Titles 28-40
28- عمانوئيل
«هوذا العذراء تحبل و تلد ابناً،
ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي
تفسيره:الله معنا» (متى 23:1)
ورد لقب السيد المسيح عمانوئيل في نبوة إشعياء 14:7. حيث يقول: «يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل». وقد أوحى الله بهذه النبوة لنبيه إشعياء سنة 741 قبل الميلاد. أما الظروف التي جاءت فيها تلك النبوة، فقد كانت عندما كان آحاز ملك يهوذا (المملكة الجنوبية وعاصمتها أورشليم) خائفاً من هجوم ملك آرام وملك إسرائيل (المملكة الشمالية وعاصمتها السامرة) أن آحاز ملك يهوذا فكر في أن يستغيث بملك أشور لينقذه. فأرسل الله إليه النبي إشعياء يشجعه ليتوكل على الله وحده، وينبئه بأن أعداءه لن يغلبوه، لأن الرب سيخلصه. وفي نفس الوقت يشجع الله شعبه أن يرجوا الخلاص الآتي في المسيا، الذي لا بد أن يأتي من شعب اليهود، ومن بيت داود. فالمسيا لا بد أن يولد من العذراء التي تحبل بالروح القدس، وبواسطتها يظهر الله في الجسد. هذه العذراء التي لم تكن تعرف رجلاً كما قالت مريم العذراء عن نفسها، هي آية عجيبة معجزة.
وقد كان مفهوماً من البدء أن السيد المسيح يجب ان يولد من عذراء، عندما أُطلق عليه لقب «نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية» (تكوين 15:3). فولادة المسيح من عذراء ولادة خارقة للطبيعة، كما أنها بلا دنس، طاهرة خالية من كل شائبة الخطية. وما كان يجب أن يُولد المسيح من أميرة أو ملكة، لإظهار العظمة العالمية، بل من عذراء ليعلمنا الطهارة الروحية، وأن نموت عن كل الشهوات الجسدية، فنحفظ أنفسنا بلا لوم ولا دنس من العالم، لنكون عذراء عفيفة للمسيح.
«هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً. ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» ومعنى اسم عمانوئيل: «الله معنا» يناسب طبيعة المسيح، لأن في شخص المسيح نجد أن الله مع شعبه يخلصهم من خطيتهم، ويحميهم ويهديهم ويسوسهم، تحقيقاً لتلك النبوة القديمة التي أعنت أن الله معنا.
البعيد الذي اقترب:
لقب المسيح «عمانوئيل الله معنا» يرينا أمرين عظيمين: كل واحد منا يعلم أن الله منزَّه بعيد مختلف عن كل من عداه، ولكن كلُّ واحد منا يشتاق في أعماق قلبه أن ينشئ علاقة شخصية مع هذا الإله العظيم. ولقد جاء المسيح عمانوئيل الله معنا ليقول لنا إن هذا الإله العظيم قد صار معنا. جاء إنساناً في أرضنا ليعلمنا أن الله يحبنا. العظيم قد تواضع، والبعيد قد اقترب، ليرفعنا من تواضعنا إلى عظمته، ومن بُعدنا إلى قربه. وهذا معنى لقب عمانوئيل الله معنا. لقد كانت ولادة المسيح تحقيقاً لتلك النبوة القديمة السابقة لميلاده بسبعمئة وأربعين سنة لأنه انتظارات الأجيال. له يشهد جميع الأنبياء. هوذا العذراء تحبل وتلد عمانوئيل الله معنا الذي ظهر في الجسد.
عندما ننظر إلى الطبيعة نرى أن الله فوقنا، لأنه أعلى منا. نرى البرق ونسمع الرعد ونرتعب من الزلازل ومن العواصف الشديدة. الطبيعة تُظهر عظمة الله الذي هو فوقنا – وهذا صحيح لأن الله فوقنا “السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه” (مزمور 1:19). أما عمانوئيل، الله معنا، فهو الذي يقول عنه الإنجيل المقدس: «والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءا نعمة وحقاً. يوحنا شهد له ونادى قائلاً هذا هو الذي قلت عنه إن الذي يأتي بعدي صار قدامي لأنه كان قبلي. و من ملئه نحن جميعا أخذنا ونعمة فوق نعمة. لأن الناموس بموسى أعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا. الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر» (يوحنا 14:1-18).
معنا للمعونة:
لقد جاء الله يتجوَّل في أرضنا ويعيش بيننا في شخص المسيح الذي شفى المرضى وفتح أعين العميان وطهَّر البرص وأقام الموتى وأسكت العاصفة وأطعم الجياع، وقال لنا: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر». ولا يستطيع أحد أن يقول هذه الكلمات إلا إن كان فعلاً هو عمانوئيل الله معنا. فلا يستطع أحد أن يقول هذه الكلمات إلا إن كان فعلاً هو عمانوئيل الله معنا. فلا يستطيع أحد أن يكون معنا كل الأيام إلى انقضاء الدهر إلا إن كان هو الله. وقال أيضاً: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (متى 20:18) وهذه كلمات كبيرة لا يستطيع أن يقولها إلا عمانوئيل الله معنا، الحاضر في كل مكان وسط كل من يجتمعون باسمه يتعبدون له. تعال نستمع إلى عمانوئيل يقول لنا ويطمئننا قائلاً: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (متى 28:11). لم يكن ممكناً أبداً أن نجد راحتنا في شخص واحد في كل بلد من بلاد العالم، في كل زمن من الأزمان، مهما كان نوع التعب الذي واجهنا ويضايقنا. لكن المسيح في محبته المذهلة يقول لنا إنه سوف يريحنا من كل متاعبنا أينما كنا، منذ أن كُتب الإنجيل المقدس إلى يوم يُبعثون، لأنه عمانوئيل الله معنا. ولقد لجأ إلى السيد المسيح ولاذ به كلُّ مُتعب من خطيئته، فنال مغفرة الخطية والقبول أمام الله. ولاذ به كل متعب مجهد فوجد في حبه الراحة الكاملة. هذا عمانوئيل الله معنا الذي وحده يستطيع أن يقول: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة. أنا هو خبز الحياة من يُقبل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً» (يوحنا 12:8). هذا هو عمانوئيل الله معنا – ونحن ندعوك أيها القارئ الكريم أن تكون معه وأن تضع ثقتك فيه وأن تتبعه، لتكتشف أن الله معك يسندك ويشجعك ويسير معك رحلة الحياة.
29- البكر
«المسيح بكر كل خليقة» (كولوسي 15:1)
وقال المسيح عن نفسه إنه «بداءة خليقة الله»
(الرؤيا 14:3).
ظنَّ بعض الناس أن هاتين الآيتين تصفان السيد المسيح باعتباره أنه مخلوق لأنه البكر، بمعنى الابن الأكبر. ولكن كلمة بكر هنا لا تعني أول مخلوق، بل تعني صاحب مكان الشرف، صاحب المكان النموذجي ومنشئ الحياة. والقول إن المسيح بداءة خليقة الله معناه أنه أبدع خليقة الله وأنشأها، وليس هذا غريباً، فإن الإنجيل يقول: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه». إنما لقب السيد المسيح «البكر» و«بكر كل الخليقة» يعني أنه صاحب مكان الشرف. يقول الرسول بولس إن الله اختار كثيرين من الناس ليؤمنوا بالمسيح وليقبلوه مخلصاً «ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون المسيح بكراً بين أخوة كثيرين» (رومية 29:8). ومعنى هذا القول، إن المسيح يكون صاحب المكان الأول بين الجميع. فليس المقصود بكلمة البكر ترتيب الولادة. لكن المقصود بها أنه صاحب الكرامة. بهذا المعنى أخذ يعقوب أبو الأسباط البكورية من شقيقه عيسو، مع أن يعقوب هو الابن الأصغر. وبهذا المعنى أعطى يعقوب أبو الأسباط البكورية لأفرايم ابن يوسف الثاني، وترك منسى ابن يوسف الأول. وعندما رأى يوسف أن أباه أعطاه البكورية للابن الأصغر حاول أن يصلح الموقف، لكن يعقوب رفض. إن البكورية هنا لا تعني أول المولودين بل تعني أعظم المولودين. ثم أن الرسول بولس يقول عن المسيح: «إنه بكر من الأموات» (كولوسي 18:1). ولو أن تعبير البكر من الأموات يعني أنه أول من قام من بين الأموات، لكان هذا خطأ، فلم يكن المسيح أول من قام من قبره، لكن التعبير يعني أنه أعظم من قام من بين الأموات، وأنه صاحب مكان الشرف. قبل أن يقوم السيد المسيح من بين الأموات قام لعازر، وقام ابن أرملة نايين، وقامت ابنة يايرس. وقد أقام المسيح هؤلاء الثلاثة من الموت. المقصود إذاً بلقب المسيح «بكر من الأموات» أنه أعظم من قام من بين الأموات، ليس المقصود بأنه بكر كل خليقة إلا أنه الأعظم وصاحب مكان الشرف والكرامة.
البكر هو الأعظم:
البكر في شيء ما هو الأعظم في هذا الشيء، والمسيح هو الأعظم الذي يقول الإنجيل عنه: «أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات. فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً. وأخضع كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة» (أفسس 20:1-22).
هل تعطي المسيح المكان الأول في قلبك؟ وهل تخضع له؟ إذا سمعت كلامه، هل تعطيه مكان الشرف وتطيعه؟ أو هل تنسى كلامه وتعصاه؟ إن وجدت طريقاً صعباً وأمره مكلفاً، هل تدفع الثمن وتتبعه؟ أو هل تهرب؟ يجب أن تعطي المسيح المكان الأول في حياتك لأنه بكر كل خليقة، صاحب مكان الشرف.
البكر هو النموذجي:
عندما يطلق الإنجيل المقدس على السيد المسيح لقب «بكر كل خليقة» فهو يعني أنه الشخص النموذجي. وفي الفكر الكتابي كلمة «بكر» تعني الشرف والكرامة والمقام الأول، كما تحمل معنى الكمال والنموذج الكامل للحياة، وصاحب الحياة التي يمكن أن نفتدي بها دون أن نخطئ.
