحبة، وكلي القدرة، وكلي الحكمة. لن يمضي عليَّ يوم بدون رعايته الحلوة. هذه الرعاية دائمة بالليل والنهار. في النهار يرعى ويغذي. وفي الليل يسوق قطيعه للحظيرة، وهي بناء ذو أربعة جدران، في أحدها فتحة (هي الباب) يدخل منها القطيع، ثم ينام فيها الراعي، ويقول: »أنا هو الباب« (يو 10: 9). لا يخرج خروف إلا ويشعر به، ولن يدخل غريب إلا فوق جسده، فإن من يمسّ قطيعه يمس حدقة عينه. وعندما يكون الخروف سليماً يسير بجانب راعيه، فإذا مرض يحمله الراعي على كتفه. فالخروف موضع الاهتمام الدائم الذي لا ينقطع.
2 – علاقة الراعي بقطيعه هي علاقة تدبير كل احتياج: »فلا يعوزني شيء« (آية 1ب). يذكر المرنم خمسة أشياء يدبرها الراعي لقطيعه: أولها الطعام، فيقول: »في مراعٍ خضر يربضني«. وثانيها الماء »إلى مياه الراحة يوردني«. وثالثها الراحة »مياه الراحة«. ورابعها الشفاء من الضلال »يردُّ نفسي«. وخامسها الإرشاد »يهديني إلى سبل البر«.
»الرب راعيَّ« والنتيجة الحتمية لذلك »فلا يعوزني شيء« اليوم وغداً وكل يوم! قال موسى للشعب عن مسيرته في الصحراء: »الآن أربعون سنة للرب إلهك معك، لم ينقص عنك شيء«
(تث 2: 7). ثم قال لهم عن الأرض التي انتقلوا إليها: »لا يعوزك فيها شيء« (تث 8: 9). أحياناً »نريد« بعض الأشياء ولكنها في واقع الأمر لا تعوزنا، فليس من الضروري أن يعطيها الرب لنا. لكنه دوماً يعطينا ما نحتاجه. فقد يكون في ما نريده ونطلبه ضرر لنا أو أذى علينا. أو قد يكون ما نريده أقل نوعاً وكيفاً وكمّاً مما يريد أبونا السماوي أن يعطيه لنا. فيجب أن تكون صلاتنا: »لتكن إرادتك« لأننا لا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي.. وهو يختار لنا حظنا. وبالتأكيد لن يعوزنا وقتها شيء. »لم تمنع مَنَّك عن أفواههم، وأعطيتهم ماءً لعطشهم، وعُلتهم أربعين سنة في البرية فلم يحتاجوا. لم تبْلَ ثيابهم ولم تتورَّم أرجلهم« (نح 9: 20، 21). يكتشف المؤمن أن المسيح نفسه هو غذاؤه وماؤه، وهو يعطي نفسه للمؤمن ويقول: »مَن يأكلني يحيا بي« (يو 6: 57). وقد سأل المسيح تلاميذه: »حين أرسلتُكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية: هل أعوزكم شيء؟ فقالوا: لا«
(لو 22: 35).
»اتَّقوا الرب يا قديسيه لأنه ليس عوزٌ لمتّقيه. الأشبال احتاجت وجاعت، وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير« (مز 34: 9، 10). »فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع« (في 4: 19). إنه يطعم الغربان ويكسو زنابق الحقل، وقطيعه أعظم جداً منهما!
»في مراعٍ خضر يربضني. إلى مياه الراحة يوردني « (آية 2). إلى المرعى الخصيب، الدسم، الوفير، دائم الخضرة. إلى كلمة الله المغذية المشبعة المقوية. إلى مياه الراحة الخالية من الأمواج. والرب يهدئ أمواج البحار أمام محبّيه. ويوردهم إلى مباهج الروح القدس، الذي يعطي النفس الراحة والاطمئنان والأمن والاستقرار. يوردهم إلى سلام كامل وإلى فرح مجيد. إنه يقودنا إلى مياه الراحة التي تروي عطشنا الروحي، وتضع نهاية له، ثم تفيض منا إلى غيرنا لنروي كثيرين، فيتحقق معنا قول المسيح: »من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية. إن عطش أحدٌ فليُقبل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي« (يو 4: 14 و7: 37، 38).
أما مسؤولية المؤمن فهي أن يربض حيث يُربِضه راعيه ويورده. وفي هذا تسليم وخضوع للقيادة الحكيمة الواعية القادرة، فلا يستطيع أحد أن يربض إلا إذا كان مطمئناً واثقاً غير خائف، فكل احتياجاتنا فيه. وكلما كنا في رعايته نخلص من القلق والخوف، لأنه »الباب« الذي يخلُص الداخلون منه ويجدون مرعى (يو 10: 9). فهل أنت داخل حظيرة الرب؟ هل تقدر أن تقول بثقة: »الرب راعيَّ«؟ إن كنت بعيداً أَقبِل إليه، تنل منه الرعاية والحماية والشبع.
3 – علاقة الراعي بالقطيع تجعله يرد الضال: »يرد نفسي« (آية 3أ). يرتكب المؤمن خطأً مؤسفاً عندما يضل عن راعيه! والخراف مشهورة بالغباء وقِصر النظر، وهي لا ترى إلا إلى مسافة قصيرة، ولو أنها تميّز الصوت فقط. وما أكثر ما يسير واحد منها في طريق خاطئ، فإذا ببقية القطيع يتبعه بدون تفكير. وعندما يصلون إلى مكان خطر لا يعرفون كيف يرجعون! وما أعظم الشبه بين المؤمن والحمل. فكلاهما بطيء الفهم بكل ما علّم به الكتاب وبكل ما اكتشفه من صلاح الراعي. لذلك يقول النبي الإنجيلي إشعياء: »كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه« (إش 53: 6).
كم من مرة سرنا مع الراعي الصالح، نتمتع برعايته الممتازة ولا يعوزنا معه شيء، وفجأة ننحرف إلى سبيل يصفه الحكيم بالقول: »توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت« (أم 14: 12)!
ترى ماذا لفت نظرنا؟ هل ظننا أن هناك مرعى أكثر اخضراراً من المرعى الذي قادنا راعينا إليه؟ هل تخيّلنا أن هناك مكاناً أكثر أماناً وراحة من المكان الذي أربضَنَا راعينا فيه؟ هل تبعنا قيادة ضالة قادت أقدامنا إلى مزالق خطرة، دون أن نُمعن التفكير في نتائج الانحراف؟.. ليس هناك سبـب معقـول يبرر ضلالنا عن الراعي، فإننا بلا عذر! ولكن المؤسف أننا نضلّ عنه!
تهتُ عـن القطيــــع مثل الخروف الضــــــــال
ينأى عن الراعي الوديــع في القفر والجبــــــــــــــال
مهاجِرَ الأوطــــــان كالشارد الأثيـــــــــــــــم
بل تهتُ في قفر الهــوان عن الآب الرحيــــــــــــــم
لكن الراعي الصالح لا يمكن أن يترك الخروف الضال. كان الحَمَل الذي يضيع يصل أحياناً إلى مكان به راعٍ آخر. فكان الراعي الثاني يذبحه نصف ذبحة، ويتركه فترة، فإذا جاء راعيه ووجده، يضمد جراحه ويحمله على كتفه ويعود به إلى حيث ينال الشفاء. أما إذا ابتعد الحمل عن راعيه مسافة طويلة، ولم يجده راعيه بالسرعة المناسبة، فإن الراعي الغريب يأكل لحم ذلك الضال! ونحن نضلّ، ولكن الراعي الصالح يسرع بالتفتيش علينا، ويظل يفتش حتى يجدنا. وهذا ما أعلنه المسيح لنا في مثل الراعي الذي ذهب يفتش عن الواحد الضال حتى وجده (لو 15: 1-6). فالضال لا يفتش عن راعيه، بل الراعي هو الذي يفتش عليه فيتم فينا القول: »لأنكم كنتم كخراف ضالة، لكنكم رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم وأسقفها« (1بط 2: 25).
هل كانت لك علاقة حلوة بالرب وفترت؟ هل كانت لك خدمة ملحوظة وتوقَّفت؟ هل تحيا حياة عصيان علني؟ يريد الرب أن يردّك إلى الحالة الأولى التي كنت فيها، إلى شركة أعمق، وخدمة أنجح، وطاعة أكثر. إنه يريد أن يُرجعك إلى أحسن حال. لا تفشل، بل اذكر من أين سقطت وتُب، وأسرِع إلى حظيرة راعيك قائلاً: »يرد نفسي«. فعندما تخطئ يطهرك، وعندما تضعف يقويك، وعندما تخاف يطمئنك، وعندما تحزن يعزيك.
4 – علاقة الراعي بالقطيع تجعله يهديها إلى السبل المستقيمة: »يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه« (آية 3ب). الراعي الصالح في محبته، لا يرد نفسك فقط، بل يهديك أيضاً. والكلمة »يهديني« تحمل معنى الرقّة والعناية »كراعٍ يرعى قطيعه. بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها، ويقود المرضعات« (إش 40: 11). فهو يعلم أنك معرَّض للسقوط بسبب ضعف طبيعتك البشرية، وبسبب غواية الشيطان. فيهديك إلى سبل البر التي لا يعتسف فيها أعرج ولا يسقط فيها ضعيف.
في زمن الشتاء تصير الطرق موحلة، وتسير عليها العربات فتترك فيها منخفضات ومرتفعات. وحين تجف يصعب على الخراف الرقيقة السير فيها، فيختار الراعي الصالح لها طرقاً ممهّدة، أو يُصلح لها الطرق الخشنة. وهذا ما يفعله راعينا الصالح، الذي يهدي خطواتنا في سبل البر. والبر هو الاستقامة، وسبل البر هي السبل المستقيمة، وهي كثيرة، وطرق خدمة الرب متعددة، يقول لنا عنها: »أريتُك طريق الحكمة. هديتك سبل الاستقامة« (أم 4: 11). فأي السبل ستسلك لتخدم الرب؟ وفي أي طرق ستسير لتعمل إرادته؟ هناك مواهب كثيرة يعطيها الرب للمؤمنين، وكلها مستقيمة ويجب استخدامها بالعدل. وإذ نسلك سبل البر نعطي كل ذي حق حقه، فنعطي الرب حقه علينا من الطاعة والمحبة والثقة ونقدم له عشور دخلنا. ونعطي الآخرين حقهم من الخدمة والود. ونعطي نفوسنا حقها فنتمم خلاصنا بخوف ورعدة نائلين غاية إيماننا: خلاص نفوسنا، ونجاهد قانونياً، لعلنا ندرك الهدف الذي لأجله أدركنا المسيح وخلّصنا (في 3: 12).
كثيرون لا يرون لحياتهم معنى، ويتساءلون: لماذا أنا هنا؟ والإجابة: إنك في موقعك لأن الله يهديك سبُـل الاستقامة. اطلب معـرفة إرادتـه ونفّذها، فتختبـر الحيـاة الفضلى التي يهبـها لك المسيح (يو 10:10).
وكم نشكر الراعي الصالح لأنه يفعل هذا كله »من أجل اسمه« وليس لأجلنا نحن. هو الذي أطلق اسمه علينا، فأصبحنا ننتسب وننتمي إليه. لقد دُعينا مسيحيين نسبة إلى المسيح راعينا العظيم، وفي هذا كل الضمان لنا. فلو أن الخير الذي فينا دفع الله لأن يهدينا، ثم توقفنا عن عمل هذا الخير، عندها تنتهي هدايته، لأن الخير الذي فينا قد انتهى! لكن كم نشكره لأن هدايته لنا لا تنتهي أبداً، لأنها »لأجل اسمه« الذي لا يتغير أبداً!
5 – علاقة الراعي بالقطيع مستمرة حتى في الوادي المظلم: »أيضاً إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معي« (آية 4أ). ووادي ظل الموت هو الوادي شديد الظلام، الذي يسمح الراعي الصالح لنا أن نسير فيه أحياناً. ليس كل الطريق معه مراعٍ خضر، ولا كلها مياه راحة، بل في العالم سيكون لنا ضيق، ولو أننا واثقون أن المسيح قد غلب العالم (يو 16: 33) وقد وُهب لنا لأجل المسيح لا أن نؤمن به فقط، بل أيضاً أن نتألم لأجله (في 1: 29) ولكن وسط هذه المتاعب نجد رعايته المفرحة. ونحن لا نسير في وادي ظل الموت وحدنا، لأنه دائماً معنا.
يقول المرنم: »إذا سرتُ«. إنه لا يجري برعب وهلع، لكنه يسير في اطمئنان وسلام. إن المرتعب »يجري« ولكن الواثق »يسير« على مهل، بدون خوف، لأنه يعرف طريقه، ويعلم أنه ليس للإنسان طريقه، ولا لإنسان يمشي أن يهدي خطواته (إر 10: 23) لأنه متأكد أن الرب يثبت خطواته. »من قِبل الرب تتثبَّت خطوات الإنسان وفي طريقه يُسرّ« (مز 37: 23).
ويسير المؤمن في وادي ظل الموت بغير خوف لأنه يعرف نهاية طريقه، ولأنه يعرف أنه مجرد عابر. فبعد أن يدخل نفق الظلام يخرج حالاً إلى نور الرب، واثقاً بالذي يقدر أن يحفظ وديعته إلى ذلك اليوم، لأنه لا يستطيع أحد أن يخطف المؤمن من يد راعيه الصالح الذي يحافظ على سلامته حتى يوصّله إلى الميناء بسلام (2تي 1: 12 ويو 10: 28).
ولكن لماذا يسمي المرنم الوادي المظلم بأنه »وادي ظل الموت«؟ الإجابة أن الوادي منخفض، تغيب الشمس عنه أولاً، وبعد ذلك تغيب من على القمم العالية. والوادي ضيق في معظم الأحوال. ولهذا يدعوه »وادي ظل الموت«.
وكثيراً ما تقابلنا المصاعب التي تحرمنا من رؤية المسيح »شمس البر« فنصرخ: »إلى متى يا رب تنساني كل النسيان؟ إلى متى تحجب وجهك عني؟ إلى متى أجعل هموماً في نفسي وحزناً في قلبي كل يوم؟« (مز 13: 1، 2). وهو في هذا يشبه المجدلية الباكية، وقد امتلأت عيناها بالدموع فعجزت عن رؤية سيدها الحي المقام! ولكن المرنم الذي عمّر الرجاء قلبه يقول: »يا إلهي، نفسي منحنية فيَّ.. أقول لله صخرتي: لماذا نسيتني؟.. لماذا أنت منحنية يا نفسي، ولماذا تئنّين فيّ؟ ترجّي الله لأني بعد أحمده، خلاص وجهي وإلهي« (مز 42: 6-11).
وتطمئن نفس المؤمن لأنه يسير في وادي »ظل« الموت وليس في وادي الموت نفسه! فكما أن ظل الأسد لا يفترس، وظل السيف لا يجرح، هكذا ظل الموت لا يميت! إنه مجرد ظل! وكيف يجيء الظل؟ أليس لأن الشمس تنير من خلفه؟ إذاً لا بد من وجود النور خلف »الموت« حتى نرى الظل! إذاً الشمس خلف الغيمة، كما أن الرب خلف التجربة! يا لسعادتنا! إن الرب يقف من خلف كل مصاعبنا ينير لنا الطريق، وسرعان ما ينقشع الظل ليضيء علينا نور النهار الكامل. »الله أمين، الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا« (1كو 10: 13).
لقد عبَرَ المسيح راعينا الصالح وادي ظل الموت من قبلنا، وهزم الموت والقبر، وأعطانا أن نقول بفرحة الانتصار: »أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟« فلا بد أن نخرج من الوادي المظلم، ونسير ونتقدم. ولا بد أن نخرج من الضيق إلى الرحب، كما قال أليهو صديق أيوب: »يقودك من وجه الضيق إلى رُحبٍ لا حصر فيه« (أي 36: 16). ولذلك قال المرنم: »لتأتني رحمتك يا رب، خلاصك حسب قولك.. فأحفظ شريعتك دائماً إلى الدهر والأبد، وأتمشى في رحب، لأني طلبت وصاياك« (مز 119: 41، 44، 45).
ويمضي المرنم ليقول لله: أنا أسير على مهل وبدون رعب، في وادٍ ضيق مظلم، في ظل موت، ولكن لا أخاف شراً »لأنك أنت معي«. قال الله ليشوع: »كما كنتُ مع موسى أكون معك. لا أهملك ولا أتركك. تشدد وتشجع« (يش 1: 5، 6). صُحْبة الراعي الصالح لا ولن تفارقك أبداً. هو معك كل الأيام إلى انقضاء الدهر، وهو الذي لا يتغير أبداً، هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد!
لا أخاف، لا أخــــاف أي شر بوادي الظلام فمعي راعٍ أمــــــين
ماسكٌ يدي اليمـيــن فيه لي راحة وسلام!
»هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتــي وترنيمتي وقد صار لي خلاصاً« (إش 12: 2). إنه يقول لنا: »لا تخف لأني معك. لا تتلفَّت لأني إلهك. قد أيّدتك وأعنتك وعضدتك بيمين بري.. لأني أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك: لا تخف. أنا أُعينك« (إش 41: 10، 13). وإذا سار الرب معك يحوّل لك ظل الموت صبحاً »الذي صنع الثُريا والجبار، ويحوِّل ظل الموت صبحاً.. يهوه اسمه« (عا 5: 8) فتخرج من ظل الموت إلى النور. »يكشف العمائق من الظلام، ويُخرج ظل الموت إلى النور« (أي 12: 22) فتقول بالشكر: »عند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح ترنّم« (مز 30: 5). »لا أخاف شراً لأنك أنت معي«.
ولا شك أنك لاحظـت أن المرنم كان يتكلم عن الـرب بصيغـة ضميـر الغـائب »الـرب راعـيَّ.. لا يعوزني.. يربضني.. يوردني«. ولكن ما أن تحدث عن »وادي ظل الموت« حتى انتقل للحديث مع الله بضمير المخاطب فيقول: »لأنك أنت معي«.
المزمور وصفي، حتى يجيء صاحبه إلى »وادي ظل الموت« فيتحول من الحديث عن الله إلى الحديث إلى الله. آلام الحياة تدفعنا للركوع مصلّين. كان تلميذا عمواس عابسَين واليأس يملأ قلبيهما، لأن المسيح صُلب ومات ودُفن. ولكن ما أن بدءا الحديث مع المسيح حتى ارتفعت غمامة اليأس والحزن، وحلّ الرجاء والفرح. في وقت خوفك وحزنك تحوَّل من الحديث عن الله إلى حديثٍ مع الله، فتمتلئ نفسك بالطمأنينة والسلام.
6 – عـلاقـة الراعـي بالقطيـع فيهـا استخـدام العصـا والعكـاز: »عصـاك وعكازك هما يعزِّيانني« (آية 4ب).
(أ) العصا والعكاز يُشعِران القطيع أن الراعي يسير معهم: عندما تسير الخراف في الوادي المظلم تخاف لأنها لا ترى الطريق أمامها، ولا ترى الراعي معها. والراعي، في محبته، يريد أن يطمئن الخراف، ويجعلها تشعر أنه معها، فيمدُّ عصاه أو عكازه ويلمس ظهورها لمساً رقيقاً فتحس أنه معها.
هل تحس بلمسة الراعي المحب لك؟ إنه يريدك أن تشعر بوجوده الدائم معك. »إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شراً، لأنك أنت معي«. لا أدري كيف تجيئك لمسته الرقيقة الحانية. قد تجيء في آية كتابية تلهمك، وقد تجيء في عطية مادية لم تكن تتوقعها، وقد تجيئك في كلمة مشجعة من صديق لم تكن قد سمعت منه منذ مدة، وقد تجيئك في مسؤولية أكبر من قدراتك الذاتية. لكنك ستشعر بهذه اللمسة الرقيقة، وستميِّزها بسبب اختباراتك السابقة مع الله، فإن خرافه تميِّز صوته
(يو 10: 4) فتدرك في الظلمة الكثيفة أنك في صحبته.
(ب) العصا والعكاز لإحصاء الغنم: كانت الحظيرة دوماً ذات باب واحد، يضع الراعي فيه العصا أو العكاز على ارتفاع منخفض، ويسمح للأغنام بالدخول، فتجوز تحت العصا فيُحصيها، وفي الوقت نفسه يعرف حالة كل واحد منها، فإن كان في بدنها كسر أو مرض يكتشفه، ويقوم فوراً بإجراء الإسعاف اللازم. أما إذا اكتشف ضياع أحد خرافه فإنه يمضي إلى المراعي والجبال التي يرعى أغنامه فيها خلال اليوم ليطلب الواحد الضال، ويفتش عليه حتى يجده.. وتتحدث التوراة عن الإحصاء بالعصا، فنقرأ في سفر اللاويين: »وأما كل عُشر البقر والغنم، فكل ما يعبر تحت العصا يكون العاشر قُدساً للرب« (لا 27: 32) ويقول النبي إرميا عن الرب: »مصوِّر الجميع، وإسرائيل قضيب ميراثه« (إر 10: 16) وهذا يعني أن العكاز والعصا والقضيب تحصي ما يملكه الإنسان من ماشية. وياله من خاطر مطمئن للمؤمن أن يعرف أن راعيه الصالح يعرفه ويعرف حالته باستخدام العصا والعكاز. لقد أحصي الرب عظامنا ونحن في بطون أمهاتنا. »لم تختفِ عنك عظامي حينما صُنعت في الخفاء ورُقِمْت في أعماق الأرض« (مز 139: 15). »أليس هو ينظر طرقي ويحصي جميع خطواتي« (أي 31: 4). وما أروع قول المسيح لنا: »شعور رؤوسكم أيضاً جميعها محصاة« (لو 12: 7).
(ج) العصا لإرشاد الغنم، ولتجنيبها الحُفر: فعندما يرى الراعي أن الحَمل الجاهل يبتعد بحماقته عنه، يمدُّ عصاه ليردَّه إلى سبيل البر، السبيل المستقيم. »كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه« (إش 53: 6) ولكن الرب يُعيدنا بعصا محبته إلى حيث يجب أن نكون. وهذا يعني أننا أعزاء في نظره، وأنه يحسبنا ذوي أهمية في عينيه.
(د) العصا تؤدب الضال: يحدث أحياناً أن أحد الأغنام يضل، وما أكثر ما نضل! عندئذ يضرب الراعي هذا الضال للتأديب. »قبل أن أُذلل أنا ضللت« (مز 119: 67). بل إن الراعي يكسر أحياناً ساق خروف اعتاد الضلال، ثم يعود يجبره حتى يعتاد هذا الضال أن يلتصق براعيه ويبقى إلى جواره في وقت انكساره وضعفه.
ومع أن تأديب الراعي لنا يُرى أنه للحزن، إلا أنه يعطينا بعد ذلك سلاماً، لأننا نعلم أن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله! (عب 12: 6). وهذا ما يحدث في حياتنا اليومية، فإن كنت تسير في مكان وسمعت شتائم صادرة من صبي صغير، فإنك تسير دون أن تلتفت. ولكن إن عرفت أن هذه الشتائم صادرة عن ابنك فإنك تتوقف وتهتم وتؤدبه، لأنك تحبه، ولأنه لك، ولأنك تهتم بخيره! إنه خاصتك، ولكن ليس لك بالغرباء شأن. ومما يعزِّينا أن راعينا الصالح بتأديبه لنا يُشعرنا أننا له.
(هـ) العصا والعكاز تدفعان الأغنام لتسير إلى الأمام: ونحن لا نحسب أننا قد أدركنا، لكننا يجب أن نسعى لندرك. وعصا الراعي وعكازه تدفعاننا لنسير إلى الأمام، فنحقِّق الأمر الرسولي: »انموا في النعمة وفي معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح« (2بط 3: 18).
يشبه المسيحي راكب دراجة يتحتَّم عليه أن يسير إلى الأمام فقط، لأنه إن توقَّف عن التقدُّم يسقط. ونحن نحتاج لتشجيع العصا والعكاز اللذين يدفعاننا إلى الأمام، إلى حيث يجب أن نكون.
(و) العصا والعكاز للدفاع عن الخراف: ما أكثر الهجوم على الخراف الضعيفة العاجزة عن حماية نفسها! قد يحاول الراعي الأجير إيقاع الأذى بها، واللص يحاول أن يخطفها، والذئب والوحش يهاجمها ليفترسها! ولكن الراعي الصالح المستيقظ يحميها بعصاه وعكازه.
ويقول الرب: »وأقطع معهم عهد سلام، وأنزع الوحوش الرديئة من الأرض فيسكنون في البرية مطمئنين وينامون في الوعور« (حز 34: 25). لأن عصا الراعي تضرب الوحش المفترس أو الخاطف اللص. فلا تخَفْ أيها القطيع الصغير، لأن الراعي الصالح يحميك، فلا يقع بك أحد ليؤذيك، ففي عصاه وعكازه الحماية الكاملة.
(ز) وهناك استعمال للعكاز يختلف عن استعمال العصا: فللعصا قطعة حديد في نهايتها، لكن نهاية العكاز معقوفة مثل حرف اللام (ل) في لغتنا العربية، ولذلك يستخدم الراعي العكاز ليُخرج الخروف الساقط من الحفرة التي هوى إليها. وقد يمسك الراعي بساق الخروف أو برقبته ثم يسحبه إلى أعلى. ولا بد أن الخروف يتألم، ولكن ألمه المؤقت ينقذه من الهلاك المحقَّق. ترى هل ابتعدت وهويت في حفرة؟ لتكن لك الطمأنينة في محبة الراعي الذي يستخدم عصاه وعكازه لحمايتك ورعايتك ونجدتك.

ثانياً – صورة المضيف الكريم
(آيتا 5، 6)
تحدث داود النبي عن اختباره في الرب باعتباره راعيه الصالح العظيم، ثم انتقل بعد ذلك ليتحدث عنه باعتباره المضيف الكريم، الذي يرتب له المائدة.
ويشبع قلب مؤمني العهد الجديد في الجلوس حول مائدة العشاء الرباني، وهم يتناولون من الخبز ويشربون من الكأس، ويدركون أن شبع حياتهم هو في المسيح الذي قال: »أنا هو خبز الحياة. من يُقبِل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً.. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم« (يو 6: 35، 51).
وفي الحديث عن هذه الضيافة نجد:
1 – الله يرتبها بيده الكريمة: ما أكرم اليد التي تعطي في حب وسخاء ولا تعيّر! أمامه شبع سرور، وفي يمينه نِعَم إلى الأبد (مز 16: 11) فيقول المرنــم للــرب: »لأنك تتقدَّمه ببركات خير« (مز 21: 3). ويقول لإخوته المؤمنين: »ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتوكل عليه! اتَّقوا الرب يا قديسيه، لأنه ليس عوزٌ لمتَّقيه! الأشبال احتاجت وجاعت، وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير« (مز 34: 8-10).
وما أسعد المؤمن الذي يشبع قلبه من وليمة ربه. إن الله نفسه هو الداعي إلى الوليمة »كلوا أيها الأصحاب! اشربوا« (نش 5: 1) فالملك قد أدخلنا إلى بيت الوليمة، وعلمه فوقنا محبة. سنأكل من المن المخفَى الذي آكله لا يجوع، ونشرب من ينبوع ماء الحياة الذي شاربه لا يعطش.
وسنظل ضيوف ذلك الملك العظيم، حتى نصل إلى ملكوته الأبدي، كما وصل إخوة يوسف المتعَبون إلى بيته الملكي، فأطعمهم وأكرمهم، مع أنهم سبق أن ألقوه في بئر! ونحن نسير في برية هذه الحياة، نتعب فنستلقي في إرهاق. فيجيء ملاك الرب ويمسُّنا، فإذا الطعام والشراب مهيئان بيد الملك نفسه، ونسمع التشجيع: »قُم وكُل، لأن المسافة كثيرة عليك« (1مل 19: 5، 7). فهنيئاً لكل من يقبل دعوة الملك الكريم ويأكل دوماً على مائدته الروحية السماوية.
2 – الله يحمي ضيوفه: يحمي القصر الملكي كل من يلوذ به. إنه يقوم بعمل »مدن الملجأ« التي أمرت شريعة موسى القاتل سهواً، عن غير عمد، أن يحتمي فيها حتى ينظر القضاة أمره، ويعلنون براءته.
وقد حددت الشريعة ست مدن للملجأ ليهرب إليها كل من قتل نفساً سهواً (العدد 35: 15). وكان أولياء الدم يجيئون ليطلبوا دم القتيل، فإذا أثبت التحقيق أن القاتل لم يقصد أن يقتل، كان القضاة يحكمون بأن يقضي القاتل سهواً أيامه في مدينة الملجأ إلى أن يموت رئيس الكهنة الذي تم القتل في عهده. وقتها يرجع القاتل سهواً إلى بلده الأولى، ولا يتعرّض له أهل القتيل بأذى.
وعندما كان عدد الشعب قليلاً كانت مدن الملجأ الست كافية للجوء. لكن بعد أن زاد عدد السكان، اضطروا أن يستعملوا خيام الرعاة كمدن ملجأ، فكان الذي يقتل نفساً سهواً يهرب إلى خيمة الراعي، فيجد الطعام والأمان، بينما يقف أعداؤه خارج الخيمة، لا يقدرون على قتله. إنه يراهم ويرونه، ولكنه في ضيافة الراعي في أمان.
فلنأتِ تائبين، لاجئين إلى الملك العظيم والمضيف الكريم والراعي الصالح لنجد عنده الغفران والأمان والشبع والحماية. إنه الملجأ الذي جاد بالدم. فلنجتهد في مدحه بالقلب والفم. إنه المسيح ملجأنا، الذي نركض إليه ونتمنَّع (أم 18: 10). كلنا كغنم ضللنا، لكنه حمل إثم جميعنا.
كان المرنم تشارلس وسلي يتطلع من نافذة غرفته في يوم شديد البرد، تساقطت ثلوجه، وإذا عصفور »أبي الحن« يندفع إلى الداخل، إلى حضن تشارلس وسلي، وهو مبتل مقرور. فأخذه المرنم المشهور وقربه من المدفأة وجفف ريشه، حتى دفئ واستراح. وعندما هدأت العاصفة أطلقه.. ورأى وسلي نفسه في عصفور »أبي الحن« فكتب الترنيمة التي تقول:
من يســوع المعتمَــــــد لاجئاً أرجو النجـــاة
بينما الأريــاح قـــــــد غمرتني بالميــــــــاه
أعطني الستر الحصـين ريثما يأتي الحِمـــــام
واهدني المينا الأمــيــن خاتماً لي بالســــــلام
3 – الله يحتفل بانتصار ضيوفه: القول »ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقيَّ« (آية 5أ)، يرسم صورة الملك الذي انتصر في حربه مع أعدائه، فجلس يحتفل بالنصر مع كبار رجال دولته حول وليمة ملكية، وقد قيّد أعداءه الذين أسرهم وربطهم إلى أعمدة القصر الملكي. فيأكل الظافر ورجاله أمام مضايقيه المأسورين الذين لا يقوون على مضايقته.
وفي القول »ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقيَّ« معنى الانتصار بنعمة ربنا على الشيطان خصمنا الذي يجول يزأر ملتمساً من يبتلعه. وهو لا يبتلع إلا من يستمعه ويستسلم له. أما الذي يرفض إغواءه فهو المنتصر الذي يعطيه الرب امتياز الجلوس في محضره، يأكل من المائدة الروحية، وقد تقيَّد أعداؤه أمامه، عاجزين عن أن يؤذوه.
إن كنت تلوذ بالله وتطيع وصاياه، سيُشبعك من دسم نعمته، ويقيِّد عدوَّك فلا يؤذيك، ويطرح الشيطان تحت قدميك. إن كان الله معك فمن عليك؟ إن قام عليك جيش فلا تخف، بل اطمئن. إنهم لن يقدروا أن ينالوا منك، ولن يؤذوك، لأن الرب ينصرك ويحفظك، ويرتب قدامك مائدة تجاه مضايقيك العاجزين عن إيقاع الأذى بك. »لا تخف، بل تكلم ولا تسكت، لأني أنا معك، ولا يقع بك أحد ليؤذيك« (أع 18: 9، 10).
والقول الكريم: »ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقيَّ« يعني التمتع بوليمة عند الراعي المنتصر، الذي كان أحياناً يرعى أغنامه في مراعٍ خضر، ولكن في أرض بها حيات مختبئة في شقوق الصخور، حيث ترعى أغنامه العاجزة عن حماية نفسها. فكان الراعي الحكيم المختبر يغلي الماء ويصبه في شقوق الصخور فتموت الحيات، وترعى الأغنام في اطمئنان، لأن الراعي رتب لها مائدة تجاه مضايقيها! صحيح إن »من يمسكم يمس حدقة عينه« (زك 2: 8). وضمير الغائب في كلمة »عينه« قد يعود على العدو، وقد يعود على الله. فإن كان يعود على العدو يكون المعنى أن العدو الذي يمسنا يمس حدقة عين نفسه، فيؤذي نفسه، كالثور الذي يرفس مناخس. ولا بد أن يقع العدو الماكر في الحفرة التي يحفرها لمحبي الله، حتى لو كان ماكراً مكر الحيات. وإن كان ضمير الغائب في كلمة »عينه« يعود على الله، فيكون المعنى أن من يمسنا يمس حدقة عين الله، الذي في كل ضيقنا يتضايق وملاك حضرته يخلّصنا (إش 63: 9). وهيهات للعدو الأحمق أن يحقق مقاصده!
ما أكرم رحمة الله! إنه يرتب لنا المائدة تجاه مضايقينا، ويعجزهم عن أن يضايقونا. وعندما يقصدون بنا الشر يحوِّل شرَّهم إلى خير.
4 – الله يكرم ضيوفه: »مسحت بالدهن رأسي. كأسي ريّا« (آية 5ب). فهذا المضيف الكريم لا يطعمنا فقط، بل يمسح رؤوسنا بالدهن، ويملأ كؤوسنا حتى تفيض!
(أ) يكرمه بالعطور: كان المضيف الغني الكريم عندما يريد أن يكرم ضيفاً عزيزاً، يصبُّ دهوناً عطرية على رأسه، فتفيح الرائحة الذكية على الضيف وعلى جميع الحاضرين. وفي هذا قال المرنم للملك: »أحببتَ البر وأبغضتَ الإثم. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج« (مز 45: 7). والمضيف يريد بذلك أن يقول: إنك ضيف شرف. أنت معزّز محبوب مكرَم. وياله من شرف يمنحه الله للمؤمن الذي يحبه!
والمسح بالدهن إشارة إلى مسحة الروح القدس، كما يقول الرسول يوحنا: »أما أنتم فلكم مسحة من القدوس« (1يو 2: 20). وشرط الحصول على هذه المسحة هو التسليم الكامل لله، فالرب يعطي الروح القدس للذين يطيعونه (أع 5: 32). ونحن نحتاج إلى مسحة من الروح القدس في مطلع كل يوم جديد، لأننا لا نقدر أن نقوم بواجباتنا الروحية بغير ذلك. فلنلجأ إلى الله في مطلع كل يوم ليمسح عقولنا وقلوبنا بمسحة الروح القدس لنتمكن من القيام بخدمته كما يجب.
وكما كان المسح بالدهن العطر يجهز الضيف المكرم للطعام، هكذا يجهزنا روح الله لأن نتكئ في لوليمة السماوية الأبدية عندما يجيء المسيح ثانية للذين يحبونه.
(ب) يملأ كأسه: وكان المضيف يكرم الضيف العزيز بأن يأمر بملء كأس شرابه كلما فرغ، ليظل كأس الضيف ملآن دائماً. وهذا يعني أن الله يعطي الاحتياج وما هو أكثر من ذلك. وفي هذا نذكر القول الرسولي عن الله »الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء!« (رو 8: 32). والكأس الممتلئ الفائض هو نتيجة طبيعية لامتلائنا من روح الله، فعندما حلّ الروح القدس على التلاميذ فاض كأس فرحهم حتى ظن الحاضرون أنهم سكارى، وما هم سكارى بخمر العالم، إنما لأنهم امتلأوا بروح الله، ففاض كأس فرحهم على سامعيهم، فآمن في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس، ووجدوا خلاصهم الأبدي في المسيح.
5 – يكلف الله ملاكين ليحرسا ضيفه: »إنما خيرٌ ورحمةٌ يتبعانني كل أيام حياتي« (آية 6أ). فالذي يجلس على مائدة الملك يتبعه ملاكان حارسان هما الخير والرحمة. وكان اليهود يعتقدون أن المؤمن الحقيقي يسير في صحبة هذين الملاكين الحارسين. وليس هناك خير ولا رحمة أعظم من صحبتنا للراعي الصالح، وهو يهدينا في سبل البر ويسير معنا في وادي ظل الموت، كل أيام حياتنا.
ويبدأ المرنم هذه العبارة بكلمة »إنما« وهي تفيد التأكيد. فلا شك أن الخير يتبع ضيف الملك، كما أن الرحمة تدركه. وما أعظم الفرق بين حالة ضيف الملك وحالة عدوّه، فالأشرار يطاردهم ملاك الرب (مز 35: 6) ورجل الظلم يصيده الشر إلى هلاكه (مز 140: 11).
6 – يقيم الضيف في بيت الله: »وأسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام« (آية 6ب). يرحب المضيف الكريم بضيفه الذي أكل على مائدته ليقيم في قصره دائماً. ولا شك أن المعنى المقصود معنى روحي، فلا إنسان يسكن في بيت العبادة كل أيام حياته، ولكن المعنى هو أن يصبح قلب الإنسان هيكلاً للرب، فيكون كنيسة حية متحركة، يرى الناس المسيح فيه، ويسمعون كلمة الله منه، ويكون الشغل الشاغل له هو عبادة الرب، فيختبر اختبار موسى الذي كان وجهه يلمع لأنه مكث طويلاً في حضرة الرب (خر 34: 30، 31). وعندها يقول لله: »ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون. يَروَوْن من دسم بيتك، ومن نهر نِعمك تسقيهم« (مز 36: 7، 8). وقد قال المسيح: »العبد لا يبقى في البيت إلى الأبد. أما الابن فيبقى إلى الأبد« (يو 8: 35).
وهناك معنى روحي آخر للسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام، وهو الأبدية السعيدة التي للمؤمن في محضر الله. لقد نقلنا المرنم في هذه الآية الأخيرة من العالم الحاضر إلى العالم الآتي، فنسمع القول: »أنا أمضي لأُعدَّ لكم مكاناً.. حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً.. أنا هو الطريق والحق والحياة« (يو 14: 2، 3، 6). »وهكذا نكون كل حين مع الرب« (1تس 4: 17). وهذا ما يقوله داود: »جسدي أيضاً يسكن مطمئناً، لأنك لن تترك نفسي في الهاوية.. تعرّفني سبيل الحياة. أمامك شبع سرور. في يمينك نِعَمٌ إلى الأبد« (مز 16: 9-11).
ستتمتَّع بكل بركات مزمور الراعي إن قلتَ عن اختبار: »الرب راعيَّ«. فما نوع علاقتك به؟
اَلْمَزْمُورُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ
لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ
1لِلرَّبِّ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا، الْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ السَّاكِنِينَ فِيهَا، 2لأَنَّهُ عَلَى الْبِحَارِ أَسَّسَهَا، وَعَلَى الأَنْهَارِ ثَبَّتَهَا.
3مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ، وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟ 4اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ، وَالنَّقِيُّ الْقَلْبِ، الَّذِي لَمْ يَحْمِلْ نَفْسَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَلاَ حَلَفَ كَذِباً. 5يَحْمِلُ بَرَكَةً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَبِرّاً مِنْ إِلَهِ خَلاَصِهِ. 6هَذَا هُوَ الْجِيلُ الطَّالِبُهُ، الْمُلْتَمِسُونَ وَجْهَكَ يَا يَعْقُوبُ. سِلاَهْ.
7اِرْفَعْنَ أَيَّتُهَا الأَرْتَاجُ رُؤُوسَكُنَّ، وَارْتَفِعْنَ أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّاتُ، فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْدِ. 8مَنْ هُوَ هَذَا مَلِكُ الْمَجْدِ؟ الرَّبُّ الْقَدِيرُ الْجَبَّارُ الرَّبُّ الْجَبَّارُ فِي الْقِتَالِ! 9ارْفَعْنَ أَيَّتُهَا الأَرْتَاجُ رُؤُوسَكُنَّ وَارْفَعْنَهَا أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّاتُ فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْدِ؟ 10مَنْ هُوَ هَذَا مَلِكُ الْمَجْدِ! رَبُّ الْجُنُودِ هُوَ مَلِكُ الْمَجْدِ. سِلاَهْ
مجيء ملك المجد
استولى الملك داود على حصن صهيون بعد أن هزم اليبوسيين، لا بقوته الذاتية، لكن بنصر من عند الله، فأُقيمت عليه مدينة أورشليم. وأُطلق عليه اسم »مدينة رب الجنود« (إش 8: 18 و18: 7). وكان يجب أن الله، المالك الحقيقي للحصن، يدخل مدينته مرموزاً إليه بتابوت العهد، فقرَّر داود أن ينقل التابوت إلى العاصمة في خيمة جهَّزها له، وكان ذلك أعظم أيام حياة داود. وفي هذه المناسبة السعيدة كتب داود هذا المزمور.
وتابوت العهد صندوق من خشب السنط المغشَّى بالذهب، وهو من أهم مقدسات الهيكل اليهودي، لأنه كان يحتوي على لوحي الحجر المكتوب عليهما الوصايا العشر (خر 25: 16)، وقسط ذهبي فيه بعض المنّ الذي كان بنو إسرائيل يأكلونه فــي صحــراء سينــاء مدة أربعين سنة (عب 9: 4)، كما كان به عصا هارون اليابسة التي اخضرَّت وأفرخت (عد 17: 10). وكان التابوت رمزاً لحضور الله في هيكله (خر 40: 34)، ولإعلاناته لشعبه (خر 25: 22)، ولعنايته بهم (عد 10: 11، 33). كما كان رمزاً للكفارة، ففي عيد الكفارة كان هارون ينضح على غطاء تابوت العهد سبع مرات من الدم بإصبعه، أولاً عن نفسه، ثم عن الشعب ليتطهَّروا من جميع خطاياهم (لا 16: 2-19).
وكان كهنة بني إسرائيل يحملون تابوت العهد أثناء سفرهم في صحراء سيناء. ولما دخلوا أرض الميعاد استقر التابوت في الجلجال (يش 4: 19) بعدها نقلوه إلى موقع متوسط في شيلوه (يش 18: 1)، ثم إلى بيت إيل (قض 20: 18). ولما ارتدّ بنو إسرائيل عن عبادة الرب هزمهم الفلسطينيون، وأخذوا منهم تابوت العهد إلى عاصمتهم أشدود ثم إلى عقرون مدة سبعة أشهر. ولما أوقع الله بهم الضربات أعادوا التابوت إلى قرية بيتشمس على الحدود الشمالية الغربية لأرض سبط يهوذا (1صم 6). ثم نُقل التابوت إلى بيت أبيناداب في قرية يعاريم حيث بقي عشرون سنة (1صم 7). وفي سنة 1003 ق م استولى داود على حصن صهيون من اليبوسيين، فأراد أن ينقل التابوت إليه على عربة تجرها الثيران، مع أن الشريعة نصّت أن يحمل الكهنة التابوت على أكتافهم. ولعل داود أراد أن ينقل التابوت بطريقة حديثة، يُدخل فيها تطوُّرات العصر، وهو يظن أنه يكرم الله. لكن الله وجَّهه الوجهة السليمة، وإن كان ثمن ذلك التوجيه كبيراً، فقد مات »عُزّة« بن أبيناداب وهو يحاول أن يسند التابوت على العربة لما فزعت الثيران (2صم 6). فترك داود التابوت في بيت عوبيد أدوم، وهو قريب من مكان الحادثة. ثم عاد بعد ثلاثة شهور لينقله إلى حصن صهيون بالطريقة الصحيحة. ومن هذا نتعلم أن الله يريدنا أن نصغي إلى تعليماته، ولا نتبع أهواءنا الشخصية، وأن نسيّر حياتنا ونضبطها بالطريقة التي يريدها هو (2صم 6 و1أخ 15).
كان تابوت العهد رمزاً لوجود الرب في وسط شعبه، فعند دخول التابوت مدينة أورشليم هتف الكل بابتهاج للرب مالك الأرض وما عليها. فلترتفع الأبواب ليدخل »ملك المجد« وليكن العابدون على مستوى العبادة.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الله المالك (آيتا 1، 2)
ثانياً – الله المعبود (آيات 3-6)
ثالثاً – الله المنتصر (آيات 7-10)
أولاً – الله المالك
(آيتا 1، 2)
1 – ملكية الله شاملة: »للرب الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها« (آية 1) .هو مالك الأرض وما عليها من بشر وطير وحيوان ونبات. هي له بحكم أنه خلقها، فهو الذي »كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان« (يو 1: 3). وهو الذي يضمن بقاء العالم، فهو »حـامل كل الأشياء بكلمة قدرته« (عب 1: 3) و»منه وبه وله كل الأشياء« (رو 11: 36). لذلك قال: »فإن لي كل الأرض« (خر 19: 5) وقال موسى للشعب: »للرب إلهك السماوات وسماء السماوات والأرض وكل مـا فيهـا« (تث 10: 14). فالرب يملكنا وكل ما عندنا، ونحن مجرد وكلاء على ما أعطانا من بنين ومال ووقت وصحة وذكاء ودرجات علمية. ولا يقدر أحدٌ أن يقول عن شيء إنه ملكه، لأنه ملك الله.
2 – ملكية الله قانونية: »لأنه على البحار أسّسها وعلى الأنهار ثبّتها« (آية 2).
(أ) الله هو الخالق: »على البحار أسَّسها«. »قال الله: لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة. وكان كذلك. ودعا الله اليابسة أرضاً، ومجتمع المياه دعاه بحاراً« (تك 1: 9، 10). وقال المرنم إن الله هو »الباسط الأرض على المياه، لأن إلى الأبد رحمته« (مز 136: 6) ويقول إمام الحكماء عن الرب: »وضع للبحر حدّه، فلا تتعدى المياه تُخمه« (أم 8: 29).
(ب) الله هو الضابط والضامن: »على الأنهار ثبّتها«. خلقها ويضمن استمرارها. »لأنك أنت خلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنة وخُلقت« (رؤ 4: 11). »به نحيا ونتحرك ونوجد« (أع 17: 28).
ثانياً – الله المعبود
(آيات 3-6)
هذا الإله العظيم، الخالق، الضابط الكل، جديرٌ بعبادتنا. وعلى العابدين أن يكونوا على مستوى العبادة، فعبادة الرب العظيم تطالبنا بالتواضع، وعبادة الإله القدوس تستلزم التقوى والقداسة. وفي هذه الآيات الأربع نجد أربعة أوصاف للعبادة:
1 – العبادة امتياز: »من يصعد إلى جبل الرب، ومن يقوم في موضع قدسه؟« (آية 3). العبادة امتياز لأنها »صعود« وارتفاع إلى جبل الرب. وهي »قيام« في حضرة الله في موضع قدسه. والصعود صعب لأنه تسلُّق يحتاج إلى مجهود وإرادة. والقيام يحتاج إلى صحو وانتباه وتصميم وعزم. أما الهبوط والجلوس فسهلان! قال المسيح: »واسعٌ الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، قليلون هم الذين يجدونه« (مت 7: 13، 14).
تتطلب حياتنا الروحية ارتفاعاً فوق مستوى العالم. عندما صلى موسى لينصر الله شعبه على عدوه »عماليق« كان يجب أن يرفع يديه إلى الله باستمرار، لأنه عندما كان يخفض يديه كان العدو يغلب! ولما أصابه الإرهاق جاءه هارون وحور ودعما يديه، الواحد من هنا والآخر من هناك، فظلت يداه مرفوعتين بثبات إلى غروب الشمس وانتصر قومه (خر 17: 11، 12).
2 – العبادة مسؤولية: »الطاهر اليدين، والنقي القلـب، الذي لم يحمـل نفسـه إلى الباطـل ولا حلـف كذباً« (آية 4). لقد خاف داود لما رأى الله يقتل »عُزة« لأنه تجرأ ولمس تابوت العهد بيديه، الأمر الذي كانت الشريعة تحرمه. وأدرك داود ضرورة الطاعة والتوافق مع المشيئة الإلهية. فالعبادة امتياز، لكنها أيضاً مسؤولية تتطلب منا ثلاثة أشياء:
(ا) طهارة السلوك الظاهر: »الطاهر اليدين« (آية 4أ) الذي لا يأخذ ما ليس حقه، ولا يرتكب عنفاً، فيقول: »يكافئني الرب حسب بري. حسب طهارة يديَّ يردُّ لي« (مز 18: 20).
(ب) نقاوة القلب من الداخل: »النقي القلب« (آية 4ب) صاحب النوايا الحسنة، الذي ينطبق عليه وصف المسيح: »طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله« (مت 5: 8).
(ج) طهارة الفكر والكلام: »الذي لم يحمل نفسه إلى الباطل ولا حلف كذباً« (آية 4ج). هو الأمين للرب، الذي يرفع يديه ويوجّه فكره باستقامة للسماء، تاركاً الأوثان الباطلة، وطالباً أولاً ملكوت الله وبره، وتابعاً كل ما يُرضي الله. فإذا حلف أو وعَد يَصْدُق في ما يَعِد به، لأن الذي يقضي عمره في الكذب لا يستطيع أن يتمتع بالشركة مع الله الحق. وقد وصف إمام الصابرين أيوب سلوكه الصالح بقوله: »إن كنتُ قد سلكتُ مع الكذب، أو أسرعَت رجلي إلى الغش، ليَزِنِّي في ميزان الحق فيعرف الله كمالي. إن حادت خطواتي عن الطريق وذهب قلبي وراء عينيَّ أو لصق عيبٌ بِكفيّ، أزرع وغيري يأكل« (أي 31: 5-7).
3 – العبادة بركة: »يحمل بركة من عند الرب وبراً من إله خلاصه« (آية 5). يبارك الرب العابد المخلص كما بارك بيت عوبيد أدوم لما بقي فيه تابوت عهد الرب ثلاثة أشهر، حتى سمع داود بعظمة تلك البركة. وما أجمل قول العذراء القديسة مريم: »أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين« (لو 1: 53). والعابد المخلص ينال براً، ويتحقق معه ما قيل في إبراهيم خليل الله إنه آمن بالرب فحسبه له براً (تك 15: 6) ويصدق فيه قول المسيح: »طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يُشبعون« (مت 5: 6).
4 – العبادة مستمرة: »هذا هو الجيل الطَّالِبُه، الملتمسون وجهك يا يعقوب« (آية 6). الذي يطلبه باستمرار. والذي يطلبه هو الذي يقول: »فرحتُ بالقائلين لي: إلى بيت الرب نذهب« (مز 122: 1). ويسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام (مز 23: 6). والذي يلتمس وجهه هو الذي يطلبه بكل قلبه، سواء كان في البيت أو محل العمل، أو مخدع الصلاة. هذا الطالب الملتمس يشبه »يعقوب« أبا الأسباط كما يجب أن يكون، وهو »إسرائيل الله« (غل 6: 16).
فلنطلب الرب ونلتمس وجهه دوماً في شوق. قد يقضي عالِمٌ حياته يطوِّر آلة معينة ليقدم خدمة أفضل للبشر. فهل يكون المؤمن أقل منه غيرةً؟ على المؤمن أن يقضي حياته في تنمية وتعميق حياته الروحية بأن يطلب الرب ويلتمس وجهه، فتكون حياته مباركة له وسبب بركة لغيره، كما قال الرب لإبراهيم: »أباركك.. وتكون بركة.. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض« (تك 12: 2، 3).
ثالثاً – الله المنتصر
(آيات 7-10)
1 – يدخل الملك وسط الترحيب: »ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن، وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد« (آية 7). وصل التابوت أبواب أورشليم، فقال المرنم: »ارتفعن أيتها الأبواب الدهريات«. والأرتاج هي بوابات المدينة التي يجب أن ترتفع لأنها أقل ارتفاعاً من أن يدخل منها ملك المجد. كما يجب أن تنفتح على آخرها لتتسع للمجد الإلهي. ولتوقف كل مقاومة تعطل دخول ملك المجد الذي يستحق الترحيب الكامل. هذه الأبواب »دهريات« قديمة، ولكن لما تنفتح لملك المجد يمنحها بركات جديدة.
وهذه الآية نبوة عن دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم يوم الأحد السابق للقيامة، عندما هتفت الجماهير له: »أوصنا (يا رب خلِّصنا). مبارك الآتي باسم الرب. مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب. أوصنا في الأعالي« (مر 11: 9، 10).
واليوم يجب أن نرحب بملك المجد ليدخل ويملك على حياتنا، فيكون كل ما عندنا ملكاً له وتحت أمره. ليقُل كل واحد منا لنفسه: يا باب قلبي، ارتفع واتَّسع ليدخل ملك المجد، فلن أترك اليوم شيئاً يعطل دخول المسيح إلى قلبي.
2 – يدخل الملك منتصراً: »من هو هذا ملك المجد؟ الرب القدير الجبار. الرب الجبار في القتال« (آية 8). له رنّم شعبه المفدي في نشيد يقول مطلعه: »الرب قوَّتي ونشيدي، وقد صار خلاصي. هذا إلهي فأمجِّده، إله أبي فأرفّعه« وتقول خاتمته: »الرب يملك إلى الدهر والأبد« (خر 15: 2، 18).
رأينا في مزمور 22 نبوات عن المسيح المصلوب المُقام قيلت قبل الصليب بألف سنة، وقد تحققت كلها. انتصر المسيح على الموت وترك قبره فارغاً. كل الأنبياء ذاقوا الموت، وسيقومون في القيامة في اليوم الأخير ليقفوا أمام المسيح القاضي العادل. لكن المسيح هو الوحيد الذي قام من قبره منتصراً، وترك قبره فارغاً، وسيعود إلى أرضنا ليتولى الحكم. إنه »الرب القدير الجبار. الرب الجبار في القتال«. قتل الموت بقيامته، وهزم إبليس وأشهره جهاراً (كو 2: 15).
3 – يدخل الملك ممجداً: يعود المرنم يكرر دعوته وسؤاله: »ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن، وارفعنها أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد! من هو هذا ملك المجد؟ رب الجنود هو ملك المجد« (آيتا 9، 10). ليس هو الملك المنتصر فحسب، لكنه »رب الجنود« الذي قال عنه داود لجليات الجبار: »أنت تأتي إليَّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود« (1صم 17: 45). وجنوده هم كل الخلائق (تك 2: 1). وهم شعبه الذين اختارهم (خر 7: 4). وهم الشمس والقمر والنجوم (تث 4: 19 و17: 3). وهم الملائكة (لو 2: 13). إنه رب المجد، صاحب كل سلطان في السماء والأرض.
قد يتساءل إنسان: كيف أدخل السماء وأمثُل في حضرة الله ويداي ملوَّثتان بالخطية؟ والإجابة: إنك تضع ثقتك في المسيح صاحب اليدين الطاهرتين المثقوبتين، الذي يعطيك قلباً جديداً إن كنت تضع ثقتك فيه، فتمثُل في حضرة الله بفرح، لأنه يستر عيوبك ويعطيك القبول أمام الله بفضل فدائه.
فلتتسع قلوبنا لدخول رب الجنود، ولنرتل ترتيلة فرح عندما يدخل حياتنا ويمتلكها!
اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ
لِدَاوُدَ
1إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي. 2يَا إِلَهِي، عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ فَلاَ تَدَعْنِي أَخْزَى. لاَ تَشْمَتْ بِي أَعْدَائِي. 3أَيْضاً كُلُّ مُنْتَظِرِيكَ لاَ يَخْزَوْا. لِيَخْزَ الْغَادِرُونَ بِلاَ سَبَبٍ. 4طُرُقَكَ يَا رَبُّ عَرِّفْنِي. سُبُلَكَ عَلِّمْنِي. 5دَرِّبْنِي فِي حَقِّكَ وَعَلِّمْنِي، لأَنَّكَ أَنْتَ إِلَهُ خَلاَصِي. إِيَّاكَ انْتَظَرْتُ الْيَوْمَ كُلَّهُ. 6اذْكُرْ مَرَاحِمَكَ يَا رَبُّ وَإِحْسَانَاتِكَ، لأَنَّهَا مُنْذُ الأَزَلِ هِيَ. 7لاَ تَذْكُرْ خَطَايَا صِبَايَ وَلاَ مَعَاصِيَّ. كَرَحْمَتِكَ اذْكُرْنِي أَنْتَ، مِنْ أَجْلِ جُودِكَ يَا رَبُّ.
8اَلرَّبُّ صَالِحٌ وَمُسْتَقِيمٌ، لِذَلِكَ يُعَلِّمُ الْخُطَاةَ الطَّرِيقَ. 9يُدَرِّبُ الْوُدَعَاءَ فِي الْحَقِّ، وَيُعَلِّمُ الْوُدَعَاءَ طُرُقَهُ. 10كُلُّ سُبُلِ الرَّبِّ رَحْمَةٌ وَحَقٌّ لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَشَهَادَاتِهِ. 11مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ يَا رَبُّ اغْفِرْ إِثْمِي لأَنَّهُ عَظِيمٌ. 12مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الْخَائِفُ الرَّبَّ؟ يُعَلِّمُهُ طَرِيقاً يَخْتَارُهُ. 13نَفْسُهُ فِي الْخَيْرِ تَبِيتُ، وَنَسْلُهُ يَرِثُ الأَرْضَ. 14سِرُّ الرَّبِّ لِخَائِفِيهِ وَعَهْدُهُ لِتَعْلِيمِهِمْ. 15عَيْنَايَ دَائِماً إِلَى الرَّبِّ لأَنَّهُ هُوَ يُخْرِجُ رِجْلَيَّ مِنَ الشَّبَكَةِ.
16اِلْتَفِتْ إِلَيَّ وَارْحَمْنِي، لأَنِّي وَحْدٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا. 17اُفْرُجْ ضِيقَاتِ قَلْبِي. مِنْ شَدَائِدِي أَخْرِجْنِي. 18انْظُرْ إِلَى ذُلِّي وَتَعَبِي، وَاغْفِرْ جَمِيعَ خَطَايَايَ. 19انْظُرْ إِلَى أَعْدَائِي لأَنَّهُمْ قَدْ كَثُرُوا، وَبُغْضاً ظُلْماً أَبْغَضُونِي. 20احْفَظْ نَفْسِي وَأَنْقِذْنِي. لاَ أُخْزَى لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. 21يَحْفَظُنِي الْكَمَالُ وَالاِسْتِقَامَةُ، لأَنِّي انْتَظَرْتُكَ. 22يَا اللهُ افْدِ إِسْرَائِيلَ مِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ.

