Titles 11-17
11- نور العالم
“أنا هو نور العالم” (يوحنا 12:8)
قال المسيح: “أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة” وهذا قول عظيم، لا يستطيع بشر أن يقوله. ولكن “الله الذي ظهر في الجسد” قاله، بعد أن غفر للمرأة الخاطئة وأطلقها حرة من ظلمة الخطية إلى نور حياة الطهارة – ثم بعد أن قاله فتح عيني المولود أعمى. والفرق بين الأعمى والمولود أعمى، أن الأعمى له مراكز بصر لا تعمل، ولكن المولود أعمى ليس له مراكز بصر. فخلق المسيح له مراكز بصر! وقد وردت قصة فتح عين المولود أعمى في الأصحاح التالي (يوحنا 9) للأصحاح الذي أعلن فيه أنه نور العالم (يوحنا 8).
قال الحكيم: “النور حلو وخير للعينين” (جامعة 7:11) ومنذ القديم فكر الناس في أن الله نور، حتى عبدوا الشمس لأنها مصدر النور!
ويقول المرنم: “الرب نوري وخلاصي” (مز 1:27). فغن هناك معركة دائمة بين النور والظلمة. الظلمة رمز الشر والنور رمز الخير.. ولا بد أن يطرد الخير الشر كما يطرد النور الظلام. فنشكر الله لأنه نورنا وخلاصنا.
وقد تنبأ بلعام في القديم بالمسيح نور العالم، فرآه الكوكب الذي يبرز من يعقوب (العدد 17:24) ونجد تحقيق النبوة في سفر الرؤيا عندما نسمع الصوت الإلهي يقول: “أنا يسوع.. أنا أصل وذرية داود، كوكب الصبح المنير” (16:22).
وكأن النجم الذي قاد المجوس للمسيح يقول لهم إن كوكب الصبح المنير قد جاء (متى 2:2-9) بل هو شمس البر والشفاء في أجنحته (ملاخي 2:4).
إنه كوكب الصبح، ألمع النجوم.. بل هو الشمس.. فهل نحتاج بعده إلى نور؟
وأي نور أعظم من نور الشمس. كل المعلمين والأنبياء الذين جاءوا قبله أو بعده أخذوا منه، ولم يزد أحد منهم شيئاً على تعاليمه. بل إن تعاليمه هي الكاملة العظيمة العالية، وكل ما قبلها أو بعدها اقتباس منها.
وهو النور الذي ينهي الظلام، وبه يطلع النهار.. ومتى طلع النهار هل يوقدون سراجاً؟ وهو الشمس والكوكب المنير الذي يضيء المسكونة كلها، ولا يمكن أن يحبس نوره شيء.. ما أمجد هذا المسيح!
وقد قال هو عن نفسه: “أنا هو نور العالم” .. قال هذا في أورشليم وقت عيد المظال، الذي يسكن اليهود أثناءه في خيام من أغصان الشجر ليذكروا سفرهم في البرية من مصر إلى كنعان..
وقال القول عند الخزانة، حيث يضع الناس الفضة هدية للهيكل.
وقد اعتاد اليهود أن يقيموا حفلة خاصة في نهاية اليوم الأول من عيد المظال. وكانوا يضيئون أربعة شمعدانات ضخمة بعد حلول الظلام، فكان النور يطرد الظلام من الهيكل ومن شوارع وحارات أورشليم..
وعند هذا الاحتفال العظيم أعلن المسيح أنه هو نور العالم!
ومن هذا نرى ثلاثة معاني:
1- تذكار عمود النار الذي كان يضيء الليل عند سفر الشعب إلى كنعان، وهم في البرية. وعيد المظال كما رأينا تذكار سكن الشعب في البرية.
والنور يذكرهم بنور الله الذي أضاء طريقهم، وأرشدهم في السفر، وحماهم من الوحوش بالليل (راجع سفر الخروج 21:13).
والمسيح هو النور الذي يضيء ظلمة حياتنا، ويرشدنا للطريق الذي نسلكه..
2- تذكار السحابة المنيرة التي غطت مكان العبادة. ويقول الكتاب: “وفي المساء كان على المسكن كمنظر نار إلى الصباح” ( العدد 15:6).
وتذكار السحاب الذي ملأ الهيكل عندما صلى سليمان فيه، وقول الكتاب عنه: “لأن مجد الرب ملأ البيت” (1ملوك 11:8).
وكان نور الشمعدانات الأربعة في عيد المظال تذكيراً لليهود بأن الرب يسكن في وسطهم. وفي المسيح نرى الله وسطنا. هو حل بيننا بمعنى أنه جاء في خيمة إلينا. الله فيه سكن وسطنا.
3- انتظار مجيء المسيا الذي تنبأ عنه النبي إشعياء وقال: “الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور” (2:9).
وها قد جاء المسيا الذي انتظروه.
والمسيح يقول إنه النور الذي يضيء للعالم كله، والناس يسيرون في برية الحياة المظلمة. وهو النور الذي يضيء على كل من يقبله، كما أضاء بحضوره على الشعب.. وهو النور الذي انتظره الآباء في العهد القديم، حتى جاء في ملء الزمان!
والآن تعالوا نرى المعاني التي نتعلمها من قول المسيح: “أنا هو نور العالم”
1- النور يكشف:
الذي يسير في الظلام لا يرى عيوب الطريق.. والذي يبقى في الظلام لا يقدر أن يرى عيوب وجهه أو عيوب ثيابه.. ويقول المسيح إن الذي يعمل الخطأ لا يحب النور، إذ يقول: “النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة. لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبَّخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيُقبل إلى النور لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة” (يوحنا 19:3-21).
النور يطرد الجريمة.. في الظلام يقتل الناس بعضهم ويسرقون، ولكن النور يخجلهم فلا يخطئون. ولا يستطيع أحد أن يكشف نفسه وعيوبها إلا في نور المسيح.
في نور المسيح شعر بطرس بخطيته، فصرخ: “لأني رجل خاطئ”.
وفي نور المسيح يمكن أن ترى عيوبك أيها القارئ، وتعرف نفسك. إن كنت تظن أنك صالح، فأنت محتاج إلى نور المسيح الذي يكشف عيوبك حتى تصلي: “اللهم ارحمني أنا الخاطئ”.
النور يحيي:
قال الإنجيل عن المسيح: “فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس” (يوحنا 4:1). نور الشمس ينمي النبات، وبدون النور لا تزهر الورود ولا ينمو الشجر. ونور الشمس يحفظ الصحة، فالذي يعيش تحت الأرض يتلف صحته.. والحكومة تحاول أن تهدم البيوت الضيقة القديمة وتبنى بدلها البيوت الجديدة التي يدخلها النور. والمسيح يعطي الحياة.. ويعطي النمو ويعطي الصلاح..
وقد قال الرسول يعقوب: “كل عطية صالحة، وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار”
والمسيح نور العالم يعطي الحياة.إنه يكشف عيوبنا، ويحيينا!
يقول: “من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة”.
3-النور يرشد:
كان النور يسير قدام الشعب فيسيرون.. وكان يقف فيقفون.. وكان عمود السحاب هداية للشعب في البرية. والمسيح نورنا ودليلنا ومرشدنا! الذي يتبعه لا يمشي في الظلمة ولا يعثر..
وكما يضيء الفنار للسفن حتى لا تصطدم بصخور الشاطئ، هكذا من يمشي في نور المسيح لا يصطدم بصخور الحياة القاسية، ولكن يصل إلى شاطئ الأمان في سلام.
وقد قال المسيح: “إن كان أحد يمشي في النهار لا يعثر لأنه ينظر نور هذا العالم” (يوحنا 9:11).
4- النور ينتصر:
“النور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه” (يوحنا 5:1)
لا تستطيع الظلمة أن تجري وراء النور حتى تدركه.. لكن النور يجري وراء الظلام ويبدده!
نور النهار يقشع ظلام الليل، وشمعة صغيرة تبدد ظلام غرفة كبيرة..
ونور المسيح لا بد أن ينتصر ويقشع ظلام الخطية، فإن النصر النهائي ليسوع.
قد يظهر أن الظلام يهزم النور، وقد يظهر أن الشر يغلب الخير، أو أن الضلال ينتصر على الحق.. لكن النصرة الأخيرة للحق وحده.
أيها القارئ العزيز: ثق في يسوع الذي سينتصر، وتجثو لاسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض. وإن كنت مع يسوع فالنصر لك، لأنه إن كان الله معنا فمن علينا؟!
المسيح أنار الحياة:
يقول الرسول بولس إن المسيح أنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل (2تيمو 10:1).
أنا المسيح العالم بتعاليمه، فما أروع ما قال عن حياة المحبة للآخرين، والغفران للمسيئين. استمع إليه وقد أنار جوانب حياتنا بما علَّم. “سمعتُم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعدائكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم” (متى 43:5 و44).
يا لنور هذا التعليم المدهش، الذي لو طبق على حياتنا لتغير عالمنا تماماً. نحن لا نحتاج لأسلحة ذرية، لأن قلب عالمنا جائع إلى الحب. نعم أنار المسيح عالمنا بتعليمه العامر بالحب.
على أن المسيح أيضاً أنار عالمنا بمثال من حياته. هو الذي يطبق ما علَّم به. لم تكن هناك شريعة كلف بها سامعيه لم يطبقها هو على نفسه أولاً، في كل مجالات الحياة. لم يكن هناك استثناء واحد من الشريعة استثنى المسيح نفسه منه، بحجة أنه قائد أو معلم أو منشئ عبادة جديدة. لقد كان المسيح تجسيداً حياً لكل علم به وكل ما قاله. لقد واجه المسيح أعدائه الذين طالما انتقدوه وقال لهم: “من منكم يبكتني على خطية؟” (يوحنا 46:8) فلم يستطع واحد أن يجاوب عليه. نعم، هو الكامل الذي لا خطأ فيه. عنه يقول الرسول بطرس الذي عاش معه في قرب قريب مدة ثلاث سنوات: فغن المسيح تألم من أجلنا، تاركاً لنا مثالاً لكي نتبع خطواته. الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر. الذي إذا شُتم لم يكن يشتم عوضاً، وإذا تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل” (1بطرس 21:2-23). صحيح أن المسيح أنار حياتنا بما علَّم، وأنار حياتنا بما عاشه، وأعطانا نموذجاً لهذه الحياة.
على أن أجمل شيء هو أن المسيح أنار حياتنا بأن يسكن قلوبنا فنتمكن من تطبيق ما علَّمنا وما أرانا في سلوكه. إن الذي يقرأ تعاليم المسيح يصاب بحالة من اليأس الشديد، لأنه يجد نفسه عاجزاً تماماً عن أن يقوم بها. هنا يجيء المسيح ليسكن قلب المؤمن به ليمكنه من أن يعمل عمله.
لا يمكن أن تكتب شعراً كشعر شوقي أمير الشعراء إلا إذا كان روح شوقي فيك. ولكن شوقي مات، أما المسيح فهو الحي الذي قام من بين الأموات، وهو يقوم لك: إنني أسكن قلبك وأغير حياتك وأحلُّ فيك، لتستطيع أن تعمل الأعمال التي أعملها أنا. عندها نستطيع أن نطبق ما علمه لنا وما أعطاه من حياته كنموذج لسلوكنا. لذلك يقول الإنجيل المقدس: “ليكن فيكم الفكر الذي في المسيح” (فيلبي 5:2). ويقول: “لأن الله هو الأمل فيكم لأن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته” (فيلبي 13:2). نعم، إن المسيح أنار حياتنا بكل هذا. ويمكن أن يدخل النور إلى حياتك، فقد قال: “أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة”.
المسيح أنار الخلود:
نعم، أنار المسيح حياتنا كما أنار لنا الخلود بواسطة الإنجيل – الخبر المفرح – الذي هو مجيء المسيح إلى عالمنا. لقد سار المسيح الطريق أمامنا، فجاز في وادي ظل الموت، وقام من بين الأموات بعد أن هزم الموت، وهو يقول لك: “لقد سلكت الطريق أمامك، فالطريق مضيء. كأن شخصاً عبر نهراً وأضاء سراجاً في الجانب الآخر، فأصبح البحر مظلماً مضيئاً، لأن الذي عبر أنار الطريق كله. هذا ما فعله السيد المسيح. لقد مات من أجلنا ورفع على الصليب ودفن في القبر، ولكنه قام في اليوم الثالث من بين الأموات.؟ وعندما ذهب تلاميذه ليقوموا بواجبهم نحو الجسد الميت وجدوا القبر فارغاً. ولغز القبر الفارغ يقول لكل واحد منا: “ليس هو ههنا لكنه قام كما قال” (متى 6:28) هذا المسيح الحي الذي أنار لنا الطريق يقول لنا: “إني أنا حيٌ فأنتم ستحيون” (يوحنا 19:14). نعم أنار المسيح الخلود لأنه جاز الطريق قبلنا، وهو يمسك بأيدينا لنعبر سائرين وراءه.
ولا نستطيع أن نختم حديثنا هذا بدون أن نشير إلى حقيقة هامة وهي أن النور ليس معنا في كل حين فقد قال المسيح: ” النور معكم زماناً قليلاً بعد، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام” (يوحنا 35:12).
الفرصة لك لتقبل المسيح وتنال الخلاص.
النور معك زماناً يسيراً، الفرصة بين يديك الآن، لكنها قد تضيع منك غداً..
اليوم يوم خلاص، والوقت وقت مقبول.
اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم..
أدعوك أن تجيء إلى المسيح لتقول له: “أنا أعرف عيوبي يا رب. أنا محتاجٌ إلى نور المسيح” صلِّ قائلاً: “اللهم ارحمني أنا الخاطئ” وعندها يتحقق لك القول المبارك: “أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة”.

12- الباب
“أنا هو الباب” (يوحنا 9:10)
في الأصحاح العاشر من إنجيل يوحنا كان السيد المسيح يتكلم عن أنه الراعي الصالح. والراعي عادة يقود خرافه إلى حظيرة حيث يجدون الاطمئنان والأمن والحراسة. وقال السيد المسيح: “أنا هو الباب. إن دخل بي أحد فيخلص، ويخرج ويدخل، ويجد مرعى” كانت حظيرة الخراف أرضاً محاطة بحوائط من ثلاث جهات. أما الرابعة فهي فتحة الدخول، وكانوا يسمونها “الباب” وكان الراعي عادة يدخل خرافه إلى الحظيرة، ثم ينام هو في تلك الفتحة، فكان هو فعلاً باب الحظيرة. الذي يدخل أو الذي يخرج إلى الحظيرة لا بد أن يدخل ويخرج من خلال الراعي نفسه.