المسيح هو البكر، أي المثال والنموذج الذي لا يعلو أحد فوقه. يمكن أن تتشبه به لأنه الكمال الحقيقي. في كل أعماله وأقواله لم يخطئ خطية يعتذر عنها، ولم يتصرف تصرفاً يأسف عليه.هذا وحده هو الكامل النموذجي . قال عنه الشيطان: «رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء» (يوحنا 30:14). وما أجمل قول بولس الرسول عنه: «الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه غش». المسيح هو البكر، صاحب الحياة النموذجية.
لا تجعل إنساناً نموذجاً لحياتك، فإن البشر يوصون بما لا يفعلون ويقولون شيئاً ويفعلون غيره. لا تنر إلى الناس لأن جميعهم ناقصون. انظر إلى المسيح وحده وخُذه هو نموذجاً لحياتك.
البكر منشئ الحياة:
معني لقب «البكر» أنه الحياة ونبعها ومصدرها. هذا واضح من كتابات العهد الجديد، إذ يقول الرسول بولس: «فيه خُلق الكل ما في السماوات وما على الأرض» ويقول البشير يوحنا: «كان في العالم وكُوِّن العالم به». وكيف يكون المسيح أول الخلق وهو الخالق؟ هذا هو يسوع ربنا وإلهنا، الذي عمل العالمين، والذي يخلق من الطين. ولقد كان لقب البكر من الألقاب التي أطلقها اليهود على المسيح الآتي. فقال الله على لسان المرنم في المزمور التاسع والثمانين: «أنا أيضاً أجعله بكراً أعلى من ملوك الأرض». وقد انتظر اليهود المسيا الآتي البكر الأعلى من ملوك الأرض. والرسول بولس يقول لنا إن البكر قد جاء. المسيح البكر الذي انتظروه مخلصاً للعالم، قد وُلد من العذراء القديسة مريم.
هل أعطيت المسيح المكان الأسمى في قلبك؟ هل تجعله أولاً في حياتك؟
30- العريس
«هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا
والعريس معهم؟» (مرقس 19:2)
لقَّب السيد نفسه بلقب «العريس» كما قال عن إن جماعة المؤمنين هم العروس الذين يتحد بهم ويحبهم وقد بذل نفسه عنهم. فقد جاء الفريسيون إلى المسيح يوماً يسألونه: إن تلاميذ يوحنا المعمدان وتلاميذ الفريسيين يصومون. فلماذا لا يصوم تلاميذك؟ فأجابهم المسيح: «هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا والعريس معهم؟ ما دام العريس معهم لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن ستأتي أيام حين يُرفع العريس عنهم، فحينئذ يصومون في تلك الأيام» (مرقس 18:2-20). ويتحدث سفر الرؤيا، السفر الأخير في العهد الجديد، عن عرس الحمل وعروسه الكنيسة، فيقول في الأصحاح التاسع عشر: «وخرج من العرش صوت قائلاً: سبحوا لإلهنا يا جميع عبيده، الخائفيه، الصغار والكبار. وسمعت كصوت جمع كثير وكصوت مياه كثيرة، وكصوت رعود شديدة قائلة: هللويا، فإنه قد ملك الرب الإله القادر على كل شيء. لنفرح ونتهلل ونعطيه المجد، لأن عرس الحمل قد جاء وامرأته هيأت نفسها، وأُعطيت أن تلبس بزاً نقياً بهياً، لأن البز هو تبررات القديسين. وقال لي: اكتب طوبى للمدعوين إلى عشاء عرس الحمل».
ويقول لنا الرسول بولس لأهل كنيسة كورنثوس إنه خطبهم ليقدم عذراء عفيفة للمسيح (2كورنثوس 2:11). ويوصي الزوجات في كنيسة أفسس قائلاً: «أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب، لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضاً راس الكنيسة، وهو مخلص الجسد. ولكن كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك النساء لرجالهن في كل شيء. أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدِّسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة. لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أفسس 5).
وقد جاءت فكرة أن جماعة المؤمنين هم العروس وأن الله هو العريس في سفر إشعياء بالتوراة عندما يقول: «لأن زوجك هو صانعك، رب الجنود اسمه. ووليُّك قدوس إسرائيل، إله كل الأرض يُدعى» (إشعياء 5:54). ويقول أيضاً: «كفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهُك» (إشعياء 5:62).
ضرورة الأمانة:
وكان الله في التوراة يتّهم بني إسرائيل بالزنى الروحي عندما كانوا يتعبدون للأصنام، لأن الله هو زوجهم وهم عروسه. هم جماعة المؤمنين به. ويقول النبي إشعياء عن مدينة أورشليم عندما عبدت الأوثان: «كيف صارت القرية الأمينة زانية؟ ملآنة حقاً. كان العدل يبيت فيها. وأما الآن فالقاتلون» (إشعياء 21:1).
وفي الأصحاح الثالث والعشرين من نبوة حزقيال نقرأ وصفاً أليماً للشعب الخائن، فإن أهولة (السامرة عاصمة مملكة إسرائيل) وأهوليبة (أورشليم عاصمة مملكة يهوذا) قد خانتا الرب وعبدتا الأوثان. وخيانة الزوج للزوجة أو خيانة الزوجة للزوج أخف من خيانة المؤمن لربهم. فالمسيح هو العريس، وجماعة المؤمنين به هم العروس. وهذا يعني ضرورة وجود الأمانة. فالله دوماً أمين للمؤمنين به، أما جماعة المؤمنين فيمكن أن تنقص أمانتهم فيعبدون غيره، أو يُعطون الله المكانة الثانية في حياتهم، ويعطون ممتلكاتهم المكانة الأولى. لذلك يقول المسيح إننا لا نقدر أن نعبد الله والمال.
ضرورة الشركة:
ولقب المسيح «العريس» يقدم لنا معنى الحب والشركة، والشركة شركة العريس بالعروس، تعني القُرب القريب. فإن المؤمن يحيا حياته قريباً جداً من الله في أنس معه وفي اتحاد به، حتى أن المسيح يقول إنه هو الكرمة وإن المؤمنين به هم الأغصان. وعلى الغصن أن يثبت في الكرمة ويتحد بها ولا يبتعد عنها. وهذه هي علاقة الزوجية العميقة التي لا انفصام فيها، لأنه يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً. وهكذا يجب أن يكون المؤمن بالمسيح مع مسيحه. وهذه العلاقة الزوجية بين المسيح والمؤمنين تعني ضرورة الثقة الكاملة، فإننا يجب أن نضع ثقتنا في محبة الله لنا وأن نحب الله بكل القلب وبكل النفس وبكل الفكر، حتى أننا نلقي أنفسنا بالتمام عليه لأنه هو يعتني بنا. إن المؤمن بالمسيح ينظر إلى سيده وفاديه ومخلصه باعتباره المعتني به، الذي لا يمكن أن يتركه أبداً.
صلة لا تنفصم:
وهناك معنى رابع لصلة العريس بالعروس. إنها الصلة التي لا تنفصم، والتي هي مدى الحياة، في تكريس كامل، وفي عهد أمين ثابت. نحن نلبس خاتم الزواج عندما نتزوج. ولا توجد بداية للخاتم ولا نهاية، وهكذا المحبة – لا بداية لها ولا نهاية. وهكذا علاقة المؤمن بالمسيح. إنها علاقة تبدأ يوم يسلم الإنسان نفسه للرب، ولكنها لا تنتهي أبداً. فنحن نحبه في مرضنا كما في صحتنا، وفي ظروفنا الحسنة كما في ظروفنا القاسية. إن المسيح هو العريس الذي يمتلك قلبنا كله، ونحن نتبعه في ثقة وفي محبة وفي طاعة.
في تأملنا في لقب المسيح أنه العريس نرى أمانة الله لنا، فمحبته لنا لا تتغير أبداً، وهكذا يجب أن تبقى محبتنا له أمينة واثقة دوماً.
31- الضامن
«صار يسوع ضامناً لعهد أفضل» (عبرانيين 22:7)
الضامن هو الكفيل الملتزم. والكفالة شرعاً هي: «ضم الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة». وتُطلق على صك الكفالة. والضامن شخص يدخل في عهد من أجل شص آخر ليضمن إتمام ما التزم به ذلك الشخص الآخر، على أن يقوم الضامن بما عجز المضمون عن القيام به.
عهد قديم مكسور:
وقد جرى عهدٌ قديم بين الله وشعبه أيام موسى، نقرأ عنه في التوراة. ونصه: «وجاء موسى وحدث بني إسرائيل بأقوال الرب كلها. فقال الشعب: كل الأقوال التي تكلم بها الرب نفعل. فكتب موسى جميع أقوال الرب. وبكَّر في الصباح وبنى مذبحاً في أسفل الجبل، واثني عشر عموداً لأسباط بني إسرائيل الإثني عشر، وأرسل فتيان بني إسرائيل فأصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة للرب. فأخذ موسى نصف الدم ووضعه في الطسوس. ونصف الدم رشه على المذبح. وأخذ كتاب العهد وقرأ في مسامع الشعب. فقالوا: كل ما تكلم به الرب نفعل، ونسمع له. وأخذ موسى الدم ورش على الشعب وقال: هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال» (خروج 3:24-8).
ولم يمض وقت طويل حتى كسر الشعب هذا العهد الذي دخلوا فيه، حتى أنهم عملوا عجلاً ذهبياً عبدوه، وقالوا عنه إنه هو الذي أخرجهم من عبودية أرض مصر، وإن العجل هو الذي أطلقهم أحراراً. إذاً تحطم العهد. وهنا جاءنا المسيح ضامناً لعهد جديد يسميه عهداً أفضل.
