أسماء الله

في الكتاب المقدس

تأليف
الدكتور القس منيس عبد النور

مقدمة

كان اسم الشخص في العصر القديم يدل على شخصيته وعلى صفات خاصة فيه، فقد دُعي يعقوب بهذا الاسم لأنه خرج من بطن أمه ويده قابضة بعقب أخيه التوأم عيسو، كما أنه تعقَّب أخاه وأخذ بركته. ودُعي عيسو باسم «أدوم» لأنه حين وُلد كان أحمر الجسم كفروة شعر (راجع تكوين 25:25، 26). وحين تقابل يعقوب مع الله غيَّر الله اسمه إلى «إسرائيل» التي معناها «أمير مع الله» وهكذا صار المتعقِّب أميراً، ودلَّ الاسم الجديد على التغيير الذي طرأ على شخصيته (تكوين 32: 28).
وقد وردت لله أسماء مختلفة في الكتاب المقدس، يحمل كل اسم منها صفة خاصة من صفاته.. ولكن كيف نجد وصفاً كاملاً لله؟ إن سماء السموات لا تسعه، فكيف ببضعة أسماء قليلة؟ وقديماً سأل موسى الله حين دعاه ليذهب ويخلّص الشعب المأسور: «هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِلَهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟» (خروج 3: 13).
فكيف كان موسى ينتظر أن يسمع اسماً محدوداً واحداً للإله الغير محدود؟
إننا لا نقدر أن نفهم موسى إلا إذا رأيناه من زوايا كثيرة: الجندي والنبي والمشرع والقائد والحليم.. وهكذا لن نفهم الله إلا إذا رأيناه من زوايا مختلفة. وأسماء الله في الكتاب المقدس تكشف لنا بعض هذه الزوايا.
غير أن معرفة الله لن تكون كاملة إلا في المسيح وبالمسيح.. فقال قد قال هو للآب في صلاته الشفاعية: «أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ.. وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ، وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ» (يوحنا 17: 6، 26).
وما أجمل ما قاله كاتب العبرانيين: «اللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ – الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ. الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي» (عبرانيين 1: 1-3).
وهكذا فإننا في المسيح نعرف الله، لأن «ااَللَّه لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ».
قال موسى لله: «أَرِنِي مَجْدَكَ» فقال له: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ» (خروج 33: 18، 20) ذلك لأن الله « نَارٌ آكِلةٌ» (تثنية 4: 24) وهو «نور» (1يوحنا 1: 5) وهو «شمس» (مزمور 84: 11) وهو اللابس النور (مزمور 104: 2) كما أنه «سَاكِن فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ» (1تيموثاوس 6: 16).
لكن الله ظهر في الجسد، فالمسيح هو «بهاء مجد الله» الذي قال لفيلبس: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يوحنا 14: 9) حقاً «لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (2كورنثوس 4: 6).
«وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا 1: 14) ولا عجب فإن المسيح «اَلَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ» (كولوسي 1: 15) «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي 2: 9).
والآن ونحن نتقدم لندرس هذا الموضوع المقدس لننظر إلى الله في وجه يسوع المسيح، فنعرفه المعرفة الاختبارية التي تقودنا إلى الحياة الأبدية، وهي «أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا 17: 3) فيقول المؤمن منّا: «لأَعْرِفَهُ» (فيلبي 3: 10).

(1)
«إلوهيم»
(الله)

ورد اسم الله في التوراة «إلوهيم» فجاء في فاتحة سفر التكوين: «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ (إلوهيم) السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (تكوين 1: 1).
وقد تكرر ورود هذا الاسم 2555 مرة في الكتاب المقدس، 32 مرة منها في الأصحاح الأول من سفر التكوين وحده. واقترن اسم إلوهيم باسم يهوه في بعض المرات، وتُرجم عندنا «الرب الإله». كما ورد وحده، أو ورد اسم يهوه وحده. وقد لاحظ دارسو الكتاب المقدس هذه التسمية منذ القرن الثاني عشر، ولكنهم لم يعلّقوا عليها. وفي القرن الثامن عشر الميلادي ادَّعى عالِمٌ لاهوتي ألماني ليبرالي أنه عثر على سر هذا الأمر، فقال إن سفر التكوين لم يكتبه كاتبٌ واحد بل كتبه اثنان.. عرف أحدهما الله باسم «إلوهيم» وعرفه الآخر باسم «يهوه» وكتب كل منهما قصة الخلق. ثم جاء كاتب ثالث فوحَّد القصتين في قصة واحدة، أورد فيها اسم إلوهيم واسم يهوه منفصلين أو مجتمعين. وتبعه علماء ليبراليون آخرون ادَّعوا في تعليقاتهم النقدية أن ستة كتّاب مختلفين كتبوا سفر التكوين، ثم جاء محرر جمع هذه المخطوطات المختلفة، وأخرج منها سفر التكوين كمما هو معنا اليوم!
والحقيقة أن كثرة المعرفة والتحليل النقدي قادت أولئك الناقدين إلى الهذيان، فإن أفكارهم استنتاجات شخصية لا برهان عليها. كما أننا يجب ألاّ نطالع كلمة الله بدراسة نقدية، بل بتأمل تعبدي.. فكل تسمية لله لها معناها الروحي الخاص، والكاتب الملهَم بوحي الروح القدس قصد قصداً روحياً سامياً من تسمية لله باسم «إلوهيم» كما سنبحث في الفصول التالية التسميات المختلفة لله ومعانيها الروحية، وكل اسم منها يحمل صورة خاصة لصفة من صفات الله، كما قد يحمل أكثر من صورة.
وتسمية الله باسم «إلوهيم» تحمل عدة معان.. فقال بعض علماء اللغة العبرية القديمة إن هذا الاسم مشتق من الأصل العبراني «إيل» الذي يعني القوة، والدوام. فيكون معنى اسم «إلوهيم» الله القوي الأزلي الأبدي..
وقال آخرون إن هذا الاسم مشتق من الأصل «آلاه» وهو فعل عبراني يعني الحلف والمعاهدة، فيكون معنى اسم «إلوهيم» إله العهد.
وهناك رأيان آخران ولو أنهما لا يلقيان القبول الكامل، لأن أساسهما غير قوي: رأي يقول إن الاسم «إلوهيم» مشتق من الأصل «أول» بمعنى الرائد والمتقدم والقائد، فيكون الله هو الأول والأصل؛ والرأي الثاني يقول إنه مشتق من أصل «إلـ» وتعني الهدف، فيكون المقصود أن الله هو هدف الإنسان الأسمى، وأنه تعالى محل أشواق قلوب البشر.
وسندرس في هذا الفصل المعنيين الأولين، لأنهما المعنيان الأكثر شيوعاً وقبولاً.

1- إلوهيم، الله القوي
قد تكون تسمية الله «إلوهيم» مشتقة من الأصل العبراني «إيل» الذي يعني القوة، والعزة، والارتفاع.
وقد جاء اسم الجلالة «إيل» 250 مرة في الكتاب المقدس حين قصد الكاتب الملهم أن يتكلم عن عظمة قوة الله، فجاء في سفر العدد 23: 22 «اللهُ أَخْرَجَهُ مِنْ مِصْرَ. لَهُ مِثْلُ سُرْعَةِ الرِّئْمِ» (أي سرعة الغزال الأبيض). ويقال عن يعقوب وعن إسرائيل ما فعله «إيل» الله. وقد تكلم الكتاب المقدس كثيراً عن عظمة قوة الله الذي أخرج شعبه المستعبَد بقوة ورفعة واعتزاز.
ويقول كاتب التثنية «لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ هُوَ إِلهُ الآلِهَةِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ، الإِلهُ العَظِيمُ الجَبَّارُ المَهِيبُ» (تثنية 10: 17).
هذا هو الله الإله العظيم الذي وهب إبراهيم وإسحاق ويعقوب المواعيد العظمى والثمينة، لأنه القادر على الوفاء بها، فقد قال لإبراهيم «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً» (تكوين 17: 1) وقال ليعقوب: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. أَثْمِرْ وَاكْثُرْ. أُمَّةٌ وَجَمَاعَةُ أُمَمٍ تَكُونُ مِنْكَ. وَمُلُوكٌ سَيَخْرُجُونَ مِنْ صُلْبِكَ. وَالأَرْضُ الَّتِي أَعْطَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ لَكَ أُعْطِيهَا. وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أُعْطِي الأَرْضَ» (تكوين 35: 11، 12).
هذا «إيل» العظيم الذي هتف له شعبه بالروح القدس: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ السَّلاَمِ. لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ» (إشعياء 9: 6، 7).
والإله العظيم القوي هو الخالق والحاكم الذي يضبط كل شيء.. هو الإله القوي إلوهيم الذي خلق.. وقد ورد الاسم «إلوهيم» 32 مرة في الأصحاح الأول من سفر التكوين، ولا عجب فإن قصة الخلق قد وردت في هذا الأصحاح، وهي تروي ما فعله «إلوهيم» الرب وحده الذي صنع السماوات وسماء السماوات «أَنْتَ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَكَ. أَنْتَ صَنَعْتَ السَّمَاوَاتِ وَسَمَاءَ السَّمَاوَاتِ وَكُلَّ جُنْدِهَا، وَالأَرْضَ وَكُلَّ مَا عَلَيْهَا، وَالْبِحَارَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَأَنْتَ تُحْيِيهَا كُلَّهَا. وَجُنْدُ السَّمَاءِ لَكَ يَسْجُدُ» (نحميا 9: 6). إنه «يَمُدُّ الشَّمَالَ عَلَى الْخَلاَءِ، وَيُعَلِّقُ الأَرْضَ عَلَى لاَ شَيْءٍ» (أيوب 26: 7).
له يقول كاتب المزامير: «مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ» (مزمور 102: 25).
«بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ» (العبرانيين 11: 3).
وقف بولس الرسول في معبد أريوس باغوس في أثينا يقول: «لأَنَّنِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْتَازُ وَأَنْظُرُ إِلَى مَعْبُودَاتِكُمْ وَجَدْتُ أَيْضاً مَذْبَحاً مَكْتُوباً عَلَيْهِ: «لإِلَهٍ مَجْهُولٍ». فَالَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ هَذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ. الإِلَهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هَذَا إِذْ هُوَ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِالأَيَادِي، وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي النَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ. وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ، وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ، لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً، لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أعمال 17: 23-28).
هذا هو إلوهيم القوي القادر الذي يخلق الحياة من العدم ويوجد النور من الظلمة، وينشئ كل شيء من لا شيء، وينفخ في تراب ليجعل منه نفساً حية، على صوته كشبهه!
الله هذا، الإله القوي المقتدر الخالق، هو إلهنا إلى الدهر والأبد.

2- إلوهيم إله العهد
قال بعض علماء اللغة العبرية إن اسم الجلالة «إلوهيم» قد يكون مشتقاً من الأصل العبري «آلاه» وهو فعل عبري يعني «يحلف» أو «يتعهد». وهذا يعني وجود علاقة حلف ومعاهدة بين الله وشعبه.. فالله هو إله العهد.
على أن الإله صانع العهد لا بد أن يكون كلي القدرة والقوة، حتى يقدر أن يعمل ما تعهَّد به، ويفي بمواد الحلف، وينفذ ما وعد به كالخالق الحاكم صاحب السلطان المطلق في الكون.
وتجد ارتباط القوة بالعهد في حديث الله مع نوح، فيقول الله القوي المتسلط في مملكة الناس لنوح: «نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي، لأَنَّ الأَرْضَ امْتَلأَتْ ظُلْماً مِنْهُمْ.. وَلَكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ» (تكوين 6: 13، 18) أما علامة العهد فقد كانت «أَنِّي أَذْكُرُ مِيثَاقِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي كُلِّ جَسَدٍ، فَلاَ تَكُونُ أَيْضاً الْمِيَاهُ طُوفَاناً لِتُهْلِكَ كُلَّ ذِي جَسَدٍ. فَمَتَى كَانَتِ الْقَوْسُ فِي السَّحَابِ أُبْصِرُهَا لأَذْكُرَ مِيثَاقاً أَبَدِيّاً بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي كُلِّ جَسَدٍ عَلَى الأَرْضِ». وَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: «هَذِهِ عَلاَمَةُ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَنَا أَقَمْتُهُ بَيْنِي وَبَيْنَ كُلِّ ذِي جَسَدٍ عَلَى الأَرْضِ» (تكوين 9: 15-17)
وتذكَّر يوسف وهو في مصر كيف أن الله صاحب العهد القادر على تحقيقه سوف يحقق وعده، فقال لإخوته: «أَنَا أَمُوتُ وَلَكِنَّ اللهَ سَيَفْتَقِدُكُمْ وَيُصْعِدُكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ» (تكوين 50: 24).
هذا هو الإله الأمين الحافظ حافظ العهد الذي صلى إليه سليمان وقال: «أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ، لَيْسَ إِلَهٌ مِثْلَكَ فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَلاَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ، حَافِظُ الْعَهْدِ وَالرَّحْمَةِ لِعَبِيدِكَ السَّائِرِينَ أَمَامَكَ بِكُلِّ قُلُوبِهِمْ» (1ملوك 8: 23) وله رنم صاحب المزامير «اِحْمَدُوا الرَّبَّ. ادْعُوا بِاسْمِهِ… غَنُّوا لَهُ. رَنِّمُوا لَهُ. أَنْشِدُوا بِكُلِّ عَجَائِبِهِ… اُطْلُبُوا الرَّبَّ وَقُدْرَتَهُ… الْتَمِسُوا وَجْهَهُ دَائِماً… هُوَ الرَّبُّ إِلَهُنَا. فِي كُلِّ الأَرْضِ أَحْكَامُهُ. ذَكَرَ إِلَى الدَّهْرِ عَهْدَهُ، كَلاَماً أَوْصَى بِهِ إِلَى أَلْفِ دَوْرٍ، الَّذِي عَاهَدَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَقَسَمَهُ لإِسْحَاقَ، فَثَبَّتَهُ لِيَعْقُوبَ فَرِيضَةً» (مزمور 105). وله قال نحميا: «أَنْجَزْتَ وَعْدَكَ لأَنَّكَ صَادِقٌ» (نحميا 9: 8).
وحفظ الله العهد دوماً.. ولكن الشعب لم يحفظ العهد معه! وبقي الله أميناً في العهد لا يتغير، فهو لا يقدر أن ينكر نفسه ولا يغير عهوده.. اسمع الله يتكلم على لسان النبي إرميا ويقول: «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً، لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي، فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ الرَّبُّ. بَلْ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلِينَ: «اعْرِفُوا الرَّبَّ» لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ» (إرميا 31: 31-34).
وأوضح كاتب العبرانيين (8: 7-13) قول الرب على لسان إرميا فاقتبسه وعلق عليه، بقوله إن الشعب نقض العهد الأول الذي جرى بين الله وبينه، فعمل الرب عهداً آخر مع الشعب.. فما هو العهد الجديد الثاني؟
إنه العهد الجديد بالمسيح. فالمسيح هو وسيط العهد الجديد (عب 12: 24) «وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ» (غلاطية 4: 4) وملء الزمان هو الوقت الذي جاء يوحنا المعمدان في بدئه ليجهز الطريق أمام المسيح، الذي وحده يقدر أن يضع كلمة الله ووصاياه في قلوب المؤمنين به.
كان العهد الأول مكتوباً على لوحين من الحجر (خروج 24: 12) أما العهد الجديد الذي جاء به المسيح فهو مكتوب: «لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ. لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ» (2كورنثوس 3:3). وقد تمم الله هذا العهد الذي سبق وتكلم عنه بفم النبي حزقيال: «وَأُعْطِيكُمْ قَلْباً جَدِيداً، وَأَجْعَلُ رُوحاً جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ، وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ. وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَجْعَلُكُمْ تَسْلُكُونَ فِي فَرَائِضِي وَتَحْفَظُونَ أَحْكَامِي وَتَعْمَلُونَ بِهَا» (حزقيال 36: 26، 27). تمم الله هذا الوعد، فقال بولس الرسول: «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس 5: 17).
وبهذه الحياة الجديدة أصبح في إمكان البشر أن يثبتوا في العهد الجديد مع الله. وبقي الله صاحب العهد القادر على تحقيقه.

3- إلوهيم – الثالوث الأقدس
علامة الجمع في اللغة العبرية، هي حرفا «الياء» و«الميم» (كما أن الواو والنون جمع المذكر السالم في العربية). فاسم الجلالة «إلوهيم» جاء في صيغة الجمع في اللغة العبرية، مع أن الأفعال والصفات المستعملة مع «إلوهيم» تأتي كلها في صيغة المفرد! وكان أول من لاحظ هذه الفكرة بيتر لومبارد في عام 1150م وبدأت بعد ذلك دراسة هذه الفكرة.
ورد اسم الله «الوهيم» 2555 مرة في الكتاب المقدس كما ذكرنا، 2310 مرة منها الإله الحقيقي.. ومع جميعها ورد الفعل والصفة في المفرد.. وورد الاسم 345 مرة عن الأصنام ولكن جاء معها الفعل والصفة في صيغة الجمع! وقد بدأ الإنسان يعبد الله الحي الحقيقي، ولكن عبادة الأصنام بدأت بعد ذلك وانتشرت، فاحتفظ الناس باسم الله القديم، وإن كانوا قد أطلقوه على الأصنام. وكان بعد بلبلة الألسنة أن الاسم «إلوهيم» انتشر كاسم للآلهة الأخرى.
ويظهر هذا من الكلام الوارد في التكوين: «ثُمَّ قَالَ اللهُ لِيَعْقُوبَ: قُمِ اصْعَدْ إِلَى بَيْتَِ إِيلَ وَأَقِمْ هُنَاكَ، وَاصْنَعْ هُنَاكَ مَذْبَحاً لِلَّهِ الَّذِي ظَهَرَ لَكَ حِينَ هَرَبْتَ مِنْ وَجْهِ عِيسُو أَخِيكَ». فَقَالَ يَعْقُوبُ لِبَيْتِهِ وَلِكُلِّ مَنْ كَانَ مَعَهُ: «اعْزِلُوا الآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَتَطَهَّرُوا وَأَبْدِلُوا ثِيَابَكُمْ».. فَأَعْطُوا يَعْقُوبَ كُلَّ الآلِهَةِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ، فَطَمَرَهَا يَعْقُوبُ» (35: 1، 2، 4).
وأنت تستمع إلى الله متكلماً عن نفسه بصيغة الجمع في قوله: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تكوين 1: 26) كما تصغي إليه يتكلم عن بناة برج بابل قائلاً: «هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ» (تكوين 11: 7) وتسمعه ينادي إشعياء في الهيكل قائلاً: «مَنْ أُرْسِلُ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» (إشعياء 6: 8).
فهل نرى الثالوث الأقدس في التسمية: «إلوهيم»؟
قال بعض علماء درس الكتاب ومنهم جون كالفن، إن هذه التسمية لا تحمل فكرة التثليث، فإن صيغة الجمع هنا هي للإجلال والتعظيم، كنحو ما يُقال عن الملوك..
ولكن بعض رجال درس الكتاب الآخرين رأوا فكرة التثليث واضحة في هذه التسمية، فإن ملوك العبرانيين لم يعتادوا استعمال صيغة الجمع في الحديث عن أنفسهم للتعظيم، ولا في حديث سواهم لهم أو عنهم.. فلئن صدقت هذه الفكرة عن لغات أخرى، فهي لا تنطبق على اللغة العبرية القديمة التي كُتبت بها التوراة..
ثم لماذا يرد الاسم بالجمع، ويرد الفعل مع الصفة في نفس الجملة بصيغة المفرد؟
قال آخرون إن هذه التسمية لا تحمل فكرة التثليث، لأن اللغة العبرية تطلق على بعض الأشياء صيغة الجمع لتقوية المعنى، فالماء والدم والحياة ترد كلها بصيغة الجمع.. ولكن غيرهم رأوا أن هذه الفكرة تسند الرأي القائل إننا نرى التثليث في التسمية «إلوهيم». وعبَّر أحد الباحثين عن هذا بقوله: «إن إيراد اسم الجلالة بصيغة الجمع يُظهر أن مفرد الكلمة لا يحمل روعة وعظمة وعمق المعنى كله، فإنه لا توجد كلمة تقدر أن تعبر عن الله اللانهائي تعبيراً كافياً».
غير أننا نجد التثليث واضحاً في الفكرة «إلوهيم» فقد جرى حديث بين أقانيم الثالوث الثلاثة عن الخلق، وعن أمور مختلفة أخرى، فقال كاتب سفر المزامير: «قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ» (مزمور 110: 1) وفي نفس المزمور ورد القول: «أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ: أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ» (مزمور 110: 4). وجاء في الرسالة إلى العبرانيين «أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ، أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ» (عبرانيين 7: 21). واقتبس المسيح قول مزمور 110 في حديثه عن أن الله الآب (الرب) قال للمسيح (ربي) أنه سيضع أعداءه موطئاً لقدميه (مرقس 12: 35-37).
إذن فهناك حديث بين الأقانيم الثلاثة، وتدبيرات أزلية..
وجاء في رسالة كولوسي عن المسيح: «فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ (1: 16). ويقول يوحنا البشير في فاتحة إنجيله عن المسيح: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (1: 3).
ومن هنا نرى أنه حين قال الله: «نخلق الإنسان على صورتنا» كان المسيح هناك خالقاً! فإن الله بالمسيح «عَمِلَ الْعَالَمِينَ» والمسيح «هُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عبرانيين 1: 3).
ويقول سفر التكوين: «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ» (تكوين 1: 1-3).
فهل بعد هذا نقول إننا لا نرى الثالوث في الاسم «إلوهيم»؟
وما أعظم التعزية التي ينالها الإنسان منا وهو يتفكر في المعاني العظيمة الظاهرة في تسمية الله «إلوهيم» فهو القوي صاحب السلطان. كل العالم في يده وتحت أمره. «قَلْبُ الْمَلِكِ فِي يَدِ الرَّبِّ كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ، حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ» (أمثال 21: 1).
وهو صاحب العهد، الذي يحفظ عهوده ومواعيده، لا ينساها ولا يغيرها.
وهو الإله الواحد، المثلث الأقانيم.. أَقُولُ لِلرَّبِّ: «مَلْجَإِي وَحِصْنِي. إِلَهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ» (مزمور 91: 2).

(2)
«يهوه»
(الكائن، الذي كان، والذي يأتي)

ورد اسم الله «يهوه» في التوراة للمرة الأولى في الأصحاح الثاني من سفر التكوين (عدد 4) وتكرر وروده فيها 6833 مرة، وقد تُرجم في لغتنا العربية في معظم الأحيان: «الرب». وورد اسم الجلالة هذا مختصراً أحياناً إلى «ياه» (إشعياء 12: 2، 26: 4). ونلاحظ هذا في كلمة «هللويا» التي معناها: «سبحوا ياه» أو «سبحوا الرب».
«يهوه» هو اسم الله، وليس صفة من صفاته، فكما كان إله الموآبيين معروفاً باسم «كموش» وكما كان إله الفلسطينيين معروفاً باسم «بعل» هكذا كان اسم الله «يهوه». وقد أعلن الله هذا الاسم لموسى «فَقَالَ مُوسَى لِلَّهِ: هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِلَهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟». فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ». وَقَالَ: «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ». 15وَقَالَ اللهُ أَيْضاً لِمُوسَى: «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: يَهْوَهْ إِلَهُ آبَائِكُمْ، إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. هَذَا اسْمِي إِلَى الأَبَدِ وَهَذَا ذِكْرِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ» (خروج 3: 13-15).
ومن الغريب أن يختلف العلماء في نطق هذا الاسم العظيم كما اختلفوا على معناه. ولعل السر في ذلك يرجع إلى الغموض الذي أحاط بهذا الاسم في استعماله، فقد لفَّ اليهود حوله ثوباً من السرية، إذ كانوا لفرط تقديسهم لهذا الاسم لا ينطقونه أبداً. فمع أنهم كانوا يكتبونه «يهوه» إلا أنهم كانوا يقرأونه «أدوناي» بمعنى «السيد». فإذا ورد في نص الكتاب المقدس «يهوه أدوناي» متتابعتين، كان على اليهودي أن يقرأهما «إلوهيم أدوناي» كما في تكوين 15: 2 المترجمة في ترجمتنا العربية: «السيد الرب». فاليهودي لا ينطق الاسم «يهوه» ابداً. وكان نُسَّاخ السفر المقدس يغيِّرون الريشة والحبر عندما يكتبون اسم «يهوه». ويضعون حركات كلمة «أدوناي» تحت اسم «يهوه» لتذكير القارئ أن ينطق أدوناي بدل «يهوه».
وفي تأملنا كلمة الله نرى أن اسم الجلالة «يهوه» يعني أنه إله الحياة الذي يعلن نفسه للبشر، كما أنه إله الحب المقدس.

1- يهوه إله الحياة
قال عالِم اللغة العبرية جزينيوس إن اسم «يهوه» مأخوذ من فعلٍ عبري يعني الوجود، فهو «الرَّبُّ الْكَائِنُ، وَالَّذِي كَانَ، وَالَّذِي يَأْتِي» (رؤيا 1: 8) فهو الكائن في الحاضر، والذي كان والذي يأتي في المستقبل، وهو «أهيه الذي أهيه» (خروج 3: 14) ومعناه «الكائن الذي يكون» أو «أكون الذي أكون» وهذا يعني أنه الكائن الواجب الوجود، غير المتغير، الأزلي الأبدي.
إنه «يهوه» السرمدي» – «مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ الْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ الأَرْضَ وَالْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ الأَزَلِ إِلَى الأَبَدِ أَنْتَ اللهُ. لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ، وَكَهَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ» (مزمور 90: 2، 4) «مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى. كَرِدَاءٍ تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ. وَأَنْتَ هُوَ، وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ» (مزمور 102: 25-27).
وقال المفسر اليهودي موسى ميمونيدس في القرون الوسطى تعليقاً على هذا الاسم: «كل أسماء الله الواردة في الأسفار المقدسة مأخوذة عن أعمال يقوم بها، ما عدا اسم يهوه، فهو اسم عَلَم يتحدث عن شخص الله نفسه». وقال جردلستون في كتابه «مترادفات من العهد القديم»: «نجد التعبير الرائع عن شخص الله السامي في الاسم «يهوه» فهو اسم عَلَم يدل على شخص الله.. نجد «إلوهيم» مسبوقاً بألـ «التعريف، للتفريق بين الإله الحقيقي والآلهة الكاذبة، ولكن التعريف لا يسبق الاسم «يهوه» أبداً، فإن يهوه هو اسم الإله الحقيقي وحده. وقد يتكلم السفر المقدس عن «الوهيم الحي» لكنه لا يتكلم أبداً عن «يهوه الحي» لانه لا يرى الحياة منفصلة أو بعيدة عن «يهوه» فهو إله الحياة».
ووجود الله لم يقترن بزمن، أي لا بداءة له ولا نهاية، فهو كائن أبداً كما كان أزلاً، ولا يعبر عن هذا المعنى بالإيجاز أكثر من القول: «أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا 8: 58).
ووجود الله حق في الذات، بخلاف وجود غيره، فإن وجود سائر الموجودات متوقف على وجوده، كتوقف الظل على الجسم. ووجود الله مستقل بلا شرط، ووجود كل ما سواه مستفاد من وجوده، وغير مستقل عنه.
حسناً قال عنه أحد الكتاب المعاصرين: «لا يمكن أن يعيش رجاء المؤمن ويزدهر ويحيا إلا في الإيمان بالله إله الحياة، إذ أن أجمل صفحات التاريخ لم يكتبها من النساء والرجال إلا من آمن بذاك الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل.. كيف لا وقد عصمهم من اليأس والقنوط والفشل يقينهم أنهم يحيون ويعيشون على هذه الأرض ينتظرون ما هو دائم وباق وأبدي وخالد عند الله».