باب السماء:
المسيح هو الباب الذي به نصل إلى السماء. قال هو: “أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي” (يوحنا 6:14). وقال عنه الرسول بطرس: “ليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسمٌ آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص” (أعمال 12:4). وقال عنه رسول المسيحية بولس: “جاء وبشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين، لأن به لنا كلينا – من بعيدين وقريبين – قدوماً في روح واحد إلى الآب. فلستم إذاً بعد غرباء ونزلاً، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله” (أفسس 17:2-19). هذا هو المسيح الذي يوصلنا إلى السماء ويجعلنا من أهل بيت الله. وقال لنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين في الإنجيل المقدس: “لنا الآن أيها الإخوة حق التقدم بثقة إلى الموضع الأقدس في السماء، بواسطة دم يسوع، وذلك بسلوك هذا الطريق الحي الجديد، الذي شقَّه لنا المسيح بتمزيق الستار، أي جسده . ولنا أيضاً كاهن عظيم يمارس سلطته على بيت الله. فلنتقدم إلى حضرة الله بقلب صادق وبثقة الإيمان الكاملة، بعد ما طهَّر رش الدم قلوبنا من كل شعور بالذنب، وغسل الماء النقي أجسادنا” (عبرانيين 19:10-22) (ترجمة كتاب الحياة) فالمسيح إذاً هو الباب الذي به نصل إلى السماء. صرخ أيوب في سفره: “ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا” (أيوب 33:9) لأنه شعر أن هناك عداءً بينه وبين الله نتيجة لخطيئته، ولذلك كان يطلب أن يصل إلى السماء، فطلب من يمثله، وفي الوقت نفسه يمثل الله. وجاء المسيح ليقول له إن ذلك الواحد الذي جاء ليصل السماء بالأرض، والأرض بالسماء، لأنه بطبيعته الإلهية ممثل لله، وبطبيعته الإنسانية ممثل للبشر. لذلك يقول رسول المسيحية بولس: “يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح (1تيموثاوس 5:2) إله واحد الإنسان يسوع المسيح، في ألوهيته يمثل الله، وفي إنسانيته يمثلنا، ويوجد الإثنين معاً، ويصل الأرض بالسماء.
عندما جاء المسيح إلى أرضنا أكد لنا أن الله قريب منا، لأننا في المسيح عرفنا حب الآب السماوي لنا، فإن اللقب الذي أطلقه عليه نبيُّ التوراة إشعياء هو “عمانوئيل (أي الله معنا)” (إشعياء 14:7).
باب البركة:
المسيح هو الباب الذي به نصل إلى سماء البركة. الذي يدخل به يخلص ويدخل ويخرج، ويجد مرعى لأن المسيح شبع الحياة، فهو الخبز الحي الذي نزل من السماء. والذي يجد المسيح يدخل به ويخرج – يدخل إلى شركة عميقة مع الله، ويخرج مؤهلاً بمواهب عظيمة لخدمة الله. إنه يدخل إلى مخدع الصلاة ويخرج ليخدم الآخرين.
ندعوك لان تتعرف على المسيح المخلص، لتدخل به إلى حياة التعرّف على الله، وتخرج لكي تخدم الآخرين باسمه، وبالنعمة التي يعطيها لك في محضره.
وهناك معنى آخر لقولنا إن الذي يدخل من الباب، الذي هو المسيح، يدخل ويخرج، هو أنه يشعر أنه في بيته، يتمتع بحرية. هناك حدود مفتوحة يتحرك فيها بحرية، وهناك نظام سائد يجعله يدخل ويخرج بغير خوف. قيل عن بولس رسول المسيحية بعد إيمانه بالمسيح إنه كان مع التلاميذ يدخل ويخرج في أورشليم، ويجاهر باسم الرب يسوع. إن المسيح يعطينا حرية عندما نتعرَّف عليه. وقد قال: إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً” كما قال أيضاً: “وتعرفون الحق والحق يحرركم” (يوحنا 32:8).
الذي يدخل به يخلص ويجد مرعى، غذاءً لنفسه. ثم أنه يدخل ويخرج بمعنى أنه يدخل إلى شركة عميقة مع الله ويخرج مؤهلاً ليخدم الله. ثم أنه يدخل ويخرج كأنه في بيته، لأنه يحسُّ بالحرية التي يهبها المسيح.
باب الحياة الجديدة:
أقدم لك معنى آخر لقول السيد المسيح: “إن دخل بي أحد يخرج ويدخل” هو أنه يدخل بالإيمان للحياة الجديدة، ويخرج من الحياة الأرضية بالموت الجسدي إلى الحياة الأبدية في السماء. عندما نتعرَّف على السيد المسيح فإننا ندخل إلى حياة جديدة، فيها تعرُّف جديد بالله، يقول الإنجيل في وصفه: “إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً” (2كو 17:5). إن الذي يؤمن بالمسيح في هذه الحياة ينال الحياة الأبدية، وعندما تنتهي حياته هنا على الأرض يخرج منها إلى الحياة الأخرى، إلى الحياة بعد الموت منتصراً على الموت، لأنه وضع ثقته في السيد المسيح.
ويقول لنا كاتب العبرانيين: “بما أن الأولاد متشاركون في أجسام بشرية من لحم ودم، اشترك المسيح أيضاً في اللحم والدم، باتخاذه جسماً بشرياً، وهكذا تمكن أن يموت، ليقضي على من كان له سلطة الموت – أي إبليس – ويحرر من كان الخوف من الموت يستعبده طوال حياته” (14:2 و15) (ترجمة كتاب الحياة).
باب النضوج:
وهناك معنى آخر لقول السيد المسيح: “أنا هو الباب. إن دخل بي أحد فيخلص، ويخرج ويدخل ويجد مرعى” بمعنى أنه يدخل ويخرج كشخص ناضج. فالطفل وغير المختبر لا يستطيع أن يخرج ويدخل وحده. تحدَّث إمام الحكماء سليمان في صباه قائلاً: “أنا فتى صغير، لا أعرف الخروج والدخول” (1ملوك 7:3) عندما نتعرف على المسيح يعطينا نوعية ناضجة من الحياة، نتمكَّن معها أن ندخل ونخرج لأننا كبرنا. لذلك قال المسيح: “جئت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل” (يوحنا 10:10).
وهناك معنى آخر أخير أشاركك فيه في قول السيد المسيح: إن الذي يدخل بالمسيح يخلص، ويخرج ويدخل، بمعنى أنه يصير قائداً، لأن المسيح يكلفه بخدمته. فنقرأ في التوراة أن موسى قال للرب: “ليوكل الرب، إله أرواح جميع البشر، رجلاً على الجماعة، يخرج أمامهم، ويدخل أمامهم، ويخرجهم ويدخلهم، لكي لا تكون جماعة الرب كالغنم التي لا راعي لها” (عدد 16:27 و17). وقبل الله طلب موسى، وعين يشوع ليقوم بهذه الخدمة . إن الذي يدخل ويخرج يصبح قائداً.
يريد لك المسيح أن تقدم خدمة رائدة له. إن كنت قد دخلت من خله وخلصت، ووجدت غذاء لقلبك ولنفسك، أدعوك لأن تدخل مع المسيح إلى حياة جديدة أبدية، إلى خلوة حلوة مع الله، وتخرج بعدها إلى حياة خدمة مجيدة لله. المسيح هو الباب لهذا الخير كله. فهل تقبله وتدخل به إلى الخلاص والشبع والحرية؟
باب الحماية:
إنه يقدم لك الحماية. لقد ذكرنا أن حظيرة الخراف محاطة بحوائط من ثلاث جهات، أما الرابعة فهي فتحة الدخول، التي ينام فيها الراعي,. هذا يعني أن من يدخل إلى الحظيرة ليؤذي الخراف لا بد أن يمرَّ على جسد الراعي نفسه. ولذلك فإننا نقرأ كلمة جميلة في نبوة النبي زكريا في التوراة يقول الله فيها: “من يمسكم يمس حدقة عينه” (زكريا 8:2). وربما كان ضمير الغائب هنا في كلمة “عينه” عائداً على الله، أو أن من يمسُكم يؤذي نفسه، فيمس حدقة عين نفسه. فيكون ضمير الغائب في هذه الحالة عائداً على الشخص الذي يمسُّ المؤمنين، محاولاً إيقاع الأذى بهم. أعتقد أن المعنيين صحيحان! إن الذي يمسُّ المؤمنين بأذى يمس الله نفسه، لأن المؤمنين منتمون إلى الله. ويقول لنا نبيُّ إشعياء: “في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم” (إشعياء 9:63). وفي الأصحاح العاشر من إنجيل يوحنا، حيث قرأنا قول المسيح: “أنا هو الباب”. نقرأ أيضاً قوله المبارك: “خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد” (يوحنا 27:10-30). يا لهذه الحماية المذهلة التي يقدمها المسيح لكل واحد منا! وفي صلاة المسيح الشفاعية، قبل قيادة المسيح إلى الصليب، سمعناه يصلي قائلاً للآب: “حين كنت معهم في العالم كنت أحفظهم في اسمك. الذي أعطيتني حفظتهم. ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب” (يوحنا 12:17). ويقول لنا رسول المسيحية بطرس في رسالته الأولى في الإنجيل: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ في السماوات لأجلكم. أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان لخلاص مستعد أن يعلن في الزمان الأخير” (1بطرس 3:1-5).
هذه الكلمات الجميلة التي يقدمها لنا الإنجيل المقدس عن المسيح الذي يحمي الذين ينتمون إليه، تضع في قلوبنا أملاً كبيراً أننا عندما نبدأ اختباراً روحياً جديداً مع الله لا نخاف من الضياع ولا نخشى من أننا لا نكمل. فإن كنت قد بدأت في حياة دينية حلوة مع الله، أؤكد لك أن المسيح يحميك. ويقول الرسول بولس: “واثقاً بهذا عينه: إن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً يكمل إلى يوم يسوع المسيح” (فيلبي 6:1). نعم، المسيح هو الذي ابتدأ فيك العمل الصالح، وهو الذي يكملهُ إلى يوم مجيئه ثانية، ولذلك فإن رسول المسيحية بولس، وفي شدة ثقته بهذا الحفظ الإلهي، يقول: “لأنني عالم بمن آمنت، وموقن أنه قادر أن يحفظ وديتي إلى ذلك اليوم” (2تيموثاوس 12:1).ويقول لنا الرسول يهوذا: “والقادر أن يحفظكم غير عاثرين، ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الابتهاج، الإله الحكيم الوحيد مخلصنا، له المجد والعظمة والقدرة والسلطان الآن وإلى كل الدهور. آمين” (يهوذا 24 و25).
باب الإحصاء:
كان الراعي يدخل خرافه إلى حظيرة محاطة بحوائط من ثلاث جهات. أما الجهة الرابعة فهي فتحة الدخول التي كان الراعي ينام فيها بجسده. ولقد كانت هناك فائدة لهذه الفتحة التي تسمى “الباب” هي أن الراعي كان يضع عصاه فيها بمستوى منخفض، لتدخل الخراف من تحتها من باب الحظيرة، فيعدُّها ويطمئن على حالتها الصحية. وكان هذا العمل يتم يومياً. ففي كل يوم يُدخل الراعي خرافه إلى الحظيرة من خلال تلك الفتحة من تحت العصا ليعرف عددها. ثم ليرى إن كانت إحداها مريضة، فكان يعرف حالة المرض من طريقة سيرها وهي تنحني لتدخل من تحت العصا. إن راعينا الصالح، الله، يريد أن يعرف أننا موجودون معه. إنه يؤكد لنا أنه لا يسمح لأحدنا أن يضل دون أن يبذل كل جهد لإعادته إلى المكان السليم، وهو في الوقت نفسه يريد أن يطمئن على حالتنا ليؤكد لنا أنه يُحبنا ويعتني بنا. ولقد قال لنا السيد المسيح في معرض تأكيد عنايته بنا: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها. بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك الجسد والنفس كليهما في جهنم. أليس عصفوران يُباعان بفلس، وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم؟ وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة. فلا تخافوا. أنتم أفضل من عصافير كثيرة” (متى 28:10-31). هذا القول المبارك المشجع يقول لنا المسيح إن الله قد أحصى شعور رؤوسنا، بالرغم من أننا نحن لم نحصها. هذا الشيء الذي لا نهتم له وهو سقوط شعرة من رؤوسنا، يهمُّ إلهنا، فهو يعتني به. ما أعظم أن نتأكد أن إلهنا يعتني بنا فعلاً. عندما يقول المسيح عن نفسه إنه هو الباب يؤكد لنا أنه يجري لنا إحصاء ليطمئن على حالتنا. لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا، لأنه مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه. كبُعد المشرق من المغرب أبعد عنا معاصينا. كما يترأف الآب على البنين يترأف الرب على خائفيه، لأنه يعرف جبلتنا، يذكر أننا تراب نحن.. رحمة الرب إلى الدهر والأبد على خائفيه، وعدله على بني البنين” (مز 8:103-17).
المسيح هو الباب الذي يضمن لك العناية الكاملة، ويضمن لك الحماية الكاملة، ويضمن لك الوصول إلى السماء. ندعوك أن تفتح قلبك إلى المسيح وأن تقبله وأن تؤمن به ليكون بالنسبة لك الباب الذي إذا دخل به أحد يخلص، ويخرج ويدخل، ويجد مرعى.