عهد جديد مضمون:
يقول الإنجيل: إن المسيح صار ضامناً لعهد أفضل بين الله والإنسان. وعن المسيح الضامن نتساءل: أي الطرفين يضمنه يسوع لدى الطرف الآخر؟ هل يضمن يسوع الإنسان لدى الله؟ أو هل يضمن الله لدى الإنسان؟ إن الإنجيل يقول: «إن المسيح صار ضامناً لعهد أفضل» (عب 22:7). وهذا يعني أن المسيح ضامن لا لشخص بل لعهد. وحيث أن العهد المقصود هنا هو عهد النعمة، فهو إذاً عهد الله أن يثبت نعمته الخلاصية للإنسان. لذلك يكون يسوع ضامناً لتثبيت العهد بموته الكفاري، ليتمم عمل الفداء الذي به يبرر الله كل الذين يؤمنون بكفارة المسيح، لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة.
وهناك أيضاً ضمان المسيح لعهد من وجهة الإنسان، فالإنسان لا يستطيع أن يخلص نفسه، وهو في شره وكفره وتعديه على الشريعة الإلهية يكون يسوع ضامناً لتثبيت ذلك العهد، إذ يقوم المسيح نيابة عن الإنسان بوفاء الدين الذي عليه. وبعمل روح الله في قلبه يقدسه ليتمم عمل الفداء. فالمسيح إذاً ضامن للعهد بحياته وبموته. بحياة المسيح وفى شريعة الله حقها، وضمن الإنسان له في قيامه بالتزامات العهد الجديد الذي جاء المسيح ليقيمه. وبموت المسيح النيابي الكفاري فتح الطريق لله ليبرر الفاجر، وليضمن إتمام عهد الله في خلاصه. فالمسيح ضامن لعهد أفضل. وبمقتضى شروط هذا العهد يكفر عن الإنسان، ويتعهد عن الإنسان بأن يقوم بالتزامات ذلك العهد الجديد المقدس.
يضمن بأن يغير:
لم يستطع بنو إسرائيل أن يحفظوا العهد الذي تعهدوا به أمام الله فحطموه بخطيتهم. ولما كان الله كاملاً والإنسان ناقصاً، فقد بقى الإنسان دوماً في حالة عيب وخطأ وانفصال عن الله، فوجب أن يكون هناك ضامن يغفر خطية الإنسان ويسدد ديونه ويغير حياته لكي لا يعود يخطئ، إذ يمنحه الطبيعة الجديدة. وهذا ما يفعله السيد المسيح كضامن لعهد أفضل. إنه يدخل قلب الإنسان ليحيا فيه، فيُجري في داخله التغيير الكبير الذي يصفه الإنجيل المقدس بالقول: «إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً» (2كورنثوس 17:5). ويتحقق معه قول الإنجيل: «ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات» (غلاطية 24:5) وعندها يستطيع الإنسان أن يقول: «مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غلاطية 20:2). إذاً المسيح ضامن لعهد أفضل بحكم أنه سدَّد الدين القديم لأنه مات عن الإنسان الخاطئ، لأنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم. وفي الوقت نفسه يحيا في الإنسان ليمكنه أن يعيش الحياة التي تمجد الله، الحياة المقبولة منه.
يضمن في عهد النعمة:
والمسيح ضامن لعهد أفضل لأنه يُدخلنا في عهد النعمة وليس في عهد الشريعة، فتصبح علاقة الإنسان بالله علاقة ابن بأب، لا علاقة مجرم بقاض. وهذه العلاقة تُبنى على الحب وليس على الشريعة. فليس الله دياناً لإنسان فقط، ولكنه قبل ذلك أب يجب أن يجتمع بأولاده جميعاً حول مائدة محبته لتكمل السعادة في قلب الإنسان. ولقد جاءنا المسيح إنساناً، ومن رآه فقد رأى الآب، ليقول لنا إن الآب يحبنا ويهتم بأمورنا. وما عمله المسيح من معجزات يعبر عن اهتمامات الرب بنا، فقد أشبع الجائع، وشفى المريض وطيب خاطر الحزين، وصادق المكروبين والمكروهين والخطاة. وهكذا يضمن المسيح لنا أن الله يحبنا. وعهده معنا عهد محبة ونعمة.
المسيح ضامن لعهد أفضل إذ سدد ديننا، ويمكننا أن نعتمد عليه واثقين أنه يعتني بنا، لأنه أخذ على عاتقه عملية فدائنا وتغيير حياتنا وتأكيد حب الله لنا. والمسيح هو ضامن المؤمنين به، والذين يتبعونه، وسط عالم متغير – وهو يعطي الضمان والأمن والاطمئنان. إنه يضمن لنا أن الله يبقى أميناً لنا مهما كنا نحن غير أمناء – لأنه يقول لنا: «أنا أكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً».
مشاعرك قد تتغير، لكن المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد. في كل ظرف متغير متقلب ستبقى مطمئناً ثابتاً. إن كان المسيح يحيا فيك.
32- الحبيب
«هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت»
(متى 17:3)
ورد لقب «الحبيب» عن السيد المسيح في مناسبتين عظيمتين. المناسبة الأولى مناسبة معموديته. عندما طلب السيد المسيح من يوحنا المعمدان أن يعمده، فرفض يوحنا أن يقوم بذلك وقال له: «أنا محتاج أن أعتمد منك، وأنت تأتي إليَّ؟» فقال له المسيح: «اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر». فوافق يوحنا المعمدان أن يعمد السيد المسيح. ولما انتهت المعمودية صعد المسيح من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه، وصوت من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت». الله الآب من سماواته يعلن أن السيد المسيح هو الابن الحبيب الذي سُرَّ به. والقول هنا: «الابن الحبيب» ليس وصفاً للمسيح بقدر ما هو لقب له.
أما المناسبة الثانية التي أُطلق فيها لقب «الحبيب» على السيد المسيح فكانت وقت التجلي. عندما أخذ المسيح تلاميذه يعقوب وبطرس ويوحنا إلى جبل عال منفردين، حيث تغيرت هيئته أمامهم، وأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور. وجاء موسى وإيليا يتكلمان معه، وإذا سحابة نيرة ظللتهم، وصوت من السحابة يقول: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا». فلما سمع تلاميذ المسيح الثلاثة هذا الصوت سقطوا على وجوههم وخافوا جداً. فجاء المسيح ولمسهم وقال: «قوموا. لا تخافوا». وعندما رفعوا عيونهم لم يروا أحداً إلا يسوع وحده (متى 1:17-8).
لماذا الإعلان الثاني؟
كان التلاميذ قبل ذلك مباشرة قد رفضوا إعلان المسيح أنه سيُصلب، لأنهم كانوا يتوقعونه ملكاً أرضياً، يردُّ المُلك إلى إسرائيل، ويقيم مملكة داود الساقطة. وكان الصليب عقبة في سبيل تحقيق هذه المملكة. ولكن لأجل الصليب جاء المسيح. فقال الآب من سماواته: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا أيها التلاميذ».
وكان موضوع الحديث الذي دار بين موسى وإيليا والمسيح هو الصليب، الذي لأجله جاء المسيح إلى عالمنا. هذا إذاً هو الابن الحبيب الذي به سُرَّ قلب الله، فأيده بالروح القدس الذي حلَّ عليه، شهد الآب له أنه حبيبه، الذي به سُرَّت نفسه.
ويقول الرسول بطرس في ذلك: «لأننا لم نتبع خرافات مصنَّعة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه. بل قد كنا معاينين عظمته، لأنه أخذ من الله كرامة ومجداً، إذ أقبل عليه صوتٌ كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء، إذ كنا معه في الجبل المقدس» (2بطرس 16:1-18).
ولقد حكى السيد المسيح مثلاً عن الكرامين الأردياء الذين رفضوا أن يعطوا ثمر الكرم لصاحبه. ويقول المسيح: إنه كان لصاحب الكرم ابن واحد حبيب إليه، أرسله أيضاً إليهم قائلاً: «إنهم يهابون ابني» ولكن أولئك الكرامين قالوا: «هذا هو الوارث. هلموا نقتله فيكون لنا الميراث». فالمسيح هو الابن الواحد الوحيد (متى 33:21-44).
الفرق بين بنوية المسيح وبنويَّتنا:
وقد استخدمت الكنيسة هذا اللقب عن السيد المسيح للتفريق بينه وبين أولاد الله بالتبني. فالمسيح هو الابن الأصيل من قبل كل الدهور. واحد مع الآب، إله من إله، نور من نور. والله قد اختارنا في المسيح بيسوع المسيح لنفسه «حسب مسرة مشيئته، لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب» (أفسس 4:1-6). فالمؤمنون بالمسيح أ،عم الله عليهم بالتبني في المحبوب يسوع، أما المسيح فهو الابن الوحيد الحبيب.
المرضيُّ عنه:
وهذا اللقب يعني أنه المرضيُّ عنه تماماً. كل الأنبياء وبَّخهم الله على خطئهم وأدَّبهم وقومهم أفضل تقويم، لأنه أرادهم أن يحققوا قصده. أما السيد المسيح فهو الذي لم يخطئ أبداً. ولم يكن محتاجاً أن يعتذر أو يستغفر لخطأ ارتكبه، فهو الابن الحبيب الذي حاز الرضا الإلهي الكامل.
والحبيب المرضي عنه هو الذي يستوجب الشكر، فإننا كلما ذكرنا صفاته أو أعماله امتلأت نفوسنا بالشكر والإعجاب والرضا، لأنه لم يقل شيئاً ليس في محله. في تعليمه لم يقل شيئاً غيَّره في يوم بعد ذلك. وفي إجابته لأسئلة المستمعين المعارضين أو الأصدقاء لم يستمهلهم مرة حتى يفكر في جواب مناسب. لكنه دوماً حاز الرضا وأعلن مشيئة الآب لأنه كلمة الله.