2- يهوه إله الإعلان
«أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (خروج 3: 14).
«اِذْهَبْ وَاجْمَعْ شُيُوخَ إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمُ: الرَّبُّ إِلَهُ آبَائِكُمْ، إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ظَهَرَ لِي قَائِلاً: إِنِّي قَدِ افْتَقَدْتُكُمْ» (خروج 3: 16).
أراد الله أن يعلن عن نفسه إعلاناً جديداً، باستعمال اسم العَلَم «يهوه» أو «أهيه». وقال بعد ذلك لموسى: «أَنَا الرَّبُّ. وَأَنَا ظَهَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِأَنِّي الإِلَهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا بِاسْمِي «يَهْوَهْ» فَلَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ. وَأَيْضاً أَقَمْتُ مَعَهُمْ عَهْدِي.. لِذَلِكَ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَا الرَّبُّ. وَأَنَا أُخْرِجُكُمْ.. وَأُنْقِذُكُمْ.. وَأُخَلِّصُكُمْ.. وَأَتَّخِذُكُمْ لِي شَعْباً، وَأَكُونُ لَكُمْ إِلَهاً. فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمُ… أَنَا الرَّبُّ» (خروج 6: 2-9).
فإذا لاحظ القارئ أن اسم «يهوه» قد تُرجم في العربية «الرب» يرى هنا كيف أن الرب «يهوه» أعلن عن ذاته للشعب، بيد موسى باستعمال اسم الجلالة «يهوه».
ويكرر الأنبياء القول دائماً: «هكذا قال الرب (يهوه)». فإن يهوه إله الإعلان الذي يعلن عن شخصه وعن شريعته لشعبه.
وقد سبق للمؤرخ المقدس (في تكوين 2) أن استعمل اسم الجلالة «يهوه» ولكن الإعلان الكامل بالمعنى الجيد للاسم لم يتضح إلا في إعلان الله عن نفسه لموسى عند العليقة (كما يظهر في خروج 3). وفي هذا الإعلان يرى موسى الله الإله الحي، صاحب العهد الذي لا يتغير، بل يذكر الوعد الذي وعد به إبراهيم. وهكذا نرى يهوه الإله الدائم الوجود، الذي يستمر في معاملاته مع البشر بأمانة وصدق، كما نرى فيه الإله المنقذ المخلص المنجي.
هذا هو «يهوه» إله الإعلان الذي كشف عن نفسه لنا، حتى نستطيع أن نقول مع صاحب المزامير: «يَكُونُ الرَّبُّ مَلْجَأً لِلْمُنْسَحِقِ، مَلْجَأً فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ. وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ الْعَارِفُونَ اسْمَكَ، لأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ» (مزمور 9:9، 10). ونستمع إليه يقول على فم النبي إشعياء: «لِذَلِكَ يَعْرِفُ شَعْبِيَ اسْمِي. لِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ الْمُتَكَلِّمُ. هَئَنَذَا» (52: 6).
كما نستمع إليه يقول على فم إرميا: «لِذَلِكَ هَئَنَذَا أُعَرِّفُهُمْ هَذِهِ الْمَرَّةَ يَدِي وَجَبَرُوتِي، فَيَعْرِفُونَ أَنَّ اسْمِي يَهْوَهُ» (إرميا 16: 21).
«أَيُّهَا الرَّبُّ (يهوه) إِلَهُنَا» (2أخبار 14: 11).. «أَنْتَ اللهُ وَحْدَكَ» (مزمور 86: 10).
« هُوَ هُوَ أَمْساً وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ» (عبرانيين 13: 8).. لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ» (يعقوب 1: 17).

3- يهوه إله الحب المقدس
منذ البدء أعلن الله عن نفسه إنه إله الحب المقدس، فهو يحب شعبه محبة أبدية، وفي حبه لهم يطالبهم بالطهارة والنقاوة. ونلمس هذا من أن الاسم «يهوه» لم يرد في الكتاب المقدس إلا بعد نهاية قصة خلق السماوات والأرض (في تكوين 2: 4) ولكنه ورد بعد خلق الإنسان الذي يطلب الله منه النقاء والطهر في معاملته معه. فبعد خلق الأشياء جميعاً، خلق الله الإنسان ليكون بينهما صلة حب طاهر، وعلاقة أُنس قدسية. ودعا الله الإنسان للتمتع به، لأنه المخلوق الوحيد الذي منحه قوة على ذلك. وعلى هذا يظهر لقب الجلالة «يهوه» بعد خلق الإنسان بعد أن صار في الإمكان تمتع الإنسان بحبه.
ويعلن «يهوه» إله الحب المقدس إرادته الطاهرة للإنسان في نهيه عن كل ما لا يليق. وفي قصة سقوط الإنسان الواردة في الأصحاح الثالث من سفر التكوين نلاحظ أنه حين جاء الشيطان إلى حواء، وأخذ يغريها بالسقوط، استعمل اسم الجلالة «إلوهيم» وقال لها: «أَحَقّاً قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلا تَمُوتَا».
واستعملت حواء اسم الجلالة «إلوهيم» أيضاً. لكن بعد أن سقط آدم وحواء وأكلا من الشجرة المنهى عنها «سَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلَهِ (يهوه) مَاشِياً فِي الْجَنَّةِ». فَنَادَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». نادى الحب الطاهر الإنسان الخاطئ الساقط ليقدِّم الإنسان حساباً عن نفسه، ويقيِّم نفسه فيكتشف خطأه، ويتوب.
ولعل خير شرح لاسم الجلالة يهوه نجده في قول القديس بولس إلى أهل أفسس «وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ» (أفسس 4: 24). فإن البر (الاستقامة) مع القداسة والحق كلها مميزات اسم الجلالة «يهوه». وقد بلغ من تقديس اليهودي لاسم «يهوه» إنه لا ينطقه أبداً كما رأينا في مقدمة هذا البحث.. ولعل سبب هذا الإجلال الخوف من كسر الوصية: «مَنْ جَدَّفَ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. يَرْجُمُهُ كُلُّ الْجَمَاعَةِ» (لاويين 24: 16).
هذا هو «يهوه» إله القداسة، الذي قال عنه الوحي في المزامير: «الْمُسْتَقِيمُ يُبْصِرُ وَجْهَهُ» (مزمور 11: 7) «لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَنَا بَارٌّ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ الَّتِي عَمِلَهَا» (دانيآل 9: 14) وهو الديان العادل الذي يدين المسكونة بعدل واستقامة، فتساءل إبراهيم خليله: « أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلاً؟» (تكوين 18: 26). وهو في عمله واستقامته يطلب من كل البشر أن تكون حياتهم حياة الاستقامة. وقال الله: «تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي قُدُّوسٌ» (لاويين 19: 1) وأمامه ترنم الملائكة: «قُدُّوسٌ. قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ» (إشعياء 6: 3).
ولكن كيف يتعامل الإنسان الخاطئ الساقط مع هذا الإله القدوس؟ إن قداسة الله لا بد أن تدين الإنسان الساقط وتطرده من محضره المقدس! وهذا ما جرى في جنة عدن.. فقد وضع الإله القدوس الشريعة للإنسان، وكسرها هذا الخاطئ العاجز، فطُرد من الجنة ومن الجو المقدس الطاهر!
وهذا نفس ما حدث في سدوم وعمورة يوم أنزل الله النار والكبريت على تلك المدن التي فسدت.
وقال الله «يهوه» لموسى: «مَنْ أَخْطَأَ إِلَيَّ أَمْحُوهُ مِنْ كِتَابِي» (خروج 32: 33) ولكن الله إله القداسة هو أيضاً إله الحب الأبدي للخاطئ الساقط، فإنه «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تيموثاوس 2: 4).
ويكشف لنا سفر القضاة في العهد القديم هذا الجانب من الحب الإلهي بطريقة رائعة، فعندما كان الشعب يخطئ، كان يرسل عليهم المستعمر الذي يضايقهم وينهب محاصيلهم ويذلهم، فيصرخون إليه تائبين، فتضيق «نَفْسُهُ بِسَبَبِ مَشَقَّةِ إِسْرَائِيلَ» ويقوم بإنقاذهم (قضاة 10: 16).
ويقول النبي إشعياء عن «يهوه» إله الحب: «فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ، وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ» (إشعياء 63: 9). ويعبر هوشع النبي عن هذا الحب بقوله على لسان الرب: «كَيْفَ أَجْعَلُكَ يَا أَفْرَايِمُ، أُصَيِّرُكَ يَا إِسْرَائِيلُ؟! كَيْفَ أَجْعَلُكَ كَأَدَمَةَ، أَصْنَعُكَ كَصَبُويِيمَ؟! قَدِ انْقَلَبَ عَلَيَّ قَلْبِي. اضْطَرَمَتْ مَرَاحِمِي جَمِيعاً! لاَ أُجْرِي حُمُوَّّ غَضَبِي. لاَ أَعُودُ أَخْرِبُ أَفْرَايِمَ» (هوشع 11: 8، 9).
وتُظهر كلمات الله هذه مشاعر الله العامرة بالحب لشعبه، فقد فكَّر أن يفعل بهم ما سبق أن فعله بأدمة وصبوييم ومدن سدوم وعمورة التي احترقت بالنار، فتغلبه مشاعر حبه لهم، وتضطرم مراحمه، ويرجع عن حمو غضبه عليهم. ومن هذا نرى أن قداسته يجب أن تحاكم وتعاقب وتدين، ولكنه في حبه يريد أن يقرِّب الناس منه فيأتونه تائبين.
حيثما يذكر الوحي اسم «يهوه» نجده يفتش عن الضال. فتَّش عن آدم وحواء بعد سقوطهما منادياً آدم: «أين أنت؟». وعلَّم آدم بعد ذلك كيف يقدم ذبيحة يكسو عريه بجلدها. وأرشد إبراهيم خليله إلى حيث وجد ذبيحة قدمها عوضاً عن ابنه، ففداه من الموت «بذبح عظيم». وعلَّم موسى شريعة الذبائح الفدائية، وخصَّص لذلك سفراً كاملاً هو سفر اللاويين.
وقال المسيح: «أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا، أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً، وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو الأَصْدِقَاءَ وَالْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: افْرَحُوا مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ. أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ» (لوقا 15: 4-7). إن الله يفتش عن الإنسان الساقط الضال حتى يعود إليه، ويرشده إلى طريق التوبة طريق الفداء بالذبح العظيم!
وهكذا نرى أن حب الله لا يهمل الإنسان الساقط، ولكنه يفتش عليه حتى يجده ليخلِّصه من خداع الشيطان ومن سقطة الخطية، داعياً: «اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ، لأَنِّي أَنَا اللَّهُ وَلَيْسَ آخَرَ» (إشعياء 45: 228). ولما كان طريق الفداء بالذبح العظيم لأنه «وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!» (عبرانيين 9: 22) أعلن لنا الوحي: «دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1يوحنا 1: 7).
ومن المشجع أن نلاحظ أن الإنسان الساقط عبَّر عن حاجته إلى إله المحبة الطاهر لكي يخلصه. فبعد أن سقط آدم وحواء، وبعد أن قتل قايين أخاه هابيل، ولد شيثُ بن آدم ابنا سمَّاه «أنوش». وأنوش في العبرية معناها حالة الضعف والسقوط، فالإنسان يدرك عجزه الكامل (تكوين 4: 26).
ويعلن الإنجيل المقدس بأكثر وضوح حبَّ إلهنا لنا في فداء المسيح، فيقول: «الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية 3: 22-26). «وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أعمال 4: 12).
هذا هو طريق الله المحب القدوس الطاهر للخلاص.. اقبله أو ارفضه.. لكن اعلم أن مصيرك الأبدي يتوقف على اختيارك!

(3)
«أدوناي»
(السيد)

ورد اسم الجلالة «أدوناي» ومعناه «السيد» للمرة الأولى في السفر المقدس في الحديث الذي دار بين الله وإبراهيم في الأصحاح الخامس عشر من سفر التكوين، بعد أن انتصر إبراهيم في غزوة حربية نجَّى فيها لوطاً ابن أخيه من الأسر، وأنقذ مدينة سدوم كلها، فصار إبراهيم سيداً محارباً عظيماً. عندئذٍ ظهر الله له في رؤيا يقول: « أَنَا تُرْسٌ لَكَ. أَجْرُكَ كَثِيرٌ جِدّاً» (تكوين 15: 1).
وقف إبراهيم، السيد المنتصر أمام الرب موقف الخضوع أمام سيد الأرض كلها، وقال له: «أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ». فإن كان إبراهيم سيداً، إلا أن الله سيده وربه!
وقد ورد اسم الجلالة «أدوناي» 300 مرة تقريباً في العهد القديم بصيغة الجمع وإن كان نفس اللقب قد استُعمل للبشر حوالي 215 مرة، ولكنه كان دائماً في صيغة المفرد. وقد استخدم أليعازر الدمشقي، عبد إبراهيم الاسم «أدون» في الحديث عن سيده إبراهيم في صيغة المفرد، لكنه استخدم «أدوناي» في قوله: «سَجَدْتُ لِلرَّبِّ وَبَارَكْتُ الرَّبَّ إِلَهَ سَيِّدِي إِبْرَاهِيمَ الَّذِي هَدَانِي فِي طَرِيقٍ أَمِينٍ» (تكوين 24: 48).
وقال موسى إن الله هو «رَبُّ الأَرْبَابِ» (تثنية 10: 17) فهو سيد الجميع.

1- أدوناي المالك صاحب السلطان
المعنى الأول الذي نتعلمه من اسم الجلالة «أدوناي» هو أنه مالك السماء والأرض وكل ما فيها من إنسان وحيوان وجماد، وهو صاحب السلطان عليها جميعاً.
وقد أدرك العبرانيون قديماً أكثر مما نقدر نحن أن ندرك اليوم معنى صيرورتنا ملكاً للرب السيد، لأن نظام شراء العبيد كان سائداً وقتئذٍ، فكان السيد يشتري عبداً فيصبح ملكاً له ملكية كاملة. وكانت صلة العبد بسيده أقوي كثيراً من صلة الأجير بالشخص الذي يشتغل عنده. فلم يكن الأجير يقدر أن يأكل الفصح مع صاحب العمل، بينما كان العبد المشترى بالمال يأكل الفصح مع سيده (قارن خروج 12: 43-45 مع لاويين 22: 10، 11).
كما كان السيد يلتزم بحماية عبده والعناية به عناية كاملة ويرشده في رفق، وكان العبد يرث سيده في أحيان كثيرة إذا لم ينجب سيده أولاداً، فهكذا قال إبراهيم عن أليعازر عبده قبل أن يلد إسحق: «أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ، مَاذَا تُعْطِينِي وَأَنَا مَاضٍ عَقِيماً، وَمَالِكُ بَيْتِي هُوَ أَلِيعَازَرُ الدِّمَشْقِيُّ؟» (تكوين 15: 2). ويصف المرنم هذه العلاقة بين العبد وسيده بالقول: «هُوَذَا كَمَا أَنَّ عُيُونَ الْعَبِيدِ نَحْوَ أَيْدِي سَادَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ عَيْنَيِ الْجَارِيَةِ نَحْوَ يَدِ سَيِّدَتِهَا، هَكَذَا عُيُونُنَا نَحْوَ الرَّبِّ إِلَهِنَا حَتَّى يَتَرَأَّفَ عَلَيْنَا» (مزمور 123: 2).
ومن هذا يستطيع قارئ السفر المقدس أن يدرك صلته بالله احب السلطان الكامل عليه، لأنه سيده، وهو في نفس الوقت يحبه ويحميه لأنه من ممتلكاته.
تطلع يشوع في وقت ضيقه وهزيمته إلى الله طالباً العون والإرشاد حين هزمه الأعداء في عاي (يشوع 7). وعندما أوكل الله إلى جدعون مهمة تخليص الشعب من هجومات المديانييين صاح جدعون في وجل: ««أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي (أدوناي)، إِذَا كَانَ الرَّبُّ مَعَنَا فَلِمَاذَا أَصَابَتْنَا كُلُّ هَذِهِ، وَأَيْنَ كُلُّ عَجَائِبِهِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا آبَاؤُنَا قَائِلِينَ: أَلَمْ يُصْعِدْنَا الرَّبُّ مِنْ مِصْرَ؟ وَالآنَ قَدْ رَفَضَنَا الرَّبُّ وَجَعَلَنَا فِي كَفِّ مِدْيَانَ.. أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، بِمَاذَا أُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ؟ هَا عَشِيرَتِي هِيَ الذُّلَّى فِي مَنَسَّى، وَأَنَا الأَصْغَرُ فِي بَيْتِ أَبِي». فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ» (قضاة 6: 13، 15، 16).
وقال الملك داود لله «أدوناي» صاحب السلطان، الذي أجلسه على عرش المُلك: «مَنْ أَنَا يَا سَيِّدِي الرَّبَّ، وَمَا هُوَ بَيْتِي حَتَّى أَوْصَلْتَنِي إِلَى هَهُنَا؟ وَقَلَّ هَذَا أَيْضاً فِي عَيْنَيْكَ يَا سَيِّدِي الرَّبَّ فَتَكَلَّمْتَ أَيْضاً مِنْ جِهَةِ بَيْتِ عَبْدِكَ إِلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ. وَهَذِهِ عَادَةُ الإِنْسَانِ يَا سَيِّدِي الرَّبَّ. وَبِمَاذَا يَعُودُ دَاوُدُ يُكَلِّمُكَ وَأَنْتَ قَدْ عَرَفْتَ عَبْدَكَ يَا سَيِّدِي الرَّبَّ؟» (2صموئيل 7: 18-20). وفي هذه الصلاة خاطب سيد الأرض كلها، صاحب السلطان الذي يقيم من يشاء ويملك من يشاء، فقد أقام داود من وراء رعي الأغنام إلى عرش الملك.
وخاطب المرنم الإله «السيد» في المزمور الثامن قائلاً: «أَيُّهَا الرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الأَرْضِ، حَيْثُ جَعَلْتَ جَلاَلَكَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ.. . أَيُّهَا الرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الأَرْضِ!» (عدد 1، 9). حقاً «ذَابَتِ الْجِبَالُ مِثْلَ الشَّمْعِ قُدَّامَ الرَّبِّ، قُدَّامَ سَيِّدِ الأَرْضِ كُلِّهَا. أَخْبَرَتِ السَّمَاوَاتُ بِعَدْلِهِ، وَرَأَى جَمِيعُ الشُّعُوبِ مَجْدَهُ» (مزمور 97: 5، 6)..
لهذا نقول مع المرنم: «لأَنَّهُ إِلَيْكَ يَا سَيِّدُ يَا رَبُّ عَيْنَايَ. بِكَ احْتَمَيْتُ» (مزمور 141: 8)، ونصرخ إليه في وقت ضيقنا: «أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ السَّيِّدُ فَاصْنَعْ مَعِي مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ. لأَنَّ رَحْمَتَكَ طَيِّبَةٌ نَجِّنِي. فَإِنِّي فَقِيرٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا، وَقَلْبِي مَجْرُوحٌ فِي دَاخِلِي… أَعِنِّي يَا رَبُّ إِلَهِي. خَلِّصْنِي حَسَبَ رَحْمَتِكَ.. 0أَحْمَدُ الرَّبَّ جِدّاً بِفَمِي، وَفِي وَسَطِ كَثِيرِينَ أُسَبِّحُهُ. لأَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْمِسْكِينِ لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الْقَاضِينَ عَلَى نَفْسِهِ» (مزمور 109: 21-31).
وتحدث النبي حزقيال عن الله، لا على أنه سيد شعب واحد فقط، بل على أنه سيد الشعوب كلها، بعيدها وقريبها، وهو المتحكم في مصائرها جميعاً. وقد ورد اسم الجلالة «أدوناي» حوالي 200 مرة في نبوة حزقيال وحدها، واللحن الغالب فيها جميعاً قول الله: « فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا السَّيِّدُ الرَّبُّ» لأنه في تحكمه في مصائر الشعوب يريد أن يكشف لشعبه عن شخصه، حتى يعرفوه ويؤمنوا به ويثقوا فيه» (راجع حزقيال 13: 9 ، 23، 49 ، 24: 24 ، 28: 24 ، 29: 16).. ولعل أروع صورة لسلطان السيد الرب نجدها في الأصحاح السابع والثلاثين من سفره، حين أخذ الله النبي إلى بقعة ملآنة عظاماً يابسة جداً وسأله: « أَتَحْيَا هَذِهِ الْعِظَامُ؟» فَقُلْتُ: «يَا سَيِّدُ الرَّبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ». فَقَالَ لِي: «تَنَبَّأْ عَلَى هَذِهِ الْعِظَامِ وَقُلْ لَهَا: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْيَابِسَةُ، اسْمَعِي كَلِمَةَ الرَّبِّ. هَكذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لِهَذِهِ الْعِظَامِ: هَئَنَذَا أُدْخِلُ فِيكُمْ رُوحاً فَتَحْيُونَ. وَأَضَعُ عَلَيْكُمْ عَصَباً، وأَكْسِيكُمْ لَحْماً، وَأَبْسُطُ عَلَيْكُمْ جِلْداً، وَأَجْعَلُ فِيكُمْ رُوحاً فَتَحْيُونَ وَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ».
ويمضي النبي يروي بقية ما حدث معه فيقول: «فَتَنَبَّأْتُ كمَا أُمِرتُ. وَبَيْنَمَا أَنَا أَتنَبَّأُ كَانَ صَوْتٌ وَإِذَا رَعْشٌ، فَتَقَارَبَتِ الْعِظَامُ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى عَظْمِهِ. ونَظَرْتُ وَإِذَا بِالْعَصَبِ وَاللَّحْمِ كَسَاهَا، وبُسِطَ الْجِلْدُ علَيْهَا مِنْ فَوْقُ، وَلَيْسَ فِيهَا رُوحٌ. فَقَالَ لِي: «تَنَبَّأْ لِلرُّوحِ، تَنَبَّأْ يَا ابْنَ آدَمَ، وَقُلْ لِلرُّوحِ: هَكذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَلُمَّ يَا رُوحُ مِنَ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ وَهُبَّ عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَتْلَى لِيَحْيُوا». فَتَنَبَّأْتُ كَمَا أَمَرَني، فَدَخَلَ فِيهِمِ الرُّوحُ، فَحَيُوا وَقَامُوا عَلَى أَقدَامِهِمْ جَيْشٌ عَظيمٌ جِدّاً جِدّاً» (حزقيال 37: 1-10).
ومن هذه المعجزة نلمس الله «أدوناي» السيد الآمر، الذي يقول فيكون ويأمر فيصير.
وورد اسم الجلالة «أدوناي» في نبوة النبي دانيآل 10 مرات في 17 عدداً في الأصحاح التاسع من سفره وهو يخاطب الرب السيد معترفاً بالقول: «أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ الْعَظِيمُ الْمَهُوبُ، حَافِظَ الْعَهْدِ وَالرَّحْمَةِ لِمُحِبِّيهِ وَحَافِظِي وَصَايَاهُ، أَخْطَأْنَا وَأَثِمْنَا وَعَمِلْنَا الشَّرَّ، وَتَمَرَّدْنَا وَحِدْنَا عَنْ وَصَايَاكَ وَعَنْ أَحْكَامِكَ.. لَكَ يَا سَيِّدُ الْبِرُّ، أَمَّا لَنَا فَخِزْيُ الْوُجُوهِ.. لأَنَّنَا أَخْطَأْنَا إِلَيْهِ.. يَا سَيِّدُ، حَسَبَ كُلِّ رَحْمَتِكَ اصْرِفْ سَخَطَكَ وَغَضَبَكَ.. يَا سَيِّدُ اسْمَعْ. يَا سَيِّدُ اغْفِرْ. يَا سَيِّدُ أَصْغِ وَاصْنَعْ».
ولقد وقف رجال العهد القديم موقف العبد أمام السيد، وهم يعلمون أنهم ملك للسيد الرب وقلوبهم تقول: «عَبْدُكَ أَنَا. فَهِّمْنِي، فَأَعْرِفَ شَهَادَاتِكَ» (مزمور 119: 125) «آهِ يَا رَبُّ. لأَنِّي عَبْدُكَ. أَنَا عَبْدُكَ ابْنُ أَمَتِكَ» (مزمور 116: 16).
ونحن اليوم نقف نفس هذا الموقف، فنقول مع بولس الرسول «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ، الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟ لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ، فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ» (1كورنثوس 6: 19، 20).

2- أدوناي السيد المُطاع
وعندما نلمس أن الله صاحب السلطان، لابد أن نأتيه بكل الطاعة والخضوع، لكي نتمم إرادته بتسليم وفرح..
ونرى مثالاً لهذا ما حدث مع موسى عندما ناداه الله لكي يذهب إلى مصر ليخلّص الشعب من العبودية القاسية، فخاطب الله بالقول: «أدوناي» معترفاً أن الله صاحب السلطان في حياته، وأنه واجب الطاعة، ومستحق الخدمة.. ولكن موسى اعتذر وقال: «اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلاَمٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلاَ أَوَّلِ مِنْ أَمْسِ، وَلاَ مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أَنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ» (خروج 4: 10). فغضب الله عليه (خروج 4: 14) لأنه حاول الهروب من المسؤولية التي كلفه بها.. فإن الله ليس قاسياً حتى يطلب المستحيل، وهو لا يكلف شخصاً فوق طاقته، ولكنه يعطي القوة اللازمة لتتميم الأمر الإلهي الذي يصدره..
وقد أعطى الله موسى العون اللازم فمنحه القوة على إجراء العجائب حتى يؤمن فرعون بأنه رسول من عند الله، ثم أعطاه أخاه هارون معيناً له حتى يتكلم بدله حتي يعجز لسانه عن الكلام، وحتى يقتنع الشعب بفصاحة هارون حين يعجز موسى عن إقناعهم.. وبهذه القوة التي زوَّده بها مضى موسى مطيعاً للسيد الذي يستحق الطاعة، وأنقذ شعبه من الأسر.
ونرى مثالاً آخر لطاعة السيد الرب في حياة النبي إشعياء، فقد جاءه صوت الله إلى النبي يدعوه ليتكلم بما يعطيه له.. وكان الوقت وقت ظلام روحي وسياسي.. فقد مات الملك الصالح عزيا الذي كان إشعياء يرجو أن يصلح حياة الأمة، ولعل إشعياء قد أخذ من عزيا بطلاً ينظر إليه في وقت الارتداد الروحي. وفي سنة وفاة عزيا الملك جاء الصوت إلى إشعياء يدعوه إلى حمل الرسالة. لقد مات ملكه في الأرض، لكن الرب السيد في السماء حي كل حين، وها هو ينادي خادمه من عرشه الرفيع وقد ملأ مجده وجلاله الهيكل كله، وملأ بهاؤه كل الأرض، وأحاط به الملائكة ليخدموه وينفذوا أوامره، ويتمموا إرادته الصالحة (طالع إشعياء 6).
واختار السيد الرب (أدوناي) النبي إرميا وهو لم يزل بعد في بطن أمه ليكون نبياً له. وعندما أعلن الله هذه المهمة له، قال إرميا: «آهِ يَا سَيِّدُ الرَّبُّ، إِنِّي لاَ أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لأَنِّي وَلَدٌ» (إرميا 1: 6). فأعلن الله للنبي الخائف المتردد إنه هو مصدر القوة التي تمكّن من عمل مشيئته، بقوله: «لاَ تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ، لأَنَّكَ إِلَى كُلِّ مَنْ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِ تَذْهَبُ وَتَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ. لاَ تَخَفْ مِنْ وُجُوهِهِمْ، لأَنِّي أَنَا مَعَكَ لأُنْقِذَكَ يَقُولُ الرَّبُّ». ولمس فم إرميا وقال له: «هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلاَمِي فِي فَمِكَ. اُنْظُرْ! قَدْ وَكَّلْتُكَ هَذَا الْيَوْمَ عَلَى الشُّعُوبِ وَعَلَى الْمَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ». ومضى إرميا يحمل رسالة الرب السيد الذي يستحق الطاعة والخدمة والخضوع.
ويوضح لنا الكتاب المقدس العون الذي يعطيه الله لعبيده الذين يطيعونه، فقد قال الله لإبراهيم: «أنا ترس لك» فهو الذي يحميه ويحفظه أثناء قيامه بالواجب الذي كلفه به. ويقدم لوقا نفس الفكرة عن بولس الرسول في وقت الخطر فيقول: «ثِقْ يَا بُولُسُ، لأَنَّكَ كَمَا شَهِدْتَ بِمَا لِي فِي أُورُشَلِيمَ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْهَدَ فِي رُومِيَةَ أَيْضاً» (أعمال 23: 11).
ويقول بولس عن نفسه: «وَلَكِنَّ الرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَوَّانِي، لِكَيْ تُتَمَّ بِي الْكِرَازَةُ، وَيَسْمَعَ جَمِيعُ الأُمَمِ، فَأُنْقِذْتُ مِنْ فَمِ الأَسَدِ. وَسَيُنْقِذُنِي الرَّبُّ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ رَدِيءٍ وَيُخَلِّصُنِي لِمَلَكُوتِهِ السَّمَاوِيِّ» (2تي 4: 17، 18). وقد قال الله لبولس: ««تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ» (2كورنثوس 12: 9).
ويسير الله مع خادمه بعد أن يعطيه الأمر بالعمل فيفتح الأبواب أمامه للعمل (2كورنثوس 2: 12) أو يغلق في وجهه باباً لا يريده أن يطرقه (أعمال 16: 6). ومهما بدا العمل صعباً أو سهلاً فإن تعبنا ليس باطلاً، بل لابد أن يعطي النتيجة المنتظرة (1كورنثوس 15: 58).
وحيثما قرأنا في الكتاب المقدس نجد أدوناي الذي يخدمه الجميع، فإبراهيم وإسحق ويعقوب هم عبيد الرب (خروج 32: 13).
وقال الله مراراً «موسى عبدي» (عدد 12: 7، يشوع 1: 2، 13). وقال داود الملك لله: «أنا عبدك» (مزمور 116: 16). وهؤلاء جميعاً من أنبياء وملوك وكهنة كانوا يعلنون خضوعهم وطاعتهم لأدوناي سيد السماء والأرض، صاحب الأمر والسلطان على كل شيء.
وفي حياة بولس الرسول مثال لحياة الطاعة للرب، فقد كان قبول الإيمان المسيحي يهودياً متعصباً يرغب في خدمة السيد الرب الذي عرفه في ديانة آبائه، فكان يضطهد الكنيسة اضطهاداً مسرفاً محاولاً إتلافها ووقفها عن أداء رسالتها، وهو يعتقد أنه بهذا يقدم خدمة عظيمة لله. وذات يوم كان في طريقه لإلقاء القبض على بعض المسيحيين وتعذيبهم حين أشرق حوله نور من السماء، وسمع صوتاً يقول له: «لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟». فَسَأَلَهُ: «مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟». فَقَالَ: «أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ». فَسَأَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أعمال 9: 4-6).
وبهذه الكلمات أعلن بولس ولاءه للسيد الجديد الذي طالما اضطهد أتباعه وقاوم مشيئته.. وكتب بعد ذلك: «كُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي. وَلَكِنْ لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً، وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضاً إِلَى دِمَشْقَ» (غلاطية 1: 14-17).
أطاع بولس نداء السيد الرب بدون استشارة إنسان، مع أن تلك الطاعة قلبت كل أوضاع حياته، أو إن شئتَ فقُل إنها عدلتها، فقال معترفاً بصلته بالسيد الرب: «أَشْكُرُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا الَّذِي قَوَّانِي، أَنَّهُ حَسِبَنِي أَمِيناً، إِذْ جَعَلَنِي لِلْخِدْمَةِ» (1تي 1: 12) كما قال: «وَلَكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ» (أعمال 20: 24).. فسواء كان حياً أم مات فإنه يعمل إرادة الله في طاعة كاملة. ونحن اليوم الذين ندعو الله سيداً لنا.. هل نطيعه ونعمل مشيئته؟ وهل نعطيه مكانة القيادة في حياتنا؟

3- أدوناي المثلث الأقانيم
حيثما ورد استعمال «أدوناي» عن الله ورد في صيغة الجمع وحين تستعمل عن الإنسان تستعمل في صيغة المفرد..
وفي المزمور 110 يرد استعمال «أدوناي» بصورة ليس لها مثيل في العهد القديم، حتى عجز رجال الفقه اليهودي عن تفسيرها.. فقد جاء في المزمور «قَالَ الرَّبُّ (يهوه) لِرَبِّي (أدوناي): «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ».
وقد أشار المسيح إلى هذا المزمور في حديثه مع قادة اليهود فقال: «وَفِيمَا كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ: «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟». قَالُوا لَهُ: «ابْنُ دَاوُدَ». قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبّاً قَائِلاً: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟». فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ بَتَّةً» (متى 22: 41-45).
وقد علق بطرس الرسول على هذا المزمور في عظته لليهود وقال: «لأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى السَّمَاوَاتِ. وَهُوَ نَفْسُهُ يَقُولُ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ رَبّاً وَمَسِيحاً» (أعمال 2: 34-36).
والحقيقة أن المزمور كان يتكلم عن أن الله الأب كان يخاطب الرب المسيح بقوله: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي»وقد اقتبس الكتاب المقدس في رسالة العبرانيين هذا القول على أنه من الله الأب لله الابن (راجع عبرانيين 1: 13 ، 10: 12، 13).
قال بولس الرسول: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي تُقَدِّمُونَ ذَوَاتِكُمْ لَهُ عَبِيداً لِلطَّاعَةِ أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِلَّذِي تُطِيعُونَهُ، إِمَّا لِلْخَطِيَّةِ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ؟» (رومية 6: 16).
نحن عبيد للشخص الذي نطيعه.. فهل أنت مطيع للمسيح، أو للشيطان والخطية والعالم؟
ليتك تسمع الصوت: «نعماً أيها العبد الصالح والأمين.. ادخل إلى فرح سيدك».