13- النبي
“هذا يسوع النبي” (متى 11:21)
هذا لقب أطلقه السيد المسيح على نفسه، كما أطلقه عليه كثيرون من تلاميذه ومن غير تلاميذه. المسيح نبي، وهذا اللقب يصف عمله الكرازي. لكن هذا اللقب لا يغطي كل جوانب شخصية السيد المسيح، فالمسيح أعظم من نبي. إنه المخلص الوحيد الذي أشار إليه أنبياء التوراة. هناك أنبياء كثيرون صادقون، وهناك أنبياء كذبة، لكن يوجد إلهٌ واحدُ ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح (1تيموثاوس 5:2). لقد أطلق السيد المسيح على نفسه مرتين لقب نبي. في المرة الأولى كان يزور البلد التي تربى فيها – الناصرة – وعندما دخل مكان العبادة قدموا إليه سفر النبي إشعياء ليقرأ منه، فقرأ الموضع الذي كان مكتوباً فيه: “روح الرب عليَّ مسحني لأبشر المساكين. أرسلني لأشفي منكسري القلوب. لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية” ثم بدأ يعظ السامعين ويقول: “اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم” وكان جميع السامعين يشهدون له، ويتعجبون من كلمات النعمة التي كان يقولها، وأخذوا يتساءلون: أليس هذا ابن يوسف؟ فأجابهم: “على كل حال تقولون لي هذا المثل: أيها الطبيب أشف نفسك. كما سمعنا أنه حدث في كفرناحوم، فافعل مثل تلك المعجزات عندنا في وطنك”. وقال السيد المسيح لهم: “الحق الحق أقول لكم إنه ليس نبيٌ مقبولاً في وطنه” (لوقا 24:4).
أمما المرة الثانية التي قال السيد المسيح فيها عن نفسه إنه نبي، فقد ذكرها عندما تقدم إليه بعض الفريسيين وقالوا له: “اخرج واذهب من هنا، لأن الملك هيرودس يريد أن يقتلك” فأجابهم: “امضوا وقولوا لهذا الثعلب: “ها أنا أخرج الشياطين، وأشفي اليوم وغداً، وفي اليوم الثالث أكمل. بل ينبغي أن أسير اليوم وغداً وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبيٌ خارج عن أورشليم”. ثم قال السيد المسيح: “يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها وأنتم لم تريدوا. هوذا بيتكم يترك خراباً” (لوقا 13).
النبي الذي تنبأ به موسى:
لقد أطلق السيد المسيح على نفسه لقب نبي مرتين، أما أتباعه فقد أطلقوا عليه هذا اللقب كثيراً. أطلق بطرس عليه هذا اللقب في وعظه، بعد أن شفى الرجل الذي كان مولوداً أعرج، وقال إن السيد المسيح هو النبي الذي سبق أن أنبأ عنه موسى في التوراة في سفر التثنية. ثم مضى رسول المسيحية بطرس يقول: ولقد قال موسى إن الله سيبعث فيكم من بين إخوتكم نبياً مثلي، فاسمعوا له في كل ما يكلمكم به. أما ن لا يسمع له فيُباد من وسط الشعب. وكذلك تنبأ بهذه الأزمنة جميع الأنبياء، من صموئيل إلى الذين جاءوا هم من بعدهم. وأنتم أحفاد هؤلاء الأنبياء، وأبناء العهد الذي أبرمه الله لآبائنا، عندما قال لإبراهيم: بنسلك تنال البركة شعوب الأرض كلِّها. فمن أجلكم أولاً أقام الله فتاه يسوع، وأرسله ليبارككم، بردِّ كل واحد عن شروره” (أعمال 22:3-26).
في هذه الكلمات يقول الرسول بطرس إن النبي الذي تنبأ عنه موسى هو من إخوته، من بني إسرائيل، وهو السيد المسيح. وعندما كان السيد المسيح يفعل معجزات كان الشعب يقول إنه النبي. فلما أقام ابن أرملة نايين من بين الأموات، قال الذين رأوا المعجزة: “قام فينا نبيٌ عظيم، وافتقد الله شعبه” (لوقا 16:7). وبعد أن أطعم السيد المسيح خمسة آلاف نفس بخمسة أرغفة وسمكتين، قال الذين أكلوا: “هذا هو بالحقيقة النبيُ الآتي إلى العالم” (يوحنا 14:6). وعندما دخل المسيح دخوله الانتصاري إلى أورشليم بدأت الجماهير تقولك “هذا هو يسوع النبي، الذي من ناصرة الجليل” (متى 11:21).
أعظم من نبي:
بدأ بعض الناس يرون المسيح نبياً، لكنهم لم يتوقفوا عند هذا الحد، بل رأوا فيه، أعظم من نبي. هناك حالتان يوردهما الإنجيل توضحان لنا هذه الفكرة. الحالة الأولى حالة المرأة السامرية التي جاء ذكر قصتها في الأصحاح الرابع من الإنجيل كما رواه يوحنا، فقد جاءت إلى البئر لتستقي ماءً، لكن واقع الأمر كان أنها تحتاج إلى ماء الحياة. وعندما عرض السيد المسيح عليها أن يرويها من الماء الحي، رأت فيه رجلاً عادياً يعرض أن يعطيها ماءً، وليس لديه دلوٌ، والبئر عميقة. ولكنه عاد يسألها عن زوجها، فاكتشفت أنه يعرف. فقالت له: “يا سيد، أرى أنك نبي” وعندما حدَّثها عن حياتها الروحية وعن علاقتها بالله وتعبدها له، اكتشفت حقيقة أمره، وقالت له إنه المسيح. لقد نما إيمانها حتى اكتشفت أنه هو المسيح المخلص الآتي إلى العالم.
أما القصة الثانية فقد جاءت في الإنجيل كما رواه البشير يوحنا في الأصحاح التاسع، عن الرجل الذي وُلد أعمى، ثم فتح المسيح عينيه، فقد بدأ معرفته عن السيد المسيح بأنه نبي. ولما سأله شيوخ اليهود: “ماذا تقول أنت عنه، من حيث أنه فتح عينيك؟” فأجابهم: إنه نبي. لكن المسيح التقى به بعد ذلك وسأله: “أتؤمن بابن الله؟” فأجاب الأعمى: “من هو يا سيد لأؤمن به؟” قال له السيد المسيح: “قد رأيته. والذي يتكلم معك هو هو” فقال: “أنا أؤمن يا سيد” وسجد له. صحيحٌ أن السيد المسيح هو النبي، لكنه أعظم من نبي. لا توجد كلمة واحدةٌ تكفي لوصف كل جوانب شخصية المسيح، فإنه هو الذي قال عن نفسه: “أنا والآب واحد” (يوحنا 30:10). وهو الذي قال له بطرس: “أنت هو المسيح ابن الله” (متى 16:16). إن الذين اكتفوا بوصف المسيح أنه نبي لم ينتبهوا لتفرُّده فحسبوه رجل الله، بينما الحقيقة هي أنه ابن الله.
يعلن أسراراً حاضرة وآتية :
السيد المسيح نبي، كان يعلم ما يخفيه الناس في صدورهم، يعلم الغيب. لقد كان النبي في التوراة يحمل لقب “الرائي” بمعنى أنه يرى ما لا يراه غيره، لأن الله يعلن له. ويقول لنا صاحب المزامير: “سرُّ الرب لخائفيه” (مز 14:25). ويقول نبيُّ الله عاموس “إن السيد الرب لا يصنع أمراً إلا وهو يعلن سرَّه لعبيده الأنبياء” (عاموس 7:3).
ويتحدث الإنجيل عن السيد المسيح بأن عينيه تخترقان أستار الظلام، ويقول عنه إنه كان يعرف الجميع. وإنه لم يكن محتاجاً أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان” (يوحنا 25:2).
ويحدثنا الإنجيل أنهم جاءوا للمسيح مرة برجلٍ مشلول فشفاه، وقال له: مغفورة لك خطاياك”. فجعل الجالسون يفكرون في قلوبهم قائلين: “لماذا يتكلم هذا بتجاديف؟ من يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده؟”وفوراً شعر يسوع بروحه أنهم يفكرون هكذا في قرارة نفوسهم، فسألهم: “لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم؟ أيُّما أيسر: “أن يُقال للمفلوج: مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال: “قم واحمل سريرك وامش. ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا، قال للمفلوج: “لك أقول قم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك” فقام الرجل فوراً وحمل سريره وخرج أمام الجميع، حتى بهتوا ومجدوا الله قائلين: “ما رأينا مثل هذا قط؟” (مرقس 1:2-12).
لقد شعر المسيح بما يجول في خاطر سامعيه، كما عرف أيضاً حديث تلاميذه الذي دار بينهم بغير أن يسمعه بأذنيه. بل عرفه بقلبه، لأن المسيح هو النبي الذي ينبئ بأسرار حاضرة وآتية. فإنه عندما وصل إلى كفرناحوم واجتمع مع تلاميذه بالبيت سألهم: “بماذا كنتم تتكلمون فيما بينكم في الطريق؟”. فسكتوا، لأنهم تجادلوا في الطريق بعضهم مع بعض في من هو الأعظم. فقال لهم السيد المسيح: “إذا أراد أحدٌ أن يكون أولاً فيكون آخر الكل، وخادماً للكل”.
في خلال الأسبوع الأخير من حياة السيد المسيح، جرت أحداث كثيرة، من إلقاء القبض عليه وتسليمه للأعداء، ثم صلبه وقيامته. وقد أنبأ السيد المسيح بهذه كلها. فعندما اقترب مع تلاميذه من أورشليم، أرسل اثنين منهم وقال لهما: “اذهبا إلى القرية التي أمامكما فتجدان وأنتما داخلان إليها جحشاً مربوطاً، لم يجلس عليه أحدٌ من الناس، فحُلاه وأتيا به” فمضيا ووجدا كما قال المسيح لهما. وجدا الجحش مربوطاً عند الباب خارجاً على الطريق فحلاَّه.
وعندما دخل المسيح أورشليم راكباً على الجحش، نظر إلى هيكل أورشليم العظيم، وقال لتلاميذه: إنه لا يترك حجرٌ على حجرٍ لا ينقض من ذلك الهيكل. ولقد تمَّ ما قاله تماماً، لأنه في سنة سبعين للميلاد أُخربت مدينة أورشليم تماماً، ولم يترك حجر على حجرٍ لم يُنقض من هيكلها العظيم.
وفي اليوم الأول من عيد الفطر حين كانوا يذبحون الفصح، سأل التلاميذ السيد المسيح: “أين تريد أن نمضي ونعدَّ لنأكل الفصح؟” فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: “اذهبا إلى المدينة فيلاقيكما إنسانٌ حاملٌ جرة ماءٍ. اتبعاه. وحيثما يدخل قولا لرب البيت: إن المعلم يقول: أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي؟ فيريكما عليةً كبيرة مفروشة مُعدة. هناك أعدَّا لنا”. فخرج تلميذاه وأتيا إلى المدينة ووجدا كما قال لهما، فأعدا الفصح.
ولقد تنبأ السيد المسيح عن موته وعن قيامته من بين الأموات بعد ذلك، فابتدأ يعلم تلاميذه أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل، وبعد ثلاثة أيام يقوم. وقد تمَّ هذا تماماً.
وتنبأ السيد المسيح عن مجيئه ثانية في مجده، فقال لرئيس الكهنة الذي كان يحاكمه قبل صلبه: “سوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة، وآتياً في سحاب السماء” وهذه هي النبوة التي يتحقق، والتي ننتظرها. إن المسيح النبي أنبأ أنه آتٍ ثانية إلى عالمنا، فهل أنت مستعدٌ لمجيئه؟
هذا هو السيد المسيح، النبيُّ الذي أنبأ بأسرار كثيرة، حاضرة وآتية. تنبأ بصلبه وقيامته، ثم تنبأ بأنه سيجيء مرة ثانية إلى عالمنا. وكانت نبوات السيد المسيح بالتفصيل والتحديد، بلا تعميم، ولا تخمين. وقد صدقت كلها وتحققت، لأن السيد المسيح سيد الصادقين. بقيت نبوة عن مجيئه ثانيةً، لا بد أن تتحقق. نعم، لا بد أن يجيء المسيح مرة ثانية من السماء ليدين العالم الخاطئ. وإننا نرجو أن تكون أنت مستعداً لمجيء المسيح ثانيةً ليدين الأحياء والأموات.
النبي يعلن رسالة الله:
كان بنو إسرائيل تحت حكم الله، وكان الحكم بينهم ثيوقراطياً، بمعنى أن الله حاكمهم في مثل هذا النوع من الحكم يكون رجل الله أهم إنسان، لأنه يعلن كلمات الله، ولذلك جاء موسى منقذاً لبني إسرائيل وحاكماً وقائداً لهم، وهو في نفس الوقت المشرع. وكان صموئيل النبي ينصِّبُ الملك ويعزله. وجاء ناثان النبي ليوبخ داود الملك قائلاً له: “أنت هو الرجل” (2صموئيل 7:12). ووقف النبي إيليا يواجه الملك الشرير أخآب ليقول له إنه مكدر الأمة (1ملوك 18:18) لقد كانت وظيفة النبي عالية ورفيعة، لأنه يعلن رسالة الله للناس ويكشف لهم مشيئته. بهذا المعنى يكون السيد المسيح النبي، الذي أعلن لنا رسالة الله. لكنه يتفرَّد عن غيره من الأنبياء في أن غيره كان يقول: “هكذا قال الله” أما السيد المسيح فكان يقول: “الحق الحق أقول لكم” ذلك أن السيد المسيح هو المتكلم وهو الكلمة، وهو الرسول وفي الوقت نفسه هو الرسالة الذي جاءنا ليعلن لنا المشيئة الإلهية.
ويقدم لنا الإنجيل المقدس تعريفاً عن وظيفة النبي، عندما يقول: “إن من يتنبأ يكلم الناس ببنيان ووعظ وتسلية” (1كورنثوس 3:14). ولقد كلمنا السيد المسيح بهذه الثلاثة. لقد قدم لنا بنياناً فبنى علاقة الإنسان مع الله وعلمنا قائلاً: ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟” (متى 26: 16). كما علمنا أن نبني علاقة طيبة مع نفوسنا، إذ نهتم بخلاصها وراحتها عندما نطيع دعوته التي تقول لنا: “بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كان لكم حب يعضكم لبعض” (يوحنا 35:13). وما أعظم التعليم البنَّاء الذي قدمه لنا في معاملاتنا مع الآخرين الذين يسيئون إلينا، فقد قال لنا السيد المسيح: “إن أخطأ إليك أخوك، فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع فخُذ معك واحداً أو اثنين، لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين. وإن لم يسمع منهم، فقل للكنيسة. وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار” (متى 15:18). والمسيح يقصد بأن يكون عندك كالوثني والعشار بمعنى أنك تبدأ معه من جديد، لتربحه إلى جانب المحبة والسلام. لقد كلمنا السيد المسيح النبي بما يبني علاقتنا مع الله ومع النفس ومع الآخرين، أفضل بناء.