ولا عجب أن يجوز المسيح لقب الوحيد لأنه بلا نظير في هذا. غيره من الأنبياء قالوا: «هكذا قال الرب». وكانت هذه الكلمة البرهان على صدق نبوتهم وإرساليتهم. أما المسيح فكان يقول: «الحق الحق أقول لكم» لأنه الابن الحبيب الذي نرضى ونسعد بكل كلمة يقولها، لأنها صادقة وحقيقية ونهائية. ونحن هنا نتذكر ما قاله الله لإبراهيم عندما طلب منه أن يقدم ابنه وحيده الذي يحبه محرقة على أحد الجبال. ثم افتداه الله بذبح عظيم. ونتذكر أن هذا إشارة للسيد المسيح حمل الله الذي بلا خطية، الذي قدَّم نفسه عنا على الصليب كفارة وذبيحة خطية، فافتدانا نحن بذبح عظيم. لا بذبح سواه، بل بذبيحة نفسه. فهو الابن الحبيب الذي أحبنا وقدم نفسه عنا كفارة وذبيحة قرباناً لله رائحة طيبة. و«هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد». وهو بهذا يقول لنا: عندما أعطيكم الابن الحبيب الوحيد، أعطيكم كل ما عندي، لأني أريدكم أن تعيشوا لي، وأن تقدموا نفوسكم ذبيحة حية مقدسة مرضية لي.
دعنا نشكر الابن الحبيب الذي يريد أن يُنعم علينا بالتبني ويجعل منا أبناء أحباء لله.
33- ابن داود
«كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن
داود ابن إبراهيم» (متى 1:1)
أجمعت النبوات على أن المُلك سيبقى في بيت داود إلى الأبد، فعندما عزم نبي الله داود أن يبني هيكلاً للرب، أرسل إليه الرب على فم نبيه ناثان يقول له: «كرسيك يكون ثابتاً إلى الأبد» (2صموئيل 16:7). ونقرأ في المزمور التاسع والثمانين: «حلفت لداود عبدي: إلى الدهر أثبِّت نسلك، وأبني إلى دور فدور كرسيك» ويروي لنا الإنجيل كما رواه القديس يوحنا أنه في اليوم الأخير العظيم من عيد المظال وقف يسوع ونادى: «إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من جوفه أنهار ماء حي» (يوحنا 38:7). فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا: “هذا بالحقيقة هو النبي” آخرون قالوا: “هذا هو المسيح”. وآخرون قالوا: «ألعل المسيح من الجليل يأتي؟ ألم يقل الكتاب إنه من نسل داود، ومن بيت لحم – القرية التي كان داود فيها – يأتي المسيح؟». ويُستدل من هذه الكلمات أن الشعب كان يدرك من نبوات العهد القديم أن السيد المسيح سيأتي من نسل داود، ومن بيت لحم القرية التي كان داود فيها. وقد حدث مرة أن أحضروا للسيد المسيح مجنوناً أعمى وأخرس، فشفاه السيد المسيح، حتى أن الأعمى الأخرس تكلم وأبصر. فاندهش الناس جميعاً وأخذوا يتساءلون: «ألعل هذا هو ابن داود؟» (متى 23:12). ويخبرنا الإنجيل المقدس أن أعميين أقبلا إلى السيد المسيح يناديان: «ارحمنا يا ابن داود». فاستقبلهما السيد المسيح وسألهما: «أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟» قالا له: «نعم يا سيد». حينئذ لمس أعينهما قائلاً: «بحسب إيمانكما ليكن لكما». فانفتحت أعينهما، فخرجا وأشاعا الخبر في تلك البلاد كلها. نعم المسيح ابن داود، وقد أطلق الناس عليه هذا اللقب لما رأوا قوته، فأدركوا أن تلك المعجزات التي يجريها تعني أنه المخلص الآتي الذي تحدثت عنه نبوات التوراة، معلنة أنه سيجيء معجزات كثيرة، ويخلص كثيرين من آلامهم ومن خطاياهم.
داود يدعوه رباً:
واجه المسيح مقاومة كبيرة من رجال الدين من طائفتي الفريسيين والصدوقيين. فقد اجتمعوا معاً، فوجه إليهم السيد المسيح هذا السؤال: «ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟» أجابوه: «ابن داود» فسألهم: «كيف يدعوه داود بالروح رباً، قائلاً: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فإن كان داود يدعوه رباً، فكيف يكون ابنه؟» فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يوجه للسيد المسيح سؤالاً (متى 41:22-46).
أما السؤال الذي وجهه السيد المسيح لسامعيه فقد اقتبسه من كلمات المزمور المئة والعاشر، وهو مزمور كتبه نبي الله داود بوحي الروح القدس، وبدأه بالقول: «قال الرب اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك». وكان اليهود يعتقدون أن هذا المزمور نبوة عن مجيء المسيح، الذي يقول له الله في سماواته: «اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك». ولقد قصد السيد المسيح أن يبين لليهود أنه بالرغم من أن السيد المسيح ابن داود حسب الجسد، لأنه جاء من نسله، إلا أنه أعظم من داود. ولا غرابة، فإن السيد المسيح موجود من قبل داود. هو الذي كان عند الله، من قبل أن يجيء إلى أرضنا. لذلك نقول في قوانين الإيمان المسيحية إن السيد المسيح مولود غير مخلوق، ومساوٍ للآب في الجوهر، حتى أن الآب يقول له: «اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك» إن داود يدعو ابنه «رباً» وهذا يعني أن السيد المسيح يعلو على آمال شعبه جميعاً. إنه الرب. إنه ليس ابن داود الذي سيأتي ليقيم مملكة داود التي سقطت، ولكنه أيضاً سيد داود. ولقد تحدث رسول المسيحية بطرس في يوم الخمسين قائلاً لليهود: «أيها الإخوة، دعوني أقول لكم صراحة، إن أبانا داود مات ودُفن، وقبره ما زال عندنا حتى اليوم، لأن داود كان نبياً وعارفاً أن الله أقسم له يميناً بأن يجيء المسيح من نسله ويجلس على عرشه. فقد تكلم داود عن قيامة المسيح كما رآها مسبقاً فقال: إن نفسه لم تترك في هُوُّة الأموات، وإن جسده لم ينل منه الفساد. فيسوع هذا أقامه الله من الموت ونحن جميعاً شهود لذلك. فإن داود لم يرتفع بجسده إلى السماء، ثم إنه هو نفسه يقول: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك. فليعلم يقيناً بنو إسرائيل أن الله قد جعل يسوع هذا، الذي صلبتموه أنتم، رباً ومسيحاً» (أعمال 29:2-36) (ترجمة كتاب الحياة).
ويتحدث رسول المسيحية بولس عن الإنجيل فيقول: «هذا الإنجيل الذي وعد الله به من قبل على ألسنة أنبيائه في الكتب المقدسة، يختصُّ بابنه، الذي جاء من نسل داود من الناحية البشرية، ومن ناحية روح القداسة تبيَّن بقوة أنه ابن الله، بالقيامة من بين الأموات. إنه يسوع المسيح ربنا، الذي به ولأجل اسمه نلنا نعمة» (رومية 1:1-5) (ترجمة كتاب الحياة).
كائن من قبل داود:
السيد المسيح هو رب داود الموجود من قبل داود. ولذلك نقول في قوانين الإيمان المسيحية إن السيد المسيح مولود غير مخلوق، ولكنه قبل أن يجيء أرضنا، وأن يصير واحداً منا، حتى أن رسول المسيحية بولس يقول: «وبالإجماع: عظيم هو سرُّ التقوى: الله ظهر في الجسد». ومن كون أن السيد المسيح ابن داود، وهو في نفس الوقت ربه، نرى أن المسيح هو الله الذي جاءنا إنساناً. هو الرب الذي أخذ جسماً كجسمنا، حتى أن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يقول: «بما أن هؤلاء الأولاد متشاركون في أجسام بشرية من لحم ودم، اشترك المسيح أيضاً في اللحم والدم باتخاذه جسماً بشرياً. وهكذا تمكن أن يموت ليقضي على من له سلطان الموت – أي إبليس – ويحرر من كل الخوف من الموت يستعبدهم طوال حياتهم. كانت غاية المسيح أن ينقذ لا الملائكة بل نسل إبراهيم. ولذلك كان لا بد أن يشبه أخوته من جميع النواحي، ليكون هو الكاهن الأعلى الرحيم والأمين، الذي يقوم بعمله أمام الله نيابة عن الشعب، فيكفر عن خطاياهم. وبما أنه هو نفسه قد تألم وتعرض للتجارب، فهو قادر أن يعين الذين يتعرضون للتجارب. لذلك ينبهنا الروح القدس قائلاً: اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم. فعليكم أيها الإخوة أن تأخذوا حذركم جيداً، حتى لا يكون قلب أي واحد منكم شريراً، لا إيمان فيه، مما يؤدي إلى الارتداد عن الله الحي. وإنما شجعوا بعضكم بعضاً كل يوم، ما دمنا نقول اليوم، وذلك لكي لا تقسي الخطيئة قلب أحد منكم بخداعها. فما زال التحذير موجهاً إلينا: اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم» (عبرانيين 14:2-18 و7:3 و12-15) (ترجمة كتاب الحياة).
ابن داود، ابن الله:
الإنجيل يختصُّ بابن الله الذي جاء من نسل داود، من الناحية البشرية، ومن ناحية روح القداسة تبيَّن بقوة أنه ابن الله بالقيامة من الأموات. إنه يسوع المسيح ربنا، الذي به ولأجل اسمه نلنا نعمة. لقد صار المسيح إنساناً، واحداً منا، ودخل التاريخ ونطاق الزمن، ليستطيع أن يخلصنا نم خطايانا. وعندما جاء متواضعاً، لكي يستطيع كل إنسان أن يجد الطريق إليه، وهو لا يرفض أحداً يمثُل أمامه. وفعلاً عند المزود الذي وُلد فيه السيد المسيح رأينا الرعاة البسطاء يسجدون له، كما رأينا المجوس الحكماء الذين جاءوا بالهدايا الثمينة يقدمون له التعبُّد. بل إننا نرى في سلسلة النسب التي جاء المسيح منها إبراهيم خليل الله. وداود إمام المرنمين، كما نرى نسوة بسطاء وأشخاصاً خطاة، لأن المسيح ابن الإنسان ينتمي للبشرية كلها، ويستطيع أي إنسان منا أن يعلن انتماءه إليه، فيجد أنه مقبول. ومع ذلك فإن المسيح ابن داود، ملك، وقد جاء ليملك على كرسي داود إلى الأبد، حتى أن نبوة إشعياء التي جاءت قبل ميلاد المسيح بسبعمئة سنة أعلنت أنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه، لنمو رياسته، وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها من الآن وإلى الأبد.