علّمني ودرّبني
هذا المزمور يطلب فيه المرنم الغفران والإرشاد، يبدأه ويختمه بالصلاة، لأنه متواضع يعرف أنه أخطأ، ونتيجة لذلك مرّ بظروفٍ قاسية، وتحيَّر ولم يعرف كيف يتصرَّف، فلجأ إلى ربّه يطلب المغفرة والهداية اليومية، ويسأل الله أن يعرّفه الحق ويعلّمه ويدرّبه فيه.
وكم نشكر الله لأنه في محبته يغفر أخطاءنا، ويهدينا بكلمته وبروحه، لأنه أبونا الذي يهتم بنا، وقد تنازل وجعلنا شعبه الذي ينتمي إليه. ومهما كانت أخطاؤنا فإنه يغفرها حالما نعترف بها. فإن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً، لن يقدر أن ينكر نفسه ولا محبته لنا (2تي 2: 13).
وهذا المزمور أبجدي، تبدأ كل آية منه بأحد حروف الأبجدية العبرية.
في هذا المزمور نجد‎:
أولاً – موضوعات للصلاة (آيات 1-7)
ثانياً – الله يوضّح طرقه (آيات 8-15)
ثالثاً – الله ينجي من الضيق (آيات 16-22)
أولاً – موضوعات للصلاة
(آيات 1-7)
1 – الصلاة هي رفع النفس إلى الله: »إليك يا رب أرفع نفسي« (آية 1). الصلاة ارتفاعٌ بالنفس وسموٌّ بها، فالمصلي الذي يركع أمام الله في تواضع حقيقي، هو الذي يرفعه الله. وكلما تواضعنا في حضرته يرفعنا في حينه (1بط 5: 6). إن كانت خطايانا أو صعوبات حياتنا قد نكست رؤوسنا، فلنلجأ إلى الله مصلّين ليرفعنا، مطيعين النصيحة: »إن أحسنت أفلا رفعٌ؟« (تك 4: 7). فلا تسمح للظروف أن تُسقِط وجهك غيظاً أو يأساً، بل »ارفعوا عيونكم إلى العلاء« (إش 40: 26 و51: 6).
قال الرسول بولس لما ظلمه اليهود: »إلى قيصر أنا رافعٌ دعواي« (أع 25: 11) فرفع قضيته إلى قاضٍ أكبر طلباً للعدالة. وهكذا يجب أن نرفع دعوانا إلى الله، لأننا كلما صلينا ارتفعنا فوق الصعاب. ربما نشكو آلامنا لأصحابنا، أو نتذمر بسببها داخل نفوسنا، لكننا سرعان ما نكتشف أن عقولنا قاصرة، وأن أصدقاءنا عاجزون. فلنرفع أنفسنا إلى الرب، ولنوجّهها الوُجهة السليمة‎.
عندما وقف المسيح أمام قبر لعازر، كان جسد لعازر قد تعفَّن، وكانت أختاه تبكيان، واليهود يراقبون المسيح ليروا ما سيفعله. ولكن المسيح حوَّل النظر عن هذا كله، ورفع عينيه إلى السماوات وقال: »أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمتُ أنك في كل حين تسمع لي« (يو 11: 41، 42). وهكذا يجب أن تكون الصلاة! »لنرفع قلوبنا وأيدينا إلى الله في السماوات« (مرا 3: 41).
2 – دعاءٌ لكيلا يشمت العدو: »يا إلهي عليك توكلت، فلا تدعني أخزى. لا تَشْمتْ بي أعدائي. أيضاً كل منتظريك لا يَخْزَوا. ليخْزَ الغادرون بلا سبب« (آيتا 2، 3). لا يرى العدو الغادر إلا المنظور، فيصيبه الخزي والخجل، لأنه يبني طمأنينته على الماديات المنظورة فقط. أما المؤمن الصادق فإنه لا يخزى أبداً لأنه يؤمن بالله الذي يُحيي الموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة، فيتقوَّى معطياً مجداً لله، متيقّناً أن ما وعد الله به هو قادر أن يفعله (رو 4: 17-20).
ويدرك المرنم أن لأفضل الناس أعداءً يشمتون بهم في مصائبهم، ولكنه يدرك أيضاً ضرورة الصلاة لأجلهم. كل مؤمن مُصاب (يو 16: 33) لأن الذي يحبه الرب يؤدّبه (أم 3: 12 وعب 12: 6)، ولأن خِفّة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا ثقل مجد أبدياً (2كو 4: 17)، ولأن رئيس هذا العالم يقاوم المؤمنين (يو 14: 30)، ولأن جسد المؤمن يشتهي ضد روحه (غل 5: 17). وكلما رأى العدو الغادر مصائب المؤمن شمت به، سواء كانت المصائب بسبب عيبٍ في المؤمن، أو لغير ذلك. ويطلب المرنم من الله أن يجنّبه هذه الشماتة، كما قال داود في نشيد الرثاء: »الظبي ( شاول) يا إسرائيل مقتولٌ على شوامخك. كيف سقط الجبابرة؟ لا تخبروا في جَتّ! (عاصمة فلسطين). لا تبشّروا في أسواق أشقلون! (عاصمة أخرى)، لئلا تفرح بنات الفلسطينيين، لئلا تشمت بنات الغُلف« (2صم 1: 19، 20).
3 – دعاء لطلب الإرشاد: »طرقك يا رب عرّفني، سبلك علّمني، درّبني في حقك وعلمني، لأنك أنت إله خلاصي. إياك انتظرت اليوم كله« (آيتا 4، 5). وفي هاتين الآيتين أربع طلبات:
(أ) »عرّفني«: أعطني المعلومة، والمعرفة العقلية. قُل لي شيئاً أجهله. أعلن لي إرادتك. وهذه عرفة عامة للجميع، كقولك: »الله محبة«.
(ب) »علّمني«: والتعلُّم خطوة أعمق من المعرفة. هي تخصيص المعرفة لنفسك، وهي الحكمة التي تطبّق في الحياة اليومية ما عرفتَه من الله وعنه، فيصبح واقعاً مُعاشاً كل يوم، كقولك: »الذي أحبّني« والاطمئنان إلى هذه المحبة.
(ج) »درّبني«: والتدريب خطوة أبعد من التعلّم. إنه ممارسة المعرفة التي تعلمناها، والوقوع في أخطاء تطبيقها، ثم تعلُّمنا من تلك الأخطاء. كمعرفتك أن الله محبة، ثم إدراكك أن الله يحبك، واطمئنانك لحب الله لك. ولكنك تقع في خطية الشك في هذه المحبة عندما تجوز في تجربة صعبة. ويطلب المرنم من الله أن يدربه حتى يقول: »إذا سقطتُ أقوم. إذا جلستُ في الظلمة فالرب نورٌ لي« (مي 7:8). فيتعلم ويتدرب بالتجربة والخطأ.
(د) »علّمني«: بعد خطوة التدريب بالتجربة والخطأ، يتعلم الإنسان كيف يكون أقوى إيماناً وأكثر طاعةً وأفضل استعداداً لخدمة الله، لأنه يكون قد تعلم بالمعرفة والتدريب ما ينفعه في مستقبله، فلا يسقط في ما سبق له أن سقط فيه، فيتحقق معه القول: »أدرّب نفسي ليكون لي دائماً ضمير بلا عثرة من نحو الله والناس« (أع 24: 16). ولا يعود يحتاج للتوبيخ الرسولي القائل: »لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلّمين لسبب طول الزمان (الذي مرّ عليكم منذ تعلَّمتم)، تحتاجون أن يعلّمكم أحدٌ ما هي أركان بداءة أقوال الله (أبجدية الإيمان المسيحي وبداياته الأولية).. أما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرُّن قد صارت لهم الحواس مدرّبة على التمييز بين الخير والشر« (عب 5: 12، 14).
وتحتاج عملية التعلُّم إلى صبر، فنتعلم ونخطئ، فنتعلم من خطئنا دون يأس، مردّدين مع المرنم: »إياك انتظرتُ اليوم كله« (آية 5ب). فإن علَّمك الله وأخطأت، فلا تيأس، بل انتظره ليعلّمك من جديد. أشكُرْه لأنه لا يُخزي منتظريه، وهو لا يطرد تلاميذه بسبب جهالتهم أو ضعف ذاكرتهم أو بطء إدراكهم أو غلاظة قلوبهم أو تقاعسهم عن التنفيذ، لكنه يعلّم ويدرّب مرة بعد مرة.
وانتظار الرب يعني توقُّع نوال طلباتنا منه، كما كان مرضى بركة بيت حسدا يتوقعون تحريك الماء في صبر وثقة، قائلين: »إنما لله انتظري يا نفسي لأن من قِبَله رجائي« (مز 62: 5).
4 – دعاء لطلب الرحمة: »اذكر مراحمك يا رب وإحساناتك لأنها منذ الأزل هي. لا تذكر خطايا صباي ولا معاصيَّ. كرحمتك اذكرني أنت من أجل جودك يا رب« (آيتا 6، 7). يظن المؤمن في وقت الضيق أن الله نسيه، فيلجأ إلى الصلاة ليذكِّر الله! وهذا يعني أن الشك قد بدأ يسيطر على مشاعره، ويهز ثقته، فيطلب رحمة الله التي لا تتغيّر. فهي منذ الأزل، وتدوم إلى الأبد (إر 2: 2 و31: 3). يطلبها لأنه خاطئ لا يصيب الهدف، ولأنه عاصٍ ثائر على قوانين الله. ولكنه يعلم أن المراحم الإلهية الغنية تغفر له ما سبق أن ارتكبه، وتطرح كل سلوك سيء في أعماق البحر »يعود يرحمنا، يدوس آثامنا، وتُطرح في أعماق البحر جميع خطاياهم« (مي 7: 19). »فإنك طرحت وراء ظهرك كل خطاياي« (إش 38: 17) فتسمعه يؤكد لك: »لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد« (إر 31: 34).
لقد رفع داود صلاة طلب الرحمة، ومن بعده صلَّى اللص المصلوب التائب: »اذكرني يا رب متى جئتَ في ملكوتك« (لو 23: 42). ونحن لا نجرؤ على طلب الرحمة إلا اعتماداً على محبة الله الواضحة في الصليب.
ثانياً – الله يوضِّح طرقه
(آيات 8-15)
1 – بسبب صلاح الله: »الرب صالحٌ ومستقيم، لذلك يعلّم الخطاة الطريق. يدرّب الودعاء في الحق، ويعلّم الودعاء طرقه« (آيتا 8، 9). لا يستحق الخاطئ شيئاً صالحاً، لكن بسبب صلاح الله ونعمته يتنازل ليعلّم الخاطئ سبُل البر بالرغم من أنه لم يُصب الهدف. فإن كان الخاطئ التائب وديعاً بمعنى أنه متواضعٌ، راغبٌ في المعرفة، ويملك قابلية التعلُّم، فإن الله يدربه، ويزيد تعليمه، بالمعرفة العقلية والتدريب العملي، فيعرف كيف يعبد الله بالروح والحق، وكيف يحيا الحياة التي تُرضي الله وتمجده، ويفهم إرادة الله الصالحة. فإن كنت في حيرة لا تعرف المشيئة الإلهية في أمرٍ ما، فلتثق أن الله يريد أن يعلّمها لك. إن رغبتك في معرفة المشيئة الإلهية ناشئة عن عمل الروح القدس فيك، وعن تجاوبك مع عمل الروح القدس في داخلك، وعلى ذلك فلا بد أن الله سيعطيك هذه المعرفة.
2 – بسبب أمانة الله: »كل سبل الرب رحمة وحق لحافظي عهده وشهاداته« (آية 10). تبرهن كل معاملات الله أنه أمين لمواعيده، وأن مقاصده عامرةٌ بالمحبة لمن يثبتون في عهده (تك 17: 2-4) ويطيعونه (خر 19: 5). وكان تابوت العهد تجسيداً لعهد الله مع شعبه (عد 10: 33). وكان ناموس موسى »على لوحي العهد« دستور العهد القديم (تث 9: 9). و»الناموس بموسى أُعطى، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا« (يو 1: 17). والله يغمرنا برحمته فيغفر لنا، ويغمرنا بحقّه فيقوّمنا ويهدينا. بالرحمة »يردّ نفسي« وبالحق »يهديني إلى سبل البر« (مز 23: 3). رحمته تغفر وحقه يرشد.
3 – بسبب ضعف الإنسان: »من أجل اسمك يا رب اغفر إثمي لأنه عظيم« (آية 11). عندما فكر المرنم في صلاح الله وأمانته، اكتشف تقصيره، فطلب المغفرة، محتمياً في إعلان الله عن ذاته أنه إله الرحمة، كما سبق موسى وطلب: »اغفِر إثمنا وخطيتنا، واتَّخِذْنا مُلكاً« (خر 34: 9). ولا يمكن أن يرفض الرب نداء طالب الغفران، فهو الغفور للخاطئ المعترف.
4 – بسبب شوق الإنسان لمعرفة الله: »من هو الإنسان الخائف الرب؟ يعلّمه طريقاً يختاره. نفسه في الخير تبيت ونسله يرث الأرض. سِرُّ الرب لخائفيه، وعهده لتعليمهم. عيناي دائماً إلى الرب لأنه هو يُخرج رجليَّ من الشبكة« (آيات 12-15). والشبكة ترمز للتجربة، والرب يحفظ المؤمنين من السقوط فيها، ويسرع بإنقاذهم منها، وعلّمنا أن نصلي: »لا تُدخلنا في تجربة«. وقد رأينا من بداية المزمور أن الرب يعلّم الذين يخافونه ويدرّبهم في طرقه التي يختارها لهم بنفسه (آية 12)، فيقولون: »لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها« (أف 2: 10). وهذا التعليم يجعلهم راغبين في مزيدٍ من التعلُّم، لأنهم يرون النجاح المادي الذي يمنحه لهم الرب، ويمنحه لنسلهم أيضاً (آية 13)، كما وعد إبراهيم (تك 15:7 و8) وكما وعد سائر شعبه (خر 20: 12 ومت 5: 5). كما أنهم يرون بركات الرب الروحية لهم، واهتمامه السري الخاص بهم في أنه يعلن لهم أسرار محبته وقوانين ملكوته وصدق عهوده (آية 14) لأنهم أصحاب قلوبٍ بسيطة نقية (مت 11: 25)، مثل إبراهيم الذي أعلن له الرب ما سيفعله بسدوم (تك 18: 17) وكما قال عاموس: »إن السيد الرب لا يصنع أمراً إلا وهو يعلن سّره لعبيده الأنبياء« (عا 3: 7).
قال المسيح: »إن شاء أحدٌ أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي» (يو 7: 17). فكل من يريد أن يطيع الله يعلن الله له من تعاليمه ما لا يقدر العصاة أن يدركوه، ولهذا يتطلّع المرنم دوماً للرب قائلاً: »عيناي دائماً إلى الرب» واثقاً أنه سيُخرج رجليه من الشبكة (آية 15). وكان اليهود يطلقون اسمي »اليوعينيّ« (1أي 3: 23) و»أليهوعيناي« (عز 8: 4) على أبنائهم، راجين أن يكونوا اسماً على مسمّى، بأن تكون عيونهم دائماً على الرب، يقولون مع المرنم: »إليك يا سيد يا رب عيناي، بك احتميت. لا تُفرِغ نفسي« (مز 141: 8).
ثالثاً – الله ينجّي من الضيق
(آيات 16-22)
1 – الخطية هي السبب الرئيسي للضيق: (آيات 16-18).
(أ) الخطية تُسبِّب الضيق الداخلي: »التفِت إليّ وارحمني، لأني وَحْـدٌ ومسكين أنا. افرُج ضيقات قلبي« (آيتا 16، 17أ). يطلب المرنم أن يعينه الرب على إحساسه بالوحدة والضيق، وأن يخرجه من شدائده، بأن يتلفت إليه ولا يحجب وجهه عنه »لأنه لم يحتقر ولم يرذل مَسْكَنة المسكين، ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع« (مز 22: 24). ما أكثر ما نشعر بالوحدة والمسكنة، ونقول مع داود: »أبي وأمي قد تركاني، والرب يضمُّني« (مز 27: 10).
(ب) الخطية تُسبِّب الضيق الخارجي: »مـن شدائدي أَخـرِجني. انظُر إلى ذُلّي وتعبي واغفـر جميع خطاياي« (آيتا 17ب، 18). يذكر المرنم ستة أنواع من ضيقات المؤمنين: الوحدة، والمسكنة، والاضطهاد، والشدائد، والذل، والتعب. ولا يتذمَّر المرنم منها، ولا يحدد للرب شيئاً يفعله بصددها، لكنه يكتفي بالقول: »انظر« كما قالت الأختان مريم ومرثا للمسيح: »الذي تحبه مريض« (يو 11: 3) دون أن تحددا له ما يفعله، ثقة منهما في محبته وحكمته.
ويرى المرنم أن كل ضيق خارجي أصابه من أعدائه هو نتيجة لخطاياه، ويطلب مغفرة كل خطية ارتكبها، لأنه يعلم أن الخطية تزعج النفس وتضايقها. لا يستطيع العالم أن يضايقنا ما دمنا في الرب، لكن الخطية هي التي تضايقنا لأنها تحجب وجهه عنا. ولا يقدر الأعداء أن يذلونا، لكن الإذلال يأتي دائماً من الداخل، عندما يتعالى الإنسان متشامخاً، فيُغضب الله، ويجبر الناس أن ينفضّوا من حوله لأنهم لا يحبون من يهتم بنفسه فقط.
2 – الأعداء يسبّبون الضيق: »انظر إلى أعدائي لأنهم كثروا، وبُغضاً ظلماً أبغضوني«
(آية 19). كانت خطيته سبب بعض ما أصابه من ضيق داخلي وخارجي، فطلب الغفران والمعونة. ولكن بعض الأعداء ناصبوه العداء بسبب شرِّ قلوبهم، وليس بسبب خطإٍ ارتكبه في حقّهم، فاجتمعوا حوله واتّحدوا ضده، وأبغضوه ظلماً، فصرخ إلى الرب الذي يعلّمنا أنه »طوبى لكم إذا عيَّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة، من أجلي، كاذبين. افرحوا وتهلّلوا لأن أجركم عظيم في السماوات« (مت 5: 11، 12).
3 – الضيق يبعث على انتظار الرب: »احفظ نفسي وأَنقذني. لا أُخزَى لأني عليك توكلت. يحفظني الكمال والاستقامة لأني انتظرتك« (آيتا 20، 21). وهي الطلبة التي علّمها المسيح لنا »لا تُدخلنا في تجربة«. كان المرنم متضايقاً عاجزاً عن مساعدة نفسه، وهو يدرك أنه هو نفسه السبب في جزءٍ من الضيق الذي حلَّ به، وأن الأعداء هم سبب الجزء الآخر، فطلب الغفران والعون السماوي، ثم أعلن انتظاره للرب الذي وضع ثقته فيه واتكل عليه، ليغيثه ويعينه وينقذه، عالماً أن كماله واستقامته هما ضمانه في النجاة من الضيق، لأنه يتعامل مع الله الصالح والمستقيم.
4 – الفداء الإلهي هو المخرج الكامل من الضيق: »يا الله افدِ إسرائيل من كل ضيقاته«
(آية 22). هذه طلبة شاملة، رفع المرنم فيها كل الشعب المجرَّب والمصارع والغالب بنعمة الرب. والفداء هو التحرير بالشراء، فالرب يدفع الفدية، والمسيح هو المخلّص الذي يفتدينا من كل إثم، ويطهّرنا ويجعلنا شعبه الخاص (تي 2: 13، 14) »لأن عند الرب الرحمة، وعنده فدىً كثير، وهو يفدي إسرائيل من كل آثامه« (مز 130: 7، 8).
دعونا نطلب من الرب أن يجعلنا شعبه الخاص، فيعرّفنا، ويعلّمنا ويدرّبنا، ويعود يعلّمنا عندما نعاود الخطأ، فإنه »يغفر جميع خطاياي« ويفدي خاصته من كل ضيقاتهم.
اَلْمَزْمُورُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ
لِدَاوُدَ
1اِقْضِ لِي يَا رَبُّ، لأَنِّي بِكَمَالِي سَلَكْتُ، وَعَلَى الرَّبِّ تَوَكَّلْتُ بِلاَ تَقَلْقُلٍ. 2جَرِّبْنِي يَا رَبُّ وَامْتَحِنِّي. صَفِّ كُلْيَتَيَّ وَقَلْبِي، 3لأَنَّ رَحْمَتَكَ أَمَامَ عَيْنِي، وَقَدْ سَلَكْتُ بِحَقِّكَ. 4لَمْ أَجْلِسْ مَعَ أُنَاسِ السُّوءِ، وَمَعَ الْمَاكِرِينَ لاَ أَدْخُلُ. 5أَبْغَضْتُ جَمَاعَةَ الأَثَمَةِ، وَمَعَ الأَشْرَارِ لاَ أَجْلِسُ. 6أَغْسِلُ يَدَيَّ فِي النَّقَاوَةِ، فَأَطُوفُ بِمَذْبَحِكَ يَا رَبُّ 7لأُسَمِّعَ بِصَوْتِ الْحَمْدِ، وَأُحَدِّثَ بِجَمِيعِ عَجَائِبِكَ. 8يَا رَبُّ، أَحْبَبْتُ مَحَلَّ بَيْتِكَ وَمَوْضِعَ مَسْكَنِ مَجْدِكَ.
9لاَ تَجْمَعْ مَعَ الْخُطَاةِ نَفْسِي، وَلاَ مَعَ رِجَالِ الدِّمَاءِ حَيَاتِي. 10الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ رَذِيلَةٌ، وَيَمِينُهُمْ مَلآنَةٌ رَشْوَةً. 11أَمَّا أَنَا فَبِكَمَالِي أَسْلُكُ. افْدِنِي وَارْحَمْنِي. 12رِجْلِي وَاقِفَةٌ عَلَى سَهْلٍ. فِي الْجَمَاعَاتِ أُبَارِكُ الرَّبَّ.

شكوى لمحكمة السماء
في هذا المزمور يدافع داود عن نفسه أمام محكمة الله، بعد أن ظلمه الأشرار وهو بريء. وهو يقارن بين سلوكه الصالح وسلوكهم الباطل. ولا ندري المناسبة التي كتب فيها داود هذا المزمور، فربمـا كانـت يوم غنّــت بنــات إسرائيــل أن شاول قتـل ألوفه، أمــا داود فقـد قتل عشرات ألوفه (1صم 18: 7، 8). ولم يكن في هذا الغناء خطأ موضوعي، لأن داود هو الذي قتل جليات. لكن شاول أخذ الأمور بصورة شخصية، وقرّر أن يقتل داود.
ولم تفشِّل هذه الاتهامات الباطلة داود، لأنه وجد سلامه في اللجوء إلى محكمة السماء. ولقد واجه المسيح ابن داود نفس ما واجهه داود، فقد ظُلم وأُسيء إليه بغير وجه حق. وعلّمنا أن كل الذين يعيشون معه يلاقون المتاعب نفسها، وقال: »إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم« (يو 15: 18، 19. راجع أيضاً مت 5: 10-12). فإذا لجأنا إلى القضاء السماوي سنقول مع الرسول بولس: »في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا« (رو 8: 37).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الشاكي البريء (آيات 1-3)
ثانياً – الشاكي التقي (آيات 4-8)
ثالثاً – الشاكي يطلب (آيات 9-11)
رابعاً – الشاكي يثق في البراءة (آية 12)
أولاً – الشاكي البريء
(آيات 1-3)
1 – الشاكي البريء يطلب العدالة الإلهية: »اقضِ لي يا رب، لأني بكمالي سلكت، وعلى الرب توكلت بلا تقلقل« (آية 1). يثق المرنم أنه بريء، فيطلب من الرب أن يُظهر هذه البراءة أمام الجميع، وهو ما سبق أن طلبه في مز 7: 8 »بكمالي سلكت« فقد سلك بجدّية وثقة، لأنه كان مُخْلصاً في مقاصده، ومحدَّداً في أهدافه، وموحَّد القلب في تعبُّده. عرف من أين جاء وإلى أين يمضي، فتقدَّم نحو هدفه بدون توقُّف، بغير قلقٍ ولا خوف، وتوكل على الرب بلا تقلقل. ولم يكن إحساسه بالكمال كبرياءً روحية، لكنه كان حقيقة دافع بها عن نفسه في موقف معيّن وفي حالة خاصة. وكان حكم داود على نفسه صادقاً، وكان قلبه حسب قلب الرب (أع 13: 22) حتى قال الله لسليمان: »إن سلكتَ أمامي كما سلك داود أبوك بسلامة قلب واستقامة، وعملت حسب كل ما أوصيتُك، وحفظت فرائضي وأحكامي، فإني أقيم كرسي مُلكك على إسرائيل إلى الأبد كما كلَّمتُ داود أباك« (1مل 9: 4، 5).
وتُعلّمنا الآية الأولى أننا يجب أن ندرك الهدف الذي من أجله أدركنا المسيح، فنتَّجه نحوه بجدّية وثقة وبدون توقُّف، ناسين ما هو وراء ممتدين إلى ما هو قدام (في 3: 12، 13)، نطرح عنا الخطية المحيطة بنا بسهولة، ونحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا بلا تقلقل (عب 12: 1)، ونحن نقول مع بولس الذي هاجمه الكورنثيون ظلماً بأنه ليس رسولاً فقال: »لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية، ليكون فضل القوة لله لا منّا. مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين (بمعنى أن الاضطهادات زحمته، لكنها لم تمنعه عن القيام بخدمته لله). متحيِّرين، لكن غير يائسين (بمعنى أنه لم يكن يعرف كيف ينجو من المضايقات، ولكنه لم يقطع الأمل في أن الله سيرشده وينجيه ويفتح له أبواب الكرازة). مضطهَدين، لكن غير متروكين (بمعنى أنه مضطهَدٌ من الناس، لكن غير متروك من الله). مطروحين، لكن غير هالكين (بمعنى أنه قد يُطرح للسياط، ولكنه يقوم ليكرز). حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا (بمعنى أنه يتألم كما تألم المسيح، ولكن المسيح يحيا فيه)« (2كو 4: 7-10).
ما أجمل أن ينال الإنسان المدح من ضميره وهو يقول: »إن راعيتُ إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب« (مز 66: 18).
2 – الشاكي البريء يطلب الفحص الإلهي: »جــرِّبنـي يا رب وامتحِنّــي. صَفِّ كليتيَّ وقلبي« (آية 2). كان الرب يعرف داود الذي قال له: »جرّبتَ قلبي. تعهّدته ليلاً. محَّصتني. لا تجد فيَّ ذموماً. لا يتعدَّى فمي« (مز 17: 3). ولكنه في ثقة ببراءته يطلب من الرب أن يفحصه من جديد! وكانت هناك ثلاثة أنواع من الفحص: فحص الرائحة، وفحص الملمس، والفحص بالنار. ويطلب داود إجراء هذه الفحوصات الثلاثة عليه، كما فعل الله مع إبراهيم (تك 22: 1). ومع إسرائيل (تث 8: 2، 16) ليعطي كل واحد حسب طرقه (إر 17: 10). وعلى كل مؤمن أن يطالب الرب أن يُجيزه في هذه الفحوص الثلاثة ليعتزل الشر ويعيش مكرساً للرب (2كو 6: 14-18):
(أ) »جرّبني«: اختبرني بتدقيق واعلمْ ما بداخلي، فإن فيَّ رائحة المسيح الذكية. جرّبني كما يُذاق الطعام لترى أني مقبول.
(ب) »امتحني«: ضعني في ميزان عدلك، لتظهر صحة إيماني وقصدي.
(ج) »صَفِّ كليتيَّ وقلبي«: مراكز المشاعر والعواطف. أَخرِج خفيات نفسي إلى النور. أَنِر مخادع قلبي الداخلية لترى إن كان فيَّ طريق باطل، فتُخرج مني الزوان، وتجعلني حنطةً مقدسة تحتفظ بها في مخزنك.
3 – الشاكي البريء يحتمي بالرحمة الإلهية: »لأن رحمتك أمام عيني، وقد سلكتُ بحقك» (آية 3). طلب داود من الله أن يفحصه لأنه كان واثقاً من رحمة الله التي اختبرها في ماضيه، ويراها في حاضره، ويثق أنه سيراها في مستقبله. رآها ظاهرة في خلقه وفي عنايته بالعُشب والطيور والحيوانات والإنسان. وعرف عن رحمته الواضحة في الفداء في تقديم الكبش بدل إسحاق، ثم في شريعة موسى التي وضعت فريضة الكفارة بالحيوانات. ولعله بروح النبوَّة كان يرى مجيء ابن داود الذي سيصنع فداءً أبدياً، لأنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم (يو 1: 29). صحيح أنه يقول: »سلكتُ بحقك« لأن إرادة الرب كانت دستور حياته، وكانت كلمة الله تحكّمه، ولكنه كان محتاجاً إلى رحمة الله دائماً.

ثانياً – الشاكي التقي
(آيات 4-8)
يعلن الشاكي تقواه سلباً وإيجاباً:
1 – سلباً: أشياء اجتنبها، فقد أبغض طرق الأشرار: »لم أجلس مع أُناس السوء، ومع الماكرين لا أدخل. أبغضتُ جماعة الأثمة، ومع الأشرار لا أجلس« (آيتا 4، 5). »لم أجلس« في الماضي. و»لا أجلس« اليوم وغداً مع »أناس السوء« الفارغين، الكاذبين، المنافقين، الواهمين. وبهذا تحقّقت في حياة داود صفـات الإنسان المطوّب كما ذكرها بنفسه في مزمور 1، وتحقــق فيـه ما قاله إرميا بعد ذلك (إر 15: 17).
ويقول إنه لم يدخل بيوت »الماكرين« المنافقين »المخاطبين أصحابهم بالسلام والشر في قلوبهم« (مز 28: 3). وهكذا صدق في قوله: »بكمالي سلكت« (آية 1). لا بد أن يعيش المؤمنون وسط العالم بدون أن يكونوا منه، فنحن لا نقدر أن نعتزل العالم، وإلا لزمنا أن نخرج منه (1كو 5: 10). قال المسيح: »لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير» (يو 17: 15).
2 – إيجاباً: أشيـاء فعلـها تبرهـن تقواه: »أَغسـل يديَّ في النقـاوة، فأطوف بمذبحـك يا رب، لأُسـَمِّع بصوت الحمد وأُحَدِّث بجميع عجائبك. يا رب أحببتُ محلَّ بيتك وموضع مسكن مجدك« (آيات 6-8).
(أ) »أغسل«: كما كان الكاهن يغتسل ليتطهر قبل تقديم الذبيحة (خر 30: 17-21)، وكما كان شيوخ إسرائيل يتبرأون من دم القتيل الذي لا يعرفون قاتله بأن يغسلوا أيديهم (تث 21: 6) وكما برر بيلاطس نفسه من دم المسيح فغسل يديه (مت 27: 24). لذلك نصلي: »اغسِلني كثيراً من إثمي.. اغسلني فأبيضَّ أكثر من الثلج« (مز 51: 2، 7)
(ب) »أطوف بمذبحك«: فيأخذ مكانه وسط العابدين في الطواف حول مذبح الله. إنه موجود في محضر الرب باستمرار، ويتعبّد بلا انقطاع.
(ج) »أُسمّع بصوت الحمد«: يرتل للرب ترنيمة قديمة وجديدة.
(د) »أحدّث بجميع عجائبك«: فيشهد للناس عن صلاح الله معه، وعن المعجزات العديدة التي أجراها لنجاته.
(هـ) »أحببتُ محل بيتك«: حيث يسكن الله وسط شعبه (خر 25: 8، 9)، وحيث يوجد تابوت العهد الذي يرمز لمجد الرب، يتحرّك القلب نحو القداسة، ويُبعَث الأمل في النفس القلقة المتوتِّرة الحزينة، وتستريح النفس في شركة المؤمنين.