(4)
«إيل شدّاي»
(الله القدير)

عندما أعلن الله ذاته لإبراهيم قال له: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ (إيل شداي). سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً» (تكوين 17: 1) وكانت هذه المرة الأولى التي يعلن الله فيها عن نفسه باسم من أسمائه لإنسانٍ ما..
والاسم كما ذكرنا يحمل صفة الشخص. وقد أعلن الله لإبراهيم عن نفسه أول ما أعلن أنه الله القدير، وكان قد سبق ووعد إبراهيم أن يجعل منه أمة عظيمة (تكوين 12: 2) وأن يكثر نسله فيكون «كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ» (تك 22: 17). ولكن السنوات مضت دون أن يتحقق هذا الوعد المتكرر. لقد آمن إبراهيم بوعده الله له، وحسب الله له هذا الإيمان براً (تكوين 15: 6). ولكن هذا الإيمان بدأ يهتز ويرتعش إذ توالت السنون دون أن يولد لإبراهيم ابن. ورأى إبراهيم أن يفعل شيئاً من جانبه حتى يحقق الوعد الإلهي، فتزوج من خادمته هاجر، بحسب اقتراح زوجته سارة، فولدت له إسماعيل. ولكن لم يكن في هذا تحقيق للوعد الإلهي.
ومضت ثلاث عشرة سنة بعد ولادة إسماعيل، وظهر الله لإبراهيم ليذكره من جديد بأن عهده لا يزال قائماً، وقال له: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ» على تحقيق الوعد، حتى لو طال الوقت!
وقد مضى التاريخ المقدس يتكلم عن «إيل شداي» الله القدير الذي نرى آثار عمل يديه واضحة في التاريخ.

1- إله القدرة المعجزية
كان هذا ما أعلنه الله لإبراهيم للمرة الأولى حين أعلن له اسمه، وقال له إن معجزة ستحدث معه يتحقق فيها الوعد. وكان الله قد دعا إبراهيم وهوكبير في السن لكي يترك أرضه التي عرفها وأهله الذين عاش بينهم، ثم يسري إلى بلد بعيد لا يعرفه ليعيش وسط شعب لا يمت له بصلة.. وذلك بوعد أن الله سيعطيه تلك البلاد ميراثاً له وللنسل الكثير الذي سيعطيه له. وظل إيمان إبراهيم بالوعد قائماً وقوياً، ينتظر في صبر تحقيق الوعد الإلهي الصادق.
ومضت الأيام حتى بلغ إبراهيم وسارة من العمر ما يستحيل معه تحقيق الوعد، فقد بلغ إبراهيم التاسعة والتسعين وبلغت سارة التاسعة والثمانين. وظن إبراهيم أن الابن الوحيد الذي له هو إسماعيل، فمضى يصلي لأجله. وحين أعلن له الله أنه سيعطيه من سارة ابناً سقط على وجهه وضحك ضحكة الذي يستبعد حدوث الأمر، ولكنه لا يعتبره مستحيلاً. وقال في قلبه: «هَلْ يُولَدُ لابْنِ مِئَةِ سَنَةٍ؟ وَهَلْ تَلِدُ سَارَةُ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِينَ سَنَةً؟» (تكوين 17:17).. فقال له الله: « بَلْ سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْناً» وإبراهيم 19وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفاً فِي الإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتاً، إِذْ كَانَ ابْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ – وَلاَ مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ، 20وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ، بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِياً مَجْداً لِلَّهِ. 21وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضاً» (رومية 4: 19-21).
وظهرت قدرة الله المعجزية فإن إبراهيم «كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ. بِالإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضاً أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ، وَبَعْدَ وَقْتِ السِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ الَّذِي وَعَدَ صَادِقاً. لِذَلِكَ وُلِدَ أَيْضاً مِنْ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مِنْ مُمَاتٍ، مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ فِي الْكَثْرَةِ، وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ الَّذِي لاَ يُعَدُّ» (عبرانيين 11: 10-12). وتعلَّم إبراهيم ومعه سارة أن الله قادر على تحقيق وعده، لا لأن جسديهما كانا قادرين على إنجاب نسل، ولكن لأن الله قادر أن يحيي من الموت، ويقيم من القبر.
ولا زال البعض إلى يومنا هذا يرتكبون الخطأ الذي وقع فيه إبراهيم حين تزوج من هاجر لكي يساعد الله على تحقيق وعده في إنجاب النسل.. فنراهم يحاولون أن يعملوا العمل الصالح لكي ينالوا غفران خطاياهم، مع «أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ» (رومية 3: 28).
كانت غلطة إبراهيم سبب أسى ومتاعب له ولغيره، فقد ضاع سلام بيته بينه وبين سارة وهاجر.. كما ضاع سلام حياته في محاولة إرضاء سارة وهاجر! وكم يسبِّب وقوع بعضنا في مثل هذه الغلطة ضياع سلامهم القلبي، إذ لا يتبررون أمام الله بأعمالهم. إن الله القدير القادر أن يقيم من الأموات هو الذي يخلص الخاطئ وينقذه من الهلاك في الجحيم، لا لعملٍ صالح يقوم به، لكن بفضل حبه المتفاضل المجاني. والإله القادر يستحق الثقة الكاملة به والإيمان الكامل في قدرته على تخليص النفس.
ويقع كثيرون في غلطة محاولة معاونة الله على تنفيذ مواعيده لهم بأن يعملوا شيئاً لا يتفق مع إرادة الله الصالحة، وهم يعتقدون أنهم بهذا يعملون على تتميم الوعد الإلهي لهم. وقد يقعون في هذا الخطأ نتيجة نصيحة صديق مخلص. ولكن هذا لا يعني سوى أنهم مندفعون متعجِّلون! فهكذا تعجَّل إبراهيم وتزوج من هاجر بناء على نصيحة زوجته المخلصة سارة. ولكنه كان على أي حال مخطئاً.
وقد مضى الإله القدير يعلن قوته القادرة أن تخلص أولاده كل وقت، والأمثلة في الكتاب المقدس كثيرة، نكتفي بأن نورد منها مثلاً من العهد القديم، وآخر من العهد الجديد.
ففي العهد القديم نقرأ قصة دانيآل النبي الذي كان أسيراً عند ملك فارس، ونجح نجاحاً عظيماً ونال حظوة عند الملك مما دفع بقية الوزارء إلى أن يحسدوه ويغتاظوا منه ويكيدوا له. ولما لم يجدوا فيه عيباً في عمله أرادوا الوقيعة به من جهة ديانته.. فطلبوا من الملك أن يضع قانوناً يقضي بأن يرفع كل الناس صلواتهم للملك مدة شهر كامل، على أن يُرمى بمن يخالف هذا القانون لتأكله الأسود الجائعة. وقد كانت عبادة الملوك نوعاً من العبادة التي يقبلها معظم الناس في ذلك الوقت. فوافق الملك ووقَّع القانون.
ولم يقبل دانيآل أن يرفع صلاته لغير الله. وأسرع حاسدوه إلى الملك يروون له عصيان داينال يروون له عصيان دانيآل، وضرورة تنفيذ القانون. وفي أسف أصدر الملك حكمه على وزيره الأمين لتأكله الأسود، ولكن الأسود لم تأكل دانيآل! وعندما جاء الملك يسأل: «يَا دَانِيآلُ عَبْدَ اللَّهِ الْحَيِّ، هَلْ إِلَهُكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِماً قَدِرَ عَلَى أَنْ يُنَجِّيَكَ مِنَ الأُسُودِ؟». فَتَكَلَّمَ دَانِيآلُ مَعَ الْمَلِكِ: «يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ عِشْ إِلَى الأَبَدِ! إِلَهِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَسَدَّ أَفْوَاهَ الأُسُودِ فَلَمْ تَضُرَّنِي» (دانيآل 6: 21، 22).
وفي العهد الجديد قصة أخرى عن قوة الله المعجزية، ففي بدء المسيحية اضطهد اليهود المسيحيين اضطهاداً قاسياً. وألقى الملك هيرودس القبض على بطرس زعيم المسيحيين ووضعه في السجن استعداداً لإعدامه. وحزن المسيحيون على قائدهم أشد الحزن، ومضوا يبتهلون إلى الله أن ينقذه من الموت. واستجاب الله صلاتهم، ففي منتصف الليلة التي عزم الملك أن يقتل بطرس فيها، أرسل الله ملاكه إلى بطرس في السجن وأيقظه من النوم العميق فسقطت السلسلتان من يديه، وطلب منه الملاك أن يلبس حذاءه وأن يتبعه. وخرج بطرس يتبع الملاك وهو يحسب نفسه يحلم. وجاز بطرس مع الملاك بين الفريق الأول من الحراس، ثم الفريق الثاني حتى وصلا إلى الباب الحديدي الضخم فانفتح لهما من ذاته. وسار الملاك مع بطرس حتى خرج في الهواء الطلق. وفارقه الملاك. عندئذٍ عرف بطرس أنه لم يكن يحلم، فقد كان خروجه من السجن حقيقة واقعة. وذهب ليقابل الجماعة التي كانت تصلي لأجله ليقول لهم إن الله القادر أجرى المعجزة التي أنقذته من الموت المحقق.
وكم تفرح قلوبنا ونحن نعلم أن هذا الإله القادر هو إلهنا، إله المعجزات.

2- إله البركة المشبعة
تُرجمت «شداي» بكلمة القدير 48 مرة في العهد القديم، كما تُرجمت 24 مرة بالكلمة «ثدى» وتعني الإعانة والتغذية والشبع حتى الاكتفاء. وحين ترد كلمة «شداي» مسبوقة بكلمة «إيل» فإنها تعني «الإله الذي يعطي كل حاجاتنا» حسب غناه فيشبع قلوبنا ويغذي نفوسنا ويسدد احتياجاتنا كلها. فهو «يسكب» بركته و«يفيض» بخيره على البشر، كما قال يعقوب وهو يبارك يوسف ابنه: «مِنْ إِلَهِ (إيل) أََبِيكَ الَّذِي يُعِينُكَ، وَمِنَ الْقَادِرِ (شداي) عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي يُبَارِكُك،َ تَأْتِي بَرَكَاتُ السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَبَرَكَاتُ الْغَمْرِ الرَّابِضِ تَحْتُ. بَرَكَاتُ الثَّدْيَيْنِ وَالرَّحِمِ» (تكوين 49: 25). و«شداي» هنا هو الذي يبارك بهذا النوع من البركة المشبعة.
ونجد في نبوة النبي إشعياء ذكر «شداي» بترجمة «ثدى» مرتين: الأولى في (أصحاح 60: 16) حين يخاطب الله الأمة المقدسة التي ترمز إلى الكنيسة المباركة فيقول: «وَتَرْضَعِينَ لَبَنَ الأُمَمِ وَتَرْضَعِينَ ثُدِيَّ مُلُوكٍ، وَتَعْرِفِينَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ مُخَلِّصُكِ وَوَلِيُّكِ عَزِيزُ يَعْقُوبَ» ومن هذه الآية نرى البركة المشبعة من الله (شداي).
ويخاطب الله الكنيسة مرة أخرى في (أصحاح 66: 10-13) «افْرَحُوا مَعَ أُورُشَلِيمَ، وَابْتَهِجُوا مَعَهَا يَا جَمِيعَ مُحِبِّيهَا. افْرَحُوا مَعَهَا فَرَحاً يَا جَمِيعَ النَّائِحِينَ عَلَيْهَا. لِتَرْضَعُوا وَتَشْبَعُوا مِنْ ثَدْيِ تَعْزِيَاتِهَا. لِتَعْصِرُوا وَتَتَلَذَّذُوا مِنْ دِرَّةِ مَجْدِهَا. لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «هَئَنَذَا أُدِيرُ عَلَيْهَا سَلاَماً كَنَهْرٍ، وَمَجْدَ الأُمَمِ كَسَيْلٍ جَارِفٍ، فَتَرْضَعُونَ، وَعَلَى الأَيْدِي تُحْمَلُونَ، وَعَلَى الرُّكْبَتَيْنِ تُدَلَّلُونَ. كَإِنْسَانٍ تُعَزِّيهِ أُمُّهُ هَكَذَا أُعَزِّيكُمْ أَنَا»
والكلمة ثدى هي كلمة «شد» في العبرانية وهي أصل «شداي» «القدير» وقد ترجم العلماء اليهود، الذين قاموا بالترجمة السبعينية، الكلمة «شداي» بكلمة يونانية تعني «الذي يشبع كل الاحتياجات».
ولم تكن هذه الفكرة غريبة على القدماء، فقد تلقَّبت الآلهة الوثنية باسم «شديم» في العهد القديم، وهي صيغة الجمع من «شداي». ولعل هذه التسمية راجعة إلى الصفة التي أطلقها الوثنيون على آلهتهم، فقد اعتبروها سبب المطر الذي يروي الأرض، فتخضرّ المراعي، وتثمر الأرض.. كما اعتبروها مصدر الخير الذي يشبع ويغذي، وقد جعلوا للكثير من آلهتم ثدياً كثيرة رمز البركة المشبعة التي تفيض بها تلك الآلهة على البشر. وكان جسد الإلهة ديانا «أرطاميس الأفسسيين» مغطى بالثدي الكثيرة، رمز الرخاء الذي تجلبه معها لعابديها. ووردت كتابة قديمة تحت رسم الإلهة ديانا أنها «أم كل شيء».
وهناك كلمة تطلق على الحقل الأخضر هي «سادة» في العبرية وهي من نفس أصل الكلمة «شداي» والحقل الأخضر المتوج بالزرع يغذي الإنسان ويشبعه، و«إيل شدّاي» هو الإله «الَّذِي يُشْبِعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ» (مزمور 103: 5). وهو القوي الذي يفيض علينا بالخير، القادر «أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى التَّمَامِ» (عبرانيين 7: 25)، «وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ» (أفسس 3: 20).
ويتضح لنا عطاء الله بسخاء أكثر جداً مما نفتكر مما حدث حين أعلن الله عن نفسه بهذا الاسم لأول مرة، فقال لإبراهيم: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدُ أَبْرَامَ، بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِبْرَاهِيمَ، لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَباً لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ» (تكوين 17: 5، 6). وعندما بارك إسحاقُ يعقوبَ ابنه قال له: «اللهُ الْقَدِيرُ يُبَارِكُكَ وَيَجْعَلُكَ مُثْمِراً وَيُكَثِّرُكَ فَتَكُونُ جُمْهُوراً مِنَ الشُّعُوبِ» (تكوين 28: 3) وقال الله ليعقوب: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. أَثْمِرْ وَاكْثُرْ. أُمَّةٌ وَجَمَاعَةُ أُمَمٍ تَكُونُ مِنْكَ» (تكوين 35: 11). وذكر يعقوب هذه البركة التي سيمنحها له «إيل شداي» وهو على فراش موته فقال: «اللهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ظَهَرَ لِي.. وَبَارَكَنِي، وَقَالَ لِي: هَا أَنَا أَجْعَلُكَ مُثْمِراً وَأُكَثِّرُكَ». ثم بارك ابنه يوسف «ببركات الثديين والرحم» (تكوين 48: 3، 4 و49: 25).
وحين رأى بلعام رؤيا «القدير» لم يستطع إلا أن يبارك بدل أن يلعن (عدد 24: 4، 16).
وقد ورد اسم الجلالة «إيل شداي» 31 مرة في سفر أيوب وحده، وورد 17 مرة في كل أسفار الكتاب الأخرى، ومن عاقبة الرب لأيوب والبركة التي أعطاها له، نرى أن الإله القدير هو الذي يعطي البركة التي تشبع وهو يقول: «أُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ» (يوئيل 2: 25) فنرتل له مع صاحب مزمور الراعي:
ربُّنا راعيَّ. لن يعوزني شيء.
في المروج الناضرة يريحنا.
مياه الجِمام يوردني. هناك يُجِمُّ نفسي.
يهديني الصراط المستقيم من أجل اسمه.
لو سلكت وادي الظلمات ما خفت سوءاً.
فثمَّ عصاك وعكازك يُذهِبان رَوْعي.
لي تُعِدُّ مائدةً على مرأى من خصمي.
بالدهن تطيِّب رأسي، وكوبي يفيض.
أجَلْ! النعمةُ ملازمتي مدى حياتي.
بيت ربي لي سكنٌ على طول الزمن.
(مزمور 23 – ترجمة الأب بوركي الدومنكي مع محمد الصادق حسين)

3- إله التأديب والعقاب
على أن الاسم المقدس «إيل شداي» يحمل في طياته معنى ثالثاً هو القوة على التأديب والعقاب، فهو يؤدب المؤمن متى انحرف كما أنه يعاقب الخاطئ الذي ضل..
ولابد للمؤمن الذي يريد أن يمتلئ من بركة الله أن يتفرغ من أقذار العالم، وكلما تفرغ أكثر امتلأ أكثر. وإله البركة المشبعة يريد أن يشبعنا ببركته، ولكنه يجد نفسه مضطراً أن يفرغنا بالتأديب أحياناً، لنكون مستأهلين أن نتمتع ببركته. وعلى هذا يجيء الاسم «إيل شداي» في الكتاب مع أحداث التأديب للتنقية والتطهير.
نقرأ في سفر راعوث أن رجلاً اسمه أليمالك وامرأته نعمي وابنيه سافروا إلى بلاد موآب بسبب مجاعة حدثت في أرض بني إسرائيل. ولم يكن من الواجب، حسب الشريعة الموسوية، أن يترك بنو إسرائيل أرضهم ليذهبوا إلى بلاد أخرى، حتى لا يتعرَّضوا لعبادة أوثانهم. ولكن نعمي وزوجها وولديها كسروا شريعة الله. ومات أليمالك ثم مات ابناه فعادت نعمي وحيدة إلى مدينة بيت لحم حيث كانت تعيش. ولما اجتمع حولها أهل بيت لحم ونادوها باسمها «نعمي» ومعناها «فرحي» أجابتهم: «لاَ تَدْعُونِي نُعْمِيَ بَلِ ادْعُونِي مُرَّةَ، لأَنَّ الْقَدِيرَ (شداي) قَدْ أَمَرَّنِي جِدّاً. إِنِّي ذَهَبْتُ مُمْتَلِئَةً وَأَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ فَارِغَةً. لِمَاذَا تَدْعُونَنِي «نُعْمِيَ» وَالرَّبُّ قَدْ أَذَلَّنِي وَالْقَدِيرُ (شداي) قَدْ كَسَّرَنِي؟» (راعوث 1: 20، 21).
اختبرت نعمي أن «الله القدير» يعاقب ويمرِّر، ويذل، ويكسر!
ونقرأ في سفر أيوب كيف سمح الإله القدير بإذلال أيوب وكسره لينقيه ويطهره من الخطايا التي علقت به. ومع أن الكتاب المقدس يشهد لأن أيوب كان رجلاً كاملاً مستقيماً يتقي الله ويحيد عن الشر، إلا أن الله سمح بتأديبه ودخوله في بوتقة الألم حتى يخرج أكثر طُهراً ونقاءً، فقال: «هُوَذَا يَقْتُلُنِي. لاَ أَنْتَظِرُ شَيْئاً. فَقَطْ أُزَكِّي طَرِيقِي قُدَّامَهُ» (أيوب 13: 15). ثم قال: «لأَنَّهُ يَعْرِفُ طَرِيقِي. إِذَا جَرَّبَنِي أَخْرُجُ كَالذَّهَبِ. بِخَطَوَاتِهِ اسْتَمْسَكَتْ رِجْلِي. حَفِظْتُ طَرِيقَهُ وَلَمْ أَحِدْ. مِنْ وَصِيَّةِ شَفَتَيْهِ لَمْ أَبْرَحْ» (أيوب 23: 10-12). وعند نهاية آلامه قال مخاطباً الله القدير: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ.. بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي» (أيوب 42: 2، 5).
ونقرأ في العهد الجديد نفس الفكرة عن الإله القدير الذي ينقي الذين هُم له ليثمروا الثمر الروحي من عمل الخير، وفي هذا قال المسيح: «أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ. كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ. أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ. اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ الْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكَرْمَةِ، كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ. أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً» (يوحنا 15: 1-5).
ونقرأ في سفر الرؤيا عن العقاب الذي سيوقعه الله القادر على كل شيء على الذين يرفضون الإيمان بالمسيح، فنسمع ملاكاً يقول: «نَعَمْ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! حَقٌّ وَعَادِلَةٌ هِيَ أَحْكَامُكَ.. فَإِنَّهُمْ أَرْوَاحُ شَيَاطِينَ صَانِعَةٌ آيَاتٍ، تَخْرُجُ عَلَى مُلُوكِ الْعَالَمِ وَكُلِّ الْمَسْكُونَةِ لِتَجْمَعَهُمْ لِقِتَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، يَوْمِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (رؤيا 16: 7، 14). ثم يصف العقاب القادم على الأشرار بالقول: «وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكْتُوبٌ: «مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ» (رؤيا 19: 15، 16).
ولكن كيف نربط بين الفكرة أن الله القدير هو رب البركة والخير المشبع الوفير، وهو في الوقت نفسه سيوقع العقاب المؤلم على البشر؟
الواقع أن الإله الذي قدَّم خلاصه للعالم الغارق في خطاياه، وفاض بخيره على كل البشر، ينتظر منهم البشر أن يقبلوه ويتبعوه. فإن رفضوا خلاصه وازدروا بحبه فإنه بقوته يوقع عليهم العقاب العادل، الذي يستحقونه.
على أن العقاب محبة ورحمة، فإنه يريد الجميع يخلصون وإلى معرفة يقبلون، وعقابه لإنسانٍ ما يدفع هذا الإنسان أو غيره إلى التوبة والاقتراب إلى الله.. حتى يجتمع الآلاف حول عرشه يقدمون له سجود المحبة وعبادة القلب. هذا هو الإله القدير الذي نعبده..
قوته تكمل ضعفنا..
وعطاؤه يسدد أعوازنا..
وملؤه يملأ فراغ حياتنا..
وعندما نفتح القلب له يسكن فينا، ويغمرنا ببركاته الوفيرة فنتبارك، ونصير بركة.