إن السيد المسيح الذي يمدُّ يده إليك ليخلصك، يجب أن يملك قلبك وحياتك، لأنه الملك الذي تجسَّد ليخلصك من خطيتك. أدعوك لأن تتعرف على المسيح – ابن داود – ورب داود، الذي دعاه داود بالوحي الإلهي أنه ربه، مع أنه سيجيء من نسله.
34- الآتي
«أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم»
(يوحنا 27:11)
كان اليهود يتطلعون إلى مجيء المسيح إلى عالمنا. ويتضح هذا من قصة إقامة لعازر من بين الأموات. فعندما مات لعازر ذهب المسيح إلى بيت عنيا ليقيمه من بين الأموات، وقال لمرثا أخت الميت: «سيقوم أخوك» فقالت له: «أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة، في اليوم الأخير». فأجابها: «أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد. أتؤمنين بهذا؟» فأجابت: «نعم يا سيد. أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم». نعم جاء هذا الذي انتظرته الأجيال!
وعندما كان يوحنا المعمدان مسجوناً، لأن الملك هيرودس غضب عليه، وطالت فترة سجنه، أرسل بعض تلاميذه للمسيح يسألونه: «أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟» (متى 3:11). وكان يوحنا المعمدان قد سبق وأعلن أن هذا هو المسيح المنتظر مجيئه إلى عالمنا ، والذي تنبأ عنه أنبياء التوراة وقال لمستمعيه: «أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار». وشهد عن المسيح قائلاً: «إن الذي يأتي بعدي صار قدامي، لأنه كان قبلي. هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي، الذي لست بمستحق أن أحلََّ سيور حذائه» (يوحنا 15:1-28).
وعندما دخل المسيح مدينة أورشليم هتفت الجماهير له قائلة: «مبارك الآتي باسم الرب». وقال بولس للمؤمنين في أفسس، الذين قبلوا رسالة يوحنا المعمدان: «إن يوحنا عمَّد بمعمودية التوبة قائلاً للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده (أي بالمسيح يسوع). فلما سمع أهل أفسس ذلك اعتمدوا باسم الرب يسوع المسيح. ووضع بولس الرسول يديه عليهم فحلَّ الروح القدس عليهم» (أعمال 4:19-6).
مجيء إيليا:
وقد كان اليهود يتوقعون مجيء النبي إيليا قبل مجيء السيد المسيح، حسب قول النبي ملاخي: «هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب، اليوم العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء، وقلب الأبناء على آبائهم، لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن». وقد قال السيد المسيح: إن إيليا قد جاء في شخص يوحنا المعمدان، لأن يوحنا جاء بروح إيليا. ويقول الإنجيل إن المسيح قال للجموع عن يوحنا المعمدان: «ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبياً؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي. فإن هذا هو الذي كُتب عنه: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك. الحق أقول لكم: لم يُقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان» (متى 9:11-11).
الآتي هو المخلِّص:
أطلق أنبياء العهد القديم هذا اللقب على المسيح باعتباره المخلص المنتظر. وقد جاء المسيح إلى عالمنا مولوداً من العذراء القديسة مريم بقوة الروح القدس، وأجرى المعجزات، وبيَّن لنا محبة الله، إذ قدم نفسه على الصليب من أجل خطايانا، وقام من بين الأموات ظافراً منتصراً.
على أننا الآن نتوقع أن يجيء المسيح إلى أرضنا ثانية. وهذا ما نسميه بمجيء المسيح ثانية إلى أرضنا. لقد أتى وسيأتي.
فيقول في الأصحاح الأول من سفر الرؤيا عنه: «هوذا يأتي مع السحاب، وستنظره كل عين والذين طعنوه، وتنوح عليه جميع قبائل الأرض. نعم . آمين» (آية 7). ويقول المسيح: «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية. يقول الرب الكائن والذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء» (آية 8). له تهتف جميع الخلائق: «قدوس، قدوس، قدوس الرب الإله القادر على كل شيء، الذي كان والكائن الذي يأتي» (رؤيا 8:4).
سيأتي ثانية:
ونحن نحيا الآن في انتظار مجيء المسيح إلى أرضنا ثانية. وسيكون ذلك بحالة غير الحالة التي جاء بها في مجيئه الأول. في مجيئه الأول جاءنا وليداً في مذود حقير. أما في مجيئه الثاني فسيأتي على حساب المجد. في مجيئه الأول جاء وديعاً فلم يره إلا بعض رعاة الأغنام في فلسطين في سكون الليل. لكن في مجيئه ثانية سوف تراه كل عين. في مجيئه الأول أعدَّ الطريق له صوت صارخ في البرية، هو صوت يوحنا المعمدان، أما في مجيئه الثاني فسوف تبوق له الملائكة، فتقوم الأرض وتضطرب. في مجيئه الأول حاكموه وصلبوه، أما في مجيئه الثاني فسيدين ويحكم. في مجيئه الأول سفك دمه من أجلنا، وفي مجيئه ثانية سيطالب بحق دمه الكريم. وكما كان مجيئه الأول بالجسد، هكذا سيكون مجيئه الثاني بالجسد منظوراُ من الجميع، كما قال الملاكان للرسل وقت صعوده إلى السماء: «ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه» (أعمال 11:1). وكل الذين يحبون المسيح يقولون له: «آمين تعال أيها الرب يسوع». وكما كان المحبون ينتظرون مجيئه الأول إلى أرضنا، وكانوا يترقبونه حتى أطلقوا عليهم لقب «جماعة المنتظرين» هكذا سينتظره محبّوه. ليتك تكون من جماعة المنتظرين، الذين يترجون ويتوقعون مجيئه الثاني. ويقول الأصحاح الأخير من سفر الرؤيا: «أنا يسوع أرسلت ملاكي لأشهد لكم بهذه الأمور عن الكنائس. أننا أصل وذرية داود، كوكب الصبح المنير. الروح والعروس يقولان تعال. ومن يسمع فليقل تعال. ومن يعطش فليأت. ومن يرد فليأخذ ماء حياة مجاناً. يقول الشاهد بهذا نعم أنا آتي سريعاً. أمين تعالَ أيها الرب يسوع. نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم» (رؤيا 16:22، 17، 20، 21).
إن كنت قد قبلت المسيح في قلبك مخلصاً لك، فستتشوق إلى مجيئه ثانية ليعطيك مجده. وفي ساعة لا نعلمها يجيء المسيح ويقول لنا: «اسهروا وصلوا، لأنكم لا تعلمون متى يكون الوقت (وقت هذا المجيء الثاني). وما أقوله لكم، أقوله للجميع: اسهروا» (مرقس 33:13، 37). فدعنا نسهر لابسين ثياب الخلاص.
35- كوكب الصبح المنير
«أنا كوكب الصبح المنير» (رؤيا 16:22)
نقرأ هذا اللقب الرائع الجميل للمسيح في الأصحاح الأخير من سفر الرؤيا. يقول: «أنا يسوع أرسلت ملاكي لأشهد لكم بهذه الأمور عن الكنائس. أنا أصل وذرية داود. كوكب الصبح المنير. لقد أُطلق هذا اللقب على المسيح باعتباره المخلِّص الآتي إلى العالم، فقد قال بلعام بن بعور: «وحي الرجل المفتوح العينين. وحي الذي يسمع أقوال الله ويعرف معرفة العلي الذي يرى رؤيا القدير ساقطاً وهو مكشوف العينين. أراه و لكن ليس الآن. أبصره ولكن ليس قريباً يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل فيحطم طرفي موآب ويهلك كل بني الوغى» (سفر العدد 15:24-17).
لقد رأى بلعام كوكباً يبرز من يعقوب، هو المسيح الآتي، المخلص الذي من نسل يعقوب أبي الأسباط. وها نحن اليوم أيها القارئ الكريم نتوقع مجيء المسيح كوكب الصبح المنير.
عندما جاء المسيح في مجيئه الأول رتلت له الملائكة: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة» (لوقا 14:2). وعند مجيئه ثانية سيهتف لك بوق الله معلناً لأرضنا أن المسيح كوكب الصبح المنير قادم إلينا. كوكب الصبح المنير هذا ظهر له نجم خاص عند ميلاده، فيقول الإنجيل لنا: «ولما وُلد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له» (متى 1:2، 2). واختفى النجم عندما ذهبوا إلى قصر الملك هيرودس. ولكن ما أن خرجوا من القصر حتى رأوا النجم، ففرحوا فرحاً عظيماً جداً، وقادهم ذلك النجم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي يسوع في مذوده.
أكثر الكواكب إشراقاً:
كوكب الصبح المنير هو أكثر إشراقاً ولمعاناً، ولذلك هو يرمز إلى المسيح، ألمع من جاء إلى أرضنا، الكامل وحده، أعظم المعلمين، الذي يقول عنه الإنجيل المقدس: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد» (1تيموثاوس 16:3). هذا هو الابن الوحيد الذي لا نظير له. لم يدخل أرضنا أحد كما دخل المسيح. ولم يُجْرِ أحدٌ على أرضنا معجزات كما أجرى المسيح. بيَّن محبته للناس كما لم يحب أحد قط، وغفر كما لم يغفره غيره، وقدم لنا النموذج الأسمى في كل شيء. وأطلق على نفسه لقب «ابن الإنسان» بمعنى أنه الإنسان النموذجي الكامل. كل مولود امرأة يجد الشيطان فيه موضعاً، إلا المسيح الكامل وحده. غيره من النجوم يذبل ويذوي، وكل معلم أو قائد تقارنه بالمسيح لا يمكن أن يقف معه على ذات المستوى. إنه كوكب الصبح المنير، أشد الكواكب لمعاناً، فهو القائل: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة» (يوحنا 12:8).