وكلمنا السيد المسيح بوعظ ليشجعنا، فقد أكد لنا أن الله يحبنا، وأنه يعتني بنا، وأنه يحصي شعور رؤوسنا كلها، فلا بد أن يهتم بتفاصيل حياتنا بكل احتياجاتها. وقال لنا: “انظروا إلى طيور السماء: إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟” (متى 26:6) هل يوجد تشجيع لنا أفضل من هذا؟ ثم تعال نستمع إليه يقدم إلينا تذكيراً دائماً مستمراً بأفضال الله علينا، لكي نذكر فضله، ونتأكد من حبه، ونسير في حياتنا بكل ثقة وأمان، لأننا نعلم أن الله محبة، والمحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج. وهكذا نجد في المسيح النبي من يبنينا ويشجعنا، ومن يملأ قلوبنا بنعمة الرجاء والتأكد.
المسيح نبي.. نعم، ولكنه أعظم من نبي. إنه الذي جاء بكلمة الله لنا، هو نفسه كلمة الله. شخصه هو الإنجيل الذي جاء به – لأنه هو مخلص العالم، ومخلص كل من يضع ثقته فيه.
النبي يدعو الناس للتوبة:
أرسل الله الأنبياء ليدعوا الناس للتوبة، ويقول الله: “أرسلت إليك كل عبيدي الأنبياء مبكراً، ومرسلاً قائلاً: “ارجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة، واصلحوا أعمالكم، ولا تذهبوا وراء آلهة أخرى لتعبدوها” (إرميا 15:35).
وقد دعا الأنبياء الناس للتوبة بالوعظ، عن طريق الشعر المنظوم في مزامير وتراتيل، أو عن طريق الوعظ العادي.. كما كانوا يعظون الناس بالأمثال والتشبيهات والتمثيل. فقد قال إشعياء إن علاقة الله وشعبه مثل علاقة الكرام بالكرمة (إش 1:5-7). وروى ناثان لداود حكاية الرجل ونعجته (صم 1:12-6) كما أجرى حزقيال الكثير من التمثيل ليعمق فكرته (حزقيال 4 و5).
وقد بدأ المسيح خدمته يدعو الناس للتوبة: “جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله” ويقول: “قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل” (مرقس 14:1 و15).
احتمل الأنبياء العذاب:
وقد احتمل الأنبياء الكثير من العذاب في سبيل الرسالة التي حملوها للناس. والحقيقة أن الرسالة نور لجماعة من الخطاة الذين يبغضون النور لأنه يوبخ أعمالهم!
ويقول كاتب العبرانيين: “وآخرون تجربوا في هزء وجلد، ثم في قيود أيضاً وحبس. رجموا، نشروا، جربوا، ماتوا قتلا بالسيف. طافوا في جلود غنم و جلود معزى، معتازين مكروبين مذلين. وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم” (36:11 و37).
وقد احتمل المسيح ألم الصليب لأجل خلاصنا!
يسوع المسيح نبي من الله، مقتدر في القول والفعل.
ولكننا نخطئ إن قلنا إنه نبي.. وكفى!
قد تكون كلمة “نبي” أفضل كلمة تصف عمل المسيح الكرازي، ولكن لا توجد كلمة تكفي لوصف المسيح!
المسيح أعظم من نبي.. هناك أنبياء كثيرون، صادقون وكذبة، لكن هناك مسيح واحد.. قال عنه بطرس: “أنت هو المسيح ابن الله الحي” وقال هو عن نفسه: “أنا والآب واحد”.

14- الكاهن
“لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا” (عبرانيين 26:7)
الكاهن هو باني المِعبر، الذي يوصلنا إلى الله. فكلمة كاهن تعني الذي يبني الجسر – يبني الكوبري – الذي يوصل إلى الله. لقد بنى المسيح طريقاً بيننا وبين الله، وقال لنا: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يوحنا 6:14) وعندما مات المسيح على الصليب انشق حجاب الهيكل الذي يفصل قدس الأقداس عن بقية الهيكل، فكان يفصل الكاهن عن الشعب. انشق هذا الحجاب من أعلى إلى أسفل. فمن عند الله تمَّ فتح الطريق الذي يدخلنا إلى قدس الأقداس، إلى محضر الله. فالمسيح هو الطريق والحق والحياة، وليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلا به. وإننا ندعوك أن تضع ثقتك فيه لتجد خلاص نفسك. فالمسيح كاهننا العظيم، بمعنى أنه باني المِعبر الذي يوصلنا نحن الخطاة إلى الله الحي.
الكاهن يوصلنا بالله:
وتقول رسالة العبرانيين إن هدف الدين هو أن نقدر أن نتقدم بثقة إلى عرش النعمة. كان بنو إسرائيل يتقدمون إلى الله في العهد القديم، لكنهم كانوا يتقدمون بخوف ورعب. عندما طلب كليم الله موسى أن يرى مجد الله قال الله له: “لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش” (خروج 20:33). وفي سفر التثنية والأصحاح الخامس نرى أن بني إسرائيل ذهلوا من أن موسى رأى الله وعاش. وعندما رأى القاضي جدعون ملاك الرب خاف وظن أنه مائتٌ لا محالة، إلا أن الملاك طمأن جدعون. وظنَّ منوح، والد شمشون، أنه سيموت بعد أن رأى هو وزوجته ملاك الرب، ولكن زوجته طمأنته وقالت له: “لو أراد الرب أن يُميتنا لما قبل من يدنا محرقةً وتقدمة، ولما أرانا كل هذه، ولما كان في مثل هذا الوقت أسمعنا مثل هذه”. وعندما اطمأن الرجل وزوجته، منحهما الله ابنهما شمشون، الذي صار قاضياً ومنقذاً لبني إسرائيل. نعم، كان التقدم إلى الله في العهد القديم مخيفاً، حتى أن رئيس الكهنة كان يتقدم لدخول الأقداس مرة واحدة في السنة، بخوف.
أما السيد المسيح فهو رئيس الكهنة الرقيق، الذي جاءنا بنظام يختلف عن نظام العهد القديم في التوراة، يحدثنا عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين فيقول: “إنكم لم تقتربوا إلى جبلٍ ملموسٍ مشتعل بالنار، ولا إلى غموض وظلام وريح عاصفة، حيث انطلق صوت بوقٍ، هاتفاً بكلمات واضحة، وقد كان مرعباً لدرجة جعلت موسى يقول: “أنا خائفٌ جداً بل مرتجفٌ خوفاً”. ويمضي كاتب الرسالة إلى العبرانيين ليقدم الفرق بين إعطاء الشريعة في العهد القديم على يدي موسى، وإعطاء نعمة العهد الجديد على يدي المسيح فيقول: “ولكنكم قد اقتربتُم إلى مدينة الله الحي، بل تقدمتُم إلى يسوع وسيط العهد الجديد، وإلى دمه المرشوش الذي يتكلم طالباً بأفضل مما طالب به دم هابيل” (عبرانيين 18:12-24) (ترجمة كتاب الحياة). ويقول لنا الإنجيل: “الناموس بموسى أُعطى، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا. الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر” (يوحنا 18:1).
دخل بذبيحة نفسه:
المسيح كاهننا الأعظم دخل محضر الله نائباً عنا، ليقوم بما لا نقدر نحن أن نقوم به، ولقد عالج كاتب الرسالة إلى العبرانيين عمل السيد المسيح رئيس كهنتنا عندما قال: “المسيح لم يرفع نفسه حتى يصير كاهناً أعلى، بل إن الله هو الذي منحه ذلك الشرف. فالذي قال له: أنت ابني. أنا اليوم ولدتُك، خاطبه في موضع آخر بقول: قد اخترتك كاهناً إلى الأبد. إن شريعة موسى كلها كانت تدور حول نظلم الكهنوت، الذي قام بنو لاوي بتأدية واجباته، إلا أن ذلك النظام لم يوصل إلى الكمال أولئك الذين كانوا يعبدون الله على أساسه، وإلا لما دعت الحاجة إلى تعيين كاهن آخر. فالكهنة العاديون كانوا يتغيرون دائماً، لأن الموت كان يمنع أي واحد منهم من البقاء. أما المسيح، لأنه حي إلى الأبد، فهو يبقى صاحب كهنوت لا يزول، ولذلك فهو قادر دائماً أن يحقق الخلاص الكامل للذين يتقربون بواسطته إلى الله، فهو في محضر الله، حيٌ على الدوام ليتضرع من أجلهم ويحامي عنهم. نعم. هذا هو الكاهن الأعلى الذي كنا محتاجين غليه . إنه قدوسٌ لا عيبة فيه ولا نجاسة، قد انفصل عن الخاطئين حتى صار أسمى من السموات. وهو لا يحتاج إلى ما كان يحتاج إليه قديماً كل كاهن أعلى: أن يقدم الذبائح يومياً للتكفير عن خطاياه الخاصة أولاً، ثم عن خطايا الشعب. وذلك لأن المسيح كفَّر عن خطاياهم مرة واحدة، حين قدم نفسه عنهم. المسيح هو كاهننا الأعلى. إنه الآن جالسٌ في السماء عن يمين عرش الله العظيم، وهو يقوم بمهمته هناك في أقدس مكان، في خيمة العبادة الحقيقية التي نصبها الرب لا إنسان” (عبرانيين 7) (ترجمة كتاب الحياة).
شرطان في الكاهن العظيم:
كان هناك شرطان لازمان أن يكونا في رئيس الكهنة. المطلب الأول: يجب أن يؤخذ رئيس الكهنة من بين الناس ليكون ممثلاً للبشر. فيقول لنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين: “كان الكاهن الأعلى يؤخذ من بين الناس، ويعيَّن للقيام بمهمته نيابة عنهم، فيما يخص علاقتهم بالله، وذلك لكي يرفع إلى الله التقدمات والذبائح تكفيراً عن الخطايا. ولكونه هو أيضاً معرضاً للضعف البشري دائماً، كان يمكنه أن يعطف على الجهال والضالين، وبسبب ضعفه كان من واجبه أيضاً أن يكفر عن خطاياه الخاصة، كما يكفر عن خطايا الآخرين” (عبرانيين 1:5-3) (ترجمة كتاب الحياة).
أما المطلب الثاني الذي كان التوراة تطلب في رئيس الكهنة، فأن يكون مدعواً من الله، ويقول عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: “لم يكن أحد يتخذ لنفسه هذه الوظيفة الشريفة متى أراد، بل كان يتخذها من دعاه الله إليها، كما دعا هارون” (عبرانيين 4:5). والمقصود بذلك أن رئيس الكهنة يكون واحداً من الناس ليمثل الناس، ثم أن يكون مدعواً للمهمة التي دعاه الله إليها. ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين إن هذين الشرطين موجودان في شخص المسيح. أما أنه مدعوٌ من الله فيقول عنه: “كذلك المسيح لم يرفع نفسه حتى يصير كاهناً أعلى، بل إن الله هو الذي منحه ذلك الشرف، فالذي قال له: أنت ابني. أنا اليوم ولدتُك، خاطبه في موضع آخر بقوله: قد اخترتك كاهناً إلى الأبد” (عبرانيين 5:5 و6).
وفي المطلب الثاني أيضاً أن يؤخذ المسيح من بين الناس ليكون نائباً عن البشر. ويحدثننا الإنجيل المقدس أن الله جاءنا إنساناً في شخص المسيح، وأطلق عليه لقب عمانوئيل بمعنى أن الله معنا. ويقول لنا الإنجيل المقدس: “عظيمٌ هو سرُّ التقوى: الله ظهر في الجسد” (1تيموثاوس 16:3). المسيح إذاً واحد منا، أخذ طبيعتنا، وصار إنساناً مثلنا، وتجرَّب في كل شيء مثلنا، ما عدا الخطية. إنه النائب عن البشر. إنه ابن الإنسان. ولقد أيد الله السيد المسيح فأعلنه كاهناً يقرب الناس إلي الله ، ثم إنه جاءنا في جسد إنسان مقرباً الله إلينا. ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين، إن الله في الأزمنة الماضية كلَّم آباءنا بواسطة الأنبياء، الذين نقلوا إعلانات جزئية، بطرق عديدة ومتنوعة. أما الآن، في هذا الزمن الأخير، فقد كلَّمنا بالابن، الذي جعله وارثاً لكل شيء، وبه قد خلق الكون كله. إنه ضياء مجد الله، وصورة جوهره. بكلمة قدرته يحفظ كلَّ ما في الكون، وهو الذي بعد مما طهرنا بنفسه من خطايانا، جلس في الأعالي عن يمين الله” (عبرانيين 1). “هذا هو المسيح الذي جاء إلينا، وصار اسمه عمانوئيل بمعنى الله معنا. ذلك لأن هذا الكاهن الأعلى الذي لنا. ليس عاجزاً عن تفهُّم ضعفاتنا، بل إنه قد تعرَّض للتجارب التي نتعرض نحن لها. إلا أنه لم يخطئ قط. فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة، لننال الرحمة، ولنجد نعمة تعيننا عند الحاجة، لأن كاهننا العظيم، السيد المسيح، يفتح لنا الباب لنتقرب إلى الله” (عبرانيين 14:4-16) (ترجمة كتاب الحياة).
امتياز ثلاثي لكهنوت المسيح:
هناك كهنوت في شريعة موسى أمر الرب به، وكان هناك كهنة اختارهم الله، وأمرهم أن يدخلوا إلى قدس الأقداس أولاً، بدم عن أنفسهم، ليكفر كل منهم عن خطية نفسه، ثم يدخل أيضاً بدم ليكفّر عن الشعب. على أن كهنوت السيد المسيح يمتاز عن كهنوت لاوي في ثلاثة أمور على الأقل:
1- أول هذه الامتيازات أن المسيح حي. كان الكهنة العاديون يتغيرون دائماً، لأن الموت كان يمنع أي واحد منهم من البقاء. وأما المسيح فلأنه حي إلى الأبد فهو يبقى صاحب كهنوت لا يزول. وهو لذلك قادر دائماً أن يحقق الخلاص الكامل للذين يتقربون بواسطته إلى الله. فهو في حضرة الله، حي على الدوام ليتضرَّع من أجلهم ويحامي عنهم.