(5)
«يهوه يِِرْأَه»
(الرب يُرى)

سندرس في هذا الفصل وفي الفصول السبعة القادمة بعض أسماء الله التي تتصل باسمه «يهوه» يحمل كل اسم منها معنى اسم «يهوه العظيم» إله الحياة، وإله الإعلان، وإله الحب المقدس. وهو يحمل معنى هذا الاسم في ضوء حادثة تاريخية جَرَت فعلاً.
والاسم الذي نلتقي به في هذا الفصل هو «يهوه يرأه» (راجع تكوين 22)، وهو اسم أطلقه إبراهيم خليل الله على إلهه بعد أن دخل معه في اختبار عميق غير عادي. فبعد أن علَّم الله إبراهيم الكثير عن جلاله في ظهورات متعددة طلب منه أن يأخذ إسحاق ابنه وحيده الذي يحبه، ويمضي به إلى قمة جبل مجهول، يعلن الرب عنه لإبراهيم فيما بعد، وهناك يقدم إسحاق محرقة، ويا له من طلب غريب!
كان عابدو الأصنام يقدمون أولادهم محرقة على المذبح لينالوا رضى الآلهة التي لا ترى ولا تسمع ولا تفعل شيئاً. لكن إبراهيم لم يعرف عن إلهه شيئاً من هذا. وربما سأل إبراهيم نفسه: هل تغير الإله الذي أعبده؟!
كان إسحاق ثمرة صبر طال سنوات حتى جاء اليوم الذي تحقق فيه الوعد، ووُلد لإبراهيم ابنٌ من سارة يرثه، وتتحقق فيه وعود الله له. وقد بلغ إبراهيم من العمر ما يعجز فيه على الإنجاب. وإن كان قد أنجب هذا الابن بمعجزة من الله، فكيف يطلب الآن أن يقتله؟!
وكم كان الطلب الإلهي غريباً: إبراهيم الأب العجوز، يربط ابنه الشاب القوي، ويرفع السكين ليذبحه؟! ألا يقاوم الشاب القوي؟ وماذا يقول عن أبيه؟ هل جُنَّ حتى يحاول أن يذبحه؟! ولماذا يذبحه؟ أليس استجابة لصوت لم يسمعه أحد سواه؟
ألا يقول الشاب أن أباه يهذي، وأن كبر السن صوَّر له هذه الأوهام؟ وألا تكون كل هذه الاستفهامات دافعة للشاب على المقاومة؟!!
وماذا يقول إبراهيم لزوجته بعد أن يذبح ابنه وابنها؟ لا بد أن هذه الأسئلة جميعاً دارت في عقل إبراهيم وهو يفكر في أمر الله الغريب الذي جاء إليه.. ولكن إبراهيم لم يهتز ولم يتردد لأن الصوت السماوي الذي تحدث إليه قائلاً: ««خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ الَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ.. وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً» كان هو نفسه الصوت الذي ألف سماعه قبل ذلك، وأدرك بقلبه أنه صوت الله.
وحمل إبراهيم حطب المحرقة، وأخذ معه خادمين، وابنه الوحيد المحبوب، وسافروا ثلاثة أيام، كانت دهوراً طويلة، وصراعاً أليماً داخل نفس إبراهيم، فهو لا يستطيع أن يحدِّث ابنه عما يعتمل في داخله، ولو خاطب خادميه عما ينوي أن يفعله لقالا إن سيدهما الكبير مخبول، ولحاولا منعه من القيام به.
ويطوي إبراهيم صدره على السر الكبير، ويمضي يفكر وقد نوى في نفسه أن ينفذ الأمر الإلهي.
ولا بد أن الشيطان تدخَّل في الأمر، وبدأ يهاجم الشيخ المؤمن، ويصوِّب سهام الشكوك السامة إلى قلبه المؤمن الكبير، ولعلَّه قال له: «ارجع أيها الرجل من سفرتك المشئومة هذه. كيف تطيع هذا النداء المخيف؟ فكر في حياتك بدون ابنك هذا. لقد كانت قبل أن يولد صحراء جدباء موحشة، قلت فيها لله: «إِنَّكَ لَمْ تُعْطِنِي نَسْلاً، وَهُوَذَا ابْنُ بَيْتِي وَارِثٌ لِي» (تكوين 15: 3).. ولكنها ستكون بعد أن يذهب جحيماً يلتهب سعيره.. أين الآمال التي راودتك يوم ولادته؟ أين الشعب الكبير الذي تريد أن أن تكون أباً له؟ وماذا عن أرض كنعان التي عشت فيها غريباً في خيام وأنت تنتظر أن يرثها نسلك؟ واأسفاه! لقد انتهى كل ذلك، فإن ابنك سيموت! وليته يموت ميتة عادية في حضن أمه! ولكنه سيموت مذبوحاً، وستكون اليد الأثيمة التي ستذبحه يد أبيه».
ولا بد أن إبراهيم ارتعد أمام هذه الأفكار وهو يسير إلى المكان المرسوم..
كان يمكن أن يقول إبراهيم لابنه: «أنا لست أباً محباً فإني سأقتلك». فيلعن إسحاق أباه، ولو أن اعتقاده في صلاح الله يبقى حياً داخل قلبه. فيفقد الابن ثقته في إبراهيم أبيه ولكنه لا يفقد ثقته في الله إله أبيه، وبهذا ينقذ إبراهيم إيمان ابنه!
وكان يمكن أن يعود إبراهيم بابنه إلى البيت من منتصف الطريق، ويقول لسارة إنه تحقق أن هذه التجربة كانت تجربة شيطانية، لكنه انتصر عليها ولم يقتل ابنه. ويستحق إبراهيم بهذا تهنئة الناس. غير أنه يفقد سلامه القلبي، ويضيع منه اللقب العظيم «إبراهيم أب المؤمنين».
ولكن إبراهيم لم يلجأ إلى حل وسط، ولم يحاول أن يهرب من دعوة الله له، لكنه في خضوع كامل، وفي ثقة إيمان محب مضى في طريقه المرسوم بعزم كبير. وعاون إبراهيم في طاعته لله يقينه وإيمانه في الله الذي وعده أن نسله سيكون مثل رمل البحر. فحتى لو ذبح ابنه فإن الله قادر أن يقيمه!
وفي انتصار إيمان عظيم قال إبراهيم للخادمين اللذين ذهبا معه: «اجلسا أنتما مع الحمار، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد، ثم نرجع إليكما».
إنه يعلم أنه سيعود ومعه ابنه. لم ينظر إبراهيم إلى مستقبل غامض، ولكنه في حاضره الصعب كان إيمانه أمراً واقعاً يسنده في الامتحان الذي وجد نفسه فيه. ويقول كاتب رسالة العبرانيين: «بِالإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ – قَدَّمَ الَّذِي قَبِلَ الْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ، الَّذِي قِيلَ لَهُ: «إِنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ» إِذْ حَسِبَ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى الإِقَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ أَيْضاً» (عبرانيين 11: 17-19).
وحتى لو مات وانتهى فإن هذه ستكون إرادة الله الصالحة. إن إسحاق عزيز على أبيه، أعز عنده من نفسه، ولكن الله أعز منه. كما أن رِضَى الله عليه أقصى مناه! لم يحاول أن يقتل نفسه بدلاً من قتل ابنه، ولم يصلِّ طالباً من الله أن يغيٍّر فكره من جهة ذبح إسحاق بحُجَّة أن قتله سيعطل مواعيد الله. ولم يفتش عن حمل يقدمه على المذبح بدل ابنه إسحاق فإنه يعلم أنه لا توجد تضحية تعظم عليه ما دام الله يطلبها..
وانتصر إبراهيم على كل الأفكار المناقضة لمشيئة الله، وأخذ حطب المحرقة ووضعه على كتف ابنه الشاب القوي، وأخذ بيده النار والسكين، وسار يصعد الجبل مع ابنه. سأل إسحاق أباه: «يَا أَبِي.. هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟» فقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي».
وجاءت اللحظة الحاسمة، ورفع إبراهيم يده ليذبح ابنه، حين ناداه صوت الله يقول:
«لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئاً، لأَنِّي الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي».
فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءهُ مُمْسَكاً فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضاً عَنِ ابْنِهِ. 14فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ «يَهْوَهْ يِرْأَهْ». حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ الْيَوْمَ: «فِي جَبَلِ الرَّبِّ يُرَى».
وكانت هذه التسمية وليدة الاختبار القوي الذي عاشه إبراهيم بقلبه وجسده وأعصابه وإيمانه عدة أيام.. فلم تكن مجرد تسمية عابرة وليدة الصدفة، بل كانت نتيجة أيام عاشها في امتحان كبير، ونتيجة نجاح ظافر في اختبار صعب.
ونحن اليوم نتطلع إلى اسم «يهوه يرأه» فنرى فيه ما رآه إبراهيم، الإله الذي يرى، والإله الذي يدبر، والإله الذي يفدي، نيقول إن الرب هذا هو إلهنا إلى الدهر والأبد.

1- الإله الذي يرى
هذا هو المعنى البسيط الواضح لهذا الاسم الجليل، فإن الله يرى كل شيء «وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذَلِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا» (عبرانيين 4: 13).
يقول المرنم في المزامير: «الْغَارِسُ الأُذُنَِ أَلاَ يَسْمَعُ؟ الصَّانِعُ الْعَيْنَ أَلاَ يُبْصِرُ؟» (مزمور 94: 9). ويقول سليمان الحكيم: «فِي كُلِّ مَكَانٍ عَيْنَا الرَّبِّ مُرَاقِبَتَيْنِ الطَّالِحِينَ وَالصَّالِحِينَ.. اَلْهَاوِيَةُ وَالْهَلاَكُ أَمَامَ الرَّبِّ. كَمْ بِالْحَرِيِّ قُلُوبُ بَنِي آدَمَ!» (أمثال 15: 3، 11) ويقول الله على فم النبي حزقيال: «وَمَا يَخْطُرُ بِبَالِكُمْ قَدْ عَلِمْتُهُ» (حزقيال 11: 5).
وقد سُميَّ النبي قديماً «الرائي» لأنه كان يرى المستقبل ويخبر به، واستمرت هذه التسمية وقتاً طويلاً (راجع 2صموئيل 15: 27 و2أخبار 16: 7) وما معرفة: «الرائي» إلا إعلان الله له.. كما حدث مع يوحنا، فكتب: «إِعْلاَنُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ، لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ، وَبَيَّنَهُ مُرْسِلاً بِيَدِ مَلاَكِهِ لِعَبْدِهِ يُوحَنَّا.. فَاكْتُبْ مَا رَأَيْتَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا هُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا» (رؤيا 1:1، 19).
وقد خاطب المرنم الله في المزمور 139 فقال له:
«ربي أنت بي خبير. أنت بي بصير.
عليمٌ بيّقائماً وقاعداً. تنفذ من بعيد إلى ما يدور بخلدي..
تدرك سعيي وسُباتي.. وسبلي كافةً لديك مألوفة
لما تعلق الكلمة بلساني، وها أنت يا رب تعلمها بحذافيرها
من بين يديَّ ومن خلفي أنت تحتويني. وضعت يدك عليّ
عِلْمٌ خارقٌ فوق طاقتي.. علوٌّ لا تصل إليه يدي
ربما قلتَ: «لعل الظلمة تسترني.. ولعل النور من فوقي ينقلب ليلاً»
إنما أنت مصوِّرٌ كلاي.. وناسجي في بطن أمي»
(عن ترجمة سفر المزامير للأب بوركي الدومنكي ومحمد الصادق حسين)

والله «يهوه يرأه» يرى الماضي والحاضر والمستقبل معاً، فلا يحده وقت ولا زمن، وليس لديه ماضٍ ولا مستقبل، بل الكل حاضر أمامه.. إنه يعرف قلب الإنسان وأفكاره.. ويعرف ما يفعله وما سيفعله.
فلنصلِّ له مع المرنم: «اخْتَبِرْنِي يَا اللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً» (مزمور 139: 23، 24).

2- الإله الذي يدبر
الله يرى، ويدبر. امتحن إبراهيم، ورأى طاعته وأمانته وثقته به، فدبَّر ذلك الكبش الممسك بقرنيه في الغابة! فالله الذي يرى يدبر أيضاً، ففي حكمته ومعرفته الأزلية يعرف الآتيات، وفي قوته وسلطانه يدبر كل احتياج للإنسان. ونحن نقول في أمثالنا العامة «الإنسان في التفكير والله في التدبير» وهذا عين ما أدركه إبراهيم حين سأله إسحاق: «هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟». فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي». وهذا يعني أن الله سيرى الحاجة ويدبر. وحين دبر له الكبش دعا إبراهيم اسم ذلك المكان «يَهْوَهْ يِرْأَهْ». حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ الْيَوْمَ: «فِي جَبَلِ الرَّبِّ يُرَى» أي يُرى تدبيره وخلاصه، وما يشجعنا على إدراك هذه الفكرة أن المكان الذي قدم فيه إبراهيم ابنه اسمه «أرض المُرِيّا» (تكوين 22: 2) وكلمة «مُريّا» من نفس أصل كلمة «يرأه» ومعنى «مريا» التدبير أو الإعداد أو الرؤيا..
والمكان «يهوه يرأه» مكان خاص تذكاري في حياة إبراهيم، فيه نجا ابنه من الموت بتدبيرٍ إلهي.. وعندما رأى إبراهيم ذلك الخلاص العظيم والإنقاذ الرائع أطلق على المكان اسم «يهوه يرأه» اعترافاً بفضل الله عليه، وإعلاناً لنعمته المخلصة المنقذة.
وما أعظم الفرق بين حالة إبراهيم وهو يسير إلى أرض المريا، مكسور القلب، حزين النفس مرتعداً في أسى، وبين حالته عائداً مرفوع القلب، يشكر الله القدير الذي رأى إيمانه وطاعته، ودبر خلاص ابنه، وما أكبر المفارقة بين حالته وهو يرفع السكين ليذبح ابنه وحيده الذي يحبه، وبين حالته وهو يقدم ذلك الكبش الذي دبره الله لإنقاذ ابنه. والكل من فضل الله الذي يرى ويدبر، فقال المفسر الألماني دليتش: «لم يعد إبراهيم يحب ابنه بعد خلاصه من الموت على أنه عظم من عظامه ولحم من لحمه، لكنه أخذ يحبه كعطية من الله مملوكة لله تماماً، ولكنها معطاة له كأمانة ووديعة، وذلك بفضل التدبير الإلهي الكريم».
ونحن ندرك من اختبارنا كم دبَّرنا الله وأنقذنا، وفي ضيقة نفوسنا تنازل وخلصنا كما فعل مع شعبه وهو يقول: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ، وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ» (خروج 3: 7، 8).
والمسيح يرى حاجتنا قبل أن نسأله، فيعطينا ما نحتاج إليه بتدبيره الكريم وحبه الفائض.. فيقول:
«لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ يُلْبِسُهُ اللَّهُ هَكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ» (متى 6: 25-34).

هذا هو إلهنا الذي يدبرنا بفضله وحكمته وحسب غناه. ولا شك أن جميعنا قد اختبرنا تدبيره الصالح لنا. فحين ظهرت لنا كل الأبواب مغلقة في وجوهنا، تدخَّل في اللحظة الأخيرة ونجّانا!
غير أن الأمر يتطلب منا أن نجتهد في أن نطيعه طاعة كاملة، فقد جرى هذا التدبير المعجزي لإبراهيم حين أطاع الله طاعة تبلغ حد الإعجاز.. وهذا ما قصده المسيح بقوله: « اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ» بمعنى أن نسعى أولاً بكل قوتنا نحو تنفيذ إرادة الله ملكنا السماوي، وأن نبحث عن الأمور المستقيمة في نظره (وهذا معنى بره) وعندئذٍ يتمم لنا ترتيباته المعجزية السماوية.

2- الإله الذي يفدي
«يهوه يرأه» رأى، ودبر، فجاء بالفداء لإسحاق الذي كان على حافة الموت، ففداه بذبح عظيم دبَّره الله الذي يفدي. فعلى الجبل بنى إبراهيم المذبح، ورتب الحطب، وربط ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب ثم مد يده وأخذ السكين ليذبحه. وهنا ناداه الله من السماء: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئاً». فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءهُ مُمْسَكاً فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضاً عَنِ ابْنِهِ».
نعم «عوضاً عن ابنه»!
ويقول اليهود في تقاليدهم أن إبراهيم صلى عند المذبح «صلاة الربط» أو «صلاة العقدة» ويرددونها في عبادة رأس السنة من كل عام وهذا نصها:
«اذكُرنا أيها الرب في مراحمك، واذكر القسم الذي حلفت لإبراهيم أبينا فوق جبل المريا، واذكر ربطه إسحاق فوق المذبح، يوم صَمَتَ صوتُ حبِّه الأبوي ليفعل مشيئتك بقلبٍ خالص. ليت محبتك تُسكِت صوتَ غضبك علينا، وليت صلاحك يحوِّل غضبك عن شعبك ومدينتك وميراثك. اذكر يا رب في يوم ربط إسحاق، اذكر نسله في مراحمك».
ومن هذا نرى أن غضب الله مُعلَن على البشر بسبب خطاياهم، وهم يطلبون من محبة الله ورحمته وصلاحه أن يحوِّل غضبه ويُسكِت صوت هذا الغضب. وفي فداء إسحاق نجد سبب تحوُّل غضب الله عن البشر بالفداء والعَوَض.
خلق الله الإنسان وأراد له السعادة، فجهَّز له جنَّة جميلة ليعيش فيها، قدَّم له فيها كل ما يحتاج إليه، وأعطاه حرية الأكل من كل شجر الجنة، ولم يمنعه إلا عن شجرة واحدة. وكانت هناك علاقة طيبة حميمة بين آدم والله، فكان آدم يجد أُنسه في الله وفي الحديث معه، وكان سعيداً لأنه كان مطيعاً لله.
وذات يوم جاءه الشيطان بفكرة جديدة عن السعادة، فقال له إنه سيسعد ويصير مثل الله إن كسر أمر الله وأكل من الشجرة المحرمة. ووجد الإنسان نفسه أمام فكرتين: طاعة الله أو طاعة الشيطان. وأخيراً اقتنع بأنه سيجد السعادة في طاعة نصيحة الشيطان.
فهل صار أكثر سعادة؟
لا! فلم يصبح مثل الله كما قال الشيطان، بل اكتشف أنه عريان حتى خجل من نفسه ومن الله. وطُرد من الجنة ليلاقي التعب والألم والشقاء.
يحاول الشيطان أن يقنعنا أن السعادة كل السعادة هي في ارتكاب الممنوع، ونحن نستجيب له لأن «الْمِيَاهُ الْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ، وَخُبْزُ الْخُفْيَةِ لَذِيذٌ» (أمثال 9: 17)! ثم يقول إن طريق الله صعب، وإن طاعة أوامره مستحيلة، وإننا ضعفاء. ويقول إن المسيح تحدَّث عن الطريق الواسع الذي ينتهي إلى الهلاك، وعن الطريق الضيق الذي يؤدي إلى الحياة، ومنحنا حرية الاختيار لنختار الطريق الضيق لنحصل على البركة والحياة الأبدية. فأنت حر أن تختار الطريق الذي تسير فيها لأنك صاحب فكر راجح، كما أن الله أعطاك عقلاً لتحكم، فأقترح عليك أن تختار الطريق الأسهل.
ولكن سليمان الحكيم قال: «اُنْظُرْ. هَذَا وَجَدْتُ فَقَطْ: أَنَّ اللَّهَ صَنَعَ الإِنْسَانَ مُسْتَقِيماً، أَمَّا هُمْ فَطَلَبُوا اخْتِرَاعَاتٍ كَثِيرَةً» (جامعة 7: 29). وهذا يعني أن الإنسان اختار الطريق الخاطئ بإرادته الحرة، ضد طريق الله وفكره. والاختيار الخاطئ هو الخطية، لأن الخطية هي «عدم إصابة الهدف». وما دمنا قد اخترنا اختياراً خاطئاً نكون فقد أخطأنا الهدف وصرنا خطاة، وعلينا وحدنا تقع مسئولية اختيارنا الخاطئ. قد نقول إننا ضعفاء، وإن الظروف قادتنا إلى ما ارتكبناه، أو إن صعوبات الحياة اضطرتنا إلى ارتكاب الخطأ. لكن هذه جميعها أعذار غير مقبولة، تبرهن أننا قد أخطأنا بالفعل.
فماذا فعل الله؟
لا بد أن الله القاضي العادل يعاقب الخاطئ الذي يرفض إرادته «لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ» (رومية 1: 18). وقال إشعياء النبي: «إِنْ شِئْتُمْ وَسَمِعْتُمْ تَأْكُلُونَ خَيْرَ الأَرْضِ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ وَتَمَرَّدْتُمْ تُؤْكَلُونَ بِالسَّيْفِ. لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ» (إشعياء 1: 19، 20).
ولكن الكتاب المقدس يعلمنا أن الله رحيم كما أنه عادل. ويطالب عدله بعقابنا، بينما رحمته تريد أن تغفر لنا. فكيف يأخذ العدل مجراه في نفس الوقت الذي يمارس فيه رحمته؟ وكيف نصالح عدل الله مع رحمته؟
واجه أيوب هذا التساؤل، فقال: «كَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ عِنْدَ اللهِ؟ إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَاجَّهُ لاَ يُجِيبُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ.. أَسْتَرْحِمُ دَيَّانِي.. لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَاناً مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ، فَنَأْتِي جَمِيعاً إِلَى الْمُحَاكَمَةِ. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا» (سفر أيوب أصحاح 9).
رأى أيوب أنه يحتاج إلى وسيط بينه وبين الله، يسمّيه «المصالح» الذي «يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا». ولا يقدر أحدٌ أن يضع يده على الله سوى الله، ولا يقدر أحد أن يضع يده على الإنسان ليصالحه مع الله إلا إن كان إنساناً كاملاً بلا خطية بحيث لا يحتاج هو نفسه إلى مصالح. وليس هناك إنسان كامل بدون خطية ولا يحتاج إلى مصالح غير المسيح، الذي هو الإله المتجسد الذي يقدر أن «يَضَع يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا» فمكتوبٌ «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1تيموثاوس 3: 16) ومكتوب «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ.. وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا 1:1، 14).. «لإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي 2: 9).. «اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ.. الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي» (عبرانيين 1:1- 3).. «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ» (1تيموثاوس 2: 5).
وعندما صار المسيح إنساناً صار«لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا» (كولوسي 1: 14) وقدَّم نفسه فدية عنا، فحمل عقوبة خطايانا بدلاً منا «إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا.. مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ.. مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ.. لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية 3: 23-26). «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضاً» (1يوحنا 2:2).
حقاً «فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا» (1يوحنا 4: 10).
هناك طريق واحد للخلاص من عقاب الخطية هو الخلاص بالفداء. وهذا واضح من قصة إبراهيم التي رأيناها لما عزم على ذبح إسحاق. ونجا الابن من الموت لأن الكبش حل محله، ونجا الابن بالفداء العظيم!
هذا هو العلاج الذي تقدمه لنا كلمة الله، ويقول الإنجيل: «وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أعمال 4: 12).
هذا هو طريق الخلاص. اقبله أو ارفضه، فأنت حر فيما تختار، واعلم أن مصيرك الأبدي يتوقف على اختيارك، فاختر الحياة لتحيا.
(6)
«يهوه روفي»
(الرب شافيك)

أعلن الله عن صفاته لأصفيائه الأتقياء في ظروف خاصة، وبعد اختبار محدد. وكان خليله إبراهيم أول من اكتشف كمال صفاته، وصلاح معاملاته، وعبَّر عن ذلك بالأسماء الخاصة بالله.
ورأينا من أسماء الله في الفصول الماضية اسم «أدوناي» بمعنى السيد، وذلك بعد أن انتصر إبراهيم في حربه اتي أنقذ فيها لوطاً ابن أخيه من الأسر، فكان هذا إعلاناً من الله لإبراهيم أنه ربه وسيده. كان إبراهيم سيداً ظافراً، لكن الله سيد إبراهيم، فهو ملك الملوك ورب الأرباب.
ورأينا اسم «إيل شداي» أي الإله القدير الذي أعطى خليله نسلاً أكثر عدداً من نجوم السماء ومن رمل البحر، رغم استحالة هذا بيولوجياً.
ورأينا اسم «يهوه يِرأه» أي الرب الذي يرى ويدبر، فدبَّر طريق نجاة إسحاق من الذبح والموت بالفداء العظيم.
وبعد ذلك أعلن الله عن نفسه لموسى باسم «يهوه» عندما ظهر له في العليقة المتقدة التي لا تحترق، وأظهر نفسه له أنه إله الحب المقدس.
وفي هذا الفصل نرى اسماً آخر من أسماء الله هو «الرب شافيك» وهو اسم أعلن الله به عن نفسه لعبده موسى بعد حادثة خاصة وعقب اختبار ذي معنى.
ونحن نرى في تتابع إعلان هذه الأسماء قصداً إلهياً عظيماً، ففيها نرى الله يعلن للإنسان عن نفسه بالتدريج بأن فيه كل حاجات الإنسان، فهو الذي يخلق ، ويقوي ، ويدخل في العهد، ويسند، ويدبر، ويشفي.. وكل ما حدث لهؤلاء القدماء من أمور إنما حدثت « مِثَالاً لَنَا.. وَكُتِبَتْ لإِنْذَارِنَا نَحْنُ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ الدُّهُورِ» (1كورنثوس 10: 6، 11).
والحادثة التي أدَّت إلى أن يعلن الله عن نفس بأنه «الرب شافيك» جرت بعد خروج بني إسرائيل من مصر، وبعد عبورهم البحر الأحمر، حين غرق جيش فرعون في المياه التي انفتحت لهم ليعبروا فيها آمنين. ويقول المؤرخ المقدس: «فَخَلَّصَ الرَّبُّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِسْرَائِيلَ مِنْ يَدِ الْمِصْرِيِّينَ. وَنَظَرَ إِسْرَائِيلُ الْمِصْرِيِّينَ أَمْوَاتاً عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. وَرَأَى إِسْرَائِيلُ الْفِعْلَ الْعَظِيمَ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ بِالْمِصْرِيِّينَ. فَخَافَ الشَّعْبُ الرَّبَّ وَآمَنُوا بِالرَّبِّ وَبِعَبْدِهِ مُوسَى» (خروج 14: 30، 31). وأنت ترى أن اسم «الرب» قد تكرر في هاتين الآيتين أربع مرات، لأن المؤرخ المقدس يريد أن يُظهِر لنا قوة الله المنقذة. وفي غمرة البهجة بالنصر والخلاص رفع بنو إسرائيل ترنيمات البهجة بقيادة مريم.
وسار الشعب في البرية مدة ثلاثة أيام دون أن يجدوا ماء ليشربوا! ساروا اليوم الأول في فرح الخلاص، ولعلهم ساروا معظم اليوم الثاني في جو الفرحة نفسها. ولكن الحال تغيَّر في اليوم الثالث لأن الماء الذي حملوه معهم بدأ ينفد وأخذت حلوقهم تجف، وصعد صراخ أطفالهم العطاش في آذانهم فلم يستطيعوا أن يحتملوا، وبدأوا يتذمرون.
وفي اليوم الثالث وصلوا إلى مكان به ماء فأقبلوا عليه بفرح، ولكن لدهشتهم وخيبة أملهم وجدوه ماءً مراً، فسيطر عليهم القلق، ونسوا الإله العظيم الذي أنقذهم بمعجزاته المذهلة، فتذمروا على موسى قائلين: ماذا نشرب؟ ولم يعرف موسى ما يفعله سوى أن يصرخ إلى الله طالباً الإرشاد، فإن «يهوه» إله الحب لابد أن يعلن حبه بوسيلة منظورة.
وتدخَّل الله في الموقف، ودبر الأمر كله بأن كشف لموسى عن شجرة هناك، فقطعها وطرحها في الماء فصار الماء المر عذباً.
ويقول أحد المفسرين المعاصرين إن هناك أنواعاً من الأشجار تعطي هذه النتيجة، فهناك شجرة «نليماران» في كوروماندل جنوب شرق الهند، وشجرة «سسافراس» في ولاية فلوريدا الأمريكية، وشجرة «يرفاكنيايني» في بيرو بأمريكا الجنوبية. ويمضي نفس المفسر فيقول إن بعض مشايخ العرب أخبروا فرانس دلسبس أنهم استخدموا نوعاً من الشجر به شوك للتخلص من مرارة الماء، ولكنهم لم يخبروه شيئاً أكثر من ذلك.
والذين يسافرون اليوم إلى نفس موقع «مارة» يجدون ماءها مُراً لا يُشرب. وربما أرشد الله موسى إلى شجرة من الشجر الذي يجعل الماء المر عذباً، فطرحها في الماء فصار الماء عذباً.
ولا ننتقص بقولنا هذا من عظمة المعجزة، فإن الله يعمل المعجزات بأن يستخدم قوانينه الطبيعية، وفوق الطبيعية، فأرشد موسى إلى هذه الشجرة، وبدون هذا ما كان يمكن للشعب أن يشرب.
وبمناسبة «شفاء» الماء المر وتحويله إلى ماء عذب، أعلن الله عن نفسه للشعب وقال: «إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ لِصَوْتِ الرَّبِّ إِلَهِكَ وَتَصْنَعُ الْحَقَّ فِي عَيْنَيْهِ وَتَصْغَى إِلَى وَصَايَاهُ وَتَحْفَظُ جَمِيعَ فَرَائِضِهِ، فَمَرَضاً مَا مِمَّا وَضَعْتُهُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ لاَ أَضَعُ عَلَيْكَ. فَإِنِّي أَنَا الرَّبُّ شَافِيكَ» (خروج 15: 26).
وهكذا أعلن الرب عن نفسه أنه «الرب شافيك».