ثالثاً – الشاكي يطلب
(آيات 9-11)
يطلب المرنم من الرب أن يحفظ نفسه بعيداً عن سلوك الأشرار وعن مصيرهم. وهو طلبٌ يتفق مع ماضي حياته، ومع حاضره، ومع انتظاره من الله:
1 – طلب يتفق مع ماضيه: »لا تجمع مع الخطاة نفسي ولا مع رجال الدماء حياتي، الذين في أيديهم رذيلة، ويمينهم ملآنة رشوة« (آيتا 9، 10). في ماضي حياته ابتعد عن الأشرار لأن »المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة« (1كو 15: 33) فلم يتعامل مع الخطاة رجال الدماء الذين يمارسون العنف ويخططون للقتل وينفذونه، الذين في أيديهم رذيلة، فيدبرون التدابير الرديئة، ويسفكون دم البريء، والمرتَشين الذين يعوّجون القضــاء متناسيــن أن »النـار تأكل خيام الرشوة« (أي 15: 34). حقاً »أية خلطة للبر والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟ وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟ وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن« (2كو 6: 14، 15).
2 – طلب يتفق مع حاضره: »أما أنا فبكمالي أسلك« (آية 11أ). فيتقدم للأمام مع الرب، متابعاً مسيرته معه، والتي بدأها معه، وقال عنها: »بكمالي سلكت« (آية 1).
3 – طلب يتفق مع انتظاره: »افدني وارحمني« (آية 11ب). إنه لا يدّعي الكمال أبداً، لكنه يطلب الفداء والرحمة حتى يبقى بعيداً عن طريق الأشرار. ولو تحقق لنا طلب داود، نقدر أن نقول: »إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون، ونفتخر على رجاء مجد الله« (رو 5: 1، 2).
رابعاً – الشاكي يثق في البراءة
(آية 12)
»رجلي واقفةٌ على سهل. في الجماعات أبارك الرب « (آية 12).
يثق صاحب الإيمان الصادق أن الله استجاب الصلاة قبل أن تتم الاستجابة، فيطمئن. لم يعُد المرنم واقفاً على أرض حجرية صخرية شائكة، لأن الرب سهَّل طريقه، فيقول بثقة: »من أنت أيها الجبل العظيم؟ أمام زربابل تصير سهلاً!« (زك 4: 7). لقد وقف داود في سهلٍ خصب، لأن الرب سمع صلاته ووهبه الأمان. ولذلك يقول: »في الجماعات أبارك الرب« ويشهد له أمام الجميع أنه كان معه ورحمه وخلًّصه.
اَلْمَزْمُورُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ
لِدَاوُدَ
1اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟ 2عِنْدَ مَا اقْتَرَبَ إِلَيَّ الأَشْرَارُ لِيَأْكُلُوا لَحْمِي، مُضَايِقِيَّ وَأَعْدَائِي عَثَرُوا وَسَقَطُوا. 3إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذَلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ. 4وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ. 5لأَنَّهُ يُخَبِّئُنِي فِي مَظَلَّتِهِ فِي يَوْمِ الشَّرِّ. يَسْتُرُنِي بِسِتْرِ خَيْمَتِهِ. عَلَى صَخْرَةٍ يَرْفَعُنِي. 6وَالآنَ يَرْتَفِعُ رَأْسِي عَلَى أَعْدَائِي حَوْلِي، فَأَذْبَحُ فِي خَيْمَتِهِ ذَبَائِحَ الْهُتَافِ. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ لِلرَّبِّ.
7اِسْتَمِعْ يَا رَبُّ. بِصَوْتِي أَدْعُو فَارْحَمْنِي وَاسْتَجِبْ لِي. 8لَكَ قَالَ قَلْبِي: «قُلْتَ اطْلُبُوا وَجْهِي. وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ». 9لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي. لاَ تُخَيِّبْ بِسَخَطٍ عَبْدَكَ. قَدْ كُنْتَ عَوْنِي، فَلاَ تَرْفُضْنِي وَلاَ تَتْرُكْنِي يَا إِلَهَ خَلاَصِي. 10إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَالرَّبُّ يَضُمُّنِي. 11عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ وَاهْدِنِي فِي سَبِيلٍ مُسْتَقِيمٍ بِسَبَبِ أَعْدَائِي. 12لاَ تُسَلِّمْنِي إِلَى مَرَامِ مُضَايِقِيَّ، لأَنَّهُ قَدْ قَامَ عَلَيَّ شُهُودُ زُورٍ وَنَافِثُ ظُلْمٍ. 13لَوْلاَ أَنَّنِي آمَنْتُ بِأَنْ أَرَى جُودَ الرَّبِّ فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ- 14انْتَظِرِ الرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ، وَانْتَظِرِ الرَّبَّ.
الرب نوري وخلاصي
كم من مرة تلَوْنا كلمات هذا المزمور فامتلأنا بالاطمئنان، لأن الرب نورنا وخلاصنا وحصن حياتنا. لا ندري متى كتب داود هذا المزمور، لأنه يعبّر عن مواقف صعبة مختلفة مرَّ بها كان يمكن أن يكتبه في أي موقف منها. فإن كان لنا إيمان داود يمكننا أن نرتل هذا المزمور باعتبار أنه واقع اختبارنا، لأن كل حياتنا تشهد أن الرب نورنا وخلاصنا وحصن حياتنا.
في هذا المزمور موضوعان كبيران هامان، أولهما تسبيحة فرح يعبِّر فيها المؤمن عن طمأنينته وأشواق قلبه، وثانيهما صلاة. وهذا يرينا المكانة السامية للتسبيح والصلاة في حياة المؤمن. نشكر ونطلب. كثيراً ما نتكلم عن الله أكثر مما نكلّمه. وكثيراً ما نكلم الناس عنـه أكثر منـا نكلمه عنهـم، مع أن الأمرين هامان ولا زمان.
تشرح الآيات الثلاث الأولى من المزمور اطمئنان المؤمن وشوق قلبه، وتقدم باقي آياته صلاة استنجاد بالرب. وهذا يعني أن نجاة المؤمن وطمأنينته لم تعطياه استرخاءً روحياً ولا تواكلاً، لكنهما دفعتاه أكثر إلى الصلاة طلباً لمراحم الرب. إن نجاة المؤمن لا تعني أن يكف عن الالتجاء إلى الرب، بل تعني أنه يحتمي بالرب ويطلبه أكثر.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – اطمئنان المؤمن (آيات 1-3)
ثانياً – التماس المؤمن (آيات 4-6)
ثالثاً – صلاة المؤمن (آيات 7-14)

أولاً – اطمئنان المؤمن
(آيات 1-3)
إن كان الرب في جانب المؤمن فلا خوف عليه، لأنه »إن كان الله معنا فمن علينا« (رو 8: 31). ويقدم المرنم في الآيات الثلاث الأولى من مزموره ثلاثة أسباب للاطمئنان:
1 – يطمئن المرنم بسبب إلهه: يكرر المرنم اسم الرب ست مرات في النصف الأول من المزمور، وسبع مرات في النصف الثاني منه، ويصف الرب بثلاث صفات:
(أ) الرب نوره: »الرب نوري« (آية 1أ). عندما تغنَّى داود بهذا القول كان يعيش في ظلام كراهية أعدائه، لكنه كان يعلم أن الله نورٌ وليس فيه ظلمة البتة (1يو 1: 5). قال المسيح: »أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة« (يو 8: 12). كانت أرضنا مظلمة فأصدر الله أمره الأول: »ليكن نور« فكان نور. وحياتنا بدون الله مظلمة حتى يشرق علينا المسيح شمس البر والشفاء في أجنحته (ملا 4: 2) فهو الذي »فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس« (يو 1: 4).
قالوا عن داود إنه سراج إسرائيل (2صم 21: 17) وهو بهذا يشبه نور القمر الذي يعكس نور الشمس، فقد قال المسيح لأتباعه، الذين أشرق عليهم نوره: »أنتم نور العالم« (مت 5: 14). وعندما يكون الرب نورك، وعندما تسلك في نوره، وعندما تشع أنواره منك، تنقشع ظلمات حيرتك وقلقك ومخاطرك، وتمتلئ حياتك بالفرح.
(ب) الرب خلاصه: »الرب خلاصي« (آية 1ب). هو نفسه المخلّص، وهو مانح الخلاص. في طفولتنا الروحية نهتم بعطاياه، لكن عندما ننضج روحياً يصبح هو نفسه موضوع اهتمامنا، ونقول مع الرسول بولس: »لي الحياة هي المسيح« (في 1: 21). »هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصاً« (إش 12: 2).
(ج) الرب حصن حياته: »الرب حصن حياتي« (آية 1ج). »اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصديق ويتمنَّع« (أم 18: 10). له نقول: »الرب صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي بـه أحتمي. ترسي وقرن خلاصي« (مز 18: 2). »هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب« (إش 12: 2).
2 – يطمئن بسبب اختباراته الماضية: »عندما اقترب إليّ الأشرار ليأكلوا لحمي، مضايقيَّ وأعدائي عثروا وسقطوا« (آية 2). لقد أحاطت به المخاطر، كما قال أيوب لأصحابه: »لماذا تطاردونني.. ولا تشبعون من لحمي؟« (أي 19: 22) كأنهم وحوش مفترسة. ولا بد أن داود يذكر هنا كيف هاجم أسدٌ ودبٌّ قطيعَه، فقتلهما وأعطى المجد كله لله (1صم 17: 37). ولا بد أنه ذكر جليات الجبار المتسلّح وكأنه قلعة متنقّلة، ولكنه قتله بحجر صغير من مقلاع (1صم 17: 49). وأخيراً سقط عدوه شاول على سيفه ومات (1صم 31: 4) فقال عن اختبار: »مضايقيَّ وأعدائي عثروا وسقطوا«. والثقة في النجاة تجيء من الاختبار، وحياة المؤمن غنية بالاختبارات المشابهة لاختبارات داود، ينجيه الله فيها من كل عمل رديء.
3 – يطمئن بسبب ثقته: »إن نزل عليّ جيش لا يخاف قلبي. إن قامت عليَّ حربٌ ففي ذلك أنا مطمئن« (آية 3). كان داود معرَّضاً للحروب من كل جانب. كان شاول وجيشه يطارده. وعندما أصبح ملكاً حاربته الدول المجاورة. ولكنه في كل الحروب كان مطمئناً لا يخاف بسبب إيمانه في الرب وفي مواعيده. إن كل الجيوش لا تخيف المؤمن لأن رئيس جند الرب يجيء ليُنجده (يش 5: 14) والرب يخبئه (إر 36: 26) فيقول: »أنت ستر لي« (مز 32: 7). ومن اختبارات المرنم الماضية تعلَّم الثقة في أن الله سيكون معه في المستقبل، لأنه »هــو هــو أمساً واليوم وإلى الأبد« (عب 13: 8). سعيد هو الإنسان الذي يقدر أن يقول إن الله إلهه وإله أبيه وإله جدّه، لأن له تراثاً غنياً، يبني عليه حاضره ومستقبله.
افتح عينيك لترى مَن لا يُرى. ولتكن مثل غلام أليشع الذي فتح الرب عينيه ليرى أن الذين معه أكثر من الذين عليه (2مل 6: 15-17). »أنتم من الله أيها الأولاد، وقد غلبتموهم لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم« (1يو 4: 4).
ثانياً – التماس المؤمن
(آيات 4-6)
يلتمس داود أن يكون ضيف الرب في بيته الأبدي، يتحدث إليه، ويتأمل صلاحه، ويشبع من مائدته، ويحتمي ببيته. وتبدأ هذه البركات كلها في بيت الرب هنا على الأرض.
1 – التماس بكل القلب: »واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس: أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي أنظر إلى جمال الرب، وأتفرَّس في هيكله« (آية 4). »الحاجة إلى واحد« (لو 10: 42) والأهداف الكثيرة تشتِّت التركيز والتعمُّق. لهذا يلتمس داود أن يرى جمال الرب ومجده، فيشرق عليه إشراق الرضا، وتستضيء روحه بضياء سماوي، ويشتاق أن يكون ابناً في وسط عائلة الله »من أهل بيته« (أف 2: 19). »والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أما الابن فيبقى إلى الأبد« (يو 8: 35). ويتوق داود أن يكون عابداً لله العلي في هيكله، يحدّث الله في الصلاة من أجل نفسه ومن أجل الناس، ويحدّث الناس عن الله في وعظه وتعليمه ومزاميره.
عندما هرب داود أمام ابنه أبشالوم طريداً في صحراء يهوذا، لا بد أنه اشتاق أن يستريح في قصره، يأكل ويشرب هانئاً بين رجال مملكته. ولكن شوقه الأكبر كان إلى العبادة في بيت الله، فقال: »عطشَتْ إليك نفسي. يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء« (مز 63: 1). وهذا تعبير القلب المتفاني في حب الله، الذي يجتذبه جمال قداسة الله ومحبته وعدالته، فيقول: »ما أجوده! ما أجمله!« (زك 9: 17). ويردّد: »أَنظر« ثم: »أَتفرّس«. إنه ينظر نظرة عامة شاملة، ثم يأخذ في التأمل. يفكر في الرب أكثر وأكثر، وينشغل قلبه بكلمة الرب فيلهج بها ويتغذى عليها ويشبع بها. »ما أحلى مساكنك يا رب الجنود. تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب. قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي« (مز 84: 1، 2) فيتحقق معه قول المسيح: »الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني. والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأُظهِر له ذاتي.. إن أحبَّني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً« (يو 14: 21، 23).
2 – التماس المديون لفضل الله: »لأنه يخبّئني في مظلته في يوم الشر. يسترني بستر خيمته. على صخرة يرفعني« (آية 5). وفي هذه الآية نرى وصف المرنم لعمل الله المفرح:
(أ) »يخبئني« من الأعداء الذين يجرون خلفي، فلا يضرّني شرهم. وكانوا ينصبون خيمة للملك وسط معسكر الجيش، يحيط بها جبابرة أقوياء، فيدير الملك منها المعركة وهو مختبئ فيها بأمان. وهكذا فعل الرب للمرنم.
(ب) »يسترني« بستر فدائه الكريم فلا يرى عيوبي، بل يرى دم الكفارة يستر كل خطاياي.
(ج) »يرفعني« على صخرة إلى أعلى فيوصلني إلى آفاق روحية عظيمة بمحبته. وتشير الصخرة إلى الثبات والدوام، فهي »صخرة أرفع مني« (مز 61: 2).
كم نحتاج إلى هذه البركات الثلاث لنختبر فيها حراسة الرب الدائمة الأمينة الواضحة!
3 – التماس يعترف به أمام الكل: »والآن يرتفع رأسي على أعدائي حولي، فأذبح في خيمته ذبائح الهتاف. أغني وأرنم للرب« (آية 6). عندما انتصر فكر أولاً في من نصره. لم يفكر في إقامة وليمة ابتهاجاً بالنصر، فشكر الله بالترنيم الهاتف لأنه قاده في موكب نصرته (2كو 2: 14).
تنخفض رؤوسنا نتيجة الذل أو الخوف أو العار، فيرفع الرب عنا المهانة والذل، يُذهب عنا الخوف، ويزيل عنا العـار. إنه يُمجِّد مَن يتفرَّس في هيكله، ويُطمئِن من يختبئ في مظلته، ويستر عيوب من يحتمي بفدائه، فترتفـع رؤوسنـا. »فلنقـدِّم به في كل حيـن لله ذبيحـة التسبيـح، أي ثمــر شفـاه معترفـة باسمـه« (عب 13: 15).
هنا يعترف داود بفضل الرب عليه أمام الكل، فيعلن ثقته: »يرتفع رأسي على أعدائي حولي«. ويعلن شكره »أذبح في خيمته ذبائح الهتاف«. ويعلن فرحه »أغني وأرنم للرب«.
ثالثاً – صلاة المؤمن
(آيات 7-14)
بعد ترنيم الهتاف تحوَّل المرنم إلى الصلاة، والجندي لا يهمل أسلحته، وسلاح المؤمن هو التسبيح والصلاة. وهناك ستة أوصاف لصلاة المرنم:
1 – صلاة المتواضع: »استمع يا رب. بصوتي أدعو فارحمني واستجب لي« (آية 7). بكل تواضع وبغير كبرياء يدعو الرب، محتمياً في رحمته، لأنه في ذاته غير مستحق، ولكن الإنعام الإلهي هو مصدر كل ما يملكه. إنه يعتمد على المراحم الإلهية في وقت النجاح والفرح كما في وقت الفشل والدموع، فالرحمة رجاء الخاطئ وملجأ المؤمن.
2 – صلاة المطالَب بالصلاة: »لك قال قلبي: قلت اطلبوا وجهي. وجهك يا رب أطلب« (آية 8). يدعونا الله للصلاة، فلا ندخل في محضره متطفِّلين. سمع المرنم الأمر فاستجاب له، كما قال إرميا: »ها قد أتينا إليك لأنك أنت الرب إلهنا« (إر 3: 22). لقد دعا الله الصبي صموئيل في الهيكل ثلاث مرات، وفهم الكاهن العظيم أن الرب يدعو الصبي، فعلّمه أن يجاوب: »تكلم يا رب لأن عبدك سامع« (1صم 3: 9). وأمرنا المسيح: »اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم. لأن كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له« (مت 7: 7، 8).
3 – صلاة الراجي: »لا تحجُب وجهك عني. لا تخيّب بسخط عبدك. قد كنتَ عوني فلا ترفضني ولا تتركني يا إله خلاصي« (آية 9). لن تُستجاب الصلاة ونحن نطلب وجه الرب إن كان وجهه محجوباً عنا، فيطالبه المرنم أن يرضى عليه، فهو الذي لا يتغيَّر، والذي كان عوناً له في كل ماضي حياته، ولن يحجب وجهه عن عبده »لأنه لم يحتقر ولم يرذُل مسكنة المسكين، ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع« (مز 22: 24).
ولا يمكن أن يكون الله قاضياً ظالماً يخيّب أمل عبده بغيظه وسخطه عليه. ولا يمكن أن يترك المؤمن الذي يحبه بغير أن ينجيه وينقذه ويخلّصه، فقد قال سليمان الحكيم في صلاة تدشين الهيكل: »ليكن الرب إلهنا معنا كما كان مع آبائنا، فلا يتركنا ولا يرفضنا« (1مل 8: 57). فلنذكر للرب فضله الماضي معنا، ولنطالِبْهُ أن يكون دائماً معنا، لأنه إله خلاصنا. لقد رأى داود أن الرب يسخط على شاول وينزع المُلك منه، فلم يحتمل أن يغضب الرب عليه، لأنه محتاجٌ إلى عونه.
ويعبِّر المرنم عن رجائه في الرب بقوله: »إن أبي وأمي قد تركاني والرب يضمّني« (آية 10). كان داود قد أخذ أباه وأمه ليقيما عند ملك موآب وتركهما هناك، ومن وقتها لم نعُد نسمع عنهما (1صم 22: 3، 4). لقد اعتنى بهما بعد أن اعتنيا به، لأنهما أصبحا محتاجين إلى رعايته. ومع ذلك فهو يؤكد أن محبة الله وعطفه عليه أقوى من كل محبة اختبرها في والديه. فإن كنا نجوز في مثل ظروفه، فلنتذكر وعد المسيح: »لا أترككم يتامى. إني آتي إليكم« (يو 14: 18).
4 – صلاة الـخاضع للمشيئـة الإلهيـة: »علّمنـي يـا رب طريقـك، واهـدني فـي سبيـل مستقيم بسبــب أعدائي. لا تسلمني إلى مرام مضايقيَّ، لأنه قد قام عليَّ شهود زور ونافث ظلم« (آيتا 11، 12). هذه طلبة تُظهِر تواضع المرنم ورغبته في المعرفة واستعداده للطاعة وحاجته إلى من يرشده في الطريق، لأنه يريد أن يسير في طريق الله المستقيم مهما كانت الصعوبات التي تقف في طريقه بسبب أعدائه القائمين عليه، يذيعون عنه مذمَّات كاذبة، ويشهدون عليه زوراً، ويقاومونه وينفثون عليه تهدُّداً وهم ظالمون (أع 9: 1). ولكنه لا يريد أن ييأس، ولا أن يساوم على مبادئه، ولا أن يخطئ فيعطيهم فرصة إفساد سمعته وسيرته. إنهم يعوّجون طريقه ويملأونها بالحُفر، ولكنه خاضع لمشيئة الله، يطلب عونه السماوي لينفّذ المشيئة الإلهية الصالحة.
5 – صلاة المنتظر: »لولا أنني آمنت بأن أرى جود الرب في أرض الأحياء – انتظِر الرب. ليتشدَّد وليتشجَّع قلبك وانتظر الرب« (آيتا 13، 14). كان المرنم واثقاً أنه سيرى جود الرب وصلاحه وهو هنا في أرضنا الحاضرة قبل أن يرى جوده في سماوات مجده. ولهذا السبب يشجع نفسه وإخوته المؤمنين لأن ينتظروا الرب الذي لا يتأخر عن الإنقاذ والعون، فتمتلئ نفس المؤمنين بالشجاعة والقوة. وهنا نرى الإيمان الذي يوبّخ اليأس!
في مرات كثيرة يقرع أحد أولاد مدرسة الأحد باب بيتنا الملحَق بالكنيسة. وعندما نتأخر قليلاً يمضي لأنه لم يقدر أن ينتظر. إنه متعجّل! وكثيراً ما نفعل الشيء نفسه مع الله. فإن كنا نريد أن نأخذ بركة من الله فلننتظر الرب بصبر. طلب المسيح من التلاميذ أن يمكثوا في أورشليم، وينتظروا موعد الآب الذي سمعوه منه (أع 1: 4) فانتظروا عشرة أيام. ولم تكن تلك الأيام العشرة فترة انتظار ممل، ولا فترة انتظار جماعة من الكسالى لا يريدون أن يتحركوا، فقد استغل التلاميذ وقت الانتظار ليتقرّبوا من بعضهم البعض، ويتصالحوا معاً، ويستأصلوا العيوب من دواخلهم. كانوا في انتظار الرب ومجيء بركته، وهم يجهِّزون قلوبهم لاستقبالها.
أيها المؤمنون، صلوا وانتظروا بركة الرب. صلوا أكثر مما تتكلمون. صلوا أكثر مما تشتكون. صلوا باستمرار وفي كل وقت. انتظروا إلهكم الصالح ولا تتعجّلوا. انتظروا موعد الآب الذي سمعتموه منه فتقولوا بالشكر: »الرب نوري وخلاصي، ممن أخاف؟ الرب حصن حياتي، ممن أرتعب؟«.

اَلْمَزْمُورُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ
لِدَاوُدَ
1إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَصْرُخُ. يَا صَخْرَتِي، لاَ تَتَصَامَمْ مِنْ جِهَتِي، لِئَلاَّ تَسْكُتَ عَنِّي فَأُشْبِهَ الْهَابِطِينَ فِي الْجُبِّ. 2اسْتَمِعْ صَوْتَ تَضَرُّعِي إِذْ أَسْتَغِيثُ بِكَ، وَأَرْفَعُ يَدَيَّ إِلَى مِحْرَابِ قُدْسِكَ. 3لاَ تَجْذِبْنِي مَعَ الأَشْرَارِ، وَمَعَ فَعَلَةِ الإِثْمِ الْمُخَاطِبِينَ أَصْحَابَهُمْ بِالسَّلاَمِ، وَالشَّرُّ فِي قُلُوبِهِمْ. 4أَعْطِهِمْ حَسَبَ فِعْلِهِمْ وَحَسَبَ شَرِّ أَعْمَالِهِمْ. حَسَبَ صُنْعِ أَيْدِيهِمْ أَعْطِهِمْ. رُدَّ عَلَيْهِمْ مُعَامَلَتَهُمْ. 5لأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَبِهُوا إِلَى أَفْعَالِ الرَّبِّ وَلاَ إِلَى أَعْمَالِ يَدَيْهِ، يَهْدِمُهُمْ وَلاَ يَبْنِيهِمْ.
6مُبَارَكٌ الرَّبُّ لأَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ تَضَرُّعِي. 7الرَّبُّ عِزِّي وَتُرْسِي. عَلَيْهِ اتَّكَلَ قَلْبِي فَانْتَصَرْتُ. وَيَبْتَهِجُ قَلْبِي، وَبِأُغْنِيَتِي أَحْمَدُهُ. 8الرَّبُّ عِزٌّ لَهُمْ، وَحِصْنُ خَلاَصِ مَسِيحِهِ هُوَ. 9خَلِّصْ شَعْبَكَ، وَبَارِكْ مِيرَاثَكَ، وَارْعَهُم وَاحْمِلْهُم إِلَى الأَبَدِ.
صلاة
هذا المزمور صلاة، يبدأها المرنم بطلب إنقاذه من مصير الأشرار. ثم يشكر لأن الله استجاب صلاته، أو لأنه واثقٌ أن الله سيستجيبها، ويختم مزموره بالصلاة لأجل شعب الرب، لأنه يحس بوحدانية المؤمنين في كل مكان. وهذا يعلّمنا أن نُحسَّ ببعضنا، وأن نصلي لأجل بعض (يع 5: 16).
ولا نعرف بالضبط مناسبة كتابه هذا المزمور، ولكن الواضح أن المرنم كان يواجه خطراً كبيراً، ربما من وبإ رأى نفسه فيه يواجه الموت، وخشي أن يكون مصيره كمصير الأشرار، فطلب أن يحميه الرب بسبب تقواه، لأن عدالة الله تُهلك الشرير وتنقذ البار.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المصلي يطلب لنفسه (آيات 1-5)
ثانياً – المصلي يشكر الله (آيتا 6، 7)
ثالثاً – المصلي يطلب لشعب الله (آيتا 8، 9)

أولاً – المصلي يطلب لنفسه
(آيات 1-5)
لجأ المرنم إلى الرب لأنه يعرفه، فدعاه بثلاث صفات، ثم أطلق على نفسه ثلاث صفات، وعبَّر عن احتياجاته بأربع طرق، وطلب من الله طلبتين:
1 – صفات إله المصلي:
(أ) هو السيد: »يا رب« (آية 1أ). هو السيد صاحب السلطان في السماء وعلى الأرض. وحده يستطيع كل شيء، وله كل الأمر. قد نشكو متاعبنا لغيرنا مئات المرات، فلا تزيد فائدة هذه الشكوى عن مجرد التفريج عن الذات، دون أية معونة حقيقية. لكن عندما نتوجَّه إلى الرب فإننا نكلم سيد المسكونة وسيد حياتنا، الذي قَلْب الملك في يده كجداول مياه، حيثما شاء يُميله (أم 21: 1).
(ب) هو الصخرة: »يا صخرتي« (آية 1ب). لا تغيير عنده ولا ظل دوران. سلطانه أبدي إلى أبد الدهور. قويٌّ ثابت. ليس هو رمالاً متسيّبة، لكنه صخرٌ يظلِّل من يحتمون به: »ويكون إنسانٌ كمخبإٍ من الريح، وستارةٍ من السيل. كسواقي ماءٍ في مكان يابس. كظل صخرةٍ عظيمة في أرض مُعيية« (إش 32: 2).
(ج) هو القدوس: »أرفع يديَّ إلى محراب قدسك« (آية 2ج). قدوس يسكن الأقداس، ساكن في نور لا يُدنى منه (1تي 6: 16). لا يتصرف تصرفاً خاطئاً، ويبقى أميناً، لن يقدر أن ينكر نفسه
(2تي 2: 13). وكلمة »محراب« معرَّبة، فهي حبشية الأصل، ومعناها »هيكل«. والمرنم يرفع يديه إلى هيكل الرب المقدس، حيث تابوت العهد، رمز حضور الله وسط شعبه.
2 – صفات المصلي:
(أ) مُنْتمٍ: يدعو الله »يا صخرتي« (آية 1ب). هناك صلة شخصية بينه وبين الرب، فيدعوه واثقاً لأنه للرب، ولأن الرب له »حبيبي لي وأنا له« (نش 2: 16). ولم يكن هذا الخائف وحيداً، لأن الله تبنَّاه، فيقول لإخوته بفرح: »انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعي أولاد الله!« (1يو 1: 3). أنت لا تتطفَّل على الله عندما تصرخ وتستغيث، لأن هذا حقُّك الطبيعي كابنٍ له، تسمعه يدعوك: »اطلبوا وجهي« فتجيب: »وجهك يا رب أطلب« (مز 27: 8).
(ب) منتظِر: »يا صخرتي لا تتصامم من جهتي« (آية 1ب). يعلم أن الله صخرته، وأنه ليس أصماً، فيطلب واثقاً أن لا يتصامم الرب من جهته، فالخطية وحدها هي التي تجعـل أذن الله تثقـل ولا تسمع (إش 59: 1) ولهذا ينتظر الاستجابة. وبالطبع لا يجرؤ مؤمن أن يقول لله: »لا تتصامم« إلا إن كان في شدة التعب، وإلا إن كان يعلم أنه يعاتب أباً يحبه ويهتم به، ولا يمكن أن يتركه، »لئلا أشبه الهابطين في الجب«.
(ج) خائف: »أصرخ.. لئلا تسكت عني فأشبه الهابطين في الجب.. أستغيث« (آيتا 1ج، 2ب). إنه خائف من أن يعيره الله أذناً صمّاء، وخائفٌ من أن يهبط إلى جب القبر والهاوية. الأغلب أنه يرى الناس من حوله يتساقطون ضحايا الوبإ، فخاف من ذات المصير. كان هناك ما يهدّده، فاحتاج أن يسمع من الرب كلمة التشجيع: »أنا هو. لا تخافوا« (مت 14: 27 ومر 6: 50 ويو 6: 20).
3 – تعبير المصلي عن نفسه:
(أ) صرخ: »أصرخ« (آية 1أ). المستريح يتكلم، ولكن المتعَب يصرخ، فالصراخ دليل على التعب الكثير، وهو يعني العجز، ونحن نصرخ عادةً عندما يفشل منطقنا، وعندما نعجز عن تحليل الأمور ومعرفة الأسباب، وعندما نعجز عن مساعدة أنفسنا. كما أن الصراخ يعني اللجوء إلى الأقوى والاعتماد عليه، فكما يصرخ الطفل طالباً عون أمه يصرخ المخلوق لخالقه، ويصرخ الخاطئ لمخلّصه.. وكلها صرخة الضعيف المستجير بالقادر.
(ب) تضرّع: »استمِع إلى صوت تضرعي« (آية 2أ). والتضرع علامة التذلُّل والخضوع لله، مع الشعور بعدم الاستحقاق. إنه علامة الاحتياج الذي لا يسدّه إلا من نتضرع إليه، ونحن لا نشاء أن نرفع عيوننا نحو السماء، فيقرع كلٌّ منا صدره ويقول: »اللهم ارحمني أنا الخاطي« (لو 18: 13).
(ج) استغاث: »أستغيث بك« (آية 2ب). والاستغاثة تعني أن الخطر مُحدقٌ بالإنسان، ولا طاقة له بالنجاة منه. إنه يغرق فيستغيث طالباً النجدة. الكارثة الآتية كبيرة، وهو يحس أمامها بالعجز من داخله ومن خارجه، فيستغيث. كما أن الاستغاثة تعني الثقة، فهو يستغيث بمن يقدر أن يعينه ولا يخيِّب أمله.
(د) رفع يديه: »أرفع يديَّ إلى محراب قدسك« (آية 2ج). ورفع اليدين يعني رفع القلب في الصلاة، وأن الإنسان متَّجه إلى فوق، وقد نفض يديه من الاعتماد على نفسه، وأنه مشغولٌ بالرب فقط، ومستيقظٌ ينتظر العون الإلهي الآتي. عندما كان بنو إسرائيل يحاربون عماليق، رفع موسى يديه إلى أعلى مصلّياً. وكان شعب الله ينتصر طالما كانت يداه مرفوعتين. وعندما كان يُنزل يديه كان عماليق ينتصر. ولما تعبت ذراعا موسى أجلسوه على حجر، ودعَّم هارون وحور يديه لتكونا مرفوعتين لله باستمرار لينتصر الشعب (خر 17: 11-13). وعندما بنى سليمان هيكل الرب صلى من أجل البركة و»رفع يديه نحو السماء« (1مل 8: 22).
فلنرفع إلى عرش الله يدين فارغتين محتاجتين للملء من عنده، تطلبان عونه، عالمين أنه لا يخيِّب صارخاً متضرعاً مستغيثاً به.
4 – طلبات المصلي:
(أ) طلب أن ينجو من مصير الأشرار: »لا تجذبني مع الأشرار ومع فعلة الإثم المخاطبين أصحابهم بالسلام، والشرُّ في قلوبهم« (آية 3). يجذب الله الأشرار إلى جُبّ القبر والهلاك كما يجذب السيّاف المجرمين إلى الإعدام، فمصيرهم هو البوار. إنهم كحجرٍ ساقط إلى الأرض. ولا يريد المرنم أن يلقَى ذات المصير لأنه مختلف عنهم، فيدعو: »لا تجمع مع الخطاة نفسي، ولا مع رجال الدماء حياتي« (مز 26: 9). يصفهم بأنهم »أشرار« بمعنى أنهم تعدّوا الحدود التي رسمها الله لهم. ويدعوهم »فعَلة الإثم« بمعنىأن سلوكهم أعوج لا استقامة فيه. ويقول إنهم منافقون مراؤون »يخاطبون أصحابهم بالسلام، والشرّ في قلوبهم«. قلوبهم شريرة، وأفعالهم شريرة، وألسنتهم شريرة، فلن يكون مصيره نفس مصيرهم!
(ب) طلب توقيع الجزاء على الأشرار: »أعطِهم حسب فعلهم، وحسب شر أعمالهم. حسب صنع أيديهم أعطهم. رُدّ عليهم معاملتهم« (آية 4). قد لا تكون هذه الطلبة انتقامية، بل صلاة للقاضي العادل ليحقِّق عدالته الإلهية بمعاقبة الشرير حسب فِعله، وتوقيع العقاب على من يستحقّونه من أصحاب القلوب الشريرة والأفعال الشريرة والألسنة الشريرة. إن العقل والضمير والإعلان الإلهي يعلّموننا أن الله لا بد سيعاقب الشرير، وهذا ما يطلبه المرنم هنا، فالله »لا يُشمخ عليه، فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً« (غل 6: 7). غير أن هذه الطلبة لا تتوافق مع روح المسيح الذي يدعو الخطاة للتوبة والرجوع عن شرورهم ليحيوا.
وذكر المرنم لماذا يطلب توقيع الجزاء على هؤلاء الأشرار، فقال: »لأنهم لم ينتبهوا إلى أفعال الرب ولا إلى أعمال يديه، يهدمهم ولا يبنيهم« (آية 5). لا يقول: وقِّعِ العقابَ عليهم لأنهم أساءوا إليَّ، بل: وقِّعْهُ لأنهم لم ينتبهوا إلى أعمالك يا رب، وكنتيجة طبيعية لذلك يسقطون ويُهدَمون ولا يمكن أن يُبنَوا. عندما يسقط حجر من أعلى لا بد أن يصل إلى الأرض ويتفتّت. هذا قانون الجاذبية. وعندما ينفصل الإنسان عن الله يصبح بلا بناء ولا حراسة، ولا بد أن يُهدم ولا تقوم له قائمة. »إن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون. إن لم يحفظ الرب المدينة فباطلاً يسهر الحارس« (مز 127: 1).
ثانياً – المصلي يشكر الله
(آيتا 6، 7)
ربما كتب المرنم هاتين الآيتين بعد أن استجاب الله له، فالشكر يجب أن يتبع الطلب المستجاب. وربما رفع الشكر قبل أن ينال الاستجابة لأنه يثق أنها آتية لا شك فيها، فشكر عليها من قبل أن يُجاب الطلب!
1 – شكر على استجابة: »مبارك الرب لأنه سمع صوت تضرُّعي« (آية 6). »باركي يا نفسي الرب وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس« (مز 103: 1). يعطي الله المصلي أحياناً ما يطلبه، لكنه غالباً يعطيه أكثر وأفضل جداً مما يطلب أو يفتكر. وفي الصلاة يشفع الروح القدس فينا لأننا لا نعرف ما نصلي لأجله كما ينبغي، فيصلي الروح القدس فينا لتكون طلباتنا أفضل، ولتكون استجابتها بطريقة أنسب (رو 8: 26). ولا بد من الاعتراف بفضل صاحب الفضل وتقديم الشكر له.
2 – شكر على العون الماضي: »الرب عزّي وتُرسي. عليه اتكل قلبي فانتصرت« (آية 7أ). العز هو القوة. والرب هو قوة المؤمن كما أنه مصدر قوته. يقويه بشخصه كما يقويه بعطاياه. يقويه في داخله تحقيقاً للوعد: »ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم« (أع 1: 8) فيتمكن من احتمال التجارب والآلام وينتصر على تجارب الشرور. وأنت تجد المؤمنين الذين يعيشون داخل التجربة أقوى من الذين يشاهدونهم من الخارج، كما حدث مع الفتية الثلاثة في أتون النار (دا 3: 25).
ويقول المرنم: »الرب ترسي« وهذه هي القوة الخارجية. والترس هو قطعة خشب مغطاة بالجلد، يمسك بها المحارب ليتلقّى عليها السهام. قد يرسل الله لنا إنساناً ليدافع عنا. وقد يذكّرنا وقت الشدة بكلمات تشجيعية نكون قد تغافلنا عنها أو نسيناها، تعيننا في تجربتنا. وهناك دوماً ترس الإيمان الذي به نستطيع أن نطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة (أف 6: 16). نعم، هناك دفاع ضد كل عدو، وفي مواجهة كل تجربة، لأن في محبة الله للمؤمن عزاً وترساً.
3 – شكر على العون الآتي: »يبتهج قلبي، وبأغنيتي أحمده« (آية 7ب). يبتهج القلب ويظل مبتهجاً لأن الرب استجاب، وسيظل يستجيب، فيحمده المؤمن على ما أتى وعلى ما سيأتي. لقد ضَمِن الله الماضي، وهو ضامن الحاضر والمستقبل أيضاً.
مستقبـلي في يــدك مُؤمَّن لي عنــــــدك
على الآتي أشكرك ففيــــك ثقتــي
ثالثاً – المصلّي يطلب لشعب الله
(آيتا 8، 9)
بعد أن صلى المرنم لأجل نفسه، صلى لأجل شعب الرب وهذا ما يجب أن نفعله دائماً، عملاً بالوصية الرسولية: »صلّوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشفَوا« (يع 5: 16). وفي هاتين الآيتين نرى أمرين:
1 – ثقة المرنم في الرب: »الرب عزٌّ لهم، وحصن خلاص مسيحه هو« (آية 8). الرب عزٌّ لشعبه بمعنى أنه قوتهم، كما كان عزاً وترساً للمرنم (آية 7). هذه حقيقة لا جدال فيها، فقوة الله تساعد شعبه وتذل العدو، وتخلّص المؤمنين وتدمر الخطاة، وهي تنال إعجابنا دائماً. »الرب يعطي عزاً لشعبه. الرب يبارك شعبه بالسلام« (مز 29: 11). فيقول له شعبه: »يا رب، تراءف علينا. إياك انتظرنا. كن عضُدهم في الغَدَوات، خلاصنا أيضاً في وقت الشدة« (إش 33: 2). والرب حِصن مسيحه الذي قد يكون الملك الذي مسحه ملكاً على شعبه، وقد يكون الكاهن الذي مسحه ليكلم الشعب عن الرب ويكلم الرب عن الشعب، وقد يكون نبياً يأتي برسالة خاصة من الله للشعب. فهو يعضد الملك والكاهن وكل من يكلفه بخدمته ويحفظهم.
2 – طلبات المرنم: »خلِّص شعبك وبارك ميراثك، وارعهم واحملهم إلى الأبد« (آية 9). وفي هذه الآية أربع طلبات:
(أ) »خلِّص شعبك«: جـاءت كلمـة »خلِّـص« فـي الأصـل العبـري بصيغـة التوكيد، فالمرنـم يطلـب للشعب الخلاص الكامل من المرض بالصحة (لو 8: 36)، ومن الجوع بالشبع (مز 36: 6)، ومن الأعداء بالنجاة (مز 27: 1-3)، ومن الخطية بالغفران (لو 19: 10)، ثم بالتقديس (في 2: 12، 13). وعندما تنتهي حياة المؤمن على الأرض يكمِّل الله خلاصه بدخول المؤمـن إلى فرح سيده (رو 13: 11). ويطلب المرنم هذه الطلبة لشعب الرب واثقاً في الاستجابة، لأنهم »شعبك«. وهذه حُجَّة يسوقها المرنم لتعزيز طلبه، لأنه يعلم أن الرب يهتم برعيته لأنه الراعي الصالح.
(ب) »بارِك ميراثك«: يطلب البركة بكل ما تعنيه من سداد الأعواز المادية والروحية والفكرية والاجتماعية والعاطفية، لأنهم »ميراثه« الأعزّاء عليه، المرتفعو القيمة في عينيه، الذين لا يمكن أن يستبدلهم بغيرهم!
(ج) »ارعهم«: »يا راعي إسرائيل اصغ، يا قائد يوسف كالضأن. يا جالساً على الكروبيم أشرق« (مز 80: 1). »كراعٍ يرعى قطيعه. بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها، ويقود المرضعات« (إش 40: 11). إنه يرعى كل الأعمار، ويغطي مختلف الاحتياجات. »كنت فتى وقد شختُ، ولم أرَ صدِّيقاً تُخُلي عنه ولا ذرية له تلتمس خبزاً« (مز 37: 25).
(د) »احمِلهم إلى الأبد«: لقد حمل الله شعبه في صحراء سيناء حتى بلغوا أرض الموعد، فقال موسى للشعب: »في البرية حيث رأيتَ كيف حملك الرب إلهُك، كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق التي سلكتموها، حتى جئتم إلى هذا المكان« (تث 1: 31). عرف الله جبلتهم وعجزهم، فعبر بهم برية الجوع والعطش والخطر، فتمَّ معهم القول: »كما يحرّك النسر عشّه وعلى فراخه يرفّ، ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على مناكبه. هكذا الرب« (تث 32: 11، 12أ). والفكرة مأخوذة مما يفعله النسر عندما يريد أن يعلّم صغاره الطيران، فإنه يهزّ العش، فتقفز الفراخ الصغيرة في الهواء وتتعرض للخطر، لأنها لا تعرف الطيران، فيسرع بجناحيه الكبيرين ليحملها لئلا تسقط، ويعيدها إلى العش، ثم يعيد الكرَّة حتى تتعلم الطيران. والله يدرّبنا لنطير، ولكنه لا يعرّضنا للخطر بأن يحملنا. »في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلّصهم. بمحبته ورأفته هو فكّهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة« (إش 63: 9).
دعونا نطلب هذه الطلبات الأربع لنا ولكل شعب الرب: خلّص، بارك، ارعَ، احمِل، لأننا شعبك وميراثك الأعزاء عليك.
اَلْمَزْمُورُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1قَدِّمُوا لِلرَّبِّ يَا أَبْنَاءَ اللهِ، قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْداً وَعِزّاً. 2قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْدَ اسْمِهِ. اسْجُدُوا لِلرَّبِّ فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ.
3صَوْتُ الرَّبِّ عَلَى الْمِيَاهِ. إِلَهُ الْمَجْدِ أَرْعَدَ. الرَّبُّ فَوْقَ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ. 4صَوْتُ الرَّبِّ بِالْقُوَّةِ. صَوْتُ الرَّبِّ بِالْجَلاَلِ. 5صَوْتُ الرَّبِّ مُكَسِّرُ الأَرْزِ، وَيُكَسِّرُ الرَّبُّ أَرْزَ لُبْنَانَ، 6وَيُمْرِحُهَا مِثْلَ عِجْلٍ. لُبْنَانَ وَسِرْيُونَ مِثْلَ فَرِيرِ الْبَقَرِ الْوَحْشِيِّ. 7صَوْتُ الرَّبِّ يَقْدَحُ لُهُبَ نَارٍ. 8صَوْتُ الرَّبِّ يُزَلْزِلُ الْبَرِّيَّةَ. يُزَلْزِلُ الرَّبُّ بَرِيَّةَ قَادِشَ. 9صَوْتُ الرَّبِّ يُوَلِّدُ الإِيَّلَ، وَيَكْشِفُ الْوُعُورَ، وَفِي هَيْكَلِهِ الْكُلُّ قَائِلٌ: «مَجْدٌ». 10الرَّبُّ بِالطُّوفَانِ جَلَسَ، وَيَجْلِسُ الرَّبُّ مَلِكاً إِلَى الأَبَدِ. 11الرَّبُّ يُعْطِي عِزّاً لِشَعْبِهِ. الرَّبُّ يُبَارِكُ شَعْبَهُ بِالسَّلاَمِ.
صوت الرب
يُطلَق على هذا المزمور عنوان »صوت الرب« لأنه تعبيرٌ تكرر فيه سبع مرات، مرة في كلٍّ من آيات 3، 5، 7، 8، 9، ومرتان في آية 4. ورقم سبعة هو عدد الكمال. فإن كان عالِم الطبيعة يرى في العاصفة الرعدية ظاهرة طبيعية، ويرى فيها الإنسان العادي القوة الجبارة، إلا أن المؤمن يرى فيها صوت الله »أعطى صوته بَرَداً وجمر نار« (مز 18: 13). كما يرمز الرعد لعقاب الله، كما قالت حنة في صلاتها: »مخاصمو الرب ينكسرون. من السماء يرعد عليهم« (1صم 2: 10). يصف هذا المزمور عاصفة رعدية، قادمة من شمال البلاد، تكتسح أمامها كل الأرض، إلى أن تصل إلى صحراء قادش في الجنوب تاركةً وراءها الخراب والدمار. وربما كُتب هذا المزمور لما طلب بنو إسرائيل ملكاً يملك عليهم، فكان شاول. ولكن صموئيل النبي لم يكن راضياً بهذا، وقال للشعب إنهم ارتكبوا خطأً كبيراً بطلب ملكٍ لأن ملكهم الحقيقي هو الله. ولعله مضى يقول إن البلاد لم تتعوَّد أن تجيء عليها عواصـف رعدية في شهر مايو (أيار)، شهر الحصاد. لكن ليدرك الشعب مقدار غضب الله عليهم، ستجيء عاصفة رعدية مرعبة في هذا الوقت من السنة، ليدركوا أن الله غير راضٍ عنهم (1صم 12: 17، 18). وجاءت العواصف والبروق والرعود، فارتعب الشعب رعباً شديداً، واعترفوا بأنهم أخطأوا في ما طلبوا. ولعل داود تذكر تلك العاصفة الرعدية التي جاءت في غير موسمها، فوصفها بهذا الوصف الرائع، لأنه يرى الله من وراء كل أمر، ويفسِّر كل ظاهرة طبيعية وغير طبيعية على أنها تدخُّل إلهي، فالله هو الملك صاحب السلطان. فإن جاءت العاصفة فهي »صوت الرب على المياه« (آية 3). وإن جاء الرعد فإن »إله المجد أرعد« (آية 3). وإن جاء البرق فإن »صوت الرب يقدح لهُب نار« (آية 7) وإن جاء الطوفان فإن »الرب بالطوفان جلس ويجلس ملكاً إلى الأبد« (آية 10) فالله هو الملك القوي. ولئن كان صوته العالي المرتفع يزعج البعيدين عنه، إلا أنه يطمئن أولاده. وإن جاء صوت الرب كما جاء إلى إيليا، منخفضاً خفيفاً، فإن المؤمن أيضاً يسكن مطمئناً: »لأنك أنت يا رب منفرداً في طمأنينة تسكنني« (مز 4: 8). ينام الطفل في غرفة مجاورة لغرفة والديه، وعندما يبكي يجيئه صوت أبيه أو أمه من الغرفة الأخرى، فيطمئن وينام.
عندما نقرأ مزمور 8 ليلاً والسماء تتلألأ بالنجوم نقول: »إذا أرى سماواتك عمل أصابعك، القمر والنجوم التي كوَّنتها، فمَن هو الإنسان حتى تذكره، وابن آدم حتى تفتقده؟« (مز 8: 3، 4). وعندما نقرأ مزمور 19 نهاراً والشمس في كبد السماء، نقول: »جعل للشمس مسكناً فيها، وهي مثل العريس الخارج من حَجَلته، يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق. من أقصى السماوات خروجها، ومدارها إلى أقاصيها ولا شيء يختفي من حرِّها« (مز 19: 4-6). وعندما نقرأ مزمور 29 وقت ثورة الطبيعة وعاصفتها الرعدية نرى إلهنا القوي من خلف هذه كلها، يقول لنا: اطمئنوا »ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر« (مت 28: 20).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – دعوة لأبناء الله (آيتا 1، 2)
ثانياً – صوت الرب في العاصفة (آيات 3-9)
ثالثاً – الرب القدير يبارك شعبه (آيتا 10، 11)
أولاً – دعوة لأبناء الله
(آيتا 1، 2)
1 – المدعوُّون: في أول المزمور يرفع داود أفكارنا من الأرض إلى السماء، فينادي »أبناء الله« ليمجدوا الله. وقد يكون المدعوون عظماء الأرض وحكام الدول، أو قد يكونون الملائكة الواقفين أمام العرش. يدعوهم ليسبِّحوا الله المجيد القوي، الذي يُظهر مجده وقوته في العاصفة والبرق والرعد والمطر المنهمر. ويقول لهم ثلاث مرات: »قدموا للرب« (آية 1، 2أ). فليرفعوا أعينهم إلى العلاء وينظروا. إنه يوجِّه أبصارهم في كل موقف إلى الله، لأن العالم من حولهم يوجِّههم إلى الأرضيات، وكذلك يفعل إبليس، الذي لم يخجل أن يجرِّب المسيح بثلاث تجارب ليحوِّل عينيه عن خطة الله، فقال له: »قُلْ أن تصير هذه الحجارة خبزاً« وكانت أحجار المكان مستديرة كالرغيف تذكّر الجائع بالخبز وهو يريده أن يهتم بحاجة جسده. لكن المسيح نظر إلى أعلى وقال: »ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله« (مت 4: 3، 4). وهكذا فليفعل من يحبون الله.