2- ثم أن هناك امتيازاً ثانياً للسيد المسيح على كهنوت العهد القديم، وهو أنه الكامل الذي لم يكن محتاجاً إلى كفارة عن نفسه قبل أن يكفر عن خطايا الشعب. إن المسيح هو الذي لم يخطئ أبداً، وهو الذي واجه أعداءه قائلاً: “من منكم يبكتني على خطية؟” (يوحنا 46:8)، فلم يجسر أحد منهم أن يرد عليه، لأن الذي لم يخطئ قط، ولم يستغفر الله قط. ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: “هذا هو الكاهن الأعلى الذي كنا محتاجين إليه. إنه قدوس لا عيبة فيه ولا نجاسة، قد انفصل عن الخاطئين، وارتفع حتى صار أسمى من السماوات” (عبرانيين 26:7).
3- وهناك امتياز ثالث لكهنوت السيد المسيح على كهنوت التوراة، هو أن ذبيحة السيد المسيح لا تتكرر. لقد كان الكاهن الأعلى، حسب شريعة موسى يدخل كل سنة بدم عن خطية نفسه، ثم بدم عن خطايا الشعب ويكرر هذا سنوياً. أما السيد المسيح فقد قدم نفسه ذبيحة كفارية مرة واحدة. لم يكن محتاجاً أن يكفر عن خطية نفسه، لكنه كفر عن خطايا كل البشر، عندما قدم نفسه من أجلنا على الصليب مرة واحدة – البار عن الأثمة فوجد فداءً أبدياً” (عبرانيين 12:9).
يجعلنا كلنا كهنة:
في زمن التوراة دخل الله في عهد مع شعبه، كان عهد محبة ونعمة، مع أنه لم يكن في الشعب خير، وبدون سبب صالح فيهم يستحقون لأجله أن يحبهم. لكن الله أحبهم فضلاً. وكان الشرط الوحيد للعهد أن يحفظوا وصايا الله. وعندما قرأ موسى لبني إسرائيل كتاب العهد، قالوا: “كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له” فأخذ موسى الدم ورش على الشعب وقال: “هذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال” (خروج 1:24-8). ولكن بني إسرائيل لم يستطيعوا أن يحفظوا العهد، وسقطوا، فجاء السيد المسيح رئيس كهنتنا الأعلى، ودخل في عهد جديد مع شعبه، وقال لنا: “هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي” (1كورنثوس 25:11) وتمت النبوة التي ذكرها كاتب الرسالة إلى العبرانيين عندما قال: “والروح القدس نفسه يشهد لنا بهذه الحقيقة، إذ قال أولاً: هذا هو العهد الذي أبرمه معهم بعد تلك الأيام. يقول الرب: “أضع شرائعي في داخل قلوبهم، وأكتبها في ضمائرهم” ثم أضاف: “ولا أعود أبداً إلى تذكُّر خطاياهم ومخالفتهم” (عبرانيين 15:10-17) (كتاب الحياة).
لم ينفع العهد الأول، عهد شريعة موسى بسبب خطايا الشعب، فجاءنا العهد الثاني، العهد الجديد – عهد الكاهن الأعلى الرب يسوع المسيح – وصار لنا عهد جديد مع الله، هو عهد كفارة. واسمح لي أن أوجه لك هذا السؤال: “هل دخلت في هذا العهد مع الله من خلال السيد المسيح؟ السيد المسيح هو كاهننا الأعلى الذي يقربنا إلى الله، هو الذي يستر خطايانا.. فهل وجدت فيه الستر؟
على أن هناك حقيقة رائعة أخرى، وهي ان السيد المسيح الكاهن الأعلى يجعل كل واحد من أتباعه كاهننا يبني المعبر، ليصل الناس من خلاله إلى الله. في العهد الجديد، عهد الإنجيل، نتمتع ببركة عظيمة، هي أن الله جعل كل المؤمنين بالمسيح كهنة لله. يقول رسول المسيحية يوحنا عن عمل السيد المسيح: “الذي أحبنا، وقد غسَّلنا من خطايانا بدمه، وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه” (رؤيا 5:1 و6 و10:5). إننا نعمل على أن يتصالح الناس مع الله. هل ستر الله خطاياك بفضل ذبيحة المسيح الكاهن الأعظم؟ إذاً أنت كاهن للرب، تعمل تحت رياسته، لتصالح الناس مع الله، ولتدعو البشر جميعاً ليتعرفوا عليه فادياً ومخلصاً.

15- ملك
“ولا يكون لملكه نهاية” (لوقا 33:1)
قال الملاك جبرائيل للعذراء القديسة مريم عندما ظهر لها، ولاحظ اضطرابها من كلامه: “لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله. ها أنت ستحبيلن وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً، وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ولا يكون لملكه نهاية”. هذا هو المسيح الملك. ولقد جاءت نبوة في المزامير على فم النبي داود عن المسيح الملك الآتي تقول: “ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد. من و هذا ملك المجد. الرب القدير الجبار في القتال. ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن وارفعها أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد. من هو هذا ملك المجد. رب الجنود هو ملك المجد” (مز 7:24-10).
ولقد حقق الله نبوة نبيه داود عندما جاء السيد المسيح إلى الأرض ملكاً، بالرغم من أنه مولود في مزود. فقد جاء رجال حكماء من المشرق إلى أورشليم، يتساءلون: “أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له”. فلما سمع الملك هيرودس اضطرب وجميع أورشليم معه، فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: “أين يولد المسيح؟” فأجابوه: “في بيت لحم اليهودية، لأن نبي التوراة ميخا يقول: “وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي” (متى 2) هذا هو المولود الملك الذي يدبر ويرعى شعبه، ويرعى كل من ينتمي إليه. وعندما دخل المسيح إلى مدينة أورشليم في الدخول الانتصاري ، في بداية أسبوع آلامه، أخذت الجماهير تهتف له: “أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب. أوصنا في الأعالي. مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب. أوصنا في الأعالي” (مرقس 11). ولقد كان هذا تحقيقاً لنبوة نبي التوراة زكريا، والتي تقول: “قولوا لابنة صهيون: هوذا ملكك يأتيك وديعاً، راكباً على أتان وجحش ابن أتان” (زكريا 9:9). وعلى الصليب كتب بيلاطس عنوان السيد المسيح “يسوع الناصريُّ ملك اليهود” (متى 37:27). وكانت الكتابة باللغة العبرانية واليونانية واللاتينية، فقال رؤساء كهنة اليهود لبيلاطس: “لا تكتب ملك اليهود، بل إن ذاك قال: “أنا ملك اليهود”. فقال لهم بيلاطس: “ما كتبت قد كتبت” (يوحنا 21:19 و22).
منذ قرنين كتب الموسيقار فردريك هاندل تراتيل “المسيح” وهي القصة الغنائية التي كتبت كلماتها الروح القدس، فقد أخذ فردريك هاندل كلماتها من الكتاب المقدس ولحَّنها. وعندما سمعها ملك بريطانيا لأول مرة وقف وهو يستمع إلى جوقة الترنيم ترتل عن السيد المسيح: “وهو سيملك إلى الدهر والأبد”. وخلع الملك تاجه، لأنه كان يقف في حضرة ملك الملوك يقدم له السجود والعبادة. نعم إن السيد المسيح سيملك إلى الدهر والأبد. ولا يكون لملكه نهاية، كما قال الملاك جبرائيل لأمه العذراء القديسة مريم. لذلك يحقُّ لنا أن نرنم له: “هاتوا له التاج الذي جلَّ عن المثل، وتوجوه وحده رباً على الكل”.
مملكته ليست أرضية:
كان اليهود ينتظرون أن مسيحهم الآتي يكون ملكاً أرضياً، يحكم بلادهم ويحررهم من نير الرومان، ثم يملك على مملكة أرضية، ويجعل شعبهم أعظم شعوب الأرض. وكان هذا الاعتقاد سبب خوف الملك هيرودس من مولد المسيح، لأنه خاف لئلا يأخذ المسيح العرش منه، لذلك قتل كل الأولاد الذين وُلدوا في بيت لحم من عمر سنتين فما دون، ليقتل بينهم الطفل الوليد الذي جاء المجوس ليقدموا له السجود.
وفي مرتين ذكرهما الإنجيل المقدس، نرى احتفال الناس بالمسيح باعتبار أنه الملك الآتي. في المرة الأولى عندما أشبعهم بالخبز، لما أطعم خمسة آلاف نفس، وملأوا اثنتي عشرة قفة من خمسة أرغفة شعير وسمكتين. ويقول لنا الإنجيل: “فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبيُّ الآتي إلى العالم”. وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف إلى الجبل وحده ليصلي (يوحنا 14:6 و15).
وفي المرة الثانية عندما دخل السيد المسيح إلى أورشليم دخوله الانتصاري، وفرش الناس ثيابهم في الطريق، وهم يهتفون من حوله: “مبارك الآتي باسم الرب. مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب” (مرقس 10:11). ظانين أن المسيح جاء ملكاً أرضياً، وسيدخل أورشليم عاصمة مملكته الأرضية – ولكن المسيح بكى على الشعب الذي كان يهتف له، لأنهم مساكين لا يفهمون معنى مُلك المسيح. لا شك أن الشيطان كان يريد أن تكون مملكة المسيح من هذا العالم، لذلك عرض عليه أن يعطيه كل ممالك العالم ومجدها، إن كان يسجد له، ولكن المسيح رفض فكر الشيطان وانتصر عليه. وعندما رفض المسيح مملكة العالم، ولم يتحقق انتصار اليهود فيه، صرخوا لبيلاطس: “ليس لنا ملك إلا قيصر” (يوحنا 15:19). وهزأوا بالمسيح وألبسوه رداء الأرجوان، ووضعوا قصبة في يده كأنها صولجان ملك، ثم وضعوا إكليل شوك على رأسه!
المسيح ملك روحي يملك على قلوب الناس، وإنني أدعوك أن تقبل المسيح المخلص ملكاً لحياتك، ليسيطر على فكرك وتصرفاتك، وليجعل منك إنساناً حسب قلب الله، لتكشف لنفسك المعنى الحقيقي للحياة، لأن مملكته مملكة روحية، يسود فيها على قلوب الناس بالحق والمحبة، ليغير قلوبهم، وليجعل منهم خليقة جديدة. ولا زال الناس حتى اليوم ينتظرون خير الجسد وبركة الجسد، ويظنون أن مملكة المسيح من هذا العالم، مع أنه قال صراحة إن مملكته ليست من هذا العالم.
بركاتنا روحية من الله، وليست جسدية من الأرض. ولا زال كثيرون يحاربون ويريدون أن تنتصر الكنيسة بالعراك والمشاجرة، مع أن المسيح يقول لبيلاطس وهو يحكم بصلبه: “لو كانت مملكتي من هذا العالم، لكان خُدَّامي يجاهدون لكي لا أُسلَّم إلى اليهود، لكن الآن مملكتي ليست من هنا” (يوحنا 36:18).
ملكوت الله:
جاء السيد المسيح ليؤسس مملكة على الأرض، سماها ملكوت الله أو ملكوت السموات، وهو الملك فيها. وحين سأل بيلاطس السيد المسيح: “أفأنت إذاً ملك اليهود؟” أجابه المسيح: “أنت تقول إني ملك. لهذا قد وُلدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق” (يوحنا 37:18) مملكة المسيح إذاً مملكة الحق والقلب، فقد جاء ليملك على قلوب الناس. المسيح ملك يملك بالمحبة والتضحية وليس بالسيف والحرب. كان السيد المسيح ملكاً بغير سيف إلا سيف الحق، وكان ملكاً بغير سلاح إلا سلاح المحبة. ولقد قال الجنرال بوث مؤسس جيش الخلاص: “صرخ اليهود قائلين: إن كان المسيح ملك اليهود فلينزل الآن من على الصليب، فنؤمن به. إلا أننا نحن نقول إننا نؤمن به ونسجد له، لأنه رفض أن ينزل عن الصليب حباً لنا ومن أجل فدائنا”. واليوم يؤمن الملايين بالسيد المسيح، لأنه ملك روحي، ربح العالم بالمحبة والتضحية والخدمة، ولم يحاول أن ينشر تعليمه بالتهديد. ولقد قال المسيح: “وأنا ان ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع”. قال هذا مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يموت، وقال: “الحق الحق أقول لكم: “ن لم تقع حبة الحنطة وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير. من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية” (يوحنا 24:12 و25). ولقد جذب المسيح البشر إليه بحبه، وهو يحبك ويدعوك لأن تختبر هذا الحب الإلهي وأن تعيش فيه. وعندما تدرك أنه أحبك حتى أنه أسلم نفسه لأجلك، فإنك بكل قوتك تقول له: “اجذبني وراءك فنجري”. لقد ارتفع المسيح ملكاً على قلوبنا بموته لأجلنا، فتمجدَّ في حبه غير المشروط لنا. فلنركز النظر عليه. وما أجمل أن نستمع إلى كلمات رسول المسيحية بطرس، والتي تحثنا على أن نملك المسيح على قلوبنا عندما قال: “المسيح الذي تألم لأجلكم، هو القدوة التي تقتدون بها، فسيروا على آثار خطواته. إنه لم يفعل خطية واحدة، ولا كان في فمه مكر. ومع أنه أُهين فلم يكن يردُّ الإهانة، وإذ تحمل الآلام لم يكن يهدد بالانتقام، بل أسلم أمره لله الذي يحكم بالعدل. وهو نفسه حمل خطايانا بجسده عندما مات مصلوباً على الخشبة، لكي نموت بالنسبة لخطايانا فنحيا حياة البر، وبجراحه هو تمَّ لكم الشفاء. فقد كنتم ضالين كخراف ضائعة، ورجعتم الآن إلى راعي نفوسكم” (1بطرس 21:2-25) (ترجمة كتاب الحياة).