1- الرب يشفي أمراض الجسد
لعل شفاء الجسد هو المعنى الأول الذي يتبادر إلى الذهن عندما نسمع الله يقول: «أنا الرب شافيك» هو أن الرب يشفي أمراض الجسد، فأجسادنا تشبه الخيمة المعرَّضة للرياح والأمطار التي تمزقها وتنزع أوتادها، فتحتاج إلى دواء وعلاج. ووصف النبي إشعياء الشعب قائلاً: «كُلُّ الرَّأْسِ مَرِيضٌ، وَكُلُّ الْقَلْبِ سَقِيمٌ. مِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ إِلَى الرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ، وَأَحْبَاطٌ، وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِالزَّيْتِ» (إش 1: 5، 6).
ولكن الله في محبته يتدخل ليشفي البشر المرضى، فكلمة «شفى» في العبرية هي كلمة «رفأ» وهي تعني حرفياً ما يقوم به «الرفا» الذي يخيط نسيج الثوب معاً ليصلحه بعد تمزُّقه، فهي لا تعني وضع رقعة من قماش جديد لإصلاح ثوب عتيق، ولكنها تعني تجميع أجزاء الثوب معاً.
كما أنها تعني خياطة الجرح. كان مارتن لوثر يقول ضاحكاً إن الطبيب هو الإسكافي الذي عيَّنه الله للعناية بأجساد البشر، فهو يخيط جروحهم!
ونأخذ من العهد القديم حادثتين تدللان على أن الرب هو الشافي من مرض الجسد. جرت الحادثة الأولى مع مريم أخت موسى وهارون، فقد تزوج موسى امرأة كوشية، أي زنجية ربما من بلاد الحبشة، فأخذت مريم تثير هارون أخاها ضد موسى. ونحن لا ندري بالضبط سبب غضب مريم وانتقادها لهذ الزيجة، فلم تكن هناك شريعة في العهد القديم ضد الزواج بأكثر من واحدة، ولم تكن هناك شريعة ضد الزواج بالأجانب سوى من الكنعانيين. فيكون أن موسى لم يكسر أي شريعة.. لكن ربما كانت مريم وطنية متعصبة، أرادت أن يتزوج أخوها موسى واحدة من الإسرائيليات».
على أن السبب الحقيقي الكامن خلف هذا الانتقاد كان الحسد، فإن مريم وهارون قالا: «هَل كَلمَ الرَّبُّ مُوسَى وَحْدَهُ؟ أَلمْ يُكَلِّمْنَا نَحْنُ أَيْضاً؟» (العدد 12: 2). ولما كان هذا الحسد في وسط القادة الثلاثة سيكون مصدر خطر على الشعب كله، دعا الله مريم وهارون وموسى، ووبخ مريم وهارون و«حَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْهِمَا» وضرب مريم بمرض البرص.
فَالْتَفَتَ هَارُونُ إِلَى مَرْيَمَ وَإِذَا هِيَ بَرْصَاءُ. فَقَالَ هَارُونُ لِمُوسَى: «أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، لا تَجْعَل عَلَيْنَا الْخَطِيَّةَ الَّتِي حَمِقْنَا وَأَخْطَأْنَا بِهَا.. فَصَرَخَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ: «اللَّهُمَّ اشْفِهَا».
وسمع الرب لموسى، ولكنه طلب أن تبقى مريم خارج الجماعة كلها مدة أسبوع، معزولة ببرصها. وبعد نهاية الأسبوع شُفيت.
أما القصة الثانية التي نقدمها كمثال من العهد القديم فهي قصة شفاء الملك حزقيا من مرضه المميت، وإطالة حياته خمس عشرة سنة. (وردت القصة في نبوّة إشعياء أصحاح 38 والملوك الثاني 20).
وكان الملك حزقيا واحداً من الملوك الثلاثة الصالحين الذين أورد التاريخ المقدس سيرتهم، وهم داود ويوشيا وحزقيا. ولعل أعظم وصف عن حزقيا هو أنه «الْتَصَقَ بِالرَّبِّ» (2ملوك 18: 6).
مرض حزقيا مرضاً شديداً حتى أشرف على الموت، ولا بد أنه تعاطى كل وسائل العلاج المعروفة لدى أطباء زمانه، بدون جدوى. وأخيراً جاءه النبي إشعياء يقول: «أَوْصِ بَيْتَكَ لأَنَّكَ تَمُوتُ وَلا تَعِيشُ» فانكسر قلبه وبكى بكاءً عظيماً أمام الله، وصلى وطلب الشفاء، وسمع الرب صلاته، وقال لإشعياء: «ارْجِعْ وَقُلْ لِحَزَقِيَّا.. هَكَذَا قَالَ الرَّبَُّ: قَدْ سَمِعْتُ صَلاَتَكَ. قَدْ رَأَيْتُ دُمُوعَكَ. هَئَنَذَا أَشْفِيكَ. فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ تَصْعَدُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ».
فَقَالَ إِشَعْيَاءُ: «خُذُوا قُرْصَ تِينٍ». فَأَخَذُوهَا وَوَضَعُوهَا عَلَى الدَّبْلِ فَبَرِئَ.
وَقَالَ حَزَقِيَّا لإِشَعْيَاءَ: «مَا الْعَلاَمَةُ أَنَّ الرَّبَّ يَشْفِينِي فَأَصْعَدَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ؟» فَقَالَ إِشَعْيَاءُ: «هَلْ يَسِيرُ الظِّلُّ عَشَرَ دَرَجَاتٍ أَوْ يَرْجِعُ عَشَرَ دَرَجَاتٍ؟». فَقَالَ حَزَقِيَّا: «إِنَّهُ يَسِيرٌ عَلَى الظِّلِّ أَنْ يَمْتَدَّ عَشَرَ دَرَجَاتٍ. لاَ! بَلْ يَرْجِعُ الظِّلُّ إِلَى الْوَرَاءِ عَشَرَ دَرَجَاتٍ!». فَدَعَا إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ الرَّبَّ، فَأَرْجَعَ الظِّلَّ بِالدَّرَجَاتِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا بِدَرَجَاتِ آحَازَ عَشَرَ دَرَجَاتٍ إِلَى الْوَرَاءِ».
وكان هذا الأمر معجزة! إن الظل الذي يمتد والشمس في طريقها إلى الغروب، قد انحسر ورجع إلى الوراء! وفي هذا رمز إلى أن ظل الموت قد انحسر عن حزقيا، وأن حياته ستمتد خمس عشرة سنة أخرى، حسب الوعد الإلهي.
وعندما أعاد الملك هيرودس بناء هيكل سليمان وجد في الهيكل الجديد درجات سُلَّم تقود من مكان اجتماع النساء إلى المكان الذي أٌطلق عليه «دار إسرائيل» .. وأثناء عيد المظال كان الكهنة يقفون على هذه الدرجات يرنمون خمسة عشر مزموراً هي ترنيمات المصاعد الواردة في سفر المزامير، من المزمور المائة والعشرين إلى المزمور المائة والرابع والثلاثين. وكان مرضى البَرَص الذين ينالون الشفاء يقفون على رأس تلك الدرجات ليعرضوا أنفسهم على الكهنة ليحصلوا منهم على شهادة تثبت شفاءهم.
ويقول تقليد يهودي إن حزقيا نفسه هو الذي جمع مزامير المصاعد الخمسة عشر، شكراً للرب على الأعوام الخمسة عشر التي أُضيفت إلى حياته، وقد كتب داود خمسة من هذه المزامير، ولكن العشرة المزامير الباقية لا تحمل اسم كاتبٍ ما، على أن محتوياتها تتفق مع قصة شفاء الملك حزقيا من المرض المميت، كما تتفق مع بقية اختبارات حزقيا في حياته السياسية والحربية!
أما العهد الجديد فيقدم لنا عدداً كبيراً من قصص الشفاء المعجزية التي أجراها المسيح وبقية رسله.. وقال المسيح في بدء خدمته في الناصرة: ««رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ، ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ» (لوقا 4: 18، 19).
أما سنة الرب المقبولة التي جاء ينادي بها، فهي سنة اليوبيل التي ُتردُّ فيها الأملاك إلى أربابها بعد ضياعها من أيديهم بسبب ديون أو رهونات، وفيها يتحرر العبيد من أيدي سادتهم، ويتم فيها الفكاك والإبراء للناس، وفيها تستريح الأرض من الزرع.. هي إذاً سنة الإبراء والاسترداد والهتاف والتعييد (راجع سفر اللاويين 25). وقد جاء المسيح لينادي بهذه جميعاً.
وعندما أرسل يوحنا المعمدان اثنين من تلاميذه ليسأل المسيح إن كان هو المخلص المنتظر، قال المسيح للتلميذين: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ» (متى 11: 4-6).
ونورد قصة شفاء امرأة مريضة «بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ أَنْفَقَتْ كُلَّ مَعِيشَتِهَا لِلأَطِبَّاءِ وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُشْفَى مِنْ أَحَدٍ، جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَلَمَسَتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ (المسيح). فَفِي الْحَالِ وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. فَقَالَ يَسُوعُ: «مَنِ الَّذِي لَمَسَنِي!». وَإِذْ كَانَ الْجَمِيعُ يُنْكِرُونَ قَالَ بُطْرُسُ وَالَّذِينَ مَعَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، الْجُمُوعُ يُضَيِّقُونَ عَلَيْكَ وَيَزْحَمُونَكَ وَتَقُولُ مَنِ الَّذِي لَمَسَنِي!». فَقَالَ يَسُوعُ: «قَدْ لَمَسَنِي وَاحِدٌ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي». فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا لَمْ تَخْتَفِ، جَاءَتْ مُرْتَعِدَةً وَخَرَّتْ لَهُ وَأَخْبَرَتْهُ قُدَّامَ جَمِيعِ الشَّعْبِ لأَيِّ سَبَبٍ لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ بَرِئَتْ فِي الْحَالِ. فَقَالَ لَهَا: «ثِقِي يَا ابْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ» (لوقا 8: 43-48).
وكان التلمود، وهو التقليد الذي كتبه يهوذا الناسي أثناء السبي (واسمه المِشْنا) والتفسير عليه، يقول: «يسرق اللص مالك أو حياتك، وأما الطبيب فإنه يسرق كليهما». وفي هذا القول ظلم واضح للأطباء. ولكن نازفة الدم هذه طال مرضها اثنتي عشرة سنة، أنفقت أثناءها كل ما عندها على الأطباء، ويقول لوقا الطبيب عنها: «وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُشْفَى مِنْ أَحَدٍ». ولكن مرقس البشير (وهو ليس طبيباً) حين يورد القصة يقول: «وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئاً، بَلْ صَارَتْ إِلَى حَالٍ أَرْدَأ» (مرقس 5: 26).
ووصلت المسكينة إلى عمق اليأس، فمرضها يضيِّع طهارتها الطقسية، وكل من يلمسها يكون نجساً إلى المساء – حسب الشريعة اليهودية (اقرأ لاويين 15: 19) ووصلت حالتها المادية إلى الحضيض، وصارت صحتها أردأ.. ولكنها في يأسها وجدت شعاعة الأمل في المسيح!
ولم تقدر أن تذهب إليه قدام الناس، لخجل من ملابسها، أو لخوف من أن تلمس أحداً فيتنجس.. فذهبت إليه في زحمة الجمع، ومن ورائه لمست هدب ثوبه. وكان لثوب اليهودي في كل زاوية هدباً وهي (الشُّرّابة) معلّقة بخيط أزرق يرمز إلى أنه قدس للرب، وفي الغالب كانت شرابتان تتدليان إلى أسفل الثوب، وتتعلق اثنتان عند الكتف حيث يلتف حول الملابس (اقرأ سفر العدد 15: 37-40 مع التثنية 22: 12). ولاشك أن نازفة الدم لمست إحدى شُرابتي الكتف، فلم يكن من السهل عليها أن تنحني وسط الزحام الكثيف السائر، وما كان يمكنها أن تفعل هذا دون أن يلاحظها الناس، فلمست المرأة هُدب الكتف، وبرئت!
ولكن المسيح سأل: «من لمسني؟».
كان كثيرون يضيِّقون عليه ويزحمونه، وهو يسأل عن مجرد لمسة! لكنه لم يكن يسأل عن زحمة الناس أو صدمة أحد، بل عن لمسة إيمان. وشتان الفرق بين لمسة الثقة وصدمة الصدفة. فتقدمت في خوف واستخذاء، وحكت له الأمر كله، وكيف برئت في الحال، فقال لها المسيح: «ثِقِي يَا ابْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ».
ولا يذكر الإنجيل أن المسيح خاطب أي سيدة أخرى بكلمة «يا ابنة» إلا نازفة الدم هذه – ويقول التقليد أنها «فيرونيكا» من بلدة بانياس في قيصرية فيلبي. ويكتب المؤرخ يوسابيوس في تاريخه المعروف فيقول: «أُقيم لفيرونيكا تمثال برونزي في مكان شفائها، يمثلها وهي تلمس هدب ثوب المسيح، ولكن جوليان الامبراطور الروماني حطمه» (حكم جوليان 361-363م).
نعتقد أن المرض هو الشذوذ، بينما الصحة الكاملة هي ما يريده الله لأولاده المؤمنين، فإن المسيح الفادي حمل أحزاننا التي نتجت عن الخطية، وتحمَّل أوجاعنا الناتجة عن المرض (إشعياء 53: 4). وعندما يشفينا لا يكسر قوانين الطب أو الطبيعة. يقول الدكتور ألكسيس كاريل الطبيب والعالم الأمريكي (مات عام 1944) إنه رأى حالات من سرطان الجلد تختفي بعد صلوات الإيمان لله. وليس في هذا تحطيماً لقانون من قوانين الطبيعة، لكنه تسخير قانون أعلى لينسخ ويلغي قانوناً أدنى، فالمعجزة ليست تحطيماً لقوانين الله، ولكنها تشغيل لبعض قوانينه الأخرى.
إنك لا تستطيع أن تزرع الأزهار وسط الثلوج، لكن المشتل الزجاجي الذي يُجهَّز بدرجة حرارة خاصة يعطي الزهور الجو المناسب لتنمو داخله، بينما الثلوج تغطي المكان من الخارج. هكذا الأمر مع الله، فهو قادر بقوته أن يعطي الشفاء، بتشغيل نواميسه الطبيعية التي نجهلها.
عندما كان بولس الرسول سجيناً في روما أرسلت له كنيسة فيلبي أحد أعضائها ليتولى خدمته (اسمه أبفرودتس). ولكن هذا الخادم المتطوّع مرض، فقام بولس الرسول بتطييبه وعلاجه، بغير إجراء معجزة شفاء – وكان مرض أبفرودتس شديداً، يصفه الرسول بولس بأنه «مرض قريباً من الموت» (فيلبي 2: 25-30) ولكن الله شفاه.
لا شك أن الله يقدم الشفاء، فهو «يهوه روفي» ويكون ذلك في الوقت المناسب، الذي يعينه هو، وبالطريقة التي يحددها هو.
ولا يعني هذا أن الله يشفي كل مرض، فهناك أمراض لا يشفيها، ولكنه يعطي نعمة لاحتمالها وللتأقلم معها. ونعود إلى بولس الرسول. فقد كان مريضاً بما وصفه أنه «شوكة في الجسد». ولا نعلم ماذا كانت تلك الشوكة. قيل إنها كانت مرضاً في عينه أو مرضاً عصبياً – لا ندري. كتب- عنها يقول: «أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ، مَلاَكَ الشَّيْطَانِ، لِيَلْطِمَنِي لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ. مِنْ جِهَةِ هَذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ». فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ» (2كورنثوس 12: 7-9).

2- الرب يشفي أمراض الروح
يشفي الرب القلب من مرض الخطية، فهي مصدر كل الويلات والآلام والمتاعب التي جاءت على البشر جميعاً. حين خلق الله آدم أوجده في جنة عدن، وكان يريد له الحياة الناعمة المستريحة السعيدة. لكن آدم أكل من الشجرة المنهى عنها، وجلب على نفسه وعلى نسله الشقاء والمرض والحزن. ومن يومها والبشر يقاسون من نتائج تلك السَّقطة.
وفي معجزات الشفاء التي أجراها المسيح نراه يربط أحياناً بين الخطية والمرض، كما فعل يوم جاءه أربعة رجال يحملون مفلوجاً مشلولاً في فراشه، ولم يقدروا أن يدخلوا به إليه، لأن المكان كان مزدحماً جداً بالناس، ولم يقبل أحد أن يترك مكانه حتى يُدخلوا المشلول. فاهتدى الرجال الأربعة إلى إنزال المفلوج من سقف البيت الذي كان يسوع فيه. وكان السقف من الأجُرّ الفخاري الذي يمكن أن يُرفع ويُعاد إلى مكانه بجهدٍ معقول. فصعدوا به على السلالم الخارجية إلى السطح، ورفعوا الأجُر من المكان الذي كان المسيح يجلس تحته، ثم دلوا المريض من السقف.
وعندما رأى المسيح إيمان الرجال الذين أحضروا المشلول وإيمان المشلول نفسه، قال له: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». ولا بد أنه رأى الخطية سبباً لما أصاب هذا المشلول، فقال بعض الحاضرين: «مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ؟». فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هَكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَسألَهُمْ: أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟». ثم قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «لَكَ أَقُولُ قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ». فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ السَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ الْكُلِّ».
كان من السهل أن يقول للمفلوج: «مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» لأنه لا يقدر أحدٌ أن يرى إن كانت خطاياه قد غُفرت أو لم تُغفر.. ولكن وقوف المشلول وحمله فراشه أعلن سلطان المسيح الإلهي الذي يشفي المرض، ويغفر الخطايا (القصة في مرقس 2: 1-12).
وبعدما شفى المسيح مريض بِركة بيت حِسدا وجده في الهيكل وقال له: «هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ، فَلا تُخْطِئْ أَيْضاً لِئَلا يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ» (يوحنا 5: 14). وبهذا حذر المسيح الرجل من الرجوع للخطية، الأمر الذي يبرهن أن الخطية كانت سبب المرض الذي أقعده ثمانٍ وثلاثين سنة.
على أن المرض يمكن أن يصيب الإنسان لغير خطية ارتكبها، فقد رأى المسيح «إِِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، فَسَأَلَهُ تلاَمِيذُهُ: «يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هَذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟». أَجَابَ يَسُوعُ: «لاَ هَذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لَكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللَّهِ فِيهِ» (يوحنا 9: 1-3).

3- الرب يشفي أمراض الأرض
صلى المرنم في المزمور الستين قائلاً: «يَا اللهُ، رَفَضْتَنَا. اقْتَحَمْتَنَا (أي دخلتَ علينا عُنوةً). سَخِطْتَ. أَرْجِعْنَا. زَلْزَلْتَ الأَرْضَ. فَصَمْتَهَا (أي شققتها وكسرتها). اجْبُرْ كَسْرَهَا لأَنَّهَا مُتَزَعْزِعَةٌ» (آيتا 1، 2).
أغلب الظن أن قادة الشعب اجتمعوا أمام الرب للصلاة يرفعون إليه شكواهم ربما من مصيبة حلَّت بالبلاد كلها أثر هزيمة مؤلمة أمام عدو غاصب نزل على الديار كما تنزل الزلزلة بالأرض، فحطمها وزعزع أمنها وكسرها! ولم يجد الشعب إلا ان يصرخ إلى الله من أجل أرضه قائلاً: «اُجبر كسرها لأنها متزعزعة».
أو لعل قادة الشعب رفعوا شكواهم إلى الله طالبين شفاء الأرض من اقتحام الآفات الزراعية وأسراب الجراد، كما قال عنه النبي عاموس: «كَثِيراً مَا أَكَلَ الْقَمَصُ جَنَّاتِكُمْ وَكُرُومَكُمْ وَتِينَكُمْ وَزَيْتُونَكُمْ» (عاموس 4: 9).
أو لعلهم صرخوا إليه ليشفي البلاد من الكساد الاقتصادي الذي وصفه النبي حجي بالقول: «زَرَعْتُمْ كَثِيراً وَدَخَّلْتُمْ قَلِيلاً. تَأْكُلُونَ وَلَيْسَ إِلَى الشَّبَعِ. تَشْرَبُونَ وَلاَ تَرْوُونَ. تَكْتَسُونَ وَلاَ تَدْفَأُونَ. وَالآخِذُ أُجْرَةً يَأْخُذُ أُجْرَةً لِكِيسٍ مَنْقُوبٍ» (حجي 1: 6).
رأى المرنم أن بلاده مصدوعة مكسورة تحتاج إلى علاج رباني، فطلبه من الرب الشافي الذي يجبر كسرها. وفعل الأمر العبري المترجم «اجبُر» هو من نفس أصل الكلمة العبرية «شافيك». والرب هو الذي يشفي الأرض «المريضة» المكسورة حربياً أو ااقتصادياً.
لا بد أن المرنم تذكَّر أن الملك سليمان رفع صلاته إلى الله عند تدشين الهيكل العظيم الذي بناه، وقال: «إِذَا أُغْلِقَتِ السَّمَاءُ وَلَمْ يَكُنْ مَطَرٌ لأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا إِلَيْكَ، ثُمَّ صَلُّوا فِي هَذَا الْمَكَانِ وَاعْتَرَفُوا بِاسْمِكَ وَرَجَعُوا عَنْ خَطِيَّتِهِمْ لأَنَّكَ ضَايَقْتَهُمْ، فَاسْمَعْ أَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ وَاغْفِرْ خَطِيَّةَ عَبِيدِكَ» (2أخبار 6: 26، 27) فظهر الرب لسليمان في رؤيا بالليل وقال له: «قَدْ سَمِعْتُ صَلاَتَكَ.. فَإِذَا تَوَاضَعَ شَعْبِي الَّذِينَ دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهِمْ، وَصَلُّوا وَطَلَبُوا وَجْهِي، وَرَجَعُوا عَنْ طُرُقِهِمِ الرَّدِيئَةِ، فَإِنِّي أَسْمَعُ مِنَ السَّمَاءِ وَأَغْفِرُ خَطِيَّتَهُمْ وَأُبْرِئُ أَرْضَهُمْ» (2أخبار 7: 14).
والكلمة «أبرئ» هي من نفس أصل الكلمة «شافيك» وقد قال النبي إشعياء: «يَجْبُرُ الرَّبُّ كَسْرَ شَعْبِهِ، وَيَشْفِي رَضَّ ضَرْبِهِ» (إشعياء 30: 26).
ترى هل وصلنا إلى الحالة التي وصفها النبي حجي بالقول: «زَرَعْتُمْ كَثِيراً وَدَخَّلْتُمْ قَلِيلاً. تَأْكُلُونَ وَلَيْسَ إِلَى الشَّبَعِ. تَشْرَبُونَ وَلاَ تَرْوُونَ. تَكْتَسُونَ وَلاَ تَدْفَأُونَ. وَالآخِذُ أُجْرَةً يَأْخُذُ أُجْرَةً لِكِيسٍ مَنْقُوبٍ.. لِذَلِكَ مَنَعَتِ السَّمَاوَاتُ مِنْ فَوْقِكُمُ النَّدَى، وَمَنَعَتِ الأَرْضُ غَلَّتَهَا» (حجي 1: 6، 10).
وعندما يشفي الرب أرضنا نسمع قوله : «أَفْتَحُ لَكُمْ كُوى السَّمَاوَاتِ وَأُفِيضُ عَلَيْكُمْ بَرَكَةً حَتَّى لاَ تُوسَعَ. وَأَنْتَهِرُ مِنْ أَجْلِكُمْ الآكِلَ فَلاَ يُفْسِدُ لَكُمْ ثَمَرَ الأَرْضِ» (ملاخي 3: 10، 11).
لأنه هو الذي قال: «أنا الرب شافيك».

(7)
«يَهْوَهْ نِسِّي»
(الرب رايتي)

في رحلة خروج بني إسرائيل من أرض جاسان بمصر وصلوا إلى الشاطئ الغربي للبحر الأحمر، وإذا بالمصريين خلفهم، فتذمروا على موسى، فقال لهم: «لاَ تَخَافُوا. قِفُوا وَانْظُرُوا خَلاَصَ الرَّبِّ الَّذِي يَصْنَعُهُ لَكُمُ الْيَوْمَ.. الرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْمُتُونَ» (خروج 14: 13، 14).
وأمر الرب موسى: «ارْفَعْ أَنْتَ عَصَاكَ وَمُدَّ يَدَكَ عَلَى الْبَحْرِ وَشُقَّهُ، فَيَدْخُلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَة.. وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ الْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَابِسَةً، وَانْشَقَّ الْمَاءُ، فَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَةِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ» (خروج 14: 16، 21، 22). ولما تبعهم المصريون أعاد الرب ماء البحر إلى حالته الدائمة فغرق المصريون.
بعدها سار بنو إسرائيل في صحراء سيناء مدة ثلاثة أيام، فانتهى ما حملوه معهم من ماء. وعندما وصلوا مارة وجدوا ماءً لكنه كان مُراً، فتذمروا على موسى، فأرشده الرب إلى شجرة طرحها في الماء، فصار الماء المر عذباً. وفي هذه المناسبة قال الرب للشعب: «أَنَا الرَّبُّ شَافِيكَ» (خروج 15: 26).
«ثُمَّ جَاءُوا إِلَى إِيلِيمَ، وَهُنَاكَ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَ مَاءٍ وَسَبْعُونَ نَخْلَةً. فَنَزَلُوا هُنَاكَ عِنْدَ الْمَاءِ» (خروج 15: 27).
ثم وصلوا إلى «برية سين» وفيها تذمروا على موسى وعلى هارون، وكان تذمرهم هذه المرة لأنهم يفتقدون الخبز واللحم الذي كان متوافراً لهم في مصر، فأرسل الله لهم المنَّ وطيور السلوى (السِّمّان) (خروج أصحاح 16).
ثم سافروا من «برية سين» إلى «رفيديم» فلم يكن هناك ماء ليشربوا، فتذمروا على موسى فأمره الرب أن يضرب صخرةً في حوريب، فخرج الماء منها فشرب الشعب كله (خروج 17: 6).
وواجه بنو إسرائيل مشكلة كبيرة في رفيديم، فقد «أَتَى عَمَالِيقُ وَحَارَبَ إِسْرَائِيلَ فِي رَفِيدِيمَ. فَقَالَ مُوسَى لِيَشُوعَ: «انْتَخِبْ لَنَا رِجَالاً وَاخْرُجْ حَارِبْ عَمَالِيقَ. وَغَداً أَقِفُ أَنَا عَلَى رَأْسِ التَّلَّةِ وَعَصَا اللهِ فِي يَدِي». فَفَعَلَ يَشُوعُ كَمَا قَالَ لَهُ مُوسَى لِيُحَارِبَ عَمَالِيقَ. وَأَمَّا مُوسَى وَهَارُونُ (شقيقه) وَحُورُ (قال المؤرخ يوسيفوس إنه زوج أخته مريم) فَصَعِدُوا عَلَى رَأْسِ التَّلَّةِ. وَكَانَ إِذَا رَفَعَ مُوسَى يَدَهُ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَغْلِبُ، وَإِذَا خَفَضَ يَدَهُ أَنَّ عَمَالِيقَ يَغْلِبُ. فَلَمَّا صَارَتْ يَدَا مُوسَى ثَقِيلَتَيْنِ أَخَذَا حَجَراً وَوَضَعَاهُ تَحْتَهُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَدَعَمَ هَارُونُ وَحُورُ يَدَيْهِ الْوَاحِدُ مِنْ هُنَا وَالآخَرُ مِنْ هُنَاكَ. فَكَانَتْ يَدَاهُ ثَابِتَتَيْنِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. فَهَزَمَ يَشُوعُ عَمَالِيقَ وَقَوْمَهُ بِحَدِّ السَّيْفِ.. فَبَنَى مُوسَى مَذْبَحاً وَدَعَا اسْمَهُ «يَهْوَهْ نِسِّي» (ومعناه: الرب رايتي). وَقَالَ: «إِنَّ الْيَدَ عَلَى كُرْسِيِّ الرَّبِّ (ومعناه أنهم حاربوا الرب). لِلرَّبِّ حَرْبٌ مَعَ عَمَالِيقَ مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ» ومعناه أن الرب سيحاربهم. (خروج 17: 8-16).
كان بنو إسرائيل في حرب مستمرة مع الشيطان عدو البشر، وكذلك نحن «فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس 6: 12).. «لَسْنَا حَسَبَ الْجَسَدِ نُحَارِبُ، إِذْ أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِاللَّهِ عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ. هَادِمِينَ ظُنُوناً وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ» (2كورنثوس 10: 3-5).
ما أن انتهت مشكلة العطش حتى ظهرت مشكلة أكثر خطراً، فقد ظهر شعب قوي مقاتل اسمه «عماليق» لاقاهم عند رفيديم وقتل من من مؤخرة الجماعة المسافرة كل الضعفاء الذين لم يكونوا قادرين على المشي السريع، وهم في تعب وكلل (راجع التثنية 25: 18).
«العمالقة» هُم نسل «عماليق» حفيد عيسو أخي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (التكوين 36: 12). ومع أنهم كانوا أبناء عمومة لبني إسرائيل، إلا أنهم كانوا شوكةً في ظهورهم وخطراً مستمراً على حياتهم الروحية. وقال النبي الأممي بلعام بن بعور إن عماليق «أول الشعوب» (العدد 24: 20) وربما كان بلعام يقصد أنهم كانوا أول الشعوب الذين حاربوا بني إسرائيل، فقد كانوا شعباً كثير العدد وقوياً في الحرب. وكان المُنتظر منهم أن يعاونوا أبناء عمومتهم، لكنهم على العكس، قاوموهم حتى قال موسى للشعب في أواخر أيامه: «اُذْكُرْ مَا فَعَلهُ بِكَ عَمَالِيقُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ خُرُوجِكَ مِنْ مِصْرَ… فَمَتَى أَرَاحَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِكَ حَوْلكَ فِي الأَرْضِ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباً لِتَمْتَلِكَهَا، تَمْحُو ذِكْرَ عَمَالِيقَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. لا تَنْسَ» (تثنية 25: 17، 19).
ولم يتزعزع الشعب المتذمر مع أن عماليق قتل بعضهم. ولعل معجزات الله الأخيرة معهم في الماء الذي خرج من الصخر، والمن الذي نزل من السماء، والسلوى التي دفعتها الرياح، لعل هذه جميعاً ملأت قلوبهم بالأمل في قوة الله المنقذة، ولابد أنها فتحت عيونهم ليذكروا كل ما أجراه الله معهم من معجزات إنقاذ وخلاص من أرض العبودية، وفي عبور البحر الأحمر. وربما كان من السهل عليهم أن يحاربوا عدواً منظوراً أمامهم من أن يحاربوا مخاوف الجوع والعطش مع عدو غير منظور.
وبدأ يشوع يجمع الرجال المُنتخَبين ليخرج ويحارب عماليق.
أما العمالقة فلا بد أنهم نظروا باحتقار لهذه الجماعة الغير منظمة، التي لا تعرف أسرار الحرب، ولا تفهم شيئاً في طبيعة البلاد التي ستحارب فيها، والعاجزة عن التسلُّح المناسب. ولكنهم لم يدركوا مصدر قوة أولئك العبيد الذين تحرروا من الأسر. فإن «الرب رايتهم»! وكانت الصلاة قناة وصول النصرة لهم، فكان موسى يرفع يديه إلى أعلى تعبيراً عن قوة الصلاة، وكان هارون وحور شفيعين مساعدين عاونا في الصلاة من أجل الانتصار.
وقال آخرون أن موسى وهو يرفع يديه كان يرمز إلى الصليب الذي فيه الخلاص من قوة العدو، فقد أشهر المسيح الشياطين بالصليب، وأعلن فيه هزيمتهم جهاراً، ظافراً بهم (كولوسي 2: 15).
وأعتقد أن عصا موسى المرفوعة كانت ترمز أيضاً إلى راية الله، أو عَلَم الله. فالعصا كما قال موسى هي: «عصا الله» (خروج 4: 20، 17: 9) وبها عُملت المعجزات، ونزلت الضربات على القساة المتسلطين، وبها فُتحت طريق النجاة في البحر الأحمر، وعادت المياه إلى مجراها فأهلكت العدو. وبها ضُربت الصخرة في حوريب فتفجَّرت منها المياه. إنها «عصا الله» التي هي «راية الله» أو بيرق الله» فحين موسى يرفعها كان الشعب يشعر أن يد الله القوية معهم، فيحاربون وينتصرون. ولا عجب، فإنه «يَطْرُدُ خَمْسَةٌ مِنْكُمْ مِئَةً، وَمِئَةٌ مِنْكُمْ يَطْرُدُونَ رَبْوَةً، وَيَسْقُطُ أَعْدَاؤُكُمْ أَمَامَكُمْ بِالسَّيْفِ» (لاويين 26: 8).
ومن أجل هذه العصا، أو هذه الراية، دعا موسى اسم المذبح الذي بناه في ذلك المكان «يهوه نِسِّي» أي «الرب رايتي».
ونحن نفهم اليوم أن الراية أو العلم قطعة من قماش تحمل رسماً خاصاً ترفرف في الهواء رمزاً لسيادة دولة ما. أما في زمان موسى فكانت الراية عاموداً له قمة ذهبية تلمع في نور الشمس أو عصا يراها الشعب في الحرب فيجتمع حولها، ويسير خلفها.