النور الذي يبدد الظلام:
وعندما يشرق كوكب الصبح المنير يعلن لنا أن النور الكامل قادم، وأن ظلام الليل سينتهي. وسرعان ما يشرق نور الصباح بكل مجده العظيم. وهذا ما يفعله المسيح معنا. فإنه عندما يظهر في حياتنا تنقشع الظلمات ويشرق النور العظيم.
إن أشرق المسيح كوكب الصبح المنير عليك، فسوف يبدد ظلمات خطيتك، لأنه يتوِّبك ويمنحك الحياة الجديدة. لعلك تذكر كيف التقى بجامع الضرائب زكا، الذي كان يظلم الناس، ويأخذ ما ليس من حقه، فغيَّر حياته تغييراً كاملاً. فإذا بالرجل يقول: إني أرد أربعة أضعاف كل ما سلبت، وأعطي نصف أموالي للمساكين. فقال المسيح: «اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضاً ابن إبراهيم» (لوقا 1:19-9).
وعندما التقى بالمرأة السامرية الزانية، خلصها وغيَّر حياتها، وجعلها كارزة بالتوبة والحياة الأبدية. وعندما تواجهك الحياة بصعوباتها وتجيء إلى المسيح كوكب الصبح المنير، فإنه يجلو الظلمات، ويعطيك الراحة والسلام فقد وعد: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (متى 28:11).
هل تذكر كيف كان تلاميذه معذبين في البحر من عاصفة أقوى منهم، ولكنه جاء لينتهر العاصفة وليُسكت الرياح وليعيد السلام إليهم؟ هذا ما يفعله المسيح كوكب الصبح المنير معك. لأنه يوقف ظلمة العاصفة ويمنحك سلامه الكامل الذي يفوق كل عقل. وما أجمل ما يجري معك عندما يجيئك وقت الخوف ويقول لك: «سلامي أترك لك، سلامي أعطيك. ليس كما يعطي العالم أعطيك أنا” (يوحنا 27:14). عندها تنشد ترنيمة داود النبي: «باركي يا نفسي الرب وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته. الذي يغفر جميع ذنوبك، الذي يشفي كل أمراضك. الذي يفدي من الحفرة حياتك الذي يكللك بالرحمة والرافة. الذي يُشبع بالخير عمرك، فيتجدد مثل النسر شبابك» (مزمور 1:103-5).
المسيح هو كوكب الصبح المنير. عندما يُشرق نوره عليك يبدد ظلمات حياتك، ويغمرك بالنور الكامل نور الصباح. هيا آمن به والتصق به واتبعه وقدم له حبك وقربان حياتك.
36- عادل
«هوذا ملكك يأتي إليك. هو
عادل ومنصور ووديع» (زكريا 9:9)
نقرأ في نبوة النبي زكريا: «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم، هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور، وديع وراكب على حمار». ولقد تحققت هذه النبوة عندما دخل السيد المسيح مدينة أورشليم الدخول الانتصاري يوم الأحد المعروف بيوم أحد الشعانين أو أحد السعف، تحيطه الجماهير التي تهتف له «أوصنا» أي يا رب خلصنا. في هذه النبوة نجد ثلاثة ألقاب للسيد المسيح: لقب العادل، ولقب المنصور، ولقب الوديع. ونتأمل هنا لقب العادل.
لم تتحقق نبوة زكريا هذه في أي ملك من ملوك بني إسرائيل. إذاً هي نبوة عن المسيح الآتي، العادل.
يعطي كل صاحب حق حقه:
يقول لنا رسول المسيحية يوحنا: «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم» (1يوحنا 9:1). وفي هاتين الآيتين نستطيع أن نرى المسيح العادل في غفران خطيتنا. وتتَّضح عدالته في أنه يوفي مطالب الشريعة التي تقول: «أجرة الخطية هي موت». فكان لا بد أن كل إنسان يخطئ يموت – ولكن لما كان الله محبة، فإنه يريد أن ينقذنا من موتنا، لأنه لا يشاء أن يهلك أحد، بل أن يُقبِل الجميع إلى التوبة. فالله يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون.
لكن الإنسان ساقط ميت في ذنوبه وخطاياه، ولا يمكن أن يُقبل إلى الحق، ولا يمكن أن ينجو من الموت. وقد أكمل المسيح مطالب العدالة الإلهية عندما أخذ مكان الخاطئ، ومات بدلاً عنه. وهو الذي لم يخطئ أبداً. وفي صليب كفارته وجد للإنسان الشرير الساقط الحياة، كما وجد له الفداء الأبدي، لأنه دفع دينه بدلاً عنه. ويقول نبي الله إشعياء: «كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع ليه إثم جميعنا» (6:53). وهكذا تبررنا نحن وانطلقنا أحراراً، لأن المسيح دفع ديننا على الصليب. هذا إذاً هو المسيح العادل الذي وفَّى مطالب الشريعة ومنحنا حرية مجد أولاد الله.
العادل في دينونته:
تظهر عدالته في أنه يعطي كل صاحب حق حقَّه. فلا بد أننا سوف نقف أمام كرسي المسيح – كما يقول الإنجيل – ليعطي كلُّ واحد منا حساباً عما فعل، خيراً كان أم شراً. فإنه سيمتحن عمل المؤمنين الثابتين فيه بالنار. وكل عمل يبقى، ينال صاحبه أجراً، أما كل عمل فارغ فلا بد أن يحترق (1كورنثوس 12:3-15).
ويذكر الإنجيل المقدس أن المسيح عندما دخل أورشليم دخوله الانتصاري، رأى المسيح شجرة تين من بعيد، عليها ورق فقط. وكان جائعاً. فلما اقترب من الشجرة ليقتطف من ثمرها لم يجد فيها ثمراً إلا ورقاً، فقال المسيح للشجرة: «لا يأكل منك أحد ثمراً بعد إلى الأبد». فيبست التينة التي لعنها المسيح في الحال. لقد كانت التينة خضراء الأوراق، مما يُنبئ أنها تحمل ثمراً كثيراً. كان للتينة منظر الإثمار، لكن حقيقة الأمر أنها كانت خالية منه. ولذلك أصدر المسيح حكمه ضدها ولعنها. فهو العادل الذي يعطي كل صاحب حق حقه. وهذه التينة الخضراء غير المثمرة ترمز إلى كل واحد من الذين يتظاهرون بالدين من المنافقين المرائين، ولكنهم في واقع حياتهم لا يقدمون ثمراً صالحاً. لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها (مرقس 11:11-14).
وعندما دخل المسيح مدينة أورشليم ذهب إلى الهيكل فوجد بيت الله قد تحوَّل إلى بيت تجارة، فابتدأ يطرد الذين يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، الذين كانوا يبيعونه للتقدمات والقرابين في الهيكل. ولم يسمح المسيح لأحد أن يجتاز الهيكل وهو يحمل متاعاً، وكان يعلم الناس قائلاً: «أليس مكتوباً: بيتي بيت الصلاة يُدعى لجميع الأمم، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص؟». لقد واجه المسيح الذين دنَّسوا الهيكل وجعلوا مصلحتهم المالية فوق مصلحة العابدين، فوبَّخهم توبيخاً شديداً وطردهم لأنه العادل الذي لا بد أن يصدر حكم دينونته على كل الخطاة (مرقس 15:11-17).
وقصة تطهير الهيكل ترمز إلى تطهير المسيح لهيكل أجسادنا، فإن كل مؤمن يسكنه الروح القدس، فيصبح هيكلاً حياً لله. وعلينا أن نحرص بكل قوة فينا أن يكون هيكل الله داخلنا مقدساً ليُرضي الله. فإذا كان هيكلك مقدساً باركك الله وأنعم عليك. أما إن كان هيكل جسدك قد تنجس بخطيتك فإن المسيح العادل يوقع عليك العقوبة. لأنه عادل.
وأدعوك أن تتمتع بعدالة المسيح الذي يراقب عملك ويحاسبك عليه، حتى إن وقفت أمام عرشه تقدم حساباً بفرح عما فعلت، وتسمع منه قوله: «نعما أيها العبد الصالح والأمين. كنت أميناً في القليل أقيمك على الكثير. أدخل إلى فرح سيدك» (متى 21:25).
37- منصور
«هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل
ومنصور ووديع» (زكريا 9:9).
جاء المسيح إلى أورشليم عادلاً – وجاء منصوراً. أول ما نرى انتصار السيد المسيح نراه في إكماله خلاصنا. فعندما جاء المسيح أرضنا جرَّبه إبليس ليُبعده عن الهدف الذي من أجله جاء، ولكن المسيح نحَّى تجارب إبليس جانباً، و«ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ» حيث صُلب (لوقا 9: 51). وفي بستان جثسيماني صلَّى المسيح: «إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس». ثم مضى يقول: «ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت» (مت 39:26). وهكذا ثبت بصره على صليبه الذي من أجله جاء إلى أرضنا. إن الذين لا يحبون للمسيح أن يُصلب يشتركون مع رسول المسيحية بطرس، الذي ما أن عرف أن المسيح قد جاء ليُصلب حتى صرخ قائلاً: «حاشا لك يا رب» فقال له المسيح: «اذهب عني يا شيطان، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس» ودعا المسيح تلاميذه وقال لهم: «من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه. أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟» (مرقس 34:8-37).