2 – ما يقدِّمه المدعوون:
(أ) »قدِّموا للرب مجداً وعزاً« (آية 1ب). العز هو القوة. فهل يحتاج الرب أن نقدم له مجداً، أو عزّاً؟ لا! لكنه يقصد أن نقدم في حياتنا ما يُظهر قوة الله العاملة فينا.. ماذا يعرف العالم عن قوة الله إن رأى »أبناء الله« مهزومين أمام الخطية والقلق؟ ألا يظن أن إله الضعفاء لا بد يكون ضعيفاً، لأنه لو كان قوياً لأنقذهم؟! إذاً لنقدِّم للرب مجداً وعزاً، ولنحيَ الحياة المنتصرة ليرى الناس قوة الله فينا.
(ب) »قدموا للرب مجد اسمه« (آية 2أ). وتقديم المجد للرب يعني استخدام العقل والقلب واليد واللسان في تمجيده. و»مجد اسمه« هو ما يعلن به ذاته للعالم، في الطبيعة وفي الكلمة المقدسة، وفوق الكل في »الكلمة« الحي المتجسِّد. في القرن المسيحي الأول كانوا يقولون: انظر كيف يحب المسيحيون بعضهم! وهذا إعلان للعالم عن محبتهم لله الظاهرة في محبتهم لأولاده (1يو 5: 1). فلنقدِّم للرب مجد اسمه بأن نُظهر حبه وغفرانه وقوته غير المحدودة في سلوكنا، ونحن نصلي: »لأن لك الملك والقوة والمجد« (مت 6: 13). هذا يعني أنك تُظهر يسوع الملك للعالم بتمجيد اسمه في سلوكك، فيستخدمك ليُرِي العالمَ قوته بقوة سلامه فيك. وعندما تجوز ظروفاً صعبة يجدون قوة نعمته العاملة فيك فيمجدون أباك الذي في السماوات (مت 5: 16) وهم يرون فيك مثالاً للحياة التي غيَّرتها النعمة.
(ج) »اسجدوا للرب في زينة مقدسة« (آية 2ب). فلتكن حياتنا مقدسة ونحن نعبد الرب كلي القداسة. لتكن القداسة زينتنا. »قدِّموا للرب يا قبائل الشعوب، قدموا للرب مجداً وقوة.. اسجدوا للرب في زينة مقدسة« (مز 96: 6-9). خاطب الرسول بطرس النساء عن »زينة الروح الوديع الهادئ، الذي هو قدام الله كثيرُ الثمن« (1بط 4: 3). نحضر كنائسنا في ملابس مناسبة، لنكون في زينة خارجية، ولا بد أن نكون في زينة داخلية مناسبة للسجود، هي زينة القداسة فتظهر نعمة الله على وجوهنا. وعندما نجلس حول مائدة العشاء الرباني نكون في زينة مقدسة، تتوهَّج قلوبنا فرحاً لأننا ضيوف الله الذي يدعونا: »خذوا كلوا هذا هو جسدي« (مت 26: 26). عندها يكون »فرح الرب هو قوتكم« (نح 8: 10). فلتكن على وجوهنا ابتسامة، وليظهر علينا جلال التعبُّد. وليكن في قلوبنا شكر لأن نعمة المسيح افتقدتنا وخلصتنا وغيّرتنا وجعلتنا خليقة جديدة.
ثانياً – صوت الرب في العاصفة
(آيات 3-9)
يصف المرنم العاصفة الرعدية قادمةً من بعيد (آيتا 3، 4)، ثم يصفها وقد وصلت في قوتها الهائلة تحطم أشجار الأرز وتهزّ الجبال (آيات 5-7)، وأخيراً يصفها وقد انتهت في الجنوب، في برية قادش (آيتا 8، 9).
1 – العاصفة الرعدية تبدأ، قادمةً من بعيد: (آيتا 3، 4).
أعلنت العاصفة أن الرب يتكلم فيها: »صوت الرب على المياه« (آية 3أ). تتحرك السحب القاتمة في السماء كما تتحرك مياه البحار على الأرض لأن العاصفة قادمة. »إذ أعطى قولاً تكون كثرة مياه في السماوات، ويُصعِد السحاب من أقاصي الأرض« (إر 10: 13). »إله المجد أرعد« (آية 3ب) فقد بدأت الرعود. لكن المرنم يرى أن الله من وراء هذا كله. إنه فوق السحب. »الرب فوق المياه الكثيرة« (آية 3ج). سينزل مطر غزير لكن الله أعلى من هذا كله. »صوت الرب بالقوة. صوت الرب بالجلال« (آية 4). لقد وصلت العاصفة الرعدية إلى البلاد بكل جلال القوة! ويشير صوت الله إلى حضوره، وعمله، وقوانينه، وقوته. حيث صوته هناك سلطان وعمل. قال موسى عن الوصايا العشر: »فكلَّمكم الرب من وسط النار وأنتم سامعون صوت كلام ولكن لم تروا صورة بل صوتاً.. من وسط النار والسحاب والضباب وصوت عظيم« (تث 4: 12 و5: 22). »وبينما كان صموئيل يُصعِد المحرقة تقدَّم الفلسطينيون لمحاربة إسرائيل، فأرعد الرب بصوت عظيم.. وأزعجهم فانكسروا« (1صم 7: 10). أما صوت الروح القدس فيبكت العالم على ارتكاب الخطية، وعلى نقص البر، وعلى رعب وقوع الدينونة الآتية على كل من يرفض خلاص المسيح، فيقود الناس إلى التوبة (يو 16: 8).
2 – العاصفة الرعدية وآثار قوتها الهائلة: (آيات 5-7).
(أ) تأثيرها على أقوى الأشجار: »صوت الرب مكسِّر الأَرز، ويكسِّر الرب أَرز لبنان، ويُمرِحها مثل عِجْلٍ« (آيتا 5، 6أ). من المعروف أن أَرز لبنان من أقوى الأشجار وأثبتها، فهي »أرز لبنان العالي« (إش 2: 13). لكن العاصفة الرعدية كانت قوية بدرجة اقتلعت تلك الأشجار الضخمة العالية من جذورها وأسقطتها »مثل عِجْل« ممدَّد يتمرغ على العشب الأخضر.
(ب) تأثيرها على أعلى الجبال: »لبنان وسريون مثل فرير البقر الوحشي« (آية 6ب). لبنان وسريون هما الجبلان الرئيسيان في فلسطين. و»سريون« هو جبل الشيخ الشامخ الأبيض بثلوجه لكن العاصفة العاتية جعلته يثب كفرير البقر الوحشي (بمعنى صغير البقر الوحشي). لم يعد للثابت الشامخ ثبوت، لأنه ارتعب أمام وجه الرب.
(ج) تأثيرها على كل الأرض: »صوت الرب يقدح لهُب نار« (آية 7). هذا وصف للبرق. ويقول العلماء إن له قوة إضاءة تفوق قوة الشمس، وإنه يعطي من الحرارة ما يكفي للحام المعادن، ويمكنه أن يصيب أضخم الحيوانات بالشلل، كما أنه أقوى من قوة المغناطيسية الأرضية. وما أعظم قوة صوت نعمة الله التي ظهرت مخلِّصةً لجميع الناس، معلِّمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية، وأن نعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر، منتظرين مجيء المسيح ثانيةً (تي 2: 10-13). قال الواعظ العظيم سبرجن إن تصوير البرق الذي »يقدح لهب نار« يُذكّرنا بيوم الخمسين عندما حلت على التلاميذ ألسنةٌ منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم (أع 2: 2، 3)، وبدأ الناس يتطلعون إلى الوجوه الغريبة التي كانت خائفة وقد ملأها الاطمئنان، والتي كانت مختبئة فوقفت في العلَن تعلن بقوة أن يسوع المسيح قد قام، فانكسرت قلوب سامعيهم القاسية وخشعت، وخلص نحو ثلاثة آلاف نفس. كان الخطاة يقفون أمام الله في تحدٍّ، ثم جاءت قوة الروح القدس، فاستسلمت القلوب القاسية، وانحنت أمامه في خضوع.
3 – العاصفة الرعدية تبلغ نهايتها: (آيتا 8، 9).
(أ) تأثيرها على الصحراء: »صوت الرب يزلزل البرية. يزلزل الرب برية قادش« (آية 8). مضت العاصفة إلى أقصى حدود البلاد الجنوبية، إلى صحراء قادش، بالقرب من أدوم، وانتهت فاعليتها بالنسبة لمكان سكن المرنم، ولكن فعلها في الجنوب كان أيضاً عظيماً.
(ب) تأثيرها على الحيوان: »صوت الرب يولّد الإيَّل« (آية 9أ). من المعروف أن الأيائل سريعة الجري، شديدة الخوف، صعبة الولادة. وعندما جاءت العاصفة القوية خافت الغزلان وارتعبت وجرت بأقصى طاقتها، وفي جريها ورعبها ولدت قبل الأوان.
(ج) تأثيرها على الوعور: »صوت الرب.. يكشف الوعور« (آية 9ب). جاءت العاصفة على الوعور، وهي غابات الأشجار البرية، فأزاحت شجيراتها بعيداً، فظهرت الصخور الوعرة من تحتها. وفي العالم الروحي كشف صوتُ الله آدمَ الذي عرَّته الخطية، والذي لم يكن قادراً على ستر نفسه، ثم ستره الله في محبته بفدائه وكفارته.
(د) تأثيرها على المؤمنين: »وفي هيكله الكل قائلٌ: مجد« (آية 9ج). هيكله هنا هو الطبيعة التي تحدِّث بمجده، وهيكله أيضاً هو كل السماء والأرض. لقد سكنت العاصفة بعد نزول المطر الغزير فهتف الكل يمجدونه. انتقل داود من التفكير في خيمة الاجتماع، ومن القدس وقدس الأقداس، إلى هيكل أكبر وأشمل: إلى الأرض كلها »والكل قائل مجد« للقوي صاحب السلطان. لقد بنى الله هيكل الطبيعة والكون الذي يمجده، والذي يدعونا نحن أيضاً لنمجده.
ثالثاً – الرب القدير يبارك شعبه
(آيتا 10، 11)
1 – يباركهم بعمله المُكمَل: »الرب بالطوفان جلس، ويجلس الرب ملكاً إلى الأبد« (آية 10). أعلن الله سلطانه بالعاصفة، وأكمل العمل وجلس، كما أكمل المسيح العمل الفدائي وصنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، ثم جلس عن يمين العظمة في الأعالي (عب 1: 3). وكلمة الطوفان المستعملة هنا لم ترِد إلا في سفر التكوين عن طوفان نوح (تك 6-11). »أما الرب فإلى الدهر يجلس. ثبَّت للقضاء كرسيه« (مز 9: 7). إنه الملك الأزلي الأبدي، الذي ليس لملكه نهاية. وحده صاحب السلطان الذي أرشد نوحاً أن يبني الفلك قبل مجيء الطوفان، ثم أرسل الطوفان، ثم سكّنه، ثم رسم قوس قزح في السماء. لا بد أن المرنم وهو يصف العاصفة العاتية تذكر رحمة الله على نوح ومن يؤمنون إيمانه، كما ذكر عقاب الله على من يعصونه. ورأى سلطان الله العظيم في الرحمة التي تنجّي والعدالة التي تعاقب. إن غضب الإنسان يحمده (مز 76: 10). »من الآكل خرج أكل ومن الجافي خرجت حلاوة« (قض 14: 14).
2 – يباركهم بالقوة: »الرب يعطي عزاً لشعبه« (آية 11أ). يقوي الرب شعبه وسط العاصفة المخيفة التي تكسِّر شجر أرز لبنان القوي وتلقيه على الأرض، والتي تجعل جبل الشيخ يقفز كالبقر الوحشي، فلا يعتريهم خوف ولا قلق، لأن المسيح يقول لهم: »لا تخَفْ أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سُرَّ أن يعطيكم الملكوت« (لو 12: 32). ويقول: »لا أترككم يتامى، إني آتي إليكم« (يو 14: 18). وقد أرسل لهم الروح القدس وحقَّق وعده: »ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً« (أع 1: 8). وهذه القوة ديناميكية فعالة تنصرنا على الخطية وتدفعنا لحياة الشهادة.
3 – يباركهم بالسلام: »الرب يبارك شعبه بالسلام« (آية 11ب). هذا الإله القدير الذي تسبحه الملائكة، والذي جلس ويجلس متسلطاً على كونه، لا يخاف من سلطانه إلا الخاطئ البعيد عنه، أما أبناؤه فيتمتَّعون بالسلام اعتماداً على قوته ومجده. فعندما تعترض طريقك مشكلة لا تعرف لها حلاً، ارفع وجهك إليه وقُل له: يا رب، سأنتظر حتى أرى كيف تحل هذه المشكلة، فيجيئك بطريقته الفريدة الرائعة لينقذك. هو الذي نجّى نوحاً من الطوفان، وموسى من فرعون، ودانيال من جُب الأسود، وبطرس من السجن. ولم يحدث مرة أن وقَفَت أمام أولاده مشكلةٌ بغير حل. ولم يحدث أبداً أنه ترك قطيعه الصغير، فهو دائماً على عرشه يهتم بكل واحد من أولاده. ونحن اليوم ندرك أن لنا سلام المسيح وسط أعنف العواصف، كما قال لتلاميذه في السفينة المعذبة من الأمواج وسط البحر: »أنا هو لا تخافوا« (مت 14: 22-33). وقال: »سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم.. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب« (يو 14: 27). وليس هذا السلام مستمَدّاً من الظروف، لكنه عطية إلهية بالرغم من الظروف، لأنه ثمر الروح القدس، الذي إن نلناه يكون لنا الوعد: »وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع« (في 4: 7).
اَلْمَزْمُورُ الثَّلاَثُونَ
مَزْمُورٌ أُغْنِيَةُ تَدْشِينِ الْبَيْتِ. لِدَاوُدَ
1أُعَظِّمُكَ يَا رَبُّ لأَنَّكَ نَشَلْتَنِي، وَلَمْ تُشْمِتْ بِي أَعْدَائِي. 2يَا رَبُّ إِلَهِي، اسْتَغَثْتُ بِكَ فَشَفَيْتَنِي. 3يَا رَبُّ، أَصْعَدْتَ مِنَ الْهَاوِيَةِ نَفْسِي. أَحْيَيْتَنِي مِنْ بَيْنِ الْهَابِطِينَ فِي الْجُبِّ. 4رَنِّمُوا لِلرَّبِّ يَا أَتْقِيَاءهُ، وَاحْمَدُوا ذِكْرَ قُدْسِهِ. 5لأَنَّ لِلَحْظَةٍ غَضَبَهُ. حَيَاةٌ فِي رِضَاهُ. عِنْدَ الْمَسَاءِ يَبِيتُ الْبُكَاءُ، وَفِي الصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ.
6وَأَنَا قُلْتُ فِي طُمَأْنِينَتِي: «لاَ أَتَزَعْزَعُ إِلَى الأَبَدِ». 7يَا رَبُّ، بِرِضَاكَ ثَبَّتَّ لِجَبَلِي عِزّاً. حَجَبْتَ وَجْهَكَ فَصِرْتُ مُرْتَاعاً. 8إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَصْرُخُ، وَإِلَى السَّيِّدِ أَتَضَرَّعُ. 9مَا الْفَائِدَةُ مِنْ دَمِي إِذَا نَزَلْتُ إِلَى الْحُفْرَةِ؟ هَلْ يَحْمَدُكَ التُّرَابُ؟ هَلْ يُخْبِرُ بِحَقِّكَ؟ 10اسْتَمِعْ يَا رَبُّ وَارْحَمْنِي. يَا رَبُّ، كُنْ مُعِيناً لِي. 11حَوَّلْتَ نَوْحِي إِلَى رَقْصٍ لِي. حَلَلْتَ مِسْحِي وَمَنْطَقْتَنِي فَرَحاً، 12لِكَيْ تَتَرَنَّمَ لَكَ رُوحِي وَلاَ تَسْكُتَ. يَا رَبُّ إِلَهِي، إِلَى الأَبَدِ أَحْمَدُكَ.
النائحون يرقصون
يرجع سبب كتابة هذا المزمور إلى قرار داود أن يُحصي بني إسرائيل (2صم 24 و1أي 21). وليس الإحصاء خطأً في حدّ ذاته، فقد أمر الله بإحصاء بني إسرائيل (خر 30: 12) وقام موسى بإحصاء الشعب ثلاث مرات على الأقل. لكن الخطأ كان كامناً في الهدف الذي من أجله أحصى داود شعبه. تُرى هل كان يريد أن يفتخر بكثرة شعبه؟ هل كان يريد أن ينشئ جيشاً أكبر عدداً وأقوى تسليحاً ليشنَّ حرباً جديدة؟ هل كان يريد أن يفرض ضريبة جديدة على الشعب؟
أياً كان الدافع، فلم يكن الإحصاء بحسب إرادة الرب. ورأى يوآب قائد الجيش خطأ الإحصاء، لا لسببٍ ديني، بل لأسباب سياسية وعسكرية، فهو رجل عسكري وسياسي. ربما خاف أن يثور الشعب على الملك، فحاول أن يمنع الإحصاء، لكن داود أصرَّ، فخرج يوآب ورجاله لتنفيذ الأمر. وعندما انتهى التعداد وعرف داود النتيجة، هاج عليه ضميره وقال: »أخطأت«. فجاءه جاد النبي يطالبه أن يختار إحدى ثلاث عقوبات: »إما ثلاث سنين جوع، أو ثلاثة أشهر هلاك أمام مضايقيك، أو ثلاثة أيام وبأ« (1أي 21: 12). (ملحوظة: جاء في 2صم 24: 13 أن عقوبة الجوع سبع سنين، لأن المؤرخ المقدس (بإرشاد الروح القدس) في سفر صموئيل الثاني أحصى 3 سنوات مجاعة جاءت على بني إسرائيل بسبب الجبعونيين، وثلاثاً أخرى هي الواردة هنا. وإلى أن يكون هناك حصاد لا بد أن تمضي سنة سابعة، وبذاك يصبح العدد سبع سنوات. فليس هناك تناقض بين قصة 2صم 24 و1أخ 21 بل هو جمع العقوبتين).
ووقف داود حائراً متألماً لا يدري أي عقوبة يختار. وأخيراً قال: »فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسان« (2صم 24: 14). ففي وقت الجوع يقع في يد التجار والمستوردين، وفي وقت الحرب يقع بين يدي الأعداء، أما في وقت المرض فإنه يقع في يد الرب!
وجاء الملاك المهلك يقتل. وبدأ القتل من الصباح إلى المساء حتى جاء موعد الذبيحة المسائية. وانكسر قلب داود وانسحقت روحه وهو يرى الملاك المهلك، فجعل يقول: يا رب، هذا الشعب لم يخطئ. إن كان لا بد من توقيع العقاب، فوقِّعه عليَّ أنا وعلى بيت أبي.
وعندما رأى الرب توبة داود أمر الملاك أن يتوقف عن إهلاك الشعب، فتوقَّف الوبأ عند بيدر أرنان اليبوسي. وقرر داود أن يقدم هناك محرقاتٍ وذبائحَ سلامة، فقدَّم أرنان لداود النورج للوقود والبقر للمحرقة والحنطة للتقدمة. لكن داود أصرَّ أن يدفع ثمن هذا كله، فصارت تلك الأرض فيما بعد الموقع الذي بُني عليه هيكل سليمان (1أي 21: 15-26). ومن هنا جاء عنوان مزمورنا »أغنية تدشين البيت« ففي ذلك اليوم قُدِّمت المحرقة التي سترت خطايا الشعب وخطايا داود، وفيه دُشِّن الموقع ليكون بيتاً للرب. ولذلك رتل بنو إسرائيل هذا المزمور يوم دشنوا الهيكل الثاني (عز 6: 16). كما اعتاد بنو إسرائيل أن يرتلوه عندما يدشنون بيوتهم.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – المرنم يشكر على النجاة (آيات 1-3)
ثانياً – المرنم يدعو الأتقياء للترنيم (آيتا 4، 5)
ثالثاً – المرنم يصحِّح مساره (آيتا 6، 7)
رابعاً – المرنم يطلب الرحمة (آيات 8-10)
خامساً – المرنم ينال الاستجابة (آيتا 11، 12)
أولاً – المرنم يشكر على النجاة
(آيات 1-3)
رأى داود الملاك المهلك والسيف مسلول في يده، واختبر رحمة الله، فشكر على النجاة. وذكر شيئين فعلهما هو، وخمسة أشياء فعلها الرب.
1 – ما فعله داود للرب:
(أ) عظَّم الرب: »أعظمك« (آية 1أ). قدَّم المجد لله وانحنى أمامه ساجداً وكأنه يقول: أنت هو الملك الحقيقي. على رأسي تاج أعطيته أنت لي. وكل ما عندي هو عطية من محبتك، وأنا أعيد المجد كله لك. كان تعظيم الرب موضوع ترنيم الشعب بعد الخروج (خر 15) وموضوع تسبيح الناجين من الموت القائلين: »يا رب أنت إلهي أعظمك. أحمد اسمك لأنك صنعت عجَباً« (إش 25: 1) وموضوع شكر العذراء المكرَّمة: »تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلّصي« (لو 1: 46، 47).
(ب) استغاث بالرب: »استغثتُ بك« (آية 2أ). اكتشف أن النِّعم بدون المنعم هي لا شيء، وأن العطايا بغير المعطي لا فائدة فيها، فاستغاث بالمنعم المعطي.

2 – ما فعله الرب لداود:
(أ) انتشله: »نشلتَني« (آية 1ب). والانتشال هو إخراج دلو من بئر، وهي نفس الكلمة العبرية المترجمة »استقى« (خر 2: 16، 19) كأن داود يقول: يا رب، أنت أنزلت دلواً في بئر ونشلتني. كنتُ غريقاً مائتاً وأنقذتني. كان في حفرة عميقة، كأنه في بئر أو جب أو قبر، فانتشله الرب.
(ب) لم يُشمِت به أعداءه: »لم تُشمت بي أعدائي« (آية 1ج). لو أن الأعداء سمعوا ما حدث له لشمتوا به وقالوا: أين إلهه؟ لقد وقَّع عليه العقوبة لأنه خاطئ. عندما مات الملك شاول، وبلغت أخبار ذلك الفلسطينيين في بلادهم قال داود: »لا تخبروا في جتّ. لا تبشروا في أسواق أشقلون، لئلا تفرح بنات الفلسطينيين، لئلا تشمت بنات الغُلف« (2صم 1: 20). وكانت »جت« العاصمة السياسية للفلسطينيين، وكانت »أشقلون« عاصمتهم الاقتصادية. وقد مات شاول بسبب العصيان، ولكن الله حفظ داود من شماتة الأعداء لأنه تاب.
(ج) شفاه: »شفيتني« (آية 2ب). عندما شفى الله الملك حزقيا قال: يا رب أنت نشلتني. شفيتني. أحييتني (إش 38: 16-19) وكأنه يقول: أنت لم تسقِطني في قبر لأن الذين في القبر لا يسبحونك. لكنك وهبتني الحياة، فأسبحك اليوم وأخبر عنك الجيل القادم. واختبار داود هو نفسه اختبار حزقيا.
(د) أصعده من الهاوية: «أصعدتَ من الهاوية نفسي« (آية 3أ). »أصعدني من جب الهلاك، من طين الحمأة« (مز 40: 2). »رفع المتَّضعين. أشبع الجياع خيرات« (لو 1: 52، 53). »يقيم المسكين من التراب. يرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الشرفاء، ويملِّكهم كرسيَّ المجد« (1صم 2: 8). رفعه كما رفع يوسف إذ أصعده من الجب وجعله رئيس وزراء مصر. وهو ينتشل المؤمن من حفرة الخطية وبالوعة اليأس وهاوية الخوف والقلق، فيقول: »ونحن أمواتٌ بالخطايا أحيانا مع المسيح.. وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات« (أف 2: 5، 6).
(هـ) أحياه: «أحييتني من بين الهابطين في الجب» (آية 3ب). كان يجب أن يهلك وينزل القبر. كان شبه ميت أو في عِداد الأموات، فوهبه الله الحياة. قال جيرمي تيلور: »الله رحيم وحكيم، فلا يسمح بكل هذا الألم أن يقع على القديسين إلا لأن يكون الألم مدرسة للفكر، ومشتلاً للفضيلة، وتدريباً للحكمة، وتمريناً على طول الأناة، وإعداداً لإكليل، وبوابةً للمجد«.
ثانياً – المرنم يدعو الأتقياء للترنيم
(آيتا 4، 5)
بعد أن شكر داود الرب، دعا كل الشعب ليشتركوا معه في الترتيل. لقد نجا كل أهل أورشليم فليغنّوا معه ترتيلة شكر.
1 – فكرة الترتيلة: »رنِّموا للرب يا أتقياءه، واحمدوا ذكر قدسه« (آية 4). في هذه الترتيلة حمدٌ لله على قداسته في ذاته وفي صفاته وفي أعماله، وفيها ذكرٌ دائم لتلك القداسة، وفيها إعلان الرغبة في طاعة الله المحب. على المؤمنين أن يذكروا دوماً أن الله قدوس. وعندما يخطئون يوقع عليهم العقاب للتنقية، كما قال المرنم: »قبل أن أُذلَّل أنا ضللت« (مز 119: 67). »تأديباً أدَّبني الرب وإلى الموت لم يسلمني« (مز 118: 18). هذا الإله القدوس يخلق فينا الرغبة لطاعته، والاستعداد لأن نعمل مشيئته الصالحة. وعندما نرتل نذكر قداسته ونحاول أن نتفق معها ونعدِّل تصرفاتنا لتتوافق معها، طاعة للأمر الإلهي: »تكونون قديسين لأني قدوس الرب إلهكم« (لا 19: 2) ولأمر المسيح: »كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل« (مت 5: 48).
2 – مناسبة الترتيلة: »لأن للحظة غضبه. حياةٌ في رضاه. عند المساء يبيت البكاء وفي الصباح ترنُّم« (آية 5). لذلك اختار داود أن يقع في يدي الرب، وأن تناله عقوبة ثلاثة أيام وبإ، ورفض أي عقاب آخر، فإن غضب الرب إلى لحظة. إنه يعلم أن ذنبه عظيم، لكن عفو الرب أعظم، لأنه رحيم ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان.. غافر الإثم والمعصية والخطية (خر 34: 6، 7). عند المساء يبيت البكاء، لكن الليل لن يطول، ولا بد أن يهزم نور النهار ظلام الليل، فيترنَّم الباكون شاكرين فرحين، وهم يختبرون تحقيق وعد الرب: »لحيظة تركتك. بمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبتُ وجهي عنك لحظة، وبإحسان أبدي أرحمك، قال وليُّك الرب« (إش 54: 7، 8). ويتم معهم وعد المسيح: »ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحوَّل إلى فرح« (يو 16: 20) فيقولون: »إذا سقطتُ أقوم. إذا جلستُ في الظلمة فالرب نور لي« (مي 7: 8).
ثالثاً – المرنم يصحِّح مساره
(آيتا 6، 7)
1 – الاتجاه الخاطئ: »أنا قلت في طمأنينتي لا أتزعزع إلى الأبد، يا رب برضاك ثبَّتَّ لجبلي عِزاً« (آيتا 6، 7أ). كان داود قد استولى على حصن صهيون من اليبوسيين، وهو موقع منيع جداً، مرتفع عن سطح البحر تسعمائة متر، واستولى على مدينة أورشليم المبنية على خمسة تلال صخرية قوية، وحصَّنها تحصينات كافية، فصارت موقعاً طبيعياً ممتازاً ذا تحصينات عسكرية كافية، فقال في طمأنينة المنتصر: »لا أتزعزع إلى الأبد«. لقد أعطاه الله المدينة الحصينة، وساعده على تحصينها. ويبدو أنه لما تمَّ له ذلك أخذ العطية ونسي المعطي. لعله ظن أنه قوي منيع بجيشه وهو يقف بين مملكتين عظيمتين، هما بابل في الشمال، ومصر في الجنوب.
2 – الاتجاه الصحيح: »حجبتَ وجهك فصرتُ مرتاعاً« (آية 7ب). والارتياع هو الرعب الكبير. تعلَّم داود بعد العقاب بالوبإ أن القوة والحماية هما من عند الله وحده، وأدرك من هو إلهه، وعرف قيمة نفسه وحجمها. كان يظن أن مصيره بيده، وكان يحسُّ أنه مطمئن، لكنه اكتشف أن طمأنينته هي بالرب وحده. أين المدينة الحصينة أمام الوبإ؟ أين التحصينات العسكرية؟ أين الجيش العظيم؟ أين الشعب الذي أحصاه ليحشد جيشاً أكبر؟.. عندما حجب الله وجهه صار مرتاعاً رغم كل النجاح المادي والعسكري!
وهذا ما يجب أن يتعلمه كل واحد منا. عندما ننجح، كثيراً ما ننسى الرب. وعندما تكون أمور حياتنا موفَّقة نظن أننا قد أصبحنا مستريحين. نصلي في وقت الضيق، وبزواله نسترخي ونطمئن. والحقيقة هي أن كل رصيدنا في البنك، وكل درجاتنا العلمية، وكل صحتنا، وكل أصدقائنا، وكل نفوذ عائلتنا، بدون رضا الرب ومحبته لا تساوي شيئاً، فنصير مرتاعين. قبل أن نتعلم هذا الدرس قد نكون في كامل الطمأنينة، لأننا متَّكلون على عطايا الرب. ولكن عندما نتعلمه ندرك مقدار احتياجنا لشخص الرب نفسه قبل عطاياه، وهو الذي يمنح العطايا.

رابعاً – المرنم يطلب الرحمة
(آيات 8-10)
شكر داود على نجاته من العقاب الإلهي، ودعا شعبه ليشكروا معه، وأعلن أنه صحَّح مساره الخاطئ، ثم لجأ إلى الله طالباً رحمته، فرحمة الله ومحبته هما الملجأ الدائم للمؤمن المصلّي والباب المفتوح الذي لا يُغلَق أبداً. حتى لو أدَّبَنا الرب فإنه يؤدبُنا ليصحِّح مسارنا فهو الذي »يجرح ويعصب. يسحق ويداه تشفيان« (أي 5: 18) »أمينة هي جروح المحب، وغاشَّةٌ هي قبلات العدو« (أم 27: 6). »هلمَّ نرجع إلى الرب لأنه هو افترس فيشفينا، ضرب فيَجبِرُنا« (هو 6: 1). لقد تعلَّم من الرُّعب أن الصلاة هي مصدر قوته، وكانت صلاته:
1 – صلاة بلا انقطاع: »إليك يا رب أصرخ، وإلى السيد أتضرع« (آية 8). هذا هو الصراخ المستمر والتضرُّع الدائم. ألجأه العقاب الذي حــلَّ بــه لمــا أحصى شعبه إلى الصلاة بلا انقطاع (1أخ 21: 16، 17)
2 – صلاة مخلصة: »ما الفائدة من دمي إذا نزلت في الحفرة؟ هل يحمدك التراب؟ هل يخبر بحقك؟« (آية 9). وهي الكلمات التي رددها الملك حزقيا في إش 38: 18، 19. لم تكن معرفة اليهود عن الحياة بعد الموت معرفة كافية، ولم يعطِ العهد القديم لقرائه صورة واضحة للخلود، فإن المسيح وحده هو الذي أنار لنا الحياة والخلود بواسطة الإنجيل (2تي 1: 10).
ولعل المرنم قصد بتساؤله هذا أن يتساءل مع الرسول بولس: »ماذا أختار؟ لست أدري.. لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جداً. ولكــن أن أبقــى في الجسد ألزم من أجلكم« (في 1: 22-24). هل يختار الموت، وذاك أفضل جداً؟ أم يختار الحياة ليخدم المؤمنين؟ وقد اختار أن يحيا لينسكب على ذبيحة إيمان المؤمنين وليقدم الخدمة المطلوبة منه لله.
3 – صلاة خاشعة: »استمع يا رب وارحمني. يا رب كن معيناً لي« (آية 10). ينحني الملك داود أمام ملك الملوك الذي منحه المُلك الأرضي. بكل تواضع يطلب الرحمة والعون، وهي صلاة يمكن أن يرفعها كل مؤمن، سواء كان واعظاً يعتلي المنبر، أو متألماً يتقلَّب على فراش المرض، أو حزين أنهكتــه الهمـوم. »فلنتقـدَّم بثقـة إلى عرش النعمـة لكي ننـال رحمـة، ونجـد نعمة، عوناً في حينه« (عب 4: 16).
خامساً – المرنم ينال الاستجابة
(آيتا 11 و12)
1 – المرنم يفرح: »حوَّلتَ نوحي إلى رقص لي. حللت مِسحي ومنطقتني فرحاً. لكي تترنم لك روحي ولا تسكت « (آية 11، 12أ). ناح المرنم بينما العقاب يحل به، وجعل يلطم ويضرب على صدره حزناً. ولما رفع الله عنه العقاب أخذ يرقص فرحاً. كان يكتسي بالمسح (وهو ثوب من الشَّعر يلبسه الحزين تحت ثيابه علامة القهر والذل) ولما رفع الله عنه الحزن تمنطق (حزَّم وسطه) بحزام ليرقص ابتهاجاً، وترنَّم بروحه ولم يعُد قادراً على السكوت. وعندما يرحم الرب شعبه تفرح أرواحهم من الداخل، لأنه يكسوهم ثياب الفرح من الخارج، ويقول: «لأجعل لنائحي صهيون، لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد، ودهن فرح عوضاً عن النوح، ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة، فيُدعَون أشجار البر، غرس الرب للتمجيد« (إش 61: 3). »لكي تترنم لك روحي ولا تسكت«.
2 – المرنم يكرر الشكر: »يا رب إلهي، إلى الأبد أحمدك« (آية 12ب). يكرر المرنم شكره، ويعِد الرب أن يستمر هذا الشكر إلى الأبد، هنا على الأرض ما دام حياً، وهناك في السماء أمام عرش الله العظيم. »ولا تكون لعنة ما في ما بعد.. وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم. ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الرب الإله ينير عليهم وهم سيملكون إلى أبد الآبدين« (رؤ 22: 3-5).
اَلْمَزْمُورُ الْحَادِي وَالثَّلاَثُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1عَلَيْكَ يَا رَبُّ تَوَكَّلْتُ، لاَ تَدَعْنِي أَخْزَى مَدَى الدَّهْرِ. بِعَدْلِكَ نَجِّنِي. 2أَمِلْ إِلَيَّ أُذْنَكَ. سَرِيعاً أَنْقِذْنِي. كُنْ لِي صَخْرَةَ حِصْنٍ، بَيْتَ مَلْجَأٍ لِتَخْلِيصِي، 3لأَنَّ صَخْرَتِي وَمَعْقِلِي أَنْتَ. مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ تَهْدِينِي وَتَقُودُنِي. 4أَخْرِجْنِي مِنَ الشَّبَكَةِ الَّتِي خَبَّأُوهَا لِي، لأَنَّكَ أَنْتَ حِصْنِي. 5فِي يَدِكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. فَدَيْتَنِي يَا رَبُّ إِلَهَ الْحَقِّ. 6أَبْغَضْتُ الَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً. أَمَّا أَنَا فَعَلَى الرَّبِّ تَوَكَّلْتُ. 7أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ، لأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى مَذَلَّتِي، وَعَرَفْتَ فِي الشَّدَائِدِ نَفْسِي، 8وَلَمْ تَحْبِسْنِي فِي يَدِ الْعَدُوِّ، بَلْ أَقَمْتَ فِي الرَُّحْبِ رِجْلِي.
9اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي فِي ضِيقٍ. خَسَفَتْ مِنَ الْغَمِّ عَيْنِي، نَفْسِي وَبَطْنِي، 10لأَنَّ حَيَاتِي قَدْ فَنِيَتْ بِالْحُزْنِ وَسِنِينِي بِالتَّنَهُّدِ. ضَعُفَتْ بِشَقَاوَتِي قُوَّتِي، وَبَلِيَتْ عِظَامِي. 11عِنْدَ كُلِّ أَعْدَائِي صِرْتُ عَاراً، وَعِنْدَ جِيرَانِي بِالْكُلِّيَّةِ، وَرُعْباً لِمَعَارِفِي. الَّذِينَ رَأُونِي خَارِجاً هَرَبُوا عَنِّي. 12نُسِيتُ مِنَ الْقَلْبِ مِثْلَ الْمَيْتِ، صِرْتُ مِثْلَ إِنَاءٍ مُتْلَفٍ، 13لأَنِّي سَمِعْتُ مَذَمَّةً مِنْ كَثِيرِينَ. الْخَوْفُ مُسْتَدِيرٌ بِي بِمُؤَامَرَتِهِمْ مَعاً عَلَيَّ. تَفَكَّرُوا فِي أَخْذِ نَفْسِي.
14أَمَّا أَنَا فَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ يَا رَبُّ. قُلْتُ: «إِلَهِي أَنْتَ». 15فِي يَدِكَ آجَالِي. نَجِّنِي مِنْ يَدِ أَعْدَائِي، وَمِنَ الَّذِينَ يَطْرُدُونَنِي. 16أَضِئْ بِوَجْهِكَ عَلَى عَبْدِكَ. خَلِّصْنِي بِرَحْمَتِكَ. 17يَا رَبُّ، لاَ تَدَعْنِي أَخْزَى لأَنِّي دَعَوْتُكَ. لِيَخْزَ الأَشْرَارُ. لِيَسْكُتُوا فِي الْهَاوِيَةِ. 18لِتُبْكَمْ شِفَاهُ الْكَذِبِ، الْمُتَكَلِّمَةُ عَلَى الصِّدِّيقِ بِوَقَاحَةٍ، بِكِبْرِيَاءَ وَاسْتِهَانَةٍ.
19مَا أَعْظَمَ جُودَكَ الَّذِي ذَخَرْتَهُ لِخَائِفِيكَ، وَفَعَلْتَهُ لِلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ، تُجَاهَ بَنِي الْبَشَرِ. 20تَسْتُرُهُمْ بِسِتْرِ وَجْهِكَ مِنْ مَكَايِدِ النَّاسِ. تُخْفِيهِمْ فِي مَظَلَّةٍ مِنْ مُخَاصَمَةِ الأَلْسُنِ. 21مُبَارَكٌ الرَّبُّ لأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ عَجَباً رَحْمَتَهُ لِي، فِي مَدِينَةٍ مُحَصَّنَةٍ. 22وَأَنَا قُلْتُ فِي حَيْرَتِي: «إِنِّي قَدِ انْقَطَعْتُ مِنْ قُدَّامِ عَيْنَيْكَ». وَلَكِنَّكَ سَمِعْتَ صَوْتَ تَضَرُّعِي إِذْ صَرَخْتُ إِلَيْكَ.
23أَحِبُّوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَتْقِيَائِهِ. الرَّبُّ حَافِظُ الأَمَانَةِ وَمُجَازٍ بِكَثْرَةٍ الْعَامِلَ بِالْكِبْرِيَاءِ. 24لِتَتَشَدَّدْ وَلْتَتَشَجَّعْ قُلُوبُكُمْ يَا جَمِيعَ الْمُنْتَظِرِينَ الرَّبَّ.
جعل رحمته عجَباً!
مناسبة كتابة هذا المزمور حادثة مرت بداود عندما كان هارباً أمام شاول، من مكان إلى مكان حتى وصل إلى برية معون. وتابَعَه شاول حتى استُدعي ليرجع بسرعة ليدافع عن بلاده، لأن الفلسطينيين هاجموهم. فرجع شاول ونجا داود. وسُمِّي المكان »صخرة الزلقات« لأن شاول انزلق ورجع عن داود، لا بسبب ذكاء داود أو حيلته، لكن لأن الرب هو الذي سمح بذلك (1صم 23).
كان المرنم قد أعيا عقلاً وجسداً، مضطهَداً، مشوَّه السُّمعة، فألقى بنفسه على الله يرتل هذا المزمور، صلاة يرفعها، فرفعته إلى فوق بعيداً عن المشاكل التي كانت تهاجمه، وقد امتلأ قلبه بالإيمان بالإله الحي وبالرجاء فيه.
ولا بد أن هذا المزمور كان في فكر إرميا، النبي الباكي، فاقتبس فكرة »إناء مُتلَف« (آية 12) في حديثه عن إناء الفخاري (إر 18: 4 و22: 28) واقتبس منه القول »الخوف مستديرٌ بي« (آية 13) في قوله: »خوفٌ من كل جهة« (إر 6: 25) »الخوف من كل جانب« (إر 20: 10 و49: 29). كما اقتبس يونان الآية 6 من المزمور في صلاته في يون 2: 8، 9. واقتبس شيخٌ تقي الآيات الثلاث الأولى من مزمورنا في مطلع مز 71، ولعلها كانت ترنيمته المفضَّلة في بداية حياته.
أما المسيح فقد اقتبس على الصليب جزءاً من آية 5 »في يدك استودع روحي« بعد أن أضاف إليها »يا أبتاه« لأنها كلمات الثقة بالله، ولو أنه لم يقتبس كل الآية، لأن نصفها الثاني يقول: »فديتني يا رب إله الحق« لأن المسيح لم يكن محتاجاً لفداء، فهو نفسه الفادي.
وقد صارت هذه الكلمات مصدر تشجيع للمؤمنين عبر الأجيال. تلاها القديس بوليكاربوس أسقف سميرنا وهو يستشهد محترقاً. كما تلاها القديس إيرونيموس (المعروف باسم جيروم) عند موته، وهو الذي ترجم الكتاب المقدس إلى اللاتينية، الترجمة المعروفة بالفولجاتا. وتلاها جون هس وهو يُحرق لأنه ترجم الكتاب المقدس إلى لغة الشعب. وكرر هذه العبارة عددٌ لا يُحصى من المؤمنين، في أوقات وفاتهم أو ضيق نفوسهم، فهي توجِّه نظرنا إلى الرب لنستودع أرواحنا بين يديه.
قال مارتن لوثر: »مبارك الشخص الذي يموت مع المسيح كمؤمن لأنه آمن. ومبارك الشخص الذي يموت من أجل المسيح كشهيد. ومبارك الشخص الذي يموت مع المسيح وهو يقول: في يدك أستودع روحي«. هذه كلمات تكريسية نسلم نفوسنا فيها للرب تسليماً كاملاً، ونحن نرى أن العالم هنا ليس مكان إقامتنا، فقد قال المسيح: »أنا أمضي لأعدَّ لكم مكاناً. وإن مضيتُ وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً.. أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلا بي« (يو 14: 2-6).
هذا مزمور مبارك تتلألأ وسطه هذه الجوهرة: »في يدك أستودع روحي« فترفع نظرنا إلى الرب، مهما كنا متعَبين أو مطارَدين.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – الصلاة ملجأ المتألم (آيات 1-8)
ثانياً – قصة المتألم (آيات 9-18)
ثالثاً – صلاح الله (آيات 19-22)
رابعاً – نصيحتان للأتقياء (آيتا 23، 24)