1- الرب رايتي يدعونا للجهاد
في مقاومة عماليق للشعب نرى مقاومة الأشرار للكنيسة، كما نرى مقاومة الشيطان للمؤمنين ومحاربته إياهم.. فيقول موسى: «إِنَّ الْيَدَ عَلَى كُرْسِيِّ الرَّبِّ. لِلرَّبِّ حَرْبٌ مَعَ عَمَالِيقَ مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ» وهذا معناه أن يد عماليق ضد عرش الله، فلا بد أن تكون هناك حرب مستمرة بين شعب الله وبين عماليق. ولذلك تكرر الأمر بقتال عماليق في نهاية حياة موسى، وفي بداية مُلك الملك شاول، ولكنه لم يكمل إلا في أيام حزقيا الملك الذي طال عمره كما رأينا في الفصل السابق.
كان عماليق العدو الأول الذي قاوم الشعب المفدي مع أن «جَمِيعَهُمْ كَانُوا تَحْتَ السَّحَابةِ، وَجميعَهُمُ اجْتَازُوا فِي الْبَحْرِ، وَجَمِيعَهُمُ اعْتَمَدُوا لِمُوسَى فِي السَّحَابَةِ وَفِي الْبَحْرِ، وَجَمِيعَهُمْ أَكَلُوا طَعَاماً وَاحِداً رُوحِيّاً، وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَاباً وَاحِداً رُوحِيّاً – لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ» (1كورنثوس 10: 2).
وهذا عين ما يحدث مع المؤمن الذي يتغير ويصير خليقة جديدة، فإنه حين يقبل المسيح ويؤمن به يتم فيه القول: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس 5: 17). وعندئذٍ تبدأ قوى الشرير في محاربته.
وتدور داخل كل مؤمن حرب روحية «لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ، وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ» (غلاطية 5: 17). ويصف الرسول بولس الحرب التي تدور في أعماق كل مؤمن فيقول: «لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ، إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ.. فَالآنَ لَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ.. لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ» (رومية 7: 15-20).
ويشبِّه بولس الرسول الخطية الساكنة فيه بجسد الموت الذي كان الرومان الأقدمون يستعملونه وسيلة تعذيبية للحكم بالإعدام على المذنبين، فقد كانوا يجيئون بجثة حديثة لميت يربطونها بجسد المحكوم عليه: اليد على اليد، والوجه على الوجه.. وهكذا. ويتركون الجثة مربوطة بالمحكوم عليه حتى يموت! ويقول بولس الرسول إن الخطية ساكنة فيه مرتبطة به ارتباط الجثة الميتة بالمحكوم عليه بالإعدام، ويصرخ: «وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟» (رومية 7: 24).
عندئذ تمتد اليد الإلهية القوية بالخلاص والإنقاذ، فيعتق الروح القدس، روح الحياة، المذنب المُدان من جسد الخطية والموت، ويتم فيه القول: «وَلَكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ. إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضاً بِحَسَبِ الرُّوحِ» (غلاطية 5: 24، 25).
ويدعونا «الرب رايتنا» لنجاهد في الحرب الروحية حتى ننتصر على الخطية المحيطة بنا بسهولة، ويقول لنا: «لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ.. لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ الْخَطِيَّةِِ» (عبرانيين 12: 1، 2، 4).
كل مؤمن حقيقي يجد نفسه في حرب مستمرة مع الخطية الموجودة في داخله، ومع الشيطان الذي يهاجمه بقوة، ومع الوسط الخاطئ المحيط به. وتستمر هذه المحاربة ما دام المؤمن حياً متمسكاً بالمسيح.. إنها حرب لا تهدأ حتى يتم النصر النهائي بنهاية حياة المؤمن في سماء المجد.

إن كنت تشعر أنك تحت هجوم مستمر من عدو الخير فاطمئن نفساً، لأإن مقاومة الشيطان لك تعني أنك لست معه. لا تفشل من كثرة الهجوم، فإن المسيح الذي تجرب في البرية ثلاث تجارب متتاليات وانتصر، لم يتركه الشيطان بدون هجوم، فإن الإنجيل يقول: «وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ » (لوقا 4: 13) ثم عاود هجومه المستمر عليه.
وكما أن هناك حرباً بين المؤمن وبين الخطية واالشيطان، فهناك حرب أيضاً بين الكنيسة وبين العالم والشيطان، فمن المعروف أن «الْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّيرِ» (1يوحنا 5: 19)، وأن للشيطان مملكة قوية، وأن له أعواناً وجيوشاً وجنوداً، وهو يحارب الكنيسة والمؤمنين ليوقفهم عن النضال، بل وليسلب منهم من يضمه إلى ملكوته!
ولقد عبر المسيح عن هذه الحرب الدائرة بين مملكة الشيطان ومملكة الله بقوله: «لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ قَوِيٍّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلاً وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ» (مرقس 3: 27). وقال هذا بعد أن أخرج شيطاناً من جسد إنسان فأنقذه من مملكة الشيطان. وسوف تستمر هذه المعركة دائرة حتى يتم النصر النهائي ليسوع وجنوده، فقال لسمعان بطرس: «سِمْعَانُ سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلَكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ» (لوقا 22: 31، 32) وسوف يجيء المسيح ثانية ليضع نهاية لهذه الحرب بنصرة الكنيسة.

2- الرب رايتي يحارب معنا
كما أن كل واحد منا يتجرب من الشيطان ليخطئ، تجرب المسيح أيضاً في كل شيء مثلنا، وجاز في كل ظروفنا، ما عدا الخطية. فقد جرَّب الشيطان المسيح في البرية بثلاث تجارب ويقول الوحي عنها: «لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ» (عبرانيين 2: 18). وهو يعاوننا في كل تجاربنا، ويقف معنا في كل ظروفنا.
لسنا في المعركة وحدنا، فإن عصا الله معنا وما دامت راية الله ترفرف فوقنا فلنا النصر!
بعد موت موسى تولى يشوع قيادة الشعب ليدخلوا أرض كنعان. وكانوا عازمين على غزو أريحا المدينة الحصينة. وقبل محاربتها رأى يشوع رجلاً واقفاً «قُبَالَتَهُ، وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ بِيَدِهِ. فَسَارَ يَشُوعُ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ: هَلْ لَنَا أَنْتَ أَوْ لأَعْدَائِنَا؟ فَقَالَ: «أَنَا رَئِيسُ جُنْدِ الرَّبِّ. الآنَ أَتَيْتُ». فَسَقَطَ يَشُوعُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ لَهُ: بِمَاذَا يُكَلِّمُ سَيِّدِي عَبْدَهُ؟ فَقَالَ رَئِيسُ جُنْدِ الرَّبِّ لِيَشُوعَ: «اخْلَعْ نَعْلَكَ مِنْ رِجْلِكَ، لأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ هُوَ مُقَدَّسٌ». فَفَعَلَ يَشُوعُ كَذَلِك» (يشوع 5: 13-15).
وأيقن يشوع أن الرب معه في المعركة، وكان أن انتصروا على المدينة العظيمة، لا بالسلاح والحرب والتكتيك العسكري، بل بقوة الرب المعجزية الناصرة.
وبالمعنى الروحي كتب بولس الرسول للمؤمني أفسس: «أَخِيراً يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ. الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ. فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا. فَاثْبُتُوا
مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ،
وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ،
وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ.
حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ. وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ،
وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ.
مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ» (أفسس 6: 10-18).
ومن سلاح المؤمن (في أفسس 6) استنتج الأتقياء أن الجندي المسيحي لا يلبس سلاحاً يحمي ظهره لأنه يهاجم الشر ولا يدير ظهره له، فينتصر غي معركته الروحية. كما أن زملاء الجندي الذي يحارب الشرير يجب أن يدافعوا عنه حتى لا تصيبه طعنة من الخلف! إن راية الرب ترتفع فوقنا ونحن نحارب، مؤكدة أن الله معنا في معاركنا الروحية وسيظل معنا حتى يضمن لنا النصر.

3- الرب رايتي يضمن لنا النصر
لابد من النصر، فإن النصر النهائي هو للمسيح ولكل من يتمسك به.
لقد انتصر الشعب على عماليق، وكان النصر الأخير لهم. وقديماً كان الكاهن يخاطب الشعب الذاهب للحرب ويقول لهم باسم الرب: «أَنْتُمْ قَرُبْتُمُ اليَوْمَ مِنَ الحَرْبِ عَلى أَعْدَائِكُمْ. لا تَضْعُفْ قُلُوبُكُمْ. لا تَخَافُوا وَلا تَرْتَعِدُوا وَلا تَرْهَبُوا وُجُوهَهُمْ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ سَائِرٌ مَعَكُمْ لِيُحَارِبَ عَنْكُمْ أَعْدَاءَكُمْ لِيُخَلِّصَكُمْ» (تثنية 20: 3، 4).
كانت العصا في يد موسى مجرد رمز. لم تكن هي مصدر النصر، فإن الرب نفسه هو الراية الذي يحقق الغلبة للشعب، فيرتل: «نَتَرَنَّمُ بِخَلاَصِكَ، وَبِاسْمِ إِلَهِنَا نَرْفَعُ رَايَتَنَا» (مزمور 20: 5) لأنه حقاً «أَعْطَيْتَ خَائِفِيكَ رَايَةً تُرْفَعُ لأَجْلِ الْحَقِّ» (مزمور 60: 4).
وفي العهد الجديد نسمع هتاف الانتصار في كل أجزائه ، فقد قال المسيح لتلاميذه: «فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يوحنا 16: 33) ووعدهم بدوام حضوره معهم قائلاً: « وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (متى 28: 20) ليضمن لهم النصر المستمر، ما داموا مؤمنين به، «لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ يَغْلِبُ الْعَالَمَ. وَهَذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا» (1يوحنا 5: 4) «إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا.. فِي هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا» (رومية 8: 31، 37). «شُكْراً لِلَّهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1كورنثوس 15: 57). «شُكْراً لِلَّهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ» (2كورنثوس 2: 14).**
لا بد أن تنتصر الكنيسة نصرة كاملة، فإن العالم كله في يد الرب، وهو صاحب السلطان الأول والأخير. ومع أننا لا نرى كل شيء خاضعاً له بعد، إلا أننا نعلم أن الله الملك يعطي فرصة المعارضة لبعض الناس.. ولكن حزب المعارضة هذا يخدم غايات الملك السماوي، فإن الملك الحقيقي هو للمسيح.
وقد حدث في تاريخ الكنيسة الكثير الذي يؤيد هذا..
كان القديس ترتليان يقرأ بصوت خافت فصلاً من الكتاب المقدس عن نصرة المسيح النهائية، من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس أصحاح 15، فارتسمت على وجهه ابتسامة وهو يقرأ ، فسأله الحاضرون عن سبب هذه الابتسامة، فقال: «لقد جال بفكري خاطر وهو: هل يأتي اليوم الذي يعترف فيه قيصر بالمسيح رباً؟ ولم تمض إلا مائة وخمسون سنة حتى جاء قسطنطين الامبراطور المسيح، وخلفه الأباطرة والملوك الذين يدينون بالولاء للمسيح!
ولقد قاوم الامبراطور جوليان المسيحية مقاومة قاسية، وكان كل ما قدر عليه هو أنه قال عند موته: «لقد انتصرت أيها الجليلي» وكلنا نذكر مدالية دقلديانوس التي نقش عليها «لقد محقت المسيحية» ولكن هذه المدالية باقية لتثبت أنه قد تلاشى ومحق! أما المسيحية فقد انتصرت وانتشرت…
وقد وقف دقلديانوس مرة في شرفة قصره يتطلع إلى تلال روما ثم قال في فخر: «لقد جعلت تلال روما كالأحراش لكثرة مقابر المسيحيين الذين أفنتيهم» ولكنه لم يعلم أن تحت قصره مباشرة كانت سراديب روما تذخر للمسيحيين، وأن تيارات المسيحية كانت تزداد إلى أن جرفت الامبراطورية الرومانية، وأزالت منها الوثنية تماماً!..
أيها القارئ..
الرب رايتنا.. فيه ننتصر !
فإن كنت ثابتاً فيه فإنك ستجد النصر النهائي العظيم!
فإن الذي معنا أعظم من الذي معهم.. وأقوى من الذي علينا!

(8)
«يهوه مِقدِّشِخُم»
(الرب مقدِّسكم)

أعلن الله عن نفسه للشعب بأنه «مقدسهم» في سفر اللاويين، حين قال لهم: «فَتَتَقَدَّسُونَ وَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ وَتَحْفَظُونَ فَرَائِضِي وَتَعْمَلُونَهَا. أَنَا الرَّبُّ مُقَدِّسُكُمْ» (لاويين 20: 7، 8).
ومن الأمور التي نلحظها بالشكر لله أنه أعلن عن نفسه لنا على صفحات الكتاب المقدس بطريقة تدريجية، ففي سفر التكوين الذي هو سفر بداءة كل شيء، رأينا بدء الخطية والشر، فأعلن الله عن نفسه بأنه «يهوه يرأه» الذي يرى ويدبر طريق الفداء والخلاص عن طريق الكبش الذي كان ممكساً من قنيه في الغابة، فافتدى إسحق بذبح عظيم.. أما سفر الخروج فهو سفر الفداء، فداء الشعب المستعبد من العبودية القاسية وضرب السياط، وفي سفر الفداء هذا يعلن الله عن نفسه بأنه «الرب شافيك» الذي يشفي من الاختبارات المؤلمة المرة، وينقذ من التجارب القاسية المحزنة.. وفي سفر الفداء أعلن الله عن نفسه بأنه «يهوه نسى» الذي ينصر شعبه ليغلبوا وينتصروا.
أما سفر اللاويين – السفر الثالث في التوراة – فهو سفر الحياة والسير مع الله وتقديم العبادة له. إنه الشعب المفدي الذي يقدم تعبده للرب الذي افتداه، وعلى هذا فغن القداسة أمر هام ضروري لتصير العبادة مقبولة.
وقد ورد ذكر القداسة للمرة الأولى في الكتاب المقدس في سفر التكوين حين «بَارَكَ اللهُ الْيَوْمَ السَّابِعَ وَقَدَّسَهُ، لأَنَّهُ فِيهِ اسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ اللهُ خَالِقاً» (تكوين 2: 3). ثم ورد ذكر القداسة للمرة الثانية في سفر الخروج حين طلب الله من عبده موسى أن «يقدس» له كل بكر من الناس ومن البهائم، لأنه ملك له، فقد افتداهم جميعاً من أرض العبودية ونحن نرى هنا أن الإنسان قد أخطأ، فأضاع القداسة والطهر، فتدخل الله مرة أخرى وأنقذه من العبودية وطلب أن يتقدس ليصير له.. ويعود في سفر اللاويين يبسط أمامه طريق العبادة المقبولة.
ونحن نعلم اليوم أن الله قدوس، وأن الذي يريد أن يسير معه ينبغي أن يسلك بالقداسة فما هو معنى القداسة، وبأي معنى يصير الله مقدساً لنا؟

1- القداسة هي التخصيص
لا نستطيع أن نرى في الكلمة العبرية الأصلية المترجمة عندنا في العربية بكلمة «القداسة» معنى الانفصال، ولكن استعمال هذه الكلمة في كتابات الساميين القدامى كان يعطي هذا المعنى، فقد كانوا يطلقونها على الاحتفال الذي يخصصون فيه شيئاً أو شخصاً ما للعبادة والدين، فيصير هذا الشخص منفصلاً عن بقية الأشخاص أو الأشياء، ومخصصاً فعلاً للعمل الذي فرز له.
وبهذه الفكرة نجد في العهد القديم «تقديس» الأماكن والأشخاص والأيام، بمعنى تخصيصها للعبعادة لله. ونفهم من هذا أن ليس شيئ مقدساً في ذاته. لكنه يصير مقدساً حيت يتخصص لعبادة الرب الإله أو لخدمته.
فحيثما يظهر الرب في مكان يصير هذا المكان أرضاً مقداسة، كما حدث حين ظهر الرب لموسى بلهيب نار من وسط عليقة، فنظر موسى وإذا العليقة تتوقد بالنار دون أن تحترق. واجتذب هذا المنظر العجيب موسى فمال ليرى هذا الأمر الغريب، ويقول المؤرخ المقدس: «وَأَمَّا مُوسَى فَكَانَ يَرْعَى غَنَمَ يَثْرُونَ حَمِيهِ كَاهِنِ مِدْيَانَ، فَسَاقَ الْغَنَمَ إِلَى وَرَاءِ الْبَرِّيَّةِ، وَجَاءَ إِلَى جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ. وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ، فَنَظَرَ وَإِذَا الْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ، وَالْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ! فَقَالَ مُوسَى: «أَمِيلُ الآنَ لأَنْظُرَ هَذَا الْمَنْظَرَ الْعَظِيمَ. لِمَاذَا لاَ تَحْتَرِقُ الْعُلَّيْقَةُ؟» فَلَمَّا رَأَى الرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ نَادَاهُ اللهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: «مُوسَى مُوسَى». فَقَالَ: «هَئَنَذَا». فَقَالَ: «لاَ تَقْتَرِبْ إِلَى هَهُنَا. اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ» (الخروج 3: 1-5).
وبنفس هذا المعنى كان الحديث عن الهيكل أنه مقدس للرب، وكان اسمه «القدس» فيقول الله لموسى عن دخول هرون إلى الهيكل «29فَيَحْمِلُ هَارُونُ أَسْمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي صُدْرَةِ الْقَضَاءِ عَلَى قَلْبِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْقُدْسِ لِلتِّذْكَارِ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِماً» (الخروج 28: 29).
وحين أقام الملك التقى يوشيا العبادة ليهوه كما كان يجب أن تقام، أمر الكهنة قائلاً: «وَقِفُوا فِي الْقُدْسِ حَسَبَ أَقْسَامِ بُيُوتِ آبَاءِ إِخْوَتِكُمْ بَنِي الشَّعْبِ وَفِرَقِ بُيُوتِ آبَاءِ اللاَّوِيِّينَ» (2أخبار 35: 5) وهكذا كان جبل صهيون مقدساً (مزمور 2: 6) ومدينة أورشليم (نحميا 11: 1) والسماء والأرض المقدسة (مزمور 20: 6 وزكريا 2: 12).
وكان أي شيء يقدم لعبادة الرب يسمى «مقدساً» باعتباره قد تخصص لعبادة الله وخدمته، فالذبيحة المقدسة للرب هي «مقدسة» (خروج 29: 33) والزيوت الخاصة بدهن المسحة سميت مقدسة « دُهْناً مُقَدَّساً لِلْمَسْحَةِ يَكُونُ» (خروج 30: 25) والأواني الخاصة بالهيكل مقدسة، ودعي اسمها «آنِيَةِ الْقُدْسِ» (1ملوك 8: 4).
والوقت الذي يتخصص لعبادة الله كان وقتاً مقدساً، فيوم السبت في العهد القديم كان يوم العبادة المخصص، فصار السبت مقدساً (خروج 20: 8، 11 ولاويين 25: 10) وكذلك كانت أيام الصوم (يوئيل 1: 14) وكذلك كانت سنة اليوبيل (لاويين 25: 10).
والشخص الذي يتخصص لخدمة الله كان مقدساً لهذا الغرض، فيقال عن «وَقَالَ لِلاَّوِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يُعَلِّمُونَ كُلَّ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا مُقَدَّسِينَ» (2أخبار 35: 3). ويقول الله للنبي إرميا: «قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيّاً لِلشُّعُوبِ» (إرميا 1: 5).
وكانت هذه شريعة «النذير» في العهد القديم ونرى لها آثاراً في العهد الجديد فقد كان النذير «كُل أَيَّامِ نَذْرِ افْتِرَازِهِ لا يَمُرُّ مُوسَى عَلى رَأْسِهِ. إِلى كَمَالِ الأَيَّامِ التِي انْتَذَرَ فِيهَا لِلرَّبِّ يَكُونُ مُقَدَّساً» (العدد 6: 5).
وكان النذير – رجلاً أو امرأة – يفرز نفسه مدة معينة لغرض خاص، ويظهر نذره هذا بعلامات خارجية خاصة، هي الابتعاد عن الخمر وكل منتجات الكرم، وعدم قص شعر رأسه أو ذقنه، وعدم لمس جسد ميت، وعدم أكل أطعمة محرمة. فإذا حدث أن النذير كسر واحدة من هذه الشروط، فإن عليه أن يبدأ أيام نذره من أولها. وقد كان هناك من ينذر أيام حياته كلها لله. وقد عاون بولس الرؤسول في العهد الجديد بعض النذيرين على القيام بنذرهم (أعمال 21: 23) والنذير «مقدس» لأنه خصص نفسه لغرض ديني مدة معينة من الوقت! بنفس هذا المعنى كان البكر مقدساً (خروج 13: 2) والكهنة (خروج 28: 41) والشعب (تثنية 7: 6) والملائكة (أيوب)
ومن هذا كله نرى من العهد القديم أن الشيء أو الشخص المقدس هو المخصص لعبادة الإله العظيم يهوه وخدمته..
ويقدم لنا العهد الجديد فكرة القداسة بمعنى التخصيص للرب، والتكريس له و لخدمته..فيقول بطرس الرسول: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ» (1بطرس 2: 9).
أما هذه القداسة فهي من الله الذي صلى المسيح له قائلاً من أجل المؤمنين «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ» (يوحنا 17: 17) ويقول بولس الرسول: «وَإِلَهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ» (1تسالونيكي 5: 23) ويقدم الرسول يهوذا رسالته إلى: «الْمَدْعُوِّينَ الْمُقَدَّسِينَ فِي اللهِ الآبِ» (يهوذا 1) وقد قال المسيح بنفس هذا المعنى متساءلاً : «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ، أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلذَّهَبُ، أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذَّهَبَ؟ وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ، أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلْقُرْبَانُ، أَمِ الْمَذْبَحُ الَّذِي يُقَدِّسُ الْقُرْبَانَ؟» (متى 23: 16-19) ومن تساؤل المسيح هذا نرى أن تخصيص الذهب والقربان للهيكل والمذبح هو تقديس لهما.
وتسمية المؤمنين بالمسيح في العهد الجديد بأنهم «قديسون» تعني أنهم المخصصون للرب. ولا تعني حتماً أنهم طاهرون في سيرتهم وأنهم بلا خطأ. فإن بولس الرسول يبعث تحياته إلى «القديسين» الذين في كورنثوس رغم وجود خطايا كبيرة في وسطهم من الزنا والاستهانة بعشاء الرب والانقسام وغير ذلك من الخطايا (راجع 1كورنثوس 1: 2 و3: 1-3).
والمسيح هو وسيط الله في تقديس المؤمنين، فإنه هو الذي يقدس الكنيسة مطهراً إياها (أفسس 5: 26) ويقول كاتب رسالة العبرانيين: «لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً» (عبرانيين 2: 11) وقد دقس المسيح المؤمنين به بدمه الذي قدمه من أجلهم على الصليب كما قيل في الكتاب: «فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ!» (عبرانيين 9: 14). «فَبِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً» (عبرانيين 10: 10).
والروح القدس هو الذي يقدس المؤمنين (رومية 15: 16) فإنه هو «روح القداسة» ويقول بولس الرسول: «لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ» (رومية 8: 2).
أما تخصيص المؤمن نفسه لخدمة الله ولطاعته ولعمل مشيئته فهو واجبه هو شخصياً، بمعنى أن صلاته لا تكون: «يا رب كرسني لنفسك» ولكنها بالحري تكون: «يا رب ها انا أخصص نفسي لك وأكرس مواهبي لخدمتك» فالمؤمن يقدم نفسه لله. ولكن الله هو الذي يستلمه. والواقع أن المؤمن بالمسيح ليس ملكاً لنفسه لكنه يخص المسيح الذي جبله وخلقه، كما انه لا يخصه لأن المسيح اشتراه ودفع فيه الثمن، ويخصه لأنه دفع إلى المسيح من الله الآب».
وما أجمل أن نردد مع الشاعر الغربي قوله: «اجعلني عبداً لك، وإذ ذاك أصبح حراً . ارغمني أن أسلم سيفي لك، وإذ ذاك أصير منتصراً.. فلكي أصل إلى ال عرش ينبغي أن ألقي تاجي عند قدميك، ولكي أقف ظافراً رافع الرأس ينبغي أن أنحني أمامك».
والقداسة بمعنى التخصيص للرب والتكريس له واضحة كل الوضوح في تعبيرات العهد الجديد، فيقول بولس الرسول: «لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ» (رومية 14: 8). «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية 2: 20).
وإن كانت القداسة بالنسبة للبشر هي التخصيص والتكريس لخدمة الله، فإن قداسة الله تعني انفصاله عن كل ما هو مادي أرضي، الأمر الذي يدل على عظمة الخالق وقوته وجبروته.. غير أننا آلينا علىأنفسنا في هذا البحث أننبسط معنى القداسة في حياة الإنسان حتى يكون حديثنا أكثر واقعية وتطبيقاً لمعنى القداسة في حياة الإنسان.
وقد ظن كثيرون أن قداسة المؤمن تعني الانفصال عن العالم واقتبسوا آيات كثيرة من الكتاب لتؤيد هذا الرأي، وأغلب تلك الأيام مأخوذ من العهد القديم عن انفصال بني إسرائيل عن عبادة الأصنام التي كانت في الدول المحيطة بهم.. ولكنها متى وردت في العهد الجديد فإنها تشير إلى أمر رمزي، إذ تشير إلى الابتعاد والانفصال عن الخطايا التي يرتكبها الناس المحيطون بنا.
وقد كان من نتائج هذا الفهم الخاطئ لمعنى القداسة أن اعتزل كثير من أفضل المؤمنين عن العالم وسكنوا في المغاور والجبال، وحرموا العالم من خدماتهم ومواهبهم، واكتفوا بتقديم عباداتهم لله في أماكن انعزالهم.
واليوم لا نرى فكرة الانعزال في الكهوف والأديرة بقدر ما نرى خطأً آخر هو اعتزال المسيحيين عن العالم عندما يعيشون معاً فيما يشبه الدائرة المغلقة على أنفسهم، ولا يختلطون بالبعيدين عن الكنائس!
والواقع أن الانعزالية ليست من المسيحية بشيء. فإن المسيحية لم يسكن الجبال كما فعل يوحنا المعمدان، ولا اعتزل الناس، لكن اشتهر بأه محب للعشارين والخطاة، يجلس معهم ويأكل معهم، دون أن يرفض دعوة توجه إليه.
وقد تحدث المسيح عن المؤمنين به على أنهم كالملح . وما جدوى الملح إذا ظل منعزلاً بعيداً عن الطعام؟ الواجب هو أن يوضع الملح في الطعام ليملحه. والأمر نفسه واضح في فكرة «الخميرة» فإن المسيحيون مشبهون بالخميرة، وخميرة صغيرة تخمر العجين كله.. لكن ما نفع الخميرة أن وضعت وحدها.. ألا تضيع قوتها ويتلاشى تأثيرها؟
إن المسيحيين ينبغي أن يكونوا وسط العالم وفيه. وقد طلب المسيح من الآب ألا يأخذهم من العالم بل أن يحفظهم من الشرير (يوحنا 17: 15) فإن رسالتهم هي للعالم. وليس لهم أن يحيوا منعزلين أبداً.
إن انعزال الله عن العالم راجع لصفة الله، ولكن انعزال المؤمنين عن العالم خيانة للغرض الذي اختارهم الله له. فإن عليهم أن ينيروا العالم ويملحوه ويخمروه.