انتصر على القبر:
انتصر المسيح إذاً على كل تجربة حاولت أن تُبعده عن الهدف الذي من أجله جاء إلى العالم، وهو أنم يُقدم نفسه عنا ذبيحة لله على الصليب. وانتصر المسيح عندما قام من القبر ظافراً، منتصراً على الموت. ويقول الإنجيل عنه: «أبطل الموت وأنار الحياة والخلود» (2تيموثاوس 10:1). نعم أبطل المسيح الموت عندما هزمه. كل قبر مليء بالعظام، إلا قبر السيد المسيح الذي خلا من جسده، لأنه المسيح الحي الذي أبطل الموت. وعندما وصل إلى الجانب الآخر أراق ضوءاً على الموت، وأظهر لنا أنه ليس نهايتنا، فالمجد دائماً يتبع الموت. وبعد الصليب القيامة، وبعد كل آلام نجوزها يجيء الانتصار الذي يمنحه الله لنا. كما يقول المرنم «عند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح ترنُّم» (مزمور 5:30).
ينصرنا على التجارب:
عاش المسيح الحياة الخالية من الخطأ. هو الذي انتصر على الموت بقيامته. وعندما نتَّحد به ونحيا معه، ينصرنا على كل عادة سيئة، لأنه المخلص الذي ينقذنا من خطيتنا. ويقول الإنجيل عنه: «يقدر أن يخلص إلى التمام كل الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم. وليس بأحد غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطى بين الناس به ينبغي أن نخلص» (أعمال 12:4)
كم نقرأ في الإنجيل من قصص أشخاص تابوا ورجعوا عن عادتهم السيئة، لأن المسيح لمس حياتهم وانتصر فيهم.
لعلك تذكر قصة المرأة الخاطئة التي أُمسكت في زنا، وقد أمسك الناس بالحجارة ليرجموها، فقال لهم المسيح: «من كان منكم بلا خطية فليرجمها أولاً بحجر». ثم جعل يكتب خطايا الواقفين على الأرض، فبكَّتتهم ضمائرهم، وابتعدوا واحداً وراء الآخر، وبقى المسيح وحده والمرأة واقفة. فقال لها: «يا امرأة أما دانك أحد؟» فأجابت: «لا أحد يا سيد». فقال لها المسيح: «ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضاً» فجعل من هذه الخاطئة قديسة في حياة جديدة (يوحنا 1:8-11).
ينصرنا على المتاعب:
والمسيح ينتصر فينا وبنا عندما يخرجنا من المآزق، فعندما تواجه مشكلة ترفع صلاة للسيد المسيح، فإنه يستجيب لك ويخرجك من المأزق. نقرأ في سفر أعمال الرسل في الأصحاح الثاني عشر أن الملك الشرير هيرودس أراد أن يسيء إلى الكنيسة، فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف، وعاد يُلقي القبض على بطرس لكي يسلمه بعد العيد للقتل. فجعلت الكنيسة تصلي إلى الله بلجاجة من أجل بطرس السجين. وفي الليلة الأخيرة التي نوى هيرودس أن يقتل بطرس بعدها، أرسل الله ملاكه إلى السجن فامتلأ السجن بالنور. وأيقظ الملاك بطرس وقال له: «قم عاجلاً» فسقطت السلسلتان من يده. وقال له الملاك: «تمنطق والبس نعليك» ففعل بطرس هكذا. ثم قال الملاك له: «البس رداءك واتبعني» فخرج بطرس وتبعه، وهو لا يعلم أن الذي جرى بواسطة الملاك أمر حقيقي، بل يظن أنه ينظر رؤيا. وعندما وصلا إلى باب الحديد الكبير انفتح الباب من ذاته، وخرج بطرس ليذهب إلى المؤمنين ليقول لهم إن الله قد أخرجه من مأزق، لم يكن هناك أمل في خروجه منه، وإنه نصره على هيرودس الشرير.
ولا زال المسيح إلى يومنا هذا يخلص الذين يطلبونه، فقد قال لنا في الموعظة على الجبل: «اسألوا تُعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم. لأن كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له. فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه» (متى 7:7-11).
38- وديع
«هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل
ومنصور ووديع» (زكريا 9:9)
«لأني وديع ومتواضع القلب» (متى 29:11)
ما أعظم وداعة السيد المسيح، فقد قال لنا: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم، لأن نيري هين وحملي خفيف».
وديع غسل أرجل تلاميذه:
ما أجمل المسيح الوديع! وأود أن أذكر ثلاث حوادث من حياته تكشف لنا وداعته.
الحادثة الأولى عندما غسل أرجل تلاميذه. فبعد سفر يوم شديد الحرارة دخل مع تلاميذه إلى عليَّة ليحتفل معهم بتناول وليمة عشاء الفصح. ولما كان الجو حاراً والطرق متربة، فقد كان لا بد أن يغسل المجتمعون أرجلهم قبل أن يتكئوا ليأكلوا. ولم يكن هناك خادم ليغسل أرجل التلاميذ والمسيح. وتردد التلاميذ كلهم في من يقوم ليغسل أرجلهم. كان كل واحد منهم يظن نفسه أهمَّ من الجميع، ولم يشأ واحد أن يقوم ليغسل أرجل زملائه. وانتظر المسيح حتى يفكر واحد من التلاميذ في أن يقوم بهذه الخدمة فلم يقُم أحد. فقام المسيح عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة اتزر بها، ثم صبَّ ماءً في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ، ويمسحها بالمنشفة التي كان متزراً بها. ويقول الرسول يوحنا إن سبب قيام المسيح بهذا العمل الوضيع هو أن «يسوع وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم أحبهم إلى المنتهى. يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه، وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي، قام عن العشاء وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة» (يوحنا 1:13-5). كان المسيح قد أحب تلاميذه محبة رائعة، محبة إلى المنتهى، إلى منتهى العطاء. وكان يعلم من هو. كان يعلم أن الله قد دفع كل شيء إلى يديه، وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي. فلم يكن قيامه ليغسل أرجل التلاميذ يقلل قيمته. بالعكس، إنه يعلم مقامه ومكانته. عادة يقوم الشخص المهم بأداء الوظائف البسيطة، لأنه يثق في نفسه، أما الشخص البسيط فإنه يخشى أن يقوم بمهمة بسيطة لئلا يتدنى مركزه. إن صاحب المركز الدنيء يخاف، لكن صاحب المركز العالي مطمئن. والمسيح وهو يعلم من هو غسل أرجل تلاميذه.
وديع بكى على الخطاة:
وعندما دخل السيد المسيح مدينة أورشليم دخوله الانتصاري نرى وداعته، لأن الإنجيل يقول: «و فيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلاً: إنك لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك ولكن الآن قد أخفي عن عينيك. فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويُحدقون بك، ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر، لأنك لم تعرفي زمان افتقادك» (لوقا 41:19-44).
هذه المدينة الظالمة التي حكمت على السيد المسيح بالموت والصلب، بالرغم من كل المعجزات التي أجراها بها، إلا أنه اعتبرها محل اهتمامه فبكى عليها. المسيح الوديع يبكي على المدينة التي لا تعرف ما هو لسلامها، والتي لا تميز الوقت الذي يزورها الله فيه ليصلح من أمرها وليتوِّبها. لكن ما أعظم وداعة المسيح وهو يبكي على المدينة التي لا تعرف ما هو لسلامها، والتي لا تميز الوقت الذي يزورها الله فيه ليصلح من أمرها وليتوبها.
إن الله يحبك ويريد أن يتوبك. ربما تبتعد عنه. ربما كلما مدَّ إليك يد محبته ابتعدت أكثر، لكنه في حبه الكامل يفتش عليك، ويريد أن يتوبك ويغير حياتك. المسيح الوديع هو الراعي الصالح الذي جاء ليطلب ويخلّص ما قد هلك.
وديع يشفي أذن ملخس:
ولقد ظهرت وداعته يوم أُلقي القبض عليه ليؤخذ أمام بيلاطس ليحكم عليه بالصلب. فجاء جند الهيكل هاجمين عليه. فاستلَّ بطرس سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة، واسمه ملخس، فقطع أذنه. وقال المسيح لبطرس: «ردَّ سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون بالسيف، بالسيف يهلكون». وانحنى المسيح إلى الأرض، التقط أذن ملخس. ولا بد أن التراب قد علاها، فنظفها المسيح مما علق بها من أتربة، وأعادها إلى مكانها، فشفى الأذن المقطوعة. كان عبد رئيس الكهنة قد جاء ليلقي القبض على المسيح وعندما قُطعت أذنه أشفق المسيح عليه وشفاه (لوقا 50:22، 51). ما أعظم وداعة المسيح وما أعظم محبته. حتى إن كنت تقاومه وتقاوم كنيسته والمؤمنين به، فإنه يحبك. «هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور ووديع». إنه يريد أن يغير حياتك وأن يسعدك، فآمن به وضع ثقتك فيه.
39- القدوس الحق
«هذا يقوله القدوس الحق، الذي له
مفتاح داود» (رؤيا 7:3).
لقب القدوس يصف السيد المسيح في جوهره. وهناك فرق بين كلمة قدوس وكلمة مقدَّس. فالقدوس صفة لا تُطلق إلا على الله وحده، أما كلمة مقدَّس فهي صفة تُطلق على البشر وعلى الأشياء المخصصة لله. فالمسيح هو القدوس الحق، أي رب القداسة في ذاته، ومعدن القداسة في شخصه. وهو في ذاته قدوس يهب القداسة لمن يشتاق إليها ويتعطش ويطلبها منه. ولقد قال الملاك للعذراء القديسة مريم: «ها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً، وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً. فأجاب الملاك و قال لها الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله» (لوقا 31:1-35). إنه يقول لها «القدوس المولود منك». فالمسيح هو القدوس الذي يصفه الإنجيل المقدس في الرسالة إلى العبرانيين «قدوس بلا شر ولا دنس» (عبرانيين 26:7).
لم تطأ أرض الناس قدمان كقدمي المسيح، فقد سلك دوماً في طريق النور والحق والخير. وعندما واجه أعداءه قائلاً: «مَن منكم يبكتني على خطية؟» لم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة، لأنه الكامل. إنه القدوس الحق الذي رآه النبي إشعياء جالساً على كرسي عال وأذياله تملأ الهيكل، والملائكة يسبحونه: «قدوس قدوس قدوس رب الجنود، مجده ملء كل الأرض». ويقول لنا إنجيل يوحنا الأصحاح الثاني عشر إن إشعياء النبي قال هذا: «حين رأى مجد المسيح وتكلم عنه» وقد رأى مجده في ذلك الهيكل العظيم.