أولاً – الصلاة ملجأ المتألم
(آيات 1-8)
يبدأ المرنم هذا المزمور بالصلاة، وبعد ذلك يرفع الشكوى. ربما لو كنّا مكانه لبدأنا بالشكوى وإعلان مشاعرنا بالإحساس بالألم والتذمر! ومن صاحب هذا المزمور نتعلم كيف نصلي في أوقاتنا الصعبة.
1 – خمسة أسباب دفعت المرنم إلى الصلاة:
(أ) ثقة المرنم: »عليك يا رب توكلت« (آية 1أ). ثقة المرنم في الرب جعلته يتوكل عليه، فيضع نفسه تحت الحماية الإلهية، ويصلي صلاة الواثق في الرب لأنه اختبره فوجده الوحيد الذي يستحق الثقة. لم يُخجِله أبداً ولا أخزاه »حسب انتظاري ورجائي أني لا أُخزَى في شيء« (في 1: 20). لذلك يكرر إعلان ثقته: »أما أنا فعلى الرب توكلت« (آية 6ب) لأنه يدرك أن الله أب محب ينحني على طفله المتألم ويرفعه فوق الألم. وهو يعلن ثقته بقوله: »لأن صخرتي ومعقلي أنت« (آية 3أ). والمعقل هو الجبل المرتفع، وهو الملجأ، وهو المكان الذي يلجأ إليه للحماية، ثم يقول: »لأنك أنت حصني« (آية 4ب) »كنتُ فتى وقد شِخْت ولم أر صديقاً تُخلِّي عنه« (مز 37: 25).
(ب) اسم الله: »من أجل اسمك تهديني وتقودني« (آية 3ب). غضب الرب على بني إسرائيل أثناء سفرهم في سيناء، لأنهم عبدوا عجلاً ذهبياً قالوا إنه أخرجهم من عبودية فرعون. فقال الرب لموسى إنه سيبيد الشعب المشرِك كله ويبدأ بموسى شعباً جديداً. فقال موسى للرب: وماذا يقول المصريون عنك؟.. سيقولون إنك أخرجتهم من مصر بخبث، وقتلتهم في الصحراء!.. اذكُر عبيدك الذين حلفتَ لهم بنفسك، وقلتَ لهم إنك ستعطيهم أرض كنعان. ونجح موسى في شفاعته (خر 32: 7-14). كان الله يمتحن أمانة موسى لرسالته: هل كان سيسعد بأن يصبح اسم الشعب »بني موسى« بدلاً من »بني إسرائيل«؟ وكان موسى يعرف »اسم الله« الذي يهدي ويقود لأنه كان قريباً من ربه، فحقق الله له طلبته.
(ج) ماضي الله مع المرنم: »فديتني يا رب إلـه الحق« (آية 5ب). إلـه الحـق صنع لـداود فـداءً ودفـع الفدية لينقذه. والفدية العظمى والكبرى هي فداء المسيح لنا، فهو»الذبح العظيم« لأنه جاء من السماء، وصار خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه، فأخذ مكاننا وصار بديلاً عنا.
(د) تقوى المرنم: »أبغضتُ الذين يراعون أباطيل كاذبة« (آية 6أ). والأباطيل الكاذبة هي الأوثان والأصنام وهي العرافة والتنجيم.
(هـ) فرح المرنم: »أبتهج وأفرح برحمتك« (آية 7أ). في الماضي فرح برحمة الرب التي لم تعاقبه العقاب الذي يستحقه، وهو واثق أن هذه الرحمة مستمرة معه، لأن إلى الأبد رحمته (مز 138: 3).
2 – المرنم يطلب ست طلبات:
(أ) ألا يخزيه: »لا تدعني أخزى مدى الدهر« (آية 1ب). كان يعلم أن شاول يطارده متجنِّياً عليه. ويذكر أنه عندما كان ولداً يرعى الأغنام جاء صموئيل النبي ومسحه ملكاً، فصار منذ ذلك الوقت مسيح الرب. ولم يشأ أن يغتصب الوظيفة أو يخطفها، بل انتظر حتى يعطيها الله له، عالماً أن وعد الله صادق. صحيح أن شاول كان يريد تعطيل مقاصد الله، لكن لا بد أن تتمَّ إرادة الله فلا يخزى داود مدى الدهر. نعم، سيجلس على العرش، ويجيء من نسله »ابن داود« الذي ليس لمُلكه نهاية.
(ب) أن ينقذه بسرعة: »أَمِل إليَّ أذنك. سريعاً أنقِذني« (آية 2أ). مضت سنوات وداود هارب من مكان إلى مكان لا يستقر في موضع. »أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً وهو متمهل عليهم؟ أقول لكم إنه ينصفهم سريعاً« (لو 18: 7، 8). وهناك تناقض ظاهري بين »متمهِّل عليهم« وبين »ينصفهم سريعاً«. لكن لا يوجد تناقض حقيقي، فمن وجهة نظرنا نظن أن الله يتمهَّل علينا، لكن من وجهة نظره الإلهية ينصفنا سريعاً.
(ج) أن يكون صخرته: »كُن لي صخرة حصن، بيت ملجإ لتخليصي« (آية 2ب). قال بطرس: »يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك« (يو 6: 68). وقال سليمان: »اسم الرب برج حصين يركض إليه الصديق ويتمنَّع« (أم 18: 10). وطِلبة »كن لي صخرة حصن« قد تعني: كن لي من جديد صخرة حصن. أو: طمئِن نفسي من جديد. برهِن لي أنك لا زلت كذلك، لأسكن عندك في أمان، وأقيم إقامة دائمة.
(د) أن يهديه ويقوده: »من أجل اسمك تهديني وتقودني« (آية 3ب). يجري الطفل الصغير الخائف إلى أبيه، فيحتضنه ويطمئنه، ويجد عنده الحماية. وبعد أن يطمئن يجري بعيداً. لكن عند الأب دائماً نصيحة مفيدة لولده. قد يقول الأب: أنت خفت لأنك أخطأت في هذا الأمر. فلو انتظر الصغير بعد الطمأنينة قليلاً في حضن أبيه لسمع منه النصيحة والإرشاد. ونحن مثل الطفل، معلوماتنا محدودة نحتاج إلى أب مرشد، ونحن مسافرون نحتاج إلى دليل يرينا الطريق، ونحن جنود المسيح نحتاج أن نتلقَّى توجيهات القائد خطوة بعد خطوة. فلنرفع الطلبة دوماً:»من أجل اسمك تهديني وتقودني«. في هذه الطلبة يقول داود للرب: أخذتُ منك الطمأنينة، لكني أريد أن أكون في حضنك قريباً من قلبك. فبمهارة يديك اهدني (مز 78: 72).
(هـ) أن يخرجه من الشبكة: »أخرِجني من الشبكة التي خبأوها لي« (آية 4أ). الأعداء ماكرون أذكياء خبأوا شبكة للمرنم. صحيح أن قوتهـا كبيرة، لكن قوة الله أكبر. عملهم شريـر، لكن الـرب هـو الصالح الذي يعمل الخير كله.
(و) أن يقبل روحه: »في يدك أستودع روحي« (آية 5). عند الخوف من الوقوع في الخطية، وعند وجود الأعداء الروحيين المحيطين بنا، في يده نستودع روحنا لنجد الإنقاذ. وعند المرض والموت نستودعها بين يديه، لنسمع منه: »تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدَّ لكم منذ تأسيس العالم« (مت 25: 34).
3 – أربعة أمور عملها الله مع المرنم في الماضي:
(أ) نظر الله للمرنم: »نظرتَ إلى مذلتي« (آية 7ب). عادة لا يهتم البشر بالذليل، ويُبعِدون وجوههم عن المنظر المؤلم لأنهم لا يحبون أن يروا المآسي. لكن الله يمنح المؤمن الذليل المتألم عناية خاصة، كما قال لموسى: »رأيت مذلة شعبي الذي في مصر، وسمعت صراخهم من أجل مسخِّريهم. إني علمت أوجاعهم، فنزلت لأنقذهم« (خر 3: 7، 8).
(ب) عرف الله حالة المرنم: »عرفتَ في الشدائد نفسي« (آية 7ج). يعرف البشر بعضهم في وقت الرحب، وقليلاً ما يعرفون بعضهم في وقت الشدة، أما الرب فينظر ويعرف. كلنا ننظر للمتضايقين نظرة عابرة. فإذا كنا نهتم، فإننا نلقي النظرة الثانية المدقِّقة التي تعرف تفاصيل تعب الإنسان الآخر وتساعده. أما الرب فإنه يلقي دائماً علينا النظرة المهتمَّة المدقِّقة الفاعلة. »كثيرة هي بلايا الصدِّيق، ومن جميعها ينجيه الرب« (مز 34: 19).
(ج) أنقذ الله المرنم: »لم تحبسني في يد العدو« (آية 8أ). صحيحٌ أن الله سمح لشاول أن يسعى وراء المرنم، لكنه لم يسلمه إلى يد شاول أبداً. عندما وصل شاول إلى مكان داود ليلقي القبض عليه، سأل داود الرب: »هل يسلِّمني أهل قعيلـة مـع رجــالي ليــد شـاول؟« فقـال الــرب: »يسلِّمـون« (1صم 23: 12). »وكان شاول يطلبه كل الأيام، ولكن لم يدفعه الله ليده« (1صم 23: 14). أعطى الرب شاول حرية الحركة، لأنه في حكمته وقوته يسمح بقيام الحزب المعارض الذي يعترض على التصرفات الإلهية. لكن قوة الرب الحاضرة دائماً تضع كل شيء في مكانه الصحيح، وتعيد كل أمر إلى نصابه!
(د) الله رحَّب للمرنم: »أقمت في الرحب رجلي« (آية 8ب). وفي ترجمة إنجليزية »وضعت رجلي في غرفة واسعة«. أراد شاول أن يضعه في زنزانة أو في قبر، لكن الرب وضع رجله في غرفة متسعة، كما وُضع بولس وسيلا في السجن الداخلي، ولكن الرب فتح أبواب السجن وأطلقهما حُرَّين ليكرزا بدون عوائق (أع 16: 26). فالرب يفتح ولا أحد يغلق، ويقودنا من وجه الضيق إلى رَحبٍ لا حصر فيه! (أي 36: 16).
ثانياً – قصة المتألم
(آيات 9-18)
1 – المرنم في ضيق داخلي: »ارحمني يا رب لأني في ضيق. خسَفَت من الغم عيني« (آية 9أ). خسفت بمعنى: دخلت إلى داخل فلم تعد تُرى، فبسبب كثرة الغم لم تعُد عينه تظهر.
»نفسي وبطني« (آية 9ب). عنده تقلصات حتى أنه لم يقدر أن يأكل. لم يقدر أن يستمتع بشيء، فقال: »يا رب ارحمني لأني في ضيق«. فنيت حياته من الحزن، وسنوه بالتنهُّد. »ضعُفت بشقاوتي قوتي وبليَت عظامي« (آية 10ب). إنه يتساءل: إلى متى يجري شاول ورائي؟ أنت وعدتني يا رب وأنا بعد صغير أن أصبح ملكاً، ولكن كل هذه السنين وأنا أجري من مكان إلى آخر. هل عندما أصل إلى العرش أكون سليم الجسد لأقود الشعب؟ يا رب جسمي كله متعب!.. وعندما نخور تحت ثقل الآلام الجسدية والمشاكل النفسية، لنرفع هذه الطلبة.
2 – المرنم في ضيق خارجي: »عند كل أعدائي صرتُ عاراً، وعند جيراني بالكلية، ورعباً لمعارفي. الذين رأوني خارجاً هربوا عني« (آية 11). بسبب اضطهاد شاول له لم يشأ أحد أن تكون له علاقة به، لأنهم كانوا يخافون من غضب الملك، الذي قد يستجوبهم وأصدقاءهم ومعارفهم، أو قد يضطهدهم ويقتلهم كما قتل الكهنة في نوب (1صم 22: 18).
كان داود في ضيق من أعدائه، ومن جيرانه ومن معارفه! لم يبقَ له ملجأ بين البشر، فلجأ إلى الملجأ الذي لا يرفض لاجئاً. وكم نشكر الله لأن المسيح الذي تألم مجرَّباً في كل شيء مثلنا (ما عدا الخطية) يقدر أن يعين المجرَّبين، فقد باعه يهوذا، وأنكره بطرس، وتركه كل التلاميذ وهربوا، فقال: »وتتركونني وحدي، وأنا لستُ وحدي لأن الآب معي« (يو 16: 32).
3 – المرنم في ضيق من تقييم الناس له: »نُسيت من القلب مثل الميت. صرتُ مثل إناء مُتلَف« (آية 12). صار مثل الميت، لا أحد يريد أن يذكر اسمه، كما قال أيوب: »أقاربي قد خذلوني، والذين عرفوني نسوني« (أي 19: 14). رجال شُرطة الملك شاول السريون كانوا يتابعونه في كل مكان ليلقوا القبض عليه. صار مثل إناء مكسور بلا قيمة، لا يصلح لشيء إلا لأن يلقوه خارج البيت. إن أخطر شيء أن تضيع من الإنسان ثقته بنفسه!
4 – المرنم في ضيق من كلام الناس وفعلهم: »لأني سمعت مذمَّةً من كثيرين. الخوف مستدير بي بمؤامراتهم معاً عليَّ. تفكروا في أخذ نفسي« (آية 13). مع أن داود كان مثل الميت، إلا أن الناس تكاتفوا ضده، واستمروا يُسمعونه شتائمهم، وهذه هي قساوة نسل الحية! قال النبي إرميا: »لأني سمعتُ مذمَّة من كثيرين. خوفٌ من كل جانب.. لكن الرب معي كجبار قدير. من أجل ذلك يعثر مضطهديَّ ولا يقدرون. خزوا جداً لأنهم لم ينجحوا، خزياً أبدياً لا يُنسى.. رنموا للرب.. لأنه قد أنقذ نفس المسكين من يد الأشرار« (إر 20: 10-13).
5 – عند المرنم بريق أملٍ وسط الشكوى: »أما أنا فعليك توكلـت يـا رب. قلـتُ: إلهـي أنـت. فـي يدك آجالي. نجِّني من يد أعدائي ومن الذين يطردونني. أضئ بوجهك على عبدك. خلِّصني برحمتك« (آيات 14-16). اشتكى داود لأن أعداءه شتموه وشوَّهوا سُمعته، حتى فقد ثقته بنفسه، لكنهم لم يقدروا أن يُفقِدوه علاقته بالرب، ولا أن يضيِّعوا منه اعتماده على إلهه، فقال: »عليك توكلت«. وبنى داود أمله على أمرين:
(أ) على انتمائه لله: »إلهي أنت« (آية 14ب). فقد اختار أن يكون للرب، فصار الرب له »حبيبي لي وأنا له« (نش 2: 16).
(ب) على أن حياته بيد الله: »في يدك آجالي« (آية 15أ). بمعنى أن »بداية حياتي« و»نهاية حياتي« في يد الرب. كما تعني أن الحياة كلها بكل ما فيها من تغيُّرات وأحزان وأفراح في يده. لن تكون حياة داود في يد شاول، ولا في يد أصدقاء داود أو أعدائه. لسنا متروكين للظروف، لكننا بين يدي إله محب.
وبناءً على هذين السببين طلب من الرب ثلاثة أمور:
(1) النجاة: »نجِّني من يد أعدائي ومن الذين يطردونني« (آية 15ب).
(2) الرضا: »أضئ بوجهك على عبدك« (آية 16أ). يطلب أن يبتسم له الرب ابتسامة الرضا فتنتهي آلامه رغم كثرتها.
(3) الخلاص: »خلصني برحمتك« (آية 16ب). لا اعتماداً على استحقاق شخصي، بل على رحمة ترفع عن المؤمن العقاب الذي يستحقه، وعلى نعمة تمنح المؤمن ما لا يستحقه.
ولا شك أن المرنم كان يفكر في بركات المؤمنين الموعودة في البركة الكهنوتية: »يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلاماً« (عد 6: 24-26).
6 – المرنم يطلب عقاب الأشرار: »يا رب، لا تدعني أخزى لأني دعوتُك. ليخْزَ الأشرار. ليسكتوا في الهاوية. لتبكم شفاه الكذب المتكلِّمة على الصدِّيق بوقاحة، بكبرياء واستهانة« (آيتا 17 و18). طلب المرنم أن لا يدعه الله يخزى مدى الدهر (آية 1)، بل أن يخزى الأشرار. طلب أن تكون آجاله في يد الرب (آية 15) وطلب للأشرار الموت فيسكتوا في قبورهم. طلب أن ينطلق لسانه بالتسبيح، وأن يخرس الكاذبون الساخرون منه. طلب أن يكون الرب صخرته ومَعقِله (آية 3) وأن تبكم شفاه المتكبرين المستهينين به.
وأعتقد أن مؤمني العهد الجديد لا يصلون طالبين عقاب الأشرار، بل يطلبون لهم التوبة. قال إبراهام لنكلن: »أنا أقتل أعدائي بأن أجعل منهم أصدقاء«.
ثالثاً – صلاح الله
(آيات 19-22)
1 – صلاحه كنز لخائفيه: »ما أعظم جودك الذي ذخرته لخائفيك، وفعلته للمتكلين عليك تجاه بني البشر« (آية 19). هذا هتاف النصر، فكلما فكر المتعَب في صلاح الله وجوده يتغلب على كل متاعبه، لأن جود الله كنز مذخَّر يغتني المحتاج منه، ويلجأ إليه في كل وقت. إنه محفوظ للمؤمن والمــؤمن محفــوظ له (1بط 1: 4، 5). وكـل »مــن يغلب فسأعطيـه أن يأكـل مِن المَن المُخفَى« (رؤ 2: 17). توجد بركات يحفظها الرب للمؤمنين ويخبئها لهم، وتوجد بركات معلنة. توجد بركات في الدهر الحاضر وبركات في الدهر الآتي. ويرى البشر في العلن ما يمنحه الله للمؤمنين في السر. »كل الذين يرونهم يعرفونهم أنهم نسلٌ باركه الرب« (إش 61: 9) كما قال داود: »ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقيَّ« (مز 23: 5).
2 – صلاحه يحرس خائفيه: »تسترهم بستر وجهك من مكايد الناس. تخفيهم في مظلة من مخاصمة الألسن« (آية 20). في ستر وجه الله نور لا تقدر الظلمة أن تدركه. وتذكر المزامير عدة أماكن يخبئ الرب أولاده فيها، فلا تطولهم مكايد الأشرار. هناك »ستر خيمته« (مز 27: 5) و»ستر جناحيه« (مز 61: 4) و»الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت« (مز 91: 1). وهنا يقول: »تسترهم بستر وجهك«.
3 – صلاحه يصحِّح مسار خائفيه: »مبارك الرب لأنه جعل عجَباً رحمته لي في مدينة محصَّنة. وأنا قلت في حيرتي إني قد انقطعتُ من قدام عينيك، ولكنك سمعتَ صوت تضرُّعي إذ صرختُ إليك« (آيتا 21، 22). هنا يصحح المؤمن مساره. لقد ظنَّ أنه انقطع من قدام عيني الرب، لأن شاول يطارده وهو لا يستقر في مكان. وأصاب اليأس منه مداه، فقال: »حياتي قد فنيت بالحزن وسنيني بالتنهُّد« (آية 10). وقد تبعه يونان في ذلك فقال: »قد طُردتُ من أمام عينيك، ولكنني أعود أنظر إلى هيكل قُدسك« (يون 2: 4) فإن الصلاح الإلهي والرحمة السماوية أجريا معه العجائب. وبعد أن تكلم عن صلاح الرب أراد أن يتصرف التصرُّف الذي يتناسب مع هذا الصلاح. ظهر له أنه كان مخطئاً لما ظنَّ أن الرب نسيه، لأنه بنى ظنَّه على معلومات خاطئة. وكلما فكر المؤمن في الصلاح الإلهي أصلح أفكاره من نحو الله. فالله لم ينس ولم يهمل أولاده أبداً.
رابعاً – نصيحتان للأتقياء
(آيتا 23، 24)
هاتان النصيحتان صادرتان من قلب مختبر، فهما في منتهى الأهمية:
1 – أحبّوا الرب: »أحبوا الرب يا جميع أتقيائه« (آية 23أ). الوصية الأولى والعظمى هي: »تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك« وأضاف المسيح: »ومن كل فكرك« (تث 6: 5 ومت 22: 37). والذي يحب الرب يطيعه، ويقرأ كلمته، ويكلمه، ويحتذي مثاله. فليكن فينا فكر المسيح.
ويقدم المرنم سببين لحب الرب:
(أ) لأن الرب أمين: »الرب حافظ الأمانة« (آية 23ب) هذه رحمته وأمانته. دائماً يوفي بوعوده، فلنكن نحن أيضاً أمناء في عهودنا معه.
(ب) لأن الرب يجازي المتكبرين: »ومجازٍ بكثرة العامل بالكبرياء« (آية 23ج). وهذه عدالته.
2 – تشجَّعوا بالرب: »لتتشدَّد ولتتشجَّع قلوبُكم يا جميع المنتظرين الرب« (آية 24). »شددوا الأيادي المسترخية، والـرُّكب المرتعشة ثبِّـتوها. قولوا لخائفي القلوب: تشددوا لا تخافوا. هوذا إلهكم. الانتقام يأتي، جزاء الله هو يأتي ويخلصكم« (إش 35: 3، 4).
وينهي المرنم هذا المزمور بما أنهى به مزمور 27 بطلب انتظار الرب. وكل من ينتظر الرب ينال قوة من عنده، ولا يعوزه شيء من الخير. فلننتظر الرب الذي في يده نستودع روحنا.
اَلْمَزْمُورُ الثَّانِي وَالثَّلاَثُونَ
لِدَاوُدَ. قَصِيدَةٌ
1طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ، وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. 2طُوبَى لِرَجُلٍ لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً، وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ.
3لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي الْيَوْمَ كُلَّهُ، 4لأَنَّ يَدَكَ ثَقُلَتْ عَلَيَّ نَهَاراً وَلَيْلاً. تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي إِلَى يُبُوسَةِ الْقَيْظِ. سِلاَهْ. 5أَعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي، وَلاَ أَكْتُمُ إِثْمِي. قُلْتُ: «أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي» وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي. سِلاَهْ. 6لِهَذَا يُصَلِّي لَكَ كُلُّ تَقِيٍّ فِي وَقْتٍ يَجِدُكَ فِيهِ. عِنْدَ غَمَارَةِ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ إِيَّاهُ لاَ تُصِيبُ. 7أَنْتَ سِتْرٌ لِي. مِنَ الضِّيقِ تَحْفَظُنِي. بِتَرَنُّمِ النَّجَاةِ تَكْتَنِفُنِي. سِلاَهْ.
8أُعَلِّمُكَ وَأُرْشِدُكَ الطَّرِيقَ الَّتِي تَسْلُكُهَا. أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ. 9لاَ تَكُونُوا كَفَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ بِلاَ فَهْمٍ، بِلِجَامٍ وَزِمَامٍ زِينَتِهِ يُكَمُّ، لِئَلاَّ يَدْنُوَ إِلَيْكَ. 10كَثِيرَةٌ هِيَ نَكَبَاتُ الشِّرِّيرِ، أَمَّا الْمُتَوَكِّلُ عَلَى الرَّبِّ فَالرَّحْمَةُ تُحِيطُ بِهِ. 11افْرَحُوا بِالرَّبِّ وَابْتَهِجُوا يَا أَيُّهَا الصِّدِّيقُونَ، وَاهْتِفُوا يَا جَمِيعَ الْمُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ.
التوبة وفرح الغفران
هذا واحد من مزامير التوبة السبعة (6، 32، 38، 51، 102، 130، 143). ونرجو من القارئ أن يعود إلى مقدمة مزمور 6. ويحمل مزمور 32 عنوان «قصيدة» وهي كلمة عبرية قديمة لا تحمل المعنى الذي نفهمه منها اليوم، لأنها تُرجمت في 2أخ 30: 22 «فطنة» فهي تعني التأمل في مراحم الله الذي يغفر خطايا شعبه، فيتفطَّن الإنسان ويزداد حكمة. وهناك صلة بين مزمورنا ومزمور 51 الذي كتبه داود بعد سقوطه في خطيته المعروفة، فقد كتب مزمور 32 بعد أن تأكد من غفران خطاياه، ونوال السلام القلبي. أما مزمور 51 فقد كتبه بعد أن أخطأ، فطلب الغفران.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – ضرورة الاعتراف بالخطية (آيات 1-7).
ثانياً – خطورة عدم الاعتراف بالخطية (آيتا 8، 9).
ثالثاً – نكبات الشرير ومباهج الصديق (آيتا 10، 11).
أولاً – ضرورة الاعتراف بالخطية
(آيات 1-7)
1 – الاعتراف أساس نوال بهجة الغفران: »طوبى للذي غُفر إثمه وسُترت خطيته. طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطية ولا في روحه غش« (آيتا 1، 2). طوَّب المزمور الأول مَن لا يخطئ، ولكن سليمان قال في صلاة تدشين الهيكل: »ليس إنسان لا يخطئ« (1مل 8: 46) فكان لا بد من تطويب مَن يتوب عن خطيته فيغفر الله له. فما أسعد من لا يحسب له الرب خطيته، لأنه اعترف بها وتاب عنها، وما أتعس من يصلي في نفسه: »اللهم أنا أشكرك أني لستُ مثل باقي الناس..«. وسعيد هو المعترف بذنبه، الذي يصلي: »اللهم ارحمني أنا الخاطئ« (لو 18: 9-14) لأنه يختبر القول: »لهذا رُحمتُ، ليُظهِر يسوع المسيح فيَّ أنا أولاً كل أناة، مثالاً للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية« (1تي 1: 16). وهذا الغفران يحوِّل جحيم الخاطئ إلى سعادة أبدية. ويصف المرنم البُعد عن الله بثلاث كلمات:
(أ) إثم: وهو العوَج. وطوبى للذي غُفر عوجه، بمعنى أن إثمه رُفع عنه، فلم يعد يثقل كاهله. طوبى لمن ألقى آثامه على »حمل الله الذي يرفع خطية العالم« (يو 1: 29) فهو الذي حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين (إش 53: 12).
(ب) خطية: وهي عدم إصابة الهدف. وطوبى لمن سُترت خطيته. والستر هو المحو أو التغطية، فلا يعود القاضي الديان يراها، لأن »دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية« (1يو 1: 7).
(ج) غش: وهو الفساد الأخلاقي والخداع. وطوبى لمن لا يحسب له الرب غشه، كما قال شمعي بن جيرا لداود: »لا يحسب لي سيدي إثماً، ولا تذكر ما افترى به عبدك« (2صم 19: 19). وكم نشكر المسيح الذي دفع ديوننا وفدانا بذبحه العظيم. فلنلجأ إلى نعمة فدائه دون اعتماد على صلاحنا، فإن »الذي يعمل لا تُحسب له الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دَيْن. وأما الذي لا يعمل، ولكن يؤمن بالذي يبرِّر الفاجر، فإيمانه يُحسَب له براً، كما يقول داود في تطويب الإنسان الذي يَحسِب له الله براً بدون أعمال: طوبى للذين غُفرت آثامهم وسُترت خطاياهم. طوبى للرجل الذي لا يحسب له الرب خطية« (رو 4: 4-8). وهذا يعني أننا لا نقدر أن نفعل شيئاً ليُذهِب عنا سيئاتنا، فالنفس التي تخطئ تموت. وبسبب عجزنا عن ستر نفوسنا مات المسيح ليكفِّر عنا ويفدينا ويسدِّد ديوننا.
ولا يمكن أن تُستر خطايانا إلا بدم كفارته. عندها نكتسب العلاقة السليمة مع الله، فيشرق وجهه علينا ويبتسم لنا ابتسامة الرضا، فيصير لنا الفرح. وما أعظم نعمة الله التي وضعت نهايةً لإثم الأثيم بالغفران، ولخطية الخاطئ بستر الكفارة، ولغش الغشاش باحتساب بر المسيح له! فالنعمة السماوية لا تحسب للخاطئ المعترف التائب خطاياه، إنما تحسب له بر المسيح، ويكمن سرَّ هذا »الحسبان« في القول: »إن كان واحدٌ قد مات لأجل الجميع، فالجميع إذاً ماتوا.. أي إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم« (2كو 5: 14، 19).
2 – بؤس عدم الاعتراف: »لما سكتُّ بليت عظامي من زفيري اليوم كله، لأن يدك ثقُلت عليَّ نهاراً وليلاً. تحوَّلت رطوبتي إلى يبوسة القيظ« (آيتا 3، 4). عندما أخطأ المرنم رفض أن يعترف بخطيته أمام نفسه، ثم لله، ثم لمن أساء إليهم. وكلما حاول الإنسان أن يخفي خطيته زادت نيران الشعور بالذنب داخله. ولكن الله لم يترك داود في بؤس عدم الاعتراف لأنه يحبه، فأوقع عليه العقاب الثقيل، فاستيقظ ضميره واعترف بخطيته. يبدو أن مرض الحمى أصابه، فأخذ يزفر كالأسد الجريح »والروح المنسحقة تجفِّف العظم« (أم 17: 22). لقد فصل المرنم نفسه عن ينبوع الماء الحي فتحوَّلت رطوبته إلى يبوسة الجو القائظ. كان ألمه الجسدي والنفسي عظيماً ومستمراً وبلا علاج، حتى اعترف. فما أشقى من لا يعترف بذنبه، وما أسعد من يعترف به. في مثل هذا الموقف قال داود: »لأن سهامك قد انتشبت فيَّ، ونزلت عليَّ يدك. ليست في جسدي صحة من جهة غضبك. ليست في عظامي سلامة من جهة خطيتي« (مز 38: 2، 3). حقاً »مَن يكتم خطاياه لا ينجح، ومن يقرُّ بها ويتركها يُرحَم« (أم 28: 13).
3 – الاعتراف يجيء بالغفران: »قلتُ أعترف للرب بذنبي وأنت رفعتَ آثام خطيتي« (آية 5). ما أعظم سعادة النفس المعترفة اعترافاً كاملاً وصريحاً لأنها تختبر غفران الله، ويحدث فيها تغيير كامل. قال القديس ترتليان »كلما قلَّ صفحُك عن نفسك زاد صفح الله لك«. لقد رفع الله عن كاهل المرنم ثقل إثمه، وأطلقه في حرية مجد أولاد الله (رو 8: 21).
4 – دعوة للاعتراف: »لهذا يصلي لك كل تقي في وقت يجدك فيه. عند غمارة المياه الكثيرة إياه لا تُصيب. أنت سترٌ لي من الضيق تحفظني. بترنُّم النجاة تكتنفني« (آيتا 6، 7). لما كان الاعتراف لله بالخطية أساس بهجة نوال الغفران، ولما كان عدم الاعتراف يؤدي إلى البؤس، فإن التقي الذي يخاف الله يصلي طالباً الغفران في كل وقت يجد الله فيه، وهو الآن! »هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص.. اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم« (2كو 6: 2 وعب 3: 7، 8). قال المسيح: »من يُقبل إليَّ لا أخرجه خارجاً« (يو 6: 37) وقال الله: »التفتوا إليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس آخر« (إش 45: 22). إنه الآن! »أما أنا فلـك صـلاتي يا رب في وقت رضى« (مز 69: 13) فقد تضيع الفرصة ويسمعون الله يقول: »حينئذ يدعونني فلا أستجيب.. لم يرضَوْا مشورتي« (أم 1: 28، 30). ويذكر المرنم أربع بركات نالها المعترِف:
(أ) نال النجاة: »عند غمارة المياه الكثيرة إياه لا تصيب« (آية 6ب). والغمارة هي الطوفان الكبير الذي يهلك الخاطئ، ولكنه لا يصل للمؤمن الواقف على الصخر الذي يشبه الناجين في فلك نوح.. كانت غمارة المياه تسقط على كل سكان الأرض وتقتلهم، ولكن المحتمي في الفلك »إياه لا تصيب«. فلنَحْتمِ في المسيح فُلك نجاتنا لأنه كفارة خطايانا.
(ب) نال الستر: »أنت ستر لي« (آية 7أ). »لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر. يسترني بستر خيمته. على صخرة يرفعني« (مز 27: 5) »تسترهم بستر وجهك من مكايد الناس« (مز 31: 20) »الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت« (مز 91: 1).
(ج) نال الحفظ: »من الضيق تحفظني« (آية 7ب). كل من يستره الله يعيش في الحفظ الإلهي، ولا يضره شيء. حقاً »في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلَّصهم« (إش 63: 9).
(د) نال الفرح: »بترنُّم النجاة تكتنفني« (آية 7ج). فيحيط الترنيم به حيثما ذهب، لأنه يكون فرحٌ في السماء بخاطئ واحد يتوب.. ويكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب (لو 15: 7، 10). »حينئذٍ امتلأت أفواهنا ضحكاً وألسنتنا ترنُّماً« (مز 126: 2).
ثانياً – خطورة عدم الاعتراف بالخطية
(آيتا 8، 9)
1 – عدم الاعتراف يعطل خطة الله: »أعلّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها« (آية 8أ). استجابةً لصلاة المرنم المعترف التائب يكلّمه الله بكلمة تعليم وإرشاد. لقد وضع الله خطة صالحة لحياة كل واحد منا، وهو يعلِّمنا ويرشدنا إلى طرقه، وينصحنا ونحن نسير فيها، ويراقبنا ويتابعنا بعين محبته. »الرب صالح ومستقيم، لذلك يعلِّم الخطاة الطريق.. مَن هو الإنسان الخائف الرب؟ يعلمه طريقاً يختاره« (مز 25: 8، 12).
ينادينا الله بصوت الحب ليردَّنا إليه في عظة نسمعها في كنيسة، أو بصدمة في حادث، أو في فقدان أموال، أو في خيانة صديق، أو بآية كتابية تهز القلب والمشاعر، أو بتأثير وقدوة صديق صالح. ويقول: »أنصحك. عيني عليك« (آية 8ب) لأنه يريدنا أن نسلك في طريق مستقيم، باختيارنا الحر، تحت قيادته وحمايته. ولكن عندما نعاند صوته، ونستمر في خطايانا ولا نعترف بها ولا نتوب عنها، نعطل خطته الحلوة الصالحة لحياتنا.
2 – عدم الاعتراف يدمِّر قُوى النفس: »لا تكونوا كفرس أو بغل بلا فهم. بلجام وزمام زينته يكمُّ« (آية 9). وجاءت في ترجمة دار المشرق: »لا تكُن كالفرس والبغل بغير فهم. بشكيمةٍ ورَسَنٍ يُكبَح جماحهما لكي لا يقتربا منك«. هذا تحذير لكل من يتغافل خطة الله لحياته ويرفض طاعته. يصير كالبغل الذي يرمز للعناد، وكالفرس الجامح. ويضع الناس لجاماً في فم الفرس أو البغل، للزينة وللتوجيه، ليخضع الحيوان لصاحبه. فإن لم يقترب الإنسان من الله ويطيعه بكامل حريته واختياره يصير كالحيوان الجامح الذي يحتاج إلى لجام وزمام حتى يصبح طوع أمر صاحبه »لئلا يدنو« إلى صاحبه فيهاجمه ويضره ويؤذيه. والإنسان الذي في كرامة ولا يفهم يشبه البهائم التي تُباد (مز 49: 20).
إننا لا نحتاج إلى لجام لأن الله أعطانا عقولاً. لكن عندما نسلك في جهلٍ وعناد كالحيوان، يستخدم الله معنا القسوة ليُرجعنا إليه. فلا نكون معاندين مثل قايين الذي قال الله له: »لماذا سقط وجهك؟ إن أحسنتَ أفلا رفع؟ وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة« (تك 4: 6، 7). ولكن قايين لم يحسن! ولا نكن معاندين مثل بلعام الذي عصى الرب وأحب أجرة الإثم، ولكنه حصل على توبيخ تعدّيه، إذ منع حماقته حمارٌ أعجم ناطقاً بصوت إنسان (عدد 22 و2بط 2: 15، 16).
ثالثاً – نكبات الشرير ومباهج الصديق
(آيتا 10، 11)
في هاتين الآيتين مقارنة بين مصير الشرير والصديق، وهي دعوة للاعتراف بالخطية وللتوبة.
1 – نكبات الشرير كثيرة: »كثيرة هي نكبات الشرير« (آية 10أ). لا نكبة واحدة بل نكبات متتابعة! تُرى هل تستحق الخطية كل الثمن المدفوع فيها؟ »ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟« (مت 16: 26). ما أكثر نكبات الشرير التي جلبها على نفسه لأنه قاوم المشيئة الإلهية، ثم رفض الاعتراف بخطيته، مع أن الله دعاه للتوبة مراراً، فجاء الشيطان وخطف ما قد زُرع في قلبه (مت 13: 19).
2 – مراحم الصديق عظيمة: »أما المتوكل على الرب فالرحمة تحيط به« (آية 10 ب). المتوكل على الرب هو الذي يتصرف في نور كلمة الله، معتمداً على المواعيد الإلهية، ومطيعاً للتوجيهات السماوية، فيقول: »إنما خير ورحمة يتبعانني كل أيام حياتي« (مز 23: 6) فالرحمة والحق ملاكان حارسان يتبعان المؤمن. وعندما يعترف الإنسان ويتوب يصبح صِدِّيقاً باراً صاحب موقف سليم نحو الله، يقول: »إذ قد تبرَّرنا بالإيمان لنا سلام مع الله« (رو 5: 1). ويصير قلبه مستقيماً لأنه يتجه الاتجاه السليم من الله، مثل العشار الذي صلى: اللهم ارحمني أنا الخاطئ، فنزل إلى بيته مبرَّراً صدِّيقاً مستقيم القلب. هذا التائب وأمثاله تحيطهم المراحم إحاطة السوار بالمعصم، فيفرحون ويبتهجون بالرب كل حين (في 4: 4) ويصير فرح الرب قوتهم (نح 8: 10).
ما أكثر الذين يطلبون المراحم الأرضية، من صحة وبنين ومال وراحة بال. ولكن ما أحوجهم لأن يطلبوا أولاً ملكوت الله وبره فيزيد الله لهم هذه كلها (مت 6: 33) وبداية طلب الملكوت هي الاعتراف بالخطية وطلب الغفران واتخاذ الموقف السليم من الله.
والآية الأخيرة من مزمورنا تطبيق للآية الأولى منه. تقول بداية المزمور: »طوبى للذي غُفر إثمه« وتقول نهايته: »افرحوا بالرب وابتهجوا أيها الصدِّيقون« (آية 11أ). يا من حُسب لكم برُّ الرب، وقد تبرَّرتم بنعمته بالفداء الذي بالمسيح. »اهتفوا يا جميع المستقيمي القلوب« (آية 11ب) لأن الله لا يحسبكم آثمين، فقد غفر إثمكم بعد أن اعترفتم به، فاعتبركم مستقيمين. صحيح أنكم أخطأتم الهدف، لكن بعد توبتكم عرفتم الهدف الصحيح، فجدَّد الله حياتكم وغيَّرها، وجمَّلها بخلاصه، ورفع عنكم خطاياكم، وملأ أفواهكم بالتهليل والتسبيح له. ليس الفرح امتيازكم فقط، لكنه واجبكم أيضاً! لا مكان للتذمُّر ولا للحزن في ما بعد!
لنرجع إلى الرب تائبين فيرحمنا ويكثر لنا الغفران (إش 55: 7).
اَلْمَزْمُورُ الثَّالِثُ وَالثَّلاَثُونَ
1اِهْتِفُوا أَيُّهَا الصِّدِّيقُونَ بِالرَّبِّ. بِالْمُسْتَقِيمِينَ يَلِيقُ التَّسْبِيحُ. 2احْمَدُوا الرَّبَّ بِالْعُودِ. بِرَبَابَةٍ ذَاتِ عَشَرَةِ أَوْتَارٍ رَنِّمُوا لَهُ. 3غَنُّوا لَهُ أُغْنِيَةً جَدِيدَةً. أَحْسِنُوا الْعَزْفَ بِهُتَافٍ، 4لأَنَّ كَلِمَةَ الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ، وَكُلَّ صُنْعِهِ بِالأَمَانَةِ. 5يُحِبُّ الْبِرَّ وَالْعَدْلَ. امْتَلأَتِ الأَرْضُ مِنْ رَحْمَةِ الرَّبِّ. 6بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ، وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا. 7يَجْمَعُ كَنَدٍّ أَمْوَاهَ الْيَمِّ. يَجْعَلُ اللُّجَجَ فِي أَهْرَاءٍ. 8لِتَخْشَ الرَّبَّ كُلُّ الأَرْضِ، وَمِنْهُ لِيَخَفْ كُلُّ سُكَّانِ الْمَسْكُونَةِ. 9لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ. 10الرَّبُّ أَبْطَلَ مُؤَامَرَةَ الأُمَمِ. لاَشَى أَفْكَارَ الشُّعُوبِ. 11أَمَّا مُؤَامَرَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الأَبَدِ تَثْبُتُ. أَفْكَارُ قَلْبِهِ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ.
12طُوبَى لِلأُمَّةِ الَّتِي الرَّبُّ إِلَهُهَا، الشَّعْبِ الَّذِي اخْتَارَهُ مِيرَاثاً لِنَفْسِهِ. 13مِنَ السَّمَاوَاتِ نَظَرَ الرَّبُّ، رَأَى جَمِيعَ بَنِي الْبَشَرِ. 14مِنْ مَكَانِ سُكْنَاهُ تَطَلَّعَ إِلَى جَمِيعِ سُكَّانِ الأَرْضِ. 15الْمُصَوِّرُ قُلُوبَهُمْ جَمِيعاً، الْمُنْتَبِهُ إِلَى كُلِّ أَعْمَالِهِمْ. 16لَنْ يَخْلُصَ الْمَلِكُ بِكَثْرَةِ الْجَيْشِ. الْجَبَّارُ لاَ يُنْقَذُ بِعِظَمِ الْقُوَّةِ. 17بَاطِلٌ هُوَ الْفَرَسُ لأَجْلِ الْخَلاَصِ، وَبِشِدَّةِ قُوَّتِهِ لاَ يُنَجِّي. 18هُوَذَا عَيْنُ الرَّبِّ عَلَى خَائِفِيهِ الرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ، 19لِيُنَجِّيَ مِنَ الْمَوْتِ أَنْفُسَهُمْ، وَلِيَسْتَحْيِيَهُمْ فِي الْجُوعِ.
20أَنْفُسُنَا انْتَظَرَتِ الرَّبَّ. مَعُونَتُنَا وَتُرْسُنَا هُوَ. 21لأَنَّهُ بِهِ تَفْرَحُ قُلُوبُنَا، لأَنَّنَا عَلَى اسْمِهِ الْقُدُّوسِ اتَّكَلْنَا. 22لِتَكُنْ يَا رَبُّ رَحْمَتُكَ عَلَيْنَا حَسْبَمَا انْتَظَرْنَاكَ.
دعوة للتسبيح
هذا المزمور دعوة للفرح والتسبيح لله بعد أن أنعم الله بالغفران على المرنم الذي اعترف بخطيته في مزمور 32، وتأكد أن الله ستر خطيته، فقال: »طوبى للذي غُفر إثمه وسُترت خطيته« (آية 1) وأنهى مزموره بأن دعا المؤمنين: »افرحوا بالرب وابتهجوا يا أيها الصدّيقون، واهتفوا يا جميع المستقيمي القلوب« (آية 11). ثم بدأ مزمور 33 بذات الدعوة: »اهتفوا أيها الصدّيقون. بالمستقيمين يليق التسبيح. احمدوا الرب بالعود. غنوا له أغنية جديدة«. فالذين متَّعهم الرب بمغفرة خطاياهم يجتمعون معاً ليرتلـوا ويشجّعـوا بعضهم بعضاً على أن يغنّوا أغنية شكر جديدة، يمجدون فيها الله من أجل صفاته وأعماله، فهو الخالق والملك والقاضي والمخلِّص، الذي بدأت العلاقة السليمة معه بالغفران والقبول أمامه، فيهتف الصدِّيقون ويعظمونه، ويعلنون ثقتهم فيه، وينتظرونه في خشوع.
في مباريات كرة القدم لا تُحسَب الأهداف إلا لأعضاء الفريق. صحيحٌ أن المتفرجين يراقبون، لكن لو قام أحدهم بإصابة الهدف فإنه لا يُحتسب له. فإن كنت تريد أن تصيب الهدف الذي خلقك الله لأجله، وأن تتمتع بالفرح الروحي، لا تكتفِ بأن تكون من المشاهدين، بل من المشتركين المختبرين، بأن تنضم لجماعة الرب فتنعم بالفرح الحقيقي الذي يمتع الله به الذين لا يحسب لهم خطية بعد أن وضعوا ثقتهم في كفارة المسيح، وتنادي معهم: »احمدوا الرب بالعود. بربابة ذات عشرة أوتار رنِّموا له. أحسِنوا العزف بهتاف« فإن إلهنا يستحق كل ترتيل وتمجيد وتسبيح، لأنه قَبِلَنا بالرغم من خطيتنا، وأنعم علينا بحلول المسيح بالإيمان في قلوبنا، فصرنا فيه خليقة جديدة.