ملك المحبة والدينونة:
المسيح ملك المحبة. في مجيئه الأول جاء أرضنا وديعاً مولوداً في مزود، ولكنه سيجيء مرة ثانية ليحكم المسكونة بالعدل. سيأتي قاضياً دياناً. سيجيء ملك العقاب للذين رفضوا مُلكه عليهم وعلى قلوبهم. إنه اليوم يقدم لك رسالة المحبة. لكنه عندما يجيئك ثانية سيعلن أحكام الدينونة على كل من رفضوه، وسيقدم رسالة المجد لكل من قبلوه. ولقد قال السيد المسيح: “أما أعدائي، أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي” (لوقا 27:19). هذا هو الموت الأبدي، الذي يصيب كل من يرفض خلاص المسيح. عندما كان المسيح معلقاً على الصليب، قال واحد من اللصين المصلوبين إلى جواره: “اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك”. فكانت إجابة السيد المسيح عليه: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لوقا 42:23 و43).
أدعوك أن تضع ثقتك في المسيح الملك، وعندما تقول له: “اذكرني يا رب في ملكوتك”. ستستمع إلى إجابته: “ستكون معي في الفردوس” فافتح قلبك لهذا الملك، الذي ارتفع عنك على الصليب، ليجتذبك إليه بدافع الحب. أما إن كنت ترفض مُلك المسيح على حياتك، فإنني أحذرك لأنك تسبب لنفسك الهلاك والموت في يوم الدينونة.
على ان المسيح الملك لم يأت ليدين العالم. بل ليخلُص به العالم. رسالته رسالة خلاص لك، وهو يريد الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. إنه لا يشاء أن يهلك أحد. كُن أنت واحداً من الذين يقبلون خلاصه، فهو يدعوك الآن للنجاة من الدينونة القادمة.
الملك الذي يدبر ويرعى:
لما سأل المجوس عن مكان ولادة المسيح ملك اليهود، استشار الملك هيرودس الذي كان يملك وقتها رؤساء الكهنة، فقالوا له: “سيولد المسيح في بيت لحم اليهودية، لأن نبوة قالها نبي الله ميخا كانت تقول: “وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي” (ميخا 2:5). من هذا نرى أن السيد المسيح هو الملك الذي يدبر. لقد دبَّر خلاصنا عندما رآنا ساقطين في خطايانا، فخلصنا بان مات عنا على الصليب، ودفع أجرة خطيتنا، تحمَّل عقابنا وأطلقنا أحراراً. ولقد قال النبي إشعياء عنه قبل ميلاده بسبعمئة سنة: “كلُّنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه. والرب وضع عليه إثم جميعنا” (إشعياء 6:53). نعم دبر السيد المسيح خلاصنا عندما مات عنا على الصليب، وهو يدبر كل ما نحتاج إليه. وعلمنا أنه إن اتفق اثنان منا على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قبل الآب السماوي (متى 19:18). ودعانا في حب قائلاً: “اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. ارعوا يفتح لكم، لأن كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له”. ثم سألنا: “أيُّ إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزاً يعطيه حجراً، وإن سأله سمكة يعطيه حية؟ فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه” (متى 7:7-11).
السيد المسيح هو الملك الذي يدبر احتياجاتنا، دبَّر خلاصنا، ويدبر كل ما نحتاج إليه من خيرات أرضية. ولقد قال لنا في الموعظة على الجبل: “لا تهتموا لمعيشتكم بشأن ما تأكلون وما تشربون، ولا لأجسادكم بشأن ما تكتسون. أليست الحياة أكثر من مجرد طعام والجسد من مجرد كساء؟ تأملوا طيور السماء: إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يعولها. أفلستم أنتم أفضل منها كثيراً؟ فمن منكم إذا حمل الهموم يقدر أن يطيل قامته ولو مقدار ذراع واحدة؟ ولماذا تحملون همَّ الكساء؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو. إنها لا تتعب ولا تغزل، ولكني أقول لكم: حتى سليمان في قمة مجده لم يكتس ما يعادل واحدة منها بهاء. فإن كان الله هكذا يكسو الأعشاب البرية، مع أنها توجد اليوم وتطرح غداً في التنور، أفلستم أنتم يا قليلي الإيمان أحرى جداً بأن يكسوكم؟ فلا تحملوا الهمَّ قائلين: ما عسانا نأكل، أو ما عسانا نشرب، أو ما عسانا نكتسي؟ فهذه الحاجات كلها تسعى إليها الأمم، فإن أبوكم السماوي يعلم حاجتكم إلى هذه كلها. فهذه الحاجات كلها تسعى إليها الأمم، فإن أباكم السماوي يعلم حاجتكم إلى هذه كلها. أما أنتم فاسعوا أولاً إلى ملكوت الله وبره – فتزداد لكم هذه كلها. لا تهتموا بأمر الغد، فإن الغد يهتم بأمر نفسه. يكفي ك يوم ما فيه من سوء” (متى 25:6-34) (ترجمة كتاب الحياة).
الملك الذي يحكم:
ونقول أيضاً إن السيد المسيح هو الملك الذي يحكم. نصلي في الصلاة الربانية التي علَمها لنا قائلين: “ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك .كما في السماء كذلك على الأرض” (متى 10:6). وفي ختام الصلاة الربانية نقول: “ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد” (متى 13:6). بهذه الصلاة نقول للسيد المسيح: أنت الملك الذي تملك على قلوبنا. أنت صاحب الأمر فينا. ساعدنا لنعمل إرادتك ومشيئتك في الأرض كما يفعلها الملائكة في السماء.
عندما تخضع للسيد المسيح وتدعوه لأن يملك على عرض قلبك، يملك الله على حياتك، ويأتي ملكوته على الأرض كما في السماء. إنه الملك الذي يجب أن يملك على قلبك. إنه صاحب السلطان الذي يجب أن يسود على حياتك. افهم فكره واعرف إرادته. لا تتحارب ولا تتشاجر ولا تنتقم، بل اترك الأمر كله لله، وهو الذي يدبر كل صلاح، ويخرج كالنور برَّك وحقَّك مثل الظهيرة. اخضع له في ثقة، عالماً أنه يحبك، متأكداً أنه يعمل الصالح كله لك.
المسيح هو الملك. اطلب منه أن يملك على حياتك لأن في هذا خيرك الأسمى. لن تستقيم حياتك وأنت تدبر أمور نفسك. اطلب منه هو أن يتولى قيادة حياتك، فتصل سفينة حياتك إلى شاطئ الأمان.

16- حمل الله
“هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يوحنا 29:1 و36)
قال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح مرتين: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم”. فما رأى يوحنا المعمدان السيد المسيح آتياً حتى هتف قائلاً: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم”. ثم قال: “هذا هو الذي قلت عنه إن الرجل الآتي بعدي متقدم عليّ، لأنه كان قبل أن أوجد. وأنا لم أكن أعرفه، ولكني جئت أعمد بالماء لكي يُعْلَن لبني إسرائيل” ثم شهد يوحنا المعمدان قائلاً: “رأيت الروح ينزل من السماء بهيئة حمامة ويستقرُّ عليه، هو الذي سيعمد بالروح القدس. فإذ شاهدت هذا أشهد أنه هو ابن الله”.
وفي اليوم التالي كان يوحنا واقفاً ومعه اثنان من تلاميذه، فنظر السيد المسيح وهو سائر فقال: “هذا هو حمل الله”. وسمع المعمدان اثنان من تلاميذه وهو يقول هذا، فتبعا السيد المسيح. لقد أعلن يوحنا المعمدان أن السيد المسيح هو حمل الله، وكانت شهادته هذه سبب قيادة اثنين من تلاميذه لإتباع السيد المسيح. والتلميذان كانا أندراوس ويوحنا. قاد أندراوس بعد ذلك أخاه بطرس ليتعرف على السيد المسيح، وقاد يوحنا أخاه يعقوب.
السيد المسيح هو الشخص المركزيُّ في الكتاب المقدس كله، بعهديه القديم والجديد – التوراة والإنجيل. ونحن نرى العهد القديم يشير إليه كالمسيح المخلص الآتي. والعهد الجديد يشير إليه باعتبار أنه المخلص الذي جاء. ولقد رسم السيد المسيح لأتباعه فريضة العشاء الرباني، وكلما جلسوا معاً حولها يتذكرون لقب المسيح العزيز عليهم “حمل الله” وأثناء تناول عشاء الرب يرنم المؤمنون: “فكيف أنسى حملاً قد مات عن ذنبي.. واحتمل التعيير والآلام بالصلب؟” هذا هو حمل الله، الذي عرفه الرسول بطرس كتب عنه يقول: “عالمين بأنكم افتديتم بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم” (1بطرس 19:1 و20).
حمل الفداء المُنتظر:
كان اليهود في العهد القديم يقدمون ذبائح للتكفير ع خطاياهم. وكانت هذه الذبائح كله تشير إلى حمل الله، السيد المسيح، الذي سيجيء إلى عالمنا ليوجد فداءً لخطايانا. ولذلك قال السيد المسيح لسامعيه من اليهود: “أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح” (يوحنا 58:8) فقالوا له: “ليس لك خمسون سنة بعد. أفرأيت إبراهيم؟”. فأجابهم: “قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” اسم الجلالة. ولكن قول المسيح كان صادقاً تماماً، فهو فعلاً الكائن من قبل إبراهيم، بل إن إبراهيم كان ينتظر مجيئه إلى عالمنا مخلصاً. ويحدثنا الإنجيل المقدس عن رجل تقي اسمه سمعان الشيخ المسيح الطفل يحمله يوسف ومريم حتى أخذه على ذراعيه، وبارك الله وقال: “أطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك، الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب” (لوقا 29:2).
هذا هو المسيح حمل الله الذي تحدثت عنه نبوات العهد القديم قائلة: “مجروح لأجل معاصينا. مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا” (إشعياء 5:53) وهو الذي انتظره قديسي العهد القديم جميعاً، إبراهيم وسمعان الشيخ – وأنت أيها القارئ الكريم، لا تستطيع أن تتفاداه أو أن تهرب منه. عندما تستمع إلى قول يوحنا المعمدان عن السيد المسيح: هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم، فإننا نشير لك إلى هذا الحمل الذي يجب أن تأخذ موقفاً منه. إنه المخلص الذي رفع ذنوب العالم في جسده على الصليب. هل تذكر كيف طلب الله من خليله إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحةً، ولكنه افتدى ابن إبراهيم بذبح عظيم؟ فقد رأى إبراهيم كبشاً ممسكاً في الغابة بقرنيه، فأخذه وقدمه محرقة بدلاً من ابنه. هذا هو الفداء الذي رمز إلى مجيء السيد المسيح إلى أرضنا، فادياً ومخلصاً.
قال الله إن أجرة الخطية هي موت، وإن النفس التي تخطئ هي تموت. هذا معناه أن كل إنسان خطاء هو مائت لا محالة. وهذا عدل. لكن أين رحمة الله؟ إن كان الله عادلاً فأين رحمته؟ وإن كان رحيماً فأين عدله؟ إن التوراة تقدم لنا شريعة موسى التي قضت بتقديم ذبيحة للتكفير عن خطية الخاطئ، فتموت الذبيحة ليحيا الخاطئ. وهذه كلها رموز للسيد المسيح، الذبح العظيم، الذي مات بدلاً عنا. وفي صليب المسيح تلتقي عدالة الله ورحمته. ويتحقق ما قاله صاحب المزمور الخامس والثمانين: “الرحمة والحق التقيا البرُّ والسلام تلاثما” (آية 10).
حمل الفصح:
عندما كان بنو إسرائيل في مصر، كانوا يسامون سوء العذاب، وأراد الله أن ينقذهم، فأوقع بفرعون ضربات كبيرة. وفي الضربة الأخيرة مات الأبكار – ولكن البكر في بيوت بني إسرائيل لم يمت، لأنهم وضعوا دماً على العتبة العليا لكل باب وعلى القائمتين، في كل بيت كانوا يسكنونه. وقال الله لهم: “فأرى الدم وأعبر عنكم” ولذلك سُميَّت تلك الفريضة فريضة الفصح، بمعنى العبور – أرى الدم وأعبر عنكم (خروج 13:12).
ويقول لنا الإنجيل المقدس إن المسيح هو فصحنا الذي ذُبح لأجلنا (1كورنثوس 7:5). ولقد مات السيد المسيح عن خطايانا ليقدم نفسه ذبيحة كفارية. والدم يستر عيوبنا، لان الدم هو الحياة، فقد سفكت دماء الخاطئ، وكل خاطئ يضع ثقته في السيد المسيح ينال مغفرة خطيته. عندما رأى تلاميذ المسيح سيدهم يعلق على الصليب ربما قالوا: آه لو لم يَثُر غضب الهيكل على السيد المسيح، إذاً لماذا صُلب! لو أن الرعاع طالبوا بإطلاق يسوع، ولم يطلبوا إطلاق اللص القاتل باراباس، لنجا السيد المسيح من الصليب! ربما قال التلاميذ: لو أن يوسف الرامي ونيقوديموس كانا أكثر شجاعة، إذاً لوقفا في مجلس اليهود الأعلى يدافعان عن السيد المسيح، ولأنقذاه من الصليب! وربما قال تلاميذ المسيح: لو أن شيوخ اليهود درسوا نبوات التوراة، إذاً لأدركوا أن السيد المسيح هو المخلص الآتي إليهم، كما سبق أن أدركه المعمدان، فقبلوه مخلصاً لهم، وما أسلموه إلى الرومان ليصلبوه! وربما قال التلاميذ: لو كان بيلاطس أكثر شجاعة، لأنقذ المسيح من موت الصليب! غير أن هذه الكلمات كلها، لو أنها قيلت، ليست صحيحة أيها القارئ الكريم، لأن المسيح جاء إلى عالمنا ليقدم نفسه فدية عن خطايانا، وليدفع أجرة الخطية. لقد دفع هو ثمن إصلاح الخطأ الذي ارتكبناه نحن. فالكتاب المقدس يقول: “بدون سفك دم لا تحصل مغفرة” (عبرانيين 22:9).
هناك مغنية إنجليزية اسمها “كلارا بت Butt ” ذهبت للهند لتفتش عن سلام النفس في معتزل ديني هندي، إسمه أشرم، كان يقيمه الشاعر “رابندرانات طاغور” الذي مات عام 1941 فرحب الشاعر بها. ولما عزمت على السفر شكرته، ثم سألته ما يجب أن تغنيه له، واندهشت عندما قال لها طاغور: رنمي لي: “حين أرى صليب من قضى فحاز الانتصار، ربحي أرى خسارة وكل مجد الكون عار. يا رب لا تسمح بأن أفخر إلا بالصليب، مكرساً نفسي وما أملك للفادي الحبيب”.