2- القداسة هي الطهارة:
قال بعض علماء اللغة أن الكلمة العبرية المترجمة عندنا «قداسة» ترتبط بكلمة أشورية معناها الطهارة، وهذا هو المعنى المصود بالقول: «فَتَتَقَدَّسُونَ وَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ . وَتَحْفَظُونَ فَرَائِضِي وَتَعْمَلُونَهَا. أَنَا الرَّبُّ مُقَدِّسُكُمْ» (لاويين 20: 7، 8).
وتتضح هذه الفكرة في الرؤيا التي رآها النبي إشعياء في الهيكل قديماً، إذ رأى الرب جالساً على كرسي عال ومرتفع، وقد وقف السرافيم حوله، وهم يرفعون ترنيمة ويرددونها معاً: «وَهَذَا نَادَى ذَاكَ: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ» (إشعياء 6: 3).
ولقد رأى النبي إشعياء هذا المنظر العظيم، فرأى طهارة الله الكاملة وأحس بالخطية التي في قلبه أمام هذه النقاوة الكاملة فصرخ قائلاً: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ» (إشعياء 6: 5).
وعندما صرح النبي بخطيته واعترف بإثمه، أراد الله أن يطهره وينقيه ثم يرسله إلى المهمة التي أراد أن يوفده فيها، فأرسل إليه واحداً من السرافيم (الملائكة) وبيده جمرة التقطها من على المذبح، ومس بها فم النبي وقال له: «إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ» (عدد 7).
ومن هذا نرى أن القداسة هي الطهارة والنقاوة، لا نقاوة الظاهر بالغسل الخارجي ولكن بنقاوة القلب وتطهيره فتكون السريرة طاهرة ويكون الداخل نقياً.. وليست القداسة في حفظ قوانين وأوامر إلهية، كما أنها ليست في مراعاة تقاليد مرسومة، ولكنها في قداسة القصد ونقاوة الغرض وطهارة الهدف. وقد قال المرنم: «اغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي.. طَهِّرْنِي بِالزُّوفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ… قَلْباً نَقِيّاً اخْلُقْ فِيَّ يَا اللهُ، وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي» (مزمور 51).
وقداسة الله معناها أنه طاهر، وتظهر نقاوته في كل صفاته الكاملة، فيقول له أجناد السماء: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الإِلَهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي كَانَ وَالْكَائِنُ وَالَّذِي يَأْتِي» (رؤيا 4: 8).. فهو كامل خال من كل نقص أدبي، فيقول الكتاب: «لَيْسَ قُدُّوسٌ مِثْلَ الرَّبِّ» (1صموئيل 2: 2) بمعنى أنه ليس أحد طاهراً بالتمام وغير محدود في كماله الأدبي والأخلاقي إلا الله. عنه يقول صاحب المزامير: «عَلُّوا الرَّبَّ إِلَهَنَا، وَاسْجُدُوا فِي جَبَلِ قُدْسِهِ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَنَا قُدُّوسٌ» (مزمور 99).. حقاً «من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك، لانك وحدك قدوس؟» (رؤيا 15: 4).
على أننا لا نتوقع من البشر أن يصلوا إلى الكمال الأدبي الذي يشبه كمال الله القدوس، ولكن الكتاب المقدس يطلب منهم أن يسعوا نحو القداسة والطهارة، وأن يبذلوا كل جهدهم في هذا السبيل، تعاونهم في ذلك قوة الرب نفسه، وإسناد الروح القدس وسكناه في قلوبهم.. ولن نتوقع الكمال الكامل هنا في هذا العالم، لكننا على أي حال نسعى نحوه.
نعم أن المطلوب من أن نكون قديسين كما أن الله قدوس، وأن نكون كاملين كما هو كامل. ولكن هل يقدر البشري الضعيف أن يكون مثل الله كلي القداسة؟ إن أليفاز التيماني في رؤياه يرى أنه «هوذا عبيده لا يأتمنهم، وإلى ملائكته ينسب حماقة، فكم بالحري سكان بيوت من طين، الذين أساسهم في التراب؟» وبلدد الشوحي صديق أيوب يقول بأسلوب شعري: «نفس القمر لا يدور أمامه، والكواكب غير نقية في عينيه، فكم بالحري الإنسان الرمة وابن آدم الدود؟!!
ويقول كونفوشيوس نبي الصين: «كيف أجرؤ أن أحسب نفسي أحد رجال الفضيلة؟ قد يقال عني أني أجاهد كي أصير أحسن. ربما أعادل أحسن الناس في معرفة الآداب.. لكني أقر أني فشلت في الوصول إلى خلق الإنسان السامي، الإنسان الذي يرى في تصرفه الأمور التي يعلم بها، وهذا ما يرعبني.. انني لا أصل إلى مستوى الفضيلة الذي أرغبه ولا أعيش تماماً كما علمت الناس، ولست قادراً على تغيير الشر في نفسي».
ويقول بولس الرسول بلسان بعض الناس المتعبين من الشر: « فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ أَيْ فِي جَسَدِي شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ الإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ. لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ.. حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى أَنَّ الشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي… وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ!» (رومية 7).
على أن هناك قوة للتطهير والغسل والتنقية:
• أن قوة دم المسيح تطهرنا من كل خطية .. وحين نقبل إلى الله معترفين نجد فيه الغفران فإنه «إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (1يوحنا 1: 9).
• وقوة امتلاك المسيح لحياتنا وسكنى الروح القدس في قلوبنا تمنحنا التطهير المستمر.. كتب الأسقف ألن كتاباً عنوانه «من يدخل؟» قال فيه أنه سمح للمسيح أن يدخل قلبه على أن يعطيه بعض القلب، ولكن لم يختبر قوة الله والانتصار على الخطية، حتى أعطى الله كل القلب.
وعندما نفعل هذا يتم لنا اختبار المرسل البريطاني هدسون تيلور الذي خدم المسيح في الصين، حين قال: «عندما شعرت بالخطية تحيا في ارتعبت وطلبت القداسة وتقدست وتطهرت بكل طريقة أعرفها، ولكني كنت أفشل دوماً. ولكني تعلمت أخيراً أن تسليمي الكامل للرب يمنحني القداسة. وأشكر الله لأني هكذا فعلت».. كما نختبر أيضاً قول كاجاوا المصلح الياباني المسيحي المشهور: «منذ أن عرفت قوة الله وتعمقت في معرفته، وأنا أرى قوة الشر تذبل فيّ وتضمحل، وقوة البر تقوى داخلي وتتعاظم».
إن قداسة الله تفترض فينا القداسة، فنسعى نحوها، ونجتهد أن نحفظ أنفسنا من الشرير، ونجاهد حتى الدم ضد الخطية.
الحياة المسيحية هي حياة الانتصار والفرح والسلام. إنها حياة ذات معنى، لقد قال المسيح: «أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا 10: 10). غير أننا نجد كثيرين من الذين يقولون أنهم مسيحيون يعيشون حياة الهزيمة واليأس، على غير ما يصف العهد الجديد. تصور مثلاً الرسول بولس ومعه سيلا في سجن فيلبي، وهما مضروبان داخل السجن، وقد ربطت أرجلهما في المقطرة ولكنهما يصليان ويسبحان الله! والسر في هذا هو أنهما لم يضعا ثقتهما في نفسيهما، بل في الإله الحي الحقيقي الذي أحباه وعبداه وخدماه!
وتصور تلاميذ المسيح ومعهم آلاف من مسيحي القرن الأول وهم يرتلون للرب، مع أنهم يسيرون في الطريق للحريق أو الصلب أو الأسود الجائعة. ولكنهم واجهوا الموت الرهيب بشجاعة وفرح، لأن علاقتهم بالمسيح كانت حية وشخصية، وهم يذكرون أن العبد ليس أفضل من سيده! ولم يكن هذا الولاء للمسيح وقفا على التلاميذ والمسيحيين الأولين، ولكنه استمر عبر العصور، وحتى يومنا هذا، فغن هناك اليوم ملايين المسيحيين الذين خصصوا حياتهم للمسيح، فوجدوا الحياة الفضلى التي وعد المسيح بها.
وربما لا تجبرك الظروف لتموت لأجل المسيح، ولكن هل أنت مستعد أن تحيا لأجل المسيح؟.
قال تشرشل، في معرض حديثه عن الأزمة العالمية الحالية: «قد يحيا هذا الجيل ليرى نهاية ما ندعوه اليوم بالحضارة» ولما كانت الحضارة تقف على شفا الإبادة، فإن حاجتنا الملحة اليوم هي إلى رجال ونساء يسلمون حياتهم للمسيح تسليماً مطلقاً، وعلى استعداد لخدمته بأي ثمن!
قال رجل الله أندرو موري:
«كلما فكرت في الحالة الدينية في بلادنا وفي العالم وصليت لأجلها، زاد اقتناعي أن سر حياة المسيحيين الروحية الواطئة يرجع إلى أنهم لا يدركون أن موضوع تجديدهم وهدفه هو أن تصير نفوسهم – هنا على الأرض – في شركة يومية مع الآب الذي في السموات. وعندما يقبل المسيحية هذا الحق يدرك أهمية قضاء وقت كاف كل يوم في الصلاة ودرس الكتاب وانتظار الرب الذي يعلن للمؤمن حضوره ومحبته.
«لا يكفي أن يأخذ المسيحي وقت تجديده غفران خطاياه، أو حتى تسليم نفسه للرب، فإن هذه فقط نقطة الابتداء ولكن المؤمن الجديد يجب أن يدرك أنه عاجز عن الاستمرار في حياته الروحية، وأنه محتاج كل يوم أن يتقبل نعمة جديدة من السماء عن طريق الشركة مع الرب يسوع. وهو لن يحصل عليها بالصلاة المستعجلة، أو بالقراءة السطحية لبعض الاعداد من كلمة الله، لكنه يجب أن يتعمد قضاء وقت هادئ في محضر الله، ليرى نواحي ضعفه واحتياجاته، ولينتظر الرب الذي يجدد النور السماوي في قلبه وحياته، بفاعلية الروح القدس. وهكذا تحفظه قوة المسيح خلالالنهار لينتصر على التجارب.
«يشتاق كثيرون من أولاد الله إلى حياة أفضل، ولكنهم لا يدركون أنهم يجب أن يصرفوا وقتاً كل يوم في مخادعهم، يجدد فيه الروح القدس حياتهم ويقدسها».
والآن تأمل في هذه الفكرة:
«إن سر حياتي الروحية الضعيفة هو نقص الوقت الذي أقضيه في شركة مع الله كل يوم».

1- القداسة هي الارتفاع:
وللقداسة معنى ثالث، فحين نقول إن الله قدوس نعني أن الله عال ومرتفع، ففي رؤيا إشعياء حين سمع الملائكة يرنمون: «قدوس. قدوس. قدوس» كان قد رأى السيد الرب جالساً على كرسي مرتفع وعال.
وقداسة الله غير المحدودة هي الصفة التي يبني عليها إكرامه تعالى في الكتاب المقدس بنوع يفوق ما يبني على قدرته وعلمه. حتى أن كلمة قدوس تستعمل أحياناً بمعنى صاحب الكرامة، والملائكة الذين يهتفون ليلاً ونهاراً قائلين : «قدوس» يعبرون عن إحساسات كل خلائق الله غير الساقطين الذين ينظرون إلى كمال طهارته. فهو تعالى نار آكلة لأنه قدوس، ولذلك لما تأمل النبي إشعياء في قداسته شعر بضعته وضعفه.
وقد تكلم الله قائلاً: «هَذَا مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ قَائِلاً: فِي الْقَرِيبِينَ مِنِّي أَتَقَدَّسُ، وَأَمَامَ جَمِيعِ الشَّعْبِ أَتَمَجَّدُ» (لاويين 10: 3) وفيهذا نرى اقتران القداسة الإلهية بالرفعة والمجد، الذي وصفه النبي إشعياء بالقول: «قَالَ الْعَلِيُّ الْمُرْتَفِعُ سَاكِنُ الأَبَدِ الْقُدُّوسُ اسْمُهُ» (إشعياء 57: 15).
ويعبر موسى عن ارتباط رفعة الله وقداسته في المزمور الذي قال فيه: «مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ؟ مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزّاً فِي الْقَدَاسَةِ، مَخُوفاً بِالتَّسَابِيحِ، صَانِعاً عَجَائِبَ؟ تَمُدُّ يَمِينَكَ فَتَبْتَلِعُهُمُ الأَرْضُ. تُرْشِدُ بِرَأْفَتِكَ الشَّعْبَ الَّذِي فَدَيْتَهُ. تَهْدِيهِ بِقُوَّتِكَ إِلَى مَسْكَنِ قُدْسِكَ. يَسْمَعُ الشُّعُوبُ فَيَرْتَعِدُونَ. تَأْخُذُ الرَّعْدَةُ سُكَّانَ فَلَسْطِينَ. حِينَئِذٍ يَنْدَهِشُ أُمَرَاءُ أَدُومَ. أَقْوِيَاءُ مُوآبَ تَأْخُذُهُمُ الرَّجْفَةُ. يَذُوبُ جَمِيعُ سُكَّانِ كَنْعَانَ. تَقَعُ عَلَيْهِمِ الْهَيْبَةُ وَالرُّعْبُ. بِعَظَمَةِ ذِرَاعِكَ يَصْمُتُونَ كَالْحَجَرِ حَتَّى يَعْبُرَ شَعْبُكَ يَا رَبُّ. حَتَّى يَعْبُرَ الشَّعْبُ الَّذِي اقْتَنَيْتَهُ. تَجِيءُ بِهِمْ وَتَغْرِسُهُمْ فِي جَبَلِ مِيرَاثِكَ، الْمَكَانِ الَّذِي صَنَعْتَهُ يَا رَبُّ لِسَكَنِكَ. الْمَقْدِسِ الَّذِي هَيَّأَتْهُ يَدَاكَ يَا رَبُّ. الرَّبُّ يَمْلِكُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ» (خروج 15: 11-18). وهذا نفس ما نجده في القول الكتابي: « 13قَدِّسُوا رَبَّ الْجُنُودِ فَهُوَ خَوْفُكُمْ وَهُوَ رَهْبَتُكُمْ» (إشعياء 8: 13). ويقول الرسول بطرس: «بَلْ قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلَهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ» (1بطرس 3: 15).
وعندما أصابت الضربات أهل مدينة «بيت شمس» الفلسطينية بسبب وجود تابوت الرب وسطهم قالوا: «وَقَالَ أَهْلُ بَيْتَشَمْسَ: «مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَقِفَ أَمَامَ الرَّبِّ الإِلَهِ الْقُدُّوسِ هَذَا» (1صموئيل 6: 20) فقد أدركوا قوة وعظمة الله الذي عاقبهم وضربهم، وربطوا بين قوته ورفعة قداسته، ولا عجب إذا قال المرنم في المزامير: «مَخُوفٌ أَنْتَ يَا اللهُ مِنْ مَقَادِسِكَ» (68: 35) فإنه «إِلَهٌ مَهُوبٌ جِدّاً فِي مُؤَامَرَةِ الْقِدِّيسِينَ، وَمَخُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ الَّذِينَ حَوْلَهُ» (مز 89: 7) والشعب كله «يَحْمَدُونَ اسْمَكَ الْعَظِيمَ وَالْمَهُوبَ. قُدُّوسٌ هُوَ» (مزمور 99: 3).
هذا الإله القدوس المرتفع يطلب من تابعيه الإخلاص الكامل والولاء التام، ويعبر العهد القديم عن هذه الفكرة بغيرة الله على شعبه، فإنه إلأه غيور، يغار من الآلهة الأخرى التي هي الأصنام، فقد قال يشوع للشعب وهو يعاهدهم على عبادة الله بإخلاص «لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْبُدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ إِلَهٌ قُدُّوسٌ وَإِلَهٌ غَيُورٌ هُوَ. لاَ يَغْفِرُ ذُنُوبَكُمْ وَخَطَايَاكُمْ» (يشوع 24: 19) وذلك حتى يقول الشعب له أنهم مستعدون أن يعبدوا الرب عبادة الإخلاص، وأنهم يقدرون أن يعبدوه وحده ولا يغيظونه بعبادة الأصنام التي لا تحس ولا تشعر.
وقد تحدث النبي حزقيال للشعب عن أن مجد الله وقوته سيظهران في إعادة الشعب إلى مكانه وتقديسه وتطهيره فيقول: «وَأَجْمَعُكُمْ مِنَ الأَرَاضِي الَّتِي تَفَرَّقْتُمْ فِيهَا، وَأَتَقَدَّسُ فِيكُمْ أَمَامَ عُيُونِ الأُمَمِ» (حزقيال 20: 41 ، 28: 25 ، 36: 23، 38: 16).
كما أن مجد الرب ورفعته وقداسته تظهران في معاقبة الخطاة على خطاياهم، فبعد أن يذكر النبي حزقيال العقاب الذي سيحل على العصاة يورد القول الإلهي: «فَأَتَعَظَّمُ وَأَتَقَدَّسُ وَأُعْرَفُ فِي عُيُونِ أُمَمٍ كَثِيرَةٍ، فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ» (حزقيال 38: 23) وهكذا تظهر عظمة قداسة الله ورفعته في رد الضال وفي معاقبة المذنب.
وقد حدثت حادثة في العهد القديم عندما أخذ ابنا هرون ناداب وأبيهو كل منهما مجمرته وجعلا فيهما ناراً ووضعا عليها بخوراً وقربا أمام الرب ناراً غريبة، لم يأمرهما بها. فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب. فقال موسى لهرون: «هذا ما تكلم به الرب قائلاً في القريبين مني أتقدس وأمام جميع الشعب أتمجد».
فصمت هرون (لاويين 10: 1-3) .. ولا عجب فإنه «وَيَتَعَالَى رَبُّ الْجُنُودِ بِالْعَدْلِ، وَيَتَقَدَّسُ الإِلَهُ الْقُدُّوسُ بِالْبِرِّ».
على أن قداسة الله ورفعته تظهران في ثقة المؤمنين به وطاعتهم له. فإذا أردنا أن نمجد الله وأن نرفعه أمام البشر، فإننا نقدر أن نفعل ذلك بطاعتنا له وبخضوعنا أمامه. وتظهر هذه الحقيقة في الحادثة التي لم يطاوع فيها موسى الله، فقد أمر الرب هرون وموسى أن «يكلما» الصخرة أمام أعين الشعب فتعطي الصخرةماء. وأخذ موسى عصاه وفي غضب ضرب الصخرة وهو يقول للشعب: «مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمَا لمْ تُؤْمِنَا بِي حَتَّى تُقَدِّسَانِي أَمَامَ أَعْيُنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِذَلِكَ لا تُدْخِلانِ هَذِهِ الجَمَاعَةَ إِلى الأَرْضِ التِي أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» (عدد 20: 6-12).
إن الله القدوس يطلب من البشر أن يحيوا حياة الطهارة والنقاء حتى هو فيهم .. فهل تحيا الحياة المخصصة لله، الحياة النقية؟

(9)
«أبا باتير»
(الله الآب)

يقدم الكتاب المقدس الله لنا على أنه الآب السماوي. وقال المسيح: «فَصَلُّوا أَنْتُمْ هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى 6: 9 ولوقا 11: 2) ويقول الرسول بولس إن المؤمنين يدعون الله: «يَا أَبَا الآبُ!» (رومية 8: 15، غلاطية 4: 6) ولفظة «أبا» أرامية تُترجم في اليونانية «باتير» (أي الآب). واعتاد الوحي المقدس أن يورد الكلمتين معاً «أبا الآب»، فوردتا على لسان المسيح نفسه (مرقس 14: 36). ولسنا نعلم بالضبط متى بدأ استعمال هذا التعبير «أبا الآب» فقد قال البعض إن يهود الشتات الذين تغربوا وعاشوا في البلاد اليونانية ظلوا يستعملون كلمة «أبا» المحببة إلى قلوبهم في صلواتهم، وأضافوا إليها كلمة «الآب» وهي اللفظ المرادف لها باليونانية، أو بالحري ترجمتها في اليونانية، لتكون صلواتهم مفهومة. وقال آخرون إن اليهود في فلسطين استعملوا اللفظين معاً بعد أن تأثروا بالثقافة اليونانية، وكان استعمالهما معاً للتنبير. على أن بعض العارفين قالوا إن المسيحيين الأولين أطلقوا لفظة «أبا» اسماً علماً لله، فيكون قولهم «يا أبا الآب» بمثابة قولنا اليوم «يا الله الآب».
ولم تكن المسيحية أول من قدم فكرة أن الله «أب» فقد كانت الديانة الوثنية تقدم نفس الفكرة، وفي خطاب بولس الرسول في أريوس باغوس نسمعه يقول: «الإِلَهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هَذَا إِذْ هُوَ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.. يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ. وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ، وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ، لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً، لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً: لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ» (أعمال 17: 24-28).. ومن كلام الرسول لهم واقتباسه قول ذلك الشاعر المجهول نرى أنهم كانوا يعتقدون أن الله أبوهم وأنهم هم ذريته.
وقد تكلم الله مع موسى على أن بني إسرائيل هم أولاده، وقال له أن يذهب إلى فرعون ليقول له: «أَطْلِقِ ابْنِي لِيَعْبُدَنِي» (خروج 4: 23) كما تكلم الله مع داود عن ابنه الملك سليمان فقال: «أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً» (2صم 7: 14). فلا غرابة أن رنم داود وقال: «بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ.. كَمَا يَتَرَأَّفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَّفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ» (مزمور 103).
على أن الإنجيل أوضح لنا إبوة الله في معنى جديد، فإن الله قد بدأ يمد يده إلى الإنسان ليجتذبه إليه ويقدم له خلاصاً من خطاياه، ثم جعل منه ابناً له. وقد دقم بولس الرسول هذه الفكرة في رسالته إلى أهل غلاطية، حين قال: «إننا كنا مستعبدين للخطية والشر، ولكن الله أرسل ابنه في الموعد المناسب حتى يفدينا ويجعل منا أبناء لله، ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: «يَا أَبَا الآبُ» (غلاطية 4: 3-7).
ولم يكن من الممكن أن نصير أولاد الله لولا الخلاص الذي جهزه لنا المسيح «فغن الصلة بين المؤمن وبين الله لا يمكن أن تكون وثيقة إلا بالمسيح، فقد جاء في بشارة يوحنا القول: «وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ» (1: 12) كما عاد يوحنا يقول: «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ» (1يوحنا 3: 1) فإنه هو «الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ» (كولوسي 1: 13).
على أن معرفتنا بالله في العهد الجديد تزيد إلى حد كبير عن طريق معرفتنا للمسيح، فغنه هو الذي قال: «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ. فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟» (يوحنا 14: 9) فإن «اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا 1: 18) وقد كانت معرفة المسيح الكاملة بالآب كابن له سبب معرفتنا نحن بالآب، فقد بدأ المسيح خدمته بقوله أنه ينبغي أن يكون فيما لأبيه، وختمها بأن استودع روحه بين يدي أبيه (لو 2: 49) وفي أثناء خدمته قال: «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا 10: 30) ولقد أظهر الآب السماوي هذه العلاقة بابنه حين قال: «أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ!» مرتين، عند معموديته وعلى جبل التجلي (مرقس 1: 11 و9: 7).
وهكذا نرى في العهد الجديد الله الآب السماوي، الذي نستطيع أن ندعوه بدالة البنين: «يا أبانا الذي في السموات».

1- الآب الذي يعطي:
علمنا المسيح في الصلاة الربانية أن نخاطب الآب السماوي ونطلب منه ما نحتاج إليه. وهو يملأ كل احتياجنا حسب غناه في المجد. وقال لنا في الموعظة على الجبل: ««اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. 8لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزاً يُعْطِيهِ حَجَراً؟ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ» (متى 7: 7-11).
من سواه نطلب منه خبزنا اليومي ألا وهو، الذي نقول له في غير خجل: «خبزنا كفافنا أعطنا اليوم».
ومن غيره نتجه إليه حين نخطئ، فنقول له: «اغفر لنا ذنبوبنا، كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا؟» وإلى من نلتجئ لنحتمي من سهام الشرير الملتهبة سواء لنقول له: «لا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير؟».
إنه هو مصدر كل عطية صالحة وكل موهبة تامة، جميعها تنزل من عنده، فإنه هو أبو الأنوار! نمضي إليه لنرفع صلاة أجور: «اِثْنَتَيْنِ سَأَلْتُ مِنْكَ فَلاَ تَمْنَعْهُمَا عَنِّي قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ: أَبْعِدْ عَنِّي الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ. لاَ تُعْطِنِي فَقْراً وَلاَ غِنىً. أَطْعِمْنِي خُبْزَ فَرِيضَتِي، لِئَلاَّ أَشْبَعَ وَأَكْفُرَ وَأَقُولَ: «مَنْ هُوَ الرَّبُّ؟» أَوْ لِئَلاَّ أَفْتَقِرَ وَأَسْرِقَ وَأَتَّخِذَ اسْمَ إِلَهِي بَاطِلاً» (أمثال 30: 7-9)
ولعل أروع مثل على الآب السخي المعطي، مثل الآب المحب في قصة الابن الضال التي رواها لنا الرب يسوع المسيح، فقد كان لإنسان ابنان، وجاءه الابن الأصغر يطلب منه أن يعطيه نصيبه من الميراث . وكان من الممكن أن يرفض الآب طلب ابنه، فليس له الحق في مثل هذا الطلب، ولكن الآب وافق أن يعطي ابنه الفرصة التي طلبها، فقسم ما لديه من متاع بين ولديه.
وقضى الابن الأصغر بضعة أيام في بيت أبيه، يجمع ما له ويبيع أرضه، وأخيراً أخذ المال ومضى إلى بلاد بعيدة لا يعرفه فيها احد، وطاب له المقام في ذلك البلد البعيد، واستراح للمعيشة السهلة الفاسدة ، واجتمع حوله أصدقاء السوء، فظل يصرف ماله بغير حساب، حتى نفذ رصيده. وفكر اول ما فكر في أصحابه فمضى إليهم يطلب عونهم، ولكنه لم يجد عندهم سوى الأبواب الموصدة. وأخيراً قبل واحد من أصحابه أن يعطيه عملاً : ليرعى الخنازير! وقد كان رعي الخنازير أدنى الأعمال وأحقرها، فضلاً عن مخالفتها للناموس اليهودي. ولم يجد الابن الضال بدا من أن يقبل هذا العمل. فهو السبيل الوحيد لحفظه من الموت جوعاً.
وذات يوم جلس الابن الضال تحت شجرة وهو يتطلع إلى الخنازير التي كانت ترعى.. لقد كانت الخنازير في حالة أفضل منه، تجد من يرعاها ويطعمها ويحرسها… أما هو فإنه مجرد طريد جائع متشرد، لا يجد من يهتم به أو يفكر فيه..
وعاد يفكر في حالة الخدم في بيت أبيه، وكيف أنهم جميعاً أفضل حالاً منه! وفجأة طرقت ذهنه فكرة.. لماذا لا يذهب إلى أبيه ليعتذر له عما بدر منه، ويطلب منه العفو؟
وذات يوم لم الشاب الضال أثمال ثيابه حول جسده الذابل الملفوح، ويمم صوب المدينة التي خرج منها منذ وقت بعيد.. وكان أبوه في نفس الوقت يقف في شرفة بيته يتطلع كما كان يفعل كل يوم إلى الأفق البعيد، لعل ابنه الضال يعود إليه! وأبصر الأب ابنه مقبلاً وعرف طريقة سيره، فأسرع إليه يستقبله.
ولم يعرف الابن كيف يعتذر كما ينبغي، ولكن أباه لم يمهله حتى يقول كل كلمات الاعتذار التي كان قد سبق وجهزها!.. بل منحه الغفران حالاً، وفي فرح دعا أصحابه للاحتفاء بابنه الذي كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوجد، واعطى ابنه الراجع من العطايا ما أذهله!
لقد جاء بالحلة الأولى ليكسو عري جسده…
وجاء بخاتم ووضعه في يده المعروقة، ليعيد إليه السلطان الذي فقده،
وجاء بحذاء ووضعه في قدمه المشققة، ليعيد إليه احترامه الذي أضاعه..
وقدم الطعام لجسده الجائع..
وهكذا اعطاه كل ما يحتاج إليه،
وقال المسيح تعليقاً: «أقول لكم إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة».
نعم! إن الآب السماوي يعطي كل ما نحتاج إليه، حين نجيء إليه في خضوع، ونطلب منه ما نحتاج إليه.. بل إن المسيح يقول لنا أنه يعلم أننا نحتاج إلى هذه كلها، فيعطيها لنا وزيادة (متى 6: 32) لأنه يعطي أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر.
على ان أعظم ما يعطيه لنا الآب السماوي هو البنوية له، إذ ينقلنا من الظلمة إلى ملكوت ابن محبته، ويقول المسيح: «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَالْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ، أَمَّا الاِبْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ. فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الاِبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً» (يوحنا 8: 34-36).
والواقع أن الذين يعيشون بعيداً عن الله ينطبق عليهم قول المسيح: «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا» (يوحنا 8: 44). لكن المسيح يهب الحرية الكاملة من استعباد الشيطان، ويجعل منا اولاداً لله. وهذه أعظم عطية!
وتتبع بنويتنا لله ميراثنا الذي نرثه من الله، فإن الآب المحب الذي يعطي أولاده بسخاء يهبه أيضاً ميراثاً عظيماً، فيقول الرسول بطرس في رسالته الأولى: «مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ، أَنْتُمُ الَّذِينَ بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي الزَّمَانِ الأَخِيرِ» (1: 3-5).
ويتحدث الرسول بولس عن بنويتنا لله فيقول: «إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضاً لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا الآبُ!». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ اللهِ، وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ» (رومية 8: 15-17).. «فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ» (غلاطية 3: 29) .. «حَتَّى إِذَا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ نَصِيرُ وَرَثَةً حَسَبَ رَجَاءِ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ» (تيطس 3: 7).
هذه هي البركات التي يعطيها الآب السماوي لأبنائه في المسيح. ويفيض عليهم به في كل حين، هنا في هذا الزمان وفي الدهر الآتي.
2- الآب الذي يحمي:
يظن رجال اللغة العبرية أن الكلمة «أب» تعني «الذي يغذي» وقد رأينا كيف أن الله يشبع أولاده بكل طريق وبكل وسيلة، في الحياة الحاضرة والحياة المستقبلة أيضاً.
كما يظنون أن هذه الكلمة في العبرية تحمل أيضاً معنى الحماية والحفظ، فإن الآب يحمي أولاده ويدافع عنهم.
ومن أجمل المزامير التي تعبر عن الله الذي يحمي المزمور 121 الذي يترجمهالأب يوركي الدومنكي هكذا:
أرفع عيني متطلعاً إلى الجبال، من أين يأتيني العون؟
يأتيني العون من ربي، الذي خلق السماء والأرض.
لا ترك قدمك تزل، لا نام حارسك.
كلا، لا تأخذ السنة ولا النوم حارس إسرائيل.
ربك حارسك، ظل يظللك، ربك إلى يمينك.
ربك يحفظك من كل سوء، يحفظ نفسك.
يحفظك في الرحيل وفي ا لقفوا، الآن وإلى الأبد».
وهذا المزمور الرائع واحد من ترنيمات المصاعد اليت كان بنو إسرائيل يرنمونها وهم في طريقهم إلى زيارة هيكل أورشليم للصلاة كل سنة، فقد كانت أورشليم مبنية على تلال عالية، وكان الناس يقبلون إليها من كل أنحاء البلاد للحج وللقيام بالصلاة والاحتفاء بالعيد.. تماماً كما يفعل بعض المسيحيين اليوم حين يزورون القدس، وكما يفعل المسلمون فيزورون مكة.
وقد كانت الطريق إلى أورشليم محفوفة بالمخاطر، فكان المسافرون يتعبون ويتجشمون الأهوال،وكانوا معرضين لهجمات اللوص كما كان أعداء البلاد يقطعون عليهم الطريق أحياناً. وكان على المسافر أن يقطع الصحاري، مما عرض الكثيرين من الحجاج لضربة الشمس،وكان اليهود يعتقدون أن أشعة القمر تسبب بعض الأمراض مثل الشلل والحمى، فكانوا معرضين لمتاعب الشمس بالنهار والقمر بالليل لاضطرارهم لقضاء الليالي في الخلاء المكشوف. وكم كان العجائز والصغار يمرضون فيسببون القلق للمسافرين جميعاً. على أن متاعب المسافر كانت تنتهي جميعاً حين ترى قباب الهيكل تتلمع في ضوء الشمس الذي ينعكس على أغشيتها الذهبية.
وفي هذالمزمور الجميل يدور حوار بين المرنم ونفسه أو بين مسافر وكاهن، أو قد يكون بين قائد الجماعة المسافرة والجماعة السائرة معه..
يقول الواحد: «أَرْفَعُ عَيْنَيَّ إِلَى الْجِبَالِ مِنْ حَيْثُ يَأْتِي عَوْنِي. مَعُونَتِي مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ صَانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» وتمضي الجماعة في الرد عليه قائلة:
«لاَ يَدَعُ رِجْلَكَ تَزِلُّ. لاَ يَنْعَسُ حَافِظُكَ. إِنَّهُ لاَ يَنْعَسُ وَلاَ يَنَامُ حَافِظُ إِسْرَائِيلَ. الرَّبُّ حَافِظُكَ. الرَّبُّ ظِلٌّ لَكَ عَنْ يَدِكَ الْيُمْنَى. لاَ تَضْرِبُكَ الشَّمْسُ فِي النَّهَارِ، وَلاَ الْقَمَرُ فِي اللَّيْلِ. الرَّبُّ يَحْفَظُكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ. يَحْفَظُ نَفْسَكَ. الرَّبُّ يَحْفَظُ خُرُوجَكَ وَدُخُولَكَ مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ».
وفي عام 1873 كانت سفينة مسافرة من لفربول إلى نيويورك يقودها قبطان اصطحب عائلته معه.. وذات ليلة قامت رياح أمالت السفينة على جانبها، فاستيقظ كل المسافرين مذعورين، وبدأوا يلبسون ملابس النجاة استعداداً لأردأ الظروف.
واستيقظت مع المستيقظين ابنة القبطان، وعمرها ثماني سنوات وسألت عن الأمر فقالوا لها عن الخطر المحيط بالسفينة، وطلبوا منها أن تلبس ملابس النجاة.. وسألت الفتاة: هل أبي في حجرة القيادة؟ فقالوا لها: «نعم» وبدون تعليق وضعت الفتاة رأسها على وسادتها وراحت في نومها الهادئ الحلو..
نعم! إن أباها يمسك عجلة القيادة فلا خوف عليها!..
على أن حماية الآب السماوي لا تعني أن يجنبنا المكاره ويبعدنا عن المصاعب ، فقد قال المسيح: «في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» لكن حماية الآب السماوي لنا تعني تقويتنا في وقت الشدة وإسنادنا في وقت الضعف.
سأل شاب الواعظ المشهور جوزيف باركر قائلاً: «ماذا فعلت عناية الله للشهيد استفانوس عندما رجم بالحجارة؟ فأجاب الواعظ بالقول: «تسأل عما فعلته العناية؟ .. لقد أعانت الشهيد أن يقول: «يا رب لا تقم لهم هذه الخطية».. نعم! لم ينقذه الله من الموت بالأحجار، لكنه أنقذه من روح البغضة والحقد.
وحين تدخل التجارب يعطي الله القوة على الاحتمال، كما يعطي الثقة أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله.
إن حماية الله لنا أكيدة، فإنه هو أبونا.