في هذا المزمور نجد:
أولاً – دعوة المؤمنين للتسبيح (آيات 1-3)
ثانياً – تسبيح إله الخليقة (آيات 4-11)
ثالثاً – تسبيح إله البشر (آيات 12-19)
رابعاً – كيف يكون التسبيح؟ (آيات 20-22)
أولاً – دعوة المؤمنين للتسبيح
(آيات 1-3)
1 – وصف المسبِّحين:
(أ) هم الصدّيقون: »اهتفوا أيها الصدِّيقون بالرب« (آية 1أ). نال المؤمنون موقفاً جديداً من الله هو موقف الصدِّيقين، أي المبرَّرين. فبعد أن كانوا خطاة منفصلين عنه صاروا صدِّيقين أصحاب موقف سليم منه، يتلقّون الدعوة لأن يهتفوا ويسبحوا الرب الذي برَّرهم وغفر لهم. »فإذ قد تبرَّرنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح« (رو 5: 1) لأنه قد حُسب لنا بر المسيح. ومعروف أن »الكل قد زاغوا معاً. فسدوا. ليس من يعمل صلاحاً. ليس ولا واحد« (مز 14: 3). لكن الصدّيق المستقيم الصالح البار هو الذي احتمى في دم المسيح فسَتَرَهُ، وقرر في قلبه أن يحيا حياة الاستقامة.
(ب) هم المستقيمون: »بالمستقيمين يليق التسبيح« (آية 1ب). الصدِّيق هو المستقيم. كان يوسف الصدِّيق مستقيماً رفض الدعوة العوجاء من سيدته فلم يرتكب الإثم (الذي هو العوَج). هؤلاء الصدّيقون المستقيمون صارت لهم طبيعة جديدة، يليق بصاحبها أن يسبِّح، لأن الله أنعم عليه بالتبني، فهـو يسبـح أباه المعتني به، الذي له علاقة شخصيـة معـه. »ذابح الحمـد يمجدنـي« (مز 50: 23). أمـا الخاطئ فلا يفرح بالتسبيح لأنه منفصلٌ عن الله، ولا علاقة له به.
2 – آلات المسبِّحين: »احمدوا الرب بالعود. بربابة ذات عشرة أوتار رنِّموا له« (آية 2). يشترك المؤمنون مع كل خليقة الله في الترنيم والتسبيح لله، فالجبال تغني (إش 55: 12) وأشجار الوعر تغني (1أي 16: 33) والأودية تغني (مز 65: 13) وكواكب الصبح معاً وجميع بني الله (أي 38: 7). وفي سفر الرؤيا نقرأ عن ترنيم 144 ألف مؤمن كُتب اسم الرب على جباههم، يعزفون بقيثاراتهم ويرنمون ترنيمة جديدة أمام العرش (رؤ 14: 1-5).
وفي التسبيح كلمات، ولحن، وأصواتٌ، وآلات موسيقية:
(أ) هناك الكلمات: وهي نتيجة انفعال مؤمن يحب الرب، لأنه لمس قلبه بإحسانه، ففاض بكلام صالح، وأنشد قصيدة يمجِّده بها، لأن مراحمه لا تزول وهي جديدة في كل صباح (مرا 3: 22، 23). وقد ينفعل المؤمن نفسه فيضع لكلمات تسبيحه لحناً موسيقياً مناسباً، أو قد يقرأ الكلمات مؤمنٌ آخر فيتأثر بها ويلحِّنها لمجد الرب.
(ب) وهناك الأصوات: ترتفع وتشدو بالترتيل، بعضها جميل يرنم في الجوقة، وبعضها يعوزه الجمال، ولكنها كلها تشترك في تسبيح الرب وشكره، لأنه وهبها التبرير والموقف السليم منه، وأعطاها الحياة الجديدة ولسان الترنُّم، فالترتيل واجب كما أنه امتياز.
(ج) وهناك الآلات الموسيقية: تصاحب الترنيم لتُضفي عليه جمالاً، من عود وربابة ذات عشرة أوتار، وهي أفضل آلات العزف في زمان المرنم. لكن حتى لو لم تكن هناك آلات عزف فإن المؤمنين يترنمون ويرتلون في قلوبهم للرب (أف 5: 19). وفي هذا التسبيح تشابه وجِدَّة »غنّوا له أغنية جديدة. أَحسِنوا العزف بالهتاف« (آية 3). ويرنم المؤمن في تسابيح فردية أو مع المؤمنين في شركة جماعية.
ثانياً – تسبيح إله الخليقة
(آيات 4-11)
تسبِّح كل الخليقة إلهها:
1 – بسبب استقامته وأمانته: »لأن كلمة الرب مستقيمة، وكل صُنعه بالأمانة. يحب البر والعدل. امتلأت الأرض من رحمة الرب« (آيتا 4، 5). كلمات الرب وأفعاله مستقيمة وأمينة، وكلاهما يعلنان عن إرادته الصالحة. »كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق، نازلة من عند أبي الأنوار، الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران« (يع 1: 17). لهذا يهتفون له: »العدل والحق قاعدة كرسيِّك. الرحمة والأمانة تتقدَّمان أمام وجهك« (مز 89: 14). تشهد الطبيعة لأمانته بصدق قوانينها، فيمكنك مثلاً أن تعتمد دائماً على قانون الجاذبية، وتستخدمه في حياتك. وتعلّمنا صدق قوانين الله أن أمانته مطلقة، وأنه كثير الإحسان والوفاء (خر 34: 6).
2 – بسبب عظيم قوته: »بكلمة الرب صُنعت السموات وبنسمة فمه كل جنودها« (آية 6). خلق الله السموات بكل ما فيها مـن كواكب وملائكـة. »كـل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان« (يو 1: 3). »مَن جمع الريح في حَفنتيه؟ مَن صرَّ المياه في ثوب؟ من ثبَّت جميع أطراف الأرض؟ ما اسمه، وما اسم ابنه إن عرفت؟« (أم 30: 4). و»جنود السماء« هم الشمس والقمر والنجوم لأنها تتحرك كجيش منضبط طاعةً لأمر الله »ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا. من خلق هذه؟.. لكثرة القوة، وكونه شديد القدرة لا يُفقَد أحدٌ« (إش 40: 26).
»يجمع كندٍّ أمواه اليمّ« (آية 7أ): في البدء كانت المياه تغطي اليابسة، فقال الله: »لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة. وكان كذلك. ودعا الله اليابسة أرضاً، ومجتمع المياه دعاه بحاراً« (تك 1: 9، 10). فهل يستطيع أحد أن يوقف الماء كحائط؟ الله وحده يفعل ذلك بواسطة أنبيائه الصالحين الصادقين: فعله بواسطة موسى، وبواسطة يشوع، وبواسطة إيليا وبواسطة أليشع. ففي وقت الخروج »مدَّ موسى يده على البحر (الأحمر) فأجرى الربُّ البحرَ بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة، وانشقَّ الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سورٌ لهم عن يمينهم وعن يسارهم« (خر 14: 21، 22)، فقالوا في تسبيحة النجاة: »بريح أنفك تراكمت المياه. انتصبت المجاري كرابية. تجمَّدت اللجج في قلب البحر« (خر 15: 8). وفي وقت عبور نهر الأردن »عند إتيان حاملي التابوت إلى (نهر) الأردن، وانغماس أرجل الكهنة حاملي التابوت في ضفَّة المياه، والأردن ممتلئ إلى جميع شطوطه.. وقفت المياه المنحدرة من فوق وقامت ندّاً واحداً« (يش 3: 15، 16). أما إيليا فقد أخذ رداءه »ولفَّه وضرب الماء فانفلق إلى هنا وهناك، فعبرا كلاهما (إيليا وأليشع) في اليبس« (2مل 2: 8). وعندما أخذ أليشع رداء إيليا ذهب إلى نهر الأردن وقال: »أين هو الرب إله إيليا؟ ثم ضرب الماء أيضاً فانفلق إلى هنا وهناك، فعبر أليشع« (2مل 2: 14).
»يجمع اللجج في أهراء« (آية 7ب). الأهراء هي المخازن. ويقصد المرنم أن الله العظيم يخزن المياه في السحب، وفي البحار والمحيطات ليستخدمها في الوقت الذي يريده لتحقَّق أغراضه، كما قيل إنه يوم طوفان نوح »انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء« (تك 7: 11). وقال الله لأيوب: »أَدَخلتَ إلى خزائن الثلج، أم أبصرتَ مخازن البَرَد، التي أبقيتُها لوقت الضَّرِّ، ليوم القتال والحرب؟« (أي 38: 22، 23).
3 – بسبب شمول سلطانه: »لتخشَ الربَّ كلُّ الأرض، ومنه ليخَفْ كل سكان المسكونة. لأنه قال فكان. هو أمر فصار« (آيتا 8، 9). خلق الله الكون وما فيه بكلمة منه. ويطلب المرنم أن يعترف كل سكان الأرض بسلطانه الذي يمتد إلى كل الأرض وليس إلى شعبه فقط، ويطلب من أجل كل أمم الأرض أن يخافوا الرب لأن مخافته بدء الحكمة (أم 9: 10). يتمتع سكان الأرض جميعاً من أبرار وأشرار بعطايا الله، وعليهم جميعاً أن يتَّقوه ويسبحوه لأنه يرعاهم ويحفظهم بمعجزاته كل يوم، سـواء
الشمس ذات يوم، أو لم نجد أوكسجيناً في الجو؟ لو أننا فكرنا في معجزاته معنـا لنادينـا بعضُنـا بعضـاً قائلين: »اهتفوا أيها الصدّيقون بالرب. بالمستقيمين يليق التسبيح«.
4 – بسبب حكمة تدبيره: »الرب أبطل مؤامرة الأمم. لاشى أفكار الشعوب. أما مؤامرة الرب فإلى الأبد تثبت. أفكار قلبه إلى دور فدور« (آيتا 10، 11). »في قلب الإنسان أفكار كثيرة، لكن مشورة الرب هي تثبت« (أم 19: 21). قلوب قادة الدول وتدبيراتهم وقراراتهم في يده. إنهم يفكرون ويتآمرون، والله يخطط ويدبر. فإذا تناقضت أفكارهم مع أفكاره تبطل مؤامراتهم وتتلاشى أفكارهم لأنها شريرة. أبطل الله مشورة أخيتوفل الشريرة (2صم 15: 31 و17: 23) ، وقَلَب خُطط هامان الأثيم على رأسه (أس 8: 7). أما مؤامرته فتثبت إلى الأبد، وأفكاره إلى دور فدور، لأنها تدبيرات محبة، والمحبة لا تسقط أبداً. إلهنا الصالح يخطط لكل سكان الأرض تخطيط الأب المحب. فما أعظم هذا الإله الذي يليق له التسبيح.
تساءل المرنم: »لماذا ارتجت الأمم، وتفكَّر الشعوب في الباطل؟ قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه.. الساكن في السموات يضحك« (مز 2: 1-4) وكأن مجموعة أطفال صغار يريدون أن يهدموا جبلاً! ستتحقَّق رغبات قلب الله المحب، وستنهزم الشرور! »هِيجوا أيها الشعوب وانكسِروا. وأَصغِي يا جميع أقاصي الأرض. احتزِموا وانكسِروا. احتزِموا وانكسِروا. تشاوروا مشورةً فتَبطُل. تكلَّموا كلمة فلا تقوم. لأن الله معنا« (إش 8: 9، 10).
ثالثاً – تسبيح إله البشر
(آيات 12-19)
1 – يسبّحون صاحب المعرفة الكاملة: »طوبى للأمَّة التي الرب إلهها، الشعب الذي اختاره ميراثاً لنفسه. من السموات نظر الرب، رأى جميع بني البشر، من مكان سُكناه تطلع إلى جميع سكان الأرض. المصوِّر قلوبهم جميعاً. المنتبه إلى كل أعمالهم« (آيات 12-15). خلق الله كل البشر، وهو يراقبهم جميعاً ويعرف كل أعمالهم وأفكار قلوبهم، ويعتني بهم، ويشرق بنوره ويُنزِل أمطاره عليهم. ومن بينهم خليقته المختارون، أصحاب المكانة الخاصة عنده، لأنه اختارهم ميراثاً لنفسه، عزيزاً عليه، لا يفرط فيه، ولا يستبدله. والمختار هو الذي يقبل المسيح مخلِّصاً له »كل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه، الذين وُلدوا.. من الله« (يو 1: 12). ويوجِّه الله للبشر جميعاً دعوة عامة تقول: »التفتوا إليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض« (إش 45: 22) وكل من يقبل هذه الدعوة يصبح من جماعة الرب الخاصة المختارة التي قبلته مخلِّصاً، والتي صلى المسيح لأجلها في صلاته الشفاعية: »لأجلهم أقدِّس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدَّسين في الحق» (يو 17: 19) فقد خصص نفسه لجماعة المؤمنين، ليصبحوا خاصته. فليهتفوا شاكرين لأنهم ينتمون إليه، ولأنهم ميراثه، يقول لهم: »لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه« (مت 6: 8). إن كنت بعيداً عن الله، وارتكبت أخطاء لم تُجازَ عليها، وأنت تظن أن الله لا يحسن ولا يسيء (صف 1: 12)، فلتعلم أن الله لا بد أن يجازي كل واحد حسب عمله، لأنه يعرف كل شيء. «يا رب قد اختبرتَني وعرفتني. أنت عرفت جلوسي وقيامي.. لأنه ليس كلمةٌ في لساني إلا وأنت يا رب عرفتَها كلها.. لم تختفِ عنك عظامي حينما صُنِعت في الخفاء، ورُقِمْتُ في أعماق الأرض« (مز 139: 1، 2، 4، 15).
2 – يسبّحون صاحب القوة الكاملة: »لن يَخلُص الملك بكثرة الجيش. الجبار لا يُنقَذ بعِظم القوة. باطلٌ هو الفرَس لأجل الخلاص، وبشِدَّة قوته لا ينجّي« (آيتا 16، 17). يظن الناس أن خلاصهم من أعدائهم يتوقَّف على جيشهم الكبير وترسانتهم العسكرية، لكن الحقيقة هي أن النصر من عند الرب، وليس للرب مانع عن أن يخلّص بالكثير أو بالقليل (1صم 14: 6). أنقذ شعبه الضعيف من يد فرعون القوي، فتمجَّد بفرعون ومركباته وفرسانه (خر 14: 18). وعاد ينقذ شعبه عندما قاد القاضي جدعون ثلاث مئة رجل يحملون أبواقاً وجِراراً ومشاعل ليهزموا الجيش المدياني المكوَّن من 32 ألف جندي (قض 7: 19-25) ولم تقدر قوة المديانيين العظيمة أن تنقذهم، ولا حماهم سلاح فرسانهم من أن يقتلوا بعضهم بعضاً في غمرة رعبهم من سماع أصوات أبواق وجرارٍ تتكسَّر! وكان هذا اختبار داود الصغير أمام جليات الجبار (1صم 17)، كما كان اختبار بطرس في سجن هيرودس (أع 12) واختبار بولس وسيلا في سجن فيلبي (أع 16).
3 – يسبّحون صاحب النجاة الكاملة: »هوذا عين الرب على خائفيه الرّاجين رحمته، لينجي من الموت أنفسهم وليستحييهم في الجوع« (آيتا 18، 19). »لأن عيني الرب على الأبرار، وأذنيه إلى طلبتهم. ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر« (1بط 3: 12). لله شعب مختار من كل قبيلة وشعب ولسان (رؤ 7: 9) يحب الرب ويتمتع برعايته ويتَّقيه ويخافه ويرجو رحمته. وينظر الرب إلى شعبه بعين الرضا والرعاية، فينجّي نفوسهم من الموت في الحروب التي يشنُّها عليهم أعداؤهم، ويستحييهم إذا أصاب الجفاف أرضهم ونقصت محاصيلهم الزراعية، ويقول لهم: »أما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة. فلا تخافوا. أنتم أفضل من عصافير كثيرة« (مت 10: 30، 31). وعندما نخاف الرب نتَّقيه، ثم نرجوه وننتظره، فينجي نفوسنا من الموت ويستحيينا في الجوع.
رابعاً – كيف يكون التسبيح؟
(آيات 20-22)
في هذه الآيات الثلاث نرى كيف يجب أن يكون التسبيح:
1 – ليكن التسبيح بروح الانتظار: »أنفسنا انتظرت الرب، معونتنا وترسنا هو« (آية 20). إننا نسبّح إلهاً حياً فعّالاً ننتظره، لأنه معونتنا وترسنا. والترس قطعة خشب مغطاة بالجلد، يتلقّى الجندي بها السهام الموجَّهة ضده، فينغرس فيها سنُّ السهم، فلا يؤذي الجندي. عندما وجد بنو إسرائيل البحر الأحمر أمامهم، والجيش المصري من ورائهم، خافوا جداً، فقال لهم موسى: »لا تخافوا. قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم.. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون« (خر 14: 13، 14). وكان الرب معونتهم وترسهم. ونحن اليوم لا نتبع أوهاماً، فإن »الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت« (مز 91: 1). ننتظر الرب فيأتي لمعونتنا. إنه لا يقدم لنا تشجيعاً كلامياً فقط بل وعوداً مقرونة بالأفعال. هو الإله الفاعل في التاريخ، وفي الحاضر والمستقبل، وهو القائل: »ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر« (مت 28: 20). فلنسبِّحه وننتظر خلاصه.
2 – ليكن التسبيح بروح الفرح: »لأنه به تفرح قلوبنا. لأننا على اسمه القدوس اتكلنا« (آية 21). »اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصدِّيق ويتمنَّع« (أم 18: 10). واسم الرب يعني شخصه، كامل المحبة والقداسة والحكمة والقوة، فنتكل بفرح عليه لأنه الحي، صخر الدهور، صاحب السلطان في الأرض كلها، الذي قال: »دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض« (مت 28: 18). وعندما قال بيلاطس له: »ألست تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أطلقك؟« أجابه: »لم يكن لك عليَّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق« (يو 19: 10، 11). وعندما يتكل عليه المؤمنون يجدون الفرح الروحي العميق حتى في أقسى الظروف. في مدينة فيلبي ضُرب الرسولان بولس وسيلا كثيراً، ووُضعا في السجن الداخلي، ولكنهما كانا فرِحَين لأنهما حُسبا مستحقَّين أن يُهانا من أجل اسم المسيح. ولا يمكن أن يرنم سجينٌ مضروب جريح بصوتٍ عالٍ وبفرح حتى يسمعه جميع السجناء إلا إن كان فرحه نابعاً من قوة عليا، ولا غرابة فإن »فرح الرب هو قوتكم« (نح 8: 10). وعندما وجد سجان فيلبي خلاص نفسه »تهلل مع جميع بيته إذ كان قد آمن بالله« (أع 16: 34). فما أسعد شعبه وهم يسمعونه يقول: »خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي« (يو 10: 27، 28).
3 – ليكن التسبيح بروح الصلاة: حوَّل المرنم تسبيحه إلى صلاة قال فيها: »لتكن يا رب رحمتك علينا حسبما انتظرناك« (آية 22). يسبحه وينتظر معونته بكل فرح، واثقاً أنه سينال رحمة ويجد نعمة وعوناً في حينه (عب 4: 16). ويكرر المرنم إعلان انتظاره للرب. وبقدر ما ننتظره يعطينا »وكما آمنتَ ليكن لك« (مت 8: 13). فلنصلِّ واثقين، لأنه بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه (عب 11: 6).
هناك فرق كبير بين التربية البشرية والتربية الإلهية. فالبشر يفرحون بأن أولادهم وقفوا على أقدامهم واعتمدوا على أنفسهم. أما الآب السماوي فلا يريد أولاداً مستقلين، بل أبناء معتمدين عليه دائماً، لأنهم بدونه لا يقدرون أن يفعلوا شيئاً (يو 15: 5). وحتى عندما يكبرون روحياً ويحققون لمجد الله الشيء الكثير، لا بد أن يظلوا معتمدين عليه. فلنطلب من الله أن يزيد انتظارنا له، وأن يوسع آفاق إيماننا ويعطينا رؤية أكبر. ولتكن رحمته علينا حسبما ننتظره في تحقيق نهضة لحياتنا الروحية، ولكنيستنا، فننتعش ونتبارك نحن وبلادنا، ويسود العدل بيننا، ويتوقَّف الظلم، ويتحقَّق قصدُ الله أكثر في حياتنا، ونصبح بركة لبلادنا كما أرادنا المسيح أن نكون ملحاً للأرض، ونوراً للعالم، وخميرة صالحة تخمِّر العجين كله.
اَلْمَزْمُورُ الرَّابِعُ وَالثَّلاَثُونَ
لِدَاوُدَ عِنْدَمَا غَيَّرَ عَقْلَهُ قُدَّامَ أَبِيمَالِكَ فَطَرَدَهُ فَانْطَلَقَ
1أُبَارِكُ الرَّبَّ فِي كُلِّ حِينٍ، دَائِماً تَسْبِيحُهُ فِي فَمِي. 2بِالرَّبِّ تَفْتَخِرُ نَفْسِي. يَسْمَعُ الْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ. 3عَظِّمُوا الرَّبَّ مَعِي، وَلْنُعَلِّ اسْمَهُ مَعاً.
4طَلَبْتُ إِلَى الرَّبِّ فَاسْتَجَابَ لِي، وَمِنْ كُلِّ مَخَاوِفِي أَنْقَذَنِي. 5نَظَرُوا إِلَيْهِ وَاسْتَنَارُوا، وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ. 6هَذَا الْمِسْكِينُ صَرَخَ وَالرَّبُّ اسْتَمَعَهُ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ. 7مَلاَكُ الرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ وَيُنَجِّيهِمْ. 8ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ. 9اتَّقُوا الرَّبَّ يَا قِدِّيسِيهِ، لأَنَّهُ لَيْسَ عَوَزٌ لِمُتَّقِيهِ. 10الأَشْبَالُ احْتَاجَتْ وَجَاعَتْ، وَأَمَّا طَالِبُو الرَّبِّ فَلاَ يُعْوِزُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ.
11هَلُمَّ أَيُّهَا الْبَنُونَ اسْتَمِعُوا إِلَيَّ فَأُعَلِّمَكُمْ مَخَافَةَ الرَّبِّ. 12مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي يَهْوَى الْحَيَاةَ وَيُحِبُّ كَثْرَةَ الأَيَّامِ لِيَرَى خَيْراً؟ 13صُنْ لِسَانَكَ عَنِ الشَّرِّ وَشَفَتَيْكَ عَنِ التَّكَلُّمِ بِالْغِشِّ. 14حِدْ عَنِ الشَّرِّ وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. اطْلُبِ السَّلاَمَةَ وَاسْعَ وَرَاءهَا. 15عَيْنَا الرَّبِّ نَحْوَ الصِّدِّيقِينَ، وَأُذُنَاهُ إِلَى صُرَاخِهِمْ. 16وَجْهُ الرَّبِّ ضِدُّ عَامِلِي الشَّرِّ لِيَقْطَعَ مِنَ الأَرْضِ ذِكْرَهُمْ. 17أُولَئِكَ صَرَخُوا وَالرَّبُّ سَمِعَ، وَمِنْ كُلِّ شَدَائِدِهِمْ أَنْقَذَهُمْ. 18قَرِيبٌ هُوَ الرَّبُّ مِنَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، وَيُخَلِّصُ الْمُنْسَحِقِي الرُّوحِ. 19كَثِيرَةٌ هِيَ بَلاَيَا الصِّدِّيقِ، وَمِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيهِ الرَّبُّ. 20يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ. 21الشَّرُّ يُمِيتُ الشِّرِّيرَ، وَمُبْغِضُو الصِّدِّيقِ يُعَاقَبُونَ. 22الرَّبُّ فَادِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، وَكُلُّ مَنِ اتَّكَلَ عَلَيْهِ لاَ يُعَاقَبُ.
دائماً تسبيحه في فمي
هناك سبعة مزامير أطلق عليها القديس أغسطينوس اسم »مزامير الطريد« (هي 7، 34، 52، 54، 56، 57، 142) كتبها داود أثناء هروبه من مطاردات الملك شاول له، متنقِّلاً من بلد إلى بلد، ومن كهف إلى كهف، وحتى إلى بلاد الفلسطينيين.كتب داود هذا المزمور ترنيمة شكر احتفالاً بعناية الـرب بكل الذين يتَّقونه، دعـا فيه سـامعيه إلى حياة مخافة الرب التي تمنحهم البركة. وقد كتبه بعد أن هرب من وجه الملك شاول إلى «جت» إحدى خمس عواصم للفلسطينيين هي: غزة وأشدود وأشقلون وعقرون وجت. فقال مستشارو الملك »أبيمالك« ملك جت له إن داود هو الذي قتل جليات، وإنه الملك القادم لبني إسرائيل، فتضايق الملك. وأحسّ داود بالخطر، فتظاهر بالجنون، وأخذ يخربش الباب ويُسيل ريقه على لحيته. وصدَّق ملك جت أن داود مجنون فطرده ولم يقتله، فهرب داود ليختبئ في كهف عدلام (1صم 21، 22) حيث اجتمع حوله أربعمائة رجل من المتضايقين، وكان داود رئيساً عليهم. بمناسبة هذه النجاة كتب داود هذا المزمور ترنيمة شكر بدأه بقوله: »أبارك الرب في كل حين. دائماً تسبيحه في فمي«.
وقد يتساءل البعض: لماذا ورد اسم ملك جت »أخيش« في سفر صموئيل الأول بينما جاء في عنوان المزمور »أبيمالك«؟ والإجابة: إن اسم الملك الشخصي هو »أخيش« أما لقبه الرسمي فهو »أبيمالك« بمعنى »أب الملك« وهو لقب لملوك الفلسطينيين، كما كانوا يلقِّبون ملك مصر »فرعون« وملك عماليق »أجاج« بالإضافة إلى اسم الملك الشخصي.
ولقد كتب داود مزموراً آخر لهذه المناسبة هو مزمور 56 افتتحه بقوله: «ارحمني يا الله لأن الإنسان يتهمَّمني، واليوم كله محارباً يضايقني« واختتمه بقوله: »لأنك نجَّيت نفسي من الموت. نعم، رجليَّ من الزلق، لكي أسير قدام الله في نور الأحياء«. فالنجاة الإلهية من نصيب الذين يحبون الله الذين يريدون أن يطيعوه.
وهذا المزمور هو ثالث المزامير الأبجدية، تبدأ كل آية فيه بأحد حروف الأبجدية العبرية، ما عدا حرف »الواو«. سبقه مزمورا 9، 25. وقد اختارته الكنيسة ليُقرأ أثناء التناول من المائدة المقدسة لأن آية 8 فيه تقول: »ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتكل عليه«.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – تسبيحة شكر (آيات 1-10)
ثانياً – موعظة من كهف عدلام (آيات 11-14)
ثالثاً – علاقة الرب الطيبة بشعبه (آيات 15-22)
أولاً – تسبيحة شكر
(آيات 1-10)
1 – دعوة للتسبيح: (آيات 1-3).
(أ) هذا التسبيح تلقائي وحماسي: »أبارك الرب« (آية 1أ). ذكر الخطر العظيم الذي تهدَّده وهو في قصر الملك أخيش، وكيف نجاه الرب منه. لقد كان الخطر مفاجأة غير متوقعة كما كانت النجاة غير متوقعة، ففاض قلبه بالشكر لله.
(ب) هو تسبيح مستمر: »في كل حين.. دائماً« (آية 1ب). لم يعد الملك شاول يحتمل وجود داود حياً، فهرب إلى أخيش الذي لم يحتمل أن يراه أيضاً، ولكن الله ابتسم له ابتسامة الرضا وأنقذه من الموت، فقرر أن يقضي كل ما تبقَّى من عمره في تسبيح الله. سعيدٌ هو المؤمن الفرحان الشاكر، الذي تظهر تقواه في ترتيله في أيام المرض كما في أيام الصحة، وفي أوقات الفشل كما في أوقات النجاح.
(ج) هو تسبيح سرّي وعلني: »تسبيحه في فمي. بالرب تفتخر نفسي« (آيتا 1ج، 2أ). لسانه يسبِّح، وقلبه أيضاً يسبح. إنه يفتخر بالرب. لم يفتخر بذكائه في ادِّعاء الجنون الذي انطلى على أبيمالك، ولا افتخر بالأمور الأرضية، ولا بتهنئة الذات بالنجاة، بل بالرب الذي قال: »لا يفتخرنَّ الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار بجبروته، ولا يفتخر الغني بغناه. بل بهذا ليفتخرنَّ المفتخر: بأنه يفهم ويعرفني أني أنا الرب، الصانع رحمةً وقضاء وعدلاً في الأرض« (إر 9: 23، 24). فلنفتخر بشخص الرب، وبمواعيده، وبأمانته، وبمعجزاته.
(د) هو تسبيح يؤثِّر في سامعيه: »يسمع الودعاء فيفرحون. عظموا الرب معي ولنعلِّ اسمه معاً« (آيتا 2ب، 3). لقد سمع الودعاء دعوته فرتلوا معه. والوديع هو الذي تعلَّم التواضع في مدرسة الألم، فعظَّم الرب مع داود، اعترافاً بفضل الله وبعظمة نعمته، ونادى »أعطوا عظمةً لإلهنا« (تث 32: 3). »عظيم هو الرب وحميدٌ جداً، وليس لعظمته استقصاء« (مز 145: 3). وكلما شعرنا بعظمة الرب دَعَوْنا غيرنا ليشترك معنا في تسبيحه.
2 – دوافع التسبيح: (آيات 4-10).
ليست النجاة المعجزية من نصيب داود وحده، لكنها لكل الذين يتكلون على الله، فهو رب العالمين. ويذكر المرنم أربعة دوافع للتسبيح:
(أ) النجاة العظيمة: »طلبتُ إلى الرب فاستجاب لي، ومن كل مخاوفي أنقذني« (آية 4). كان خائفاً من شاول كثيراً ومن أخيش قليلاً، ولكن هذا القليل صار كثيراً. غير أن الرب أنقذه من الخوفين الكبير والصغير! يتعرض الخاطئ والمؤمن للأخطار، وغالباً تكون أخطار الخاطئ أقل من أخطار المؤمن، لأن إبليس رئيس هذا العالم يساند الخاطئ. لكن الخاطئ يحيا في خوف أكبر لأنه يعلم أن الله ليس معه. أما المؤمن فيطلب الرب فيستجيب له، ومن كل مخاوفه ينقذه. إن يد الله القادرة تصل إلينا في أعمق هُوَّة نسقط فيها، وعندما ندعوه من كل قلوبنا يستجيب لنا.
(ب) الأيام المشرقة القادمة: »نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل. هذا المسكين صرخ والرب استمعه، ومن كل ضيقاته خلَّصه« (آيتا 5، 6). النظر إلى العالم يصيب الإنسان بالاكتئاب. يكفي أن تقرأ الصفحة الأولى من أية جريدة لترى الشر والكراهية واليأس. أما من ينظر إلى الرب فترتفع معنوياته كما ارتفعت معنويات حنة بعد صلاتها، ولم يكن وجهها بعد مغيَّراً (1صم 1: 18). لقد تطلع الذين لدغتهم الحيات إلى الحيـة النحاسية، فنالوا الشفاء من السـم المميت (عد 21: 9). وترمز الحية إلى المسيح المخلِّص من سم الخطية (يو 3: 14-16). ولذلك يقول المؤمن: »إليك رفعتُ عينيَّ يا ساكناً في السموات. هوذا كما أن عيون العبيد نحو أيدي سادتهم، كما أن عيني الجارية نحو يد سيدتها، هكذا عيوننا نحو الرب إلهنا حتى يترأف علينا« (مز 123: 1، 2). إنه يستنير لأنه يطيع أمر الرب الذي قال للمؤمنين: »قومـي استنيـري لأنـه قـد جـاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك« (إش 60: 1). عندما رأى موسى مجد الرب لمع وجهه (خر 34: 30). »ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوف، كما في مرآة، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها، من مجدٍ إلى مجد، كما من الرب الروح« (2كو 3: 18).
(ج) الحماية الملائكية: »ملاك الرب حالٌّ حول خائفيه وينجيهم« (آية 7). ويسمّيه »ملاك حضرته« في القول: »في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلَّصهم. بمحبته ورأفته هو فكَّهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة« (إش 63: 9). هذا الملاك ينجي خائفي الله وكأنه جيش. ويسمّيه أيضاً »رئيس جند الرب« (يش 5: 14) القادم في جيش ملائكة للحماية، كما حدث مع يعقوب أبي الأسباط، فقد لاقاه ملائكة الله، فقـال لما رآهم: »هـذا جيـش الله« ودعـا اسم المـكان »محنـايم« بمعنـى »معسـكـران« (تك 32: 2). وكما حدث مع غلام النبي أليشع الذي كان خائفاً من الأعداء، فصلى النبي: »يا رب افتح عينيه فيبصر« فرأى الغلامُ الجبلَ مملوءاً خيلاً ومركبات نار حول أليشع (2مل 6: 16).
ينجينا الله من ضيقاتٍ نعرفها ونصرخ إليه منها، فنشكره. وينجينا من ضيقات لا نعرفها، ولم نكن نعلم أنها قادمة علينا، لأنه في محبته يستر الخطر عن عيوننا حتى لا نقلق.
(د) علاقة المؤمن الطيبة بالرب تدفعه للتسبيح: (آيات 8-10).
(1) هي علاقة شخصية: »ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتوكل عليه« (آية 8). يذوق المؤمن صلاح الله عندما يعرفه معرفة قريبة شخصية، فيكتشف صلاحه العظيم، ويتعلم أن يثق فيه ويتوكل عليه، ويكون سلوكه اليومي متوافقاً مع عقيدته، فيصبح قوياً به. قال الرسول بطرس: »ذُقتم أن الرب صالح« (1بط 2: 3) ويقصد بالرب هنا: المسيح. وقال الرسول بولس: »لأعرفه وقوة قيامته« (في 3: 10) ، وهذه معرفة القُرب والاختبار، التي تؤدي إلى السعادة الحقيقية. وكلمة »رجل« المستخدمة في هذه الآية معناها في اللغة العبرية »القوي« فالذي يذوق صلاح الله تصبح حياته الإيمانية والأخلاقية قوية.
(2) هي علاقة مُغيِّرة: »اتَّقوا الرب يا قدّيسيه« (آية 9أ). اتَّقوا أي صيروا قديسين، بأن تخافوا الله في سلوككم. والقداسة تعني التكريس والتخصيص لله، كما تعني الطهارة والسلوك الذي يتفق مع دعوتنا لأن نكون لله مملكة كهنة وأمة مقدسة (خر 19: 6) ويقول الله: »إني أنا الرب إلهكم، فتتقدَّسون وتكونون قديسين لأني أنا قدوس« (لا 11: 44). نقول إن هذه الكنيسة »مقدسة« لا لأن مواد بنائها تختلف عن مواد بناء أي بيت مجاور، لكن لأنها مخصصة لله. قال الرسول بولس: »الإله الذي أنا له والذي أعبده« فقد خصَّص نفسه لخدمته (أع 27: 23).
(3) هي علاقة مبارِكة: »لأنه ليس عوزٌ لمتَّقيه. الأشبال احتاجت وجاعت، وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير« (آية 9ب، 10). سدَّد الرب أعواز الأرملة المديونة، فملأت دهنة الزيت كل الأوعية التي استعارتها من جيرانها، وباعت الزيت وسددت ديونها، وعاشت هي وبنوها بما بقي (2مل 4: 1-7). أما الأشبال فاحتاجت وجاعت. وقد يقصد المرنم المعنى الحرفي لكلمة »الأشبال« كما قيل: »الليث هالك لعدم الفريسة، وأشبال اللبوة تبددت« (أي 4: 11)، أو قد يقصد بها المضايقين كما قيل: »استرِدَّ نفسي من تهلكاتهم، وحيدتي من الأشبال«. (مز 35: 17). ووحيدته هي حياته، والأشبال هم الأعداء الذين يريدون أن يهلكوه. فيكون المعنى أن القوي الذي يخطف يجوع، أما المؤمن الوديع فيرث الأرض ولا يحتاج إلى شيء. »الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء« (مز 23: 1). »فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع« (في 4: 19). وقد سأل المسيح تلاميذه: »حين أرسلتُكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية، هل أعوزكم شيء؟ فقالوا: لا« (لو 22: 35). إن الذين يعيشون حياة الصلة الشخصية بالله يضمنون لأنفسهم دائماً كل البركات الإلهية.
بشَّر القديس »كولومبا« اسكتلندا بالمسيحية (521-597م). وقبل موته مباشرة كان يكتب تفسيراً لمزمورنا، توقَّف فيه عند آية 10 ولم يكمله، فعلق كاتب سيرته بالقول: »لم يعوز القديس كولومبا شيء آخر من الخير وهو يعيش مع الله هنا، ولن يعوزه شيء من الخير وهو يحيا مع الله هناك. لقد ترك أمانة الوعظ والتعليم لمن سيحمل أمانة ذلك من بعده«.
ثانياً – موعظة من كهف عدلام
(آيات 11-14)
بعد أن تظاهر داود بالجنون، هرب من أمام أخيش الملك إلى كهف عدلام، حيث التحق به بعض أهله وأربعمائة رجل، معظمهم هاربون من ديون أو أحكام، وكلهم متضايقون ونفوسهم مُرَّة، ولكنهم قبِلوا قيادته لهم ورياسته عليهم (1صم 22: 1، 2). وذات يوم سبت في عدلام ألقى موعظة كانت إجابة لسؤال أثاروه. وسنتأمل في الواعظ، والسؤال، والموعظة.
1 – الواعظ: »هلمَّ أيها البنون، استمعوا إليَّ فأعلمكم مخافة الرب« (آية 11). هو واعظ رحيم على الخطاة، فينصحهم. صحيحٌ أنه شجاع كمحارب وقوي كقائد، كما أنه مختبرٌ شاركهم معاناة الطرد وهو بريء. غير أن أخلاقياته واهتماماته كانت أرفع من أخلاقياتهم واهتماماتهم، ومعرفته بالله أعمق من معرفتهم، فأخذ من الله تعليماً أعطاه لهم. والواعظ الناجح هو من يستمع لله ثم يُخبِر الناس بما سمعه، لأنه يريد أن تتغيَّر حياتهم للأفضل. كان يمكن أن ينشغل بنجاته الشخصية، أو بأمور الأربع مئة رجل المادية والاقتصادية، لكنه لم ينسَ أبداً الحياة الروحية لهذه الجماعة.
2 – الواعظ يطرح سؤالاً: »من هو الإنسان الذي يهوَى الحياة ويحب كثرة الأيام ليرى خيراً؟« (آية 12). والحياة التي يهواها خائف الله هي الحياة الفضلى التي جاء المسيح ليهبها لنا (يو 10: 10) وهي لا تُقاس بعدد الأيام، بل بالإنجاز والسعادة والطاعة. وهي الحياة ذات المعنى التي تخدم الآخرين وتنمو يوماً بعد يوم في مخافة الله، وهذا هو الخير الأسمى.
3 – الموعظة: ومضمونها أن السعيد هو الذي يخاف الله في كلامه، وفي سلوكه:
(أ) التقوى في الكلام: »صُن لسانك عن الشر وشفتيك عن التكلُّم بالغش« (آية 13). عادة يستخدم المطاريد لغة خشنة، فيتعاركون مع بعضهم ومع غيرهم. وينصحهم الواعظ أنهم إن أرادوا حياة طويلـة خيِّـرة فعليـهم أن يصونوا ألسنتـهم عن الشـر والغـش، فإنـه »مِن فضلـة القلـب يتكلـم الفـم« (لو 6: 45) فيجب أن تُصلح القلوب. ولن يتم ذلك إلا بإيجاد صلة شخصية بين كل واحد منهم والرب، فيذوقون كم الرب طيب، وأنه طوبى للرجل المتوكل عليه. وكلمة »الرجل« المستخدمة هنا تعني »القوي« القادر أن يسيطر على لسانه، لأنه »إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً« (2كو 5: 17).
(ب) التقوى في التصرُّف: »حِد عن الشر واصنع الخير. اطلب السلامة واسعَ وراءها«
(آية 14). وما أحوج المطاريد للسلام مع الله ومع النفس ومع الآخرين. وعليهم أن يسعوا وراءه باستمرار بغير يأس. »فلنعكف إذاً على ما هو للسلام وما هو للبنيان بعضنا لبعض« (رو 14: 19). وقد اقتبس الرسول بطرس هذه الكلمات في 1بط 3: 10. لأنه أراد أن يشرح للمؤمنين كيف يحصلون على الحياة ذات المعنى، وذات القيمة، في اللسان الذي نضبطه، وفي السلوك اليومي الذي يحيد عن الشر ويصنع الخير.
ثالثاً – علاقة الرب الطيبة بشعبه
(آيات 15-22)
يختم المرنم مزموره بالحديث عن الرب الصالح في علاقته بشعبه، ويذكر ثلاثة أمور:
1 – الرب يهتم بشعبه: »عينا الرب نحو الصدِّيقين وأذناه إلى صراخهم. وَجه الرب ضد عاملي الشـر ليقطـع مـن الأرض ذكـرهم. أولئـك صـرخوا والـرب سمـع، ومـن كـل شـدائـدهم أنقذهم« (آيات 15-17). علاقة الرب بشعبه هي:
(أ) علاقة المعرفة الكاملة: العين التي ترى، والأذن التي تسمع، لأنه أبٌ يهتم بشعبه ويرعاهم. »قولوا للصدِّيق خير، لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم« (إش 3: 10).
(ب) علاقة الرقَّة المتناهية والتدخُّل السماوي: »في ضيقي دعوت الرب وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي، وصراخي قدامه دخل أذنيه« (مز 18: 6). ولما كان المؤمنون يصرخون من اضطهاد ظالميهم، فإن الرب الذي يهتم بهم يعاقب الأشرار الظالمين، ويقطع من الأرض ذكرهم. أولئك (شعبه) صرخوا والرب أنقذهم من ظالميهم.
2 – الرب يرفع شعبه: »قريب هو الرب من المنكسري القلوب، ويخلّص المنسحقي الروح. كثيرة هي بلايا الصدِّيق ومن جميعها ينجيه الرب. يحفظ جميع عظامه، واحدٌ منها لا ينكسر. الشر يميت الشرير، ومبغضو الصدِّيق يُعاقَبون« (آيات 18-21). والمنكسرو القلوب والمنسحقو الـروح هم الذين حطمهم الحزن واليأس والاضطهاد والخطية، فذلوا تحت هذه كلها. لمثل هؤلاء يقول المسيح: »روح السيد الرب عليَّ، لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق.. لأعزّي كل النائحين« (إش 61: 1، 2). وكلما انكسر قلب الإنسان يتواضع، ويصبح أكثر استعداداً لتلقّي بركة الرب »لأنه هكذا قال العليُّ المرتفع ساكن الأبد، القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدَّس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأُحيي روح المتواضعين، ولأُحيي قلب المنسحقين« (إش 57: 57). يرفع الرب شعبه المنكسر ويقول لهم: »أجبر الكسير، وأعصب الجريح« (حز 34: 16).
لم يعدنا الرب أبداً أن نعيش بدون ألم، ولم يقل أبداً إننا لا نواجه ضيقاً، لكنه وعدنا أنه في العالم سيكون لنا ضيق، لكن نثق أنه قد غلب العالم، وأننا معه نغلب العالم، لأن الذي فينا أعظم من الذي في العالم (يو 16: 33 و1يو 4: 4). صحيحٌ أن المؤمنين يتألمون، وأن بلاياهم كثيرة من العالم الذي يبغض الحق. لكن إلههم معهم. محبته تنعشهم، ومواعيده تعزيهم، وعرش النعمة مفتوح لهم، ولا بد أن الشر يميت الشرير، والرب يحيي نفس الصدِّيق الذي تبرَّر بما فعله المسيح لأجله بكفارته الكريمة.
»يحفظ جميع عظامه« (آية 20أ). إنه يهتم بالجسد كما يهتم بالروح، فجسد المؤمن هيكل للروح القدس (1كو 6: 19). وقد تحققت هذه النبوَّة في المسيح المصلوب، فقد كسر العسكر ساقي اللصين المصلوبين معه، ولكنهم لم يكسروا ساقيه »لأنهم رأوه قد مات.. لأن هذا كان ليتمَّ الكتاب القائل: عظمٌ لا يُكسر منه« (يو 19: 32-36).
3 – الرب يفدي شعبه: »الرب فادي نفوس عبيده، وكل من اتكل عليه لا يُعاقَب« (آية 22). والفداء هو خلاص النفس من الخطية، وخلاص الجسد من المرض والجوع والألم. كان الأسير يدفع فدية أو فداءً. وقد أكمل المسيح فداءنا لما دفع أجرة خطايانا، فصار لنا من الله براً وقداسة وفداءً (1كو 1: 30) بشرط أن يقبل الخاطئ فداءه بإيمان قلبي. عندها يكون: »لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح« (رو 8: 1) بعد أن فداهم بدمه، لمدح مجد نعمته. فيقولون: »أبارك الرب في كل حين. دائماً تسبيحه في فمي«.
اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ وَالثَّلاَثُونَ
لِدَاوُدَ
1خَاصِمْ يَا رَبُّ مُخَاصِمِيَّ. قَاتِلْ مُقَاتِلِيَّ. 2أَمْسِكْ مِجَنّاً وَتُرْساً وَانْهَضْ إِلَى مَعُونَتِي، 3وَأَشْرِعْ رُمْحاً وَصُدَّ تِلْقَاءَ مُطَارِدِيَّ. قُلْ لِنَفْسِي: «خَلاَصُكِ أَنَا». 4لِيَخْزَ وَلْيَخْجَلِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ نَفْسِي. لِيَرْتَدَّ إِلَى الْوَرَاءِ وَيَخْجَلِ الْمُتَفَكِّرُونَ بِإِسَاءَتِي. 5لِيَكُونُوا مِثْلَ الْعُصَافَةِ قُدَّامَ الرِّيحِ، وَمَلاَكُ الرَّبِّ دَاحِرُهُمْ. 6لِيَكُنْ طَرِيقُهُمْ ظَلاَماً وَزَلَقاً، وَمَلاَكُ الرَّبِّ طَارِدُهُمْ، 7لأَنَّهُمْ بِلاَ سَبَبٍ أَخْفُوا لِي هُوَّةَ شَبَكَتِهِمْ. بِلاَ سَبَبٍ حَفَرُوا لِنَفْسِي. 8لِتَأْتِهِ التَّهْلُكَةُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، وَلْتَنْشَبْ بِهِ الشَّبَكَةُ الَّتِي أَخْفَاهَا، وَفِي التَّهْلُكَةِ نَفْسِهَا لِيَقَعْ. 9أَمَّا نَفْسِي فَتَفْرَحُ بِالرَّبِّ، وَتَبْتَهِجُ بِخَلاَصِهِ. 10جَمِيعُ عِظَامِي تَقُولُ: «يَا رَبُّ مَنْ مِثْلُكَ، الْمُنْقِذُ الْمِسْكِينَ مِمَّنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَالْفَقِيرَ وَالْبَائِسَ مِنْ سَالِبِهِ؟».
11شُهُودُ زُورٍ يَقُومُونَ، وَعَمَّا لَمْ أَعْلَمْ يَسْأَلُونَنِي. 12يُجَازُونَنِي عَنِ الْخَيْرِ شَرّاً ثَكَلاً لِنَفْسِي. 13أَمَّا أَنَا فَفِي مَرَضِهِمْ كَانَ لِبَاسِي مِسْحاً. أَذْلَلْتُ بِالصَّوْمِ نَفْسِي، وَصَلاَتِي إِلَى حِضْنِي تَرْجِعُ. 14كَأَنَّهُ قَرِيبٌ، كَأَنَّهُ أَخِي كُنْتُ أَتَمَشَّى. كَمَنْ يَنُوحُ عَلَى أُمِّهِ انْحَنَيْتُ حَزِيناً. 15وَلَكِنَّهُمْ فِي ظَلْعِي فَرِحُوا وَاجْتَمَعُوا. اجْتَمَعُوا عَلَيَّ شَاتِمِينَ وَلَمْ أَعْلَمْ. مَزَّقُوا وَلَمْ يَكُفُّوا. 16بَيْنَ الْفُجَّارِ الْمُجَّانِ لأَجْلِ كَعْكَةٍ حَرَّقُوا عَلَيَّ أَسْنَانَهُمْ.
17يَا رَبُّ إِلَى مَتَى تَنْظُرُ؟ اسْتَرِدَّ نَفْسِي مِنْ تَهْلُكَاتِهِمْ، وَحِيدَتِي مِنَ الأَشْبَالِ. 18أَحْمَدُكَ فِي الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ. فِي شَعْبٍ عَظِيمٍ أُسَبِّحُكَ. 19لاَ يَشْمَتْ بِي الَّذِينَ هُمْ أَعْدَائِي بَاطِلاً، وَلاَ يَتَغَامَزْ بِالْعَيْنِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. 20لأَنَّهُمْ لاَ يَتَكَلَّمُونَ بِالسَّلاَمِ، وَعَلَى الْهَادِئِينَ فِي الأَرْضِ يَتَفَكَّرُونَ بِكَلاَمِ مَكْرٍ. 21فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ. قَالُوا: «هَهْ هَهْ! قَدْ رَأَتْ أَعْيُنُنَا». 22قَدْ رَأَيْتَ يَا رَبُّ. لاَ تَسْكُتْ يَا سَيِّدُ. لاَ تَبْتَعِدْ عَنِّي. 23اسْتَيْقِظْ وَانْتَبِهْ إِلَى حُكْمِي، يَا إِلَهِي وَسَيِّدِي إِلَى دَعْوَايَ. 24اقْضِ لِي حَسَبَ عَدْلِكَ يَا رَبُّ إِلَهِي، فَلاَ يَشْمَتُوا بِي. 25لاَ يَقُولُوا فِي قُلُوبِهِمْ: «هَهْ! شَهْوَتُنَا». لاَ يَقُولُوا: «قَدِ ابْتَلَعْنَاهُ!». 26لِيَخْزَ وَلْيَخْجَلْ مَعاً الْفَرِحُونَ بِمُصِيبَتِي. لِيَلْبِسِ الْخِزْيَ وَالْخَجَلَ الْمُتَعَظِّمُونَ عَلَيَّ. 27لِيَهْتِفْ وَيَفْرَحِ الْمُبْتَغُونَ حَقِّي، وَلْيَقُولُوا دَائِماً: «لِيَتَعَظَّمِ الرَّبُّ الْمَسْرُورُ بِسَلاَمَةِ عَبْدِهِ». 28وَلِسَانِي يَلْهَجُ بِعَدْلِكَ. الْيَوْمَ كُلَّهُ بِحَمْدِكَ.