الحمل الطاهر:
عندما نفكر في السيد المسيح، حمل الله، نستطيع أن نرى أولاً طهارة المسيح. الحمل طاهر،فإذا سقط حمل في الوحل، قام منه ونفض نفسه، لأنه لا يستطيع أن يتحمل الوحل. والمسيح هو حمل الله الطاهر البريء، الذي لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش. والحمل في براءته لا يؤذي ولا يضر، لكنه لطيف وديع. يقول السيد المسيح: “احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم” (متى 29:11). ويكتب لنا الرسول بولس: “أطلب إليكم بوداعة المسيح وحلمه” (2كو 1:10). فالمسيح هو الحمل الطاهر الوديع، لا يؤذي أحداً، بل كله محبة وكمال. هو الذي قال لأعدائه: “من منكم يبكتني على خطية؟” (يوحنا 46:8) فلم يستطع أحد أن يجاوبه. وهذا يعني أن المسيح لم يكن لديه أدنى إحساس بالخطأ، فهو الكامل في أعماقه وفي مظهره. تقدم لنا التوراة قصص الأنبياء، فتبين لنا أن الأنبياء سقطوا في نواحي قوتهم. لقد سقط موسى في قوته عندما ضرب الصخرة بدل أن يكلمها، وسقط داود في طهارته، وسقط إيليا في شجاعته عندما طلب الموت لنفسه، وسقط أيوب في صبره عندما تذمر على الآلام التي اجتاز فيها. وسقط المعمدان في إيمانه عندما شك أن السيد المسيح هو المخلص الآتي إلى العالم، فأرسل يسأله: “هل أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟” أما السيد المسيح فهو مثال الطهر والنقاء. كانت شريعة موسى توجب على الشخص الذي يقدم ذبيحة أن يقدم حملاً بلا عيب، لتكون ذبيحته مقبولة. والسيد المسيح هو الحمل الذي بلا عيب، صاحب الذبيحة المقبولة قدام الله.
كانت شريعة موسى تعلم أن اليهودي الذي يحضر حملاً ليقدمه محرقة يجب أن يقدم حملاً بلا عيب، والمسيح وحده هو الحمل الذي بلا عيب وبلا دنس. ثم كان على الخاطئ أن يضع يده على الحمل، وكأنه يعترف بخطيته، وينتظر أن يكون الحمل بديلاً عنه، يأخذ مكانه ويح محله. ثم كان الكاهن يضع من دم الذبيحة على قرون المذبح، ويصب باقي الدم إلى أسفل المذبح، حتى يرى الله الدم فيغفر للخاطئ التائب المعترف. وتقول التوراة: “ويكفر عنه الكاهن من خطيته التي أخطأ، فيصفح عنه” (اللاويين 32:4-35). وفي يوم الكفارة العظيم، الذي كان شعب الرب يحتفل به مرة كل سنة، كان الكاهن يربط خيطاً قرمزي اللون في قرن المذبح، ثم يقدم الذبيحة، حتى يغفر الله للشعب الخطايا المعروفة وغير المعروفة. وكانوا يقولون إن لون الخيط القرمزي كان يتغير ويصير أبيض اللون بعد أن يقدم الكاهن الذبيحة، علامة على أن الله قبل توبة الشعب وغفر لهم خطاياهم.
ونحن أيها القارئ الكريم لا نعرف إن كان لون الخيط يتغير أو لا يتغير، لكننا نعلم أن الذي يجيء إلى الله بالتوبة، يغسل الله قلبه ويتمُّ فيه وعد الرب الذي قال للتائبين: “هلم نتحاجج يقول الرب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف.. لأن فم الرب تكلم” (إشعياء 18:1 و19). إننا ندعوك أن تضع ثقتك في ذبيحة المسيح الكفارية عنك، لأن موته الفدائي يرفع عنك حكم الموت. إن الله لا يتقاضى أجرة الخطية مرتين. فإن كنت تضع ثقتك في السيد المسيح، الذي بذل نفسه عنك، فإن موته يكون موتك، وحياته تصبح حياتك وكفارته تستر خطيتك. فقد قال هو: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يوحنا 16:3).
الحمل المنتصر:
صحيح أننا نجد في الإنجيل أن الحمل يموت من أجل البشر لكي يمنحهم الحياة. ولكننا نجد أيضاً في الإنجيل صورة الحمل القوي الغالب. ففي سفر الرؤيا يقول الرائي: “رأيت وإذا وسط العرش والحيوانات الأربعة، وفي وسط الشيوخ، حمل قائم كأنه مذبوح، له سبعة قرون وسبعة أعين،هي سبعة أرواح الله المرسلة إلى كل الأرض” (رؤيا 6:5). والقرون رمز القوة، والعيون رمز المعرفة بكل شيء في الأرض والسماء. ولا عجب، فهذا الحمل المذبوح هو وحده الذي استطاع أن يفك الختوم، ويعلن أسرار التاريخ، وله يسجد الجميع في عبادة قائلين: “مستحق هو الحمل المذبوح، أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة”. هذا الحمل هو الغالب الذي سيسقي الذين يرفضونه كأس الغضب، لأنهم رفضوا خلاصه المجاني. وقد يظن أعداء السيد المسيح أنهم ينتصرون عليه، فيقول لنا في سفر الرؤيا إنهم يحاربون الحمل، والحمل يغلبهم لأنه رب الأرباب وملك الملوك، والذين معه مدعوون ومختارون ومؤمنون.
من الغريب أن الحمل الوديع الذي قبل أن يسفك دمه من أجل خلاص الناس، يصير في اليوم الأخير حملاً غاضباً على كل من يرفض خلاصه، فيهلك ويدين، حتى يصرخ الذين رفضوا قائلين للجبال والصخور: “اسقطي علينا وأخفينا عن وجه الجالس على العرش، وعن غضب الحمل، لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم، ومن يستطيع الوقوف؟” (رؤيا 16:6).
يقولون إن الملك “تيجرينز Tigranes ” ملك أرمينيا وعائلته، أخذوا أسرى أمام الإمبراطور “بومباي” في القرن الأول قبل الميلاد، ليحكم عليهم بالموت، وطلب الملك “تيجرينز” أن يطلق الإمبراطور أهله أحراراً وأن يموت هو. فأعجب الإمبراطور “بومباي” بشجاعة “تيجرينز” وسامح الجميع. وفي طريق العودة للمنزل سأل تيجرينز زوجته: “ماذا تظنين في الإمبراطور؟” أجابته: “الحقيقة أنني لم أره بالمرة”. فتعجب وقال لها: “لم تريه؟! أين كانت عيناك؟!” فأجابته: “كانت عيناي مثبتتين على من عَرَّض حياته للموت من أجلي”.
لقد مات السيد المسيح من أجلك على الصليب، ليكفر عن خطيتك. أدعوك أن تثبت عينيك عليه، فهو المخلص، حمل الله، الذي دفع ثمن خطيتك.

17- الكلمة
“في البدء كان الكلمة” (يوحنا 1:1)
“الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب
والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم
واحد” (1يوحنا 7:5)
الإنجيل إنجيل واحد، لكن الذين يروونه أربعة – ومعنى كلمة “إنجيل” خبر مفرح. والخبر المفرح واحد، وهو أن السيد المسيح جاء إلى العالم. لكن رواة هذا الخبر هم متى ومرقس ولوقا ويوحنا. وقد روى متى الإنجيل مبتدئاً بأن يسوع هو من نسل إبراهيم وداود، وتتبَّع سلسلة النسب إلى اثنتين وأربعين حلقة، ليبرهن أن يسوع هذا هو المخلص الذي تنبأ أنبياء التوراة بمجيئه. أما مرقس فروى الإنجيل مبتدئاً بخدمة يسوع، ليبرهن أن صاحب السلطان هو المخلص الذي ينتظره العالم. أما لوقا فروى الإنجيل بادئاً بأن يسوع هو من نسل آدم، فهو مخلص الجنس البشري كله. أما الإنجيل كما رواه القديس يوحنا فيبدأ بأن المسيح هو الأزلي، الذي من البدء “في البدء كان الكلمة (كان ولم يزل)، والكلمة كان عند الله (كان عند الله ولم يزل)، وكان الكلمة الله (كان الله ولا يزال)”.
المسيح كلمة الله، وهذا لا يعني أن المسيح هو الكلمة التي نطق الله بها بفم أنبيائه، ولكنه هو ذات الله المتكلم. لقد كلم الله البشر في زمن التوراة بالأنبياء، لكنه كلمنا في الأيام الأخيرة في المسيح. فمن سمع المسيح فقد سمع الله بالذات، ومن رأى المسيح فقد رأى الله نفسه (عبرانيين 1:1 ويوحنا 9:14).
الكلمة الأزلي:
نتأمل لقب المسيح أنه الكلمة. ويتبادر إلى ذهننا سؤال: هل الكلمة مخلوق أم أزلي؟ يقول المسيحيون إن المسيح أزلي، فقد تنبأ النبي ميخا في التوراة عن مكان ميلاد المسيح قبل حدوثه بسبعمئة سنة، وقال إنه سيولد في بيت لحم “ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل” (ميخا 2:5) وهذا يعني أنه الله. فالله هو الأزلي. “في البدء كان الكلمة” والقول إن المسيح كلمة الله مخلوق وليس أزلياً يعرضنا لخطأ كبير، وهو أن الله قبل الخلق كان بغير كلمة وبغير روح وهذا ما لا يتصوره أحد، وما لا يقول به أحد. المسيح كلمة الله إذاً أزلي. “الكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله” (يوحنا 1:1).
المسيح إذاً موجود من قبل الخليقة. موجود من قبل ولادته من مريم العذراء. مولود ولكن غير مخلوق، ولا بداية له. هو واجب الوجود، الأزلي.
الكلمة شخص:
في البدء كان الكلمة، وكان “الكلمة الله” – المسيح هو كلمة الله. وليس المقصود بالكلمة صفة، وليس المقصود بها الوحي الإلهي، لأن الإنجيل يقول: “والكلمة صار جسداً وحل بيننا” إذاً الكلمة شخص، يتحدث عنه بصيغة المذكر – وهذا ما نجده عن المسيح الملقب بالحكمة، في سفر الأمثال من التوراة، إذ يتحدث الحكمة عن نفسه بصيغة المذكر فيقول: “منذ الأزل مُسحت، منذ البدء، منذ أوائل الأرض. لما ثبَّت السموات كنت هناك أنا. كنت عنده صانعاً، وكنت كل يوم لذته فرحة دائمة قدامه” (أمثال 23:8 و27 و30).
وتلقيب المسيح بالكلمة ينفي عن المسيح أية نسبة جسدية للآب السماوي، فليس هناك توالد بشري. الكلمة ابنة العقل، وهي في العقل. تصدر منه لتتجسَّد حروفاً مكتوبة، أو صوتاً مُذاعاً.. لكن الكلمة تبقى في العقل ولا تنفصل عنه. وفي هذا يقول المسيح: “ليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يوحنا 13:3) فالمسيح في الأرض والسماء بوقت واحد – لأن الكلمة في عقل صاحبها، وإن تجسدت حروفاً.
ويحق للمسيح أن يلقَّب بالكلمة، لأن الله كلََّمنا به، وأعلن لنا فيه أفكاره ومشيئته، كما أن كلمة الإنسان تعلن أفكاره ورغباته. وقد أعلن لنا المسيح بتعليمه وحياته وأعماله من هو الله، حتى أنه قال: “الذي رآني فقد رأى الآب” (يوحنا 9:14). ويقول لنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين في الإنجيل: “الله في الأزمنة الماضية كلم آباءنا بواسطة الأنبياء، الذين نقلوا إعلانات جزئية بطرق عديدة ومتنوعة. أما الآن في هذا الزمن الأخير فقد كلَّمنا بالابن، الذي جعله وارثاً لكل شيء، وبه قد خلق الكون كله. إنه التعبير المتألق عن مجد الله، والصورة المطابقة لجوهر الله. بكلمة قدرته يحفظ كل ما في الكون” (عب 1:1-3) (ترجمة كتاب الحياة)
وقولنا إن المسيح هو كلمة الله يؤكد لنا أنه هو الله الذي في الجسد، لأن الله وحده هو الذي يعرف أفكار الله ويعلنها ، كما يقول الإنجيل: “مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟ هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله” (1كو 11:2) وقال المسيح: “ولا أحد يعرف الآب إلا الابن” (متى 27:11).
غير المسيح من الأنبياء قالوا: “هكذا قال الرب” – وبهذا نالوا السلطان ليعلنوا كلمة الله – أما المسيح فهو كلمة الله، الذي قال: “الحق الحق أقول لكم” فكان يتكلم بسلطان نفسه. وواضح أننا نعرف شخصية الإنسان حين نسمعه يتكلم، فتعلن كلمته جنسيته وثقافته واهتماماته. والمسيح كلمة الله أعلن صفات الله وشخصيته – وهذا ما لم يقم به أي نبي، لذلك يقول الإنجيل “الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبَّر” (يوحنا 18:1).
الكلمة شخص متميز:
ويقول الإنجيل: “والكلمة كان عند الله” ، ويقول عنه: “الذي هو في حضن الآب” وهذا يعني أن المسيح شخص متميز عن الآب. ويعني أمراً آخر: أن هناك اتحاداً كاملاً واتفاقاً تاماً بين المسيح الكلمة وبين الله في كل رأي وقضاء وعمل. فللمسيح ذات المجد والعظمة والكرامة التي للآب، وهذا واضح من قول المسيح: “والآن مجِّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” وقول السيد المسيح: “أنا والآب واحد” (يوحنا 5:17 و30:10).
ويمضي الإنجيل فيقول: “وكان الكلمة الله”. والإنجيل يعني أن المسيح ليس ملاكاً ولا مخلوقاً أقل من الآب، لكنه مساوٍ للآب في الجوهر،له صفات الآب نفسها، وله قوة الآب واستحقاقه للإكرام والطاعة والعبادة التي يستحقها الآب.