الذي يقَدِّس:
قدوس.. قدوس.. قدوس، القدوس الحق هذا هو المسيح. هذا هو لقبه. وهو يعطي القداسة. هو قدوس في ذاته ويقدس كل من يلجأ إليه.
إذا رجعنا مرة أخرى إلى اختبار النبي إشعياء، نراه يقول إنه عندما سمع الملائكة يهتفون «قدوس قدوس قدوس» قال: «ويل لي إني هلكت لأني نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود». ما أن رأى إشعياء نفسه بالمقارنة بالحالة المجيدة التي كان المسيح فيها حتى صرخ صرخته هذه! في العادة يقول الإنسان: أنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، ولهذا السبب تنجَّست شفتاي. لكن إشعياء اعترف بخطئه اعترافاً واضحاً فقال إنه هو أولاً وقبل كل شيء نجس الشفتين، وسكناه هي بين شعب نجس الشفتين.
إن المعترف الذي ينال غفران خطاياه هو الذي يعترف بخطيته أولاً، ولا يلقي باللوم فيها على آخرين. المعترف الذي يغفر الله له هو الذي يرى نفسه شريراً محتاجاً إلى رحمة الله، بغير أن ينظر إلى خطايا الآخرين، إن كانت أكبر من خطاياه، أو إن كانت السبب في ارتكابه لخطاياه. وما أن نطق إشعياء باعترافه هذا حتى جاءه ملاك بجمرة من على المذبح ومسَّ بها شفتيه، وقال له: «هذه قد مست شفتيك فانتزع إثمك وكُفِّر عن خطيتك». كان النبي إشعياء من أعظم أنبياء العهد القديم، ولكنه بالرغم من كل هذه الامتيازات كان في حاجة ماسة إلى أن يرى الرب ليكشف في ضوء مجده أنه نجس الشفتين. وكان الثمن الذي دفعه هو انكسار القلب وانسحاق الروح والاعتراف بالنجاسة. وأزالت الرؤيا الغشاوة عن عيني إشعياء، فرأى نفسه على حقيقتها.
هل أنت مستعد أن تدفع ثمن تطهيرك، اعترافاً وندماً؟ هل أنت مستعد أن تُقلع عن خطيتك؟ إن المسيح هو القدوس الحق، الذي يريد أن يغفر خطاياك ويمنحك الحياة الجديدة.
في نظر السيد المسيح، الجميع زاغوا وفسدوا معاً، ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد. ويقول النبي إشعياء: «كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا». قال أحد الأتقياء: «أنا متفق مع الرسول بولس في كل ما كتبه وفي كل ما أوحي إليه به، إلا أنني أختلف معه في شيء واحد. لقد قال الرسول بولس: إنه أول الخطاة، أما أنا فأقول: لست أنت يا بولس أول الخطاة، بل أنا هو أول الخطاة.
هل هذا هو شعورك؟ هل أنت مستعد أن تنازع بولس هذا المركز، أول الخطاة؟ قيل إن الشاعر الهجَّاء الخطيئة رأى وجهه ذات يوم في المرآة لأول مرة، فأنفت نفسه من منظر وجهه البشع، فكتب شعراً يقول:
أرى لي وجهاً قبَّح اللهُ شكلَهُ وقُبِّح مِن وجهٍ وقُبِّح حامله
يا ليتك تجد في نفسك جرأة فتعترف ببشاعة صورتك الأخلاقية، حالما تراها في مرآة القدوس الحق. حينئذ تصرخ معترفاً بخطيتك طالباً منه الغفران، فيجملك المسيح ببره، ويغفر لك خطيتك. المسيح هو القدوس الحق الذي يهب للمعترفين به، المؤمنين به، قداسة الحياة.
40- الأول والآخر
«أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية،
الأول والآخر» (رؤيا 13:22)
الألف هو أول الحروف الأبجدية العربية والياء آخر حرف منها. إذاً يكون المسيح هو البداية والنهاية، وهو الأول والآخر. وقد ورد تعبير «الأول والآخر» عدة مرات في سفر الرؤيا. ورد عن الله الآب، كما ورد عن السيد المسيح (رؤيا 8:1، 11، 17، 6:21، 13:22). ومن هنا نرى أن اللقب الذي أطلقه الإنجيل المقدس عن الله، هو نفسه الذي أطلقه على السيد المسيح. وبدون تردد وبغير خوف من خطأ يقول يوحنا إن المسيح هو الله، لأنه يحمل نفس صفات الله. فكما يقول الكتاب المقدس إن الله هو الأول والآخر ليس سواه، يقول أيضاً إن المسيح هو البداية والنهاية، فيسوع المسيح هو رب.. هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، الكائن على الكل إلهاً مباركاً، آمين (عبرانيين 8:13).
المسيح الكامل:
المسيح هو الألف والياء، وهذا التعبير يعني الكمال، فقد كان اليهود يقولون إن آدم كسر وصية الله من الألف إلى الياء، وإن إبراهيم حفظ الوصية من الألف إلى الياء، وهم يقصدون أن آدم كسر كل الوصايا، ولكن إبراهيم حفظها كلها. وكانوا يقولون إن الله يبارك شعبه من الألف إلى الياء، بمعنى أن الله يبارك شعبه بركة كاملة. فعندما يقول السيد المسيح عن نفسه إنه البداية والنهاية والألف والياء والأول والآخر، يقصد أنه صاحب الكمال المطلق. قال القديس أكليمندس الإسكندري: «المسيح مركز كل سلطان وفيه كل قوة، لذلك نقول إن الابن، الكلمة، هو الألف والياء». المسيح هو الكامل الذي لا نقص فيه. له كل الحكمة والمعرفة وكل القداسة والصلاح. كل إنسان عنده بعض الصلاح وقليل من المعرفة، أما المسيح وحده ففيه كل الصفات الكاملة، جميعها في شخصه من البداية إلى النهاية ومن الأول إلى الآخر. إن كل مولود امرأة طعنه الشيطان في جنبه إلا المسيح، الخالي من الخطأ، الذي واجه أعداءه قائلاً: «من منكم يبكتني على خطية؟» فلم يستطع أحد أن يواجهه لأنه خال من الخطأ. لقد قال النبي إشعياء: «كلنا كغنم ضللنا» أما المسيح وحده هو المملوء نعمة وحقاً، ووحده الذي لم يفعل خطية، وهو وحده قدوس بلا شر ولا دنس. قد انفصل عن الخطاة، وصار أعلى من السموات.
المسيح بلا تغيير:
ومعنى بلا تغيير أنه الأول والآخر، أنه الاستمرار الذي لا يتوقف والذي ليس فيه تغيير. المسيح هو الذي كان في الماضي من قبل تأسيس العالم، والذي يعمل اليوم في عالمنا، وسيستمر يعمل حتى نهاية العالم، فقد قال عن نفسه: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل» (يوحنا 17:5). يقول كاتب رسالة العبرانيين في الإنجيل: «وأما عن الابن فيقول: كرسيُّك يا الله إلى دهر الدهور. وأنت يا رب في البدء أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك. هي تبيد ولكن أنت تبقى، وكلها كثوب تبلى، وكرداء تطويها فتتغيَّر ولكن أنت وسنوك لن تفنى» (عبرانيين 8:1-12). فمعرفتنا أن المسيح هو الحاضر الدائم تملأ نفوسنا بالراحة والاطمئنان، لأننا مع هذا السيد العظيم الذي يقف معنا من أول حياتنا ويسير معنا إلى نهايتها. من الطفولة إلى الشيخوخة يحملنا ويُسندنا ويعطي احتياجاتنا، فلا يستطيع شيء أن يفصلنا عن محبته أو يعطله عن محبتنا، أو عن معرفتنا.
في بعض البيوت المسيحية ترى لوحة جميلة نُقش عليها القول: «المسيح هو رب هذا البيت، السامع الصامت لكل حديث. الضيف غير المنظور على كل مائدة». فحيثما اجتمعنا دعنا ندرك أن المسيح هو الذي يصغي إلى حديثنا دون أن يتدخل فيه بصوت مسموع، وهو الضيف غير المنظور حول كل مائدة. فدعنا كلما أكلنا أو شربنا أو فعلنا شيئاً، أن نفعل كل شيء لمجد الله. وهذا الفكر يعطي كل مؤمن بالمسيح راحة القلب وسلام النفس كما قال السيد المسيح: «سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا». وبهذا السلام نحيا ونتحرك في اطمئنان.
به كل شيء:
هو البداية بمعنى أنه أبدأ كل شيء، وهو النهاية بمعنى أنه الهدف الذي لأجله خُلق كل شيء. هو الذي خلق والذي من أجله كل شيء قد خُلق، وما بين الخلق ونهاية العالم كل شيء يقوم به، فهو حامل كل الأشياء بكلمة قدرته. ونقرأ في الرسالة التي كتبها الرسول بولس إلى كنيسة كولوسي: «الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة. فإنه فيه خُلق الكل ما في السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين الكل به وله قد خلق، الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل» (كولوسي 15:1-17). ويقول الرسول بولس في رسالته إلى كنيسة رومية: «لأن منه وبه وله كل الأشياء، له المجد إلى الأبد. آمين» (رومية 36:11).
كثيرون يترددون في تسليم حياتهم للمسيح لأنهم يخافون أن يبتدئوا ولا يكملوا، ولكن لقب المسيح أنه البداية والنهاية يطمئن أمثال هؤلاء، إنهم يستطيعون أن يبدأوا حياتهم الجديدة ويكملوها، لأن المسيح يضمنها لهم.
ندعوك أن تضع ثقتك في المسيح، لأنه هو الذي يبدأ معك، وهو الذي يكمل معك، وكل الأشياء بإرادته كائنة وخُلقت، فهو الأول والآخر «الألف والياء، البداية والنهاية».