بلا سببٍ حفروا لنفسي

كتب داود هذا المزمور في وقت اضطهاد شديد، قد يكون أثناء مطاردة شاول المستمرة له. ولعله في هذا الوقت قال لشاول: »فيكون الربُّ الديانَ، ويقضي بيني وبينك (يا شاول) ويرى ويحاكم محاكمتي وينقذني من يدك« (1صم 24: 15). أو وربما كتبه وقت ثورة ابنه أبشالوم ضده.. كان مضطهِدو داود من أحبائه، فقد دافع داود عن شاول الملك وعن كرامته، ومع ذلك أراد قتله لمرضٍ في نفس شاول. فإن كنت قد فعلت خيراً لإنسان وجازاك شراً، ستجد في هذا المزمور عوناً وتشجيعاً.
في هذا المزمور نبوَّة عن المسيا، فيقول المرنم: »لأنهم بلا سبب أخفوا لي هوَّةً« (آية 7) وهي نبوَّة اقتبسها المسيح عن نفسه عندما قال: »رأوا وأبغضوني أنا وأبي.. لكي تتمَّ الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنهم أبغضوني بلا سبب« (يو 15: 24، 25 – مقتبَسة من مزمور 69: 4).
وتصف الآيتان 11، 12 من مزمورنا محاكمة المسيح: »شهود زورٍ يقومون، وعمَّا لم أعلم يسألونني. يجازونني عن الخير شراً، ثَكَلاً (إذلالاً) لنفسي«. ولقد سألوا المسيح عن أشياء لم تحدث، وجاء شهود زور كثيرون ولكن شهاداتهم عليه لم تتفق (مر 14: 56).
والمزمور عامر بطلب عقاب العدو. وربما أراد المرنم أن ينصفه الرب ويقضي له بعدالته، فيعلو حق الله وينال هو حقَّه، بعد أن قاسى من شاول، ومن أبشالوم، ومن شِمْعي (2صم 16: 5-13).. فيبدأ بالقول: »خاصِم يا رب مخاصميَّ، قاتِل مقاتليَّ. أَمسِك مجنّاً وتُرساً وانهض إلى معونتي.. قُل لنفسي: خلاصكِ أنا«. إنها كلمات مضطهَد مُتعَب يطلب من ربِّه العدالة والحماية.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – مخلِّص المرنم (آيات 1-10)
ثانياً – أعداء المرنم (آيات 11-16)
ثالثاً – صلاة المرنم (آيات 17-28)
أولاً – مخلِّص المرنم
(آيات 1-10)
لم يكن داود إنسان الانتقام، لكنه كان يعلن الدينونة الإلهية على الطبيعة البشرية الفاسدة. ومفتاح الآيات العشر الأولى هو القول: »قُل لنفسي: خلاصك أنا« (آية 3ب).
1 – المرنم يطلب خلاص الله: (آيات 1-3).
يطالب داود إلهه أن يعمل معه ما يعمله عادة مع كل المؤمنين: »يا رب خلِّصني«. وكأنه يقول: ليس بالضرورة يا رب أن تنقذني في هذه اللحظة، لكن أعطني الأمل أنك مخلِّصي.
في هذه الآيات الثلاث يدعو داود إلهه باسم »يهوه« ثماني مرات، ويهوه هو الخالق الحي الدائم الوجود الذي نجَّى وسينجي. وفيها يدعوه ثلاث مرات باسم »أدوناي« (السيد) بمعنى الحاكم العادل، لأنه يعلم أن في أرضنا سادة ولكن فوق العالي عالياً، والأعلى فوقهما يلاحظ (جا 5: 8).
ونحن نطلب من هذا الحاكم العادل السيد الذي يسود على الجميع أن يخلِّصنا. وفيها يدعوه مرتين باسم »إلوهيم« (الله) لأنه القادر الأبدي الذي يطمئن إليه، والذي نتَّجه إليه دائماً لأنه لا يغلق بابه في وجهنا أبداً.
ويصوِّر داود إلهه على أنه رجل حرب قادماً لمعونته، وقد تسلَّح ليحارب الأعداء دفاعاً عن عبده الضعيف، ولعله ذكر ترنيمة موسى: »الرب رجل الحرب.. يمينك يا رب معتزَّة بالقدرة. يمينك يا رب تحطم العدو« (خر 15: 3، 6). ولعله ذكر رئيس جند الرب الذي جاء ليساعد يشوع لينتصر على أريحا (يش 5: 13-15). وقد طالب الرب أن يمسك مِجنّاً (وهو الترس الكبير) وترساً، لأن المهاجمات ضده كثيرة، وعند الرب الدفاع الوحيد الناجع. والترس خشبة كبيرة مغلَّفة بالجلد، تُمسَك بسَيْر من ورائها، يتلقّى بها المحارب السهام الموجَّهة ضده، فبدل أن يصيب السهم داود يصيب الترس أو المجن لأنه يحتمي به. فالمرنم لا يطلب الخلاص في قاعة محكمة، بل في أرض معركة!
2 – خلاص الله موتٌ للشرير وحياةٌ للبار: (آيات 4-8).
لما كان الله هو المخلِّص الوحيد لشعبه يطالبه داود في هذه الآيات أن يجبر أعداءه على الانسحاب وإعلان الهزيمة، فيتحقَّق فيهم الوعد الإلهي: »حتى سَبْي الجبار يُسلَب، وغنيمة العاتي تُفلِت، وأنا أخاصم مخاصمك، وأُخلّص أولادك، وأطعم ظالميك لحم أنفسهم.. فيعلم كل بشر أني أنا الرب مخلِّصك« (إش 49: 25، 26). ويطلب أن يُستأصلوا كالعُصافة (وهي التبن والقش، رمز الضعف والضآلة) أمام الريح رمز القوة والقضاء، فينزلقون في ظلام أمام ملاك الرب الحال حول خائفيه وينجيهم، والذي يدحر الأعداء ويطاردهم ويُبعدهم، فينهزمون ويهربون ولا يعودون يهاجمون داود من جديد. وكل من يبتعد عن الله يحقِّر نفسه فيصير كالعصافة، زهيد القيمة، خفيف الوزن، لا استقرار له ولا سلام ولا هدوء، ويتم فيه القول: »تزلُّ أقدامهم. إن يوم هلاكهم قريب، والمهيَّآت لهم مسرعة« (تث 32: 35).
لقد هاجموا البريء و»بلا سبب حفروا لنفسي« (آية 7ب). وأخفى عدوُّه له شبكة يقتنصه بها ليهلكه، فقال: »لتنشب به الشبكة التي أخفاها، وفي التهلكة نفسها ليقع« (آية 8). ويتفق المرنم والنبي القائل: »هل يُجازَى عن خير بشرٍّ؟ لأنهم حفروا حفرة لنفسي. اذكر وقوفي أمامك لأتكلم عنهم بالخير، لأردَّ غضبك عنهم« (إر 18: 20). فإن »الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً« (غل 6: 7).
3 – المرنم يفرح بخلاص الله: »أما نفسي فتفرح بالرب وتبتهج بخلاصه. جميع عظامي تقول: يا رب، من مثلك المنقذ المسكين ممَّن هو أقوى منه، والفقير والبائس من سالبه؟« (آيتا 9، 10). كل صلاة مستجابة يجب أن تجعل قلوبنا تفيض بالشكر والفرح بخلاص الرب، الذي ليس مثله في رحمته وقوته وهو ينقذ المسكين من ظالمه. إن خلاص المسيح خبر طيب يسمِّن العظام (أم 15: 30) ويشجِّع المؤمن أن يتَّكل على الرب فيسمَن (أم 28: 25) وهو يقول: »مَن هو إلهٌ مثلك غافرٌ الإثم وصافحٌ عن الذنب لبقية ميراثه؟ لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يُسرُّ بالرأفة« (مي 7: 18).
في بداية الحديث عن الله المخلِّص صرخ المظلوم، يطلب من الله أن يحاكم مخاصميه، ويقاتل مقاتليه، ويتبنَّى قضيته ويدافع عنه. وأنهى هذا الحديث بالشكر لله: »أما نفسي فتفرح بالرب وتبتهج بخلاصه«. استمَع الله واستجاب وتبنَّى القضية، ودافع ونصَر، فله الشكر الممتزج بالفرح. وهذا ما سيحدث في نهاية العالم، إذ يقول الرائي: »سمعتُ صوتاً عظيماً من جَمْعٍ كثير في السماء، قائلاً: هللويا! الخلاص والمجد والكرامة والقدرة للرب إلهنا، لأن أحكامه حق وعادلة، إذ قد دان الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بزناها، وانتقم لدم عبيده من يدها. وقالوا ثانية: هللويا! ودخانها يصعد إلى أبد الآبدين« (رؤ 19: 1-3).
ثانياً – أعداء المرنم
(آيات 11-16)
1 – شهدوا عليه زوراً: »شهود زور يقومون، وعمّا لم أعلم يسألونني« (آية 11). اتَّهموا داود بجرائم لم يسمع عنها، وقالوا إنه يريد إيذاء الملك شاول، مع أنه زوج ابنته وأحد رجال القصر الأمناء (1صم 24: 9). فعلوا هذا مع أن الله أوصى: »لا تقبل خبراً كاذباً، ولا تضع يدك مع المنافق لتكون شاهد ظلم« (خر 23: 1). وقد كرر شيوخ اليهود الجريمة نفسها مع المسيح، فقد كانوا »يطلبون شهادة زور على يسوع لكي يقتلوه، فلم يجدوا. ومع أنه جاء شهود زور كثيرون لم يجدوا، ولكن أخيراً تقدَّم شاهدا زور« (مت 26: 59، 60).
2 – جازوا محبته بالبغضة: (آيات 12-14).
لم يكن يتوقع مثل هذه المعاملة من الذين عمل معهم الخير، فقد جازوه عن الخير»ثَكَلاً« أي إذلالاً لنفسه، وهو الأمر الذي تكرر مع المسيح، فقال لليهود: »أعمالاً كثيرة حسنة أريتُكم من عند أبي، بسبب أي عملٍ منها ترجمونني؟« (يو 10: 32).. عندما كان أعداء المرنم يمرضون كان يتذلل أمام الله في الصوم والصلاة لأجلهم وهو يلبس المسوح (وهي ثياب الحزن)، ليشفي الرب مرضهم، ويتوِّبهم إليه. بكى معهم وعليهم وكأنه ينوح على أمه. ولكن صلاته رجعت إلى حضنه بالبركة عليه، دون أن تحمل لهم أي بركة، لأنهم كانوا يرفضون نِعَم الله. عندما يطلب المؤمن بركة لغير المؤمن، تستجيب السماء صلاته وتجهِّز البركة وترسلها. ولكن المرسَل إليه يرفض الهدية، ويكتب عليها: يُعاد إلى الراسل، مع الشكر (أو مع عدم الشكر!). وهكذا يحرم نفسه من البركة. لكن لا بد أن تحصل صلاة المؤمن على استجابة، وقد رجعت صلاة المرنم عليه بالبركة. أما أعداؤه فلم يستفيدوا منها لأن قلوبهم كانت مغلقة عن نعمة الله. وقد قال المسيح للتلاميذ: «إن كان البيت مستحقاً فليأتِ سلامكم عليه. ولكن إن لم يكن مستحقاً فليرجع سلامكم إليكم» (مت 10: 13). كم حزن داود على شاول المريض، وكم عزف له على العود، وكم صلي لأجله، ولكن شاول الشرير لم يتبارك بصلاة داود.. وقد ردَّ الرب سبي أيوب لما صلى من أجل أصحابه، ولم يستفِد أصحابه من استجابة صلاته كما استفاد هو!
3 – شمتوا به وشتموه: »ولكنهم في ظَلْعي (عَرَجي) فرحوا واجتمعوا. اجتمعوا عليَّ شاتمين ولم أعلم. مزقوا ولم يكفّوا. بين الفجار المُجّان لأجل كعكة حرَّقوا عليَّ أسنانهم« (آيتا 15، 16). ربما هاجمه أحد أعدائه وأصابه، فوقع يظْلع (يعرج) فاجتمعوا حوله شامتين شاتمين، يمزِّقونه ولا يكفّون، كأنهم ذئاب مفترسة. ثم أمسكوا سيرته، وضحكوا عليه، وجعلوه موضوع سخريتهم في حفلاتهم، واستأجروا »الفُجّار المُجّان« (وهم المهرّجون الماجنون الساخرون) ليسخروا منه، وأعطوهم كعكة كأجرٍ لهم! وكانت العادة أن الذي يقيم وليمة يستأجر هؤلاء البهلوانات ليُضحِكوا ضيوفه أثناء تناول طعامهم. ويقول داود إن أصدقاءه المحترمين، الذين صام وصلى لأجلهم، وقفوا وسط هؤلاء المهرِّجين يحرِّقون عليه أسنانهم غضباً، يريدون أن يفترسوه.
ثالثاً – صلاة المرنم
(آيات 17-28)
1 – صلاة واثق: »يا رب إلى متى تنظر؟ استرِدَّ نفسي من تهلكاتهم، وحيدتي من الأشبال. أحمدك في الجماعة الكثيرة، في شعب عظيم أسبِّحك« (آيتا 17، 18). صام داود وصلى لأجل أعدائه، ولكنهم ردّوا الخير شراً. وبقي الرب وحده موضوع ثقته، لأنه دائماً أمين، لذلك عاتب ربَّه في محبة وأمل على تأخيره، وطالبه أن يستردَّ نفسه التي كادت تضيع منه، وأن يحفظ حياته وحيدته من فم الأشبال المتوحِّشة المفترسة. ثم أعلن مقدَّماً أنه سيعلن تسبيحه وسط المؤمنين على عظمة أمانة الرب.
2 – صلاة مستغيث: (آيات 19-21).
(أ) يستغيث من مبغضيه: »لا يشمت بي الذين هم أعدائي باطلاً، ولا يتغامز بالعين الذين يبغضونني بلا سبب« (آية 19). لو أن داود قاسى لأنه أخطأ لوجَب أن يكون مزمورنا مزمور اعتراف، لكنه لم يخطئ في حق هؤلاء، فطلب من الله أن ينصفه لكي لا يشمتوا به، ولا يتغامزوا عليه لأن »من يغمز بالعين يسبِّب حزناً« (أم 10: 10).
(ب) يستغيث من كلامهم الماكر: »لأنهم لا يتكلَّمون بالسلام، وعلى الهادئين في الأرض يتفكَّرون بكلام مكر. فغَروا عليَّ أفواههم. قالوا: هه! هه! قد رأت أعيُننا« (آيتا 20، 21).
إنهم يبغضون السلام، فكيف يتكلمون به؟ إنهم يسخرون منه ويقولون إنهم رأوا سقوطه! فعلهم شرير وكلامهم مكير، وسخريتهم مريرة. ويبقى الرب وحده ملجأ المرنم من هذا كله.
3- صلاة مظلوم: (آيات 22-26).
(أ) يظن المظلومُ أن اللهَ صامت: »قد رأيتَ يا رب. لا تسكت يا سيد. لا تبتعد عني» (آية 22). يُخيَّل إلى المظلوم أن الله يراقِب المظالم في صمت. ينظر وكأنه لا يرى. لكـن المرنم يعلم أنه حي وموجود، فلا بد أن يسمع ويعمل ويقترب لينجي المظلوم، وليدين الظالم.
(ب) لكنه يعلم أنه قاضٍ عادل: »استيقِظ وانتبِه إلى حكمي يا إلهي، وسيدي إلى دعواي. اقضِ لي حسب عدلك يا رب إلهي فلا يشمتوا بي« (آيتا 23، 24). لا بد أن الله العادل يكره الظلم، كما قال له حبقوق: »لِمَ تريني إثماً وتبصر (أنت) جوراً؟.. جمدت الشريعة، ولا يخرج الحكم بتَّةً، لأن الشرير يحيط بالصدِّيق، فلذلك يخرج الحكم معوجاً« (حب 1: 3، 4). فلا بد أن الله يستيقظ وينتبه ليقوم بالدفاع عن المظلوم، لأنه القاضي العادل.
(ج) يعلم أنه لا بد سينجيه: »لا يقولوا في قلوبهم: هه! شهوتنا. لا يقولوا: قد ابتلعناه. ليخزَ وليخجل معاً الفَرِحون بمصيبتي. ليلبس الخزي والخجل المتعظمون عليَّ « (آيتا 25، 26). لن يترك الله المرنم في فم الأشرار لينفِّذوا فيه شهواتهم الشريرة، ولن يسمح لهم أن يبتلعوه من أرض الأحياء فيُـبيدون ذكره، ولن يسمح لهم أن يصيبوه بسوء ثم يفرحون في مصيبته، ولا بد سيردُّ خزيهم وخجلهم عليهم لأنهم متكبِّرون! هذا نصيبهم في الأرض، ونصيبهم في الأبدية.
4 – صلاة فرحان: »ليهتف ويفرح المبتغون حقي، وليقولوا دائماً: ليتعظم الرب المسرور بسلامة عبده. ولساني يلهج بعدلك. اليوم كله بحمدك« (آيتا 27، 28). في هاتين الآيتين يذكر المرنم ثلاثةً يفرحون بنجاته واستجابة صلاته: أصحاب الحق الذين تبنُّوا قضيته بتكليفٍ من الله، ثم الرب المسرور بسلامة عبده، ثم داود نفسه. طلب المرنم من الله أن يفرِّح مؤيِّديه ومحبّيه معه بالعدالة والنجاة، حتى لو كانت مشاعرهم نحوه مجرد أمنيات بغير أفعال. وكل من يرفع صلاته واثقاً لا بد أن ينتهي به الحال فرِحاً. لجأ داود إلى الله لأنه مظلوم، فتدخَّل الله لإنقاذه.
بدأ مزمورنا بالشكوى »خاصِم مخاصميَّ.. إلى متى تنظر؟« وانتهى بالهتاف: »لساني يلهج بعدلك!«. فليعطنا الرب أن نرفع عيوننا له في كل ضيق، فنختبر عدالته العظيمة.
اَلْمَزْمُورُ السَّادِسُ وَالثَّلاَثُونَ
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِعَبْدِ الرَّبِّ دَاوُدَ
1نَأْمَةُ مَعْصِيَةِ الشِّرِّيرِ فِي دَاخِلِ قَلْبِي أَنْ لَيْسَ خَوْفُ اللهِ أَمَامَ عَيْنَيْهِ، 2لأَنَّهُ مَلَّقَ نَفْسَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ وِجْدَانِ إِثْمِهِ وَبُغْضِهِ. 3كَلاَمُ فَمِهِ إِثْمٌ وَغِشٌّ. كَفَّ عَنِ التَّعَقُّلِ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ. 4يَتَفَكَّرُ بِالإِثْمِ عَلَى مَضْجَعِهِ. يَقِفُ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ صَالِحٍ. لاَ يَرْفُضُ الشَّرَّ.
5يَا رَبُّ، فِي السَّمَاوَاتِ رَحْمَتُكَ. أَمَانَتُكَ إِلَى الْغَمَامِ. 6عَدْلُكَ مِثْلُ جِبَالِ اللهِ، وَأَحْكَامُكَ لُجَّةٌ عَظِيمَةٌ. النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ تُخَلِّصُ يَا رَبُّ. 7مَا أَكْرَمَ رَحْمَتَكَ يَا اللهُ، فَبَنُو الْبَشَرِ فِي ظِلِّ جَنَاحَيْكَ يَحْتَمُونَ. 8يَرْوُونَ مِنْ دَسَمِ بَيْتِكَ، وَمِنْ نَهْرِ نِعَمِكَ تَسْقِيهِمْ. 9لأَنَّ عِنْدَكَ يَنْبُوعَ الْحَيَاةِ. بِنُورِكَ نَرَى نُوراً. 10أَدِمْ رَحْمَتَكَ لِلَّذِينَ يَعْرِفُونَكَ، وَعَدْلَكَ لِلْمُسْتَقِيمِي الْقَلْبِ. 11لاَ تَأْتِنِي رِجْلُ الْكِبْرِيَاءِ، وَيَدُ الأَشْرَارِ لاَ تُزَحْزِحْنِي. 12هُنَاكَ سَقَطَ فَاعِلُو الإِثْمِ. دُحِرُوا فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْقِيَامَ.

شر الإنسان وصلاح الله
يقدم لنا مزمورنا صورتين متناقضتين، أولاهما للأشرار ذوي المبادئ والأعمال الفاسدة، الذين رفضوا الله ومخافته، وثانيتهما لمحبة الله التي بلا حدود. ويرى المرنم نفسه بين هاتين القوتين الكبيرتين، فيخاف أن يقع فريسة الشر والشرير، فيدعو: »لا تأتني رِجْلُ الكبرياء، ويد الأشرار لا تزحزحني« (آية 11) ويطلب من الله المحب رحمته وخلاصه، لأنه »عبد الرب« (وهو لقبه في عنوان هذا المزمور، وعنوان مز 18). ويمكن تلخيص أفكار المزمور في المثَل القائل: »أَمَا يضلُّ مخترعو الشر؟ أما الرحمة والحق فيهديان مخترعي الخير« (أم 22: 14).
في هذا المزمور نجد:
أولاً – مبادئ الشرير وأعماله (آيات 1-4)
ثانياً – مبادئ الله وأعماله (آيات 5 -9)
ثالثاً – صلاة المرنم (آيات 10-12)

أولاً – مبادئ الشرير وأعماله
(آيات 1-4)
1 – مبادئ الشرير: (آيتا 1، 2).
(أ) الشرير لا يخاف الله: »نأمة (أنين داخلي) معصية الشرير في داخل قلبي: أن ليس خوف الله أمام عينيه« (آية 1). قد تعني الآية أن الأنين في قلب المرنم وهو يرى شر الأشرار وثورتهم ضد الله وارتدادهم عنه، كما بكى المسيح على أورشليم لأنها لم تعرف ما هو لسلامها (لو 19: 41، 42). وقد تعني أن الأنين في قلب الشرير وهو يعلن ثورته ضد الله ويبتعد عنه. ويمكن أن تُترجَم هذه الآية: »توسوس المعصية للشرير في صميم قلبه« (بحسب ما جاء في إحدى الترجمات).
»ليس خوف الله أمام عينيه« لأنه يظن أن الله لا يُحسِن ولا يُسيء (صف 1: 12) وأنه لا دينونة على الشر، ولا ضرورة للتعبُّد. إن عينيه مفتوحتان تريان كيف يكسب رزقاً أكثر، ولا يهم إن كان الطريق إليه حلالاً أو حراماً، وهو يعرف الكثير عن اللذة الحسيَّة، والكراهية، والانتقام، والكذب، والغش، لكنه مظلم الفكر في الأمور الروحية، لأن إبليس »إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح، الذي هو صورة الله« (2كو 4: 4). ينقاد المؤمن بكلمة الله التي هي سراجٌ لرِجْله ونور لسبيله (مز 119: 105) وينقاد الشرير بأفكاره المظلمة »لأن من القلب تخرج أفكـار شـريرة: قتـل، زنـى، فسـق، سـرقة، شهـادة زور، تجـديف. هـذه هي التي تنجس الإنسان« (مت 15: 19).
(ب) الشرير يمدح نفسه: »لأنه ملَّق نفسه لنفسه من جهة وِجْدان إثمه وبُغضه« (آية 2). توغَّل الشرير في الشر والبُغض، وهو يُقنع نفسه أن إثمه وبغضه لن يُكتشفا، وأنه على حق. مسكين هذا الشرير، لأن خداع النفس أكثر الأمور خطراً على صاحبها، فإن خدع إنسانٌ غيره فهو يدرك في أعماق نفسه أنه مخادع. لكن إن ملَّق نفسه لنفسه، وصدَّق كذبه، فمن يقنعه أنه خاطئ يحتاج للتوبة؟
2 – تصرُّفات الشرير: (آيتا 3، 4).
(أ) كلامه شرير: »كلام فمه إثم وغش« (آية 3أ). يخرج من فمه كلام أثيم وغير مستقيم. لقد ملَّق نفسه لنفسه. فإن كان قد خدع نفسه، فهل يكثر عليه أن يغشَّ غيره ويخدعه؟
(ب) تفكيره شرير: »كَفَّ عن التعقُّل، عن عمل الخير« (آية 3ب). لعله كان متعقِّلاً وصانع خير ذات يوم فاكتشف أن التعقل لن يكسبه كثيراً من متاع هذه الدنيا، فكفَّ عن التعقُّل وعمل الخير، مفضِّلاً المكسب السريع المؤقت على الأبدية! وعندما يكفُّ الإنسان عن الاتصال بالله يصبح جاهلاً أحمق، ويقع فريسةً لإبليس.
(ج) عملـه شريـر: »يتفكَّر بالإثم على مضجعـه. يقف في طريقٍ غيـر صالح. لا يرفض الشر« (آية 4). في الليل، والإنسان على مضجعه، يجب أن يراجع أحداث يومه ويتأملها بالشكر على الصالح، وبالتوبة عن الخطأ. ولكن هذا الشرير بدأ شرَّه فكراً على سريره »يتفكر بالإثم« ثم وقف في طريق غير صالح، ثم لم يرفض عمل الشر. »ويلٌ للمفتكرين بالبُطل والصانعين الشر على مضاجعهم. في نور الصباح يفعلونه، لأنه في قدرة يدهم« (مي 2: 1). وكان يجب أن يسمع كلمات المزمور الأول: »طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس« (مز 1: 1).
هذا وصفٌ للخاطئ في طبيعته وفي أسلوب تفكيره وفي تصرفه. فإن كنا قد رجعنا إلى الله تائبين، ومَلَكَ الربُّ على تفكيرنا وسلوكنا، فلنصلِّ أن نثمر ثمر الروح القدس: محبة، فرح، سلام.
ثانياً – مبادئ الله وأعماله
(آيات 5-9)
يئس المرنم من الناس، فرفع وجهه إلى الله، ويا لها من نظرة لطيفة ومحيية‍‍. لقد رأى مبادئ الله في: رحمته، وأمانته، وعدله. ورأى أعماله: في الخلاص، والحماية، والإشباع، والإحياء، والإرشاد.
1 – مبادئ الله: (آيتا 5، 6أ).
(أ) مبدأ الرحمة: »يا رب، في السماوات رحمتك« (آية 5أ). رحمته عالية إلى السماوات، في مغفرة الخطايا، واستجابة الصلاة، وكتابة أسمائنا في سفر الحياة، وشفاعة المسيح فينا، وفي أنه يرسل ملائكته إلى عبيده ليخدموهم. ورحمته أيضاً على الأرض لأنه »لا يدع رِجْلك تزلّ. لا ينعس حافظك« (مز 121: 3). إنه من فوق عرشه يتنازل فيُعيننا ويدبِّر أمورنا ويرعانا. وعندما نصل إلى سمائه سنكتشف مراحمه التي لم نرَها ونحن على الأرض بسبب محدودية إدراكنا، فكم شملتنا رحمتُه بطريقةٍ لم تخطر على بالنا أبداً!
هناك ثلاث سماوات: الأولى سماء الطيور، وفيها نرى رحمته مع الطيور، لأن واحداً منها لا يسقط بدونه، ولا يبيت منها واحدٌ جائعاً (مت 6: 26 و10: 29). والثانية سماء النجوم، وفيها نرى »القمر والنجوم التي كوَّنتَها« (مز 8: 3).. »الفَلَك يُخبر بعمل يديه« (مز 19: 1) لأنه ثبَّتها في مكانها لتقول لكل مؤمن: الذي حفظ الأفلاك في موقعها سيحفظك فلا تتزعزع، وسيسندك فلا تخف. والسماء الثالثة هي سماء الله من حيث جاء الابن الوحيد إلى أرضنا وبذل نفسه عنا ليفدينا، فحمل خطايانا، وصار إنساناً مثلنا ليجعل منا شركاء الطبيعة الإلهية (2بط 1: 4).
(ب) مبدأ الأمانة: »أمانتك إلى الغمام« (آية 5ب). هي عالية ورفيعة وفوق إدراك البشر. لم يكن المرنم في زمانه يقدر أن يصل إلى ارتفاع الغمام، فضرب بارتفاعها المثَل. وما أعظم أمانة الله في كل وعـدٍ قطعـه علـى نفسـه. إن كنـا غيـر أمنـاء معـه فهـو يبقـى أمينـاً، لـن يقــدر أن ينكر نفسه (2تي 2: 13). لم تسقــط كلمة واحدة من جميع الكلام الصالح الذي وعد به شعبه. الكل صار لهم (يش 23: 14).
(ج) مبدأ العدالة: »عـدلك مثل جبال الله، وأحكامك لجَّة عظيمة« (آيـة 6أ). والتعبير »جبال الله« يعني الجبال العظيمة عظمة الله. عدل الله ثابت كالجبل، ولا يمكن أن يختفي. ظَلَمَ البشرُ المرنم، لكن الرب هو العادل. تزعزعت الأرض من تحته، فوقف الرب إلى جواره وثبَّته وطمأنه وأعطاه حقه، ومنحه مواعيده العظمى والثمينة، لأن »أحكامك لجَّة عظمة«. وصاياه نهر سباحة لا يُعبَر، ومهما بلغت معرفتنا الكتابية فستبقى أحكامه لجة عظيمة، لا قرار لها، عميقة لا يقدر أحدٌ أن يدركها، كما أنها »واسعة جداً« (مز 119: 96). عندما يقول المؤمن إن شَعر رأسه معدود، وإن واحدة منها لا تسقط إلا والآب يعرفها، قد يبدو هذا أسلوب مبالغة.. لا، هذا كلام حرفي (مت 10: 30). يا لعُمق غِنى الله وحكمته وعِلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء!« (رو 11: 33).
2 – أعمال الله: (آيات 6ب-9).
(أ) الله يخلِّص: »الناس والبهائم تخلِّص يا رب« (آية 6ب). يخلّص الله الناس من الجوع، ومن الحرب (مز 27: 1-3) ومن المرض (لو 8: 36) ومن الخطية (لو 19: 10). وهو يخلِّص البهائم أيضاً، فهـي خليقته، يهتم بهـا ويدبِّر طعامها. »مَن يهيِّئ للغراب صيده إذ تنعب فراخه إلى الله، وتتردَّد لعدم القوت؟« (أي 38: 41). من يعتني بالطيور، هل بات واحد منها بغير عشاء؟ إنها »لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها« (مت 6: 26). »كلها إياك تترجى لترزقها قُوتَها في حينه. تعطيها فتلتقط. تفتح يدك فتشبع خيراً« (مز 104: 27، 28). لئن خلَّص البهائم، فكم يخلصنا! لئن أطعم الطيور، فكم يطعمنا! لئن اعتنى بالخليقة كلها، فكم يعتني بك! ما أسعدنا ونحن نسمعه يقول: »أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة (120 ألفاً) من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم (هم الأطفال)، وبهائم كثيرة« (يون 4: 11).
(ب) الله يحمي: »ما أكرمَ رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون« (آية 7). تمتدُّ رحمة الله وحمايته إلى البشر، كل البشر، فهو رب العالمين، كما تمتد إلى كل مخلوقاته. ومحبته كريمة تُغدق عليهم نِعَمه بغير استحقاق فيهم، فيحتمي بنو البشر في ظل جناحيه. إنهم بنو آدم، بنو التراب والضعف والخطية، ولكنه يحميهم، ولو أنهم كثيراً ما يحاولون الاحتماء في ظل أعمالهم أو ظل البشر! يظن الإنسان أنه يملك صحة فتضيع، أو مالاً فينتهي. يظن أن له صديقاً أو شريك حياة، فإذا به يتركه. دعونا نحتمي تحت الظل الوحيد الذي يستحق أن نحتمي فيه، لأنه باقٍ دائماً. قال بوعز لراعوث: »ليكافئ الرب عملك، وليكن أجرك كاملاً من عند الرب إله إسرائيل الذي جئتِ لكي تحتمي تحت جناحيه« (را 2: 12). فلنقُل له: »احفظني مثل حدقة العين. بظل جناحيك استُرني« (مز 17: 8). »ارحمنـي يا الله ارحمنـي، لأنه بك احتمـت نفسـي، وبظل جناحيك أحتمي إلى أن تعبر المصائب« (مز 57: 1).
(ج) الله يُروي: »يُروَوْن من دسم بيتك، ومن نهر نِعَمك تسقيهم« (آية 8). لا شك أن المرنم يذكر الماء الذي خرج من الصخرة ليروي شعبه في الصحراء (خر 17 وعد 20) فقال إن الرب يرتب لشعبه مائدة تجاه مضايقيهم، ويجعل كؤوسهم ريا (مز 23: 5). والكلمة »نِعَم« في الأصل العبري هي صيغة الجمع لكلمة »عدن« الجنة التي لم يعوز آدم فيها شيء. ويقول المرنم إن الله يسقيه من نهر »عدنات« جنات فيشرب ويرتوي. قال المسيح للسامرية: »من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية« (يو 4: 14) »فإن الرب قد عزَّى صهيون. عزَّى كل خِربها ويجعل بَرِّيَّتَها كعدن، وباديتها كجنَّة الرب« (إش 51: 3). وهذا الارتواء أبدي، فيقول الرائي: »الحمل الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية، ويمسح الله كل دمعة من عيونهم« (رؤ 7: 17).
(د) الله يحيي: »لأن عندك ينبوع الحياة« (آية 9أ). الرب هو المحيي، الذي يعطي الحياة ويحفظها ويضمنها، وهو مصدر كل سرور. أخذ تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حية (تك 2: 7). ولما سقط الإنسان انفصل عن الله وصار ميتاً بالذنوب والخطايا، فجاءنا المسيح مخلِّصاً »لأنه هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية« (يو 3: 16).
(هـ) الله ينير: »بنورك نرى نوراً« (آية 9ب). ينير الله حياة المؤمن بشخصه الكريم، وينيرها بنور كلمته التي هي »سراج لرجلي ونور لسبيلي« (مز 119: 105)، وينيرها بالمسيح نور العالم »لأن الله الذي قال أن يشرق نورٌ من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح« (2كو 4: 6). ويُبقي الرب المؤمن في حضرته، ويضيء عليه، لأن »فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة« (يو 1: 4، 5). فلنسمع الوصية: »تحب الرب إلهك، وتسمع لصوته، وتلتصق به، لأنه هو حياتك، والذي يطيل أيامك« (تث 30: 20).