3- الآب الذي يؤدب:
نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين: «لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ الْخَطِيَّةِ، وَقَدْ نَسِيتُمُ الْوَعْظَ الَّذِي يُخَاطِبُكُمْ كَبَنِينَ: «يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ. لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ». إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟ وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ. ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدّاً لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟ لأَنَّ أُولَئِكَ أَدَّبُونَا أَيَّاماً قَلِيلَةً حَسَبَ اسْتِحْسَانِهِمْ، وَأَمَّا هَذَا فَلأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ. وَلَكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عب 12: 4-11).
ويقول موسى للشعب: «فَاعْلمْ فِي قَلبِكَ أَنَّهُ كَمَا يُؤَدِّبُ الإِنْسَانُ ابْنَهُ قَدْ أَدَّبَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ» (تثنية 8: 5). وكما يقول المرنم في المزامير «الرَّبُّ يَعْرِفُ أَفْكَارَ الإِنْسَانِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ. طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي تُؤَدِّبُهُ يَا رَبُّ وَتُعَلِّمُهُ مِنْ شَرِيعَتِكَ، لِتُرِيحَهُ مِنْ أَيَّامِ الشَّرِّ» (94: 11-13). ويقول الحكيم في سفر الأمثال: «يَا ابْنِي، لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ وَلاَ تَكْرَهْ تَوْبِيخَهُ، لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَكَأَبٍ بِابْنٍ يُسَرُّ بِهِ» (أمثال 3: 11، 12).
وقد تحدث المسيح في الأصحاح الخامس عشر من إنجيل يوحنا عن علاقة المؤمنين به باعتبارها تشبه علاقة الغصن بالكرمة، فكل المؤمن كالأغصان، وعليهم أن يثبتوا فيه حتى يجدوا الحياة ويحملوا الثمر.. على أن بعض أغصان الثمر تحتاج إلى التشذيب والتهذيب لتحمل ثمراً أكثر، ويقول المسيح عن هذا: «كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (15: 2).
أما الذي يقوم بالتنقية والتشذيب فهو الأب السماوي نفسه (راجع 15: 1). ولا غرابة في هذا فإن الله يتكلم مع الكنسية الفاترة التي في لاودكية قائلاً: «إِنِّي كُلُّ مَنْ أُحِبُّهُ أُوَبِّخُهُ وَأُؤَدِّبُهُ. فَكُنْ غَيُوراً وَتُبْ» (رؤيا 3: 19).
على أننا نشكر الله أن التأديب هو تأديب أب رحيم، لا تأديب سيد قاس. وقد روى عن سيدة أصابتها تجارب متنوعة، فمات زوجها تاركاً لها أطفالاً صغاراً، دون مصدر لإعالتهم. ولم تجد السيدة بدا من بيع كل ما استطاعت أن تستغني عنه من أثاث البيت، ثم بدأت تبيع قطع زينتها الذهبية.
وذات يوم قصدت متجر الصائغ وبيدها قطعة الذهب الأخيرة التي تملكها.. والدموع تملأ عينيها، وكان الصائغ مشغولاً بصهر قطعة الذهب على النار، فجلست السيدة تنتظر حتى يفرغ الرجل من عمله. وجلست تتأمله وقد ثبت عينه على الذهب في النار «لكن لا بد أن عين الله عليها، كما أن قطعة الذهب قد أخذت كل عناية الصائغ»
وفرغ الصائغ من عمله والتفت إلى السيدة معتذراً ولكنها قالت: «لا داعي للاعتذار، فلقد كان تأخيرك سبب بركة لي».
وكيف كان ذلك؟
لقد راقبتك وأنت تصهر الذهب، فرأيت كيف أن عينيك لم تتحول عن قطعة الذهب بالمرة.. وعرفت أن عين الله على وسط تجربتي، فاستراح قلبي ووجدت تعزية لنفسي».
وانبسطت أسارير الصائغ، وضاء وجهه وقال: «الحمد لله، لقد جربني الله في أمور كثيرة وفي كل مرة اختبرت محبته الحانية، فكانت عينه علي ولم تفارقني لحظة.. لكن هناك يا سيدي دروساً من صهر قطعة الذهب».
«تفضل خبرني، فإني أشعر أن الله يعلمني»
إنني يا سيدتي لا أترك قطعة الذهب في النار أكثر من اللازم لئلا تتلف، ولكني أيضاً لا أضعها في النار أقل من اللازم لئلا تخرج من النار وبها بعض الشوائب».
وصمت الرجل قليلاً.. فقالت السيدة:
«وهذا أيضاً درس لي عظيم، فإن الله لا يؤدبني أكثر من اللازم لئلا أخور وأسقط أمام الآلام، كما أنه لا يجربني أقل من اللازم ، لأنه يريد أن يطهرني وينقيني».
وسأل الصائغ: «هل تعرفين كيف أعرف أن الذهب قد تنقى تماماً؟».
وأجابت السيدة: «أود أن أعرف»
أعرف أنها وصلت قمة النقاوة عندما أرى صورة وجهي منعكسة على الذهب المصهور».
وأطرقت السيدة بوجهها إلى الأرض.. وقال الصائغ: «إن الله يا سيدتي يجربك حتى تخرجي نقية كالذهب.. وقمة النقاوة تكون حين تظهر صفات الله الصال حة في، وحين تعكسين بعملك وتصرفك وكلامك محبة الله وصلاح الله».
وقالت السيدة: أظن أن الله لا بد أن يفعل شيئاً لينقذني من ورطتي، فهذه آخر ماأملك من متاع الدنيا، ولا أدري كيف أتصرف بعد ذلك».
وسأل الصائغ: «هل تريدين أن يشتغل أحد أولادك معي؟ إن أولادي لم يعيشوا، ويسرني أن أتبنى أحد من أولادك،وبعون الله أساعد ما قدرت أن أساعد».
وخرجت السيدة من متجر الصائغ تشكر الله الذي دبرها، والذي علمها أفضل الدروس..
هذا هو أبونا السماوي ..
إنه يعطينا كل شيء بغنى للتمتع، ولا يمنع عنا خيراً..
وهو يحمينا من أعدائنا ومن نفوسنا ومن نزواتنا..
وهو يؤدبنا تأديب الأب الرحيم، لمصلحتنا ولخيرنا.. الله ابونا!

(10)
الله محبة

استعمل الكتاب اليونانيون القدامى كلمتين تدلان على المحبة أولهما كلمة تدل على المحبة الأخوية، ولم تكن تستعمل إلا عن صلة قرابة الدم.. والكلمة الثانية كانت تطلق على الرغبة الجنسية الشهوانية.
على أن كلمة ثالثة نشأت في أحضان الكتابة المسيحية، وهي تعبر عن المحبة التي تعطي دون أن تنتظر أخذاً، وتضحي دون أن تتوقع أجراً، المحبة التي تبدأ من جانبها فتفيض وتغدق وتعطي بسخاء، دون أن انتظار جزاء أو رد. هذه محبة الله للبشر.
وقد أعلنت كل الديانات عظمة الله، فإن الله أكبر، وهو «الله عظيم» (أيوب36: 26). و«الله أعظم» (1يوحنا 3: 20). غير أن المسيحية وحدها أعلنت أن «الله محبة» فلم تكتفِ بأن تقول إن الله يحب البشر، بل أعلنت أنه المحبة نفسها، وأورد هذا الإعلان العظيم الرسول يوحنا مرتين في أصحاح واحد، فقال في رسالته الأولى: «الله محبة» (1يوحنا 4: 8، 16).
وفي الواقع أن أحداً لا يستطيع أن يتحدث عن المحبة بإدراك أفضل من يوحنا، فإنه هو التلميذ «الذي كان يسوع يحبه» (انظر يوحنا 13: 23، 19: 26، 20: 2، 21: 7، 25) فهو الذي يدرك معنى المحبة العلوية الغامرة في صفاتها وقوتها ونقاوتها وإخلاصها.
ولقد تحدثنا في الفصل الماضي عن الله الآب، ولابد أن الآب يحب أولاده.. لكننا في هذا الفصل سنجد المحبة الكاملة التي لا يعبر عنها، المحبة التي يستطيع كل واحد منا أن يتأكد منها ويستند إليها..

1- إله المحبة الراغبة:
الفعل العبري الذي يدل على المحبة هو «أحب» وحين يستعمل مع اسم الجلالة في العهد القديم يدل على الرغبة القوية والسعي الحديث للحصول على المحبوب. ويستعملها الكاتب المقدس ليعبر عن رغبة الله القوية في أن يكون شعبه له، وفي أن يعيشوا له ومعه.. فنحن نقرأ القول الإلهي المقدس: «وَلَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمٍَ» (أمثال 8: 31).
والحقيقة التي يكشفها لنا الكتاب المقدس في صفحة من صفحاته هي أن الله يريد الإنسان أن يحيا معه وله. فيحدثنا سفر التكوين أن الله بعد أن خلق الإنسان كان يجيء إليه، حتى أخطأ الإنسان وأكل من الشجرة المنهى عنها، فاختبأ من الله وخشى من مقابلته، غير أن الله جاء يسأل: «أين أنت؟» (تكوين 3).. فقد أراد أن يستعيد مع آدم الصلة التي فقدها آدم بالخطية.
ومنذ ذلك اليوم والله يطلب الإنسان ليحيا معه، لأنه يريده أن يكون صديقاً له، فقد خلق الله البشر حتى يكونوا أصدقاء له، يثقوا فيه ويطلبووا رضاه.. ولكن آدم ونسله طلبوا ما يرضيهم وتركوا صداقة الله والأنس به..
وبدأ الله بداية أخرى مع إبراهيم، وعاش إبراهيم مع الله في صداقة وثقة وطاعة، وبدأ الله أمة إسرائيل من نسل إبراهيم وعلمهم عن نفسه وأرشدهم إلى كيف يعيشون حتى يرضى علهيم.. وأراد الله أن يتعلم العالم كله منهم.. لكن أمة إسرائيل اختارت طريقها ورضاها وتركت طريق الله ولم تطاوع إرادته.. ولم تنجح أمة إسرائيل في تحقيق قصد الله منها، إذ أحبت نفسها جداً وأخذت تعاليم الله لنفسها فقط، ولم تقدم رسالة الله للعالم المحتاج.
على أن رسالة الله كانت باقية بالرغم من ضلال الأمة الإسرائيلية ، فقد كان بعض الأفراد مؤمنين ثابتين، وكان الأنبياء يشددون ويثبتون هذه القلوب المؤمنة.. وكان هؤلاء المؤمنون ينقلون رسالة الله عبر العصور. كانت لله بقية أمينة خضعت له في حب وانتظرت تحقيق إرادته في حياة الناس.
وفي واحدة من هذه العائلات المؤمنة أرسل الله «كلمته للناس ليعيش بينهم حتى يفهموا.. وجاء المسيح «كلمة الله» إلى العالم إعلاناً عن محبة الله الكاملة للناس، المحبة الراغبة فيهم، الي تطلبهم وتبحث عنهم وتريد تقريبهم..
ولقد روى المسيح لنا مثلين يصوران شدة رغبة الله في رد قلوب الناس إليه، فقد جلس المسيح وسط الخطاة، فتذمر رجال الدين اليهود المتزمتون قائلين: «هَذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ» فكلمهم المسيح قائلاً: «أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا، أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً، وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو الأَصْدِقَاءَ وَالْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: افْرَحُوا مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ. أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ». «أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ لَهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً، أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجاً وَتَكْنِسُ الْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِاجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟ وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو الصَّدِيقَاتِ وَالْجَارَاتِ قَائِلَةً: افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ. هَكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ». (لوقا 15: 1-10).
ومن هذا نرى شدة محبة الله الراغبة في خلاص الخاطئ البعيد، حتى يعيش مع الله. وقد قال المسيح مرة بعد أن تاب زكا العشار الخاطئ: «لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» فإن رغبة قلب الله هي عودة الضال إليه. وقد طلب بولس الرسول من تلميذه تيموثاوس قائلاً: «فَأَطْلُبُ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ تُقَامَ طِلْبَاتٌ وَصَلَوَاتٌ وَابْتِهَالاَتٌ وَتَشَكُّرَاتٌ لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ، لأَنَّ هَذَا حَسَنٌ وَمَقْبُولٌ لَدَى مُخَلِّصِنَا اللهِ، الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تيموثاوس 2: 1-4).
والإعلان الإلهي أن «الله محبة» يوضح لنا مؤكداً أن الله ليس غنياً عن عباده، ولكنه يفتش علهيم طالباً خلاصهم، لأنه يحبهم ويريد اقترابهم إليه.. استمع إليه ي نادي الناس جميعاً ويقول: «اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ، لأَنِّي أَنَا اللَّهُ وَلَيْسَ آخَرَ» (إشعياء 45: 22) .
«أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ، وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالُوا اشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ» (إشعياء 55: 1).
وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلاً: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ» (يوحنا 7: 37).
وفي السفر الأخير من الكتاب المقدس وفي الأصحاح الأخير نقرأ: «وَالرُّوحُ وَالْعَرُوسُ يَقُولاَنِ: «تَعَالَ». وَمَنْ يَسْمَعْ فَلْيَقُلْ: «تَعَالَ». وَمَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْتِ. وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّاناً» (رؤيا 22: 17).
ومن هذه النداءات الإلهية المتكررة نرىمحبة الله الراغبة في خلاص البشر .. فغن «اللهمحبة» وهو يريد أن يخلص الجميع.
ومن التشبيهات الكتابية نلمس فكرة محبة الله الراغبة في البشر، فإن الرسول بولس يصور لنا العلاقة بين المسيح والكنيسة بالعلاقة بين العريس وعروسه، «ففي الحديث عن واجبات الرجل نحو زوجته، وواجبات الزوجة نحو رجلها، يضع علاقة المسيح بالكنيسة كنموذج لعلاقات الزوجين. اسمعه يقول: «أَيُّهَا النِّسَاءُ، اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ، لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ الْجَسَدِ. وَلَكِنْ كَمَا تَخْضَعُ الْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذَلِكَ النِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ. أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ. كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ. فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ. لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ. مِنْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ. وَأَمَّا أَنْتُمُ الأَفْرَادُ، فَلْيُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ امْرَأَتَهُ هَكَذَا كَنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ رَجُلَهَا» (أفسس 5: 22-32).
ومن هذا نرى أن العلاقة النموذجية للزوجين هي علاقة المسيح بالكنيسة، علاقة المحبة الراغبة.
وفي العهد القديم نجد السفر العجيب، سفر نشيد الأنشاد وهو مطارحات غرامية كتبها الملك سليمان. ولا ندري كيف دخل هذا السفر وسط الأسفار الكتابية القانونية إلا أن الآباء فسروا تلك العلاقة الغرامية بأنها العلاقة بين الله وشعبه، ثم جاء آباء الكنيسة فقالوا إنها العلاقة بين المسيح والكنيسة، لأن المسيح هوالعريس والكنيسة هي العروس.
ويصور الكتاب المقدس علاقة المسيح بالمؤمنين به على انها تشبه علاقة الرأس بالجسد.. فالرأس يطلب الجسد، والجسد يطلب الرأس، ولا غنى لأحدهما عن الآخر. ومن هذا نرى أن الله محبة راغبة في ضم البشر إليه. فيقول بولس الرسول إن الله
«أخضع كل شيء تحت قدميه وجعله رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده، وملء من يملأ الكل في الكل» ثم يقول: «بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ، الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ» (أفسس 4: 15، 16).
هذا هو «الله محبة» الذي يرغب في أن يخلص الناس ويجذبهم إلى قلبه ومحبته.

2- إله المحبة المنعمة:
إن الله «محبة» قد أحبنا فضلاً، منعماً علينا بهذا الحب، لا لخير فينا، ولا لصلاح قد علمناه، إنما لأنه أنعم علينا بهذه المحبة، لأن معدنه محبة، ولأنه هو نفسه محبة.
ولقد اختار الله نسل إبراهيم ليعلم الناس طريق الصلاح بواسطتهم وكان اختياره لهم «ليْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ التَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ. بَل مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُمْ» (تثنية 7: 7).
ونستطيع أن نلخص الإنجيل في الآية التي تقول: «لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).
ويقدم بولس الرسول لها تفسيراً في قوله: «لأَنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ. فَإِنَّهُ بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية 5: 6-8).
ويقدم لنا بولس الرسول في رسالة أفسس قصة محبة الله المنعمة علينا، لا لاستحقاق فينا، بل بإنعام سماوي، إذ يقول: «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هَذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ، الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضاً جَمِيعاً تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضاً، اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ- بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ- وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ» (أفسس 2: 1-9).
ومن هذا الوصف الرائع نرى أننا كنا خطاة لا نستحق الرحمة لكن الله في محبته الحانية التفت إلينا وأرسل لنا المسيح لينقذنا من خطايانا ويخلصنا من آثامنا.. فضلاً ونعمة منه.
وفي الكتاب المقدس تشبيهات كثيرة لمحبة الله المنعمة، التي تفيض علينا مجاناً، بدون سبب وبدون انتظار شيء.. إنها كمحبة الأم التي تتحمل كل شيء، وتتعب في كل حين، وتضحي بأثمن ما عندها، من أجل طفل ضعيف لا يعاونها، ولا يشترك معها في متاعبها.. لكنها تحبه محبة على أساس النعمة، محبة تنعم بها على الطفل لغير سبب مادس، لكن بدافع غريزة الأمومة التي تحب!
ومحبة الله محبة منعم بها علينا، لأن طبيعته هي الحب، إن الريح تدفع القارب على صفحة النيل، دون أن تنظر إذا كان يستحق هذا العون أم لا يستحقه.. لكن الريح تملأ القلوع لأن طبيعتها أن تفعل هذا.. إنها تفعله وكفى.. هكذا الشمس تشرق على الأشرار والصالحين، والمطر ينزل على الأبرار والظالمين، دون استحقاق من هذا أو فضل من ذاك..
وفي الواقع أننا لا نجد سبباً واحداً يجعلنا نعلل محبة الله لنا. إن كل ما نفعله خطية، وأفشل حالاتنا ضعف ونقص في نظر الله.. لكنه لا يزال يحبنا ويعطف علينا ويصبر على عيوبنا، لأنه هو محبة!
إنه هو الإله الذي يحبنا لأنه إله المحبة المنعمة!

3- إله المحبة الغافرة:
إذا أخطأ الخادم لقى العقاب .. لكن إذا أخطأ الابن يلقى الغفران.. غير أن إلهنا يغفر لنا خطايانا ونحن مستعبدون للخطية ليحررنا منها، وليجعل منا أبناء له، لأنه إله المحبة الغافرة.
قيل في الكتاب المقدس إن المحبة تستر كثرة من الخطايا.. والواقع أن محبة الله تظهر في غفران خطايانا، فإنه يغفر وينسى ما أسأنا إليه به.
قال أحد الكتاب المعاصرين أن أباً أراد أن يصور لابنه معنى الغفران فخذه إلى الشارع وأوقف بعض قوالب الطوب واحداً وراء الآخر.. ثم أخذ كرة وأصاب بها القالب الأول، فسقط الأول على الثاني والثاني على الثالث.. وهكذا حتى وقع الجميع، وقال الأب لابنه: «هذا يا بني هو عدم الغفران، فإن كل قالب طوب لم يحتمل الإصابة، فحاول أن يدفع بها إلى جاره .. وهكذا سقط الجميع».
ثم أخذ الأب ابنه إلى شاطئ البحر، وألقى قطعة حجر في وسط البحر، فابتلع البحر الحجر. وقال الأب لابنه: «وهذا يا بني هو الغفران.. إن البحر قد ابتلع إصابته ولم يحاول أن يردها!
هكذا الله، فإن غفرانه العظيم يقبل أخطاءنا ولا يعاقبنا بحسبها. وقديماً قال المرنم: «إِنْ كُنْتَ تُرَاقِبُ الآثَامَ يَا رَبُّ يَا سَيِّدُ، فَمَنْ يَقِفُ؟» (مزمور 130: 3) فإنه إن راقب الرب آثامنا وأحصاها لهلكنا جميعاً، ولمنجا منا أحد! ولهذا يقول المرنم: «الَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ» (مزمور 103: 3) «لأَنَّ عِنْدَكَ الْمَغْفِرَةَ» (مز 130: 4).
على أن الله المحب لم يغفر لنا خطايانا بدون تضحية فإنه مكتوب: « وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!» (عبرانيين 9: 22) وقد جرت العادة في العهد القديم أن يقدم المخطئ محرقة لله للتكفير عن خطيته، وكانت هناك أنواع من الذبائح لتناسب أنواع الخطايا المختلفة..
كانت هناك ذبيحة للخطية، وقد ورد ذكرها بالتفصيل في سفر اللاويين (5: 1-13) وكانت لأجل النجاسة الجسدية والأدبية بشرط أن يكون فاعلها قد ارتكبها عن سهو. أو لأنه لا يعرف أن ما ارتكبه ممنوع.. على أن الذي كان يرتكب خطية عن عمد بقصد الازدراء بالله لم يكن مسموحاً له أن يقدم محرقة أو ذبيحة، بل كان أمر الله في هذه النفس أن تقطع من شعبها (اللاويين 20: 9، 10).
ثم كانت هناك ذبيحة الإثم! والفرق بينها وبين ذبيحة الخطية، هي أنها كانت تقدم من أجل الخطايا التي يمكن تعويض ضرر المصاب فيها (اللاويين 5: 16، 6: 5) كما أنها كانت أيضاً للتكفير عن الخطايا التي بلا معرفة، أو لسبب قوة التجربة أو الشهوة، إنما بدون قصد تحقير الله أو الازدراء بشريعته.
ثم كانت هناك ذبيحة المحرقة، وهي التي كانت تقدم صباحاً ومساءً في خيمة الاجتماع وفي الهيكل على المذبح النحاسي في صحن الدار (اللاويين 6: 9) وكان لامقصود منها أن تكون ذبيحة عامة عن الخطايا، لأنه كان يجب على من يقدمها أن يضع يده على رأس الذبيحة لأجل الاعتراف (اللاويين 1: 4).
ثم كان هناك نوع رابع هو ذبائح السلامة، وهي ثلاثة أنواع:
• ذبيحة الشكر على الخيرات التي وهبها الله.
• ذبيحة النذر على خلاص أعطاه الله، ونذر فيه الذي خلص نذراً للرب.
• ذبيحة اختيارية كانت عامة في صفاتها.

وفي هذه جميعاً كان يذبح الحيوان ويرش من دمه حول المذبح. ومما يدل على أن هذه الذبائح كانت تقدم على أساس أن الإنسان خاطئ هو أن الذي يقدمها كان يضع يده على رأس الحيوان قبل الذبح (اللاويين 4) .
ومن هذه الذبائح جميعاً نرى أن مغفرة الخطية بحسب ناموس موسى كانت بسفك الدم. ويضاف إلى ذلك الذبائح السنوية التي كان يقدمها رئيس الكهنة لأجل التكفير عن نفسه وعن الشعب، فإنها جميعاً مبنية على موت الحيوان البريء عن الإنسان المذنب الذي يستحق القصاص والموت.
على أن الغفران في العهد الجديد مبني على موت المسيح لأجلنا. والدليل الأعظم على محبة الله للبشر أنه أرسل ابنه إلى العالم ليموت على الصليب ليوجد الفداء والخلاص. ولو أننا لا ندري كيف يكون هذا، ولكن الله دبر هذا الطريق وسيلة لغفران الخطية. وقد عالجنا هذه النقطة في فصل سابق.
إن الإله المحب إله غافر للذنوب..
فهل غفر لك ذنبك؟
وهل اختبرت محبته «الله محبة»
إله المحبة الراغبة في صداقة البشر..
وإله المحبة المنعمة علينا بغير استحقاق فينا..
وإله المحبة الغافرة للذنب الساترة للمعصية .. «الله محبة».