وعندما تقول فاتحة إنجيل يوحنا: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلم الله”. تتضح لنا ثلاثة أمور. أولاً: أزلية الكلمة. ثانياً: أن المسيح شخص قائم بذاته متحد بالآب. ثم أن لاهوت المسيح حقيقي، لأنه والآب واحد في الجوهر. فإذا تساءلنا: متى كان الكلمة؟ جاوبنا: إنه من الأزل، لأنه عند بدء الكون كان. وإذا سألنا: أين كان الابن؟ نجاوب: عند الآب. وإذا سألنا من هو الكلمة؟ نجاوب: “هو الله. فليس المسيح مخلوقاً أقل من الخالق، وليس المسيح مجرد رجل كامل في صفاته، ولكن هو الكلمة الذي كان في البدء عند الله. ففي البدء الذي لا بدء له كان الاتحاد بين الآب والابن. ولذلك قول مطلع سفر التكوين إن الآب قال للابن: “نعمل الإنسان على صورتنا، كشبهنا” (تكوين 26:1) ولم يكن ممكناً للابن، كلمة الله، أن يعلن للبشر أفكار الله، إلا لأنه كان في البدء عند الله، يعرف أفكار الله منذ الأزل، ولذلك قال: لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب” (يوحنا 23:5).
وفي فاتحة إنجيل يوحنا نقرأ: “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” فالعالم كله بما فيه من مادة وروح خُلق بالكلمة. والخَلق كما نعلم يخص الله وحده. “وبغيره لم يكن شيء مما كان، فيه كانت الحياة” والإحياء عمل أعظم من خلق المادة. إنه مختص بالله وحده فللمسيح حياة في ذاته، وهو مصدر الأحياء جميعاً. فقبل ظهور الخليقة كانت للمسيح حياة في ذاته، ولقد أعطى الحياة لبعض ما خلق. إن هذه الآيات في فاتحة الإنجيل كما رواه يوحنا تُرينا المسيح في جلاله الذاتي، فهو منشئ الخلق، وهو علَّة الخلق، وهو نبع الخلق ومصدره.
سلطان المتكلم:
تحمل الكلمة كل سلطان المتكلم، فهي ليست صوت صارخ في البرية أو في العالم. لكن الكلمة إرادة عمل، تنقذ وتُجري مشيئة المتكلم، كما يقول المرنم في مزموره المئة والسابع والأربعين: “يرسل كلمته في الأرض، سريعاً جداً يجري قوله” كانت كلمة الله قوة في خلق العالم. قال الله: ليكن نور فكان نور”. ويقول صاحب المزامير: “بكلمة الرب صُنعت السماوات وبنسمة فمه كل جنودها، لأنه قال فكان، هو أمر فصار”.
وكلمة الله قوة تشفي كما قال المرنم: “أرسل كلمته فشفاهم ونجاهم من تهلكاتهم” (20:107) وسلطان كلمة الله كامل فيقول الله: “هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إليَّ فارغة، بل تعمل ما سُررت به، وتنجح فيما أرسلتها له” (إشعياء 11:55). وكلمة الله تعاقب وتدين كما يقول الله على فم النبي هوشع في التوراة: “أليست هكذا كلمتي كنار يقول الرب، وكمطرقة تحطم الصخر” (إرميا 29:23).
والسيد المسيح كلمة الله يحمل سلطان الله وقته، فهو الذي خلق العالم، وبغيره لم يكن شيء مما كان. ويقول رسول المسيحية بولس: “لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به” (1كو 6:8).
تحدث الفيلسوف اليوناني “هيراقليتس” في القرن السادس قبل الميلاد عن التغيير الذي يجري باستمرار في العالم، فقال: “إنك لا مكن أن تعبر نفس النهر مرتين، لان ماءه الجاري لا يتغير”. لكن الفيلسوف اليوناني لاحظ أن قوانين الطبيعة ثابتة، والبذرة الواحدة تعطي دوماً نفس الثمرة. وسأل نفسه: من الذي يحفظ نظام الكون الثابت وسط هذا التغيير؟ وكان جوابه: إنه الكلمة! هو العقل الذي يعتمد عليه كل نظام الكون: المسيح كلمة الله الذي كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان، فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس.
الكلمة تجسَّد:
“في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. و الكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً” (يوحنا 1:1 و14). هذه الآيات تفيد أن الكلمة كان في البدء وكان عند الله، وكان الله. وقد صار جسداً، ولم يكن كذلك من قبل، لكنه أخذ جسداً كأجسادنا ليعلن لنا الله بوضوح كامل. كان المسيح في العالم بالروح خالقاً وحياة ونوراً، وهو يفعل في قلوب الناس وضمائرهم. ولكنه في ملء الزمان أخذ طريقاً جديداً لإعلان الله، بأن أضاف الطبيعة البشرية إلى طبيعته الإلهية، وذلك في سر التجسد الذي يقول فيه الإنجيل: “وبالإجماع عظيمٌ هو سر التقوى الله ظهر في الجسد” (1تيموثاوس 16:3). والقول: “الكلمة صار جسداً” لا يعني التحول، فهو ليس مثل قولنا: “صار الطفل رجلاً” – أي أنه لم يعد بعد طفلاً – لكنها تفيد “الاتخاذ” أي ان الكلمة أخذ جسداً وصار إنساناً، دون أن يتغير في لاهوته. فلاهوت المسيح ملازم لإنسانيته من غير انفصال ولا امتزاج. فالتجسد حقيقة تاريخية. الكلمة صار جسداً، بمعنى أنه أخذ جسداً وحلَّ بيننا.
كان الله يحل بين الأمة اليهودية في خيمة الاجتماع، إلا أن تلك الخيمة كانت زائلة. أما هذه الخيمة الجديدة، جسد المسيح، فقد تمجدت بعد قيامة المسيح من بين الأموات، وها هو المسيح بناسوته ولاهوته في السماء الآن. فالتجسُد جواب الله على أشواق البشر ومحطُّ آمالهم، وبالمسيح تكون للبشر شركة حقيقة مع الله. لقد أخذ المسيح جسداً حقيقياً، هيئة خارجية وقتية فقط. جاء المسيح لكي يكون مثل إخوته البشر في كي شيء فأمكنه أن يتألم ويتجرب ويتعلم وينمو ويصلي ثم يموت كسائر الناس. ولقد أطلق المسيح على لقب ابن الإنسان. لقد صار الكلمة جسداً عن طريق ولادته من مريم العذراء، إذ حبلت به بطريقة معجزية بالروح القدس. ولم يكن المسيح يختلف عن سائر البشر في شيء إلا أنه كان بلا خطية. وعندما اتخذ المسيح جسداً بشرياً لم تضع منه صفات اللاهوت. كل ما حدث أن علامات اللاهوت كانت مختفية خلف حجاب الجسد، إلا عندما أجرى معجزاته ليُثبت دعواه الإلهية. وعندما صار الكلمة جسداً شارك الإنسان في كل انفعالاته. فالمسيح باعتبار أنه إله وإنسان معاً، عاش على الأرض وتألم ومات وقام وصعد إلى السماء، وهو جالس الآن عن يمين الله يشفع فينا.
قال الملاك جبرائيل ليوسف خطيب مريم: “لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم، وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا، ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا” (متى 20:1-23).
جاءنا الكلمة إنساناً وصار جسداً وحل بيننا، وسكن أرضنا نحو ثلاث وثلاثين سنة، وسكن خصوصاً بين تلاميذه بعد ذلك الوقت، حتى قال عنه الرسول يوحنا في فاتحة رسالته الأولى بالإنجيل: “الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه و لمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة” (1يوحنا 1:1) لقد صار الكلمة جسداً وحلَّ بيننا حتى رأى تلاميذه مجده. رأوا مجد المعجزات التي أجراها المسيح، حتى يقول الإنجيل: “وأظهر بها مجده فآمن به تلاميذه” وأظهر المسيح لتلاميذه مجد صفاته، وهو يعطف على البائسين ويطلق الأسرى أحراراً من سجن الخطيئة. وأعلن المسيح لتلاميذه مجده الخاص على جبل التجلي عندما جاء موسى وإيليا يتحدثان معه عن صليبه. ورأى يوحنا وبطرس ويعقوب ذلك المجد على جبل التجلي. ورأى التلاميذ مجده عندما صعد أمامهم إلى السماء. وكان التلاميذ في ذلك متفرداً لا شبيه له، ولا يدانيه أحد، حتى يقول الإنجيل: “ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب”.
وحيد الآب:
يُسمَّى المسيح كلمة الله الذي صار جسداً “وحيد الآب” تمييزاً عن أولاد الله الذين يُنعم الله عليهم بالتبني عندما ينالون الولادة بواسطة إيمانهم بالمسيح، إذ يقول الإنجيل عنهم: “أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه” (يوحنا 12:1). فالمسيح وحيد من الآب، واحد أزلي، رأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب وسُمِّي “ابن الله” ليس لأنه وُلد من الله كولد من والدين بشرين، ولكن لأن لقب “ابن الله” هو اسمه منذ الأزل. ويحمل هذا الاسم الأزلي معان:
1- يعني الشبه التام بينه وبين الله.
2- ويعني المساواة الكاملة في المجد والإكرام.
3- ويعني إعلان المحبة بين الأقنوم الأول والأقنوم الثاني من اللاهوت.
والمسيح مملوء نعمة وحقاً، وكان قبل التجسد خالقاً ونوراً وحياة، وعند تجسُّده ظهر مملوءاً نعمة وحقاً في طبيعته وفي قوله وفي عمله. فالنعمة والحق صفتان لله تميزان عن خليقته. والمسيح باعتبار كونه كلمة الله أعلن النعمة والحق للناس. جاء المسح ببشارة النعمة، ليُظهر محبة الله للخطاة الهالكين، ليغفر خطيتهم ويخلصهم. وأتى بإعلان حق الله الروحي الواضح للناس جميعاً، فالمسيح هو كلمة الله الذي صار جسداً وحلَّ بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءٌ نعمة وحقاً.
الكلمة حكمة الله:
المسيح هو الكلمة، فهو حكمة الله. إنه العقل والفكر الذي يحيا في فكر الله. ولذلك يقول رسول المسيحية بولس: “نحن نكرز بالمسيح مصلوباً، قوة الله وحكمة الله” (1كورنثوس 23:1 و24). ويقول: “المسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله و براً وقداسة وفداء” (1كورنثوس 30:1). إن المسيح هو الكلمة الذي يقف من وراء الكون يحفظ وحدته واستمراريته، فإن كل الأشياء بإرادته كائنة وخُلقت، كما يقول سفر الرؤيا 11:4.
المسيح هو كلمة الله الذي أعلن لنا الحكمة الإلهية، وكشف لنا أسراراً أعظم مما نستطيع أن ندرك، مثل الاتفاق بين عدل الله ورحمته في الصليب ، فإذا غفرنا للخاطئ أسأنا إلى رحمة الله. أما في الصليب فقد تلاقت العدالة مع الرحمة، وتمكنَّا من إيجاد مغفرة للخاطئ على أساس كفارة المسيح. إن المسيح هو كلمة الله وحكمته لأنه أوضح لنا ما كان مبهماً من أمور العناية الإلهية، وبيَّن لنا مستقبل نفس الإنسان. فالمسيح قد أنار لنا الحياة والخلود بواسطة الإنجيل. أنار لنا الحياة الحاضرة بتعليمه وبمثال شخصيته، ثم بسكناه في قلوبنا ليغيرها. وأنا لنا الخلود عندما عبر نهر الموت ووقف في الجانب الآخر منتصراً حتى يستطيع المؤمن أن يقول: “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟” (1كورنثوس 55:15). بالمسيح كلمة الله أعطانا الحكمة الإلهية.
الكلمة قوة الله:
عندما نقول إن السيد المسيح هو كلمة الله نعني أن المسيح قوة الله. فالكلمة تحمل سلطان قائلها، وكانت القوة تخرج منه دائماً لتشفي المريض، ولتتوب الخاطئ، ولتقيم الميت، ولتأمر الشيطان ليخرج من الجسد الذي احتله، كما يقول المزمور الثالث والثلاثون: “بكلمة الرب صُنعت السماوات وبنسمة فيه كل جنودها، لأنه قال فكان، هو أمر فصار”.
المسيح كلمة الله بمعنى أنه يحمل كل سلطان الله. ولقد حمل السلطان خالقاً. إنه يخلق من الطين، وكل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان. وفي قوة المسيح وسلطانه يحفظ للكون استمراره، كما يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين حاملُ كل الأشياء بقدرته”. والمسيح يحمل سلطان وقوة الشفاعة، فإنه شفيع كل من يلوذ به ويضع ثقته فيه، كما يقول الإنجيل: “لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله و الناس الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع” (1تيموثاوس 5:2 و6). المسيح إذاً صاحب السلطان لأنه كلمة الله في قوتها.
الكلمة يعلن الله:
عندما نقول إن المسيح هو كلمة الله نعني أنه حكمة الله وقوة الله، كما نعني أنه هو الذي يعلن لنا الله. يقول الإنجيل إن الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبّر. قال الله لموسى: “الإنسان لا يراني ويعيش” (خروج 20:33). وقال المسيح عن الله: “لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته” (يوحنا 37:5). أما المسيح كلمة الله فهو الذي أعلن لنا من هو الله، وقال لفيلبس: “الذي رآني فقد رأى الآب. فكيف تقول أنت أرنا الآب؟ ألست تؤمن أني في الآب والآب فيَّ” (يوحنا 9:14 و10).
كم نشكر الله أنه لم يتركنا في ظلام، ولكنه أعلن نفسه لنا، وكشف لنا عن محبته وأمانته، وأظهر لنا كل ما نحتاج أن نعرفه عنه في المسيح الذي هو صورة الله غير المنظور (كولوسي 15:1) والإعلان الكامل لفكر الله. كما أنه بهاء مجده ورسم جوهره (عبرانيين 3:1) وكما توضح كلماتنا ما يدور في عقولنا، هكذا يوضح لنا المسيح الله نفسه، فلقد فسَّر لنا مشيئة الله، وأعلن لنا طريق الخلاص وما يطلبه الله منا ليعطينا مغفرة خطايانا.
ندعوك أن تعرف المسيح معرفة القلب، لتستطيع أن تقول مع الرسول يوحنا: “الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا. الذي رأيناه و سمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضا شركة معنا وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً” (1يوحنا 1:1-4).