ثالثاً – صلاة المرنم
(آيات 10-12)
1 – يطلب دوام الرحمة والعدل: »أَدِم رحمتك للذين يعرفونك، وعدلك للمستقيمي القلب« (آيـة 10). كانت رحمة الله على المرنم، وقد وصفها في آيات 5-9، وهو يريدها أن تستمر. كأنه يقول للرب: كما كنتَ كُن بغير تغيير. وكلمة »أَدِم« تحمل معنى الامتداد، فهي تطلب استمرارية الرحمة. وكلما يعطينا الله أكثر نشعر أننا نحتاج إليه أكثر من أي وقت مضى. ويطالب المرنم بالرحمة والعدل »لمستقيمي القلب« وهو لا يقصد أصحاب الاستقامة الكاملة، فلا يوجد إنسان مستقيم القلب استقامة كاملة، وباستمرار. لكن المقصود هو استقامة النيَّة والرغبة في عمل مسرة الله.
2 – يطلب الحماية: »لا تأتِني رِجْلُ الكبرياء، ويد الأشرار لا تزحزحْني« (آية 11). يطلب المرنم من الرب أن يحميه وألاّ يسمح للمتكبِّر أن يطأه برِجْله أو أن يؤذيه بيده، كأن يطرده من بيته فيصبح متشرِّداً شحاذاً، أو أن يقتله. وقد استُخدِمت كلمة »زحزحة« عن السبي كما قال الرب: »لا أعود أزحزح رِجْل إسرائيل من الأرض« (2مل 21: 8). ويطلب المرنم حماية الرب، فلا يطرده العدوُّ من بيته ليهيم على وجهه في أرض غريبة، كما حدث عندما اضطُرَّ داود أن يطلب الحماية مـن ملك جت (1صم 21).
3 – يطلب سقوط الأثيم: »هناك سقط فاعلو الإثم. دُحِروا فلم يستطيعوا القيام« (آية 12). يرى المرنم بعين الإيمان نهاية الأشرار ودمارهم لأنهم فاعلو إثم، يقول عنهم النبي للرب: »هم أموات لا يحيون.. لذلك عاقبتَ وأهلكتهم، وأبدتَ كل ذكرهم« (إش 26: 14). إن نجاح الأشرار هو إلى حين، ولن يربحوا المعركة الأخيرة. والمرنم لا يفرح بسقوطهم، لكنه يرى السقوط قادماً عليهم. »وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً« (رو 16: 20). »ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون. يروون من دسم بيتك، من نهر نِعَمك تسقيهم«.
اَلْمَزْمُورُ السَّابِعُ وَالثَّلاَثُونَ
لِدَاوُدَ
1لاَ تَغَرْ مِنَ الأَشْرَارِ، وَلاَ تَحْسِدْ عُمَّالَ الإِثْمِ، 2فَإِنَّهُمْ مِثْلَ الْحَشِيشِ سَرِيعاً يُقْطَعُونَ، وَمِثْلَ الْعُشْبِ الأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ. 3اتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ وَافْعَلِ الْخَيْرَ. اسْكُنِ الأَرْضَ وَارْعَ الأَمَانَةَ. 4وَتَلَذَّذْ بِالرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ. 5سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي، 6وَيُخْرِجُ مِثْلَ النُّورِ بِرَّكَ وَحَقَّكَ مِثْلَ الظَّهِيرَةِ. 7انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاصْبِرْ لَهُ، وَلاَ تَغَرْ مِنَ الَّذِي يَنْجَحُ فِي طَرِيقِهِ، مِنَ الرَّجُلِ الْمُجْرِي مَكَايِدَ. 8كُفَّ عَنِ الْغَضَبِ، وَاتْرُكِ السَّخَطَ، وَلاَ تَغَرْ لِفِعْلِ الشَّرِّ، 9لأَنَّ عَامِلِي الشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. 10بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَكُونُ الشِّرِّيرُ. تَطَّلِعُ فِي مَكَانِهِ فَلاَ يَكُونُ. 11أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ.
12الشِّرِّيرُ يَتَفَكَّرُ ضِدَّ الصِّدِّيقِ وَيُحَرِّقُ عَلَيْهِ أَسْنَانَهُ. 13الرَّبُّ يَضْحَكُ بِهِ لأَنَّهُ رَأَى أَنَّ يَوْمَهُ آتٍ! 14الأَشْرَارُ قَدْ سَلُّوا السَّيْفَ وَمَدُّوا قَوْسَهُمْ لِرَمْيِ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ، لِقَتْلِ الْمُسْتَقِيمِ طَرِيقُهُمْ. 15سَيْفُهُمْ يَدْخُلُ فِي قَلْبِهِمْ، وَقِسِيُّهُمْ تَنْكَسِرُ.
16اَلْقَلِيلُ الَّذِي لِلصِّدِّيقِ خَيْرٌ مِنْ ثَرْوَةِ أَشْرَارٍ كَثِيرِينَ، 17لأَنَّ سَوَاعِدَ الأَشْرَارِ تَنْكَسِرُ، وَعَاضِدُ الصِّدِّيقِينَ الرَّبُّ. 18الرَّبُّ عَارِفٌ أَيَّامَ الْكَمَلَةِ، وَمِيرَاثُهُمْ إِلَى الأَبَدِ يَكُونُ. 19لاَ يُخْزَوْنَ فِي زَمَنِ السُّوءِ، وَفِي أَيَّامِ الْجُوعِ يَشْبَعُونَ. 20لأَنَّ الأَشْرَارَ يَهْلِكُونَ، وَأَعْدَاءُ الرَّبِّ كَبَهَاءِ الْمَرَاعِي. فَنُوا. كَالدُّخَانِ فَنُوا. 21الشِّرِّيرُ يَسْتَقْرِضُ وَلاَ يَفِي، أَمَّا الصِّدِّيقُ فَيَتَرَأَّفُ وَيُعْطِي. 22لأَنَّ الْمُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُونَ الأَرْضَ، وَالْمَلْعُونِينَ مِنْهُ يُقْطَعُونَ.
23مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ تَتَثَبَّتُ خَطَوَاتُ الإِنْسَانِ، وَفِي طَرِيقِهِ يُسَرُّ. 24إِذَا سَقَطَ لاَ يَنْطَرِحُ، لأَنَّ الرَّبَّ مُسْنِدٌ يَدَهُ. 25أَيْضاً كُنْتُ فَتىً وَقَدْ شِخْتُ، وَلَمْ أَرَ صِدِّيقاً تُخُلِّيَ عَنْهُ، وَلاَ ذُرِّيَّةً لَهُ تَلْتَمِسُ خُبْزاً. 26الْيَوْمَ كُلَّهُ يَتَرَأَّفُ وَيُقْرِضُ، وَنَسْلُهُ لِلْبَرَكَةِ.
27حِدْ عَنِ الشَّرِّ وَافْعَلِ الْخَيْرَ، وَاسْكُنْ إِلَى الأَبَدِ، 28لأَنَّ الرَّبَّ يُحِبُّ الْحَقَّ وَلاَ يَتَخَلَّى عَنْ أَتْقِيَائِهِ. إِلَى الأَبَدِ يُحْفَظُونَ. أَمَّا نَسْلُ الأَشْرَارِ فَيَنْقَطِعُ. 29الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ الأَرْضَ وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى الأَبَدِ. 30فَمُ الصِّدِّيقِ يَلْهَجُ بِالْحِكْمَةِ، وَلِسَانُهُ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ. 31شَرِيعَةُ إِلَهِهِ فِي قَلْبِهِ. لاَ تَتَقَلْقَلُ خَطَوَاتُهُ. 32الشِّرِّيرُ يُرَاقِبُ الصِّدِّيقَ مُحَاوِلاً أَنْ يُمِيتَهُ. 33الرَّبُّ لاَ يَتْرُكُهُ فِي يَدِهِ، وَلاَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَاكَمَتِهِ. 34انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاحْفَظْ طَرِيقَهُ فَيَرْفَعَكَ لِتَرِثَ الأَرْضَ. إِلَى انْقِرَاضِ الأَشْرَارِ تَنْظُرُ.
35قَدْ رَأَيْتُ الشِّرِّيرَ عَاتِياً وَارِفاً مِثْلَ شَجَرَةٍ شَارِقَةٍ نَاضِرَةٍ. 36عَبَرَ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَالْتَمَسْتُهُ فَلَمْ يُوجَدْ. 37لاَحِظِ الْكَامِلَ وَانْظُرِ الْمُسْتَقِيمَ، فَإِنَّ الْعَقِبَ لإِنْسَانِ السَّلاَمَةِ، 38أَمَّا الأَشْرَارُ فَيُبَادُونَ جَمِيعاً. عَقِبُ الأَشْرَارِ يَنْقَطِعُ. 39أَمَّا خَلاَصُ الصِّدِّيقِينَ فَمِنْ قِبَلِ الرَّبِّ، حِصْنِهُمْ فِي زَمَانِ الضِّيقِ، 40وَيُعِينُهُمُ الرَّبُّ وَيُنَجِّيهِمْ. يُنْقِذُهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ وَيُخَلِّصُهُمْ، لأَنَّهُمُ احْتَمُوا بِهِ.
لا تحسد الأشرار
في مزمور 36 تأمل المرنم بأسف نجاح الأشرار رغم أعمالهم الأثيمة، ولكنه وجد عزاءه في عدل الله ورحمته. وفي هذا المزمور يتأمل مرة أخرى في نجاح الأشرار، ويشجع المؤمنين بقوله إن مصير الأشرار هو الهلاك والبوار، أما الودعاء فيرثون الأرض. وقد وجد المؤمنون في كل العصور مشكلةً في نجاح الأشرار ومتاعب الأبرار، حتى أنهم تذمَّروا، وحسدوا الأشرار على نجاحهم، وكاد بعضهم يفقدون إيمانهم في صلاح الله وعدله. واحتاجوا جميعاً إلى من يشجعهم في محنتهم الروحية.
في هذا المزمور التعليمي، والذي يشبه حكمة سفر الأمثال، يوضِّح المرنم أن نجاح الشرير لا يستمر، فلا بد أن عقاب شرَّه يدركه أخيراً. كما يوضح أن حالة الصدِّيق أفضل من حالة الشرير، حتى لو عانى الصدّيق من المتاعب، لأن تعبه وقتي، أما عقاب الشرير فأبدي. ويحل المرنم المشكلة ببساطة بالغة فيقول: ضَعْ ثقتك في الرب وانتظِره، وسيكون كل شيء رائعاً في النهاية. سيهلك الأشرار ويُكافأ الأبرار. أما الآن، فإن المؤمن يتلذَّذ بعبادة الرب ويجد فرحه بالقرب منه.
ومزمورنا من المزامير الأبجدية، تبدأ كل آيتين منه بحرف من حروف الأبجدية العبرية. وقد تأملنا من قبل ثلاثة مزامير أبجدية هي: 9، 25، 34.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – لا تحسد الأشرار (آيات 1-11)
ثانياً – مكائد الشرير ترتدُّ إليه (آيات 12-15)
ثالثاً – سبع مفارقات بين الصدِّيقين والأشرار (آيات 16-40)

أولاً – لا تحسد الأشرار
(آيات 1-11)
يبدأ المزمور بنصيحة تقول: »لا تغَرْ من الأشرار، ولا تحسد عُمّال الإثم« (آية 1). عند الأشرار ما يجعل الصدِّيق يغار، لأنهم ناجحون زاهون مثل العشب الأخضر، بينما المؤمن مغموم مضطهَد، فيحزن الصدّيق وهو يرى نجاح من لا يستحق، ويقول مع آساف المرنم: »غِرتُ من المتكبِّرين إذ رأيتُ سلامة الأشرار« (مز 73: 3) ويتساءل مع النبي: »أبرُّ أنت يا رب من أن أخاصمك، لكن أكلّمك من جهة أحكامك. لماذا تنجح طريق الأشرار؟« (إر 12: 1 قارن أي 21: 7-15). فإذا تجرَّبْتَ بأن تغار من نجاح الأشرار، فلتضع هذه الغيرة في حجمها، واستمع إلى الحكيم يقول لك: »لا تحسد الظالم ولا تختَرْ شيئاً من طرقه.. لا يحسدنَّ قلبُك الخاطئين، بل كن في مخافة الرب اليوم كله.. لا تحسد أهل الشر ولا تشتهِ أن تكون معهم« (أم 3: 31 و23: 17 و24: 1).
ويقدم المرنم سبعة أسباب تساعد المؤمن على عدم حسد الأشرار:
1 – لا بد أن الشرير يهلك: »فإنهم مثل الحشيش سريعاً يُقطعون، ومثل العشب الأخضر يذبلون« (آية 2). سيصبحون كالعصافة التي تذرّيها الريح (مز 1: 4)»كل جسدٍ عشب، وكل جماله كزهر الحقل. يبس العشب، ذبل الزهر، لأن نفخة الرب هبَّت عليه. حقاً الشعب عشب« (إش 40: 6، 7) وعلى هذا فإن بركات الأشرار مؤقتة، وأكبر نجاح يحقِّقونه هو النجاح الأرضي الذي يزول مهما طال، وهو لا شـيء بالنسبـة للأبدية التي بلا نهاية، لأنه »ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟« (مت 16: 26).
2 – لا بد أن يكون المؤمن أميناً: »اتكِل على الرب وافعل الخير. اسكن الأرض وارْعَ الأمانة« (آية 3). فعلاج الحسد والغيرة هو ثقتنا بالرب، وعمل الخير، والإقامة بالقرب من الله في الأرض التي قسمها لنا وأرادنا أن نقيم فيها، وحياتنا الأمينة له وللآخرين. وعندما نطيع الوصية سينشغل وقتنا بالله وبخدمته وبأعمالنا الصالحة، فلا نعود نجد وقتاً للتذمُّر! فلنضع ثقتنا في الرب ولنعتمد عليه، ولنكن صالحين، ولنترك النتائج لله. عندها سيقول لنا: »نِعِمّاً أيها العبد الصالح والأمين، كنت أميناً في القليل فأُقيمك على الكثير. ادخل إلى فرح سيدك« (مت 25: 21).
3 – لا بد أن يفرح المؤمن بالرب ويتلذَّذ به: »وتلذَّذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك« (آية 4). قال أليفاز التيماني: «تعرَّف به واسلَمْ، بذلك يأتيك خير.. لأنك حينئذ تتلذَّذ بالقدير، وترفع إلى الله وجهك. تصلي له فيستمـع لك، ونـذورك توفيهـا. وتجـزم أمـراً فيثـبـت لك، وعلـى طرقـك يضـيء نــور» (أي 22: 21-28). «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتوكل عليه» (مز 34: 8). خُذ فرحك من شركتك مع الله فيعطيك سؤل قلبك الذي تحتاجه فعلاً، فإننا أحياناً نطلب طلبات ليست في صالحنا. لكن عندما نتلذَّذ بالرب يعطينا السؤل الحقيقي الذي يُشبع قلوبنا. وهو يعطي سؤل القلب لأنه صاحـب السلطـان، ولأنـه المحـب. قال المسيح: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 28: 18). فليعطنـا الله أن نعرف «عظمة قدرتـه الفائقة نحونا نحن المؤمنيـن، حسب عمل شـدة قوته» (أف 1: 19).
4 – لا بد أن يسلِّم المؤمن نفسه للرب: «سلِّم للرب طريقك واتَّكل عليه وهو يُجري. ويُخرِج مثل النور برَّك وحقَّك مثل الظهيرة» (آيتا 5، 6). «أَلقِ على الرب أعمالك، فتُثبَّت أفكارك» (أم 16: 3) «ملقين كل همِّكم عليه، لأنه هو يعتني بكم» (1بط 5: 7). «أمين هو الذي يدعوكم، الذي سيفعل أيضاً» (1تس 5: 24). فلنسلِّم لله أمورنا، حلوها ومرَّها، ليسندنا ويرشدنا. وهو يُجري دائماً كل ما يتوقعه المؤمن الواثق به، فإنه حي وفعال وموجود في عالمنا يمارس سلطانه. وعندما يحاول الخطاة التعتيم عليك، فإنه يدافع عنك ويزيح غيوم الشكوك عنك وينصرك، لأنك تتكل عليه وتضع ثقتك فيه، فيُخرِج حقَّك المختفي كالشمس المشرقة، ويتحقَّق معك القول: »أما سبيل الصديقين فكنورٍ مشرقٍ يتزايد وينير إلى النهار الكامل« (أم 4: 18). افعل الخير كما للرب وليس للناس، ومن الرب ستنال جزاء الميراث (كو 3: 24) »حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم« (مت 13: 43).
5 – لا بد أن ينتظر المؤمن الرب: »انتظر الرب واصبر له، ولا تَغَرْ من الذي ينجح في طريقه، من الرجل المُجري مكايد« (آية 7). وانتظار الرب يعني السكون أمامه بدون تذمر، والصبر لسماع صوته، وتوقُّع تدخُّله في الموعد المناسب الذي يحدده بحكمته، كما قال المرنم: »إنما لله انتظرَت نفسي. من قِبَله خلاصي« (مز 62: 1) »لأنه هكذا قال السيد الرب.: بالرجوع والسكون تخلُصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم« (إش 30: 15) »انتظاراً انتظرت الرب فمال إليَّ وسمع صراخي« (مز 40: 1).
ويتعرض المؤمن للتذمُّر لما يرى نجاح الشرير عن طريق الغش والتحايل، ولكن الصبر أمام الله وانتظار تدخُّله يضع نهايةً للتذمُّر الذي لا لزوم له، لأننا ننتظر عمل الرب، ونؤمن بتوقيته الحكيم، فلا نحرك عقارب الساعة، ولا نفتح أوراق وردة جميلة قبل موعد تفتُّحها. فلننتظر الرب بصبر، لا صبر البائس العاجز عن الفعل، بل صبر الراجي الذي يثق أن القيامة المجيدة لا بد أن تتبع الصليب، وأن النصـرة تأتي بعد الحـرب، وأنه »عند المساء يبيت البـكاء، وفي الصباح ترنُّم« (مز 30: 5).
6 – لا بد أن يضبط المؤمن نفسه: »كُفَّ عن الغضب واترك السَّخط، ولا تغَرْ لفعل الشر، لأن عاملي الشر يُقطَعون والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض. بعد قليل لا يكون الشرير، تطلَّع في مكانه فلا يكون« (آيات 8-10). يقود الغضب صاحبه إلى الخطإ، لأنه يُنسيه محبة الله وعنايته وعطاياه. وقد ينضم إلى الأشرار في حماقاتهم، كما قال آساف، بعد أن رأى نجاح الشرير وتعب المؤمن: »حقاً قد زكَّيتُ قلبي باطلاً« (مز 73: 13). ولكن الرب فتح عينيه على الحق، فقال: »إنما صالح الله لأنقياء القلب« (مز 73: 1). نقِّ قلبك، واترك الغضب لتنال البركة الإلهية، ولا تنسَ أن مصير الشرير إلى زوال.
7 – لا بـد أن يكـون المؤمن وديعاً: »أما الودعاء فيرثون الأرض ويتلذَّذون في كثرة السلامة» (آية 11). وليس المقصود فقط أن المؤمن يرث الأرض حرفياً، فالآية تحمل أيضاً معنى روحياً، وهو أننا نربح الناس بمحبتنا ووداعتنا. كثيرون يرثون أرضاً لا يتلذذون بها، بسبب قلقهم أو بسبب خطيتهم. أما الذين صبروا للرب وانتظروه فيرثون الأرض ويتلذذون بما أعطاهم. وقد حقق الله هذا الوعد لموسى، الذي يصفه الكتاب بأنه كان وديعاً حليماً، فقال عنه: »أما الرجل موسى فكان حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض« (عد 12: 3) فقاد بني إسرائيل إلى مشارف أرض الموعد.
قال المسيح: »طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض« (مت 5: 5). فإن كنا ودعاء يتحقق معنا القول: »ويسكن شعبي في مسكن السلام، وفي مساكن مطمئنة، وفي محلات أمينة« (إش 32: 18) »سلامةٌ جزيلة لمحبّي شريعتك، وليس لهم معثرة« (مز 119: 165).

ثانياً – مكائد الشرير ترتدُّ إليه
(آيات 12-15)
كثيراً ما لا يشعر الصدِّيق بمكائد الشرير ضده، لأن الصدّيق حسن النية، بسيط القلب والعين. وكثيراً ما يكيد الشرير للصدّيق لأنه يعلم أن الصدّيق لا يقاوم الشر إلا بالخير. ولكن لا بد أن مكائد الشرير ترتدُّ عليه بالضرر. عندما أقام المسيح لعازر من الموت آمن به كثيرون، فتضايق شيوخ اليهود وقرروا أن يقتلوا لعازر، ليدفنوا الشاهد على قوة المسيح (يو 12: 9، 10). غريب! أليس إيمانهم بالمسيح أفضل من محاولتهم قتل لعازر؟ لكن الغيرة من نجاح المسيح جعلتهم يكيدون له وللعازر! »الشرير يتفكَّر ضد الصدِّيق«.
وفي هذه الآيات الأربع نجد فكرتين:
1 – التفكير في المكيدة: »الشرير يتفكَّر ضد الصدّيق ويحرِّق عليه أسنانه. الرب يضحك به لأنه رأى أن يومه آتٍ« (آيتا 12، 13). كأن الشرير حيوان مفترس يحاول الإمساك بالفريسة وهو يحرِّق أسنانه ليلتهمها. ولكن الرب سبق وقضى على الشرير بالهلاك. لقد حرَّق الملك شاول أسنانه على داود فأخذ يطارده ليهلكه. وذات يوم وشاول يطارد داود وقع في يد داود، وكان يمكن أن يقتله داود، لكنه قال: الرب سوف يضربه، أو يأتي يومه فيموت، أو ينزل إلى الحرب ويهلك. »حاشا لي من قِبَل الرب أن أمدَّ يدي إلى مسيح الرب« (1صم 26: 10، 11) وقد كان!
2 – تنفيذ المكيدة: »الأشرار قد سلّوا السيف ومدّوا قوسهم لرمي المسكين والفقير، لقتل المستقيم طريقهم. سَيْفهم يدخل في قلبهم وقِسِيُّهم تنكسر« (آيتا 14، 15). فكروا في المكيدة، واستلوا سيوفهم ليغمدوها في الصدور! الأغلب أن داود كان يذكر الملك شاول الذي حاول كثيراً أن يقتله بالرمح وبالسيف، وانتهى شاول بأن سقط على سيفه ومات! (1صم 31: 4). ولعله ذكر ما حدث مع أبشالوم ابنه، الذي قام ضده بانقلاب فاشل، فمات معلقاً على شجرة بعد أن طعنه قائد جيش داود بالسيف (2صم 18:9). لقد ارتدَّ السيفان إلى صدري شاول وأبشالوم!
عندما جاء العسكر ليلقوا القبض على المسيح ليصلبـوه، كان يرافقهم ملخـس خـادم رئيـس الكهنـة، فاستّل بطرس سيفه وضرب ملخس فقطع أذنه، فأعاد المسيح أذن ملخس إلى مكانها، وقال لبطرس: »رُدَّ سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون« (مت 26: 52). فلندع العنفاء للمصير المؤلم الذي هو أجرة خطيتهم، لأنهم رفضوا أن يتوبوا. أما جماعة الرب فلتتلذَّذ في كثرة السلامة.
ثالثاً – سبع مفارقات بين الصديقين والأشرار
(آيات 16-40)
1 – مفارقة في التمتع بالثروة: »القليل الذي للصدِّيق خير من ثروة أشرار كثيرين« (آية 16). قد يكون عند الصدّيق قليل وعند الشرير الكثير، حتى أن الصديق يُجرَّب أن يحسد الشرير. لكن القليل الذي نعلم أننا أخذناه بأمانة وعدل هو خير من دَخْل كبير أُخذ بالظلم. قال الحكيم: »لقمةٌ يابسة معها سلامة خيرٌ من بيت ملآن ذبائح مع خصام« (أم 17: 1). »القليل مع مخافة الرب خيرٌ من كنز عظيم مع همٍّ« (أم 15: 16). »القليل مع العدل خيرٌ من دَخْل جزيل بغير حق« (أم 16: 8). إن القليل الذي للصدّيق حلال، وهو يستعمله بحكمة لأنه وكيل أمين على ما أعطاه الله له، ولهذا فهو يستمتع به، ويفيض على جسده صحة، كما أن الصدّيق يستخدم ما عنده لخدمة غيره »اليوم كله يترأف ويُقرض، ونسله للبركة« (مز 37: 26). ثم أن الله يبارك الصدّيق وما يملكه، لأنه يطيع وصية الله ويدفع عشور دَخْله لعمل الرب. أما الشرير فلا يستمتع بماله لأنه يسلب الله ولا يدفع عشوره. وهل يتبارك إنسانٌ يسلب حقوق الله؟ (ملا 3: 8) إن الهمَّ يركب قلبه. حتى إن ضحك، فلن يستمر ضحكه طويلاً!
2 – مفارقة في القوة: »لأن سواعد الأشرار تنكسر، وعاضد الصدِّيقين الرب« (آية 17). ذراعا الشرير قويتان، تعملان الشر، وتقاومان الصدّيقين، ولكن الله يقاوم الشرير »وتنكسر الذراع المرتفعة (بالكبرياء)« (أي 38: 15). ويسند الله الصدِّيق عندما يحاول الشرير إيقاع الأذى به. قد يظن الشرير أنه قوي، يسنده ظلمه، أو جبروته، أو ماله، أو أصحابه. لكن الرب يكسر سواعد الشرير. وقد تبدو ذراعا الصدّيق ضعيفتان، ولكن الله في محبته يسند هذا الضعيف ويقوّيه.
3 – مفارقة في العمر: (آيات 18-20).
وتقدم هذه الآيات ثلاث حقائق:
(أ) يعرف الرب المؤمنين: »الرب عارف أيام الكَمَلة، وميراثهم إلى الأبد يكون« (آية 18). إنه يعرف أسماءهم، ويدعوهم بها (إش 43: 1) وهو يُحصي شعور رؤوسهم (مت 10: 30) ويعرف طاعتهم ومحبتهم له. ويعرف عدد أيامهم، كما قال أيوب: »أيامه محدودة، وعدد أشهره عندك، وقد عيَّنت أَجَله« (أي 14: 5) وقال المرنم: »في يدك آجالي« (مز 31: 15). وهو يعرف ويحدِّد ما سيحدث معهم في حياتهم، ويجعل كل الأشياء تعمل معاً للخير لأجلهم، لأنهم مدعوّون حسب قصده
(رو 8: 28) وهو يعرف مستقبلهم الأبدي، فقد منحهـم ميراثاً لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل محفـوظ في السمـاوات لأجلهم. وهو يحفظهم ثابتين إلى أن يوصِّلهم إليه لينالوا هذا الميراث (1بط 1: 4، 5).
(ب) يعرف ما يحدث للمؤمنين: »لا يخزون في زمن السوء، وفي أيام الجوع يَشبعون«
(آية 19). صحيح أن الصديق يمرُّ بصعوبات وتجيء عليه أيام جوع روحي وفكري وعاطفي ومادي، لكن الرب الذي يسير مع الصدّيق كل الأيام يُخرِجه من جميعها سالماً. »فإذاً الذين يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودعوا أنفسهم كما لخالق أمين في عمل الخير« (1بط 4: 19) فيقولون مع داود: »إذا سرتُ في وادي ظل الموت لا أخاف شراً، لأنك أنت معي« (مز 23: 4) ويتحقَّق لهم وعد المسيح: »أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم« (يو 6: 51).
(ج) يعرف ما سيحل بالأشرار: »لأن الأشرار يهلكون، وأعداء الرب كبهاء المراعي فنوا. كالدخان فنوا« (آية 20). إنهم يهلكون كما تهلك المراعي التي تبدو خضراء، لكن حر الصيف ييبِّسها، وتلتهم الحيوانات خضرتها فتصير جرداء! فما أعظم الفرق بين من يحيا لله ومن يحيا لنفسه! يعرف الرب أيام الكمَلة، ويفارق بينهم وبين الأشرار. صحيح أن أعداء الرب يظهرون كالمراعي الخضراء البهية، لكن سرعان ما يُقال عنهم: »فنوا! كالدخان فنوا«.
4 – مفارقة في الأمانة: »الشرير يستقرض ولا يفي، أما الصديق فيترأف ويعطي، لأن المباركين منه يرثون الأرض والملعونين منه يُقطَعون. من قِبَل الرب تتثبَّت خطوات الإنسان، وفي طريقه يُسرُّ. إذا سقط لا ينطرح لأن الرب مسندٌ يده. أيضاً كنت فتى وقد شختُ، ولم أرَ صديقاً تُخُلي عنه ولا ذرية له تلتمس خبزاً. اليوم كله يترأف ويقرض، ونسله للبركة« (آيات 21-26).

وتعلمنا هذه الآيات ثلاث حقائق:
(أ) الشرير يقترض ولا يفي: في أول المزمور كان المرنم يغار من الشرير لأنه ثري وناجح. ولكن نجاح الشرير لم يستمر، فراح يقترض وعجز عن السداد. أو أنه لم يسدِّد لأنه غير أمين. والنتيجة الأليمة أنه يُقطع من الأرض. أما المرنم، الذي يبدو في أول المزمور فقيراً، فقد أعطاه الله ما يكفي حاجاته وحاجات المحيطين به، فأخذ يترأف ويعطي، ويُحسِن إلى المحتاجين، فتمَّ فيه الوصف: »سعيدٌ هو الرجل الذي يترأف ويقرض. يدبِّر أمـوره بالحـق.. فرَّق أعطى المساكين، بـرُّه قائمٌ إلى الأبد« (مز 112: 5، 9) وتحقق معه الوعد الإلهي: »يباركك الرب إلهك كما قال لك، فتُقرض أمماً كثيرة وأنت لا تقترض« (تث 15: 6).
(ب) الرب يكره طريق الشرير: يُسرُّ الرب بسلوك الصدّيق، لأن الصديق يُسر بطريق الله، و»كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله« (رو 8: 14). يتأمل الصدِّيق في حياة المسيح الذي ترك لنا مثالاً لنتبع آثار خطواته، ويسير في آثار تلك الخطوات (1بط 2: 21). وقد يتعثَّر الصدِّيق ويسقط وهو يسير في طريق البر، ولكنه سرعان ما يقوم وينفض عنه ما علق به من أوساخ، لأن الرب يسند يده، كما أمسك المسيح بيد بطرس وهو يكاد يغرق، وأنقذه (مت 14: 31). قال الحكيم: »الصدّيق يسقط سبع مرات ويقوم« (أم 24: 16). ويقول الله: »أنا الرب إلهك، الممسك بيمينك، القائل لك: لا تخف« (إش 41: 13). يمشي المؤمن رحلة الحياة ويده في يد الرب، فإذا حدث وانزلق لخطإ ارتكبه أو لنقصِ حكمته فإن الله يرفعه. »والقادر أن يحفظكم غير عاثرين، ويوقفكم أمام مجده بلا عيبٍ في الابتهاج« (يه 24). ليس كذلك الأشرار، فإنهم عندما يسقطون في الخطية يتمرَّغون فيها ويستمرون في ارتكابها، لأنها تناسب طبائعهم الفاسدة.
(ج) الرب يكافئ الصدِّيق: إنه لا يسمح أبداً له ولا لأولاده أن يحتاجوا إلى شيء. أما بنو الشرير فيتيهون تيهاناً لعدم وجود القدوة والتعليم في الأبوين، ويحاصرهم الفقر والجوع، فيلتمسون خبزاً في خِربهم ولا يجدونه (مز 109: 10). ويكرر المرنم أن الصدِّيق يُحسِن ويعطي، ويسلك أولاده في آثار خطواته، لأنهم يتعلَّمون العطاء منه. وعندما نخدم الله خدمة بالمال يكافئنا بالمال، ويكافئ نسلنا مادياً. وعندما نخدمه بأن نسبِّحه ونشهد للآخرين عنه، يكافئنا بالروحيات، ويكافئ نسلنا بالطريقة نفسها. دعونا نخدم الله خدمة مادية وخدمة روحية معاً لننال البركتين.
5 – مفارقة في السلوك: »حِدْ عن الشر وافعل الخير، واسكُن إلى الأبد، لأن الرب يحب الحق، ولا يتخلى عن أتقيائه. إلى الأبد يُحفَظون. أما نسل الأشرار فينقطع. الصدّيقون يرثون الأرض، ويسكنونها إلى الأبد« (آيات 27-29). ينصح المرنم مستمعيه أن يحيدوا عن الشر وأن يفعلوا الخير، كما قال: »حِدْ عن الشر واصنع الخير. اطلب السلامة واسْعَ وراءها« (مز 34: 14) والنتيجة الطبيعية لهذا السلوك السليم أن الرب لا يتخلى عن المؤمن الذي يخافه ويتَّقيه، ولا يتخلى عن نسله، بل يمتعهم بالاستقرار، فيحيا المؤمن إلى الأبد في هذا النسل الذي يباركه الرب، وإلى الأبد يُحفَظون. ويرث الصديقون الأرض ويسكنونها إلى الأبد، لأن الرب يبيد الشرير ويمنح بركته للمؤمن، لأنه يحب الحق ويحقِّق القول الحكيم: »لأن المستقيمين يسكنون الأرض، والكاملين يبقون فيها« (أم 2: 21).
لم يتخلَّ الرب أبداً عن خائفيه، لذلك يصلي المرنم قائلاً: »يا رب رحمتك إلى الأبد. عن أعمال يديك لا تتخلَّ« (مز 138: 8) أما الشرير فلا بد أن يبيد، وينقطع نسله، كما يقول المرنم عنه: »لتنقرض ذريته. في الجيل القادم ليُمحى اسمه« (مز 109: 13).
6 – مفارقة في الحكمة: »فم الصدّيق يلهج بالحكمة، ولسانه ينطق بالحق. شريعة إلهه في قلبه. لا تتقلقل خطواته« (آيتا 30 و31). »من فضلة القلب يتكلم الفم. الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرِج الصالحات. والإنسان الشرير من الكنز الشرير يُخرِج الشرور« (مت 12: 34، 35). والصدّيق هو صاحب الموقف السليم من الله، وهو صاحب القلب الصالح، ولذلك يلهج قلبه بالحكمة الممنوحة له من الله، والمسطَّرة في الوحي المقدس الذي يملأ قلبه، لأن شعاره: »خبأتُ كلامك في قلبي لكيلا أخطئ إليك« (مز 119: 11). ولأن معه يتحقق قول المسيح: »أنتم الآن أنقياء بسبب الكلام الذي كلمتكم به« (يو 15: 3). إنه يتمم الوصية الموسوية: »لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك. وقُصَّها على أولادك. وتكلم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم« (تث 6: 6-8). والإنسان الصديق البار يعرف الحق لأنه يعرف شريعة إلهه، فينطق لسانُه بالحق، ولا تتقلقل خطواته. إنه مثل القائد العسكري يشوع الذي قال الله له: »لا يبرح سفرُ هذه الشريعة من فمـك، بـل تلهج فيـه نهاراً وليلاً، لكي تتحفَّظ للعمل حسب كل ما هـو مكتـوب فيـه، لأنـك حينئذ تُصلح طريقك، وحينئذ تُفلح« (يش 1: 8).
وما أعظم الفرق بين حكمة المؤمن المستَمَدّة من كلمة الله وبين جهالة الشرير المبنيَّة على ضلاله. قال الحكيم: »فم الصديق يُنبِت الحكمة، أما لسان الأكاذيب فيُقطَع. شفتا الصدّيق تعرفان المرضيَّ، وفم الأشرار أكاذيب« (أم 10: 31، 32).
7 – مفارقة في العاقبة: (آيات 32-40).
في هذه الآيات التسع يقدم لنا المرنم أربع حقائق عن عاقبة الصديق وعاقبة الشرير:
(أ) الشرير يكيد للصدّيق، ولكن الرب ينجيه: »الشرير يراقب الصديق محاولاً أن يُميته. الرب لا يتركه في يده، ولا يحكم عليه عند محاكمته. انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض. إلى انقراض الأشرار تنظر« (آيات 32-34). أعطى الله الصدّيق شرف أن يكون نور العالم. ولما كان الشرير مريض العين فإن النور يؤذيه، ولهذا يقاوم الصدّيق. توبِّخ أعمالُ الصدّيق الصالحة أعمالَ الشرير الرديئة، فيتحرك ضمير الشرير عليه، كما توبَّخ قايين من هابيل (تك 4: 6).
كما أن الصدّيق أحياناً يقاوم أعمال الشرير ويخطِّئ أفكاره ويعرقل خططه ومؤامراته الأثيمة، ولذلك يراقب الشرير الصدّيق محاولاً أن يُميته. قد يجرُّه إلى محاكمة ظالمة باتهامات كاذبة. لكن الله لا يسمح لمكايده أن تقتنص الصدِّيق، ولا يترك الصدِّيق في يد المحاكمة الكيدية. صحيح أن الشرير ينجح أحياناً في الكيد للصدّيق، فتصدُر الأحكام الظالمة ضده، لكن الرب لا بد ينصف مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً، حتى لو بدا أنه متمهِّل عليهم (لو 18: 7).
وينصح المرنم المؤمن المفترَى عليه أن ينتظر الرب. وتتكرر فكرة انتظار الرب كثيراً في الوحي المقدس، لأن الإنسان عادة متعجِّل، كما أن المتضايق أكثر تعجُّلاً، لا يقوى على الصبر حتى يجيء التوقيت الإلهي المناسب. ولكن لكل شيء تحت السماوات وقت (جا 3: 1). فليصرخ المؤمن المفترَى عليه: »خاصِم يا رب مخاصميَّ« (مز 35: 1) بمعنى: تَبَنَّ يا رب قضيتي ودافع عني. وينصح المرنم المؤمن أن يحفظ طريق الرب فيرفعه الرب ويورثه الأرض، وينصره على مكايد الشرير الذي لا بد أن ينقرض!
(ب) الشرير يزول: »قد رأيتُ الشرير عاتياً وارفاً مثل شجرة شارقة ناضرة. عبَر، فإذا هو ليس بموجود. والتمستُه فلم يوجَد« (آيتا 35، 36). الشجرة الشارقة الناضرة هي المزروعة في تربتها الطبيعية. ويظهر الشرير كأنه العاتي الزاهي، ولكن نهايته أكيدة. وفي هاتين الآيتين دعوة واضحة للتوبة، فإن الله يعطي النجاح للشرير ليعرِّفه بمحبته وإحسانه، فإن اعترف بفضل الله عليه وتاب غفر الله له. أما إن استمرَّ في شرِّه فإن الشرَّ يُميت الشرير. لقد عرف المرنم شريراً عاتياً مستبداً، زها كشجرة مورقة في أرضها، ولكنه قُطع فجأة ولم يعُد له وجود، لأن »كل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتُلقى في النار« (مت 3: 10).
(ج) مصيران: »لاحِظ الكامل وانظر المستقيم، فإن العقِب لإنسان السلامة. أما الأشرار فيُبادون جميعاً. عقِب الأشرار ينقطع« (آيتا 37، 38). هناك مستقبل متميِّز ورجاء عظيم للصدّيق المستقيم صاحب الموقف السليم من الله. »الصدّيق يَدخُل السلام. يستريحون في مضاجعهم. السالك بالاستقامة« (إش 57: 2). قال الحكيم: »لا يحسدنَّ قلبُك الخاطئين، بل كن في مخافة الرب اليوم كله، لأنه لا بد من ثواب، ورجاؤك لا يخيب« (أم 23: 17، 18). أما الأشرار فيُبادون »لأنه لا يكون ثوابٌ للأشرار. سراج الأثمة ينطفئ« (أم 24: 20). »صوت رُعوبٍ في أذنيه. في ساعة سلام يأتيه المخرِّب.. قبل يومه (موته) يُتوفَّى، وسعفه لا يخضرُّ« (أي 15: 21، 32).
(د) خلاص الصدّيق أكيد: »أما خلاص الصدّيقين فمن قِبَل الرب، حصنهم في زمان الضيق، ويعينهم الرب وينجيهم. ينقذهم من الأشرار ويخلّصهم لأنهم احتموا به« (آيتا 39، 40). تلخِّص هاتان الآيتان المزمور كله، وتقدمان التشجيع للمؤمن المجرَّب المتعَب المتضايق، وتؤكدان له العون الإلهي والحماية الخاصة. ليست نهاية المؤمن حزناً، بل فرحاً في الرب المنقذ والمخلّص. لقد كانت شريعة الرب بهجةً للمؤمن، فاتَّكل على أمانة الرب واحتمى به، فكان الرب حصناً له في زمان الضيق، سواء جاء الضيق من العدو، أو من المرض، أو من الخطية.
من هو الإنسان الذي يتمتع بكل البركات السماوية والحماية الإلهية؟ إنه الصدّيق البار، صاحب الموقف السليم من الله. هو الذي برَّره المسيح وستره بكفارته الكريمة. فدعونا نلجأ إلى الرب الفادي، نحتمي بفدائه الكريم الذي جهَّزه لنا على الصليب، فنقول: »إذ قد تبرَّرنا بالإيمان لنا سلامٌ مع الله بربنا يسوع المسيح« (رو 5: 1).
اَلْمَزْمُورُ الثَّامِنُ وَالثَّلاَثُونَ
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ لِلتَّذْكِيرِ
1يَا رَبُّ، لاَ تُوَبِّخْنِي بِسَخَطِكَ وَلاَ تُؤَدِّبْنِي بِغَيْظِكَ، 2لأَنَّ سِهَامَكَ قَدِ انْتَشَبَتْ فِيَّ، وَنَزَلَتْ عَلَيَّ يَدُكَ. 3لَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ مِنْ جِهَةِ غَضَبِكَ. لَيْسَتْ فِي عِظَامِي سَلاَمَةٌ مِنْ جِهَةِ خَطِيَّتِي، 4لأَنَّ آثَامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأْسِي. كَحِمْلٍ ثَقِيلٍ أَثْقَلَ مِمَّا أَحْتَمِلُ. 5قَدْ أَنْتَنَتْ، قَاحَتْ حُبُرُ ضَرْبِي مِنْ جِهَةِ حَمَاقَتِي. 6لَوِيتُ. انْحَنَيْتُ إِلَى الْغَايَةِ. الْيَوْمَ كُلَّهُ ذَهَبْتُ حَزِيناً، 7لأَنَّ خَاصِرَتَيَّ قَدِ امْتَلأَتَا احْتِرَاقاً، وَلَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ. 8خَدِرْتُ وَانْسَحَقْتُ إِلَى الْغَايَةِ. كُنْتُ أَئِنُّ مِنْ زَفِيرِ قَلْبِي.
9يَا رَبُّ، أَمَامَكَ كُلُّ تَأَوُّهِي، وَتَنَهُّدِي لَيْسَ بِمَسْتُورٍ عَنْكَ. 10قَلْبِي خَافِقٌ. قُوَّتِي فَارَقَتْنِي، وَنُورُ عَيْنِي أَيْضاً لَيْسَ مَعِي. 11أَحِبَّائِي وَأَصْحَابِي يَقِفُونَ تُجَاهَ ضَرْبَتِي، وَأَقَارِبِي وَقَفُوا بَعِيداً، 12وَطَالِبُو نَفْسِي نَصَبُوا شَرَكاً، وَالْمُلْتَمِسُونَ لِيَ الشَّرَّ تَكَلَّمُوا بِالْمَفَاسِدِ، وَالْيَوْمَ كُلَّهُ يَلْهَجُونَ بِالْغِشِّ.
13وَأَمَّا أَنَا فَكَأَصَمَّ لاَ أَسْمَعُ، وَكَأَبْكَمَ لاَ يَفْتَحُ فَاهُ. 14وَأَكُونُ مِثْلَ إِنْسَانٍ لاَ يَسْمَعُ، وَلَيْسَ فِي فَمِهِ حُجَّةٌ. 15لأَنِّي لَكَ يَا رَبُّ صَبِرْتُ، أَنْتَ تَسْتَجِيبُ يَا رَبُّ إِلَهِي. 16لأَنِّي قُلْتُ: «لِئَلاَّ يَشْمَتُوا بِي». عِنْدَمَا زَلَّتْ قَدَمِي تَعَظَّمُوا عَلَيَّ. 17لأَنِّي مُوشِكٌ أَنْ أَظْلَعَ، وَوَجَعِي مُقَابِلِي دَائِماً. 18لأَنَّنِي أُخْبِرُ بِإِثْمِي وَأَغْتَمُّ مِنْ خَطِيَّتِي. 19وَأَمَّا أَعْدَائِي فَأَحْيَاءٌ. عَظُمُوا. وَالَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي ظُلْماً كَثُرُوا، 20وَالْمُجَازُونَ عَنِ الْخَيْرِ بِشَرٍّ يُقَاوِمُونَنِي لأَجْلِ اتِّبَاعِي الصَّلاَحَ. 21لاَ تَتْرُكْنِي يَا رَبُّ. يَا إِلَهِي لاَ تَبْعُدْ عَنِّي. 22أَسْرِعْ إِلَى مَعُونَتِي يَا رَبُّ يَا خَلاَصِي.
المصاعب تقود إلى التوبة
هذا واحد من مزامير التوبة السبعة، فنرجو من القارئ الرجوع إلى مقدمة شرحنا لمزمور 6. وعنوان مزمورنا »للتذكير« فقد تذكر داود خطيةً ارتكبها (غالباً مع بثشبع – 2صم 11، 12) فأوقع الله عقابه عليه، فاضطرب جسده كما اضطربت نفسه، وهجره أصحابه، وسخر منه أعداؤه. وفي وسط هذه الآلام تذكَّر خطيته، وعرف أنه يستحق ما حلَّ به، فقَبِل تعييرات المعيِّرين، وصرخ إلى الرب في أول المزمور وفي نهايته أن يرفع عنه العقاب (آيات 1، 21، 22) ولو أنه في باقي المزمور يقول إن العقاب أكثر مما تستحقُّه الخطايا التي ارتكبها. ولا شك أن الله يؤدِّب المؤمن الذي يخطـئ. ولا يبدو التأديب أنه للفرح بل للحزن (عب 12: 10). لكنه يؤدِّبه لكي لا يدينه مع العالم (1كو 11: 32)، وليُشركه معه في قداسته.
ويصف أيوب بالتفصيل ما يذكره المرنم هنا باختصار، فيصف مرضه (أي 7: 5 و9: 17) ويقول إن الله عاقبه (أي 16: 12-14) وهجره أصحابه (16: 20 و19: 13-15). ويعزو أيوب آلامه لخطاياه، رغم أنه لا يعرف خطية معينة بسببها جاءت عليه كل بلاياه (أي 7: 21 و10: 6). كما نجد أوجه شبَه بين آلام المرنم وآلام عبد الرب المتألم الموصوفة في إشعياء 53، رغم اختلاف أسباب الألم.
في هذا المزمور نجد:
أولاً – مصاعب المرنم ذكَّرته أن الله غاضب عليه (آيات 1-10)
ثانياً – مصاعب المرنم جعلته يفحص علاقاته الإنسانية (آيات 11-14)
ثالثاً – مصاعب المرنم جعلته يعمِّق صلته بالرب (آيات 15-22)
أولاً – مصاعب المرنم ذكَّرته أن الله غاضب عليه
(آيات 1-10)
1 – شدَّة مصاعب المرنم: »يا رب لا توبخني ولا تؤدبني بغيظك. لأن سهامك قد انتشبت فيَّ ونزلت عليَّ يدك. ليست في جسدي صحَّة من جهة غضبك. ليست في عظامي سلامة من جهة خطيتي« (آيات 1-3). رأى المرنم العقوبة التي حلَّت به آتيةً من قاضٍ غاضب، لا من أب حنون، وكأنه يشارك إرميا في قوله: »أدِّبني يا رب، ولكن بالحق، لا بغضبك لئلا تفنيني« (إر 10: 24). إنه لا يرفض التوبيخ والتأديب، لكنه يريدهما بغير غضب، فقد رأى الله يضربه بسهم، ثم يضربه بيده. و»سهام الله« هي المرض والألم الذي لم يترك في جسده صحة، أما »يده« فهي الضربات المتوالية كما من عصا، والتي لم تترك للمرنم راحة داخلية لأنه خاطئ، ولا استمتاعاً برحمة الرب لأنه غاضب عليه. كان شعوره بالذنب كالحمى التي تحرق نفسه من الداخل، والعقاب الإلهي كالضربات المنهالة عليه من الخارج، كما قال إشعياء: »كل الرأس مريض وكل القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحَّة، بل جرح وأحباطٌ (آثار جروح متورِّمة)، وضربة طرية لم تُعصَر ولم تُعصَب ولم تُليَّن بالزيت« (إش 1: 5، 6). ويرى داود أن خطيته هي سبب غضب الله عليه.
2 – سبب مصاعب المرنم: »لأن آثامي قد طمت فوق رأسي. كحِمل ثقيل أثقل مما أحتمل. قد انتنَت، قاحت حبُر (جروح لم تلتئم) ضربي من جهة حماقتي« (آيتا 4، 5). يرى داود آثامه كطوفانٍ غامر يعلو على رأسه، فلا نجاة منه، وكأنه يقول: »جرفتنــا الميــاه.. عــبر السيــلُ علـى أنفسنـا« (مز 124: 4). ورآها كحِملٍ يدوسه تحته، كما قال قايين: »ذنبي أعظم من أن يُحتَمل« (تك 4: 13). وقد ضربه الله بسبب خطيته، وجرحه فتلوَّثت الجروح وأنتنت وفاحت رائحتها. وعندما يستيقظ الضمير يرى شناعة الخطية ويحسّ بثقلها، وهذه الأحاسيس ظاهرة صحية لأنها تدفع صاحبها إلى الالتجاء للمسيح الفادي بالتوبة والعزم على الحياة مع الرب.
3 – نتيجة مصاعب المرنم: »لَوِيتُ، انحنيت إلى الغاية. اليوم كله ذهبت حزيناً، لأن خاصرتيَّ قد امتلأتا احتراقاً، وليست في جسدي صحة. خدِرتُ وانسحقت إلى الغاية. كنت أئن من زفير قلبي« (آيات 6-8). تلوَّى داود جسدياً ونفسياً كمن أصابه برد شديد جعله عاجزاً عن الحركة، وانسحق إلى الغاية، كما قال أيوب: »أمعائي تغلي ولا تكفّ.. حَرِش جلدي عليَّ (خشُن ومال إلى السواد)، وعظامي احترَّت من الحرارة فيًّ« (أي 30: 27، 30). زفر قلبه حزناً، وكانت نفسه تئن ألماً نتيجة الألم والمرض »لأنه مثل خبزي يأتي أنيني، ومثل المياه تنسكب زفرتي« (أي 3: 24). وعندما نصل إلى حالة الأنين حزناً على خطايانا يسمعنا الله الحنون ويقدم لنا التعزية التي تمحو كل أثرٍ للحزن، و»طوبى للحزانى لأنهم يتعزَّون« (مت 5: 4).
4 – بركات مصاعب المرنم: »يا رب، أمامك كل تأوُّهي، وتنهُّدي ليس بمستور عنك. قلبي خافق. قوَّتي فارقتني، ونور عيني أيضاً ليس معي« (آيتا 9، 10). دفعت المصاعب المرنم إلى الحضن الإلهي الدافئ، فإن الرب يعرف كل شيء عن شعبه، ويعلم ما نحتاج إليه من قبل أن نسأله (مت 6: 8). يقول: »سمعت أنين بني إسرائيل« (خر 6: 5) ، فنقول له: »اجعل أنت دموعي في زقِّك« (مز 56: 8). سعيد هو الإنسان المتعَب الذي يلجأ إلى الله، حتى إن كان يدرك أن تعبه عقابٌ إلهي عليه، لأنه عندما يلجأ إلى مراحم الله يجد عنده الترحيب والحب والغفران.
ثانياً – مصاعب المرنم جعلته يفحص علاقاته الإنس